كتاب : المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري

قال : إن قتيلا قتل باليمن بين حيين فأمرهم عمر بن الخطاب أن يقيسوا بين الحيين , فكان إلى وداعة أقرب , فأمرهم عمر : أن يقسموا ثم يدوا . وعن الشعبي في قتيل وجد في وداعة باليمن : فأدخل عمر بن الخطاب الحطيم منهم خمسين رجلا منهم , ثم استحلفهم رجلا رجلا : بالله ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فقال لهم : أدوا وحولوا , فقالوا : يا أمير المؤمنين تغرمنا وتحلفنا ؟ قال : نعم . ومن طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا إسماعيل بن أبي أويس نا أخي عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان أخبرني ابن شهاب : أن عمر بن عبد العزيز سأله عن القسامة ؟ قال : فقلت له : كانت من أمر الجاهلية أقرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم , ولكن من سنتنا , وما بلغنا : أن القتيل إذا تكلم برئ أهله , إن لم يتكلم حلف المدعى عليهم , وذلك فعل عمر بن الخطاب , والذي أدركنا عليه الناس . وعن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قضى بالبينة على الطالب , والأيمان على المطلوب , إلا في الدم فهذا مما روي عن عمر - رضي الله عنه . ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , قال : كتب إلي سليمان بن هشام يسأل عن رجل وجد مقتولا في دار قوم , فقالوا : طرقنا ليسرقنا , وقال أولياؤه : كذبوا بل دعوه إلى منزلهم , ثم قتلوه . قال الزهري : فكتب إليه : يحلف من أولياء المقتول خمسون : إنهم لكاذبون ما جاء ليسرقهم , وما دعوه إلا دعاء , ثم قتلوه - فإن حلفوا أعطوا القود , وإن نكلوا حلف من أولئك خمسون : بالله لطرقنا ليسرقنا , ثم عليهم الدية . قال الزهري : وقد قضى بذلك عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في ابن باقرة التغلبي أبى قومه أن يحلفوا , فأغرمهم الدية فهذا ما جاء عن عثمان رضي الله عنه - . وروينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا عبد الرحمن بن سليمان عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين أن علي بن أبي طالب كان إذا وجد القتيل بين قريتين قاس ما بينهما . ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن محمد بن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال علي بن أبي طالب : أيما رجل قتل بفلاة من الأرض فديته من بيت المال ; لكي لا يطل دم في الإسلام , وأيما قتيل وجد بين قريتين فهو على أصقبهما - يعني أقربهما . وعن علي بن أبي طالب - أنه استحلف المتهم , وتسعة وأربعين معه تمام خمسين - فهذا ما جاء في ذلك عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة نا أبو معاوية عن مطيع عن فضيل بن عمر , وعن ابن عباس - أنه قضى بالقسامة على المدعى عليهم . ومن طريق عبد الرزاق عن إبراهيم

هو ابن يحيى - عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : لا قسامة , إلا أن تكون بينة . ويقول : لا يقتل بالقسامة , ولا يطل دم مسلم - هذا نص الحديث . فهذا ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنه . وعن ابن الزبير - أنه أقاد بالقسامة , وعن عبد الله بن أبي مليكة قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن القسامة ؟ فأخبرته أن عبد الله بن الزبير أقاد بها , وأن معاوية لم يقد بها . وعن المسيب : أن القسامة في الدم لم تزل على خمسين رجلا , فإن نقصت قسامتهم , أو نكل منهم رجل واحد : ردت قسامتهم , حتى حج معاوية فاتهمت بنو أسد بن عبد العزى مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري , ومعاذ بن عبيد الله بن معمر التيمي , وعقبة بن جعونة بن شعوب الليثي : بقتل إسماعيل بن هبار ؟ فاختصموا إلى معاوية إذ حج - ولم يقم عبد الله بن الزبير بينة إلا بالتهمة , فقضى معاوية بالقسامة على المدعى عليهم , وعلى أوليائهم , فأبى بنو زهرة , وبنو تيم , وبنو ليث : أن يحلفوا عنهم ؟ فقال معاوية لبني أسد : احلفوا ؟ فقال ابن الزبير : نحلف نحن على الثلاثة جميعا فنستحق ؟ فأبى معاوية أن يقسموا إلا على واحد - فقصر معاوية القسامة فردها على الثلاثة الذين ادعي عليهم , فحلفوا خمسين يمينا بين الركن والمقام , فبرئوا - وكان ذلك أول ما قصرت القسامة , ثم قضى بذلك مروان , وعبد الملك - ثم ردت القسامة إلى الأمر الأول . وأما توحيد الأيمان - فروي عن سفيان الثوري عن عبد الله بن زيد عن أبي مليح : أن عمر بن الخطاب ردد الأيمان عليهم , الأول فالأول , وأما التابعون - فإننا روينا من طريق أبي بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الأعلى عن يونس بن عبيد عن الحسن في القتيل يوجد غيلة ؟ قال : يقسم من المدعى عليهم خمسون : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فإن حلفوا فقد برئوا , وإن نكلوا أقسم من المدعين خمسون : أن دمنا قبلكم , ثم يودوا . وعن الحسن - يستحقون بالقسامة الدية , ولا يستحقون بها الدم . وعن عبد الله بن عمر - أنه سمع أصحابا له يحدثون أن عمر بن عبد العزيز برأ المدعى عليهم باليمين ثم ضمنهم العقل . وعن ابن أبي مليكة - أن عمر بن عبد العزيز أقاد بالقسامة في إمارته بالمدينة . وعن يحيى بن سعيد الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز - لما رأى الناس يحلفون على القسامة - بغير علم - استحلفهم , وألزمهم الدية , ودرأ عن القتل . وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز - أنه ردد الأيمان على سبعة نفر أحدهم جان , وعن شريح - قال : تردد الأيمان عليهم , الأول فالأول . وعن محمد بن سيرين أن قوما ادعوا على قوم قتيلا ؟ فاستحلف شريح خمسين منهم , فحلف

عشرة رهط من آل سباع عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين يمينا مرددة عليهم ; لقتل ابنا بلسانة , وابنا تولمانة ربيعة بن يعقوب , فحلفوا , فدفع مروان ابني بلسانة , وابني تولمانة , إلى أولياء المقتول فقتلوهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فمن الصحابة - رضي الله عنهم - أبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , وابن عباس , والمغيرة بن شعبة , وابن الزبير , ومعاوية , وعبد الله بن عمرو بن العاص , وجملة الصحابة بالمدينة - هكذا مجملا - فأما المسمون فهم تسعة . ومن التابعين - الحسن , وعمر بن عبد العزيز , وشريح , وإبراهيم النخعي , والشعبي , وسعيد بن المسيب , وقتادة , وسالم بن عبد الله بن عمر , وأبو قلابة , والزهري , وعروة بن الزبير , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان وغيرهم , وجمهور العلماء بالمدينة - الذين روى عنهم التابعون هكذا مجملا - كلهم مختلفون , والصحابة أيضا كذلك , وأكثر ما ذكرنا لا يصح على ما نبين إن شاء الله تعالى . قال أبو محمد رحمه الله: فالمأثور من ذلك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل , إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص , وعن الحسن , وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة - وهو مرسل لا يصح كما ذكرنا . وروي عنه أيضا أنه طلب البينة من أولياء المقتول , فإن لم يجدوها حلف المدعى عليهم , ولا شيء عليهم , فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا الدية - وهذا مرسل عنه - لأنه عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر - ولم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر - وروي عنه أيضا : البينة على المدعين , وإلا حلف المدعى عليهم وبروا فقط , إلا أنه مرسل . وروي عنه - في قتيل وجد بين حيين , أو قريتين - أن يذرع إلى أيهما هو أقرب فالذي هو أقرب إليها حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية مع ذلك . ومثل هذا عن المغيرة بن شعبة إلا أنه مرسل ; لأنه عن عمر , والمغيرة , من طريق الشعبي - ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها وقبل الشعبي . وفي خبر المغيرة أشعث - وهو ضعيف - وروي عنه : أنه حلف امرأة مدعية من دم مولى لها خمسين يمينا , ثم قضى لها بالدية - وهذا مرسل - لأنه عن أبي الزناد عنه , وعن ابن المسيب عنه . وأما عثمان - رضي الله عنه - فإنه روي عنه في قتيل وجد في دار قوم فأقروا بقتله , وأنه جاءهم ليسرقهم : أن يحلف أولياء المقتول , ولهم القود , فإن نكلوا : حلف أهل الدار وغرموا الدية , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل ; لأنه من طريق الزهري : أن عثمان - ولم يولد الزهري , إلا بعد

عشرة رهط من آل سباع عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين يمينا مرددة عليهم ; لقتل ابنا بلسانة , وابنا تولمانة ربيعة بن يعقوب , فحلفوا , فدفع مروان ابني بلسانة , وابني تولمانة , إلى أولياء المقتول فقتلوهم . قال أبو محمد رحمه الله: فمن الصحابة - رضي الله عنهم - أبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي , وابن عباس , والمغيرة بن شعبة , وابن الزبير , ومعاوية , وعبد الله بن عمرو بن العاص , وجملة الصحابة بالمدينة - هكذا مجملا - فأما المسمون فهم تسعة . ومن التابعين - الحسن , وعمر بن عبد العزيز , وشريح , وإبراهيم النخعي , والشعبي , وسعيد بن المسيب , وقتادة , وسالم بن عبد الله بن عمر , وأبو قلابة , والزهري , وعروة بن الزبير , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان وغيرهم , وجمهور العلماء بالمدينة - الذين روى عنهم التابعون هكذا مجملا - كلهم مختلفون , والصحابة أيضا كذلك , وأكثر ما ذكرنا لا يصح على ما نبين إن شاء الله تعالى .
قال أبو محمد رحمه الله: فالمأثور من ذلك عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل , إنما هو عن عبيد الله بن عمر بن حفص , وعن الحسن , وفي طريق الحسن عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه لم يقد بالقسامة - وهو مرسل لا يصح كما ذكرنا . وروي عنه أيضا أنه طلب البينة من أولياء المقتول , فإن لم يجدوها حلف المدعى عليهم , ولا شيء عليهم , فإن نكلوا حلف المدعون واستحقوا الدية - وهذا مرسل عنه - لأنه عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن عمر - ولم يولد والد القاسم إلا بعد موت عمر - وروي عنه أيضا : البينة على المدعين , وإلا حلف المدعى عليهم وبروا فقط , إلا أنه مرسل . وروي عنه - في قتيل وجد بين حيين , أو قريتين - أن يذرع إلى أيهما هو أقرب فالذي هو أقرب إليها حلفوا خمسين يمينا وغرموا الدية مع ذلك . ومثل هذا عن المغيرة بن شعبة إلا أنه مرسل ; لأنه عن عمر , والمغيرة , من طريق الشعبي - ولم يولد إلا بعد موت عمر بأزيد من عشرة أعوام أو نحوها وقبل الشعبي . وفي خبر المغيرة أشعث - وهو ضعيف - وروي عنه : أنه حلف امرأة مدعية من دم مولى لها خمسين يمينا , ثم قضى لها بالدية - وهذا مرسل - لأنه عن أبي الزناد عنه , وعن ابن المسيب عنه . وأما عثمان - رضي الله عنه - فإنه روي عنه في قتيل وجد في دار قوم فأقروا بقتله , وأنه جاءهم ليسرقهم : أن يحلف أولياء المقتول , ولهم القود , فإن نكلوا : حلف أهل الدار وغرموا الدية , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل ; لأنه من طريق الزهري : أن عثمان - ولم يولد الزهري , إلا بعد

موته - أعني بعد موت عثمان - . وأما علي - رضي الله عنه - : إذا وجد القتيل بين قريتين قاس ما بينهما وجعله على أقربهما وإن وجد بفلاة من الأرض فديته على بيت المال وأنه أحلف المدعى عليه الدم , وتسعة وأربعين معه - إلا أنه لا يصح ; لأنه عن أبي جعفر - ولم يولد أبو جعفر إلا بعد موت علي ببضعة عشر عاما . ومن طريق أخرى فيها الحارث الأعور - وهو كذاب - والحجاج بن أرطاة - وهو هالك . وأما ابن عباس - فجاء عنه أنه قضى بالأيمان على المدعى عليهم في القسامة وأن لا يقاد بها , وأن لا يطل دم مسلم , إلا أنه لا يصح ; لأن إحدى الطريقين عن مطيع - وهو مجهول - والأخرى عن إبراهيم بن أبي يحيى - وهو هالك . وأما ابن الزبير - فصح عنه من أجل إسناد أنه أقاد بالقسامة , وأنه رأى القود بها في قتيل وجد , وأنه رأى الحكم للمدعين بالأيمان , وأنه رأى أن يقاد بها من الجماعة للواحد : روى ذلك عنه أوثق الناس سعيد بن المسيب - وقد شاهد تلك القصة كلها . وعبد الله بن أبي مليكة قاضي ابن الزبير . وأما معاوية - فروي عنه تبرئة أولياء المدعى عليهم بالأيمان في القسامة , فإن نكلوا حلف المدعون على واحد فقط , وأقيدوا به لا على أكثر , فإن نكلوا حلف المدعى عليهم بأنفسهم خمسين يمينا , تردد الأيمان عليهم , وحمله إياهم للتحليف من المدينة إلى مكة - وهذا في غاية الصحة ; لأنه رواه عنه سعيد بن المسيب , وقد شهد الأمر . وروي عنه أيضا : أنه بدأ المدعين بالأيمان وأقاد بها , ووافقه على ذلك أزيد من ألف من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا أن هذا لا يصح ; لأن في الطريق عبد الرحمن بن أبي الزناد , وهو ضعيف . وأما عبد الله بن عمرو - فإنه روي عنه أن كل دعوى فإن المدعى عليه يبدأ باليمين , إلا في الدم , فإن المصاب إذا ادعى أن فلانا قتله , فأولياؤه مبدئون , إلا أن هذا لا يصح ; لأنه من طريق ابن سمعان - وهو مذكور بالكذب هالك - وروي عن الجماعة الأولى , أن لا قود بالقسامة , إلا أنه لا يصح ; لأنه مرسل عن الحسن .
وفي الطريق عبد السلام بن حرب - وهو ضعيف . وروي : أن الأمر كان قديما قبل معاوية , ألا تردد الأيمان , وأنه إن نقص من الخمسين واحد بطلت القسامة - وهو صحيح - رواه سعيد بن المسيب وقد أدرك أيام عثمان , وعلي - رضي الله عنهما - فهذا كل ما روي عن الصحابة - رضي الله عنهم - كله مختلف فيه غير متفق , وكله لا يصح , إلا ما روي عن ابن الزبير , ومعاوية , وعن إبطال القسامة إذا لم يتم الخمسون : فهو صحيح . وأما التابعون - رحمهم الله - : فأما الحسن : فصح عنه أن لا يقاد بالقسامة لكن يحلف المدعى عليهم : بالله ما فعلنا , ويبرءون - فإن نكلوا حلف المدعون وأخذوا الدية - هذا في القتيل يوجد . وأما عمر بن عبد العزيز - فجاء عنه : يبدأ المدعى عليهم , ثم أغرمهم الدية

مع أيمانهم - وهذا عنه صحيح , وأنه رجع إلى هذا القول - وصح عنه : أنه أقاد بالقسامة صحة لا مغمز فيها , وأنه بدأ المدعين بالأيمان في القسامة , وردد الأيمان - وصح عنه : أنه رجع عن القسامة جملة وترك الحكم بها . وصح عنه مثل حكم عمر بن الخطاب في إغرامه نصا الدية في نكول المدعين ونكول المدعى عليهم عن الأيمان معا . وأما شريح - فصح عنه تردد الأيمان , وأن القتيل إذا وجد في دار قوم فادعى أهله على غير تلك الدار فقد بطلت القسامة ولا شيء لهم على أحد إلا ببينة . وأما إبراهيم النخعي - فصح عنه إبطال القود بالقسامة لكن يبدأ بالمدعى عليهم فيحلفون خمسين يمينا ثم يغرمون الدية - مع ذلك - ورأى ترديد الأيمان . وأما الشعبي - فروي عنه في القتيل يوجد بين قريتين : أنه على أقربهما إليه وفيه الدية , له إن وجد بدنه في دار قوم فعليهم دمه , وإن وجد رأسه في دار قوم فلا شيء فيه - ولا دية ولا غيرها - إلا أنه لا يصح عنه ; لأنه عمن لم يسم , أو عن صاعد اليشكري , ولا نعرفه . وأما سعيد بن المسيب - فصح عنه أن القسامة على المدعى عليهم - وروي عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها , ولو علم أن الناس يجترئون عليها لم يقض بها - وهذا كلام سوء قد أعاذ الله تعالى سعيد بن المسيب عنه . ورواية عن يونس بن يوسف - وهو مجهول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحكم من عند . نفسه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} . ولقد علم الله تعالى إذ أوحى إليه بأن يحكم في القسامة بما حكم به من الحق أن الناس سيجترئون على الكفر , وعلى الدماء , فكيف على الأيمان: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . وأما قتادة - فصح عنه أن القسامة تستحق بها الدية , ولا يقاد بها . وأما سالم - فصح عنه إنكار القسامة جملة , وأن من حلف فيها يستحق أن ينكل , وأن لا تقبل له شهادة . وأما أبو قلابة - فصح عنه إنكار القسامة جملة . وأما الزهري - فصح عنه أن القسامة إذا لم تتم الخمسون عدد المدعين بطلت , ولا تردد الأيمان فيها وأن ترديدها محدث . أما عروة بن الزبير , وأبو بكر بن عمرو بن حزم , وأبان بن عثمان , فإنه روي عنهم : إن ادعى المصاب على إنسان أنه قتله , أو على جماعة , فإن أولياء المدعي يبدءون فيحلفون خمسين يمينا على واحد , وتردد عليهم الأيمان إن لم يتموا خمسين يمينا , فإذا حلفوا دفع إليهم الواحد فيقتلوه , وجلد الآخرون مائة مائة , وسجنوا سنة . وأن عبد الملك بن مروان أول من قضى بأن لا يقتل في القسامة إلا واحد , وكان من قبله يقتلون فيها الرهط بالواحد . وهذا كله خبر واحد ساقط , لا يصح ; لأنه انفرد بروايته عبد الرحمن بن أبي الزناد , وابن سمعان معا - وهما ساقطان ; وأما أبو الزناد - فروي عنه : أنه يبدأ في

القسامة من له بعض بينة أو شبهة , صح ذلك عنه . وأما ربيعة - فصح عنه : أن شهادة اليهود , والنصارى , والمجوس , أو الصبيان أو المرأة : يؤخذ بها في القتل , ويبدأ معها أولياء المقتول , وذلك دعوى المصاب دون بينة أصلا - بالغا كان أو غير بالغ - هكذا روى عنه ابن وهب فيبدأ أولياؤه فيحلفون خمسين يمينا وتردد عليهم الأيمان إن لم يتموا خمسين , ويستحقون القود , فإن نكلوا حلف أولياء المدعى عليه خمسين يمينا , تردد أيضا عليهم , ويبرءون ويبرأ المدعى عليه , فلا قود ولا دية , فإن نكلوا وجب لأولياء المقتول القود على من ادعوا عليه دون يمين . وأما مروان - فروي عنه : إذا ادعى الجريح على قوم , فإن أولياءه يبدءون فيحلفون خمسين يمينا , وتكرر عليهم الأيمان , ثم يدفع إليهم كل من ادعوا عليه - وإن كانوا جماعة فيقتلون - إن شاءوا - ولم يصح هذا ; لأنه من رواية ابن سمعان . وأما السالفون من علماء أهل المدينة جملة - فإنه روي عنهم : أن من ادعى - وهو مصاب - أن فلانا قتله , فإن أولياءه يبدءون في القسامة , فإن لم يدع على أحد برئ المدعى عليهم , فإن حلف الأولياء مع دعوى المصاب كان لهم القود , فإن عفوا عن الدم وأرادوا الدية قضي لهم بذلك , وجلد المعفو عنهم مائة مائة , وحبسوا سنة , وإن عفا الأولياء عن القود وعن الدية : فلا ضرب على المعفو عنهم , ولا سجن , فإن نكلوا حلف المدعى عليه مع أوليائه خمسين يمينا , فإن نكلوا غرم المدعى عليه الدية في ماله خاصة . وأن القسامة تكون مع شهادة الصبيان , أو النساء , أو اليهود , أو النصارى كما قلنا في دعوى القتيل سواء سواء ولا فرق . وأن الأيمان تردد في ذلك إن لم يتموا خمسين , فإن كان دعوى قتل عمد لم يجز أن يحلف في ذلك أقل من ثلاثة , وإن كانت دعوى قتل خطأ : حلف في ذلك واحد - إن لم يوجد غيره - خمسين يمينا وأخذ الدية . ويحلف في دعوى العمد من أراد القود - وإن لم يكن وارثا - ولا يحلف في دعوى الخطأ إلا من يرث - وكل هذا لا يصح ; لأنه من رواية ابن سمعان وهو موصوف بالكذب . قال أبو محمد رحمه الله: فهذا كل ما حضرنا ذكره : أنه روي عن أحد من التابعين في ذلك وقد ذكرناهم - وهم مختلفون - كما ترى غير متفقين ؟ وأما المتأخرون - فنذكر أيضا - إن شاء الله تعالى - من أقوالهم ما يسر . فأما سفيان الثوري - فإنه صح عنه : أنه قال : إن وجد القتيل في قوم فالبينة على أولياء القتيل فإن أتوا بها قضي لهم بالقود , وإلا حلف المدعى عليهم خمسين يمينا , وغرموا الدية مع ذلك . وقال معمر : من ضرب فجرح فعاش صميتا ثم مات فالقسامة تكون حينئذ , فيحلف المدعون : لمات

من ضربه إياه , فإن حلفوا خمسين يمينا كذلك استحقوا الدية , وإن نكلوا حلف من المدعى عليهم خمسون : ما مات من ضربه إياه , ويغرمون الدية مع ذلك فالجرح خاصة لا في النفس , فإن نكل الفريقان جميعا غرم المدعى عليهم نصف الدية - ذهب إلى ما روي عن عمر . وقال معمر : قلت لعبيد الله بن عمر : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة ؟ قال , لا , قلت : فأبو بكر , قال : لا , قلت : فعمر , قال : لا , قلت : فكيف تجترئون عليها ؟ فسكت . قال معمر : فقلت ذلك لمالك ؟ فقال : لا تضع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحيل , لو ابتلي بها أقاد بها . وقال عثمان البتي فيمن ادعي عليهم بقتيل وجد فيهم : فالبينة على المدعين ويقضى لهم , فإن لم يكن لهم بينة حلف خمسون رجلا من المدعى عليهم , وبرئوا , ولا غرامة في ذلك , ولا دية , ولا قود . وقال أبو حنيفة , وأصحابه : لا تكون القسامة بدعوى المصاب أصلا , ولا قود في ذلك , ولا دية , لكن إن وجد قتيل في محلة وبه أثر , وادعى الولي على أهل المحلة أنهم قتلوه , وادعوا على واحد بعينه منهم ؟ فإن كانت لهم بينة عدل قضي لهم بها , وإن لم تكن لهم بينة حلف المدعى عليهم خمسون رجلا من أهل الخطة , لا من السكان , ولا من الذين انتقل إليهم ملك الخطة بالشراء , لكن على الذين كانوا مالكين لها في الأصل , يختارهم الولي , فإن نقص منهم ردت عليهم الأيمان - فإذا حلفوا غرموا الدية مع ذلك , فإن نكلوا سجنوا أبدا حتى يقروا أو يحلفوا . وقال مالك : لا تكون القسامة إلا بأن يقول المصاب : فلان قتلني عمدا , فإذا قال ذلك ثم مات قبل أن يفيق : حلف خمسون من أوليائه قياما في المسجد الجامع , مستقبلين القبلة : لقد قتله فلان عمدا ؟ فإذا حلفوا , فإن حلفوا على واحد فلهم القود منه , وإن حلفوا على جماعة لم يكن لهم القود إلا من واحد , ويضرب الباقون مائة مائة , ويسجنون سنة - فإن شهد شاهد واحد عدل : بأن فلانا قتل فلانا كانت القسامة أيضا كما ذكرنا . وكذلك إن شهد لوث من نساء أو غير عدول , فإن لم يكونوا خمسين ردت عليهم الأيمان حتى يتم خمسين - ولا يحلف في القسامة أقل من اثنين فإن كان القائل : فلان قتلني , غير بالغ , فلا قسامة في ذلك , ولا قود , ولا غرامة : قال : فإن نكل جميع أولياء القتيل حلف المدعى عليهم خمسين يمينا , فإن لم يبلغوا خمسين ردت الأيمان عليهم , فإن لم يوجد إلا المدعى عليه وحده حلف خمسين يمينا وبرئ , فإن نكل أحد ممن له العفو من الأولياء : بطلت القسامة ووجبت الأيمان على المدعى عليهم - ولا قسامة في قتيل وجد في دار قوم , ولا غرامة , ولا في دعوى عبد : أن فلانا قتله . وفي دعوى المريض : أن فلانا قتلني خطأ روايتان : إحداهما : أن في ذلك

القسامة - والأخرى : لا قسامة في ذلك ولا في كافر . وقال الشافعي : لا قسامة في دعوى إنسان : أن فلانا قتلني أصلا سواء قال عمدا أو خطأ - ولا غرامة في ذلك - وإنما القسامة في قتيل وجد بين دور قوم كلهم عدو للمقتول , فادعى أولياؤه عليهم , فإن أولياء القتيل يبدءون فيحلف منهم خمسون رجلا يمينا يمينا : أنهم قتلوه عمدا أو خطأ , فإن نقص عددهم ردت الأيمان , فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا , واستحقت الدية على سكان تلك الدور , ولا يستحق بالقسامة قود أصلا - وإن شهد واحد عدل , أو جماعة متواترة غير عدول أن فلانا قتل فلانا , فتجب القسامة كما ذكرنا , والدية - أو وجد قتيل في زحام فالقسامة أيضا , والدية , كما ذكرنا . وقال أصحابنا : إن وجد قتيل في دار قوم أعداء له , وادعى أولياؤه على واحد منهم : حلف خمسون منهم , واستحقوا القود أو الدية - ولا قسامة , إلا في مسلم حر . قال أبو محمد رحمه الله: فهذه أقوال الفقهاء المتأخرين قد ذكرنا منها ما يسر الله تعالى - ونذكر الآن الأخبار الصحاح الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة مجموعة كلها في مكان واحد , مستقصاة ; ليلوح الحق بها من الخطأ , ولتكون شاهدة لمن أصاب ما فيها بأنه وفق للصواب - بمن الله تعالى وشاهدة لمن خالف ما فيها بأنه يسر للخطأ مجتهدا - إن كان ممن سلف , وعاصيا إن كان مقلدا - وقامت الحجة عليه , وإنما جمعنا ما ذكرنا من أقوال الصحابة - رضي الله عنهم - ومن أقوال التابعين - رحمهم الله - ومن أقوال الفقهاء بعدهم , ثم أتينا بالأحاديث الصحاح ما يسر الله تعالى منها , الواردة في ذلك ; لأن أحكام القسامة متداخلة في كل ذلك : وقد روينا من طريق البخاري - نا أبو نعيم الفضل بن دكين نا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار , زعم : أن رجلا من الأنصار - يقال له : سهل بن أبي حثمة - أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها , ووجد أحدهم قتيلا , وقالوا للذين وجد فيهم : قتلتم صاحبنا ؟ قالوا : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا , فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا , فقال : "الكبر الكبر فقال لهم : تأتون بالبينة على من قتله" ؟ قالوا : ما لنا بينة . قال : "فتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" . قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ؟ قال : "فتبريكم يهود بخمسين يمينا" ؟ قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود , "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه بمائة من إبل الصدقة". ومن طريق مسلم - نا قتيبة بن سعيد نا الليث بن سعد عن يحيى - هو ابن سعيد الأنصاري - عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , قال يحيى : وحسبته قال : وعن رافع بن

خديج أنهما قالا : خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هنالك , ثم إذا محيصة يجد عبد الله بن سهل قتيلا فدفنه - ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود , وعبد الرحمن بن سهل - وكان أصغر القوم - فذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كبر الكبر في السن" فصمت وتكلم صاحباه وتكلم معهما فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل فقال لهم : "أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" ؟ قالوا : كيف نحلف ولم نشهد ؟ قال : "فتبريكم يهود بخمسين يمينا" ؟ قالوا : وكيف نقبل أيمان قوم كفار ؟ "فلما رأى ذلك رسول الله أعطاه عقله". ومن طريق مسلم - نا عبد الله بن عمر القواريري نا حماد بن زيد نا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة , ورافع بن خديج أن محيصة بن مسعود , وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل فقتل عبد الله بن سهل , فاتهموا اليهود فجاء إخوة عبد الرحمن , وابن عمه حويصة , ومحيصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه - وهو أصغر القوم - فقال رسول الله "كبر الكبر" , أو قال : "ليبدأ الأكبر" ؟ فتكلما في أمر صاحبهم , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" ؟ فقالوا : أمر لم نشهده كيف نحلف ؟ قال : "فتبريكم يهود بأيمان خمسين منهم" ؟ قالوا : يا رسول الله وكيف نقبل بأيمان قوم كفار ؟ قال : "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله مائة من الإبل" , قال سهل : فدخلت مريدا لهم فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها, قال حماد : هذا , أو نحوه . قال أبو محمد رحمه الله: فشك يحيى في رواية الليث: هل ذكر بشير بن يسار, ورافع بن خديج مع سهل بن أبي حثمة أو لم يذكر ؟ ولم يشك في رواية حماد بن زيد عنه في أن رافعا روى عنه هذا الخبر بشير , وكلا الرجلين ثقة , حافظ , وحماد أحفظ من الليث , والروايتان معا صحيحتان . فصح - أن يحيى شك مرة : هل ذكر بشير رافعا مع سهل أم لا ؟ وقطع يحيى مرة في أن بشيرا ذكر رافعا مع سهل , ولم يشك ؟ فهي زيادة من حماد , وزيادة العدل مقبولة . ومن طريق مسلم نا إسحاق بن منصور نا بشير بن عمر قال : سمعت مالك بن أنس . وناه أيضا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا أحمد بن عمرو بن السرح , ومحمد بن مسلمة ; قال أحمد : نا محمد بن وهب , وقال محمد : نا ابن القاسم , ثم اتفق ابن وهب , وابن القاسم , وبشير بن عمر , كلهم يقول : نا مالك بن أنس نا أبو ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة

أنه أخبره عن رجال من كبراء قومه : أن عبد الله بن سهل , ومحيصة , خرجا إلى خيبر من جهد أصابهما فأتى محيصة فأخبر : أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في عين أو في فقير , فأتى يهود فقال : أنتم والله قتلتموه , قالوا : والله ما قتلناه , ثم أقبل حتى قدم على قومه , فذكر لهم ذلك , ثم أقبل هو وأخوه حويصة - وهو أكبر منه - وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم - وهو الذي كان بخيبر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمحيصة : "كبر كبر" - يريد السن - فتكلم حويصة , ثم تكلم محيصة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" , فكتب رسول الله إليهم في ذلك , فكتبوا : إنا والله ما قتلناه , فقال رسول الله: "أتحلفون؟ وتستحقون دم صاحبكم" ؟ قالوا : لا قال: "فتحلف لكم يهود" ؟ قالوا : ليسوا مسلمين , "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده , فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة ناقة , حتى دخلت عليهم الدار" , قال سهل : فلقد ركضني منها ناقة حمراء. ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة قال: وجد عبد الله بن سهل قتيلا فجاء أخوه , وحويصة , ومحيصة , وهما عما عبد الله بن سهل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "الكبر الكبر" , قالوا : يا رسول الله إنا وجدنا عبد الله بن سهل قتيلا في قليب - يعني من قلب خيبر - قال النبي عليه الصلاة والسلام : "من تتهمون" ؟ قالوا : نتهم يهود , قال: "فتقسمون خمسين يمينا : أن اليهود قتلته", قالوا : وكيف نقسم على ما لم نر؟ قال: "فتبريكم اليهود بخمسين يمينا : أنهم لم يقتلوه" , قالوا : وكيف نرضى بأيمانهم وهم مشركون ؟ "فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده". ومن طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال : حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن , وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي عليه السلام عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار : "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية" . ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن هاشم البعلبكي نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف , وسليمان بن يسار عن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانت عليه , وقضى بها بين أناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر.
قال أبو محمد رحمه الله: فهذه الأخبار مما صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في القسامة , لم يصح عنه إلا هي أصلا .

