كتاب : المحلى
المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري

ثُمَّ هَبْكَ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ; لإِنَّ فِيهِ: أَنَّ آخِرَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْفِطْرُ, هَذَا إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ. وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ; وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانٌ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ, وَفِيهِمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ: أَمْرٌ عَظِيمٌ, لأَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ لِمَنْ صَامَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ابْتَدَأَ صِيَامَهُ, وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَمَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ إطْلاَقُ اسْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِ, وَمَالِكٌ يَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ; فَلْيَنْظُرْ نَاصِرُ أَقْوَالِهِمْ فَبِمَاذَا يَدْخُلُ فِي احْتِجَاجِهِ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ إطْلاَقِ اسْمِ الْخَطَأِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فِي إفْطَارِهِ, وَهَذَا خُرُوجٌ، عَنِ الإِسْلاَمِ مِمَّنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: لَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ صَائِمًا يَنْوِيه مِنْ رَمَضَانَ لَكَانَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِآخِرِ أَمْرِهِ, وَآخِرِ فِعْلِهِ, وَإِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَامَ تَطَوُّعًا, وَالْفِطْرُ لِلصَّائِمِ تَطَوُّعًا مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا فَعَلَ عليه السلام.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَقُولُ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ: "أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا": لَعَلَّهُ إنَّمَا قَطَعَ يَدَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ": لَعَلَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالإِعَادَةِ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالصَّلاَةُ تُقَامُ فَقَالَ لَهُ: بِأَيِّ صَلاَتَيْكَ تَعْتَدُّ": لَعَلَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلاَّهُمَا بَيْنَ النَّاسِ مُكَابَرَةً لِلْبَاطِلِ: وَفِي الْخَبَرِ مَنْصُوصٌ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا نَاحِيَةً. ثُمَّ لاَ يَقُولُ هَاهُنَا: لَعَلَّهُ كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا; وَهَاهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ هَذَا; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي الأَخْبَارِ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا تِلْكَ الأَخْبَارُ فَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحْتَمِلُ مَا تَأَوَّلُوهُ لإِنَّ نَصَّهَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: "ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم", فِي إجَازَةِ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهُ أَثَرٌ، وَلاَ عَثْرٌ مِنْ إجَازَةِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ. وَهُمْ لاَ يَرَوْنَ قَوْلَ أَسْمَاءَ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ حُجَّةً, وَلاَ يَرَوْنَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إنَّ طَلاَقَ الثَّلاَثِ كَانَتْ تُجْعَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدَةً", حُجَّةً.

وَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ وَإِنَّمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُهُ تَطَوُّعًا أَوْ فَرْضًا غَيْرَ رَمَضَانَ; وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ عليه السلام سَافَرَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ عَامِ الْفَتْحِ. وَأَمَّا خَبَرُ حَمْزَةَ فَبَيَانٌ جَلِيٌّ فِي أَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَهُ عليه السلام، عَنِ التَّطَوُّعِ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ: "إنِّي امْرُؤٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ" فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَأَوَّلُوهُ, وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ حُجَّةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِذْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ فَلِنَذْكُرَ الآنَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ مَخْصُوصَةٌ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ صَوْمَ الشَّهْرِ إلاَّ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ, وَلاَ فَرْضَ عَلَى الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إلاَّ أَيَّامًا أُخَرَ غَيْرَ رَمَضَانَ, وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ لاَ حِيلَةَ فِيهِ; ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ قَالَ: إنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ إنْ أَفْطَرَا فِيهِ; لاَِنَّهَا دَعْوَى مَوْضُوعَةٌ بِلاَ بُرْهَانٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ".
قال أبو محمد: إنْ كَانَ صِيَامُهُ عليه السلام لِرَمَضَانَ فَقَدْ نَسَخَهُ بِقَوْلِهِ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَصَارَ الْفِطْرُ فَرْضًا وَالصَّوْمُ مَعْصِيَةً, وَلاَ سَبِيلَ إلَى خَبَرٍ نَاسِخٍ لِهَذَا أَبَدًا, وَإِنْ كَانَ صِيَامُهُ عليه السلام تَطَوُّعًا فَهَذَا أَحْرَى لِلْمَنْعِ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ, وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ, وَمُسْلِمٍ.