هل يجب الحكم بالقسامة أم لا
2149 - مسألة : هل يجب الحكم بالقسامة أم لا ؟
قال أبو محمد

رحمه الله: فذكرنا قول ابن عباس , وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب , فنظرنا فيما يمكن أن يحتج به ؟ فوجدنا من طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام". وقوله عليه السلام للمدعي: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". قالوا : فقد سوى الله تعالى على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام بين تحريم الدماء والأموال , وبين الدعوى في الدماء والأموال , وأبطل كل ذلك , ولم يجعله إلا بالبينة أو اليمين على المدعى عليه , فوجب أن يكون الحكم في كل ذلك سواء لا يفترق في شيء أصلا : لا في من يحلف , ولا في عدد يمين , ولا في إسقاط الغرامة , إلا بالبينة ولا مزيد . وهذا كله حق , إلا أنهم تركوا ما لا يجوز تركه مما فرض الله تعالى على الناس إضافته إلى ما ذكروا , وهو أن الذي حكم بما ذكروا , وهو المرسل إلينا من الله تعالى هو الذي حكم بالقسامة , وفرق بين حكمها وبين سائر الدماء والأموال المدعاة , ولا يحل أخذ شيء من أحكامه وترك سائرها , إذ كلها من عند الله تعالى , وكلها حق , وفرض الوقوف عنده , والعمل به وليس بعض أحكامه عليه السلام أولى بالطاعة من بعض , ومن خالف هذا فقد دخل تحت المعصية , وتحت قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} . ولا فرق بين من ترك حديث: "بينتك أو يمينه" لحديث القسامة , وبين من ترك حديث القسامة لتلك الأحاديث . فإن قالوا : الدماء حدود , ولا يمين في الحدود ؟ قيل لهم : ما هي من الحدود ; لأن الحدود ليست موكولة إلى اختيار أحد - إن شاء أقامها , وإن شاء عطلها - بل هي واجبة لله تعالى وحده , لا خيار فيها لأحد , ولا حكم . وأما الدماء فهي موكولة إلى اختيار الولي - إن شاء استقاد , وإن شاء عفا - فبطل أن تكون من الحدود , وصح أنها من حقوق الناس - وفسد قول من فرق بينها وبين حقوق الناس من الأموال وغيرها , لا حيث فرق الله تعالى ورسوله عليه السلام بين الدماء والحقوق وغيرها , وليس ذلك إلا حيث القسامة فقط . وأما من جعل اليمين في دعوى الدم خمسين يمينا ولا بد - ولا أقل - فلا حجة لهم , إلا أنهم قاسوا كل دعوى في الدم على القسامة - والقياس كله باطل ; لأنهم لم يحكموا للدعوى المجردة في الدم بحكم القسامة في غير هذا الموضع ; لأن المالكيين , والشافعيين يرون في القسامة تبرئة المدعين , ولا يرون تبرئتهم في دعوى الدم المجردة , والحنفيون يرون إيجاب الغرامة مع الأيمان في القسامة , ولا يرون ذلك في دعوى الدم المجردة - فصح أنهم قد تركوا قياس

دعوى الدم المجردة على القسامة في شيء من أحكامها , إلا في عدد الأيمان فقط - فظهر بذلك باطل قولهم . والقول عندنا هو ما قلناه من أن البينة في الدعاوى كلها دماء كانت أو غيرها سواء سواء , واليمين في كل ذلك سواء - يمين واحدة فقط - على من ادعي عليه إلا في الزنى , والقسامة , ففي الزنى أربعة من الشهود فصاعدا , لا أقل ; للنص الوارد في ذلك خاصة , وفي القسامة خمسون يمينا لا أقل للنص الوارد في ذلك . وبقي كل ما عدا ذلك على عموم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". وعلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على من ادعي عليه". فلا يخرج من هذا إلا ما أخرجه النص . ثم نظرنا في قول من قال : إن القسامة تكون بدعوى المريض أن فلانا قتله , فلم نجد لهم شبهة أصلا , إلا ما ناه أحمد بن عمر نا عبد الله بن الحسين بن عقال نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن أحمد بن الجهم نا إسماعيل بن إسحاق نا ابن أبي أويس نا أخي عن سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان أخبرني ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز دعاه فقال له : ما عندك في هذه القسامة ؟ فقلت له : كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء , وجعلها سترة لدمائهم , ولكن من سنتها وما بلغنا فيها : أن القتيل إذا تكلم برئ أهله , وإن لم يتكلم حلف المدعى عليهم - وذلك فعل عمر بن الخطاب , وأن ذلك الذي أدركنا الناس عليه . قال أبو محمد:إن أهل هذه المقالة أكثروا وأتوا بما ينسي آخره أوله , حتى يغتر الجاهل فيظن أنهم أتوا بشيء , وهم لم يأتوا بشيء أصلا , وهذا سند فاسد ; لأنه مرسل . وفي إسناده أبو بكر بن أبي أويس وقد خرج عنه البخاري , إلا أن الموصلي الحافظ الأسدي ذكر : أن يوسف بن محمد أخبره أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث , وهذه عظيمة , إلا أن الإرسال يكفي في هذا الخبر . ولو صح مسندا لم يكن لهم فيه متعلق ; لأنه ليس فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى بالقسامة فيما يدعيه المقتول , وإنما فيه : أنها كانت من أمر الجاهلية فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيما للدماء - ونحن لا ننكر هذا , فإذا لم يكن عن النبي عليه السلام فلا حجة فيه - وأن المالكيين مخالفون لهذا الحكم , ولا يرون فيه قسامة أصلا إذا لم يتكلم . وذكروا - ما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا محمد بن يحيى بن عبد الله نا أبو معمر البصري نا عبد الوارث نا فطر أبو الهيثم نا أبو يزيد المدني عن عكرمة عن ابن عباس قال : أول القسامة كانت في الجاهلية , كان رجل من بني هاشم استأجره رجل من قريش من فخذ أخرى فانطلق معه في إبله , فمر

رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل , فأعطاه عقالا يشد به جوالقه , فلما نزلوا عقلت الإبل إلا بعيرا واحدا , فقال الذي استأجره : ما شأن هذا البعير لم يعقل من بين الإبل ؟ قال : ليس له عقال , قال فأين عقاله ؟ قال : مر بي رجل من بني هاشم قد انقطعت عروة جوالقه فاستغاثني ؟ فقال : أغثني بعقال أشد به عروة جوالقي لا تنفر الإبل , فأعطيته عقاله , فحذفه بعصا كان فيه أجله , فمر به رجل من أهل اليمن فقال : أتشهد الموسم ؟ قال : ما أشهد وربما أشهد . قال : هل أنت عني مبلغ رسالة من الدهر ؟ قال : نعم , قال : إذا شهدت الموسم فناد : يا آل قريش ; فإذا أجابوك فناد : يا آل بني هاشم , فإذا أجابوك , فسل عن أبي طالب فأخبره : أن فلانا قتلني في عقال ومات المستأجر . فلما قدم الذي استأجره أتاه أبو طالب , فقال : ما فعل صاحبنا ؟ قال : مرض فأحسنت القيام عليه , ثم مات فوليت دفنه , فقال : أهل ذلك منك ؟ فمكث حينا - ثم إن الرجل اليماني الذي كان أوصى إليه أن يبلغ عنه وافى الموسم , قال : يا آل قريش ؟ فقالوا : هذه قريش , قال : يا بني هاشم , قالوا : هذه بنو هاشم , قال : أين أبو طالب ؟ قالوا : هذا أبو طالب , قال : أمرني فلان أن أبلغك رسالته : أن فلانا قتله في عقال , فأتاه أبو طالب فقال : اختر منا إحدى ثلاث إن شئت أن تودي مائة من الإبل فإنك قتلت صاحبنا خطأ , وإن شئت حلف خمسون من قومك أنك لم تقتله , فإن أبيت قتلناك به , فأتى قومه فذكر ذلك لهم , فقالوا : نحلف ؟ فأتته امرأة من بني هاشم كانت تحت رجل منهم قد ولدت له , فقالت : يا أبا طالب أحب أن تجيز ابني هذا برجل من الخمسين , ولا تصبر يمينه حيث تصبر الأيمان ؟ ففعل , فأتاه رجل منهم فقال : يا أبا طالب أردت خمسين رجلا أن يحلفوا مكان مائة من الإبل يصيب كل رجل بعيران , فهذان بعيران فاقبلهما عني ولا تصبر يميني حيث تصبر الأيمان ؟ فقبلهما , وجاء ثمانية وأربعون رجلا حلفوا - قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ما حال الحول ومن الثمانية وأربعين عين تطرف ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فأضافوا إلى هذا الخبر الحديث الذي قد ذكرناه قبل هذا بأوراق في باب الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القسامة , وهو أن القسامة كانت في الجاهلية فأقرها رسول الله على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر - وهذا لا حجة لهم فيه , بل هو حجة عليهم ; لأن صفة القسامة التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ناس من الأنصار في قتيل - ادعوه على يهود قد ذكرناها وإنما هي في قتيل وجد , لا في مصاب ادعى أن فلانا قتله - فهذا حجة عليهم . وأما حديث ابن عباس هذا , فهو

كله عليهم , لا لهم , ولئن كان ذلك الخبر حجة , فلقد خالفوه في ثلاثة مواضع , وما فيه لهم حجة أصلا في شيء . لأن قول ذلك المقتول لم يتبين بشاهدين , وإنما أتى به رجل واحد - وهم لا يرون القسامة في مثل هذا . وأن أبا طالب بدأ المدعى عليهم بالأيمان - وهم لا يقولون بهذا . وأن أبا طالب أقر : أن ذلك القرشي قتل الهاشمي خطأ , ثم قال له : فإن أبيت من الدية , أو من أن يحلف خمسون من قومك قتلناك به - وهم لا يرون القود في قتل الخطأ . فمن العجب احتجاجهم بخبر : هم أول مخالف له , وأما نحن فلا ننكر أن تكون القسامة كانت في الجاهلية في القتيل يوجد فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك , بل هذا حق عندنا لصحة الخبر بذلك , وبالله تعالى التوفيق . وذكروا أيضا - وهو من غامض اختراعهم - قول الله تعالى بعد أمره بني إسرائيل بذبح البقرة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} . وذكروا - مع هذه الآية - : ما ناه أحمد بن عمر بن أنس العذري عن عبد الله بن الحسين بن عقال الزبيري نا إبراهيم بن محمد الدينوري نا محمد بن الجهم نا أبو بكر الوزان نا علي بن عبد الله - وهو ابن المديني - نا يحيى بن سعيد القطان نا ربيعة بن كلثوم نا أبي عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال : إن أهل مدينة من بني إسرائيل وجدوا شيخا قتيلا في أصل مدينتهم , فأقبل أهل مدينة أخرى فقالوا : قتلتم صاحبنا , وابن أخ له شاب يبكي ويقول : قتلتم عمي ؟ فأتوا موسى عليه السلام , فأوحى الله تعالى إليه : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ؟ فذكر حديث البقرة بطوله , قال : فأقبلوا بالبقرة حتى انتهوا بها إلى قبر الشيخ - وهو بين المدينتين , وابن أخيه قائم عند قبره يبكي - فذبحوها , فضرب ببضعة من لحمها القبر ؟ فقام الشيخ ينفض رأسه ويقول : قتلني ابن أخي , طال عليه عمري , وأراد أكل مالي ؟ ومات . وبه - إلى ابن الجهم نا محمد بن سلمة نا يزيد بن هارون نا هشام عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني قال : كان في بني إسرائيل عقيم لا يولد له , وكان له مال كثير وكان ابن أخيه وارثه فقتله , ثم احتمله ليلا حتى أتى به حي آخرين , فوضعه على باب رجل منهم , ثم أصبح يدعيه عليهم , فأتوا موسى عليه السلام , فقال : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة - فذكر حديث البقرة - فذبحوها فضربوه ببعضها , فقام , فقالوا : من قتلك ؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتا , فلم يعط ابن أخيه من ماله شيئا , ولم يورث قاتل بعد . وبه - إلى ابن الجهم نا الوزان نا علي بن عبد الله نا سفيان بن سوقة , قال : سمعت عكرمة يقول : كان لبني إسرائيل مسجد له اثنا عشر بابا , لكل سبط باب فوجدوا قتيلا قتل على باب فجروه إلى باب آخر , فتداعوا قتله , وتدارى الشيطان فتحاكموا

إلى موسى عليه السلام فقال: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فذبحوها , فضربوه بفخذها , فقال : قتلني فلان - وكان رجلا له مال كثير - وكان ابن أخيه قتله - وفي حديث البقرة زيادة اقتصرتها.
قال أبو محمد رحمه الله: وكل ما احتجوا به من هذا فإيهام وتمويه على المغتربين : أما الآية فحق , وليس فيها شيء مما في هذه الأخبار ألبتة , وإنما فيها : أن الله تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين , مسلمة لا شية فيها غير ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك وأنهم كانوا قتلوا قتيلا فتدارءوا فيه , فأمرهم الله تعالى أن يضربوه ببعضها , إذ ذبحوها {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} . وليس في الآية أكثر من هذا , لا أن المقتول ادعى على أحد , ولا أنه قتل به , ولا أنه كانت فيه قسامة , فكل ما أخبر الله تعالى به فهو حق , وكل ما أقحموه بآرائهم في الآية فهو باطل - فبطل أن يكون لهم في الآية متعلق أصلا . ثم نظرنا في الأخبار التي ذكرنا فوجدناها كلها مرسلة , لا حجة في شيء منها , إلا الذي صدرنا به فهو موقوف على ابن عباس ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل أن يكون لهم في شيء منها متعلق ثم لو صحت الأخبار المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكانت كلها لا حجة لهم فيها لوجوه : أولها - أن ذلك حكم كان في بني إسرائيل , ولا يلزمنا ما كان فيهم , فقد كان فيهم السبت , وتحريم الشحوم , وغير ذلك - ولا يلزمنا إلا ما أمرنا به نبينا عليه السلام . قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "فضلت على الأنبياء بست - فذكر فيها - : أن من كان قبله : إنما كان يبعث إلى قومه خاصة , وبعث هو - عليه السلام - إلى الأحمر والأسود". فصح يقينا أن موسى عليه السلام وسائر الأنبياء قبل محمد عليه السلام لم يبعثوا إلينا , فبيقين ندري أن شرائع من لم يبعث إلينا ليست لازمة لنا , وإنما يلزمنا الإقرار بنبوتهم فقط . وثانيها - أنه لا يختلف اثنان من المسلمين في أنه لا يلزمنا في شيء من دعوى الدماء ذبح بقرة - وصح بطلان احتجاجهم بتلك الأخبار , إذ ليس فيها أن يسمع من المقتول بعد : أن تذبح بقرة ويضرب بها . وثالثها - أن تلك الأخبار فيها معجزة نبي وإحالة الطبيعة من إحياء ميت - فهم يريدون أن نصدق حيا قد حرم الله تعالى علينا تصديقه على غير نفسه ممكنا منه الكذب من أجل أن صدق بنو إسرائيل ميتا أحياه الله تعالى بعد موته - وهذا ضد القياس بلا شك , وضد ما في هذه الأخبار بلا شك . والأمر بيننا وبينهم في هذه المسألة قريب , فليرونا مقتولا رد الله تعالى روحه إليه بحضرة نبي أو بغير حضرته ويخبرنا بالشيء ونحن حينئذ نصدقه , وأما أن نصدق حيا يدعي على غيره , فهو أبطل الباطل بعينه , فذكرهم لهذه الآية وهذه الأخبار : قبيح ,

لو تورع عنهم لكان أسلم , ونسأل الله تعالى العافية.
وذكروا - ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن الحارثي , ومحمد بن المثنى , قال يحيى : نا خالد بن الحارث , وقال ابن المثنى : نا محمد بن جعفر ثم اتفق خالد , ومحمد : كلاهما عن شعبة عن هشام بن زيد عن أنس بن مالك : "أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق , فقال لها : أقتلك فلان ؟ فأشارت برأسها : أن لا , ثم قال لها الثانية , فأشارت برأسها : أن لا , سألها الثالثة ؟ فقالت : نعم , وأشارت برأسها , فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين". قال أبو محمد رحمه الله: وهذا لا حجة لهم فيه ; لأن هذا خبر رويناه بالسند المذكور إلى: مسلم نا عبد بن حميد نا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس : "أن رجلا من اليهود قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة ؟ وأخذ فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت". وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة , وأبان بن يزيد العطار , كلاهما عن قتادة عن أنس . فإن قالوا : إن شعبة زاد ذكر دعوى المقتولة في هذه القصة وزيادة العدل مقبولة ؟ قلنا : صدقتم , وقد زاد همام بن يحيى عن قتادة عن أنس - في هذا الخبر زيادة لا يحل تركها : كما روينا من طريق مسلم نا هداب بن خالد نا همام عن قتادة عن أنس : "أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك ؟ فلان , فلان , حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها , فأخذ اليهودي فأقر ؟ فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة" , فصح أنه صلى الله عليه وسلم لم يقتل اليهودي إلا بإقراره , لا بدعوى المقتولة . ووجه آخر - وهو أنه لو صح لهم ما لا يصح أبدا من أنه عليه السلام إنما قتله بدعواها لكان هذا الخبر حجة عليهم , ولكانوا مخالفين له ; لأنه ليس فيه ذكر قسامة أصلا , وهم لا يقتلون بدعوى المقتولة ألبتة إلا حتى يحلف اثنان فصاعدا من الأولياء خمسين يمينا ولا بد . وأيضا - فهم لا يرون القسامة بدعوى من لم يبلغ . والأظهر في هذا الخبر أنها كانت لم تبلغ ; لأنه ذكر جارية ذات أوضاح , وهذه الصفة عند العرب الذين بلغتهم تكلم أنس , إنما يوقعونها على الصبية , لا على المرأة البالغ . فبطل تعلقهم بهذا الخبر بكل وجه , ولاح خلافهم في ذلك , فوجب القول به , ولا يحل لأحد العدول عنه . واعترض المالكيون , ومن لا يرى القسامة في هذا , بأن قالوا : والقتيل قد يقتل ثم يحمله قاتله فيلقيه على باب إنسان أو في دار قوم ؟ فجوابنا - وبالله تعالى التوفيق - : أن هذا ممكن , ولكن لا يعترض على

حكم الله تعالى, وحكم رسوله عليه السلام : بأنه يمكن أمر كذا , وبيقين يدري كل مسلم أنه قد يمكن أن يكذب الشاهد , ويكذب الحالف , ويكذب المدعي : أن فلانا قتله - هذا أمر لا يقدر أحد على دفعه , فينبغي على هذا القول الذي ردوا به حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه : أن لا يقتلوا أحدا بشهادة شاهدين , فقد يكذبان , وليس القود بالشاهدين إجماعا فيتعلق به ; لأن الحسن يقول : لا يقبل في القود إلا أربعة . ثم نرجع إلى مسألتنا فنقول - وبالله تعالى التوفيق - : إنه لا يحل لمسلم - يدري أن وعد الله حق - أن يعترض على ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقول : لا يجوز هذا الحكم ; لأنه قد يمكن أن يرميه قاتله على باب غيره - ونعم , - هذا ممكن . أترى لو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل أهل مدينة بأسرها أو بقتل أمهاتنا وآبائنا وأنفسنا , كما أمر موسى عليه السلام قومه بقتل أنفسهم إذ أخبر الله تعالى بذلك في قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} أكان يكون في الإسلام نصيب لمن يعند عن ذلك ؟ إن هذا لعظيم جدا . والعجب كله أن ذلك الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم ظاهر معلق في دم رجل من بني حارثة من الأنصار على يهود خيبر , وبينهما من المسافة ستة وتسعون ميلا مائة ميل غير أربعة أميال تتردد في ذلك الرسل , وتختلف الكتب , ويقع في ذلك التوعد بالحرب . كما صح عنه عليه السلام أنه قال: "إما أن يدوا صاحبكم أو يؤذنوا بحرب". فهذا أمر لا يشك ذو حس سليم - من مؤمن أو كافر - في أنه لم تخف هذه القصة , ولا هذا الحكم على أحد من المسلمين بالمدينة , ولا عن اليهود , ولا إسلام يومئذ في غير المدينة , إلا من كان مهاجرا بالحبشة , أو مستضعفا بمكة ; لأن ذلك كان قبل فتح خيبر . لأن في الحديث الثابت الذي أوردناه قبل من طريق سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار : أن خيبر كانت يومئذ صلحا ولم تكن قط صلحا بعد فتحها عنوة , بل كانوا ذمة تجري عليهم الصغار , لا يسمون صلحا , ولا يمكنون من أن يأذنوا بحرب . فصح يقينا أن ذلك الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إجماع من جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أولهم وآخرهم بيقين لا مجال للشك فيه .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قال قائل - : فما تقولون في قتيل يوجد وفيه رمق , فيحمل فيموت في مكان آخر , أو في الطريق , أو يموت إثر وجودهم له وفيه حياة ؟ فجوابنا : أنه لا قسامة في هذا , وإنما فيه التداعي فقط , يكلف أولياؤه البينة , سواء ادعى هو على أحد أو لم يدع , فإن جاءوا بالبينة قضى لهم بما شهدت به بينتهم , وإن لم يأتوا بالبينة حلف المدعى عليهم يمينا واحدة - إن كان واحدا - فإن كانوا أكثر من واحد

حلفوا كلهم يمينا يمينا ولا بد ويجبرون على ذلك أبدا . وبرهاننا على ذلك : هو أن الأصل المطرد في كل دعوى في الإسلام من دم أو مال أو غير ذلك من الحقوق , ولا نحاش شيئا - هو "أن البينة على المدعي واليمين على من ادعي عليه". كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: "لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه". وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بينتك أو يمينه", وهذان عامان , ولا يصح لأحد أن يخرج عنهما شيئا , إلا ما أخرجه نص أو إجماع , ولا نص إلا في القتيل يوجد فقط , فمتى وجده حيا أحد من الناس فلا قسامة فيه ألبتة - وبالله تعالى التوفيق . فإن وجد لا أثر فيه ؟ فقد قلنا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حكم في مقتول , وليس كل ميت مقتولا , فإن تيقنا أنه قتل بأثر وجد فيه من : ضرب أو شدخ أو خنق , أو ذبح أو طعن , أو جرح أو كسر , أو سم - فهو مقتول والقسامة فيه . وإن تيقنا أنه ميت حتف أنفه لا أثر فيه ألبتة فلا قسامة ; لأنه ليست هي الحال التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة . إن أشكل أمره فأمكن أن يكون ميتا حتف أنفه , وأمكن أن يكون مقتولا , غمه بشيء وضعه على فيه فقطع نفسه فمات : فالقسامة فيه . فإن قيل : لم قلتم هذا والأصل أن من مات غير مقتول فلا قسامة فيه ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : إن المقتول أيضا ممكن أن يكون قتل نفسه أو قتله سبع , فلما كان إمكان ما ذكرنا لا يمنع من القسامة لإمكان أن يكون قد قتله من ادعى عليه أنه قتله , ووجبت القسامة ; لإمكان أن يكون قتله من ادعى عليه أنه قتله - فليس هذا قياسا , فلا تكن غافلا متعسفا أننا قد قسنا أحدهما على الآخر - ومعاذ الله من ذلك , لكنه باب واحد كله , إنما هو من وجد ميتا وادعى أولياؤه على قوم أنهم قتلوه , أو على واحد أنه قتله وكان قتلهم له الذي ادعى أولياؤه عليهم ممكنا - فهذه هي القصة التي حكم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينها بالقسامة , ففرض علينا أن نحكم فيها بالقسامة إذا أمكن أن يكون من ادعى أولياؤه حقا , وإنما يبطل الحكم بالقسامة إذا أيقنا أن الذي يدعونه باطل بيقين لا شك فيه.
قال أبو محمد رحمه الله: فسواء وجد القتيل في دار أعداء كفار , أو أعداء مؤمنين , أو أصدقاء كفار , أو أصدقاء مؤمنين , أو في دار أخيه , أو ابنه أو حيثما وجد , فالقسامة في ذلك - وهو قول ابن الزبير ومعاوية , بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يصح خلافهما عن أحد من الصحابة ; لأنهما حكما بالقسامة في إسماعيل بن هبار وجد مقتولا

بالمدينة , وادعى قوم قتله على ثلاثة من قبائل شتى - مفترقة الدور - ولم يوجد المقتول بين أظهرهم وهم : زهرى , وتيمي , وليثي كناني , وبهذا نقول - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله: وسواء وجد المقتول في مسجد , أو في داره نفسه , أو في المسجد الجامع , أو في السوق , أو بالفلاة , أو في سفينة , أو نهر يجري فيه الماء , أو في بحر , أو على عنق إنسان , أو في سقف , أو في شجرة , أو في غار , أو على دابة واقفة , أو سائرة - كل ذلك سواء كما قلنا . ومتى ادعى أولياؤه - في كل ذلك - على أحد فالقسامة في ذلك كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبالله تعالى التوفيق . وأما قولهم : إن وجد بين قريتين فإنه يذرع ما بينهما فإلى أيهما كان أقرب : حلفوا وغرموا مع قولهم : إن وجد في قرية حلفوا وودوا . فإن تعلقوا في ذلك مما ناه يوسف بن عبد الله النمري نا عبد الله بن محمد بن يوسف الأزدي نا يوسف بن أحمد نا أبو جعفر العقيلي نا محمد بن إسماعيل نا إسماعيل بن أبان الوراق نا أبو إسرائيل الملائي نا عطية - هو العوفي - عن أبي سعيد الخدري قال: "وجد قتيل بين قريتين فأمر النبي عليه السلام فقيس إلى أيهما أقرب ؟ فوجد أقرب إلى إحداهما بشبر , فكأني أنظر إلى شبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمن النبي عليه السلام من كانت أقرب إليه". ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه قال : "كانت أم عمرو بن سعد عند الجلاس بن سويد - هو ابن الصامت - فقال الجلاس في غزوة تبوك : إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير ؟ فسمعها عويمر , فقال : والله إني لا شيء إن لم أرفعها إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن ينزل القرآن فيه , وأن أخلط بخطبته , ولنعم الأب هو لي فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا , فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس فعرفه - وهم يترحلون - فلم يتحرك أحد , كذلك كانوا يفعلون , لا يتحركون إذا نزل الوحي , فرفع عن النبي عليه السلام فقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} إلى قوله {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ} فقال الجلاس : استتب إلي ربي , فإني أتوب إلى الله , وأشهد له بصدق {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} قال عروة : كان مولى الجلاس قتل في بني عمرو بن عوف , فأبى بنو عمرو بن عوف : أن يعقلوه , فلما قدم - النبي عليه السلام - جعل عقله على عمرو بن عوف , قال عروة : فما زال عمير منها بعليا حتى مات. ونا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع نا محمد بن عبد الله الشعيبي عن مكحول: "أن قتيلا وجد في هذيل , فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه فدعا خمسين منهم , فأحلفهم , كل رجل

عن نفسه يمينا : بالله تعالى ما قتلنا ولا علمنا قاتلا , ثم أغرمهم الدية". نا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عون الله نا قاسم بن أصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي , قال : إنما كانت القسامة في الجاهلية إذا وجد القتيل بين ظهراني قوم أقسم منهم خمسون : ما قتلنا , ولا علمنا قاتلا - فإن عجزت الأيمان ردت عليهم , ثم عقلوا . وروينا من طريق إسماعيل الترمذي نا سعيد بن عمرو أبو عثمان نا إسماعيل بن عياش عن الشعبي عن مكحول نا عمرو بن أبي خزاعة أنه: "قتل فيهم قتيل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل القسامة على خزاعة : بالله ما قتلنا ولا نعلم قاتلا , وحلف كل منهم عن نفسه , وغرموا الدية". قالوا : وقد ذكرنا هذا عن عمر , وعلي قبل.
قال أبو محمد رحمه الله: وكل هذه الأقاويل فلا يجب الاشتغال بها على ما نبين - إن شاء الله تعالى : أما الحديث الذي صدرنا به : فهالك ; لأنه انفرد به عطية بن سعد العوفي وهو ضعيف جدا ضعفه هشيم , وسفيان الثوري , ويحيى بن معين , وأحمد بن حنبل , وما ندري أحدا وثقه - وذكر عنه أحمد بن حنبل أنه بلغه عنه أنه كان يأتي الكلبي الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث , ثم يكنيه بأبي سعيد ويحدث بها عن أبي سعيد , فيوهم الناس أنه الخدري , وهذا من تلك الأحاديث - والله أعلم - فهو ساقط . ثم هو أيضا من رواية أبي إسرائيل الملائي - هو إسماعيل بن أبي إسحاق , فهو بلية عن بلية , والملائي هذا ضعيف جدا - وليس في الذرع بين القريتين خبر غير هذا ألبتة , لا مسند ولا مرسل . وأما حديث الجلاس بن سويد بن الصامت , وعمير بن سعد , فإنه مرسل عن عروة بن الزبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إنما فيه : أن مولى الجلاس قتل في بني عمرو بن عوف , وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر جعل عقله على بني عمرو بن عوف , وليس في هذا أنه وجد مقتولا فيهم , ولا أنه عليه السلام أوجب فيه قسامة - وهذا خلاف قولهم - وإنما فيه : أنه قتل فيهم , فقاتله منهم , وإذا كان قاتله منهم فالعقل عليهم - فهذه صفة قتل الخطأ - وبه نقول - فبطل تمويههم بهذا الخبر - وبالله تعالى التوفيق . وأما حديث عمرو بن أبي خزاعة فهو مجهول ومرسل - فبطل . وأما ما ذكروه عن عمر بن الخطاب , وعلي بن أبي طالب فقد قدمنا أنه عن علي لا يصح ألبتة ; لأنه عن أبي جعفر عنه - فهو منقطع , وعن الحارث الأعور , وقد وصفه الشعبي بالكذب - وفيه أيضا : الحجاج بن أرطاة . وأما الرواية عن عمر فقد بينا أنها لا تصح , وما نعلم في القرآن , ولا في السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في الإجماع , ولا في القياس : أن يحلف مدعى عليه ويغرم - والقوم أصحاب

قياس بزعمهم , فهلا قاسوا الدعوى في الدم على الدعوى في المال , وغير ذلك , ولكن لا السنة أصابوا , ولا القياس أحسنوا .

حكم القسامة في العبد يوجد مقتولا
ً
...
2150 - مسألة : وأما القسامة في العبد يوجد مقتولا ؟
فإن الناس اختلفوا في ذلك : فقال أبو حنيفة , ومحمد بن الحسن : القسامة في العبد يوجد قتيلا كما هي في الحر , وعليهم قيمته في ثلاث سنين , لا يبلغ بها دية حر - وروي عن أبي يوسف : لا قسامة فيه , ولا غرامة وهو هدر - وهو قول مالك , وأصحابه , وابن شبرمة . وقال الأوزاعي : لا قسامة فيه , ولكن يغرمون ثمنه . وقال : زفر , والشافعي : فيه القسامة والقيمة , إلا أن زفر قال : يقسمون ويغرمون قيمته - وقال الشافعي : يحلف العبد ويغرم القوم قيمته . قال أبو محمد:وقولنا فيه إن القسامة فيه كالحر - سواء سواء - في كل حكم من أحكامه ؟ فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما احتجت به كل طائفة لقولها . فوجدنا من قال : لا قسامة في العبد يقولون : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما حكم بالقسامة في حر لا في عبد , فلا يجوز أن نحكم بها إلا حيث حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : العبد مال كالبهيمة ولا قسامة في البهيمة , ولا في سائر الأموال - وما نعلم لهم حجة غير هذا ؟ فلما نظرنا في ذلك وجدنا هاتين الحجتين لا متعلق لهم فيهما : أما قولهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحكم بالقسامة إلا في حر ؟ فقد قلنا : في هذا ما كفى , ولم يقل عليه السلام إني إنما حكمت بهذا ; لأنه كان حرا ؟ فنقول عليه ما لم يقل , ونخبر عن مراده بما لم يخبر - عليه السلام - عن نفسه وهذا تكهن وتخرص بالباطل , وهذا لا يحل أصلا , والعبد قتيل ففيه القسامة كما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مزيد . وأما قول من قال : إن العبد مال فلا قسامة فيه كما لا قسامة في البهيمة ؟ فقول فاسد ; لأنه قياس , والقياس كله باطل , فالعبد - وإن كان مالا فأرادوا أن يجعلوا له حكم الأموال والبهائم من أجل أنه مال , فإن الحر أيضا حيوان كما أن البهيمة حيوان , فينبغي أن نبطل القسامة في الحر قياسا على بطلانها في سائر الحيوان ؟ وأيضا - فلا خلاف في أن الإثم عند الله عز وجل في قتل العبد , كالإثم في قتل الحر ; لأنهما جميعا نفس محرمة , وداخلان تحت قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وليس كذلك قاتل البهيمة . فوجب على أصولهم - أن نحكم للعبد إذا وجد مقتولا بمثل الحكم في الحر إذا وجد مقتولا , لا بمثل الحكم في البهيمة - لا سيما في قول الحنفيين الموجبين للقود بين الحر والعبد في العمد - فهذه تسوية بينهما صحيحة , وكذلك في قول المالكيين , والشافعيين : الموجبين للكفارة في قتل العبد خطأ , كما يوجبونها في قتل الحر خطأ

بخلاف قتل البهيمة خطأ ؟ فبطل كل ما شغبوا به , وصح أن القسامة واجبة في العبد كما هي في الحر من طريق حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طريق القياس . وأما قول من ألزم قيمة العبد من وجد بين أظهرهم دون قسامة , فقول لا يؤيده قرآن ولا سنة , ولا إجماع ولا قياس , ولا نظر - وهو أكل مال بالباطل وإغرام قوم لم يثبت قبلهم حق ؟ قال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ولا قسامة في بهيمة وجدت مقتولة , ولا في شيء وجد من الأموال مفسودا ; لأن البهيمة لا تسمى " قتيلا " في اللغة , ولا في الشريعة , وإنما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة في القتيل , فلا يحل تعدي حكمه: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} , {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} والأموال محرمة إلا بنص , أو إجماع ؟ فالواجب في البهيمة - توجد مقتولة أو تتلف - وفي الأموال كلها : ما أوجبه الله تعالى على لسان رسوله - عليه السلام - إذ يقول: "بينتك أو يمينه ليس لك إلا ذلك". فالواجب في ذلك إن ادعى صاحب البهيمة توجد مقتولة أو صاحب المال إتلاف ماله على أحد أن يكلفه البينة ؟ فإن أتى بها قضى له بها , وإن لم يأت بها حلف المدعى عليه ولا بد , ولا ضمان في ذلك إلا ببينة أو إقرار - وهذا حكم كل دعوى في دم , أو مال , أو غير ذلك , حاشا القتيل يوجد , ففيه القسامة كما خص رسول الله صلى الله عليه وسلم . واختلف الناس في الذمي يوجد قتيلا ؟ فقالت طائفة : لا قسامة فيه - ورأى أبو حنيفة فيه القسامة . قال أبو محمد رحمه الله: والقول فيه كما قلنا في العبد ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان إنما حكم بالقسامة في مسلم ادعى على يهود خيبر فلم يقل عليه الصلاة والسلام : إنما حكمت بها , لأنه مسلم ادعى على يهودي ؟ فلا يجوز أن يقول عليه الصلاة والسلام ما لم يقله , لكنه - عليه السلام - حكم بها في قتيل وجد , ولم يخص عليه السلام حالا من حال , والذمي قتيل , فالقسامة فيه واجبة إذا ادعاها أولياؤه على ذمي أو ذميين ; لأنه إن ادعوها على مسلم - فحتى لو صح ما ادعوه بالبينة - فلا قود فيه ولا دية , ولكن إن أرادوا أن يقسموا ويوديه الإمام , فذلك لهم ; لما ذكرنا . وقد اتفق القائلون بالقسامة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإن كان - حكم بها في مسلم ادعى على يهود ؟ فإن الحكم بها واجب في مسلم ادعى - على مسلمين , وهذه غير الحال التي حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسلم ادعى بالقسامة على أصولهم , ولا فرق بين الحكم بها في مسلم على مسلمين , وبين الحكم بها في ذمي على ذميين أو على مسلمين ; لعموم حكمه - عليه السلام - وإنه لم يخص - عليه السلام - صفة من صفة - وبالله تعالى التوفيق.

فيمن يحلف بالقسامة
2151 - مسألة : فيمن يحلف بالقسامة:
قال أبو محمد رحمه الله: اتفق القائلون بالقسامة على أنه يحلف فيها الرجال الأحرار البالغون العقلاء من عشيرة المقتول الوارثين له , واختلفوا فيما وراء ذلك في وجوه , منها : هل يحلف من لا يرث من العصبة أم لا ؟ وهل يحلف العبد في جملتهم أم لا ؟ وهل تحلف المرأة فيهم أم لا ؟ وهل يحلف المولى من فوق أم لا ؟ وهل يحلف المولى الأسفل فيهم أم لا ؟ وهل يحلف الحليف أم لا ؟ فوجب لما تنازعوا ما أوجبه الله تعالى علينا عند التنازع , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ؟ ففعلنا - فوجدنا رسول الله عليه السلام قال في حديث القسامة - الذي لا يصح عنه غيره - كما قد تقصيناه قبل: "تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم" فخاطب النبي - عليه الصلاة والسلام - بني حارثة عصبة المقتول . وبيقين يدري كل ذي معرفة : أن ورثة عبد الله بن سهل - رضي الله عنه - لم يكونوا خمسين , وما كان له وارث إلا أخوه عبد الرحمن وحده , وكان المخاطب بالتحليف ابني عمه محيصة , وحويصة , وهما غير وارثين له ؟ فصح - أن العصبة يحلفون , وإن لم يكونوا وارثين . وصح - أن من نشط لليمين منهم كان ذلك له - سواء كان بذلك أقرب إلى المقتول أو أبعد منه - لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطب ابني العم , كما خاطب الأخ خطابا مستويا , لم يقدم أحدا منهم . وكذلك لم يدخل في التحليف إلا البطن الذي يعرف المقتول بالانتساب إليه ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يخاطب بذلك إلا بني حارثة الذي كان المقتول معروفا بالنسب فيهم , ولم يخاطب بذلك سائر بطون الأنصار - كبني عبد الأشهل وبني ظفر , وبني زعور , وهم إخوة بني حارثة - فلا يجوز أن يدخل فيهم من لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن كان في العصبة عبد صريح النسب فيهم , إلا أن أباه تزوج أمة لقوم فلحقه الرق لذلك , فإنه يحلف معهم إن شاء ; لأنه منهم , ولم يخص عليه السلام إذ قال : خمسون منكم حرا من عبد - إذا كان منهم - كما كان عمار بن ياسر - رضي الله عنه - من طينته : عنس , ولحقه الرق لبني مخزوم - وكما كان عامر بن فهيرة أزديا صريحا فلحقه الرق ; لأن أباه تزوج فهيرة أمة أبي بكر رضي الله عنه - وكما كان المقداد بن عمرو بهرانيا قحا , ولحقه الرق من قبل أمه - وبالله تعالى التوفيق .
وأما المرأة - فقد ذكرنا قبل أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أحلف امرأة في القسامة - وهي طالبة - فحلفت , وقضى لها بالدية على مولى لها . وقال المتأخرون : لا تحلف المرأة أصلا - واحتجوا بأنه إنما يحلف من تلزمه له النصرة , وهذا باطل مؤيد بباطل ; لأن النصرة واجبة على كل مسلم . بما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا معتمر بن سليمان عن

حميد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما , قالوا : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تأخذ فوق يديه". وروينا من طريق مسلم نا أحمد بن عبد الله بن يونس نا زهير - هو ابن معاوية - نا أشعث - هو ابن أبي الشعثاء - ني معاوية بن سويد بن مقرن قال : دخلنا على البراء بن عازب فسمعته يقول: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع , ونهانا عن سبع أمرنا : بعيادة المريض , واتباع الجنائز , وتشميت العاطس , وإبرار القسم - أو المقسم - ونصر المظلوم , وإجابة الداعي , وإفشاء السلام". فقد افترض الله تعالى نصر إخواننا . قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . نعم , ونصر أهل الذمة فرض , قال الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} . فقد صح أنه ليس أحد أولى بالنصرة من غيره من أهل الإسلام - فوجب أن تحلف المرأة إن شاءت - وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحلف خمسون منكم" وهذا لفظ يعم النساء والرجال . وإنما ذكرنا حكم عمر لئلا يدعوا لنا الإجماع . فأما الصبيان والمجانين , فغير مخاطبين أصلا بشيء من الدين - قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث . فذكر : الصبي والمجنون" مع أنه إجماع أن لا يحلفا في القسامة متيقن لا شك فيه . وأما المولى من فوق , والمولى من أسفل , والحليف , فإن قوما قالوا : قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "مولى القوم منهم - ومولى القوم من أنفسهم". وأثبت الحلف في الجاهلية - قالوا : ونحن نعلم يقينا - أنه قد كان لبني حارثة موال من أسفل , وحلفاء , لا شك في ذلك , ولا مرية , فوجب أن يحلفوا معهم . قال أبو محمد رحمه الله: أما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم - ومن أنفسهم" فصحيح - وكذلك كون بني حارثة لهم الحلفاء والموالي من أسفل بلا شك ؟ إلا أننا لسنا على يقين من أن بني حارثة إذ قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحلفون وتستحقون ويحلف خمسون منكم" حضر ذلك القول في ذلك المجلس حليف لهم , أو مولى لهم - ولو أيقنا أنه حضر هذا الخطاب مولى لهم , أو حليف لهم , لقلنا بأن الحليف والمولى يحلفون معهم , وإذ لا يقين عندنا أنه حضر هذا الخطاب حليف ومولى ؟ فلا يجوز أن يحلف في حكم منفرد برسمه , إلا من نحن على يقين من لزوم ذلك الحكم له . فإن قيل : قد قال صلى الله عليه وسلم: "مولى القوم منهم" يغني عن حضور الموالي هنالك , والحليف أيضا - يسمى في لغة العرب " مولى " كما قال عليه السلام للأنصار أول ما لقيهم: "أمن موالي يهود" يريد من حلفائهم ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق - : قد قال عليه الصلاة والسلام ما ذكرتم . وقال أيضا: "ابن أخت القوم منهم" , وقد أوردناه قبل بإسناده

في " كتاب العاقلة " ولا خلاف في أنه لا يحلف مع أخواله ؟ فنحن نقول : إن ابن أخت القوم منهم : حق ; لأنه متولد من امرأة هي منهم بحق الولادة , والحليف والمولى أيضا منهم ; لأنهما من جملتهم - وليس في هذا القول منه عليه السلام ما يوجب أن يحكم للمولى والحليف بكل حكم وجب للقوم . وقد صح إجماع أهل الحق على أن الخلافة لا يستحقها مولى قريش , ولا حليفهم , ولا ابن أخت القوم , وإن كان منهم - . والقسامة في العمد والخطأ سواء - فيما ذكرنا - فيمن يحلف فيها , ولا فرق .

كم يحلف في القسامة
2152 - مسألة : كم يحلف في القسامة:
اختلف الناس في هذا ؟ فقالت طائفة : لا يحلف إلا خمسون , فإن نقص من هذا العدد واحد فأكثر : بطل حكم القسامة , وعاد الأمر إلى التداعي . وقال آخرون : إن نقص واحد فصاعدا : رددت الأيمان عليهم حتى يبلغوا اثنين , فإن كان الأولياء اثنين فقط بطلت القسامة في العمد - وأما في الخطأ فيحلف فيه واحد خمسين - وهو قول روي عن علماء أهل المدينة المتقدمين منهم . وقال آخرون : يحلف خمسون , فإن نقص من عددهم واحد فصاعدا : ردت الأيمان عليهم , حتى يرجعوا إلى واحد , فإن لم يكن للمقتول إلا ولي واحد : بطلت القسامة , وعاد الحكم إلى التداعي - وهذا قول مالك . وقال آخرون : تردد الأيمان , وإن لم يكن إلا واحد فإنه يحلف خمسين يمينا وحده - وهو قول الشافعي . وهكذا قالوا في أيمان المدعى عليهم : أنها تردد عليهم وإن لم يبق إلا واحد ويجبر الكسر عليهم - فلما اختلفوا وجب أن ننظر : فوجدنا من قال بترديد الأيمان من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز : أن في كتاب لعمر بن عبد العزيز "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الأيمان أن يحلف الأولياء , فإن لم يكن عدد عصبته تبلغ خمسين رددت الأيمان عليهم بالغا ما بلغوا". ومن طريق ابن وهب أخبرني محمد بن عمرو عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب , قال : "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسين يمينا , ثم يحق دم المقتول إذا حلف عليه , ثم يقتل قاتله , أو تؤخذ ديته , ويحلف عليه أولياؤه - من كانوا قليلا أو كثيرا - فمن ترك منهم اليمين ثبتت على من بقي ممن يحلف - فإن نكلوا كلهم : حلف المدعى عليهم خمسين يمينا : ما قتلناه , ثم بطل دمه - وإن نكلوا كلهم : عقله المدعى عليهم - ولا يطل دم مسلم إذا ادعي إلا بخمسين يمينا".
قال أبو محمد رحمه الله: هذا لا شيء ; لأنهما مرسلان , والمرسل لا تقوم به حجة : أما حديث عمر بن عبد العزيز ففيه : أن يحلف الأولياء , وهذا لا يقول به الحنفيون ; فإن تعلق به المالكيون , والشافعيون . قيل للمالكيين : هو أيضا حجة عليكم ; لأنه ليس

فيه: أن لا يحلف إلا اثنان . وأيضا - فليس هو بأولى من المرسل الذي بعده من طريق ابن وهب , وهو مخالف لقول جميعهم ; لأن فيه : إن نكل الفريقان عقله المدعى عليهم ولا يقول به مالكي , ولا شافعي , وفيه القود بالقسامة - ولا يقول به حنفي , ولا شافعي , وفيه ترديد الأيمان جملة دون تخصيص أن يكونا اثنين كما يقول مالك .
قال أبو محمد رحمه الله: وأيضا - فإن القائلين بترديد الأيمان في القسامة قد اختلفوا في الترديد , فروينا عن عمر : أنه ردد الأيمان عليهما الأول فالأول معناه : كأنهم كانوا أربعين فحلفوا أربعين يمينا , فبقيت عشرة أيمان , فحلف العشرة الذين حلفوا أولا فقط , وروي غير ذلك وأنها تردد على الاثنين فالاثنين : كما روينا من طريق ابن وهب قال : قال ابن سمعان : سمعت من أدركت من علمائنا يقولون في القسامة تكون في الخطأ على الوارث , فإن لم يكن للمقتول خطأ إلا وارث واحد حلف خمسين يمينا مرددة ثم يدفع إليه الدية : فإن كانوا ابنين أو أخوين , ليس له وارث غيرهما فطاع أحدهما بالقسامة وأبى الآخر , فعلى الذي طاع بالقسامة خمسة وعشرون مرددة عليه ثم يدفع إليه نصف الدية وليس للآخر شيء : فإن كان الورثة ثلاثة رهط كانت القسامة عليهم أثلاثا , فإن لم تنفق الأيمان عليهم جعل الفضل على الاثنين فالاثنين وأن القسامة على الورثة بقدر الميراث , وقد ذكرنا بالإسناد المتصل عن سعيد بن المسيب , والزهري : أن ترديد الأيمان في القسامة لا يجوز , وأنه أمر حدث لم يكن قبل , وأن أول من ردد الأيمان معاوية في القسامة , وقد جاء في هذا خبر مرسل لو وجدوا مثله لطاروا به . فصح أن لا قسامة إلا بخمسين يحلفون : أن فلانا قتل صاحبنا عمدا أو خطأ كيفما علموا من ذلك , فإن نقص منهم واحد فصاعدا بطلت القسامة وعاد الأمر إلى حكم التداعي , ويحلفون في مجلس الحاكم وهم قعود حيث كانت وجوههم : بالله تعالى فقط , لا يكلفون زيادة على اسم الله تعالى لقول النبي عليه السلام: "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" ولا فرق بين زيادة "الذي لا إله إلا هو" وزيادة "الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر" وكل هذا حكم لم يأت به عن الله تعالى نص , ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - ولا أوجبه قياس , ولا نظر . وكذلك لا يكلفون الوقوف عند اليمين , ولا صرف وجوههم إلى القبلة , ولا ينزعوا أرديتهم أو طيالستهم - وكل هذه أحكام لم يأت بها نص قرآن , ولا سنة لا صحيحة , ولا سقيمة , ولا قول صاحب , ولا إجماع , ولا قياس , ولا نظر . فإن قالوا : هو تهييب ليرتدع الكاذب ؟ قيل لهم : وهو تشهير وإن أردتم التهييب فأصعدوه المنار , أو ارفعوه على المنار , أو شدوا وسطه

بحبل وجردوه في سراويل - وكل هذا لا معنى له , ولا معنى لأن يحلف في الجامع إلا إن كان مجلس الحاكم فيه , أو لم يكن فيه على المحلف كلفة حركة ; لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة , بل إنما جاء ذلك عن عمر بن الخطاب , ومعاوية أن عمر جلب المدعى عليهم في القسامة من اليمن إلى مكة ومن الكوفة إلى مكة ليحلفوا فيها . وعن معاوية ثابت : أنه حملهم من المدينة إلى مكة للتحليف في الحطيم أو بين الركن والمقام , والمالكيون , والحنفيون , والشافعيون مخالفون لهما - رضي الله عنهما - في ذلك , وهم الآن يحتجون علينا بهما في الترديد الذي قد خالفوهما أيضا فيه نفسه - وبالله تعالى التوفيق . ونجمع هاهنا حكم القسامة - إن شاء الله تعالى - فنقول - وبالله تعالى التوفيق . إذا وجد قتيل في دار قوم , أو في صحراء , أو في مسجد , أو في سوق , أو في داره . أو حيث وجد , فادعى أولياؤه على واحد , أو على جماعة من أهل تلك الدار , أو من غيرهم , وأمكن أن يكون ما قالوه وادعوه حقا , ولم يتيقن كذبهم في ذلك فإنه يحلفون خمسين بالغا , عاقلا , من رجل أو امرأة من عصبة المقتول , لا نبالي ورثة أو غير ورثة بالله تعالى أن فلانا قتله , أو أن فلانا وفلانا وفلانا اشتركوا في قتله " . ثم لهم القود , أو الدية , أو المفاداة , فإن أبوا أن يحلفوا , وقالوا : لا ندري من قتله بعينه : حلف من أهل تلك المحلة خمسون كذلك , أو من أهل تلك القبيلة , يقول كل حالف منهم "بالله ما قتلت" ولا يكلف أكثر ويبرءون - فإن نكلوا أجبروا كلهم على اليمين - أحبوا أم كرهوا - حتى يحلف خمسون منهم كما قلنا . ولا يجوز أن يكلفوا أن يقولوا "ولا علمنا قاتلا" ; لأن علم المرء بمن قتل فلانا إنما هي شهادة , فإن أداها أدى ما عليه . فإن قبل : قبل , فذلك , وإن لم يقبل فلا حرج عليه . ولا يجوز أن يحلف أحد شهادة عنده ليؤديها بلا خلاف . فإن نقص عصبة المقتول واحد فأكثر من خمسين , أو وجد القتيل وفيه حياة , أو لم يرد الخمسون أن يحلفوا ولا رضوا بأيمان المدعى عليهم , فقد بطلت القسامة . فأما في نقصان العدد عن خمسين , وفي وجود القتيل حيا , فليس في هذا إلا حكم الدعوى , ويحلف المدعى عليه واحدا - كان أو أكثر - يمينا واحدة فقط , فإن نكل , أو نكلوا : أجبروا على الأيمان أحبوا أم كرهوا . وهكذا إن نقص عدد أهل المحلة المدعى عليهم فلا قسامة أصلا , وكذلك إن لم يحقق أولياء المقتول دعواهم وعصبته , فإن الحكم في ذلك واحد , وهو أن لا بد أن يودى المقتول - حرا كان أو عبدا - من بيت مال المسلمين , أو من سهم الغارمين من الصدقات كما أمر الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} . وكما قال النبي عليه السلام: "من قتل له بعد مقالتي

هذه قتيل فأهله بين خيرتين إما أن يقاد أو أن يعقل". وليس القتل الواقع بين الناس إلا خطأ أو عمدا فقط , وفي كليهما الدية بحكم الله تعالى , وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام . وأيضا - فإن الخطأ يكون على عاقلة قاتل الخطأ من الغارمين , وفي العمد يكون القاتل إذا قبلت منه الدية غارما من الغارمين , فحظهم في سهم الغارمين واجب , أو في كل مال موقوف لجميع مصالح أمور المسلمين فهذا حكم كل مقتول بلا شك , حتى يثبت أنه قتل , لا عمدا ولا خطأ , لكن بفعل بهيمة , أو من له حكم البهيمة من المجانين , أو الصبيان , أو أنه قتل نفسه عمدا - وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد رحمه الله: وبقي في القسامة خبر نورده - إن شاء الله تعالى - لئلا يغتر به مغتر بجهل ضعفه , أو بظن ظان أنه أغفل ولم يذكر , فيكون نقصا من حكم السنة في القسامة . وهو كما ناه عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : سمعت ابن سمعان يقول : أخبرني ابن شهاب عن عبد الله بن موهب عن قبيصة بن ذؤيب الكعبي أنه قال : "بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فلقوا المشركين بإضم أو قريبا منه فهزم المشركون وغشي محلم بن جثامة الليثي عامر بن الأضبط الأشجعي , فلما لحقه , قال عامر : أشهد أن لا إله إلا الله , فلم ينته عنه لكلمته حتى قتله , فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى محلم فقال : أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله ؟ فقال : يا رسول الله إن كان قالها فإنما تعوذ بها وهو كافر , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا ثقبت عن قلبه ؟ يريد بذلك - والله أعلم - إنما يعرب اللسان عن القلب - وأقبل عيينة بن بدر في قومه حمية وغضبا لقيس فقال : يا رسول الله قتل صاحبنا وهو مؤمن , فأقدنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحلفون بالله خمسين يمينا على خمسين رجلا منكم أن كان صاحبكم قتل وهو مؤمن قد سمع إيمانه ؟ ففعلوا , فلما حلفوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اعفوا عنه واقبلوا الدية , فقال عيينة بن حصن إنا نستحي أن تسمع العرب أنا أكلنا ثمن صاحبنا ؟ وواثبه الأقرع بن حابس التميمي في قومه غضبا وحمية لخندف فقال لعيينة بن حصن : بماذا استطلتم دم هذا الرجل ؟ فقال : أقسم منا خمسون رجلا : أن صاحبنا قتل وهو مؤمن , فقال الأقرع : فسألكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعفوا عن قتله وتقبلوا الدية فأبيتم ؟ فأقسم : بالله لتقبلن من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دعاكم إليه , أو لآتين بمائة من بني تميم فيقسمون بالله لقد قتل صاحبكم وهو كافر ؟ فقالوا عند ذلك : على رسلك , بل نقبل ما دعانا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : يا رسول الله نقبل الذي دعوتنا إليه من الدية , فدية أبيك عبد الله بن عبد المطلب ؟ فوداه رسول الله

صلى الله عليه وسلم من الإبل".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا خبر لا ينسند ألبتة من طريق يعتد بها - وانفرد به ابن سمعان - وهو مذكور بالكذب - بذكر قسامة خمسين على أنه قتل مسلما , وهو أيضا مرسل - ولو صح لقلنا به , فإذ لم يصح فلا يجوز الأخذ به , وبالله تعالى التوفيق .

في الدماء مشكل
2153 - مسألة : في الدماء مشكل:
قال أبو محمد رحمه الله: نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل بن بهرام الدينوري نا محمد بن جرير الطبري ني عبيد الله بن سعد بن إبراهيم الزهري نا عمي - هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - نا شعبة بن الحجاج عن عبد الله بن أبي السفر عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مطيع بن الأسود عن أبيه مطيع أخي بني عدي بن كعب - وكان اسمه العاص فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم مطيعا - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة يقول : "لا تغزى مكة بعد هذا العام أبدا , ولا يقتل رجل من قريش بعد هذا العام صبرا أبدا". نا أحمد بن محمد بن الجسور نا أحمد بن الفضل نا محمد بن جرير ني عبد الله بن محمد الزهري نا سفيان بن عيينة عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي قال : قال الحارث بن مالك بن البرصاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تغزى مكة بعد هذا العام أبدا". نا أحمد بن محمد نا أحمد بن الفضل أنا محمد بن جرير نا نصر بن عبد الرحمن الأودي نا محمد بن عبيد عن زكريا عن الشعبي عن الحارث بن مالك بن البرصاء قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وهو يقول : لا تغزى مكة بعدها إلى يوم القيامة". قال علي رحمه الله : الأول حديث صحيح , والآخر إن صح سماع الشعبي من الحارث بن مالك فهما صحيحان - والحارث هذا : هو الحارث بن قيس بن عون بن جابر بن عبد مناف بن كنانة بن أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
قال أبو محمد رحمه الله: ووجه هذه الأحاديث بين , وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أخبر بهذا عن نفسه : أنه لا يغزو مكة بعدها أبدا , وأنه لا يقتل بعدها رجلا من قريش صبرا أبدا , وكان هذا كما قال عليه السلام , فما قتل بعدها قرشيا . برهان هذا : أنه عليه السلام قد أنذر بقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه - وأنذر بغزو الكعبة - وهو كما روينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا ابن أبي عدي عن عثمان عن غياث عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري فذكر الحديث , وفيه أن رجلا استفتح فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "افتح له وبشره بالجنة على بلوى تكون قال : فذهبت فإذا عثمان بن عفان ففتحت له وبشرته بالجنة , وقلت الذي قال , فقال : اللهم صبرا , والله المستعان".

ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة , وابن أبي عمر , وحرملة بن يحيى , قال أبو بكر , وابن أبي عمر : نا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد , وقال حرملة : نا ابن وهب أخبرني يونس - هو ابن يزيد - ثم اتفق زياد , ويونس كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة".
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن قوما من قريش سيقتلون صبرا . ولا خلاف بين أحد من الأمة كلها في أن قرشيا لو قتل لقتل , ولو زنى وهو محصن لرجم حتى يموت - وهكذا نقول فيه : لو ارتد , أو حارب أو حد في الخمر ثلاثا ثم شرب الرابعة - وكذلك قال الله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} . ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن مكة - أعزها الله وحرسها - لو غلب عليها الكفار , أو المحاربون , أو البغاة , فمنعوا فيها من إظهار الحق - أن فرضا على الأمة غزوهم لا غزو مكة , فإن انقادوا , أو خرجوا فذلك , وإن لم يمتنعوا ولا خرجوا : أنهم يخرجون منها , فإن هم امتنعوا وقاتلوا , فلا خلاف في أنهم يقاتلون فيها وعند الكعبة - فكانت هذه الإجماعات , وهذه النصوص وإنذار النبي عليه السلام بهدم ذي السويقتين للكعبة . وبالضرورة ندري أن ذلك لا يكون ألبتة إلا بعد غزو منه - وقد غزاها الحصين بن نمير , والحجاج بن يوسف , وسليمان بن الحسن الجياني - لعنهم الله أجمعين - وألحدوا فيها وهتكوا حرمة البيت , فمن رام للكعبة بالمنجنيق - وهو الفاسق الحجاج - وقتل داخل المسجد الحرام أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير , وقتل عبد الله بن صفوان بن أمية رضي الله عنهما وهو متعلق بأستار الكعبة , ومن قالع للحجر الأسود , وسالب المسلمين المقتولين حولها - وهو الكافر الملعون - سليمان بن الحسن القرمطي , فكان هذا كله مبينا إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أخبر في حديث مطيع بن الأسود , والحارث بن البرصاء , وأنه عليه السلام إنما أخبر بذلك عن نفسه فقط - وهذا من أعلام نبوته عليه السلام أن أخبر بأنه لا يغزوها إلى يوم القيامة , وأنه عليه السلام لا يقتل أبدا رجلا من قريش صبرا , فكان كذلك . ولا يجوز أن يقتصر على بعض كلامه صلى الله عليه وآله وسلم دون بعض , فهذا تحكم فاسد , بل تضم أقواله عليه السلام كلها بعضها إلى بعض , فكلها حق . ولا يجوز أن يحمل قوله عليه السلام: "لا تغزى مكة بعد هذا العام إلى يوم القيامة , ولا يقتل قرشي صبرا بعد هذا اليوم" على الأمر , لما ذكرنا من صحة الإجماع على وجوب قتل القرشي قودا أو رجما في الزنى - وهو محصن - على وجوب غزو من لاذ بمكة من أهل الكفر والحرابة والبغي ؟

فإن قيل : إنما منع بذلك من غزوها ظلما , ومن قتل قرشي صبرا ظلما ؟ قلنا - وبالله تعالى التوفيق : هذه أحكام لا يختلف فيها حكم مكة وغيرها , ولا حكم قريش وغيرهم , فلا يحل بلا خلاف : أن تغزى بلد من البلاد ظلما , ولا أن يقتل أحد من الأمة ظلما , وكأن يكون الكلام حينئذ عاريا من الفائدة , وهذا لا يجوز - وبالله تعالى التوفيق .

قتل أهل البغى
2154 - مسألة : قتل أهل البغي:
قال أبو محمد رحمه الله: قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} الآية . فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين : قتال البغاة , وقتال المحاربين - فالبغاة قسمان لا ثالث لهما : إما قسم خرجوا على تأويل في الدين فأخطئوا فيه , كالخوارج وما جرى مجراهم من سائر الأهواء المخالفة للحق . وإما قسم أرادوا لأنفسهم دنيا فخرجوا على إمام حق , أو على من هو في السيرة مثلهم , فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق , أو إلى أخذ مال من لقوا , أو سفك الدماء هملا : انتقل حكمهم إلى حكم المحاربين , وهم ما لم يفعلوا ذلك في حكم البغاة . فالقسم الأول من أهل البغي يبين حكمهم : ما نا هشام بن سعد الخير نا عبد الجبار بن أحمد المقرئ نا الحسن بن الحسين البجيرمي نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب نا أبو داود الطيالسي نا شعبة أخبرني أيوب السختياني , وخالد الحذاء , كلاهما قال : عن الحسن البصري أخبرتنا أمنا عن أم سلمة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في عمار تقتلك الفئة الباغية".
قال أبو محمد رحمه الله: وإنما قتل عمار رضي الله عنه - أصحاب معاوية رضي الله عنه وكانوا متأولين تأويلهم فيه - وإن أخطئوا الحق - مأجورون أجرا واحدا : لقصدهم الخير . ويكون من المتأولين قوم لا يعذرون , ولا أجر لهم : كما روينا من طريق البخاري نا عمر بن حفص بن غياث نا أبي نا الأعمش نا خيثمة نا سويد بن غفلة قال قال علي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيخرج قوم في آخر الزمان , أحداث الأسنان , سفهاء الأحلام , يقولون من قول خير البرية , لا يجاوز إيمانهم حناجرهم , يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية , فأينما لقيتموهم فاقتلوهم , فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة". وروينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن سليمان هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس , سيماهم التحالق , هم شر الخلق , أو من شر الخلق , تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" وذكر الحديث.

قال أبو محمد رحمه الله: ففي هذا الحديث نص جلي بما قلنا , وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء القوم فذمهم أشد الذم , وأنهم من شر الخلق , وأنهم يخرجون في فرقة من الناس . فصح أن أولئك أيضا : مفترقون , وأن الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتين المفترقتين إلى الحق , فجعل عليه السلام في الافتراق تفاضلا , وجعل إحدى الطائفتين المفترقتين لها دنو من الحق - وإن كانت الأخرى أولى به - ولم يجعل للثالثة شيئا من الدنو إلى الحق . فصح أن التأويل يختلف , فأي طائفة تأولت في بغيتها طمسا لشيء من السنة , كمن قام برأي الخوارج ليخرج الأمر عن قريش , أو ليرد الناس إلى القول بإبطال الرجم , أو تكفير أهل الذنوب , أو استقراض المسلمين , أو قتل الأطفال والنساء , وإظهار القول بإبطال القدر , أو إبطال الرؤية , أو إلى أن الله تعالى لا يعلم شيئا إلا حتى يكون , أو إلى البراءة عن بعض الصحابة , أو إبطال الشفاعة , أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الرد إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى المنع من الزكاة , أو من أداء حق من مسلم , أو حق لله تعالى : فهؤلاء لا يعذرون بالتأويل الفاسد ; لأنها جهالة تامة . وأما من دعا إلى تأويل لا يحل به سنة , لكن مثل تأويل معاوية في أن يقتص من قتلة عثمان قبل البيعة لعلي : فهذا يعذر ; لأنه ليس فيه إحالة شيء من الدين , وإنما هو خطأ خاص في قصة بعينها لا تتعدى . ومن قام لعرض دنيا فقط , كما فعل يزيد بن معاوية , ومروان بن الحكم , وعبد الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير , وكما فعل مروان بن محمد في القيام على يزيد بن الوليد , وكمن قام أيضا عن مروان , فهؤلاء لا يعذرون , لأنهم لا تأويل لهم أصلا , وهو بغي مجرد . وأما من دعا إلى أمر بمعروف , أو نهي عن منكر , وإظهار القرآن , والسنن , والحكم بالعدل : فليس باغيا , بل الباغي من خالفه - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا إذا أريد بظلم فمنع من نفسه - سواء أراده الإمام أو غيره - وهذا مكان اختلف الناس فيه : فقالت طائفة : إن السلطان في هذا بخلاف غيره , ولا يحارب السلطان وإن أراد ظلما . كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني أن رجالا سألوا ابن سيرين فقالوا : أتينا الحرورية زمان كذا وكذا , لا يسألون عن شيء غير أنهم يقتلون من لقوا ؟ فقال ابن سيرين : ما علمت أن أحدا كان يتحرج من قتل هؤلاء تأثما , ولا من قتل من أراد قتالك إلا السلطان , فإن للسلطان نحوا . وخالفهم آخرون فقالوا : السلطان وغيره سواء , كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة قال: أرسل معاوية بن أبي سفيان إلى عامل له أن يأخذ

الوهط فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو بن العاص فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته , وقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من قتل دون ماله - مظلوما - فهو شهيد". ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو بن دينار , قال: إن عبد الله بن عمرو بن العاص تيسر للقتال دون الوهط , ثم قال : مالي لا أقاتل دونه وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "من قتل دون ماله فهو شهيد". قال ابن جريج : وأخبرني سليمان الأحول أن ثابتا مولى عمر بن عبد الرحمن أخبره , قال : لما كان بين عبد الله بن عمرو بن العاص , وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان وتيسروا للقتال ركب خالد بن العاص - هو ابن هشام بن المغيرة المخزومي - إلى عبد الله بن عمرو فوعظه , فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص : أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قتل على ماله فهو شهيد".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا عبد الله بن عمرو بن العاص بقية الصحابة وبحضرة سائرهم - رضي الله عنهم - يريد قتال عنبسة بن أبي سفيان عامل أخيه معاوية أمير المؤمنين إذ أمره بقبض " الوهط " ورأى عبد الله بن عمرو أن أخذه منه غير واجب , وما كان معاوية - رحمه الله - ليأخذ ظلما صراحا , لكن أراد ذلك بوجه تأوله بلا شك , ورأى عبد الله بن عمرو أن ذلك ليس بحق , ولبس السلاح للقتال , ولا مخالف له في ذلك من الصحابة - رضي الله عنهم وهكذا جاء عن أبي حنيفة , والشافعي , وأبي سليمان , وأصحابهم : أن الخارجة على الإمام إذا خرجت سئلوا عن خروجهم ؟ فإن ذكروا مظلمة ظلموها أنصفوا , وإلا دعوا إلى الفيئة , فإن فاءوا فلا شيء عليهم , وإن أبوا قوتلوا , ولا نرى هذا إلا قول مالك أيضا . فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن نرد ما اختلفوا فيه إلى ما افترض الله تعالى علينا الرد إليه , إذ يقول تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}. ففعلنا : فلم نجد الله تعالى فرق في قتال الفئة الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره , بل أمر تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم - عموما - حتى يفيء إلى أمر الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وكذلك قوله عليه السلام: "من قتل دون ماله فهو شهيد" أيضا - عموم - لم يخص معه سلطانا من غيره , ولا فرق في قرآن , ولا حديث , ولا إجماع ولا قياس : بين من أريد ماله , أو أريد دمه , أو أريد فرج امرأته , أو أريد ذلك من جميع المسلمين . وفي الإطلاق على هذا هلاك الدين وأهله , وهذا لا يحل بلا خلاف - وبالله تعالى التوفيق.

قال أبو محمد رحمه الله: ومن أسر من أهل البغي , فإن الناس قد اختلفوا فيه : أيقتل أم لا ؟ فقال بعض أصحاب أبي حنيفة : ما دام القتال قائما فإنه يقتل أسراهم , فإذا انجلت الحرب فلا يقتل منهم أسير.
قال أبو محمد رحمه الله: واحتج هؤلاء بأن عليا - رضي الله عنه - قتل ابن يثربي - وقد أتي به أسيرا وقال الشافعي : لا يحل أن يقتل منهم أسير أصلا ما دامت الحرب قائمة , ولا بعد تمام الحرب - وبهذا نقول . برهان ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان , أو زنى بعد إحصان , أو نفس بنفس". وأباح الله تعالى دم المحارب , وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دم من حد في الخمر ثم شربها في الرابعة . فكل من ورد نص بإباحة دمه : مباح الدم , وكل من لم يبح الله تعالى دمه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم حرام الدم بقول الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} , وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وأما احتجاجهم بفعل علي - رضي الله عنه - فلا حجة لهم فيه لوجوه : أحدها - أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم . والثاني - أنه لا يصح مسندا إلى علي رضي الله عنه . والثالث - أنه لو صح لكان حجة عليهم لا لهم ; لأن ذلك الخبر إنما هو في ابن يثربي ارتجز يوم ذلك , فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ... قاتل عليا وهند الجمل
ثم ابن صوحان على دين علي
فأسر , فأتي به علي بن أبي طالب , فقال له : استبقني ؟ فقال له علي : أبعد إقرارك بقتل ثلاثة من المسلمين : عليا , وهندا , وابن صوحان - وأمر بضرب عنقه - فإنما قتله علي قودا بنص كلامه - وهم لا يرون القود في مثل هذا ؟ فعاد احتجاجهم به حجة عليهم , ولاح أنهم مخالفون لقول علي في ذلك ولفعله والرابع - أنه قد صح عن علي النهي عن قتل الأسراء في الجمل وصفين - على ما نذكر إن شاء الله تعالى - فبطل تعلقهم بفعل علي في ذلك , وما نعلمهم شغبوا بشيء غير هذا . فإن قالوا : قد كان قتله - بلا خلاف - مباحا قبل الإسار , فهو على ذلك بعد الإسار حتى يمنع منه نص , أو إجماع ؟ قلنا لهم : هذا باطل , وما حل قتله قط قبل الإسار مطلقا , لكن حل قتله ما دام باغيا مدافعا , فإذا لم يكن باغيا مدافعا : حرم قتله - وهو إذا أسر فليس حينئذ باغيا , ولا مدافعا : فدمه حرام . وكذلك لو ترك القتال وقعد مكانه ولم يدافع لحرم دمه - وإن لم يؤسر - وبالله تعالى التوفيق. وإنما قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ولم يقل : قاتلوا التي تبقى , والقتال والمقاتلة فعل من فاعلين , فإنما حل قتال الباغي , ومقاتلته , ولم يحل قتله قط في غير المقاتلة , والقتال , فهذا نص القرآن - وبالله تعالى التوفيق . فإن قالوا

نقيسه على المحارب ؟ قلنا : المحارب المقدور عليه يقتل إن رأى الإمام ذلك قبل تمام الحرب وبعدها بلا خلاف في أن حكمه في كلا الأمرين سواء - وأيضا فليس يختلف أحد في أن حكم الباغي غير حكم المحارب , وبالتفريق بين حكمهما جاء القرآن .
قال أبو محمد رحمه الله: واختلفوا أيضا في الإجهاز على جرحاهم , والقول فيهم كالقول في الأسراء سواء , لأن الجريح إذا قدر عليه فهو أسير , وأما ما لم يقدر عليه وكان ممتنعا فهو باغ كسائر أصحابه . وقد روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال علي بن أبي طالب : لا يذفف على جريح , ولا يقتل أسير , ولا يتبع مدبر - وكان لا يأخذ مالا لمقتول , يقول : من اعترف شيئا فليأخذه . ومن طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن جويبر قال : أخبرتني امرأة من بني أسد قالت : سمعت عمارا بعد ما فرغ علي من أصحاب الجمل ينادي : لا تقتلن مدبرا ولا مقبلا , ولا تذففوا على جريح , ولا تدخلوا دارا , ومن ألقى السلاح فهو آمن , كالمأسور , قد قدرنا أن نصلح بينه وبين المبغي عليه بالعدل , وهو أن نمنعه من البغي , بأن نمسكه ولا ندعه يقاتل . وكذلك الجريح إذا قدرنا عليه , ونص هذه الآية يقتضي تحريم دم الأسير , ومن قدر عليه ; لأن فيها إيجاب الإصلاح بينهما - نعني الباغي والمبغي عليه - ولا يجوز أن يصلح بين حي وميت , وإنما يصلح بين حيين - فصح تحريم دم الأسير , ومن قدر عليه من أهل البغي بيقين . واختلفوا هل يجوز اتباع مدبرهم ؟ فقالت طائفة : لا يتبع المدبر منهم أصلا . وقال آخرون : إن كانوا تاركين للقتال جملة , منصرفين إلى بيوتهم , فلا يحل اتباعهم أصلا , وإن كانوا منحازين إلى فئة أو لائذين بمعقل يمتنعون فيه , أو زائلين عن الغالبين لهم من أهل العدل إلى مكان يأمنونهم فيه لمجيء الليل , أو ببعد الشقة ثم يعودون إلى حالهم : فيتبعون.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول ; لأنه نص القرآن ; لأن الله تعالى افترض علينا قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى , فإذا فاءوا حرم علينا قتلهم وقتالهم , فهم إذا أدبروا تاركين لبغيهم , راجعين إلى منازلهم , أو متفرقين عما هم عليه , فبتركهم البغي صاروا فائين إلى أمر الله , فإذا فاءوا إلى أمر الله فقد حرم قتلهم , وإذا حرم قتلهم فلا وجه لاتباعهم , ولا شيء لنا عندهم حينئذ . وأما إذا كان إدبارهم ليتخلصوا من غلبة أهل الحق - وهم باقون على بغيهم - فقتالهم باق علينا بعد ; لأنهم لم يفيئوا بعد إلى أمر الله تعالى . فإن احتج محتج بما ناه عبد الله بن أحمد الطلمنكي نا أحمد بن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت الرقي نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا محمد بن معمر نا عبد الملك بن عبد العزيز