قَالَ الْبُخَارِيِّ، حدثنا آدَم, وَقَالَ مُسْلِمٌ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثُمَّ اتَّفَقَ آدَم وَمُحَمَّدٌ وَكِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: صَائِمٌ, فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ", هَذَا لَفْظُ آدَمَ, وَلَفْظُ غُنْدَرٍ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ".
قال أبو محمد: وَهَذَا مَكْشُوفٌ وَاضِحٌ. فإن قيل: إنَّمَا مَنَعَ عليه السلام فِي مِثْلِ حَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ لاَ يَجُوزُ لإِنَّ تِلْكَ الْحَالَ مُحَرَّمُ الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِاخْتِيَارِ الْمَرْءِ لِلصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ كَمَا هُوَ فِي السَّفَرِ فَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَنْعِ مِنْ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ إبْطَالٌ لِهَذِهِ الدَّعْوَى الْمُفْتَرَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَوَاجِبٌ أَخْذُ كَلاَمِهِ عليه السلام عَلَى عُمُومِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ". صَفْوَانُ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ مَكِّيٌّ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِالدَّرْدَاءِ بِنْتِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَكَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ مَشْهُورُ الصُّحْبَةِ هَاجَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى وَهُوَ مِنْ الأَشَاقِرِ حَيٌّ مِنْ الأَزْدِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ الْجَرْمِيُّ أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: أُخْبِرُكَ، عَنِ الْمُسَافِرِ إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُ الصِّيَامَ وَنِصْفَ الصَّلاَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حدثنا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَ قد دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: "أَتَدْرِي مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ الْمُسَافِرِ" قُلْتُ: مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ الْمُسَافِرِ قَالَ: "الصَّوْمُ, وَشَطْرُ الصَّلاَةِ".
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ حَدَّثَنِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلٍّ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا"

فَهَذَا أَمْرٌ بِقَبُولِهَا وَأَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام فَرْضٌ فَهِيَ رُخْصَةٌ مُفْتَرَضَةٌ; وَصَحَّ بِهَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْقَطَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَنِصْفَ الصَّلاَةِ وَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يُعَارِضُهَا فَلاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهَا. فإن قيل: فَإِنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ مَانِعَةٌ كُلُّهَا بِعُمُومِهَا مِنْ كُلِّ صَوْمٍ فِي السَّفَرِ وَأَنْتُمْ تُبِيحُونَ فِيهِ كُلَّ صَوْمٍ إلاَّ رَمَضَانَ وَحْدَهُ قلنا: نَعَمْ, لإِنَّ النُّصُوصَ جَاءَتْ بِمِثْلِ مَا قلنا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} فَافْتَرَضَ تَعَالَى صَوْمَ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ فِي السَّفَرِ، وَلاَ بُدَّ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضِّ عَلَى صَوْمِ عَرَفَةَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ كَانَ حَاجًّا. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "إنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا" فَعَمَّ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ النَّارَ، عَنْ وَجْهِهِ" فَحَضَّ عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ. فَوَجَبَ الأَخْذُ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ فَخَرَجَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ بِالْمَنْعِ وَحْدَهُ وَبَقِيَ سَائِرُ الصَّوْمِ وَاجِبُهُ وَتَطَوُّعُهُ عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ نَصٍّ لاِخَرَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَاطِلِ فِي الدِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" مِثْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ".
قال أبو محمد: هَذَا تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْوِيلٌ لَهُ مَا لَمْ يَقُلْ, وَفَاعِلُ هَذَا يَتَبَوَّأُ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ بِنَصِّ قَوْلِهِ عليه السلام, وَلَيْسَ إذَا وُجِدَ نَصٌّ قَدْ جَاءَ نَصٌّ آخَرُ أَوْ إجْمَاعٌ بِإِخْرَاجِهِ، عَنْ ظَاهِرِهِ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ جَمِيعُ النُّصُوصِ وَتَخْرُجَ، عَنْ ظَوَاهِرِهَا فَيَحْصُلُ مِنْ فِعْلِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ فِي إحَالَةِ الْقُرْآنِ، عَنْ مَفْهُومِهِ وَظَاهِرِهِ, وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَاهُنَا فَقَدْ كَفَى خَصْمَهُ مُؤْنَتَهُ. وَيُقَالُ لَهُ: إذَا قُلْت هَذَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" فَقُلْهُ أَيْضًا فِي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: وَمَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الدِّينَ وَالْعَقْلَ وَالتَّفَاهُمَ جُمْلَةً. فإن قيل: فَكَيْف تَقُولُونَ فِي صَوْمِهِ عليه الصلاة والسلام مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ

الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. قلنا: هَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لاَ تَخْلُو هَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ فَتْحِ مَكَّةَ أَوْ بَعْدَهُ, وَتَقَدَّمَ فَرْضُ رَمَضَانَ بِوَحْيٍ آخَرَ كَمَا كَانَ نُزُولُ آيَةِ الْوُضُوءِ فِي الْمَائِدَةِ مُتَأَخِّرًا، عَنْ نُزُولِ فَرْضِهِ; فَإِنْ كَانَ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ نُزُولُهَا فَلاَ يَخْلُو عليه الصلاة والسلام فِي صَوْمِهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَامَهُ لِرَمَضَانَ أَوْ تَطَوُّعًا, فَإِنْ كَانَ صَامَهُ تَطَوُّعًا فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ كَانَ صَامَهُ عليه الصلاة والسلام لِرَمَضَانَ فَلاَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عليه الصلاة والسلام نَسَخَ بِفِعْلِهِ حُكْمَ الآيَةِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَعَادَ حُكْمُ الآيَةِ, فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ فَكَيْف، وَلاَ دَلِيلَ أَصْلاً عَلَى تَقَدُّمِ نُزُولِ الآيَةِ قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَمَا نَزَلَ بَعْضُهَا إلاَّ بَعْدَ إسْلاَمِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ بَعْدَ الْفَتْحِ بِمُدَّةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا إلاَّ أَنْ نَذْكُرَ مَنْ قَالَ: بِمِثْلِ قَوْلِنَا لِئَلاَّ يَدَّعُوا عَلَيْنَا خِلاَفَ الإِجْمَاعِ; فَالدَّعْوَى لِذَلِكَ مِنْهُمْ سَهْلَةٌ, وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ خِلاَفًا لِلإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي قَيْسٍ أَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُعِيدَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يُعِيدَ صِيَامَهُ فِي السَّفَرِ.
قال أبو محمد: إنَّ مَنْ احْتَجَّ فِي رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا" بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: الْبَيْعُ عَلَى صَفْقَةٍ أَوْ تَخَايُرٍ; ثُمَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ وَمَعَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ: لاَُعْجُوبَةٌ وَأُخْلُوقَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ أَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: يُسْرٌ وَعُسْرٌ خُذْ بِيُسْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

قال أبو محمد: إخْبَارُهُ بِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ عُسْرٌ: إيجَابٌ مِنْهُ لِفِطْرِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ عَزْمَةٌ.
رُوِّينَا هَذَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ, وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ صَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يُجْزِئْهُ يَعْنِي لاَ يُجْزِئْهُ صِيَامُهُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ الثَّقَفِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكَ أَرَأَيْت لَوْ تَصَدَّقْتَ بِصَدَقَةٍ فَرُدَّتْ عَلَيْكَ أَلَمْ تَغْضَبْ؟
قال أبو محمد: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ مُغْضِبًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ يُقَالُ هَذَا فِي شَيْءٍ مُبَاحٍ أَصْلاً.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ أَنَّ امْرَأَةً صَحِبَتْ ابْنَ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَوَضَعَ الطَّعَامَ فَقَالَ لَهَا: كُلِّي قَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ قَالَ: لاَ تَصْحَبِينَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يُقَالُ: الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ كَالإِفْطَارِ فِي الْحَضَرِ. قال أبو محمد: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ, وَقَدْ صَحَّ سَمَاعُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أَبِيهِ, وَلاَ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ فِي الدِّينِ: يُقَالُ كَذَا إلاَّ عَنِ الصَّحَابَةِ أَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم،, وَأَمَّا خُصُومُنَا فَلَوْ وَجَدُوا مِثْلَ هَذَا لَكَانَ أَسْهَلَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لاَ يَقُولُ ذَلِكَ إلاَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ, وَهَذَا سَنَدٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ الْمُحَرَّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صُمْت رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَأَمَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ أُعِيدَهُ فِي أَهْلِي, وَأَنْ أَقْضِيَهُ فَقَضَيْته. وَمِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ

حَرْمَلَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأُتِمُّ الصَّلاَةَ فِي السَّفَرِ وَأَصُومُ قَالَ: لاَ فَقَالَ: إنِّي أَقْوَى عَلَى ذَلِكَ قَالَ سَعِيدٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَقْوَى مِنْك قَدْ كَانَ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَلاَ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ مَوْلَى قُرَيْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ صَامَ فِي السَّفَرِ: إنَّهُ يَقْضِيه فِي الْحَضَرِ, قَالَ شُعْبَةُ: لَوْ صُمْت رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالآخِرِ فَالآخِرِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ; وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَنْهَى، عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ يَصُومُ الْمُسَافِرُ أَفْطِرْ أَفْطِرْ وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا صِيَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ لَوْ وَجَدُوا مِثْلَهُ لَعَظُمَ الْخَطْبُ مَعَهُمْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، حدثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حدثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى التَّيْمِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ".
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَحْتَجُّ بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، وَلاَ نَرَاهُ حُجَّةً لَنَا، وَلاَ عَلَيْنَا وَفِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَنِ كِفَايَةٌ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يُجْزِئُ عِنْدَهُ إتْمَامُ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ, وَمَالِكٌ يَرَى فِي ذَلِكَ الإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ يَخْتَارُونَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عَلَى الْفِطْرِ, تَنَاقُضًا لاَ مَعْنَى لَهُ, وَخِلاَفًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلِلْقِيَاسِ الَّذِي يَدَّعُونَ لَهُ السُّنَنَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ تَطَوُّعًا, وَلَهُ أَنْ يَصُومَ فِيهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ أَفْطَرَهُ قَبْلُ أَوْ سَائِرَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ نَذْرًا أَوْ غَيْرَهُ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : وَلَمْ يَخُصَّ رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ النَّصُّ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ لِعَيْنِهِ فَقَطْ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ يُؤْذِيه الصَّوْمُ فَتَكَلَّفَهُ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ

عَنِ الْحَرَجِ وَالتَّكَلُّفِ, وَعَنْ أَذَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ مَرِيضًا لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَالْحَرَجُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ.

من أقام من قبل الفجر و لم يسافر إلى بعد غروب الشمس في سفره فعليه إذا نوى الإقامة أن ينوي الصوم
763 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَقَامَ مِنْ قَبْلِ الْفَجْرِ وَلَمْ يُسَافِرْ إلَى بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي سَفَرِهِ فَعَلَيْهِ إذَا نَوَى الإِقَامَةَ الْمَذْكُورَةَ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ،
وَلاَ بُدَّ, سَوَاءٌ كَانَ فِي جِهَادٍ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ إنَّمَا أُلْزِمَ الْفِطْرَ إذَا كَانَ عَلَى سَفَرٍ وَهَذَا مُقِيمٌ; فَإِنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فَقَدْ أَخْطَأَ إنْ كَانَ جَاهِلاً مُتَأَوِّلاً, وَعَصَى إنْ كَانَ عَالِمًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مُقِيمٌ صَحِيحٌ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ; فَإِنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَرْحَلَ غَدًا فَلَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ حَدَثَتْ لَهُ إقَامَةٌ فَهُوَ مُفْطِرٌ; لاَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِمَا فَعَلَ, وَهُوَ عَلَى سَفَرٍ مَا لَمْ يَنْوِ الإِقَامَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهَذَا بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ; لإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الصَّلاَةِ بِقَصْرِ عِشْرِينَ يَوْمًا يُقِيمُهَا فِي الْجِهَادِ, وَبِقَصْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يُقِيمُهَا فِي الْحَجِّ. وَبِقَصْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ مُقِيمًا مَا بَيْنَ نُزُولِهِ إلَى رَحِيلِهِ مِنْ غَدٍ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنْ يُفْطِرَ فِي غَيْرِ يَوْمٍ لاَ يَكُونُ فِيهِ مُسَافِرًا.
فإن قيل: قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَهَذَا عَلَى سَفَرٍ قلنا: لَوْ كَانَتْ "عَلَى" فِي هَذِهِ الآيَةِ مَعْنَاهَا مَا ظَنَنْتُمْ مِنْ إرَادَةِ السَّفَرِ لاَ الدُّخُولِ فِي السَّفَرِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ بَعْدَ أَيَّامٍ; لاَِنَّهُ عَلَى سَفَرٍ وَهَذَا مَا لاَ يُشَكُّ فِي أَنَّهُ لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ; وَيُبْطِلُهُ أَيْضًا أَوَّلُ الآيَةِ إذْ يَقُولُ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَوَجَبَ عَلَى الشَّاهِدِ صِيَامُهُ وَعَلَى الْمُسَافِرِ إفْطَارُهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللَّهَ وَضَعَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيَامَ وَشَطْرَ الصَّلاَةِ". فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ إلاَّ مُسَافِرٌ أَوْ شَاهِدٌ; فَالشَّاهِدُ يَصُومُ وَالْمُسَافِرُ يُفْطِرُ وَلَيْسَ الْمُسَافِرُ إلاَّ الْمُنْتَقِلُ لاَ الْمُقِيمُ; فَلاَ يُفْطِرُ إلاَّ مَنْ انْتَقَلَ بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ, وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا صَائِمًا فَحَدَثَ لَهُ سَفَرٌ فَإِنَّهُ إذَا بَرَزَ، عَنْ مَوْضِعِهِ فَقَدْ سَافَرَ فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: بَلْ نَقِيسَ الصَّوْمَ عَلَى الصَّلاَةِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً; لأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ قَصْرَ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ لاَ يُقَاسَ عَلَيْهِ قَصْرُ سَائِرِهَا, فَإِذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ قِيَاسُ قَصْرِ صَلاَةٍ عَلَى قَصْرِ صَلاَةٍ أُخْرَى فَأَبْطَلُ وَأَبْعَدُ أَنْ يُقَاسَ فِطْرٌ عَلَى فِطْرٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَنْوِي فِي الصَّلاَةِ الْمُسَافِرُ إقَامَةً فَيَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ الْمُقِيمِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ, فَبَطَلَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخِرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