انا كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة ؟ قال : الله ورسوله أعلم , قال : لا يجهز على جريحها , ولا يقتل أسيرها , ولا يطلب هاربها , ولا يقسم فيئها" فإن كوثر بن حكيم ساقط ألبتة متروك الحديث - ولو صح لكان حجة لنا ; لأن الهارب : هو التارك لما هو فيه , فأما المتخلص ; ليعود فليس هاربا - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: واختلفوا أيضا في قتال أهل البغي ؟ فقال بعض أصحاب الحديث : تقسم أموالهم وتخمس - وبه قال الحسن بن حي : أموال اللصوص المحاربين مغنومة مخمسة , ما كان منها في عسكرهم . وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة : ما وجد في أيدي أهل البغي من السلاح والكراع فإنه فيء يقسم ويخمس - ولم ير ذلك في غير السلاح والكراع . وقال أبو حنيفة وسائر أصحابه : أما ما دامت الحرب قائمة فإنه يستعان في قتالهم بما أخذ من سلاحهم وكراعهم خاصة ; فإذا تلف من ذلك شيء في حال الحرب فلا ضمان فيه , فإذا وضعت الحرب أوزارها لم يؤخذ شيء من أموالهم لا سلاح , ولا كراع , ولا غير ذلك - يرد عليهم ما بقي مما قاتلوا به في الحرب من سلاحهم وكراعهم وقال مالك , والشافعي , وأصحابنا : لا يحل لنا شيء من أموالهم : لا سلاح , ولا كراع , ولا غير ذلك - لا في حال الحرب ولا بعدها ؟ قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه , بعون الله تعالى . فنظرنا فيما احتج به أبو حنيفة , وأصحابه , بأن يستعمل سلاحهم , وكراعهم ما دامت الحرب قائمة - فلم نجد لهم في ذلك حجة أصلا , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا من قول صاحب , ولا إجماع - وما كان هكذا فهو باطل بلا شك , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" والسلاح والكراع مال من مالهم فهو محرم على غيرهم , لكن الواجب أن يحال بينهم وبين كل ما يستعينون به على باطلهم ; لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . فصح بهذا يقينا أن تخليتهم يستعملون السلاح في دماء أهل العدل والكراع في قتالهم تعاون على الإثم والعدوان فهو محرم بنص القرآن . وصح أن الحيلولة بينهم وبين السلاح والكراع في حال البغي : تعاون على البر والتقوى , وأما استعماله فلا يحل ; لما ذكرنا , إلا أن يضطر إليه فيجوز حينئذ , ومن اضطر إلى الدفاع عن نفسه بحق ففرض عليه أن يدفع الظلم عن نفسه , وعن غيره , بما أمكنه من سلاح نفسه أو سلاح غيره , فإن لم يفعل فهو ملق

بيده إلى التهلكة , وهذا حرام عليه - فسقط قول أبي حنيفة وأصحابه . ثم نظرنا في قول أبي يوسف فلم نجد لهم شبهة إلا خبرا رواه فطر بن خليفة عن محمد بن الحنفية : أن عليا قسم يوم الجمل فيهم بين أصحابه ما قوتل به من الكراع والسلاح - وهذا خبر فاسد , لأن فطرا ضعيف . وذكروا أيضا ما كتب به إلى يوسف بن عبد البر النمري قال : نا أحمد بن محمد بن الجسور نا محمد بن عيسى بن رفاعة الخولاني نا بكر بن سهل نا نعيم بن حماد نا محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن أبي البختري , والشعبي , وأصحاب علي " عن علي أنه لما ظهر على أصحاب الجمل بالبصرة يوم الجمل جعل لهم ما في عسكر القوم من السلاح , فقالوا : كيف تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم ولا نساؤهم ؟ قال : هاتوا سهامكم فأقرعوا على عائشة , فقالوا : نستغفر الله , فخصمهم علي رضي الله عنه وعرفهم أنها إذا لم تحل لم يحل بنوها " وهذا أيضا أثره ضعيف , ومداره على نعيم بن حماد وهو الذي روى بإسناد أحسن من هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أشدها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال" فإن أجازوه هنا فليجيزوه هنالك . ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة ; لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وكم قولة لعلي رضي الله عنه قد خالفوها بآرائهم . ثم نظرنا فيما ذهب إليه الحسن بن حي فلم نجد لهم علقة إلا من طريق عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أصحابه عن حكيم بن جبير عن عصمة الأسدي قال : بهش الناس إلى علي فقالوا : اقسم بيننا نساءهم وذراريهم , فقال علي : عنتني الرجال فعنيتها وهذه ذرية قوم مسلمين في دارهم , لا سبيل لكم عليهم ما أوت الدار من مال فهو لهم , وما أجلبوا به عليكم في عسكرهم فهو لكم مغنم .
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا خبر في غاية الفساد ; لأن ابن عيينة - رحمه الله - رواه عن أصحابه الذين لا يدرى من هم , ثم عن حكيم بن جبير - وهو هالك كذاب فلم يبق إلا من قال : إن جميع أموالهم مخمسة مغنومة , وقول من قال : لا يحل منها شيء فنظرنا في تلك . فوجدناهم يحتجون بما نا به حمام بن أحمد قال نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن زهير بن حرب نا عفان بن مسلم نا محمد بن ميمون نا محمد بن سيرين عن أخيه معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فوقه سيماهم التحليق والتسبيد". ومن طريق مسلم ني محمد بن المثنى نا محمد بن أبي عدي عن

سليمان - هو الأعمش - عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس سيماهم التحالق وهم شر الخلق أو من شر الخلق تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" , وذكر باقي الخبر . قالوا : وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} . قالوا : فمن الباطل المتيقن أن يكونوا مسلمين ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم شر الخلق , أو من شر الخلق , فالخلق والبرية سواء , قالوا : فإذ هم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شر الخلق , وقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه أبدا , فهم بيقين من المشركين , الذين قال الله تعالى : إنهم {شر البرية} لا من الذين آمنوا الذين شهد الله تعالى لهم أنهم من {خير البرية} فأموالهم مغنومة مخمسة كأموال الكفار.
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا قول صحيح , واحتجاج صادق , إلا أنه مجمل غير مرتب والصحيح من هذا هو جمع الآيات والأحاديث , فمن خرج بتأويل هو فيه مخطئ , لم يخالف فيه الإجماع , ولا قصد فيه خلاف القرآن وحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يتعمد خلافهما , أو يعند عنهما بعد قيام الحجة عليه , أو خرج طالبا غلبة في دنيا , ولم يخف طريقا , ولا سفك الدم جزافا , ولا أخذ المال ظلما , فهذا هو الباغي الذي يصلح بينه وبين من بغى عليه , على ما في آية البغاة وعلى ما قال عليه السلام من خروج المارقة بين الطائفتين من أمته , إحداهما باغية , وهي التي تقتل عمارا , والأخرى أولى بالحق , وحمد عليه السلام من أصلح بينهما . كما روينا من طريق البخاري نا صدقة نا ابن عيينة نا أبو موسى عن الحسن سمع أبا بكرة قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر , والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة , وإليه مرة , ويقول : ابني هذا سيد , ولعل الله يصلح به بين فئتين من المسلمين" فإن زاد الأمر حتى يخيفوا السبيل , ويأخذوا مال المسلمين غلبة , بلا تأويل , أو يسفكوا دما كذلك , فهؤلاء محاربون لهم حكم المحاربة , فإن زاد الأمر حتى يخرقوا الإجماع فهم مرتدون : تغنم أموالهم كلها حينئذ وتخمس وتقسم - وبالله تعالى التوفيق . ولا يحل مال المحارب , ولا مال الباغي ولا شيء منه ; لأنهما وإن ظلما فهما مسلمان - ولا يحل شيء من مال المسلم , إلا بحق , وقد يحل دمه , ولا يحل ماله , كالزاني المحصن , والقاتل عمدا - وقد يحل ماله ولا يحل دمه , كالغاصب ونحو ذلك , وإنما يتبع النص , فما أحل الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام من دم أو مال حل , وما

حرما من دم أو مال فهو حرام , والأصل في ذلك التحريم حتى يأتي إحلال , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام" وبالله تعالى التوفيق .

ما أصابه الباغي من دم أو مال
2155- مسألة : ما أصابه الباغي من دم أو مال:
اختلف الناس فيما أصابوه في حال القتال من دم أو مال أو فرج , فقال أبو حنيفة , ومالك , والشافعي , وبعض أصحابنا : لا يؤاخذون بشيء من ذلك , ولا قود في الدماء ولا دية , ولا ضمان فيما أتلفوه من الأموال , إلا أن يوجد بأيديهم شيء قائم مما أخذوه فيرد إلى أصحابه . وقال الأوزاعي : إن كانت الفئتان إحداهما باغية والأخرى عادلة في سواد العامة , فإمام الجماعة المصلح بينهما يأخذ من الباغية على الأخرى ما أصابت منها بالقصاص في القتلى , والجراحة , كما كان أمر تينك الفئتين اللتين نزل فيهما القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الولاة .
قال أبو محمد رحمه الله: وقال بعض أصحابنا : القصاص عليهم , وضمان ما أتلفوا كغيرهم , فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بمن الله تعالى وطوله - فوجدنا من قال : لا يؤاخذون بشيء , يحتجون من طريق عبد الرزاق عن معمر أخبرني الزهري : أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها , وشهدت على قومها بالشرك , ولحقت بالحرورية , فتزوجت فيهم : ثم إنها رجعت إلى قومها ثانية ؟ فكتب إليه : أما بعد فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير , فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن , إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد إلى صاحبه وإني أرى أن ترد إلى زوجها , وأن يحد من افترى عليها . ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة : حدثنا عيسى بن يونس عن معمر عن الزهري قال : هاجت ريح الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون , فاجتمع رأيهم على أنه لا يقاد ولا يودى ما أصيب على تأويل القرآن إلا ما يوجد بعينه . وعن سعيد بن المسيب أنه قال : إذا التقت الفئتان فما كان بينهما من دم أو جراحة فهو هدر , ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية , حتى فرغ منها ؟ قال : فكل طائفة ترى الأخرى باغية . قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا , وهذا ليس بشيء لوجهين . أحدهما - أنه منقطع لأن الزهري رحمه الله لم يدرك تلك الفتنة ولا ولد إلا بعدها ببضع عشرة سنة والثاني - أنه لو صح - كما قال - لما كان هذا إلا رأيا من بعض الصحابة لا نصا ولا إجماعا منهم , ولا حجة في رأي بعضهم دون بعض , وإنما افترض الله تعالى علينا أهل الإسلام اتباع القرآن , وما صح عن النبي عليه السلام , أو ما أجمعت عليه الأمة , ولم

يأمر الله تعالى قط باتباع ما أجمع عليه بعض أولي الأمر منا , وإذا وقعت تلك الفتنة فبلا شك أن الماضين بالموت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا أكثر من الباقين , ولقد كان أصحاب بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا , وعدوا , إذ مات عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فما وجد منهم في الحياة إلا نحو مائة واحدة فقط , فبطل التعلق بما رواه الزهري لو صح , فكيف وهو لا يصح أصلا ؟ ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال أخبرني غير واحد من عبد القيس عن حميد بن هلال عن أبيه , قال : لقد أتيت الخوارج وإنهم لأحب قوم على وجه الأرض إلي فلم أزل فيهم حتى اختلفوا , فقيل لعلي بن أبي طالب قاتلهم , فقال : لا , حتى يقتلوا , فمر بهم رجل استنكروا هيئته , فثاروا إليه , فإذا هو عبد الله بن خباب , فقالوا : حدثنا ما سمعت أباك يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : سمعته يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم , والقائم خير من الماشي , والماشي خير من الساعي والساعي في النار" قال : فأخذوه وأم ولده فذبحوهما جميعا على شط النهر فلقد رأيت دماهما في النهر كأنهما شريكان فأخبر بذلك علي بن أبي طالب فقال : أقيدوني من ابن خباب ؟ قالوا : كلنا قتلناه فحينئذ استحل قتالهم , فقتلهم .
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا أثر أصح من أثر الزهري , أو مثله , بأن علي بن أبي طالب رأى القود على الخوارج فيمن قتلوه بتأويل القرآن , بخلاف ما ذكر الزهري من إجماعهم . فصح الخلاف في ذلك من الصحابة رضي الله عنهم , وبلا شك ندري أن القائلين من الصحابة رضي الله عنهم لأبي بكر الصديق أن لا يقاتل أهل الردة أكثر عددا وأتم فضلا , من الذين ذكر الزهري عنه أنه إجماع لا يصح على أن لا يؤخذ أحد بدم أصابه على تأويل القرآن . لا بقود ولا بدية , وأن لا يضمن أحد مالا أصابه على تأويل القرآن , ولم يكن قولهم ذلك حجة يسوغ الأخذ بمثل ما قالوا , وإنما رجع الأمر فيما ذكر الزهري إجماعا إلى حكم الوالي , ولم يكن إلا عليا , والأشهر عنه إيجاب القود كما ذكرنا , أو معاوية , وإنما كان الحق في ذلك بيد علي لا بيده , وإنما كان معاوية مجتهدا مخطئا مأجورا فقط - وبالله تعالى التوفيق . وأما احتجاج ابن المسيب " بأن كل طائفة ترى الأخرى باغية " فليس بشيء ; لأن الله تعالى لم يكلنا إلى رأي الطائفتين , لكن أمر من صح عنده بغي إحداهما بقتال الباغية , ولو كان ما قاله سعيد رضي الله عنه - لما كانت إحداهما أولى بالمقاتلة من الأخرى , ولبطلت الآية وهذا لا يجوز .

قال أبو محمد رحمه الله: والقول عندنا أن البغاة كما قدمنا في صدر كلامنا ثلاث أصناف : صنف تأولوا تأويلا يخفى وجهه على كثير من أهل العلم , كمن تعلق بآية خصتها أخرى , أو بحديث قد خصه آخر , أو نسخها نص آخر , فهؤلاء كما قلنا معذورون , حكمهم حكم الحاكم المجتهد يخطئ فيقتل مجتهدا , أو يتلف مالا مجتهدا , أو يقضي في فرج خطأ مجتهدا , ولم تقم عليه الحجة في ذلك , ففي الدم دية على بيت المال , لا على الباغي , ولا على عاقلته ويضمن المال كل من أتلفه , ونسخ كل ما حكموا به , ولا حد عليه في وطء فرج جهل تحريمه ما لم يعلم بالتحريم - وهكذا أيضا من تأول تأويلا خرق به الإجماع بجهالة ولم تقم عليه الحجة ولا بلغته . وأما من تأول تأويلا فاسدا لا يعذر فيه , لكن خرق الإجماع - أي شيء كان - ولم يتعلق بقرآن ولا سنة , ولا قامت عليه الحجة وفهمها , وتأول تأويلا يسوغ , وقامت عليه الحجة وعند , فعلى من قتل هكذا القود في النفس فما دونها , والحد فيما أصاب بوطء حرام , وضمان ما استهلك من مال . وهكذا من قام في طلب دنيا مجردا بلا تأويل , ولا يعذر هذا أصلا ; لأنه عامد لما يدري أنه حرام - وبالله تعالى التوفيق . وهكذا من قام عصبية ولا فرق - وقد تكون الفئتان باغيتين إذا قامتا معا في باطل , فإذا كان هكذا فالقود أيضا على القاتل , من أي الطائفتين كان - وهكذا القول في المحاربين يقتل بعضهم بعضا . قال أبو محمد رحمه الله: ونذكر البرهان في كل هذا فصلا فصلا : أما قولنا : من لم تقم عليه الحجة فلا قود عليه ولا حد , فلقول الله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فلا حجة إلا على من بلغته الحجة , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وجعفر بن أبي طالب ومن معه من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم بأرض الحبشة , بينهم المهامه الفيح , والبلاد البعيدة , ولجة البحر - والفرائض تنزل بالمدينة ولا تبلغهم إلا بعد عام أو أعوام كثيرة , وما لزمتهم ملامة عند الله تعالى , ولا عند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عند أحد من الأمة . فصح يقينا : أن من جهل حكم شيء من الشريعة فهو غير مؤاخذ به إلا في ضمان ما أتلف من مال فقط ; لأنه استهلكه بغير حق , فعليه متى علم أن يرده إلى صاحبه إن أمكن , وأن لا يصر على ما فعل وهو يعلم - . وأما وجوب الدية في ذلك على بيت المال خاصة فلما ذكرناه في " كتاب الدماء والقصاص " ولما رويناه من طريق أبي داود ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان ثنا ابن أبي ذئب ني سعيد - هو ابن أبي سعيد المقبري - قال سمعت أبا شريح الكعبي يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن

يقتلوا" وإنما قتلوه متأولين يوم الفتح . وأما من قامت عليه الحجة وبلغه حكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه ولم يكن عنده إلا العناد والتعلق : إما بتقليد مجرد , أو برأي مفرد أو بقياس , فليس معذورا أو عليه القود أو الدية , وضمان ما أتلف , والحد في الفرج ; لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وهؤلاء معتدون بلا شك فعليهم مثل ما اعتدوا به - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما من قتلوه فقد قال قوم : إنه شهيد فلا يغسل ولا يصلى عليه , لكن يدفن كما هو وقال آخرون : بل يغسل ويكفن ويصلى عليه - وبهذا نأخذ ; لأنهم , وإن كانوا شهداء - كما روينا من طريق أحمد بن شعيب نا عمرو بن علي نا عبد الرحمن بن مهدي نا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد". ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن رافع , ومحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قالا : نا سليمان - هو ابن داود الهاشمي نا إبراهيم - هو ابن سعد - عن أبيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن طلحة بن عبيد الله بن عوف عن سعيد بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد". ومن طريق أحمد بن شعيب يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن قتل دون مظلمته فهو شهيد"
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن من قتله من البغاة فإنما قتل على أحد هذه الوجوه , فهو في ظاهر الأمر شهيد , وليس كل شهيد يدفن دون غسل ولا صلاة . وقد صح : أن المبطون شهيد , والمطعون شهيد , والغريق شهيد , وصاحب ذات الجنب شهيد , والمرأة تموت بجمع شهيد , وصاحب الهدم شهيد - وكل هؤلاء لا خلاف في أنهم يغسلون ويكفنون ويصلى عليهم . والأصل في كل مسلم أن يغسل ويكفن ويصلى عليه , إلا من خصه نص أو إجماع , ولا نص , ولا إجماع , إلا فيمن قتله الكفار في المعترك ومات في مصرعه - فهؤلاء هم الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزملوا بدمائهم في ثيابهم ويدفنوا كما هم دون غسل ولا تكفين - ولا يجب فرضا عليهم صلاة , فبقي سائر الشهداء , والموتى , على حكم الإسلام في الغسل , والتكفين والصلاة - وبالله تعالى التوفيق .

هل للعادل أن يعمد قتل أبيه الباغي أم لا
2156 - مسألة : هل للعادل أن يعمد قتل أبيه الباغي أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: قال قائلون : لا يحل لمن كان من أهل العدل قتل أبيه , أو

أخيه , أو ذي رحم من أهل البغي عمدا , لكن إن ضربه ليصير بذلك غير ممتنع من أخذ الحق منه , فلا حرج عليه في ذلك . قال أبو محمد رحمه الله: ولسنا نقول بهذا , فإن بر الوالدين وصلة الرحم إنما أمر الله تعالى بهما ما لم يكن في ذلك معصية لله تعالى وإلا فلا , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا طاعة لأحد في معصية الله تعالى" وقد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية ولم يخص بذلك ابنا من أجنبي , وأمر بإقامة الحدود كذلك قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية . {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى قوله تعالى {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية . وقتال أهل البغي قتال في الدين , إلا أننا لا نختار أن يعمد المرء إلى أبيه - خاصة - أو جده , ما دام يجد غيرهما , فإن لم يفعل فلا حرج . وهكذا القول في إقامة الحد عليهما , وعلى الأم والجدة في القتل , والقطع والقصاص , والجلد , ولا فرق . فأما إذا رأى العادل أباه الباغي , أو جده , يقصد إلى مسلم يريد قتله , أو ظلمه , ففرض على الابن حينئذ أن لا يشتغل بغيره عنه , وفرض عليه دفعه عن المسلم - بأي وجه أمكنه - وإن كان في ذلك قتل الأب , والجد , والأم . برهان ذلك : ما روينا من طريق البخاري نا سعيد بن الربيع نا شعبة عن الأشعث بن سليم قال : سمعت معاوية بن سويد بن مقرن يقول : سمعت البراء بن عازب قال : "أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع - فذكر - عيادة المرض , واتباع الجنائز , وتشميت العاطس , ورد السلام , ونصر المظلوم , وإجابة الداعي , وإبرار المقسم" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما , قيل : يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ؟ قال : تمنعه , تأخذ فوق يده" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسلم المرء أخاه المسلم لظلم ظالم , وأن يأخذ فوق يد كل ظالم , وأن ينصر كل مظلوم , فإذا رأى المسلم أباه الباغي , أو ذا رحمه - كذلك - يريد ظلم مسلم , أو ذمي , ففرض عليه منعه من ذلك , بكل ما لا يقدر على منعه إلا به من قتال أو قتل , فما دون ذلك على عموم هذه الأحاديث وإنما افترض الله تعالى الإحسان إلى الأبوين , وأن لا ينهرا , وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة , فيما ليس فيه معصية الله تعالى فقط . وهكذا نقول : أنه لا يحل لمسلم له أب كافر أو أم كافرة , أن يهديهما إلى طريق الكنيسة , ولا أن يحملهما إليها , ولا أن يأخذ لهما قربانا , ولا أن يسعى لهما في خمر لشريعتهما الفاسدة , ولا أن يعينهما على شيء من معاصي الله تعالى من زنى , أو سرقة , أو غير ذلك , وأن لا يدعه يفعل شيئا من ذلك - وهو قادر على منعه , قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا

عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهذه وصية جامعة لكل خير في العالم .
قال أبو محمد رحمه الله: وأما الفئتان الباغيتان معا فلا يحل للمسلمين إلا منعهما وقتالهم جميعا ; لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى , فمن عجز عن ذلك وسعته التقية وأن يلزم منزله , ومسجده , ومعاشه , ولا مزيد , وكلاهما لا يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . برهان ذلك : ما روينا من طريق مسلم ني عمرو الناقد نا سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه , وحتى إن كان أخاه لأبيه وأمه" ومن طريق مسلم نا محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما نا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أحاديث : منها : وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار". ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمود بن غيلان نا أبو داود الطيالسي عن شعبة أخبرني منصور - هو ابن المعتمر - قال : سمعت ربعيا - هو ابن حراش - يحدث عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أشار المسلم على أخيه بالسلاح فهما على حرف جهنم فإذا قتله خرا فيها جميعا". فهذه صفة الطائفتين إذا كانتا باغيتين , ولا يمكن أن تكونا معا عادلتين ونسأل الله تعالى العافية . وإنما قلنا : أن يقاد للباغي إذا قوتل ليفيء إلى أمر الله فقط , ولم نحله بغير هذا الوجه , فمن قتل باغيا ليفيء إلى أمر الله تعالى فقد قتله كما أمره الله تعالى - وكذلك لو قطع له عضوا في الحرب , أو عقر تحته فرسا , أو أفسد له لباسا في المضاربة , فلا ضمان في شيء من ذلك ; لأنه فعل كل ذلك كما أمره الله تعالى , ومن فعل كما أمره الله تعالى فقد أحسن , ومن أحسن فلا شيء عليه , لقوله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}.

احكام أهل البغى
2157 - مسألة : أحكام أهل البغي:
اختلف الناس في أحكام أهل البغي فقال أبو حنيفة , وأصحابه - حاشا الطحاوي - أنه ما حكم به قاضي أهل البغي فلا يجوز لقاضي أهل العدل أن يجيز ذلك , ولا أن يقبل كتابه قالوا : وما أخذوه من صدقة فلا يأخذها الإمام ثانية , لكن الأفضل لمن أخذوها منه أن يؤديها مرة أخرى . قالوا : وأما من مر عليهم من التجار فعشروه فإن الإمام يأخذه ثانية من التجار . وقال الشافعي : ينفذ كل قضية قضوها إذا وافقت الحق , ويجزي ما أخذوه من الزكاة , وما أقاموا من الحدود - وهو قول مالك . وقال أبو سليمان - وأصحابنا لا ينفذ شيء من قضاياهم , ولا بد من إعادتها ولا يجزئ ما أخذوه من الصدقات , ولا ما أقاموا من الحدود , ولا بد من أخذ الصدقات , ومن

إقامة الحدود ثانية .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا وجب أن ننظر في ذلك لنعلم الحق فنتبعه بعون الله تعالى . فنظرنا في قول أبي حنيفة , فوجدناهم يحتجون بأن قالوا : إن أخذ الصدقات إنما جاء التضييع من قبل الإمام فقد يجب عليه دفعهم , وأما من مر عليهم فقد عرض ماله للتلف.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا وهذا لا شيء ; لأنه لم يأت نص ولا إجماع بأن تضييع الإمام يسقط الحقوق الواجبات لله تعالى وأيضا - فكما أخذوا العشر ثانية ممن جعلوا ذنبه أنه عرض ماله للتلف فكذلك يلزمهم أن يأخذوا الزكاة ثانية , ويجعلوا ذنب أهلها أنهم عرضوا أموالهم للتلف , فقد كان يمكنهم الهرب عن موضع البغاة , أو يعذروا المعشرين . ثم نظرنا فيما احتج به مالك , والشافعي , فوجدناهم يقولون : إنهم إذا حكموا بالحق كما أمر الله تعالى ; وإذا أخذوا الزكاة كما أمر الله تعالى , وأقاموا الحدود كما أمر الله تعالى , فقد تأدى كل ذلك كما أمر الله تعالى , وإذا تأدى كما أمر الله تعالى , فلا يجوز أن يقام ذلك على أهله ثانية , فيكون ذلك ظلما . وقال بعضهم : كما لا يؤاخذون بما أصابوا من دم أو مال , فكذلك لا يؤاخذون - هم ولا غيرهم - بما حكموا أو أقاموا من حد , أو أخذوا من مال صدقة , أو غيرها - بحق أو بباطل - ولا فرق . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا كله ليس كما قالوا , وذلك أننا نسألهم , فنقول لهم : ماذا تقولون : إذا كان الإمام حاضرا ممكنا عدلا , أيحل أن يأخذ صدقة دونه , أو يقيم حدا دونه , أو يحكم بين اثنين دونه , أم لا يحل ذلك ؟ ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟ فإن قالوا : هذا كله مباح : خرقوا الإجماع , وتركوا قولهم , وأبطلوا الأمانة التي افترضها الله تعالى , وأوجبوا أن لا حاجة بالناس إلى إمام - وهذا خلاف الإجماع والنص . وإن قالوا : بل لا يحل أخذ شيء من ذلك كله ما دام الإمام قائما فقد صح أن لا يحل أن يكون حاكما إلا من ولاه الإمام الحكم , ولا أن يكون آخذا للحدود إلا من ولاه الإمام ذلك , ولا أن يكون مصدقا إلا من ولاه الإمام أخذها , فإن ذلك كذلك فكل من أقام - حدا , أو أخذ صدقة , أو قضى قضية , وليس ممن جعل الله ذلك له بتقديم الإمام , فلم يحكم كما أمره الله تعالى , ولا أقام الحد كما أمره الله تعالى , ولا أخذ الصدقة كما أمره الله تعالى ; فإذ لم يفعل ذلك كما أمر , فلم يفعل شيئا من ذلك بحق , وإذا لم يفعل ذلك بحق , فإنما فعله بباطل , وإذ فعله بباطل فقد تعدى ; وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" فإذ هو ظلم , فالظلم لا حكم

له إلا رده ونقضه فصح من هذا أن كل من أخذ منهم صدقة فعليه ردها ; لأنه أخذها بغير حق , فهو متعد , فعليه ضمان ما أخذ , إلا أن يوصله إلى الأصناف المذكورة في القرآن فإذا أوصلها إليهم فقد تأدت الزكاة إلى أهلها - وبالله تعالى التوفيق . وصح من هذا أن كل حد أقاموه فهو مظلمة لا يعتد به , وتعاد الحدود ثانية ولا بد , وتؤخذ الدية من مال من قتلوه قودا , وأن يفسخ كل حكم حكموه ولا بد . ويبين ما قلناه نصا : ما روينا من طريق مسلم : نا محمد بن نمير نا عبد الله - هو ابن إدريس - نا ابن عجلان , ويحيى بن سعيد الأنصاري , وعبيد الله بن عمر , كلهم عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده , قال : "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره , وعلى أثرة علينا , وأن لا ننازع الأمر أهله , وعلى أن نقول بالحق أينما كنا , لا نخاف في الله لومة لائم". ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن نافع ثنا غندر ثنا شعبة عن زياد بن علاقة قال : سمعت عرفجة , قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنه سيكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة - وهي جميع - فاضربوه بالسيف , كائنا من كان".
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن لهذا الأمر أهلا لا يحل لأحد أن ينازعهم إياه , وأن تفريق هذه الأمة بعد اجتماعها لا يحل . فصح أن المنازعين في الملك والرياسة مريدون تفريق جماعة هذه الأمة , وأنهم منازعون أهل الأمر أمرهم , فهم عصاة بكل ذلك . فصح أن أهل البغي عصاة في منازعتهم الإمام الواجب الطاعة , وإذ هم فيه عصاة , فكل حكم حكموه مما هو إلى إمام , وكل زكاة قبضوها مما قبضها إلى الإمام , وكل حد أقاموه مما إقامته إلى الإمام - فكل ذلك منهم ظلم وعدوان . ومن الباطل أن تنوب معصية الله تعالى عن طاعته , وأن يجزي الظلم عن العدل , وأن يقوم الباطل مقام الحق , وأن يغني العدوان عن الإنصاف . فصح ما قلنا نصا ووجب رد كل ما عملوا من ذلك لقول النبي عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" فإن لم يكن للناس إمام ممكن فقد قلنا : إن كل من قام بالحق حينئذ فهو نافذ , فالبغاة - إن كانوا مسلمين - فكل ما فعلوه في ذلك فهو نافذ - وأما إن كانوا كفارا فلا ينفذ من حكم الكافر في دين الله تعالى شيء أصلا - وبالله تعالى التوفيق .

هل يستعان على أهل البغى بأهل الحرب أو بأهل الذمة أو بأهل بغى آخرين
2158 - مسألة : هل يستعان على أهل البغي بأهل الحرب ؟ أو بأهل الذمة ؟ أو بأهل بغي آخرين:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا , فقالت طائفة : لا يجوز أن يستعان عليهم بحربي , ولا بذمي , ولا بمن يستحل قتالهم , مدبرين - وهذا قول الشافعي

رضي الله عنه وقال أصحاب أبي حنيفة : لا بأس بأن يستعان عليهم بأهل الحرب , وبأهل الذمة , وبأمثالهم من أهل البغي , وقد ذكرنا هذا في " كتاب الجهاد " من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إننا لا نستعين بمشرك" وهذا عموم مانع من أن يستعان به في ولاية , أو قتال , أو شيء من الأشياء , إلا ما صح الإجماع على جواز الاستعانة به فيه : كخدمة الدابة , أو الاستئجار , أو قضاء الحاجة , ونحو ذلك مما لا يخرجون فيه عن الصغار . والمشرك : اسم يقع على الذمي والحربي .
قال أبو محمد رحمه الله: هذا عندنا - ما دام في أهل العدل منعة - فإن أشرفوا على الهلكة واضطروا ولم تكن لهم حيلة , فلا بأس بأن يلجئوا إلى أهل الحرب , وأن يمتنعوا بأهل الذمة , ما أيقنو أنهم في استنصارهم : لا يؤذون مسلما ولا ذميا - في دم أو مال أو حرمة مما لا يحل . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وهذا عموم لكل من اضطر إليه , إلا ما منع منه نص , أو إجماع . فإن علم المسلم - واحدا كان أو جماعة - أن من استنصر به من أهل الحرب , أو الذمة يؤذون مسلما , أو ذميا فيما لا يحل , فحرام عليه أن يستعين بهما , وإن هلك , لكن يصبر لأمر الله تعالى - وإن تلفت نفسه وأهله وماله - أو يقاتل حتى يموت شهيدا كريما , فالموت لا بد منه , ولا يتعدى أحدا أجله . برهان هذا : أنه لا يحل لأحد أن يدفع ظلما عن نفسه بظلم يوصله إلى غيره - هذا ما لا خلاف فيه . وأما الاستعانة عليهم ببغاة أمثالهم - فقد منع من ذلك قوم - واحتجوا بقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} . وأجازه آخرون - وبه نأخذ ; لأننا لا نتخذهم عضدا , ومعاذ الله , ولكن نضربهم بأمثالهم صيانة لأهل العدل كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} وإن أمكننا أن نضرب بين أهل الحرب من الكفار , حتى يقاتل بعضهم بعضا , ويدخل إليهم من المسلمين من يتوصل بهم إلى أذى غيرهم , بذلك حسن . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم" كما حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني عمران بن بكار بن راشد ثنا أبو اليمان نا شعيب - هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب نا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر". وحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن سهل بن عسكر ثنا عبد الرزاق أنا رياح بن زيد عن معمر بن راشد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم".
قال أبو محمد رحمه الله: فهذا يبيح الاستعانة على أهل الحرب بأمثالهم , وعلى أهل

البغي بأمثالهم من المسلمين الفجار الذين لا خلاق لهم . وأيضا - فإن الفاسق مفترض عليه من الجهاد , ومن دفع أهل البغي , كالذي افترض على المؤمن الفاضل , فلا يحل منعهم من ذلك , بل الفرض أن يدعو إلى ذلك - وبالله تعالى التوفيق .

لو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل ثم قال: حسبته من أهل البغى
2159 - مسألة: ولو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل , ثم قال : حسبته من أهل البغي
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن رجلا من أهل العدل قتل في الحرب رجلا من أهل العدل , ثم قال : حسبته من أهل البغي , فإن كان ما يقول ممكنا , فالقول قوله مع يمينه , ثم يضمن ديته في ماله ; لأنه لم يقتله خطأ بل قتله عمدا قصدا إلى قتله إلا أنه لم يعلم أنه حرام الدم , فلذلك لم يقد منه - وإن لم يمكن ما قال فعليه القود , أو الدية باختيار أولياء المقتول وهكذا القول - سواء سواء , إذا قتله في أرض الحرب , ولا فرق . وكذلك لو رجع إلينا بعض أهل البغي تائبا فقتله رجل من أهل العدل وقال : إني ظننته دخل ليطلب غرة , فإن نكل هؤلاء عن اليمين حبسوا حتى يحلفوا ولا بد ; لأن اليمين قد وجبت عليهم , ولا قود أصلا ; لأنه لم يثبت عليهم ما يوجب القود من التعمد وهم عالمون . وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا كانت جماعة من أهل العدل والسنة في عسكر الخوارج وأهل البغي , فقتل بعضهم بعضا عمدا , وجرح بعضهم بعضا عمدا , وأخذ بعضهم مال بعض عمدا , فلا شيء في ذلك : لا قود , ولا دية - غلب أهل الجماعة والإمام العدل عليهم بعد ذلك : أو لم يغلبوا ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ما لهذا القول جواب إلا أنه حكم إبليس , والله ما ندري كيف انشرحت نفس مسلم لاعتقاد هذا القول المعاند لله تعالى , ولرسوله عليه السلام , أو كيف انطلق لسان مؤمن يدري أن الله تعالى أمره ونهاه بهذا القول السخيف - ونسأل الله تعالى عافية شاملة - كأن أصحاب هذا القول لم يسمعوا ما أنزل الله تعالى من وجوب القصاص في النفوس , والجراح , ومن تحريم الأموال , في القرآن , وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم . وهذا قول ما نعلم فيه لأبي حنيفة سلفا : لا من صاحب ولا من تابع , ونبرأ إلى الله تعالى من هذا القول , فإنما موهوا بما روي من حديث عبيد الله بن عمر : كما ثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري , وذكر قتل عمر , قال : فأخبرني سعيد بن المسيب أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ولم نجرب عليه كذبة قط , قال : حين قتل عمر بن الخطاب انتهيت إلى الهرمزان , وجفينة , وأبي لؤلؤة - وهم بحي - فتبعتهم فثاروا وسقط من بينهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه . وقال عبد الرحمن فانظروا بما قتل به عمر فوجدوه خنجرا على النعت الذي نعت عبد الرحمن , فخرج عبيد الله بن عمر بن الخطاب مشتملا على السيف حتى أتى الهرمزان فقال : اصحبني

ننظر إلى فرس لي - وكان الهرمزان بصيرا بالخيل - فخرج بين يديه , فعلاه عبيد الله بالسيف , فلما وجد حد السيف قال : لا إله إلا الله , فقتله . ثم أتى جفينة - وكان نصرانيا - فلما أشرف له علاه بالسيف فضربه فصلب ما بين عينيه - ثم أتى ابنة أبي لؤلؤة - جارية صغيرة تدعي الإسلام - فقتلها , فأظلمت الأرض يومئذ على أهلها . - ثم أقبل بالسيف صلتا في يده وهو يقول : والله لا أترك في المدينة سبيا إلا قتلته وغيرهم ؟ كأنه يعرض بناس من المهاجرين , فجعلوا يقولون له : ألق السيف , فأبى - ويهابونه أن يقربوا منه - حتى أتاه عمرو بن العاص فقال : أعطني السيف يا ابن أخي ؟ فأعطاه إياه , ثم ثار إليه عثمان فأخذ برأسه , فتناصبا حتى حجز الناس بينهما . - فلما ولي عثمان قال : أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق - يعني عبيد الله بن عمر - فأشار عليه المهاجرون أن يقتله , وقال جماعة من الناس : قتل عمر بالأمس وتريدون أن تتبعوه ابنه اليوم , أبعد الله الهرمزان , وجفينة ؟ فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين , إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الأمر ولك على الناس من سلطان , إنما كان هذا الأمر ولا سلطان لك , فاصفح عنه يا أمير المؤمنين قال : فتفرق الناس على خطبة عمرو , وودى عثمان الرجلين والجارية . قال الزهري : وأخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن أباه قال : فيرحم الله حفصة أن كانت لمن شيع عبيد الله على قتل الهرمزان , وجفينة - قال معمر : قال غير الزهري : قال عثمان : أنا ولي الهرمزان , وجفينة , والجارية , وإني قد جعلتها دية.
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روينا عن أحمد بن محمد عن أحمد بن الفضل عن محمد بن جرير بإسناد لا يحضرني الآن ذكره : أن عثمان أقاد ولد الهرمزان من عبيد الله بن عمر بن الخطاب , وأن ولد الهرمزان عفا عنه.
قال أبو محمد رحمه الله: وأي ذلك كان فلا حجة لهم في شيء منه ; لأن عبيد الله بن عمر لم يقتل من قتل في عسكر أهل البغي , ولا في وقت كان فيه باغ من المسلمين على وجه الأرض يعرف في دار الهجرة , ومحلة الجماعة وصحة الألفة , وفي أفضل عصابة وأعدلها . وهذا خلاف قولهم في المسألة التي نحن فيها من قتل في عسكر أهل البغي وهم لا يقولون بإهدار القود عمن قتل في الجماعة بين موت إمام وولاية آخر , فقد خالفوا عثمان ومن معه في هذه القصة . وأيضا - فإن في هذا الخبر : أن عثمان جعلها دية - وهذا خلاف قولهم ; لأنهم لا يرون في ذلك دية , والواجب أن نحكم في كل ذلك كما نحكم في محلة الجماعة ولا فرق ; لأن دين الله تعالى واحد في كل مكان , وكل زمان , وعلى كل لسان , وما خص الله تعالى بإيجاب القود , وأخذ الحدود , وضمان الأموال وإقام الصلاة , وإيتاء

الزكاة وصوم رمضان , وسائر شرائع الإسلام مكانا دون مكان , ولا زمانا دون زمان , ولا حالا دون حال , ولا أمة دون أمة - وبالله تعالى التوفيق .

لو كان في الباغين غلام لم يبلغ أو امرأة
2160 - مسألة :ولو كان في الباغين غلام لم يبلغ أو امرأة
قال أبو محمد رحمه الله: ولو كان في الباغين غلام لم يبلغ أو امرأة فقاتلا دوفعا , فإن أدى ذلك إلى قتلهما في حال المقاتلة فهما هدر ; لأن فرضا على كل من أراده مريد بغير حق أن يدفع عن نفسه الضر كيف أمكنه - ولا دية في ذلك , ولا قود . قال الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن أهل البغي سألوا النظرة حتى ينظروا في أمورهم ؟ فإن لم يكن ذلك مكيدة , فعليه أن ينظرهم مدة يمكن في مثلها النظر فقط - وهذا مقدار الدعاء , وبيان الحجة فقط , وأما ما زاد على ذلك فلا يجوز ; لقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فلم يفسح الله تعالى في ترك قتالهم إلا مدة الإصلاح , فمن أبى قوتل . وأيضا - فإن فرضا على الإمام إنفاذ الحقوق عليهم وتأمين الناس من جميعهم , وأن يأخذوهم بالافتراق إلى مصالح دينهم ودنياهم . ومن قال غير هذا سألناه : ماذا يقول , إن استنظروه يوما أو يومين أو ثلاثة , وهكذا نزيده ساعة ساعة , ويوما يوما حتى يبلغ ذلك إلى انقضاء أعمارهم , وفي هذا إهلاك الدين والدنيا والاشتغال بالتحفظ عنهم , كما هو فرض عليه النظر فيه , فإن حد في ذلك حدا من ثلاثة أيام أو غير ذلك كلف أن يأتي بالدليل على ذلك من القرآن أو من تحديد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك , ولا سبيل له إليه . فإن ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قاضى قريشا على أن يقيم بمكة ثلاثا وجعل أجل المصراة ثلاثا , وخيار المخدوع في البيع ثلاثا , وأن الله تعالى أجل ثمود ثلاثة أيام ؟ قلنا لهم : نعم , هذا حق , وقد جعل الله تعالى أجل المولي أربعة أشهر , وأجل المتوفى عنها زوجها في العدة أربعة أشهر وعشرا فما الذي جعل بعض هذه الأعذار أولى من بعض , فكان ما حكم الله تعالى به , فهو الحق , وكان ما أراده مريد أن يزيده في حكم الله تعالى برأيه وقياسه فهو الباطل - وبالله تعالى التوفيق .

تحصن البغاة في حصن في النساء والصبيان
2161 - مسألة : فإن تحصن البغاة في حصن فيه النساء والصبيان , فلا يحل قطع المير عنهم , لكن يطلق لهم منه بمقدار ما يسع النساء والصبيان , ومن لم يكن من أهل البغي فقط , ويمنعون ما وراء ذلك . وجائز قتالهم بالمنجنيق والرمي , ولا يحل قتالهم بنار تحرق من فيه من غير أهل البغي , ولا بتغريق يغرقهم كذلك ; لقول الله تعالى: {وَلا

أقوال العلماء في أمان العبد والمرأة والرجل الحر لأهل البغى
2162 - مسألة: إن أمان العبد , والمرأة , والرجل الحر جائز لأهل البغي .
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : إن أمان العبد , والمرأة , والرجل الحر جائز لأهل البغي . وهذا عندنا ليس بشيء ; لأن أمان أهل البغي بأيديهم , متى تركوا القتال حرمت دماؤهم , وكانوا إخواننا , وما داموا مقاتلين باغين فلا يحل لمسلم إعطاؤهم الأمان على ذلك , فالأمان والإجارة هاهنا هدر ولغو , وإنما الأمان والإجارة للكافر الذي يحل للإمام قتله - إذا أسروه - واستبقاؤه , لا في مسلم - إن ترك بغيه - كان هو ممن يعطى الأمان ويجار . ولو أن أحدا من أهل البغي أجار كافرا جازت إجارته , كإجارة غيره , ولا فرق ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجير على المسلمين أدناهم". ولو أن أهل البغي دخلوا غزاة إلى دار الحرب فوافقوا أهل العدل فقاتلوا معهم فغنموا , فالغنيمة بينهم على السواء ; لأنهم كلهم مسلمون . ومن قتل من أهل البغي قتيلا من أهل الحرب فله سلبه ; لأنه من جملة المخاطبين بذلك الحكم . ولو ترك أهل الحرب من الكفار , وأهل المحاربة من المسلمين على قوم من أهل البغي , ففرض على جميع أهل الإسلام , وعلى الإمام عون أهل البغي وإنقاذهم من أهل الكفر , ومن أهل الحرب ; لأن أهل البغي مسلمون . وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} وقال تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وأما أهل المحاربة من المسلمين فإنهم يريدون ظلم أهل البغي في أخذ أموالهم , والمنع من الظلم واجب - قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فمن ترك المحارب , لم يعن المطلوب فقد أعان المحارب على إثمه وعدوانه , وهذا حرام . ولو أن أهل العدل وأهل البغي توادعوا وتعاطوا الرهان فهذا لا يجوز , إلا مع ضعف أهل العدل على المقاتلة ; لقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فما دمنا قادرين على المقاتلة لهم لم يحل لنا غيرها أصلا , ولسنا في سعة من تركها ساعة

فما فوقها , فإن ضعفنا عن ذلك , فقد قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" فإن قتلوا رهن أهل العدل لم يحل لنا قتل رهنهم ; لأنهم مسلمون غير مقاتلين , ولم يقتلوا لنا أحدا وإنما قتل الرهن غيرهم , وقد قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .

كتاب الحدود
بيان أن الله تعالى لم يصف حداً من العقوبة محدوداً
...
كتاب الحدود2163 - مسألة: بيان أن الله تعالى لم يصف حداً من العقوبة محدوداً
قال أبو محمد رحمه الله: لم يصف الله تعالى حدا من العقوبة محدودا لا يتجاوز في النفس , أو الأعضاء , أو البشرة , إلا في سبعة أشياء : وهي : المحاربة , والردة , والزنى , والقذف بالزنى , والسرقة , وجحد العارية , وتناول الخمر في شرب أو أكل فقط - وما عدا ذلك فلا حد لله تعالى محدودا فيه - ولا حول ولا قوة إلا بالله . ونحن - إن شاء الله - ذاكرون ما فيه الحدود مما ذكرنا بابا بابا - وبالله تعالى التوفيق - ثم نذكر - إن شاء الله تعالى - أشياء لا حد فيها , وادعى قوم : أن فيها حدودا - وبالله تعالى نتأيد . ثم نذكر - إن شاء الله تعالى - قبل ذلك أبوابا تدخل في جميع الحدود , أو في أكثرها , فإن جمعها في كتاب واحد أولى من تكرارها في كل كتاب من كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق . وهو أيضا - حصرها لمن يطلبها , وأبين لاجتماعها في مكان واحد , إذ ليس كتاب من كتب الحدود أولى بهذه الأبواب من سائر كتب الحدود - وبالله تعالى التوفيق . وهي : الحديث الوارد: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" مع سائر ما ذكر فيه من الخمر , والسرقة , والنهبة . وهل تقام الحدود في المساجد أم لا ؟ . وهل الحدود كفارة أم لا ؟ . واجتماع الحدود مع القتل , والتوكيل في إقامة الحدود ؟ وهل تقام الحدود بعلم الحاكم أم لا ؟ والسجن في التهمة , والامتحان بالضرب , والاعتراف بالإكراه , وما الإكراه والاستتابة في الحدود ؟ ومتى يقام الحد على الجارية والغلام ؟ واعتراف العبد بالحد , والشهادة في الحدود , والتأجيل في الحد والتعافي في الحدود قبل بلوغها إلى السلطان والترغيب في إمامة من قال : لا يؤاخذ الله عبدا بأول ذنب - ادرءوا الحدود بالشبهات - الرجوع عن الاعتراف بالحد ؟ الاعتراض على الحاكم في حكمه بالحد , هل يكشف ويسأل من ذكر عنه حد أم لا ؟ هل تقام الحدود على الكفار أم لا ؟ كيف حد العبد من حد الحر ؟ كيف حد المكاتب ؟

بيان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" و "لا ترجعوا بعدي كفاراً ".
...
2164 - مسألة : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا ترجعوا بعدي كفاراً
لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن , ولا ترجعوا بعدي

هل تقام الحدود في المساجد
2165 - مسألة : هل تقام الحدود في المساجد أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: أنا أحمد بن محمد بن عبد الله الطلمنكي نا ابن مفرج نا محمد بن أيوب الصموت نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا أبو نشيط محمد بن هارون , والحسن بن عرفة , قال أبو نشيط : نا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج نا سعيد بن بشير عن قتادة وقال ابن عرفة : نا أبو حفص عمرو بن عبد الرحمن الأبار عن إسماعيل بن مسلم - ثم اتفق قتادة , وإسماعيل - كلاهما عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل بالولد الوالد".
قال أبو محمد رحمه الله: إسماعيل بن مسلم , وسعيد بن بشير ضعيفان - وبه - إلى البزار نا يونس بن صالح بن معاذ نا محمد بن عمر الواقدي نا إسحاق بن حازم عن أبي الأسود عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تقام الحدود في المساجد". محمد بن عمر الواقدي ساقط مذكور بالكذب . ومن طريق ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا محمد بن عبد الله عن العباس بن عبد الرحمن بن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقام الحدود في المساجد" - محمد بن عبد الله , والعباس : مجهولان . وعن وكيع نا مبارك عن ظبيان بن صبيح الضبي , قال : قال عبد الله بن مسعود : "لا تقام الحدود في المساجد" - ظبيان : مجهول . وعن وكيع نا سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال : أتى عمر بن الخطاب رجل في حد , فقال : أخرجاه من المسجد ثم اضرباه قال أبو محمد رحمه الله: هذا خبر صحيح , قد صح: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتطييب المساجد وتنظيفها". وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} فوجب صون المساجد , ورفعها , وتنظيفها - فما كان من إقامة الحدود فيه تقذير للمسجد بالدم : كالقتل , والقطع , فحرام أن يقام شيء من ذلك في المسجد , لأن ذلك ليس تطييبا ; ولا تنظيفا – وكذلك: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم ماعز بالبقيع خارج المسجد". وأما ما كان من الحدود جلدا فقط , فإقامته في المسجد جائز , وخارج المسجد أيضا جائز , إلا أن خارج المسجد أحب إلينا , خوفا أن يكون من المجلود بول لضعف طبيعته , أو غير ذلك مما لا يؤمن من المضروب . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ

مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فلو كان إقامة الحدود بالجلد في المساجد حراما لفصل لنا ذلك مبينا في القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . وممن قال بإقامة الحدود بالجلد في المساجد : ابن أبي ليلى , وغيره - وبه نأخذ - وبالله تعالى التوفيق .

هل الحدود كفارة لمن تقوم عليه أم لا
2166 - مسألة : هل الحدود كفارة لمن أقيمت عليه أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: كل من أصاب ذنبا فيه حد فأقيم عليه ما يجب في ذلك فقد سقط عنه ما أصاب من ذلك - تاب أو لم يتب - حاش المحاربة , فإن إثمها باق عليه وإن أقيم عليه حدها , ولا يسقطها عنه إلا التوبة لله تعالى فقط . برهان ذلك : ما رويناه من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى , وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق بن إبراهيم , ومحمد بن عبد الله بن نمير , كلهم عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس , فقال تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له , ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه , وإن شاء عذبه". وبه - إلى مسلم حدثني إسماعيل بن سالم أنا هشيم أنا خالد - هو الحذاء - عن أبي قلابة عن أبي الأشعث - هو الصنعاني - عن عبادة بن الصامت قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء : "أن لا نشرك بالله شيئا , ولا نسرق , ولا نزني , ولا نقتل أولادنا , ولا يغتاب بعضنا بعضا - فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أتى منكم حدا فأقيم عليه فهو عقابه , ومن ستره الله عليه فأمره إلى الله - إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". وأما تخصيصنا المحاربة من جميع الحدود , فلقول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} إلى قوله تعالى { عذاب عظيم } فنص الله تعالى نصا لا يحتمل تأويلا , على أنهم مع إقامة هذا الحد عليهم , وأنه لهم خزي في الدنيا , ولهم مع ذلك في الآخرة عذاب عظيم .
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب استعمال النصوص كلها كما جاءت , وأن لا يترك شيء منها لشيء آخر وليس بعضها أولى بالطاعة من بعض , وكلها حق من عند الله تعالى - ولا يجوز النسخ في شيء من ذلك : أما حديث عبادة - فإنه فضيلة لنا أن تكفر عنا الذنوب بالحد , والفضائل لا تنسخ , لأنها ليست أوامر , ولا نواهي , وإنما النسخ في الأوامر والنواهي - سواء وردت بلفظة الأمر والنهي - أو بلفظ الخبر , ومعناه الأمر والنهي . وأما الخبر المحقق فلا يدخل النسخ فيه , ولو دخل لكان كذبا - وهذا

لا يجوز أن يظن بشيء من أخبار الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم . وأما الآية في المحاربة - فإن وجوب العذاب في الآخرة مع الخزي في الدنيا بإقامة الحد عليهم : خبر مجرد من الله تعالى , لا مدخل فيه للأمر والنهي فأمن دخول النسخ في شيء من ذلك - والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن تعلق متعلق بما نا أحمد بن عمر العذري نا عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن دحيم نا عبد بن حميد الكشي ثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أدري أتبع كان نبيا أم لا ؟ وما أدري ذو القرنين أنبيا كان أم لا ؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا ؟". وبما ثناه أحمد بن عمر العذري نا محمد بن أبي سعيد بن سختويه الإسفراييني - في داره بمكة - ثنا عبد العزيز بن جعفر بن سعد أنا أحمد بن زنجويه بن موسى نا داود بن رشيد نا سيف بن هارون عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما بايعت النساء , فمن مات منا ولم يأت بشيء منهن : ضمن له الجنة , ومن مات منا وأتى بشيء فأقيم عليه الحد : فحسابه على الله تعالى".
قال أبو محمد رحمه الله: أما حديث أبي هريرة فصحيح السند , وما نعلم له في وقتنا هذا علة , إلا أن الذي لا نشك فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف قوله , ولا يقول إلا الحق , وقد قال صلى الله عليه وسلم بأصح سند مما أوردنا آنفا من طريق عبادة : "أن من أصاب من الزنى , والسرقة , والقتل , والغصب : شيئا , فأقيم عليه الحد , فهو كفارة له" فمن المحال أن يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء قد قطع به , وبشر أمته به , وهو وحي من الله تعالى أوحى إليه به . والقول عندنا فيه : أن أبا هريرة لم يقل أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام , وقد سمعه أبو هريرة من أحد المهاجرين , ممن سمعه ذلك الصاحب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول البعث , قبل أن يسمع عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الحدود كفارة" فهذا صحيح بأنه عليه السلام لا يعلم إلا ما علمه الله تعالى , ثم أعلمه بعد ذلك ما لم يكن يعلمه حينئذ , وأخبر به الأنصار , إذ بايعوه قبل الهجرة , والحدود حينئذ لم تكن نزلت بعد , لا حين بيعة عبادة ولا قبل ذلك , وإنما نزلت بالمدينة بعد الهجرة , لكن الله تعالى أعلم رسوله عليه السلام أنه سيكون لهذه الذنوب حدود , وعقوبات - وإن كان لم يعلمه بها - لكنه أخبره أنها كفارات لأهلها - هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره - إن صح حديث أبي هريرة ولم تكن فيه علة . وأما حديث جابر - فساقط لأنه

من رواية داود بن رشيد - وهو ضعيف . ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في حديث أبي هريرة الذي تكلمنا فيه آنفا , والأمر كان حينئذ في حديث جابر أبين , لأن إسلام جرير متأخر جدا بعد الفتح , لم يدرك قط بيعة النساء التي كانت قبل القتال , لأن إسلام جرير كان بعد نزول " المائدة " فصار حديث عبادة قاضيا على كل ذلك , ومخبرا عن الله تعالى ما ليس في سائر الأخبار : من أن الحدود كفارة لأهلها , حاش ما خصه الله تعالى منها.

هل تسقط الحدود بالتوبة أم لا
2167 - مسألة : هل تسقط الحدود بالتوبة أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: قال قوم : إن الحدود كلها تسقط بالتوبة - وهذه رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي , قالها بالعراق ورجع عنها بمصر - واحتج أهل هذه المقالة : بما ناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن زيد بن أسلم عن يزيد بن نعيم عن أبيه: "أن ماعز بن مالك أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقم علي كتاب الله ؟ فأعرض عنه أربع مرات , ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمه , فلما مسته الحجارة خرج يشتد , وخرج عبد الله بن أنس من نادي قومه بوظيف حمار , فضربه فصرعه , فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بأمره فقال ألا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه ؟ يا هذا لو سترته بثوبك كان خيرا لك". حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عمرو بن حماد بن طلحة عن أسباط بن نصر عن سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه: "أن امرأة وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد عن كره نفسها , فاستغاثت برجل مر عليها وفر صاحبها , ثم مر عليها قوم ذوو عدد , فاستغاثت بهم , فأدركوا الذي استغاثت به , وسبقهم الآخر , فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته : أنه وقع عليها , وأخبره القوم : أنهم أدركوه يشتد , فقال : إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني , قالت : كذب , هو الذي وقع علي , فقال النبي صلى الله عليه وسلم اذهبوا به فارجموه فقام رجل من الناس فقال : لا ترجموه وارجموني أنا الذي فعلت بها الفعل , فاعترف , فاجتمع ثلاثة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقع عليها , والذي أغاثها , والمرأة , فقال أما أنت فقد غفر الله لك , وقال للذي أغاثها قولا حسنا فقال له عمر : أرجم الذي اعترف بالزنى ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا , إنه قد تاب إلى الله تعالى زاد ابن عمر في روايته لو تابها أهل مدينة يثرب لقبل منهم". نا أبو عمر أحمد بن قاسم نا أبي قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا الحارث بن أبي أسامة نا أبو النضر نا أبو معاوية عن

ليث بن أبي سليم عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبي مليح بن أسامة الهذلي عن واثلة بن الأسقع قال: "شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأتاه رجل فقال : يا رسول الله , إني أصبت حدا من حدود الله تعالى , فأعرض عنه , ثم أتاه الثانية فأعرض عنه ثم قالها الثالثة فأعرض عنه , ثم أقيمت الصلاة , فلما قضى الصلاة أتى الرابعة , فقال : أصبت حدا من حدود الله فأقم في حد الله قال : ألم تحسن الطهور - أو الوضوء - ثم شهدت الصلاة معنا آنفا ؟ اذهب فهي كفارتك". ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب عن عكرمة بن عمار نا شداد بن عبد الله عن الباهلي قال: "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال له رجل : إني أصبت حدا فأقم علي وأقيمت الصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم خرج - ومعه الرجل - وتبعته , فقال : يا رسول الله أقم علي حدي فإني أصبته , فقال : أليس حين خرجت من منزلك توضأت فأحسنت الوضوء وشهدت معنا الصلاة ؟ قال : نعم , قال : فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو حدك".
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روينا هذا الخبر - وفيه " إني زنيت " كما ثنا المهلب بن أبي صفرة الأسدي التميمي ثنا عبد الله بن إبراهيم الأصيلي نا محمد بن أحمد الصواف نا أحمد بن هارون بن روح البرذنجي نا محمد بن عبد الملك الواسطي نا عمرو بن عاصم عن همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس: "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله , إني زنيت فأقم علي الحد , ثم أقيمت الصلاة , فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم قد كفر عنك بصلاتك".
قال أبو محمد رحمه الله وقالوا : قد قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} قالوا : فصح النص من القرآن وصح الإجماع بأن حد المحاربة تسقطه التوبة قبل القدرة عليهم , فوجب أن تكون جميع الحدود من : الزنى , والسرقة , والقذف , وشرب الخمر كذلك , لأنها كلها حدود وقعت التوبة قبل القدرة على أهلها.
قال أبو محمد رحمه الله: هذا كل ما يمكن أن يحتج به أهل هذه المقالة , وذهب آخرون إلى أن التوبة لا تسقط الحدود . واحتجوا : بما ناه حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر - هو ابن حماد - نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن هشام الدستوائي نا يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي المهلب أن عمران بن الحصين حدثه أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم حبلى من الزنا فقالت:

"إني أصبت حدا فأقمه علي , فدعا وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل فأمرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها , فقال عمر : تصلي عليها وقد زنت ؟ فقال : لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم , هل وجدت شيئا هو أفضل من أن جادت بنفسها ؟". ومن طريق مسلم نا محمد بن المثنى حدثني عبد الأعلى نا داود بن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري: "أن رجلا من أسلم يقال له : ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أصبت فاحشة فأقمه علي فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ثم سأل قومه ؟ فقالوا : ما نعلم به بأسا - فذكر باقي الحديث وفيه - فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجمه , فكان الناس فيه فرقتين : قائل يقول : هلك , لقد أحاطت به خطيئته , وقائل يقول : ما توبة أفضل من توبة ماعز , إنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده فقال : اقتلني بالحجارة , قال : فلبثوا بذلك يومين - أو ثلاثة - ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا لماعز بن مالك ؟ فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم". ومن طريق مسلم نا محمد بن عبد الله بن نمير نا بشير بن المهاجر نا عبد الله بن بريدة عن أبيه: "أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد ظلمت نفسي وزنيت وإني أريد أن تطهرني , فرده - فذكر الحديث وفيه - فجاءت الغامدية فقالت : يا رسول الله , إني قد زنيت فطهرني , وأنه ردها , فلما كان الغد قالت : يا رسول الله لم تردني كما رددت ماعزا ؟ فوالله إني لحبلى , قال أما الآن فاذهبي وذكر باقي الخبر - فلما فطمته أتته بالصبي - وفي يده كسرة خبز - فقالت : هذا يا نبي الله قد فطمته , وقد أكل الطعام , فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر إلى صدرها وأمر الناس فرجموها - فأقبل خالد بن الوليد فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد , فسبها , فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها , فقال : مهلا يا خالد , فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له , ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت". قالوا : فهذا ماعز قد صحت توبته قبل الرجم بإخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك , وبأنها مقبولة - وهذه الغامدية , والجهينية رضي الله عنهما - قد تابتا أتم توبة وأصحها , مقبولة من الله تعالى بإخبار النبي عليه السلام ولم تسقط هذه التوبة عنهم الحد . قالوا : وكذلك أيضا "حد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين قذفوا عائشة - رضي الله عنها ؟"
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا في ذلك - كما ذكرنا - وجب أن ننظر في ذلك

لنعلم الحق من ذلك [ فنتبعه ] بعون الله تعالى ومنه : فنظرنا في الحديث الذي احتج به من رأى الحدود ساقطة بالتوبة . فنظرنا في ذلك , فوجدناه مرسلا , فسقط التعلق به . ثم نظرنا في حديث علقمة بن وائل , فوجدناه لا يصح , لأنه من طريق سماك بن حرب وهو يقبل التلقين , شهد بذلك شعبة , وغيره , فسقط . ثم نظرنا في حديث واثلة بن الأسقع , فوجدنا الأول من طريق فيها ليث بن أبي سليم , وليس بالقوي . وأما حديث الباهلي , فوجدناه من طريق عكرمة بن عمار , وهو ضعيف جدا . فإن قيل : وقد رويتموه بأن فيه زينب ؟ قلنا : نعم , وفيه من لا يعرف رجاله , ثم أنه لو ثبت دون علة لما كانت فيه حجة , لأن فيه وجوها تمنع من استعماله : أحدها - أن ممكنا أن يكون هذا قبل نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان الحكم لإيجاب الحد . فإن قيل : وممكن أيضا أن يكون بعد نزول حد الزنى ثم نزل حد الزنى فكان الحكم له ويكون ناسخا لما في حديث ماعز , والغامدية والجهينية ؟ قلنا : إن الواجب إذا تعارضت الأخبار أن يؤخذ بالزائد والزائد : هو الذي جاء بحكم لم يكن واجبا في معهود الأصل , وكان معهود الأصل بلا شك : أن لا حد على أحد - تائبا كان أو غير تائب - فجاء النص : بإيجاب الحدود جملة , وكانت هذه النصوص زائدة على معهود الأصل , وجاء حديث ماعز , والغامدية , والجهينية , فكان ما فيها من إيجاب الحد على التائب زائدا على ما في الخبر الذي فيه إسقاط الحد عن التائب - هذا لو كان في حديثهم أن الحد سقط عنه بالتوبة , فكيف وليس هذا فيه ؟ وإنما فيه إسقاط الحد بصلاته فقط , وهذا ما لا يقولونه [ بل هم يخالفون لهذا الحكم ] فبطل تعلقهم بهذا الخبر , وبتلك الأخبار جملة - وبالله تعالى التوفيق . فإن قالوا : هبكم أن حد الزنى قد وجدتم فيه , وفي حد القذف : إقامة الحد على من تاب , فمن أين لم تسقطوا حد السرقة , وحد الخمر بالتوبة ؟ ولا نص معكم في إقامتها على التائب منها ؟ قلنا : إن النص قد ورد جملة بإقامة الحدود في السرقة , والخمر , والزنى , والقذف , ولم يستثن الله تعالى تائبا من غير تائب , ولم يصح نص أصلا بإسقاط الحد عن التائب , فإذا الأمر كذلك فلا يحل أن يخص التائب من عموم أمر الله تعالى بإقامة الحدود بالرأي , والقياس دون نص ولا إجماع , فهذه عمدتنا في إقامة الحدود على التائب وغير التائب . وإنما حديث ماعز , والغامدية , والجهينية : مؤيد لقولنا في ذلك فقط , ولو لم يأت ما احتجنا إليها مع الأوامر الواردة بإقامة الحدود , لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه". وقوله عليه السلام: "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام , والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".

ومع قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . ومع قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . ومع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه" الحديث . فلم يخص عليه السلام شيئا من شيء مما أمر بإقامة الحد عليه تائبا من غيره {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} {وما كان ربك نسيا} . ثم نظرنا أيضا في احتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنهم قد أجمعوا على أن التوبة تسقط عذاب الآخرة - وهو العذاب الأكبر - فإذا أسقطت العذاب الأكبر فأحرى وأوجب أن تسقط العذاب الأقل , الذي هو الحد في الدنيا فوجدنا هذا كله لازما لكل من ذكرنا , لأنهم أصحاب قياس - بزعمهم - ولو صح قياس يوما ما من الدهر لكانت هذه المقاييس أصح قياس في العالم . وأين هذا من قياسهم الفاسد : الحديد على الذهب في الربا , وغزل القطن على الذهب والفضة في الربا , وقياسهم فرج الزوجة على يد السارق , وسائر قياساتهم الفاسدة التي لا تعقل . وأما نحن فلا يلزمنا هذا , لأن القياس كله باطل لا يحل القول بشيء منه في دين الله تعالى - والحمد لله رب العالمين . وعذاب الآخرة غير عذاب الدنيا , وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر , إذ لم يوجب ذلك نص قرآن , ولا سنة , ولا إجماع . وكثير من المعاصي ليس فيها في الدنيا حد , كالغصب - ومن قال لآخر : يا كافر - وكأكل لحم الخنزير , وعقوق الوالدين , وغير ذلك - وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة عقاب , بل فيها أعظم العقاب في الآخرة . فصح أن أحكام الدنيا غير متعلقة بأحكام الآخرة - وبالله تعالى التوفيق . وقد احتجوا بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله تعالى : {غفور رحيم} فوجدناهم لا حجة لهم في هذه الآية : لأن الله تعالى لم يسقط الحد بالتوبة مطلقة , ولو أراد ذلك لقال: {إلا الذين تابوا} ولم يقل " من بعد ذلك " فلما قال تعالى: {من بعد ذلك} بين لنا تعالى أن هذه التوبة لا تكون إلا من بعد الجلد ثمانين , واستحقاق اسم الفسوق , ورد الشهادة , لا قبل الجلد بنص القرآن , فإنما سقط بالتوبة بعد الجلد ما عدا الجلد , لأن الجلد قد نفذ فلا يسقط بعده بالتوبة إلا الفسق , وحكم قبول الشهادة فقط . وأيضا : فبعد نزول هذه الآية جلد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسطح بن أثاثة , وحسان بن ثابت , وحمنة بنت جحش - فبطل التعلق في إسقاط الحد بالتوبة المذكورة في الآية . وصح أنه إنما سقط بها ما عدا الحد - وهو الفسق , ورد الشهادة فقط - فبطل كل ما شغب هؤلاء القوم به - وصح أنه لا يسقط بالتوبة شيء من الحدود , حاشا حد الحرابة الذي ورد النص بسقوطها بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط - وأما بالتوبة الكائنة منهم بعد القدرة عليهم , أو مع القدرة عليهم , فلا

يسقط بذلك عنهم حد المحاربة أصلا , لأن النص لم يسقط الحد عنهم إلا بالتوبة قبل القدرة عليهم فقط , وبقي ما عدا ذلك على إنفاذ ما أمر الله تعالى به فيه - وبالله تعالى التوفيق . قال علي رحمه الله : والدليل عندنا في ذلك أن من أقر بحد ولم يقل ما هو ؟ فلا شيء عليه أصلا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قال : علي حد فيه الجلد فقط : لم يقم أيضا جلد , لأنه قد يظن في فعله ذلك أنه حد يوجب جلدا - وليس كما يظن - فإذ هو ممكن فلا يحل لنا بشرته بإحلاله لنا إياها , لأن تحريم الله تعالى لها قبل إحلاله الفاسد . ولو أن امرأ قال لآخر : اضربني فقد أحللت لك بشرتي ؟ لم يحل ضربه أصلا , لأنه ليس له أن يحل من نفسه ما حرم الله تعالى منها , ولا أن يحرم منها ما أحله الله تعالى . ولو قال من صح عليه الجلد في القذف , أو الزنى , أو الخمر : قد حرمت عليكم بشرتي , لكان كلامه هذرا ولغوا . وكذلك لو أحل لآخر قتل نفسه أو قطع يده أو أحلت المرأة فرجها لأجنبي . أو حرم الرجل فرجه على امرأته , أو حرمت هي فرجها عليه , لكان كل ذلك باطلا , ولا حرام إلا ما حرم الله تعالى أو رسوله عليه السلام , قال الله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فإن قال علي لله تعالى حد يوجب : إما زنا , وإما قذفا , وإما شرب خمر , فهذا لم يحقق ولا أقر إقرارا صحيحا - وليس عليه إلا حد الخمر , لأنه أقل الحدود الواجبة عليه بيقين . ولا يحل أن يزداد عليه شيء بالشك , فلا يجوز أن يجلد شيئا حتى يتبين ما هو الحد الذي عليه , ويصفه وصفا تاما .