الحيض الذي يبطل الصوم هو الأسود
764 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَيْضُ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّوْمَ هُوَ الأَسْوَدُ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ". وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا جَاءَ الآخَرُ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ الطَّهَارَةِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ, وَغَيْرِهَا: "كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا".

إذا رأت الحائض الطهر قبل الفجر أو النفساء فأخرتا الغسل عمدا إلى طلوع الفجر الخ
765 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رَأَتْ الْحَائِضُ الطُّهْرَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ رَأَتْهُ النُّفَسَاءُ وَأَتَمَّتَا عِدَّةَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَخَّرَتَا الْغُسْلَ عَمْدًا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ
ثُمَّ اغْتَسَلَتَا وَأَدْرَكَتَا الدُّخُولَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يَضُرَّهُمَا شَيْئًا وَصَوْمُهُمَا تَامٌّ; لاَِنَّهُمَا فَعَلَتَا مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُمَا; فَإِنْ تَعَمَّدَتَا تَرْكَ الْغُسْلِ حَتَّى تَفُوتَهُمَا الصَّلاَةُ بَطَلَ صَوْمُهُمَا; لاَِنَّهُمَا عَاصِيَتَانِ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا, فَلَوْ نَسِيَتَا ذَلِكَ أَوْ جَهِلَتَا فَصَوْمُهُمَا تَامٌّ; لاَِنَّهُمَا لَمْ يَتَعَمَّدَا مَعْصِيَةً; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

تصوم المستحاضة كما تصلي
766 - مَسْأَلَةٌ: وَتَصُومُ الْمُسْتَحَاضَةُ كَمَا تُصَلِّي
عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