السجن في التهمة
2167 - مسألة : السجن في التهمة:
قال أبو محمد رضي الله عنه : قال قوم : بالسجن في التهمة ؟ واحتجوا : بما ثنا أحمد بن قاسم ثنا أبي قاسم بن محمد بن قاسم ثنا جدي قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن أبي العوام ثنا أحمد بن حاتم الطويل ثنا إبراهيم بن خثيم بن عراك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة : "أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة احتياطا , أو قال : استظهارا : يوما وليلة". وبه - إلى قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح حدثني محمد بن آدم نا ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حبس في تهمة , ثم خلى سبيله". ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة قال: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من قومه في تهمة فحبسهم , فجاء رجل من قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال : يا محمد , على ما تحبس جيرتي ؟ فصمت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن ناسا يقولون : إنك لتنهى عن الشيء وتستخلي به , فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول ؟ فجعلت أعرض بينهما بكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي

دعوة لا يفلحون بعده , قال : فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم حتى فهمها ؟ قال : قد قالوها ؟ وقال قائلها منهم : والله لو فعلتها لكان علي وما كان عليهم , خلوا له عن جيرانه". وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري عن عراك بن مالك قال: "أقبل رجلان من بني غفار حتى نزلا منزلا بضجنان من مياه المدينة , وعندها ناس من غطفان معهم ظهر لهم , فأصبح الغطفانيون قد أضلوا بعيرين من إبلهم فاتهموا بهما الغفاريين , فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا أمرهم , فحبس أحد الغفاريين , وقال للآخر : اذهب فالتمس ؟ فلم يكن إلا يسيرا حتى جاء بهما , فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد الغفاريين - حسبت أنه المحبوس - استغفر لي ؟ فقال : غفر الله لك يا رسول الله , فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ولك وقتلك في سبيله , قال : فقتل يوم اليمامة".
قال أبو محمد رحمه الله: وذهب إلى هذا قوم , كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال : كتب عمر بن عبد العزيز بن عبد الله كتابا قرأته : إذا وجد المتاع مع الرجل المتهم فقال : ابتعته فاشدده في السجن وثاقا , ولا تحله بكتاب أحد حتى يأتيه فيه أمر الله تعالى , قال ابن جريج : فذكرت ذلك لعطاء فأنكره . وذهب آخرون - إلى المنع من الحبس بالتهمة , كما روينا من طريق عبد الرزاق نا ابن جريج , قال : سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول : أخبرني عبد الله بن أبي عامر قال : انطلقت في ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سرقت عيبة لي , ومعنا رجل متهم , فقال أصحابي : يا فلان اردد عليه عيبته ؟ فقال : ما أخذتها : فرجعت إلى عمر بن الخطاب فأخبرته , فقال : من أنتم ؟ فعددتهم , فقال : أظنها صاحبها للذي أتهم ؟ فقلت : لقد أردت يا أمير المؤمنين أن تأتي به مصفدا , فقال عمر : أتأتي به مصفودا بغير بينة , لا أكتب لك فيها , ولا أسألك عنها , وغضب وما كتب لي فيها , ولا سأل عنها , فأنكر عمر - رضي الله عنه - أن يصفد أحد بغير بينة.
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك فوجدنا الأحاديث المذكورة لا حجة في شيء منها , لأن إبراهيم بن خثيم ضعيف , وبهز بن حكيم ليس بالقوي , وحديث عراك مرسل , ثم لو صح لكان فيه الدليل على المنع من الحبس لاستغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك . فإن ذكروا حديث: "المرأة الغامدية التي قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طهرني , قال : ويحك , ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه , قالت : لعلك تردني كما رددت ماعز بن مالك , قالت : إني حبلى من الزنى , قال : أثيب أنت ؟ قالت : نعم , قال : فلا نرجمنك حتى تضعي ما في بطنك , قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت , فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت الغامدية قال : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه ؟ فقال رجل من الأنصار : إلي رضاعه , فرجمها".

قال أبو محمد رحمه الله: فهذا لا حجة لهم فيه , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجنها ولا أمر بذلك , لكن فيه : أن الأنصاري تولى أمرها وحياطتها فقط .
قال أبو محمد رحمه الله: فإن ذكروا قول الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} فإن هذا حكم منسوخ بإجماع الأمة . قال علي رحمه الله : فإذ لم يبق لمن رأى السجن حجة , فالواجب طلب البرهان على صحة القول الآخر , فنظرنا في ذلك فوجدنا من قال بسجنه لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يكون متهما لم يصح قبله شيء , أو يكون قد صح قبله شيء من الشر , فإن كان متهما بقتل , أو زنا , أو سرقة , أو شرب , أو غير ذلك : فلا يحل سجنه , لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" وقد كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتهمون بالكفر - وهم المنافقون - فما حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدا - وبالله تعالى التوفيق .

حكم من أصاب حداً مرتين فصاعداً
...
2169 مسألة : فيمن أصاب حدا مرتين فصاعدا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في ذلك , كمن زنى مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو قذف مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو شرب الخمر مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد , أو سرق مرتين فأكثر قبل أن يحد في ذلك , أو جحد عارية مرتين فأكثر , قبل أن يقام عليه الحد في ذلك أو حارب مرتين فأكثر قبل أن يقام عليه الحد في ذلك ؟ فقالت طائفة : ليس في كل ذلك إلا حد واحد فقط - وقالت طائفة : عليه لكل مرة حد .
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب أن ننظر في ذلك ؟ لنعلم الحق فنتبعه - بعون الله تعالى - فنظرنا في قول من قال : لكل فعلة حد ؟ فوجدناهم يحتجون بقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أنه قال: "من شرب الخمر فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه" وذكر باقي الخبر قالوا : فوجب بنص كلام الله تعالى , وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على من زنى الجلد المأمور به , وعلى من سرق قطع يده , وعلى من قذف الجلد المأمور به وعلى من شرب الخمر الجلد المأمور به , فاستقر ذلك فرضا عليه , فإذ ذلك كذلك فبيقين ندري أنه متى زنى ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا سرق ثانية وجب

عليه بالسرقة الثانية قطع ثان , وإذا قذف ثانية وجب عليه حد ثان , وإذا شرب ثانية وجب عليه حد ثان ولا بد - وهكذا في كل مرة.
قال أبو محمد رحمه الله: أما قولهم : إن الله تعالى قال: {الزانية والزاني} الآية وقوله تعالى: {والسارق والسارقة} الآية. وقوله تعالى: {والذين يرمون المحصنات} الآية. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه , ثم إذا شرب فاجلدوه" فكل ذلك حق , ويكفر من أنكر لفظه ومعناه . وأما قولهم : فاستقر ذلك فرضا عليه , فهذا وهم أصحابنا , ولسنا نقول بهذا , لكن نقول : إنه لا يجب شيء من الحدود المذكورة بنفس الزنى , ولا بنفس القذف , ولا بنفس السرقة , ولا بنفس الشرب , لكن حتى يستضيف إلى ذلك معنى آخر - وهو ثبات ذلك عند الحاكم بإقامة الحدود , إما بعلمه , وإما ببينة عادلة , وإما بإقراره , وأما ما لم يثبت عند الحاكم فلا يلزمه حد , لا جلد , ولا قطع أصلا . برهان ذلك : هو أنه لو وجبت الحدود المذكورة بنفس الفعل لكان فرضا على من أصاب شيئا من ذلك أن يقيم الحد على نفسه ليخرج مما لزمه , أو أن يعجل المجيء إلى الحاكم فيخبره بما عليه ليؤدي ما لزمه فرضا في ذمته , لا في بشرته , وهذا أمر لا يقوله أحد من الأمة كلها بلا خلاف . أما إقامته الحد على نفسه فحرام عليه ذلك بإجماع الأمة كلها , وأنه لا خلاف في أنه ليس لسارق أن يقطع يد نفسه , بل إن فعل ذلك كان عند الأمة كلها عاصيا لله تعالى , فلو كان الحد فرضا واجبا بنفس فعله لما حل له الستر على نفسه , ولا جاز له ترك الإقرار طرفة عين , ليؤدي عن نفسه ما لزمه . وإنما أمر الله تعالى ورسوله - عليه السلام - الأئمة وولاتهم بإقامة الحدود المذكورة على من جناها , وبيقين الضرورة ندري أن الله تعالى لم يأمرهم من ذلك إلا إذا ثبت ذلك عندهم , وصح يقينا أن لكل زنا يزنيه , وكل قذف يقذفه , وكل شرب يشربه , وكل سرقة يسرقها , وكل حرابة يحارب , وكل عارية يجحدها قبل علم الإمام بذلك , فلم يجب عليه فيه شيء , لكنا نقول : إن الله تعالى أوجب على من زنى مرة , أو ألف مرة - إذا علم الإمام بذلك - جلد مائة , وعلى القاذف , والسارق , والمحارب , وشارب الخمر , والجاحد مرة , وألف مرة حدا واحدا , إذا علم الحاكم ذلك كله . قال أبو محمد رحمه الله: وأما إن وقع على من فعل شيئا من ذلك تضييع من الإمام , أو أميره لغير ضرورة , ثم شرع في إقامة الحد فوقعت ضرورة منعت من إتمامه فواقع فعلا آخر من نوع الأول , فقولنا , وقول أصحابنا سواء : يستتم عليه الحد الأول , ثم يبتدئ في الثاني ولا بد . برهان ذلك : أن الحد كله قد وجب بعلم الإمام , أو

أميره مع قدرته على إقامة جميع الحد , ثم أحدث ذنبا آخر , فلا يجزي عنه حد قد تقدم وجوبه.
قال أبو محمد رحمه الله: ونسأل المخالفين عن قولهم فيمن زنى مرات , أو شرب مرات , أو قذف مرات إنسانا واحدا , أو سرق مرات , أو حارب مرات - وعلم الإمام كل ذلك - وقدر على إقامة الحدود عليه , ثم لم يحد حتى واقع ما ذكرنا , فلم يوجبوا عليه إلا حدا واحدا , ما الفرق بين هذا وبين قول من قال منهم : إن أفطر عامدا فوطئ أياما من شهر رمضان أن عليه لكل يوم كفارة ؟ ومن حلف أيمانا كثيرة على أشياء مختلفة فعليه لكل يمين كفارة ؟ ومن قال منهم : إن ظاهر مرات كثيرة فإن لكل ظهار كفارة ؟ وقولهم كلهم : إن من أصاب - وهو محرم - صيودا فعليه لكل صيد جزاء بل قال بعضهم : إنه لو أصاب صيدا واحدا - وهو قارن - فعليه جزاءان . فإن ادعوا في كفارة الإفطار في رمضان إجماعا : ظهر جهل من ادعى ذلك , أو كذبه , لأن زفر بن الهذيل وغيره - منهم - يرى أن من أفطر بوطء أو غيره جميع أيام شهر رمضان - ولم يكفر - فليس عليه إلا كفارة واحدة فقط - وهذا هو الواجب - على قول سعيد بن المسيب - لأن المحفوظ عنه أن شهر رمضان كله صوم واحد , من أفطر يوما منه فعليه قضاء جميعه يقضي شهرا , ولا بد , ومن أفطره كله فعليه شهر واحد أيضا ولا مزيد .

حكم من أصاب حداً ثم لحق بالمشركين أو ارتد
...
2170 - مسألة : فيمن أصاب حدا ثم لحق بالمشركين أو ارتد:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد ثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق السبيعي عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أبق العبد إلى الشرك فقد حل دمه".
قال أبو محمد رحمه الله: فبهذا نأخذ , والعبد هاهنا كل حر وعبد , فكلنا عبيد الله تعالى , ومن لحق بأرض الشرك بغير ضرورة فهو محارب , هذا أقل أحواله إن سلم من الردة بنفس فراقه جماعة الإسلام , وانحيازه إلى أرض الشرك : بما حدثنا يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري ثنا خلف بن القاسم ثنا أحمد بن سعد المهراني ثنا أحمد بن عبد الجبار ثنا أبو معاوية محمد بن خازم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مقيم بين أظهر المشركين".
قال أبو محمد رحمه الله: وسنستقصي الكلام - إن شاء الله تعالى - في هذا في " كتاب الردة " من هذا الكتاب . فإن قال قائل : إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم هاهنا مع ذكر

العبد الآباق , فصح أنه إنما عنى بذلك المماليك فقط ؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق : ليس الإباق لفظا موقوفا على المماليك الذين لنا فقط , بل كل من هرب عن سيده ومالكه فهو آبق , والله تعالى مالك الجميع , والكل عبيده ومماليكه , فمن هرب عن جماعة الله تعالى , وعلى دار دين الله تعالى إلى دار أعداء الله تعالى المحاربين لله عز وجل فهو آبق . برهان ذلك : قول الله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إذ أبق إلى الفلك المشحون} فقد سمى الله تعالى فعل يونس رسوله صلى الله عليه وسلم - وهو حر بلا خلاف - إذ فر عن أمر ربه تعالى إباقا - فصح أن الإباق لكل حر وعبد - وبالله تعالى التوفيق . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن قدامة عن جرير عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال : كان جرير بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة وإن مات مات كافرا ؟ فأبق غلام لجرير فأخذه فضرب عنقه". قال أبو محمد رحمه الله: ولا يسقط عن اللاحق بالمشركين لحاقه بهم شيئا من الحدود التي أصابها قبل لحاقه , ولا التي أصابها بعد لحاقه , لأن الله تعالى أوجب الحدود في القرآن على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أرسلها ولم يسقطها . وكذلك لم يسقطها عن المرتد , ولا عن المحارب , ولا عن الممتنع , ولا عن الباغي , إذا قدر على إقامتها عليهم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} . ونحن نشهد بشهادة الله تعالى أن الله عز وجل لو أراد أن يستثني أحدا من هؤلاء لما سكت عن ذلك إعناتا لنا , ولا أهمله , ولا أغفله , فإذ لم يعلمنا بذلك فنحن نقسم بالله تعالى أن الله تعالى ما أراد قط إسقاط حد أصابه لاحق بالشرك قبل لحاقه , أو أصابه بعد لحاقه بهم , أو أصابه مرتد قبل ردته أو بعدها , وأن من خالف هذا فمخطئ عند الله تعالى بيقين لا شك فيه . وقد صح النص والإجماع بإسقاطه , وهو ما أصابه أهل الكفر ما داموا في دار الحرب قبل أن يتذمموا أو يسلموا فقط , فهذا خارج بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل من أسلم منهم , فلم يؤاخذهم بشيء مما سلف لهم من قتل , أو زنا , أو قذف , أو شرب خمر , أو سرقة , وصح الإجماع بذلك . فإن قال قائل : فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. فصح بهذا أن المرتد من الكفار بلا شك فإذ هو منهم فحكمه حكمهم . وذكروا من طريق مسلم حدثنا محمد بن المثنى ثنا الضحاك - يعني أبا عاصم النبيل - أنا حيوة بن شريح ثنا يزيد بن أبي حبيب عن شمامة المهري ثنا مضر ثنا عمرو بن العاص في سياقة الموت يبكي طويلا , فذكر الحديث , وفيه قال فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله

صلى الله عليه وسلم فقلت: "ابسط يمينك فلأبايعك , فبسط يمينه , فقبضت يدي فقال : ما لك يا عمرو ؟ فقلت : أردت أن أشترط , فقال : تشترط ماذا ؟ قلت : أن يغفر لي , قال : أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله , وأن الهجرة تهدم ما قبلها , وأن الحج يهدم ما قبله". وذكر باقي الكلام ومن طريق مسلم حدثنا محمد بن حاتم بن ميمون , لإبراهيم بن دينار - واللفظ لإبراهيم - قال : ثنا حجاج - هو ابن محمد - عن ابن جريج أخبرني يعلى بن مسلم : أنه سمع سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس: "أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن , ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ؟ فنزل: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله {يلق أثاما} , و {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} الآية } .
قال أبو محمد رحمه الله: تمام الآية الأولى إلى قوله {حسنات} . والأخرى {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} . وكل هذا حق ولا حجة لهم فيه بل عليهم على ما نبين - إن شاء الله تعالى . أما قول الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} الآية , فنعم , هكذا نقول , ولم نخالفهم في هذه الآية , ولا هي مسألتنا , وإنما مسألتنا : هل تقام عليهم الحدود السالفة أم لا ؟ وليس في هذه الآية من هذا حكم أصلا لا بنص من القرآن , ولا من السنة , وأن التائب منا مغفور له , وأن ماعزا مغفور له والغامدية , والجهينية : مغفور لهما بلا شك , ولم تسقط عنهم مغفرة الله تعالى لهم ذنبهم : حد الله تعالى الواجب في الدنيا , وإنما أسقطت مغفرة الله تعالى عنهم عذاب الآخرة فقط , ولم يسقط عنهم الحد بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم مع علمه صلى الله عليه وسلم أنه مغفور لهم أقام عليهم حد الزنى الذي قد غفره الله تعالى لهم . وقد جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسطح بن أثاثة في القذف وهو بدري مغفور له وجلد النعمان في الخمر وهو بدري مغفور له , وجلد عمر - رضي الله عنه - بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - قدامة بن مظعون وهو بدري مغفور له , كل ما فعل في الخمر , ولو تمت الشهادة على المغيرة لحده وهو بدري مغفور له ما قد فعل - فصح أن المغفرة من الله تعالى لا تسقط الحدود الواجبة في الدنيا , ومن خالف هذا وقال : إن التوبة تسقط الحدود كلها خالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا , وقد تقصينا هذا في باب مفرد لذلك قبل هذا بأبواب يسيرة . وأما قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} فلا حجة لهم في هذا أصلا , لأنه ليس فيها إسقاط الحدود على من أبق إليهم , أو ارتد , وإنما فيها : أن المرتد من الكفار , وهذا لا شك

فيه عند مسلم . فإن قالوا : بلى , ولكن لما كان منهم حكم له بحكمهم ؟ قلنا : لهم هذا واضح , وبرهان ذلك : إجماعكم معنا على أن المرتد لا يقر على ردته , بخلاف المشرك الكتابي الذي يقر على كفره إذا أدى الجزية صاغرا وتذمم , وأنه لا يقبل من المرتد جزية أصلا عندكم , وأنه لا تنكح المرتدة بخلاف المشركة الكتابية , وأنه لا تؤكل ذبيحة المرتد بخلاف المشرك الكتابي , ولا يسترق المرتد إن سبي كما يسترق المشرك إن سبي - فقد أقررتم ببطلان قياسكم الفاسد فأبطلتم أن يقاس المرتد على الكافر في شيء من هذه الوجوه , ويلزمكم أن لا تقيسوه عليهم في سقوط الحدود , فهو أحوط لقياسكم , ولاح أنهم في هذه المسألة - لا النص من القرآن والسنة اتبعوا , ولا القياس طردوا , ولا تعلقوا بشيء أصلا - وبالله تعالى التوفيق . وصح أن قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} إنما هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار فقط - وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين . فإن ادعوا أن المرتد لا تقبل منه جزية , ولا تؤكل ذبيحته , ولا يسترق إجماعا : دل ذلك على جهل من ادعى ذلك أو كذبه , فقد صح عن بعض السلف : أخذ الجزية منهم , وعن بعض الفقهاء : أكل ذبيحته إن ارتد إلى دين صابئ . وأبو حنيفة وأصحابه يقولون : إن المرتدة إذا لحقت بأرض الحرب سبيت واسترقت ولم تقتل , ولو أنها هاشمية أو عبشمية . حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الأعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل : أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل أسلم ثم ارتد ؟ فكتب إليه عمر بن عبد العزيز : أن اسأله عن شرائع الإسلام , فإن كان قد عرفها فاعرض عليه الإسلام , فإن أبى فاضرب عنقه , وإن كان لم يعرفها فغلظ عليه الجزية ودعه . قال معمر : وأخبرني قوم من أهل الجزيرة : أن قوما أسلموا ثم لم يمكثوا إلا قليلا حتى ارتدوا ؟ فكتب فيهم ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز فكتب عمر بن عبد العزيز : أن رد عليهم الجزية ودعهم . وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما حديث عمرو بن العاص فهو عليهم أعظم حجة , لأن فيه تسوية النبي صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والهجرة والحج في أن كل واحد منها يهدم ما قبله , وهم لا يختلفون - ولا أحد نعلمه - في أن الحج لا يسقط حدا أصابه المرء قبل حجه ولم يتب منه , ولم تطل مدته دونه , فمن الباطل أن يتحكموا في حكم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيحملوا قوله عليه السلام: "إن الإسلام يهدم ما قبله" على أن الإسلام يسقط

الحدود التي واقعها العبد قبل إسلامه , ويجعل الحج لا يسقطها , وكلا الأمرين جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجيئا واحدا , وأن هذا الخبر ضد قولهم في هذه المسألة , وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما أخبر أن الإسلام يهدم ما قبله , وأن الهجرة تهدم ما قبلها , وأن الحج يهدم ما قبله , فقالوا هم : إن الردة إلى الكفر تهدم ما قبلها من الحدود الواجبة قياسا للكفر على الإسلام , وأن الهجرة إلى الشيطان , واللحاق بدار الكفر وأهل الحرب , تهدم ما قبلها من الحدود , قياسا على الهجرة إلى الله تعالى وإلى دار الإسلام , وأن الحج لا يهدم ما قبله ؟ وهذا عين العناد والخلاف والمكابرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما حديث عمر فإنه لم يتكلم قط في ذلك الخبر في ثبات الحدود أو سقوطها , وإنما تكلم في المغفرة . وإذا قلنا : إن مغفرة الله تعالى للذنوب لا تسقط الحدود الواجبة في تلك الذنوب إلا حيث صح النص , والإجماع بإسقاطها فقط , وليس ذلك إلا في الحربي الكافر يبتدئ الإسلام فقط . ونحن نقول : إن الإسلام والهجرة الصادقة إلى الله تعالى ورسوله عليه السلام وأن الحج المبرور يهدم ما قبله من الذنوب , ومن صفة كل ما ذكرنا من الإسلام الحسن , والهجرة الصادقة - والحج المبرور أن يتوب صاحب هذه الحال عن كل ذنب سلف قبله . برهان ذلك : ما حدثنا به عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد نا إبراهيم بن أحمد نا الفربري نا البخاري نا خلاد بن يحيى نا سفيان بن منصور , والأعمش , كلاهما عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال : "قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ؟ قال : من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية , ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر".
قال أبو محمد رحمه الله: فحكم الإحسان في الإسلام هو التوبة من كل ذنب أسلفه أيام كفره , وأما من أصر على معاصيه : فما أحسن في إسلامه بل أساء فيه , وكذلك من لم يهجر ما نهى الله تعالى عنه , فليس تام الهجرة - وكل حج أصر صاحبه على المعاصي فيه فلم يوف حقه من البر , فليس مبرورا - وبالله تعالى التوفيق .

الاستتابة في الحدود وترك السجن
2171 - مسألة : الاستتابة في الحدود وترك سجنه:
حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج قال : حضرت عبد العزيز بن عبد الله جلد إنسانا الحد في فرية , فلما فرغ من ذلك قال له أبو بكر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن ربيعة : إن من الأمر أن يستتاب عند ذلك , فقال عبد العزيز للمجلود : تب , فحسبته أنه قال : أتوب إلى الله . قال ابن جريج : وأخبرني بعض علماء أهل المدينة أنهم لا يختلفون أنه يستتاب كل من عمل عمل قوم لوط , أو زنى , أو افترى , أو شرب , أو سرق , أو حارب , قال عبد الرزاق : وأخبرني أبو بكر

عن غير واحد عن ابن المسيب أنه قال : سنة الحد أن يستتاب صاحبه إذا فرغ من جلده , قال سعيد بن المسيب : إن قال : قد تبت - وهو غير رضي - لم تقبل شهادته.
قال أبو محمد رحمه الله: وبهذا نقول , لأن التوبة فرض من الله تعالى على كل مذنب , ولأن الدعاء إلى التوبة فرض على كل مسلم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية . وإذا كان هذا الإصرار على الذنب حراما بإجماع الأمة كلها المتيقن : فالتوبة والإقلاع فرض بإجماع الأمة كلها , لا خلاف في ذلك , قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} . وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية .
قال أبو محمد رحمه الله: فلما كانت التوبة من سبيل الله تعالى المفترض سلوكها وكانت من الخير والمعروف : كان فرضا على كل مسلم أن يدعو إليها بالنصوص التي ذكرنا , واستتابة المذنب قبل إقامة الحد عليه واجبة , لقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فالمسارعة إلى الفرض فرض , فإن لم يستتبه الإمام , أو من حضره إلا حتى أقيم عليه الحد , فواجب أن يستتاب بعد الحد - على ما ذكرنا - فإن لم يتب فأقيم عليه استتيب , فإن تاب أطلق , ولا سبيل عليه بحبس أصلا , لأنه قد أخذ حق الله تعالى منه الذي لا حق له قبله سواه , فالزيادة على ذلك تعد لحدود الله تعالى , وهذا حرام .

حكم من قال لا أتوب
2172 - مسألة:حكم من قال لا أتوب
قال أبو محمد رحمه الله: فإن قال : لا أتوب , فقد أتى منكرا , فواجب أن يعزر على ما نذكره في " كتاب التعزير " إن شاء الله تعالى , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". فيجب أن يضرب أبدا حتى يتوب , هذا إن صرح بأن لا يتوب , فإذا أدى ذلك إلى منيته , فذلك عقيرة الله , وقتيل الحق , لا شيء على متولي ذلك , لأنه أحسن فيما فعل به , وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} فإن سكت ولم يقل : أتوب , ولا : لا أتوب , فواجب حبسه وإعادة الاستتابة عليه أبدا حتى ينطق بالتوبة , فيطلق . برهان ذلك : أنه قد صح منه الذنب , ووجبت عليه التوبة , ولا تعرف توبته إلا بنطقه بها , فهو ما لم ينطق بها وبالإصرار : فممكن أن يتوب في نفسه , وممكن أن لا يتوب , فلما كان كلا الأمرين ممكنا لم يحل ضربه , لأنه لم يأت بمنكر تيقن أنه أتى به , ولم يجز تسريحه , لأن فرضا عليه دعاؤه إلى التوبة حتى يتوب , ولا سبيل إلى إمساكه - وبالله تعالى التوفيق وهكذا أبدا متى تاب ثم واقع الذنب أو غيره , فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبران مرسلان في أنه استتاب السارق بعد قطع يده : كما حدثنا حمام

نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن ابن جريج , وسفيان الثوري , ومعمر , قال ابن جريج , وسفيان , كلاهما : عن أبي خصفة , عن محمد بن عثمان بن ثوبان , وقال معمر : عن أيوب السختياني , قال أيوب , وابن ثوبان : "أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم برجل سرق شملة فقيل يا رسول الله هذا سرق ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما إخاله , أسرقت ؟ قال : نعم , قال : فاذهبوا فاقطعوا يده , ثم احسموها , ثم ائتوني به , فأتوه به , فقال : إني أتوب إلى الله , فقال : اللهم تب عليه" . وبه - إلى عبد الرزاق عن معمر عن ابن المنكدر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "قطع رجلا ثم أمر به فحسم قال له تب إلى الله تعالى ؟ فقال : أتوب إلى الله تعالى , فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن السارق إذا قطعت يده وقعت في النار , فإن عاد تبعها , وإن تاب استشالها". قال عبد الرزاق يقول استشالها استرجعها.
قال أبو محمد رحمه الله: هذان مرسلان ولا حجة في مرسل , وإنما الحجة فيما أوردنا من النصوص قبل , وإنما أوردناهما لئلا يموه مموه بما فيهما من الاستتابة بعد القطع - وبالله تعالى التوفيق.

الامتحان في الحدود وغيرها بالضرب أو السجن
2173 ـ مسألة : الامتحان في الحدود , وغيرها : بالضرب , أو السجن أو التهديد ؟ قال علي رحمه الله : لا يحل الامتحان في شيء من الأشياء بضرب , ولا بسجن , ولا بتهديد , لأنه لم يوجب ذلك قرآن , ولا سنة ثابتة , ولا إجماع , ولا يحل أخذ شيء من الدين , إلا من هذه الثلاثة النصوص بل قد منع الله تعالى من ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" . فحرم الله تعالى البشر , والعرض , فلا يحل ضرب مسلم , ولا سبه إلا بحق أوجبه القرآن , أو السنة الثابتة . وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} فلا يحل لأحد أن يمنع مسلما من المشي في الأرض بالسجن بغير حق أوجبه قرآن أو سنة ثابتة . وأما من صح قبله حق ولواه ومنعه , فهو ظالم قد تيقن ظلمه , فواجب ضربه أبدا حتى يخرج مما عليه , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع" ولأمره عليه السلام بجلد عشرة فأقل فيما دون الحد على ما نذكره في " باب التعزير " إن شاء الله تعالى , وإنما هذا فيما صح أنه عنده أو يعلم مكانه , لما ذكرنا . وأما من كلف إقرارا على غيره فقط - وقد علم أنه يعلم الجاني - فلا يجوز تكليفه ذلك , لأنها شهادة , ومن كتم الشهادة فإنه فاسق , لقول الله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . فإذ هو فاسق آثم , فلا ينتفع بقوله , لا يحل قبول شهادته حينئذ , وهو مجرح بذلك أبدا ما لم يتب , فلا

يحل أن يهدد أحد , ولا أن يروع بأن يبعث إلى ظالم يعتدي عليه - وبالله تعالى التوفيق . قال أبو محمد رحمه الله: ولا خلاف في أن كل هذا حرام في الذمي كما هو في المسلم , فإن ضرب حتى أقر , فقد جاء عن بعض السلف في هذا : ما حدثنا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب : أن طارقا كان جعل ثعلبا الشامي على المدينة يستخلفه , فأتى بإنسان اتهم بسرقة , فلم يزل يجلده حتى اعترف بالسرقة , فأرسل إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب فاستفتاه ؟ فقال ابن عمر : لا تقطع يده حتى يبرزها .
قال أبو محمد رحمه الله: أما إن لم يكن إلا إقراره فقط فليس بشيء , لأن أخذه بإقرار هذه صفته لم يوجبها قرآن , ولا سنة , ولا إجماع , وقد صح تحريم بشرته ودمه بيقين , فلا يحل شيء من ذلك إلا بنص أو إجماع فإن استضاف إلى الإقرار أمر يتحقق به يقينا صحة ما أقر به - ولا يشك في أنه صاحب ذلك - فالواجب إقامة الحد عليه , وله القود - مع ذلك - على من ضربه - السلطان كان أو غيره - لأنه ضربه ظالما له دون أن يجب عليه ضرب - وهو عدوان - وقد قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الآية , وليس ظلمه , وما وجب عليه من حد الله تعالى , أو لغيره , بمسقط حقه عند غيره في ظلمه له , بل يؤخذ منه ما عليه , ويعطي هو من غيره . وهكذا قال مالك , وغيره , في السارق يمتحن فيخرج السرقة بعينها : أن عليه القطع إذا كانت مما يقطع فيه , إلا أن يقول : دفعها إلي إنسان أدفعها له , وإنما اعترفت لما أصابني من الضرب : فلا يقطع . قال أبو محمد رحمه الله: وهذا صحيح , وبه يقول . وأما البعثة في المتهم وإيهامه دون تهديد ما يوجب عليه الإقرار فحسن واجب : "كبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف اليهودي - الذي ادعت الجارية التي رض رأسها - فسيق إليه فلم يزل به - عليه السلام - حتى اعترف فأقاد منه". وكما فعل علي بن أبي طالب إذ فرق بين المدعى عليهم القتل وأسر إلى أحدهم , ثم رفع صوته بالتكبير فوهم الآخر أنه قد أقر , ثم دعا بالآخر فسأله فأقر , حتى أقروا كلهم : فهذا حسن , لأنه لا إكراه فيه , ولا ضرب . وقد كره هذا مالك , ولا وجه لكراهيته , لأنه ليس فيه عمل محظور , وهو فعل صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف ينكر ذلك , وإنما الكره . ما حدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد بن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا أبو حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبيه عن الحارث بن سويد عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما من كلام يدرأ عني سوطا أو سوطين عند سلطان إلا تكلمت به.

وعن شريح أنه قال : السجن كره , والوعيد كره , والقيد كره , والضرب كره .
وقال أبو محمد رحمه الله: كل ما كان ضررا في جسم , أو مال , أو توعد به المرء في ابنه , أو أبيه , أو أهله , أو أخيه المسلم , فهو كره , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". ولما روينا من طريق البخاري نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

الشهادة على الحدود
2174 - مسألة : الشهادة على الحدود:
قال علي : نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن علي بن كليب عن أبيه أن علي بن أبي طالب كان يأمر بالشهود إذا شهدوا على السارق أن يقطعوه يلون ذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: ليس هذا بواجب , لأنه لا يوجبه قرآن , ولا سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتة , لكن طاعة الإمام أو أميره واجبة , فإذا أمر الإمام أو أميره الشهود , أو غيرهم أن يقطعه لزمتهم الطاعة وبالله تعالى التوفيق . وبه - إلى وكيع نا إسرائيل عن جابر الجعفي عن الشعبي في رجلين شهدا على ثلاثة أنهم سرقوا , قال : يقطعون . قال علي رحمه الله : وهكذا نقول - ولو شهد عدلان على ألف رجل , أو أكثر , بقتل , أو بسرقة , أو بحرابة , أو بشرب خمر , أو بقذف : لوجب القود , والقطع , والحد - في كل ذلك على جميعهم بشهادة الشاهدين - ولا فرق بين شهادتهما عليهم مجتمعين , وبين شهادتهما على كل واحد منهم على انفراده .
قال أبو محمد رحمه الله: ولو أن عدلين شهدا على عدول بشيء مما ذكرنا وقال المشهود عليهم : نشهد عليهم بكذا وكذا , مثل ما شهد به الشاهدان عليهم أو شيئا آخر ؟ لم يلتفت إلى شهادة المشهود عليهم أصلا - ووجب إنفاذ الحدود والحقوق عليهم بشهادة السابقين إلى الشهادة . برهان ذلك : أن المشهود عليهم بما ذكرنا قد بطلت عدالتهم , وصحت جرحتهم بشهادة العدلين عليهم بما شهدا به , مما يوجب الحد , فإن من ثبت عليه ما يوجب الحد , أو بعض المعاصي التي لا توجب حدا , كالغصب , وغيره : فهو مجرح فاسق بيقين , ولا شهادة لمجرح فاسق أصلا . فلو أن المشهود عليهم صحت توبتهم بعد ما كان منهم : وجب بذلك أن تعود عدالتهم , فإذا كان ذلك كذلك , فإن الشهادتين معا مقبولتان , وينفذ على كلا الطائفتين شهدت به عليها الأخرى , إلا أن كلتا الشهادتين شهادة واجبة قبولها بنص القرآن والسنة

في أمره تعالى بالحكم بشهادة العدول - وبالله تعالى التوفيق . فإن شهدت كلتا الطائفتين على الأخرى معا لم تسبق إحدى الشهادتين الأخرى : إما عند حاكمين , وإما في عقدين عند حاكم واحد , فهما أيضا شهادتان قائمتان صحيحتان , فإن كلتا الشهادتين تبطل بيقين لا شك فيه , لأنه ليست إحداهما بأولى بالقبول من الأخرى , فلو قبلناهما معا , لكنا قد صرنا موقنين بأننا ننفذ الشهادة الآن دأبا حكما بشهادة فساق , لأن كل شهادة منهما توجب الفسق والجرحة على الأخرى , والمنع من قبول الشهادة الأخرى . ولو حكمنا بإحدى الشهادتين على الأخرى مطارفة لكان هذا عين الظلم والجور , إذ لم يوجب ترجيح إحداهما على الأخرى نص ولا إجماع , ومن أراد أن يرجح الشهادة هاهنا بأعدل البينتين , أو بأكثرهما عددا : فهو خطأ من القول , لأنه لم يوجب الله تعالى قط شيئا من ذلك , ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أجمعت الأمة عليه , والحكم بمثل هذا لا يجوز .

حكم من شهد في حد بعد حين
2175 - مسألة : من شهد في حد بعد حين:
قال أبو محمد رحمه الله: نا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية ثنا وكيع نا مسعر بن كدام عن أبي عون - هو محمد بن عبد الله الثقفي - قال عمر بن الخطاب : من شهد على رجل بحد لم يشهد به حين أصابه , فإنما يشهد على ضغن . قال علي : نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : بلغني عن ربيعة أنه قال في رجل زنى في صباه واطلع على ذلك رهط عدول , فلم يرفعوا أمره , ولبث بذلك سنين , وحسنت حالته , ثم نازع رجلا فرماه بذلك , وأتى على ذلك بالبينة واعترف , فإنه يرجم , لا يضع الحد عن أهله طول زمان , ولا أن يحدث صاحب ذلك حسن هيئة - قال ابن وهب : يريد بصباه : سفهه بعد الاحتلام . قال أبو محمد رحمه الله: وقال أبو حنيفة , وأصحابه : إن شهد أربعة عدول أحرار مسلمون بالزنى بعد مدة فلا حد عليه . قال أبو يوسف : مقدار المدة المذكورة شهر واحد . وقالوا : إن شهد عليه عدلان مسلمان حران بسرقة بعد مدة فلا قطع عليه , لكن يضمن ما شهد عليه بأنه سرقه . ولو شهدا عليه بشرب خمر , فإن كانت الشهادة وريح الخمر توجد منه , أو وهو سكران - : أقيم عليه الحد - وإن كانت تلك الشهادة بعد ذهاب الريح أو السكر , فلا حد عليه إلا أن يكونوا حملوه إلى الإمام في مصر آخر , فزال الريح أو السكر في الطريق : فإنه يحد . ولو شهد عليه بعد مدة طويلة بقذف أو جراحة حد للقذف , ووجب عليه حكم تلك الجراحة . وقال الشافعي , وأصحابه , وأصحابنا : يقام عليه الحد في كل ذلك . وقال الأوزاعي , والليث , والحسن بن حي مثل ذلك.

قال أبو محمد رحمه الله: وإذ قد بلغنا هاهنا فلنتكلم - بعون الله تعالى - في حكم من اطلع على حد , أهو في حرج إن كتم الشهادة أم في سعة من ذلك ؟ فنقول : قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} . وقال تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} . وقال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} . ووجدنا ما روينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث - هو ابن سعد - عن عقيل عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته , ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها عنه كربة من كرب يوم القيامة , ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة".
قال أبو محمد رحمه الله: فوجب استعمال هذه النصوص كلها , فنظرنا في ذلك : فوجدنا العمل في جمعها - الذي لا يحل لأحد غيره - لا يخلو من أحد وجهين : إما أن يخص عموم الآيات المذكورة بالخبر المذكور , وإما أن يخص عموم الخبر المذكور بالآيات المذكورات , إذ لا يمكن ألبتة غير هذا ولا بد من أحد العملين , فإن خصصنا عموم الآيات بالخبر كان القول في ذلك أن القيام بالشهادات كلها , والإعلان بها فرض , إلا ما كان منها ستر المسلم في حد من الحدود , فالأفضل الستر , وإن خصصنا عموم الخبر بالآيات كان القول في ذلك أن الستر على المسلم حسن , إلا ما كان من أداء الشهادات فإنه واجب . فنظرنا : أي هذين العملين هو الذي يقوم البرهان على صحته فيؤخذ به , إذ لا يحل أخذ أحدهما مطارفة دون الآخر , ولا يجوز أن يكونا جمعا جميعا , بل الحق في أحدهما بلا شك . فنظرنا في ذلك - بعون الله تعالى - فوجدنا الستر على المسلم الذي ندبنا إليه في الحديث لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما : إما يستره ويستر عليه في ظلم يطلب به المسلم , فهذا فرض واجب , وليس هذا مندوبا إليه , بل هو كالصلاة والزكاة . وإما أن يكون في الذنب يصيبه المسلم ما بينه وبين ربه تعالى , ولم يقل أحد من أهل الإسلام بإباحة الستر على مسلم في ظلم ظلم به مسلما , كمن أخذ مال مسلم بحرابة واطلع عليه إنسان , أو غصبه امرأته , أو سرق حرا , وما أشبهه , فهذا فرض على كل مسلم أن يقوم به حتى يرد الظلامات إلى أهلها ؟ فنظرنا في الحديث المذكور فوجدناه ندبا لا حتما , وفضيلة لا فرضا , فكان الظاهر منه أن للإنسان أن يستر على المسلم يراه على حد بهذا الخبر , ما لم يسأل عن تلك الشهادة نفسها , فإن سئل عنها ففرض عليه إقامتها وأن لا يكتمها , فإن كتمها حينئذ فهو عاص لله تعالى . وصح بهذا اتفاق الخبر مع الآيات , وأن إقامة الشهادة لله تعالى , وتحريم

كتمانها , وكون المرء ظالما بذلك , فإنما هو إذا دعي فقط , لا إذا لم يدع , كما قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} . ثم نظرنا في الخبر المذكور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي حدثناه حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا إبراهيم بن محمد نا يحيى بن يعمر نا ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن أبي عمرة الأنصاري - هو عبد الرحمن بن زيد بن خالد - أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها , أو يخبر بشهادته قبل أن يسألها".
قال أبو محمد رحمه الله: فكان هذا عموما في كل شهادة في حد أو غير حد , ووجدنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فسوى الله تعالى بين وجوب أداء المرء الشهادة على نفسه , وعلى والديه , وأقاربه , والأباعد , فوجب من هذه النصوص أن الشهادة لا حرج على المرء في ترك أدائها ما لم يسألها - حدا كان أو غيره - فإذا سئلها ففرض عليه أداؤها - حدا أو غيره وأن من كان لإنسان عنده شهادة , والمشهود له لا يدري بها - : ففرض عليه إعلامه بها , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه , ولأئمة المسلمين , وعامتهم" فإن سأله المشهود أداءها لزمه ذلك فرضا , لما ذكرنا قبل من قول الله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} وإن لم يسأل لم يلزمه أن يؤديها - وبالله تعالى التوفيق . وأما من كانت عنده شهادة على إنسان بزنى , فقذف ذلك الزاني إنسان فوقف القاذف على أن يحد للمقذوف , ففرض على الشاهد على المقذوف الزاني أن يؤدي الشهادة ولا بد , سئلها أو لم يسألها - علم القاذف بذلك أو لم يعلم - وهو عاص لله تعالى إن لم يؤدها حينئذ , لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه". ولقوله عليه السلام: "انصر أخاك ظالما كان أو مظلوما". فهذا إذا أدى الشهادة التي عنده بصحة ما قذف به , معين على إقامة حد بحق غير ظالم به , معين على البر والتقوى - وإن لم يؤدها : معين على الإثم والعدوان , وهو ظالم قد أسلمه للظلم , إذ تركه يضرب بغير حق . فإن ذكروا : ما ناه يوسف بن عبد الله وغيره قالوا : حدثنا محمد بن الجسور ثنا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس حدثنا يحيى بن بكير نا مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: "إن رجلا من أسلم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال : إن الآخر زنى , فقال له أبو بكر : هل ذكرت ذلك لغيري ؟ فقال : لا , قال أبو بكر : فتب إلى الله , واستتر بستر الله , فإن الله يقبل التوبة عن

عباده , فلم تقر نفسه حتى أتى عمر بن الخطاب , فقال له كما قال لأبي بكر , فقال له عمر كما قال له أبو بكر فلم تقر نفسه حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن الآخر زنى , قال سعيد بن المسيب : فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا - كل ذلك يعرض عنه - حتى إذا أكثر عليه ؟ بعث إلى أهله , فقال : أيشتكي , أبه جنة ؟ فقالوا : لا , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكر أم ثيب ؟ فقالوا : بل ثيب - : فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجم . قال سعيد : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أسلم يقال له هزال : لو سترته بردائك لكان خيرا لك". قال يحيى : فذكرت هذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الأسلمي ؟ فقال يزيد هزال جدي - وهذا الحديث حق قال علي : فإن هذا الحديث مرسل لم يسنده سعيد , ولا يزيد بن نعيم ولا حجة في مرسل , ولو انسند لما خرج منه إلا أن الستر , وترك الشهادة أفضل فقط - هذا على أصول القائلين بالقياس إذا سلم لهم - وبالله تعالى التوفيق.

حكم اختلاف الشهود في الحدود
2176 - مسألة : اختلاف الشهود في الحدود:
قال أبو محمد: فلما اختلفوا في ذلك , فنظرنا في ذلك , فالذي نقول به : أن كل ما تمت به الشهادة , ووجب القضاء بها , فإن كل ما زاده الشهود على ذلك فلا حكم له , ولا يضر الشهادة اختلافهم , كما لا يضرها سكوتهم عنه - وأن كل ما لا تتم الشهادة إلا به - : فهذا هو الذي يفسدها اختلافهم , فالشهادة إذا تمت من أربعة عدول بالزنى على إنسان بامرأة يعرفونها أجنبية , لا يشكون في ذلك , ثم اختلفوا في المكان , أو في الزمان , أو في المزني بها , فقال بعضهم : أمس بامرأة سوداء , وقال بعضهم : بامرأة بيضاء اليوم - : فالشهادة تامة , والحد واجب , لأن الزنى قد تم عليه , ولا يحتاج في الشهادة إلى ذكر مكان ولا زمان , ولا إلى ذكر التي زنى بها - فالسكوت عن ذكر ذلك وذكره سواء - وكذلك في السرقة , ولو قال أحدهما : أمس , وقال الآخر : عام أول , أو قال أحدهما : بمكة , وقال الآخر : ببغداد , فالسرقة قد صحت , وتمت الشهادة فيها - ولا معنى لذكر المكان , ولا الزمان , ولا الشيء المسروق منه - سواء اختلفا فيه , أو اتفقا فيه , أو سكتا عنه , لأنه لغو , وحديث زائد , ليس من الشهادة في شيء . وكذلك في شرب الخمر , وفي القذف : فالحد قد وجب , ولا معنى لذكر المكان , والمقذوف في ذلك , والمسكوت عنه وذكره , والاتفاق عليه والاختلاف فيه سواء.
قال أبو محمد رحمه الله: ومن ادعى الخلاف في ذلك ؟ فيلزمه أن يراعي اختلاف الشهود في لباس الزاني , والسارق , والشارب , والقاذف , فإن قال أحدهما : كان في رأسه قلنسوة , وقال الآخر : عمامة , أو قال أحدهما : كان عليه ثوب أخضر , وقال الآخر : بل أحمر , وقال أحدهما : في غيم , وقال الآخر : في صحو - فهذا كله لا معنى له . فإن قال قائل : إن الغرض

في مراعاة الاختلاف إنما هو أن تكون الشهادة على عمل واحد فقط , وإذا اختلفوا في المكان , أو الزمان , أو المقذوف , أو المزني بها , أو المسروق منه , أو الشيء المسروق : فلم يشهدوا على عمل واحد ؟ قلنا : من أين وقع لكم أن تكون الشهادة في كل ذلك على عمل واحد , وأي قرآن , أو سنة , أو إجماع أوجب ذلك ؟ وأي نظر أوجبه ؟ وهذا ما لا سبيل إلى وجوده , بل الغرض إثبات الزنى المحرم , والقذف المحرم , والسرقة المحرمة , والشرب المحرم , والكفر المحرم فقط , ولا مزيد , وبيان ذلك : قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الآية . فصح بهذه الآية : أن الواجب إنما هو إثبات الزنى فقط , وهو الذي رماها به , ولا معنى لذكره التي رماها ولا سكوته عنه , فليس عليه أن يأتي بأكثر من أربعة شهداء : على أن الذي رماها به من الزنى حق , ولا نبالي عملا واحدا كان أو أربعة أعمال , لأن كل ذلك زنا . وكذلك إن شهد عليه بالقذف لمحصنة , فقد ثبت عليه بالقرآن ثمانون جلدة , ولم يحد الله تعالى أن يكون في الشهادة ذكر الزمان , ولا ذكر المكان فالزيادة لهذا باطل بيقين , لأن الله تعالى لم يأمر به , ولا بمراعاته . وكذلك قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فحسبنا , وصحة الشهادة بأنها سارقة , أو أنه سارق , ولم نجد الله تعالى ذكر الزمان , أو المكان , أو المسروق منه , أو الشيء المسروق , فمراعاة ذلك باطل بيقين لا شك فيه . وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب الخمر فاجلدوه" فأوجب الجلد بشرب الخمر , فإذا صحت الشهادة بشرب الخمر فقد وجب الحد , بنص أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك , ولا معنى لمراعاة ذكر مكان , أو زمان , أو صفة الخمر , أو صفة الإناء - إذ لم يأت نص بذلك عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم فمراعاة ذلك باطل بلا شك - والحمد لله رب العالمين .
قال أبو محمد:وقد جاء نحو ذلك عن السلف : كما حدثنا عبد الله بن ربيع حدثنا ابن مفرج حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا سحنون حدثنا ابن وهب أنا السري بن يحيى قال : حدثنا الحسن البصري قال : شهد الجارود على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر - وكان عمر قد أمر قدامة على البحرين - فقال عمر للجارود : من يشهد معك ؟ قال : علقمة الخصي ؟ فدعا علقمة , فقال له عمر : بم تشهد ؟ فقال علقمة : وهل تجوز شهادة الخصي ؟ قال عمر : وما يمنعه أن تجوز شهادته إذا كان مسلما , قال علقمة : رأيته يقيء الخمر في طست , قال عمر : فلا وربك ما قاءها حتى شربها : فأمر به فجلد الحد , فهذا حكم عمر بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - لا يعرف له منهم مخالف في إقامة

الحد بشهادتين مختلفتين إحداهما : أنه رآه يشرب الخمر , والأخرى : أنه لم يره يشربها , لكن رآه يتقيؤها - وعهدناهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم , وهم هاهنا قد خالفوا عمر بن الخطاب , والجارود , وجميع من بحضرتهما من الصحابة , فلا مؤنة عليهم - وحسبنا الله ونعم الوكيل .

الاقرار بالحد بعد مدة
2177 - مسألة : الإقرار بالحد بعد مدة وأيهما أفضل الإقرار أم الاستتار به:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في ذلك , فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه لنعلم الحق من ذلك فنتبعه - بعون الله تعالى - : فنظرنا فيما احتجت به الطائفة المختارة للستر , وأن جميع الأمة متفقون على أن الستر مباح , وأن الاعتراف مباح , إنما اختلفوا في الأفضل , ولم يقل أحد من أهل الإسلام : إن المعترف بما عمل مما يوجب الحد : عاص لله تعالى في اعترافه , ولا قال أحد من أهل الإسلام قط : إن الساتر على نفسه ما أصاب من حد : عاص لله تعالى : فنظرنا في تلك الأخبار التي جاءت في ذلك فوجدناها كلها لا يصح منها شيء , إلا خبرا واحدا في آخرها , لا حجة لهم فيه , على ما نبين إن شاء الله تعالى . وأما خبر هزال الذي صدرنا به من طريق شعبة عن محمد بن المنكدر عن ابن هزال عن أبيه : فمرسل , فلا حجة فيه ; لأنه مرسل . وكذلك الذي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن سعيد عن ابن المنكدر - ويزيد بن النعيم أيضا مرسل . وكذلك حديث مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري : مرسل أيضا . وحديث الليث عن يحيى بن سعيد مرسل أيضا - فبطل الاحتجاج برواية يحيى بن سعيد - وبالله تعالى التوفيق . ثم نظرنا في هذا الخبر من طريق عكرمة بن عمار , فوجدناه لا حجة فيه لوجهين : أحدهما : أنه مرسل , والثاني : أن عكرمة بن عمار ضعيف . ثم نظرنا فيه من طريق حبان بن هلال عن أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن يزيد بن نعيم بن هزال الأنصاري عن عبد الله بن دينار فوجدناه أيضا مرسلا . ثم نظرنا فيه من طريق ابن جريج عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبد الله بن دينار : فوجدناه أيضا مرسلا . ثم نظرنا فيه من رواية معمر عن أيوب السختياني عن حميد بن هلال : فوجدناه أيضا مرسلا . ثم نظرنا فيه من رواية الحبلي عن أبي قلابة - فوجدناه مرسلا . وأما حديث حماد بن سلمة , ففيه أبو المنذر لا يدرى من هو - وأبو أمية المخزومي ولا يدرى من هو ؟ وهو أيضا مرسل , وحتى لو صح هذا الخبر لما كان لهم فيه حجة , لأنه ليس فيه إلا: "ما إخالك سرقت" ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق - فلو صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للذي سيق إليه بالسرقة: "ما إخالك سرقت" لكنا على يقين من أنه عليه السلام قد صدق

ذلك , وأنه على الحقيقة يظن أنه لم يسرق , وليس في هذا تلقين له , ولا دليل على أن الستر أفضل - فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة . وأما حديث مسلم في الإجهاد فلا حجة فيه لوجهين : أحدهما : أنه من رواية محمد بن عبد الله بن أخي الزهري , وهو ضعيف . والثاني : أنه لو صح لما كانت لهم فيه حجة أصلا , لأن الإجهاد المذكور إنما هو ما ذكره المرء مفتخرا به , لأنه ليس في هذا الخبر أنه يخبر به الإمام معترفا ليقام عليه كتاب الله تعالى , وإنما فيه ذم المجاهرة بالمعصية - وهذا لا شك فيه حرام . ثم نظرنا في حديث مسلم الذي رواه ابن شهاب عن أبي سلمة , وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عن المعترف مرات" فوجدناه صحيحا لا داخلة فيه لأحد , إلا أنه لا حجة لهم فيه , لأن الناس في سبب إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه على قولين : فطائفة قالت : إنما أعرض عنه , لأن الإقرار بالزنى لا يتم إلا بتمام أربع مرات , وطائفة قالت : إنما أعرض عنه - عليه السلام - لأنه ظن أن به جنونا , أو شرب خمرا - ولم يقل أحد من الأمة : أن الحاكم إذا ثبت عنده الإقرار بالحد جاز له أن يستره ولا يقيمه - فبطل تعلقهم بهذا الخبر , وسنستقصي الكلام في تصحيح أحد هذين الوجهين بعد هذا - إن شاء الله تعالى.
قال أبو محمد: فلم يبق لهذه الطائفة خبر يتعلقون به أصلا ؟ ثم نظرنا فيما روي في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - فوجدناه أيضا لا يصح منه شيء : أما الرواية عن أبي بكر , وعمر - رضي الله عنهما - في قولهما للأسلمي : استتر بستر الله , فلا تصح , لأنها عن سعيد بن المسيب مرسلة . وكذلك حديث إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن : أن أبا بكر فهو مرسل .
قال أبو محمد: ثم نظرنا فيما احتجت به الطائفة الأخرى , فوجدنا الرواية عن الصحابة أن الطائفة منهم قالت : ما توبة أفضل من توبة ماعز : جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده وقال : اقتلني بالحجارة . فصح هذا من قول طائفة عظيمة من الصحابة - رضي الله عنهم - بل لو قلنا : إنه لا مخالف لهذه الطائفة من الصحابة - رضي الله عنهم - لصدقنا , لأن الطائفة الأخرى لم تخالفها , وإنما قالت : لقد هلك ماعز , لقد أحاطت به خطيئته - فإنما أنكروا أمر الخطيئة لا أمر الاعتراف , فوجدنا تفضيل الاعتراف لم يصح عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم - خلافه . ثم نظرنا فيما احتجوا به من الآثار : فوجدناها في غاية الصحة والبيان , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمد توبة ماعز ,

والغامدية , وذكر عليه السلام : أن توبة ماعز لو قسمت بين أمة لوسعتهم - وأن الغامدية لو تاب توبتها صاحب مكس لغفر له - وأن الجهينية لو قسمت توبتها بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم , ثم رفع - عليه السلام - الإشكال جملة , فقال : إنها لم تجد أفضل من أن جادت بنفسها لله . فصح يقينا أن الاعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الاستتار له بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا أفضل من جود المعترف بنفسه لله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: ومن البرهان على ذلك أيضا . ما رويناه من طريق مسلم أنا يحيى بن يحيى , وأبو بكر بن أبي شيبة , وعمرو الناقد , وإسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - ومحمد بن عبد الله بن نمير كلهم عن سفيان بن عيينة - واللفظ لعمرو , قال سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس , فقال : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا , ولا تزنوا , ولا تسرقوا , ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق , فمن وفى منكم فأجره على الله , ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له , ومن أصاب شيئا فستره الله عليه , فأمره إلى الله , إن شاء عفا عنه , وإن شاء عذبه".
قال علي رحمه الله : فارتفع الإشكال جملة - والحمد لله رب العالمين - وصح بنص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلامه أمته , ونصيحته إياهم بأحسن ما علمه ربه تعالى , أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى - إن شاء عذبه وإن شاء غفر له - وأن من أقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب , وكفره الله تعالى عنه - وبالضرورة ندري : أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في إمكانها أو عذاب الآخرة , وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار ؟ - نعوذ بالله منها - فكيف من أكثر من ذلك ؟
قال أبو محمد رحمه الله: فصح أن اعتراف المرء بذنبه عند الإمام أفضل من الستر بيقين , وأن الستر مباح بالإجماع - وبالله تعالى التوفيق.

حكم تعافي الحدود قبل بلوغها الى الحاكم
2178 - مسألة : تعافوا الحدود قبل بلوغها إلى الحاكم:
قال أبو محمد رحمه الله: أنا عبد الله بن ربيع أنا عمر بن عبد الملك أنا محمد بن بكر أنا أبو داود أنا سليمان بن داود المهري نا ابن وهب سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله عمرو بن العاص " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب". نا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن وضاح نا سحنون نا ابن وهب قال : سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب

عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبي نا محمد بن جعفر نا سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة عن عطاء بن أبي رباح عن طارق بن مرقع عن صفوان بن أمية: "أن رجلا سرق بردة فرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فأمر بقطعه , فقال : يا رسول الله قد تجاوزت عنه , قال فلولا كان هذا قبل أن تأتيني به يا أبا وهب - فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا هلال بن العلاء الرقي نا حسين نا زهير نا عبد الملك - هو ابن أبي بشير - أنا عكرمة عن صفوان بن أمية أنه طاف بالبيت فصلى ثم لف رداء له في برده فوضعه تحت رأسه فنام , فأتاه لص فاستله من تحت رأسه , فأخذه فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هذا سرق ردائي ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أسرقت رداء هذا ؟ قال : نعم , قال : اذهبا به فاقطعا يده - قال صفوان : ما كنت أريد أن تقطع يده في ردائي ؟ قال : فلو ما كان هذا قبل". نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب نا أحمد بن عثمان بن حكيم نا عمرو عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان عن صفوان بن أمية , قال: "كنت نائما في المسجد على خميصة لي ثمن ثلاثين درهما , فجاء رجل فاختلسها مني , فأخذ الرجل فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع , فأتيته فقلت له : تقطعه من أجل ثلاثين درهما , أنا أضعه وأنسئه ثمنها ؟ قال : فهلا كان هذا قبل أن تأتيني به ؟". نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار المكي حدثه: "أنه قيل لصفوان بن أمية : لا دين لمن لم يهاجر ؟ فأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليه , فقال : ما أقدمك , قال : قيل لي : إنه لا دين لمن لم يهاجر , قال فأقسمت عليك لترجعن إلى أباطيح مكة - ثم جيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل فقال : إن هذا سرق خميصتي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقطعوا يده - قال : عفوت عنه يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتيني به ؟". نا يوسف بن عبد الله نا أحمد بن محمد بن الجسور نا قاسم بن أصبغ نا مطرف بن قيس نا يحيى بن بكير نا مالك نا ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أن صفوان بن أمية , قيل له: "إنه من لم يهاجر هلك , فقدم صفوان بن أمية المدينة فنام في المسجد , وتوسد رداءه , فجاء سارق فأخذ رداءه , فأخذ صفوان السارق , فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده , فقال صفوان : إني لم أرده بهذا , هو عليه صدقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتيني به".

قال أبو محمد رحمه الله: وجاء فيه أيضا عن بعض السلف كما رويناه بالسند المذكور إلى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن الزبير بن العوام لقي رجلا قد أخذ سارقا وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان ؟ فشفع له الزبير ليرسله , فقال : لا , حتى أبلغ به إلى السلطان , فقال له الزبير : إذا بلغت به إلى السلطان فلعن الله الشافع والمشفع
قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجدناها لا يصح منها شيء أصلا : أما الأول فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عمرو , وهي صحيفة . وأما حديث صفوان فلا يصح فيه شيء أصلا , لأنها كلها منقطعة , لأنها عن عطاء , وعكرمة , وعمرو بن دينار , وابن شهاب , وليس منهم أحد أدرك صفوان . وأما عن عطاء عن طارق بن مرتفع وهو مجهول , أو عن أسباط عن سماك عن حميد بن أخت صفوان وهذا ضعيف عن ضعيف عن مجهول . قال علي : فإذ ليس في هذا الباب أثر يعتمد عليه , فالمرجوع إليه هو طلب حكم هذه المسألة من غير هذه الآثار : فنظرنا في ذلك فوجدنا قد صح بالبراهين التي قد أوردنا قبل : أن الحد لا يجب إلا بعد بلوغه إلى الإمام وصحته عنده . فإذ الأمر كذلك فالترك لطلب صاحبه قبل ذلك مباح , لأنه لم يجب عليه فيما فعل حد بعد - ورفعه أيضا مباح , إذ لم يمنع من ذلك نص أو إجماع , فإذ كلا الأمرين مباح , فالأحب إلينا - دون أن يفتى به - أن يعفى عنه ما كان وهلة ومستورا , فإن أذى صاحبه وجاهر : فرفعه أحب إلينا - وبالله تعالى التوفيق.

هل تدرأ الحدود بالشبهات أم لا
2179 - مسألة : هل تدرأ الحدود بالشبهات أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: ذهب قوم إلى أن الحدود تدرأ بالشبهات , فأشدهم قولا بها واستعمالا لها أبو حنيفة , وأصحابه , ثم المالكيون , ثم الشافعيون . وذهب أصحابنا إلى أن الحدود لا يحل أن تدرأ بشبهة , ولا أن تقام بشبهة وإنما هو الحق لله تعالى ولا مزيد , فإن لم يثبت الحد لم يحل أن يقام بشبهة , لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" وإذا ثبت الحد لم يحل أن يدرأ بشبهة لقول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر في اللفظ الذي يتعلق به من تعلق أيصح أم لا ؟ فنظرنا فيه فوجدناه قد جاء من طرق ليس فيها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نص , ولا كلمة , إنما هي عن بعض أصحاب من طرق كلها لا خير فيها

كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب قال : ادرءوا الحدود ما استطعتم وبه - إلى سفيان الثوري عن القاسم بن عبد الرحمن قال قال ابن مسعود : ادرءوا الحدود ما استطعتم وعن أبي هريرة ادفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا عن ابن عمر قال : ادفعوا الحدود بالشبهات وعن عائشة ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم وعن عمر بن الخطاب , وابن مسعود كانا يقولان : ادرءوا عن عباد الله الحدود فيما شبه عليكم.
قال أبو محمد رحمه الله: وهي كلها لا شيء : أما من طريق عبد الرزاق فمرسل , والذي من طريق عمر كذلك , لأنه عن إبراهيم عن عمر ولم يولد إبراهيم إلا بعد موت عمر بنحو خمسة عشر عاما والآخر الذي عن ابن مسعود مرسل , لأنه من طريق القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود وأما أحاديث ابن حبيب ففضيحة , لو لم يكن فيها غيره لكفى فكلها مرسلة قال أبو محمد رحمه الله: فحصل مما ذكرنا أن اللفظ الذي تعلقوا به لا نعلمه روي عن أحد أصلا , وهو ادرءوا الحدود بالشبهات لا عن صاحب , ولا عن تابع إلا الرواية الساقطة التي أوردنا من طريق إبراهيم بن الفضل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر , وإبراهيم ساقط وإنما جاء كما ترى عن بعض الصحابة مما لم يصح ادرءوا الحدود ما استطعتم وهذا لفظ إن استعمل أدى إلى إبطال الحدود جملة على كل حال - وهذا خلاف إجماع أهل الإسلام , وخلاف الدين , وخلاف القرآن , والسنن , لأن كل أحد هو مستطيع على أن يدرأ كل حد يأتيه فلا يقيمه فبطل أن يستعمل هذا اللفظ وسقط أن تكون فيه حجة لما ذكرنا وأما اللفظ الآخر في ذكر الشبهات ؟ فقد قلنا : " ادرءوا " لا نعرفه عن أحد أصلا , إلا ما ذكرنا مما لا يجب أن يستعمل فقط ; لأنه باطل لا أصل له , ثم لا سبيل لأحد إلى استعماله , لأنه ليس فيه بيان ما هي تلك " الشبهات " فليس لأحد أن يقول في شيء يريد أن يسقط به حدا " هذا شبهة " إلا كان لغيره أن يقول : ليس بشبهة , ولا كان لأحد أن يقول في شيء لا يريد أن يسقط به حدا : ليس هذا شبهة , إلا كان لغيره أن يقول : بل هو شبهة , ومثل هذا لا يحل استعماله في دين الله تعالى , إنه لم يأت به قرآن , ولا سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولا قول صاحب , ولا قياس , ولا معقول , مع الاختلاط الذي فيه كما ذكرنا - وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد رحمه الله: فإن شغب مشغب بما رويناه من طريق البخاري

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك , ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان , والمعاصي حمى الله , من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه" فإن هذا صحيح , وبه نقول , وهو عليهم لا لهم , لأنه ليس فيه إلا ترك المرء ما اشتبه عليه , فلم يدر ما حكمه عند الله تعالى في الذي له تعبدنا به , وهذا فرض لا يحل لأحد مخالفته وهكذا نقول : إن من جهل - أحرام هذا الشيء أم حلال ؟ فالورع له أن يمسك عنه , ومن جهل أفرض هو أم غير فرض ؟ فحكمه أن لا يوجبه , ومن جهل أوجب الحد أم لم يجب ؟ ففرضه أن لا يقيمه , لأن الأعراض والدماء حرام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" وأما إذا تبين وجوب الحد فلا يحل لأحد أن يسقطه , لأنه فرض من فرائض الله تعالى.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم أحدا أشد جسرا على إقامة الحد بالشبهات وحيث لا تجب إقامتها منهم , ثم يسقطونها حيث أوجبها الله تعالى ورسوله عليه السلام , ونحن ذاكرون من ذلك طرفا كافيا إن شاء الله تعالى , فأول ذلك النفس التي عظم الله تعالى أمرها وحرم قتلها إلا بالحق فأما المالكيون - فقتلوا النفس المحرمة بدعوى من لعله يريد أن يشفي نفسه من عدوه مع أيمان رجلين من عشيرته وإن كانا أفسق البرية , وهم لا يعطونه بدعواه نواة معفونة , ولو حلفوا مع دعواه ألف يمين وكانوا أصلح البرية , هذا سفك الدم المحرم بالشبهة الفاسدة التي لا شبهة أبرد منها ويقتلون بشهادة اللوث غير العدل والقسامة , ولا يعطون بشهادتهم فلسين , ويقتلون الآبي عن الصلاة إن أقر بها , وأنها فرض , ويقتلون الممسك آخر حتى قتل , ولا يحدون الممسك امرأة حتى يزنى بها , ويقتلون الساحر دون استتابة , وإنما هي حيل , وكبيرة كالزنى , ولا يقتلون آكل الربا , وقول الله تعالى فيه أشد من قوله في الساحر , ويقتلون المستتر بالكفر - ولا يدرءون عنه بإعلانه التوبة , ولا يقتلون المعلن بالكفر إذا أظهر التوبة , ولا فرق , ويقتلون المسلم بالكافر إذا قتله غيلة , ولا يجيزون في ذلك عفو الولي - وهذا خلاف القرآن , والسنة , وإقامة الحدود بالشبهة الفاسدة , ويجلدون القاتل المعفو عنه مائة جلدة , وينفونه سنة وأما الحنفيون - فيقتلون المسلم بالكافر خلافا على الله تعالى , وعلى رسوله عليه السلام , ومحافظة لأهل الكفر , ولا يقتلون الكافر إذا سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحضرة أهل الإسلام في أسواقهم ومساجدهم , ولا يقتلون من أهل الكفر من سب الله تعالى جهارا بحضرة المسلمين - وهذه أمور نعوذ بالله منها - ويقتلون الذمي الذي قد حرم دمه إلا بالحق بشهادة كافرين وأما الزنى : فإن المالكيين - يحدون بالحبل ولعله من

إكراه - ويرجمون المحصن إذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها , أو فعل فعل قوم لوط - محصنا كان أو غير محصن - ولا يحدون واطئ البهيمة - ولا المرأة تحمل على نفسها كلبا - وكل ذلك إباحة فرج بالباطل , ولا يحدون التي تزني - وهي عاقلة بالغة مختارة - بصبي لم يبلغ , ويحدون الرجل إذا زنى بصبية من سن ذلك الصبي وأن ابن القاسم لا يحد النصراني , ولا اليهودي , إذا زنى بمسلمة , ويطلقون الحربي النازل عندنا بتجارة , والمتذمم يغرم الجزية على تملك المسلمات اللواتي سباهن قبل نزوله , وتذممه من حرائر المسلمات من القرشيات والأنصاريات , وغيرهن , وعلى وطئهن , وبيعهن صراحا مباحا - وهذه قولة ما سمع بأفحش منها ؟

بيان ان المالكيين يقطعون في السرقة الرجلين
2180 - مسألة: وأما السرقة: فإن المالكيين يقطعون فيها الرجلين:
بلا نص ثابت ولا إجماع , ويقطعون من دخل منزل إنسان فأخرج منه ما يساوي ثلاثة دراهم , وقال : إن صاحب الدار أرسلني في هذه الحاجة وصدقه صاحب الدار , ولا يلتفتون إلى شيء من هذا , أو يقطعون يده مطارفة , ويقطعون جماعة سرقت ربع دينار فقط , ورأوا - في أحد أقوالهم - أنه إذا غلط بالسارق فقطعت يساره أنه تقطع اليد الأخرى - فقطعوا يديه جميعا في سرقة واحدة , وما عين الله تعالى قط يمنى من يسرى , والحنفيون يقطعون فيها الرجل بعد اليد بغير نص ولا إجماع وأما القذف : فإن المالكيين يحدون حد القذف , في التعريض , ويسقطون جميع الحدود بالقتل حاشا حد القذف , فإن كانوا يسقطون سائر الحدود بالشبهة , فما بالهم لا يسقطون حد القذف أيضا بالشبهة ؟ وقالوا : إنما فعلنا ذلك خوف أن يقال للمقذوف : لو لم يكن الذي قذفك صادقا لحد لك , ففي أي دين وجدوها من قرآن أو سنة أو قياس ؟ ويحدون شارب الخمر , ولو جرعة منه خوف أن يقذف أحدا بالزنى , وهو لم يقذف أحدا بعد , فأي عجب في إقامة الحدود بلا شبهة , ويتعلقون برواية ساقطة عن بعض الصحابة , قد أعاذهم الله تعالى من مثلها ويحدون من قال لآخر : لست ابن فلان إذا نفاه عن أبيه ويحدون من قذف امرأته بإنسان سماه , وإن لاعن امرأته , وهذا خلاف لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجرد ويحدون من قذف إنسانا نكح نكاحا فاسدا لا يحل مثله , وهو عالم بالتحريم - هذا وهم يحدون من قذف امرأة مسلمة ظهر بها حمل , وهم يقرون أنهم لا يحلفون , ولا يقطعون أنه من زنى , ومنهم من يرى الحد على من قال لآخر : زنت عينك , أو زنت يدك - وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أن اليدين تزنيان وزناهما البطش , والعينين تزنيان وزناهما النظر , والفرج يصدق ذلك أو يكذبه" وأما الخمر : فإن المالكيين يقيمون الحد فيه بالنكهة - وكل من له معرفة يدري أن من أكل الكمثرى الشتوي

وبعض أنواع التفاح : أن نكهة فمه , ونكهة شارب الخمر : سواء - وأيضا فلعله ملأ فمه منها ولم يجرعها فبقيت النكهة , أو لعله دلس عليه بها وهو لا يدري , ثم يجلدون - هم والحنفيون في الخمر : ثمانين جلدة , وجمهور الصحابة على أن الحد فيها أربعون , فلم يدرءوا الأربعين الزائدة بالشبهة , ولم يوجبها قرآن , ولا سنة , ولا إجماع ويحدون ثمانين - كما قلنا - بفرية لم يفترها بعد , فيقدمون له الحدود , ولعله لا يقذف أحدا أبدا , ولا فرق بين هذا وبين أن يقدموا له حد زنى لم يكن منه , أو حد سرقة لم يكن منه ويحدون - هم والشافعيون : الفاضل العالم المتأول إحلال النبيذ المسكر , ويقبلون مع ذلك شهادته , ويأخذون العلم عنه - ولا يحدون المتأول في الشغار , والمتعة - وإن كان عالما بالتحريم - ولا في الخليطين - وإن كان حراما – كالخمرة.

اعتراف العبد بما يوجب الحد
2181 مسألة : اعتراف العبد بما يوجب الحد:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا ؟ فنظرنا في ذلك فوجدنا أصحابنا يقولون : قال الله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} والعبد مال من مال سيده فاعترافه بما يجب إبطال بعض مال سيده كسب على غيره , فلا يجوز بنص القرآن ؟
قال أبو محمد رحمه الله: وهذا احتجاج صحيح إن لم يأت ما يدفعه : فنظرنا فوجدنا الله تعالى يقول: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فأمر الله تعالى بقبول شهادة المرء على نفسه وعلى والديه , وأقربائه - ولم يختلف الناس في أن شهادة المرء على نفسه مقبولة - دون آخر معه دون يمين - تلزمه , سواء كان فاسقا , أو عدلا - مؤمنا كان أو كافرا - وأن شهادته على غيره لا تقبل إلا بشرط العدالة , وبأن يكون معه غيره , أو يمين الطالب - على حسب اختلاف الناس في ذلك - ولم يخص الله تعالى عبدا من حر , فلما ورد هذان النصان من عند رب العالمين : وجب أن ننظر في استعمالهما ؟ فوجدنا أصحابنا يقولون : هو شاهد على نفسه , كاسب على غيره : فلا يقبل , ووجدنا من خالفهم بقول : بل هو شاهد على نفسه , كاسب عليها , وإن أدى ذلك إلى نقص في مال سيده , ولم يقصد الشهادة على مال سيده ؟ فنظرنا في هذين الاستعمالين - إذ لا بد من استعمال أحدهما - فوجدنا قول أصحابنا في أنه كاسب على غيره إنما يصح بواسطة , وبإنتاج , لا بنفس الإقرار ؟ ووجدنا قول من خالفهم يصح بنفس القصة , لأنه إنما أقر على نفسه بنفس لفظه - وهو ظاهر مقصده - وإنما يتعدى ذلك إلى السيد بتأويل لا بظاهر إقراره ؟ فكان هذا أصح الاستعمالين , وأولاهما ولو كان ما قالوه أصحابنا لوجب أن لا يحد العبد في زنى , ولا في سرقة , ولا في خمر , ولا في قذف , ولا في حرابة - وإن قامت بذلك

بينة - وأن لا يقتل في قود , لأنه في ذلك كاسب على غيره , وفي الحد عليه إتلاف لمال سيده ؟ وهذا ما لا يقولونه , لا هم ولا غيرهم.

حكم من قال لا يؤاخذ الله عبداً بأول ذنب
...
2182 - مسألة : من قال : لا يؤاخذ الله عبدا بأول ذنب:
قال أبو محمد رحمه الله: نا عبد الله بن ربيع نا ابن مفرج نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا سحنون نا ابن وهب عن قرة بن عبد الرحمن المعافري عن ابن شهاب قال : أتي أبو بكر الصديق بسارق ؟ فقال: اقطعوا يده فقال : أقلنيها يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما سرقت قبلها ؟ فقال له أبو بكر : كذبت , والذي نفسي بيده ما غافص الله مؤمنا بأول ذنب يعمله وبه - إلى ابن وهب عن سفيان الثوري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: أتي عمر بن الخطاب بسارق فقال : والله ما سرقت قبلها ؟ فقال له عمر : كذبت ورب عمر , ما أخذ الله عبدا عند أول ذنب وبه - إلى ابن وهب عن عبد الله بن سمعان بهذا , وأن علي بن أبي طالب قال له: الله أحلم من أن يأخذ عبده في أول ذنب يا أمير المؤمنين ؟ فأمر به عمر فقطع , فلما قطع قام إليه علي بن أبي طالب فقال له : أنشدك الله , كم سرقت من مرة ؟ قال له : إحدى وعشرين مرة - [ غافصه : فاجأه وأخذه على غرة ] قال أبو محمد رحمه الله: يفعل الله ما يشاء , وكل أحكامه عدل وحق , فقد يستر الله الكثير والقليل , على من يشاء - إما إملاء وإما تفضلا - ليتوب , ويأخذ بالذنب الواحد , وبالذنوب - عقوبة أو كفارة له: {لا معقب لحكمه} و {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} والإسنادان عن أبي بكر , وعلي : ضعيفان , أحدهما مرسل , والآخر مرسل ساقط , والإسناد في ذلك عن عمر صحيح - ولله الأمر من قبل ومن بعد .

هل تقام الحدود على أهل الذمة
2183 - مسألة : هل تقام الحدود على أهل الذمة:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا الخبر ؟ فجاء عن علي بن أبي طالب : لا حد على أهل الذمة في الزنى وجاء عن ابن عباس : لا حد على أهل الذمة في السرقة وقال أبو حنيفة : لا حد على أهل الذمة في الزنى , ولا في شرب الخمر - وعليهم الحد في القذف , وفي السرقة , إلا المعاهد في السرقة , لكن يضمنها , وقال محمد بن الحسن صاحبه : لا أمنع الذمي من الزنى , وشرب الخمر - وأمنعه من الغناء وقال مالك : لا حد على أهل الذمة في زنى , ولا في شرب الخمر - وعليهم الحد في القذف , والسرقة وقال الشافعي , وأبو سليمان , وأصحابهما : عليهم الحد في كل ذلك حدثنا حمام نا ابن مفرج نا عبد الأعلى بن محمد نا الدبري نا عبد الرزاق نا الثوري أخبرني سماك بن حرب قابوس بن المخارق عن أبيه قال : كتب محمد بن أبي بكر إلى علي بن أبي طالب يسأله عن مسلمين تزندقا , وعن مسلم زنى بنصرانية , وعن مكاتب مات وترك بقية من

حد المماليك
2184 - مسألة : حد المماليك:
قال أبو محمد رحمه الله: الحدود كلها أربعة أقسام لا خامس لها : إما إماتة بصلب , أو بقتل بسيف , أو برجم بالحجارة , وما جرى مجراها - وإما نفي - وإما قطع - وإما جلد وجاء النص وإجماع الأمة كلها على أن حد المملوكة الأنثى في بعض وجوه الجلد - وهو الزنى مع الإحصان خاصة - : نصف حد الحر والحرة في ذلك واتفقوا كلهم مع النص : أن حد المماليك في القتل والصلب كحد الأحرار - وجاء النص أيضا في النفي الذي ليس له أمر سواه واختلفوا فيما عدا ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى : فذهبت طائفة إلى أن حد الإماء , والعبيد - فيما عدا ما ذكرنا , ولا نحاش شيئا - كحد الأحرار سواء سواء , وهو قول أصحابنا وقالت طائفة : حد العبيد , والإماء - في الجلد كله - على النصف من حد الأحرار والحرائر - وحد العبيد , والإماء في القطع كحد الأحرار والحرائر - فاختلف هؤلاء : فطائفة تقول به في الأحرار , ولا تقول به في العبيد , والنساء , والإماء , والحرائر فالذين يقولون بالنفي المؤقت جملة اختلفوا : فطائفة جعلت حد الإماء والعبيد فيه نصف حد الحر والحرة - وهو قول الشافعي , وأصحابه

وطائفة جعلت فيه حد الإماء خاصة على النصف من حد الحرائر , وجعلت فيه حد العبيد كحد الأحرار - وهو قول أبي سليمان , وأصحابنا أما الطائفة التي لا تقول بالنفي المؤقت , فهم : أبو حنيفة , وأصحابه وأما الطائفة التي قالت به في الأحرار خاصة , ولم يقولوا به في العبيد , ولا في الإماء , ولا في الحرائر , فهم : مالك , وأصحابه وقالت طائفة : حد العبيد , والإماء في جلد الزنى على نصف حد الأحرار والحرائر , وحد العبيد , والإماء في القذف كحد الحر , والحرة - وهو قول روي عن عمر بن عبد العزيز , وغيره قال أبو محمد رحمه الله: والذي نقول به إنه حد المماليك ذكورهم , وإناثهم في الجلد , والنفي المؤقت , والقطع : على النصف من حد الحر والحرة - وهو كل ما يمكن أن يكون له نصف وأما ما لا يمكن أن يكون له نصف من القتل بالسيف , أو الصلب , أو النفي الذي لا وقت له : فالمماليك , والأحرار فيه سواء قال أبو محمد رحمه الله: فأما أقوال من ذكرنا فالتناقض فيها ظاهر لا خفاء به , وما نعلم لهم شبهة أصلا , وسنذكر أقوالهم إن شاء الله تعالى - إلا أن يقول قائل : إن القطع لا يمكن تنصيفه , فهو خطأ من قبل الآثار , ومن قبل الحس والمشاهدة فأما من قبل الحس والمشاهدة : فإن اليد معروفة المقدار , فقطع نصفها ممكن ظاهر بالعيان - وهو قطع الأنامل فقط ويبقى الكف - وقد وجدناهم يوقعون على الأنامل خاصة حكم اليد , فلا يختلفون فيمن قطعت أنامله كلها أن له دية يد , فمن قطع الأنامل خاصة فقد وافق النص , لأنه قطع ما يقع عليه اسم يد - كما أمره الله تعالى - وقطع نصف ما يقطع من الحر ; كما جاء النص أيضا على ما نذكره - وكذلك الرجل أيضا لها مقدار معروف , فقطع نصفها ممكن - وهو قطعها من وسطها مع الساق فقط وأما من طريق الآثار : فحدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أن علي بن أبي طالب كان يقطع اليد من الأصابع والرجل من نصف القدم وبه - إلى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي المقدام , قال : أخبرني من رأى علي بن أبي طالب يقطع يد رجل من المفصل وبه - إلى عبد الرزاق عن ابن جريج عن عمرو بن دينار , قال : كان عمر بن الخطاب يقطع القدم من مفصلها , وكان علي يقطع القدم - قال ابن جريج : أشار لي عمرو إلى شطرها.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد جاء النص عن علي - رضي الله عنه - قطع اليد من المفصل , وقطعها من الأصابع : فالواجب حمل ذلك على خلاف التناقض الذي لا وجه له , لكن على أن ذلك في حالين مختلفين , وهكذا القول في القدم أيضا.
قال أبو محمد رحمه الله: والقوم أصحاب قياس بزعمهم , وقد صح النص

والإجماع على أن حد الأمة المحصنة في الزنى نصف حد الحرة المحصنة , وصح النص والإجماع أن حد العبد في القتل بالسيف , والصلب : كحد الحر - وكذلك في النفي غير المؤقت , فكان يلزمهم على أصولهم التي ينتمون إليها في القول بالقياس على أن يجعلوا ما اختلف فيه من القطع مردودا إلى أشبه الجنسين به فهذه عمدتهم التي اتفقوا عليها في القياس , فإذا فعلوا هذا وجب أن يكون القطع مقيسا على الجلد , لا على القتل , ولا على النفي غير المؤقت , وذلك أن القتل لا يتنصف , وكذلك النفي غير المؤقت وأما الجلد فيتنصف والقطع يتنصف فكان قياس ما يتنصف على ما يتنصف أولى من قياس ما يتنصف على ما لا يتنصف - هذا أصح قياس لو صح شيء من القياس يوما ما قال أبو محمد رحمه الله: فنظرنا في ذلك ليلوح الحق من ذلك فنتبعه فوجدناهم يقولون : قال الله تعالى في الإماء {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فكان هذا من الله تعالى لا يحل خلافه , وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يخص الله تعالى من ذلك إلا الإماء فقط {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وأبقى العبيد فلم يخص كما خص الإماء " ومن الباطل أن يريد الله تعالى أن يخص العبيد مع الإماء فيقتصر على ذكر الإماء ويمسك عن ذكر العبيد ويكلفنا من ذلك علم الغيب ومعرفة ما عنده مما لم يعرفنا به , حاشا لله تعالى من هذا وكذلك قال الله عز وجل {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فلم يخص تعالى هاهنا أمة من حرة , ولا عبدا من حر ومن الباطل أن يريد الله تعالى أن لا تجلد العبيد والإماء في القذف ثمانين جلدة , ويكون أقل من ذلك , ثم يأمرنا بجلد من قذف ثمانين جلدة , ولا يبين ذلك لنا , أفي حر دون عبد ؟ وفي حرة دون أمة ؟ وهذا خلاف قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} وقوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقد قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} فكان حد القذف من حدود الله تعالى , وحد الزنى من حدود الله تعالى فلا يحل أن يتعدى ما حد الله تعالى منها ؟ وحد الله تعالى في القذف ثمانين , وفي الزنى مائة , فلا يحل لأحد أن يتعدى ما حد الله تعالى في أحدهما إلى ما حد الله تعالى في الآخر فواضح بلا شك أن حمل أحدهما على الآخر في عبد , أو أمة , أو حر , أو حرة : فقد تعدى حدود الله , وسوى ما خالف الله تعالى بينهما وقال الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فقلتم : إن الحر , والعبد , والأمة سواء , فأين زهق عنكم قياسكم الذي خالفتم به القرآن في حد العبد القاذف , والأمة القاذفة ؟ ومن أين وجب أن تستسهلوا مخالفة قول الله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} قياسا

على قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَاب} وعظم عندكم أن تخالفوا قوله: {فاقطعوا أيديهما} قياسا على قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} إن هذا لعجب جدا ؟ قال أصحابنا : ووجدنا الله تعالى يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} فكان من المحال أن يريد الله تعالى أن يكون حكم العبد والأمة في ذلك بخلاف حكم الحر والحرة ثم لا يبينه ؟ هذا أمر قد تيقنا أن الله تعالى لا يكلفنا إياه , ولا يريده منا ؟ قالوا : ووجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شرب فاجلدوه" وجلد في الخمر حدا مؤقتا ولم يخص - عليه السلام - بذلك الحكم حرا من عبد , ولا حرة من أمة - وهو المبين عن الله تعالى ؟
قال أبو محمد رحمه الله: كل ما ذكره أصحابنا فهو حق صحيح - إن لم تأت سنة ثابتة تبين صحة ما ذهبنا إليه - وأما إن جاءت سنة صحيحة توجب ما قلناه , فالواجب الوقوف عند ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين لنا مراد ربنا تعالى , فنظرنا في ذلك : فوجدنا ما ثناه عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن علية نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا ورث بحساب ما عتق منه وأقيم عليه الحد بحساب ما عتق منه". حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا محمد بن عيسى الدمشقي نا يزيد بن هارون أنا حماد بن سلمة عن قتادة وأيوب السختياني قال قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي طالب , وقال أيوب عن عكرمة عن ابن عباس , ثم اتفق علي , وابن عباس , كلاهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه ويرث بقدر ما عتق منه".
قال أبو محمد رحمه الله: هذا إسناد عجيب , كأن عليه من شمس الضحى نورا , ما ندري أحدا غمزه بشيء إلا أن بعضهم ادعى أن وهيبا أرسله.
قال أبو محمد رحمه الله: فكان ماذا إذا أرسله وهيب ؟ قد أسند حكم المكاتب فيما ذكرنا , وفي ديته حماد بن سلمة , وحماد بن زيد عن أيوب , وأسنده علي بن المبارك ويحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيضا : فإن الحنفيين , والمالكيين , متفقون على أن المرسل كالمسند ولا فرق , فعلى قولهم ما زاده إرسال وهيب بن خالد إلا قوة , فإذ قد صح , وثبت فقد وجب ضرورة بنص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن حدود المماليك جملة عموما لذكورهم

وإناثهم : مخالفة لحكم حدود الأحرار عموما لذكورهم وإناثهم , وإذ ذلك كذلك فلا قول لأحد من الأمة إلى أن حد المماليك على النصف من حدود الأحرار , فكان هذا واجبا القول به , وبهذا نقول - وبالله تعالى التوفيق.

هلي يقيم السيد الحدود على مماليكه أم لا
2185 - مسألة : هل يقيم السيد الحدود على مماليكه أم لا:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا : فقالت طائفة: يقيم السيد جميع الحدود من القتل فما دونه على مماليكه وقالت طائفة : يحد السيد مماليكه في الزنى , والخمر , والقذف , ولا يحده في قطع ؟ قالوا : وإنما يحده إذا شهد عليه بذلك الشهود وقالت طائفة : لا يحد السيد مملوكه في شيء من الأشياء , وإنما الحدود إلى السلطان فقط فالقول الأول : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع أن ابن عمر قطع يد غلام له سرق , وجلد عبدا له زنى من غير أن يرفعهما وبه - إلى عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال : إن جارية لحفصة سحرتها واعترفت بذلك , فأخبرت بها عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب , فقتلها , فأنكر ذلك عليها عثمان بن عفان ؟ فقال له ابن عمر : ما تنكر على أم المؤمنين امرأة سحرت فاعترفت ؟ فسكت عثمان وبه - إلى عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن نافع قال : أبق غلام لابن عمر فمر على غلمة لعائشة أم المؤمنين فسرق منهم جرابا فيه تمر , وركب حمارا لهم فأتي به ابن عمر فبعث به إلى سعيد بن العاص - وهو أمير على المدينة - فقال سعيد : لا يقطع غلام أبق ؟ فأرسلت إليه عائشة : إنما غلمتي غلمتك , وإنما جاع , وركب الحمار ليبلغ عليه , فلا تقطعه ؟ قال : فقطعه ابن عمر وعن إبراهيم النخعي أن النعمان بن مقرن قال : لابن مسعود أمتي زنت ؟ قال : اجلدها , قال : إنها لم تحصن ؟ قال : إحصانها إسلامها قال شعبة : أنا الأعمش عن إبراهيم بهذا , وفيه : جلدها خمسين وعن عبد الله بن مسعود وغيره , قالوا : إن الرجل يجلد مملوكته الحدود في بيته , وأن النعمان بن مقرن سأل عبد الله بن مسعود قال : أمتي زنت ؟ قال : اجلدها خمسين , قال إنها لم تحصن ؟ قال ابن مسعود : إحصانها إسلامها وعن ابن وهب نا ابن جريج : أن عمرو بن دينار أخبره : أن فاطمة بنت رسول الله كانت تجلد وليدتها خمسين إذا زنت وعن أنس بن مالك : أنه كان يجلد ولائده خمسين إذا زنين حدثنا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق نا ابن جريج نا عمرو بن دينار أن الحسن بن محمد ابن الحنفية أخبره : أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم جلدت أمة لها الحد زنت وعن إبراهيم النخعي قال : كان علقمة , والأسود يقيمان الحد على جواري قومهما.
قال أبو محمد رحمه الله: وقد روي عن بعض من ذكرنا , وغيرهم : جواز عفو

السيد عن مماليكه في الحدود : كما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن رجل عن سلام بن مسكين أخبرني عن حبيب بن أبي فضالة أن صالح بن كريز حدثه أنه جاء بجارية له زنت إلى الحكم بن أيوب , قال : فبينما أنا جالس إذ جاء أنس بن مالك فجلس فقال : يا صالح ما هذه الجارية معك ؟ قلت : جاريتنا بغت فأردت أن أرفعها إلى الإمام ليقيم عليها الحد ؟ قال : لا تفعل , رد جاريتك , واتق الله واستر عليها ؟ قلت : ما أنا بفاعل حتى أرفعها , قال له أنس : لا تفعل وأطعني , قال صالح : فلم يزل يراجعني حتى قلت له : أردها على أن ما كان علي من ذنب فأنت له ضامن ؟ فقال أنس : نعم , قال : فرددتها وعن إبراهيم النخعي في الأمة تزني , قال : تجلد خمسين , فإن عفا عنها سيدها فهو أحب إلينا , قال عبد الرزاق : وبه نأخذ قال أبو محمد رحمه الله: وهذان أثران ساقطان , لأنهما عمن لم يسم وأما من فرق بين ذات الزوج وغير ذات الزوج فكما نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : في الأمة إذا كانت ليست بذات زوج فظهر منها فاحشة جلدت نصف ما على المحصنات من العذاب يجلدها سيدها فإن كانت من ذوات الأزواج رفع أمرها إلى الإمام وعن ربيعة أنه قال : إحصان المملوكة أن تكون ذات زوج , فيذكر منها فاحشة فلا يصدق عليها سيدها , والزوج يذب عن ولده , وعن رحمها , وعن ما بيده , فليس يقيم الفاحشة عليها إلا بشهادة أربعة , ولا يقيم الحد عليها إذا ثبت إلا السلطان , قال الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وأما من فرق بين الجلد في الزنى , والخمر , والقذف , وبين القطع في السرقة , فهو قول مالك , والليث : وما نعلمه عن أحد قبلهما.
قال أبو محمد رحمه الله: فلما اختلفوا نظرنا في ذلك لنعلم الحق فنتبعه - بمن الله تعالى - فوجدنا أبا حنيفة , وأصحابه , يحتجون بما : ناه عبد الله بن ربيع نا عبد الله بن عثمان نا أحمد بن خالد نا علي بن عبد العزيز نا الحجاج بن المنهال نا حماد بن سلمة عن يحيى البكاء عن مسلم بن يسار عن أبي عبد الله - رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - قال : كان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه , قال : هو عالم فخذوا عنه , فسمعته يقول : الزكاة , والحدود , والفيء , والجمعة , إلى السلطان وعن الحسن البصري : أنه ضمن هؤلاء أربعا : الجمعة , والصدقة , والحدود , والحكم وعن ابن محيريز أنه قال : الحدود , والفيء , والزكاة , والجمعة , إلى السلطان

قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير هذا , وكل هذا لا حجة لهم فيه , لأنه ليس في شيء مما ذكروا : أن لا يقيم الحدود على المماليك ساداتهم , وإنما فيه ذكر الحدود عموما إلى السلطان , وهكذا نقول , لكن يخص من ذلك حدود المماليك إلى ساداتهم بدليل - إن وجد ثم أيضا - لو كان فيما ذكروه لما كانت فيه حجة , لأنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أبو محمد رحمه الله: وأما قول مالك , والليث , في التفريق بين الجلد , والقطع , والقتل , فلا نعلم لهم أيضا حجة أصلا , ولا ندري لهم في هذا التفريق سلفا من صاحب , ولا تابع , ولا متعلقا من قرآن , ولا من سنة صحيحة , ولا سقيمة , ولعل بعضهم أن يقول : إن السيد له جلد عبيده وإمائه أدبا , وليس له قطع أيديهم أدبا , فلما كان الحد في الزنى , والخمر , والقذف جلدا كان ذلك للسادات , لأنه حد , وجلد قال أبو محمد رحمه الله: فهذا القول في غاية الفساد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" فجلد الأدب هو غير جلد الحد بلا شك - وبالله تعالى التوفيق ثم نظرنا في قول ربيعة , فوجدناه قولا لا تؤيده حجة , لا من قرآن , ولا من سنة صحيحة : أما قول ربيعة فإن للزوج أن ينوب عنها فحجة زائفة جدا , وما جعل الله تعالى للزوج اعتراضا , ولا ذبا فيما جاءت السنة بإقامته عليها وأما من رأى السيد يقيم جميع الحدود على مماليكه , فنظرنا فيه فوجدنا : ما نا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج نا عيسى بن حماد المصري نا الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد , ولا يثرب عليها , ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها , ثم إن زنت الثالثة فليبعها لو بحبل من شعر" وعن مسلم أيضا : أنا القعنبي أنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عتبة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ؟ قال: "إن زنت فاجلدوها , ثم إن زنت فاجلدوها , ثم إن زنت فاجلدوها , ثم بيعوها , ولو بضفير" قال ابن شهاب : والضفير - الحبل قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة , أو الرابعة - والأخبار فيما ذكرنا كثيرة جدا.
قال أبو محمد رحمه الله: ثم نتكلم - بعون الله تعالى - فيما ذكرنا في الأخبار المذكورة من بيع الأمة التي تزني , فنقول : إن الليث روى هذا الحديث عن سعيد

ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة : إن زنت الثالثة فليبعها - ولو بحبل من شعر - وهكذا رواه عبد الرزاق عن عبيد الله بن عمر عن سعيد بن أبي سعيد أنه سمع أبا هريرة وهكذا أيضا - رواه خالد بن الحارث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة , فلم يذكروا زناها المرة الثالثة جلدا , بل ذكروا البيع فقط وعن أبي صالح عن أبي هريرة أن يقام الحد عليها ثلاث مرات , ثم تباع بعد الثالثة مع الجلد - وهكذا رواه سفيان بن عيينة قال علي : فوجب أن يلغى الشك ويستقر البيع بعد الثالثة مع الجلد - والطرق كلها في ذلك في غاية الصحة , وكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو عن الله تعالى , قال الله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} فإذ ذلك كذلك فأمره صلى الله عليه وسلم بالبيع في الثالثة ندب برهان ذلك : أمره بالبيع في الرابعة لا يمكن ألبتة إلا هذا , لأنه لو كان أمره صلى الله عليه وسلم في الثالثة فرضا لما أباح حبسها إلى الرابعة وأما البيع في الرابعة ففرض لا بد منه , لأن أوامره صلى الله عليه وسلم على الفرض لقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} الآية.
قال أبو محمد رحمه الله: ويجبره السلطان على بيعها أحب أم كره بما ينتهي إليه العطاء فيها , ولا يتأتى بها طلب زيادة , ولا سوق , كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع - ولو بحبل من شعر , أو ضفير من شعر - إذا لم يوجد فيها إلا ذلك , فإن زنت في خلال تعريضها للبيع , أو قبل أن تعرض حدها أيضا , لعموم أمره صلى الله عليه وآله وسلم بجلدها إن زنت - وكذلك إن غاب السيد أو مات , فلا بد من بيعها على الورثة ضرورة - فإن كانت لصغار جلدها الولي أو الكافل , لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية مالك عن الزهري فاجلدوها , فهو عموم لكل من قام به , ولا يلزم البيع في العبد إذا زنى , لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنما أمر بذلك الأمة إذا زنت {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} وكذلك إن سرقت الأمة أو شربت الخمر , فإنها تحد ولا يلزم بيعها , لأن النص إنما جاء في زناها فقط {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}.
قال أبو محمد رحمه الله: فلو أعتقها السيد إذا تبين زناها لم ينفذ عتقه بل هو مردود , لأنه مأمور ببيعها وإخراجها عن ملكه , فهو في عتقه إياها , أو كتابته لها , أو هبته إياها , أو الصدقة بها , أو إصداقها , أو إجارتها , أو تسليمها في شيء بصفة غير البيع - مما شاء نقدا أو إلى أجل - بدنانير أو بدراهم : مخالف لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وكذلك لو دبرها فمات , أو أوصى بها , فكل ذلك باطل , ولا بد من بيعها.

قال أبو محمد رحمه الله: ولا يجوز أن يقيم الحد السيد على مماليكه إلا بالبينة , أو بإقرار المماليك , أو صحة علمه ويقينه , على نص قوله صلى الله عليه وسلم: "فتبين زناها" ولا يطلق على إقامة الحدود على المماليك إلا أهل العدالة , فقط من المسلمين

أي الأعضاء تضرب في الحدود
2186 - مسألة : أي الأعضاء تضرب في الحدود:
قال أبو محمد رحمه الله: اختلف الناس في هذا ؟ وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الآية ففعلنا : فوجدنا الله تعالى قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقال عليه السلام: "إذا شرب فاجلدوه" وقال عليه السلام: "وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وسنذكر كل ذلك - إن شاء الله تعالى - فلم نجد عن الله تعالى , ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم أمرا بأن يخص عضوا بالضرب دون عضو إلا حد القذف وحده , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: "البينة وإلا حد في ظهرك" حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا عمران بن يزيد الدمشقي نا مخلد بن الحسين الأسدي نا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: "إن أول لعان كان في الإسلام أن هلال بن أمية قذف شريك ابن سحماء بامرأته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم البينة وإلا حد في ظهرك يردد ذلك عليه مرارا" فوجب أن لا يخص بضرب الزنى , والخمر عضو من عضو , إذ لو أراد الله تعالى ذلك لبينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه يجب اجتناب الوجه ولا بد , والمذاكر , والمقاتل أما الوجه - فلما روينا من طريق مسلم نا عمرو الناقد , وزهير بن حرب قالا جميعا : أنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه" وأما المقاتل : فضربها غرر , كالقلب , والأنثيين , ونحو ذلك - ولا يحل قتله ولا التعريض به , لما نخاف منه - وبالله تعالى التوفيق

كيف يضرب الحدود أقائما أم قاعداً
...
2187 - مسألة :

كيف يضرب الحدود أقائما أم قاعدا
:
اختلف الناس في ذلك وقال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} الآية أما من قال بأن الحدود تقام على المحدود وهو قائم فإنهم ذكروا في ذلك ما ناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد أنا إبراهيم بن أحمد أنا الفربري أنا البخاري أنا إسماعيل بن عبد الله أنا مالك عن نافع عن ابن عمر , فذكر حديث اليهوديين اللذين رجمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزنى , قال ابن عمر: "فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة" وذكروا حديث أبي هريرة في جلده حد القذف الذي يقول في ذلك : لعمرك إني يوم أضرب قائما ثمانين سوطا , إنني لصبور ثم أتوا بأطرف ما يكون

صفة الضرب في الحدود
2188 - مسألة : صفة الضرب:
قال أبو محمد رحمه الله: أجاز قوم أن يسال الدم في جلد الحدود , والتعزير - وهو لم يأت به عن الصحابة شيء من ذلك , بل قد صح عن عمر - رضي الله عنه - مما قد ذكرناه قبل لا تجد , فاجلدها , ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - والذي نقول به في الضرب في الزنى , والقذف , والخمر , والتعزير : أن لا يكسر له عظم , ولا أن يشق له جلد , ولا أن يسال الدم , ولا أن يعفن له اللحم , لكن بوجع سالم من كل ذلك , فمن تعدى فشق في ذلك الضرب جلدا , أو أسال دما , أو عفن لحما , أو كسر له عظما , فعلى متولي ذلك القود , وعلى الآمر أيضا

القود إن أمر بذلك برهان ذلك : قول الله تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} فعلمنا يقينا أن لضرب الحدود قدرا لا يتجاوزه وقدرا لا ينحط عنه بنص القرآن , فطلبنا ذلك فوجدنا أدنى أقداره أن يؤلم , فما نقص عن الألم فليس من أقداره - وهذا ما لا خلاف فيه من أحد - وكان أعلى أقداره نهاية الألم في الزنى مع السلامة من كل ما ذكرنا , ثم الحطيطة من الألم على حسب ما وصفنا فأما المنع من كل ما ذكرنا , فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام" فحرمت إسالة الدم نصا إذ هرق الدم حرام , إلا ما أباحه نص , أو إجماع - ولا نص , ولا إجماع على إباحة إسالة الدم في شيء من الحدود - نعم , ولا عن أحد من التابعين وأما تعفن اللحم : فقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم البشرة , فلا يحل منها إلا ما أحله نص أو إجماع , وإنما صح النص والإجماع على إباحتها للألم فقط , وأما كسر العظام , فلا يقول بإباحته في ضرب الحدود أحد من الأمة بلا شك ؟ قال أبو محمد رحمه الله: ومن خالفنا في هذه الأشياء سألناه ألشدة الضرب في ذلك حد أم لا ؟ فإن قالوا : لا , تركوا قولهم , وخالفوا الإجماع , ولزمهم أن يبيحوا أن يجلد في كل ذلك بسوط مملوء حديدا أو رصاصا يقتل من ضربه - وهذا لا يقوله أحد من الأمة وإن قالوا : إن لذلك حدا وقدرا نقف عنده فلا يحل تجاوزه : سئلوا عن ذلك , فإن حدوا فيه غير ما حددنا كانوا متحكمين في الدين بلا برهان فإن قالوا : إن الحدود إنما جعلت للردع ؟ قلنا لهم : كلا , ما ذلك كما تقولون , إنما ردع الله تعالى بالتحريم وبالوعيد في الآخرة فقط , وأما بالحدود فإنما جعل الله تعالى كما شاء , ولم يخبرنا الله تعالى أنها للردع , ولو كانت للردع كما تدعون لكان ألف سوط أردع من مائة ومن ثمانين , ومن أربعين , ومن خمسين , ولكان قطع اليدين والرجلين أردع من قطع يد واحدة , ولكنا نقول : هي نكال وعقوبة , وعذاب , وجزاء , وخزي , كما قال الله تعالى في المحاربة {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ} الآية وقال تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وقال تعالى في القاذف {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية وقال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية وقال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} الآية وإنما التسمية في الدين إلى الله تعالى , لا إلى الناس فصح أنه تعالى جعلها كما شاء حيث شاء , ولم يجعلها حيث لم يشأ.
قال أبو محمد رحمه الله: فإذ قد صح ما ذكرنا , وصح مقدار الضرب الذي لا يتجاوز , فقد صح أن من تجاوز ذلك المقدار فإنه متعد لحدود الله تعالى , وهو عاص بذلك , ولا

تنوب معصية الله تعالى عن طاعته , فإذ هو متعد فعليه القود , قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} الآية فضرب التعدي لا يتبعض بلا شك , فإذ لا يتبعض - وهو معصية - فباطل أن يجزي عن الحد الذي هو طاعة لله تعالى فيقتص له منه , ثم يقام عليه الحد ولا بد - وبالله تعالى التوفيق.

بأي شيء يكون الضرب في الحد
2189 - مسألة : بأي شيء يكون الضرب في الحد:
قال أبو محمد رحمه الله: أما أهل الرأي , والقياس , فإنهم قالوا : الحدود كلها بالسوط , إلا الشافعي رحمه الله قال : إلا الخمر , فإنه يجلد فيها بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جلد فيها.
قال أبو محمد رحمه الله: احتج من رأى الجلد بالسوط ولا بد في الحدود : بما أنا حمام أنا ابن مفرج أنا ابن الأعرابي أنا الدبري أنا عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ؟ فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بسوط , فأتي بسوط جديد عليه ثمرته , قال : لا , سوط دون هذا ؟ فأتي بسوط مكسور العجز , فقال : لا , سوط فوق هذا ؟ فأتي بسوط بين السوطين , فأمر به فجلد" وذكر الخبر وعن زيد بن أسلم: "أن رجلا اعترف على نفسه بالزنى , فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط , فأتي بسوط مكسور , فقال فوق هذا , فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته , فقال بين هذين , فأتي بسوط قد ركب به ولان , فأمر به فجلد" وذكر باقي الخبر حدثنا عبد الله بن ربيع أنا ابن مفرج أنا قاسم بن أصبغ أنا ابن وضاح أنا سحنون أنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه قال : سمعت عبيد الله بن مقسم يقول : سمعت كريبا مولى ابن عباس يحدث أو يحدث عنه قال: "أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف على نفسه بالزنى , ولم يكن الرجل أحصن , فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سوطا فوجد رأسه شديدا فرده , ثم أخذ سوطا آخر فوجده لينا , فأمر به فجلد مائة" وعن أبي عثمان النهدي قال : أتي عمر بن الخطاب في حد - ما أدري ما ذلك الحد - فأتي بسوط فيه شدة , فقال : أريد ما هو ألين فأتي بسوط لين , فقال : أريد أشد من هذا , فأتي بسوط بين السوطين فقال : اضرب ولا يرى إبطك وعن أبي عثمان النهدي قال : أتي عمر بن الخطاب في حد فأتي بسوط , فهزه فقال : ائتوني بسوط ألين من هذا , فأتي بسوط آخر , فقال ائتوني بسوط أشد من هذا , فأتي بسوط بين السوطين , فقال : اضرب ولا يرى إبطك , وأعط لكل عضو حقه.
قال أبو محمد رحمه الله: ما نعلم لهم شبهة غير ما ذكرنا أما الآثار - في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرسلة كلها , ولا حجة في مرسل , وأضعفها حديث مخرمة بن بكير , لأنه منقطع في ثلاثة مواضع , لأن سماع مخرمة من أبيه لا يصح , وشك ابن مقسم

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29