من كانت عليه أيام من رمضان فأخر قضاءها عمدا أو لعذر حتى جاء رمضان آخر
767 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَأَخَّرَ قَضَاءَهَا عَمْدًا, أَوْ لِعُذْرٍ,
أَوْ لِنِسْيَانٍ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ يَصُومُ رَمَضَانَ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا أَفْطَرَ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ قَضَى الأَيَّامَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلاَ مَزِيدَ, وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا عِدَّةَ سِنِينَ، وَلاَ فَرْقَ إلاَّ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فِي تَأْخِيرِهَا عَمْدًا سَوَاءٌ أَخَّرَهَا إلَى رَمَضَانَ أَوْ مِقْدَارَ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهَا مِنْ الأَيَّامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَالْمُسَارَعَةُ إلَى اللَّهِ الْمُفْتَرَضَةُ وَاجِبَةٌ. وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَعَمِّدَ لِلْقَيْءِ, وَالْحَائِضَ, وَالنُّفَسَاءَ: بِالْقَضَاءِ; وَلَمْ يَحُدَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَقْتًا بِعَيْنِهِ, فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدَّى أَبَدًا, وَلَمْ يَأْتِ نَصُّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ بِإِيجَابِ إطْعَامٍ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُ ذَلِكَ أَحَدًا لاَِنَّهُ شَرْعٌ وَالشَّرْعُ لاَ يُوجِبُهُ فِي الدِّينِ إلاَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُطْعِمُ مَعَ الْقَضَاءِ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الرَّمَضَانِ الآتِي مُدًّا مُدًّا عَدَدَهَا مَسَاكِينَ إنْ تَعَمَّدَ

المتابعة في قضاء رمضان واجبة
768 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمُتَابَعَةُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَاجِبَةٌ:
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَيَقْضِيهَا مُتَفَرِّقَةً وَتُجْزِئُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَمْ يَحُدَّ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَقْتًا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِخُرُوجِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ نَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ قَضَائِهَا مُتَفَرِّقَةً. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ إلاَّ مُتَتَابِعَةً بِأَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ}.
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: نَزَلَتْ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ} فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٌ.
قال أبو محمد: سُقُوطُهَا مُسْقِطٌ لِحُكْمِهَا, لاَِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْقُرْآنُ بَعْدَ نُزُولِهِ إلاَّ بِإِسْقَاطِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ تعالى: {مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَقَالَ تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} فإن قيل: قَدْ يَسْقُطُ لَفْظُ الآيَةِ وَيَبْقَى حُكْمُهَا كَمَا كَانَ فِي آيَةِ الرَّجْمِ. قلنا: لَوْلاَ إخْبَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبَقَاءِ حُكْمِ الرَّجْمِ لَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَ إسْقَاطِ الآيَةِ النَّازِلَةِ بِهِ لإِنَّ مَا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ لَنَا إبْقَاءُ لَفْظِهِ، وَلاَ حُكْمِهِ إلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ.

الأسير في دار الحرب إن عرف رمضان لزمه صيامه
769 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ عَرَفَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ صِيَامُهُ إنْ كَانَ مُقِيمًا;
لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِصَوْمِهِ فِي الْقُرْآنِ; فَإِنْ سُوفِرَ بِهِ أَفْطَرَ، وَلاَ بُدَّ لاَِنَّهُ عَلَى سَفَرٍوَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذُكِرَ قَبْلُ; فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّهْرَ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ صِيَامُهُ وَلَزِمَتْهُ أَيَّامٌ أُخَرُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَتَحَرَّى شَهْرًا وَيُجْزِئُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنْ وَافَقَ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ, وَإِنْ وَافَقَ شَهْرًا بَعْدَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ, لاَِنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا تَحَرِّي شَهْرٍ فَيُجَزِّئُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ قَضَاءً فَحُكْمٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهَا. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ. قلنا: هَذَا بَاطِلٌ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ التَّحَرِّيَ عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ; بَلْ مَنْ جَهِلَهَا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا, فَيُصَلِّي كَيْفَ شَاءَ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ. قلنا: وَهَذَا بَاطِلٌ, أَيْضًا, لاَِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صَلاَةٌ إلاَّ حَتَّى يُوقِنَ بِدُخُولِ وَقْتِهَا.
قال أبو محمد: وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ إلاَّ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ, وَبِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَنَّ مَنْ جَهِلَ وَقْتَهُ فَلَمْ يَشْهَدْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَقَالَ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَعْرِفَةُ دُخُولِ رَمَضَانَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ صَوْمُ الشَّهْرِ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ صَوْمُ غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ فِيهِ وَالْمُسَافِرِ فِيهِ وَهُوَ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ, فَيَقْضِي الأَيَّامَ الَّتِي سَافَرَ, وَاَلَّتِي مَرِضَ فَقَطْ، وَلاَ بُدَّ; وَإِنْ لَمْ يُوقِنْ بِأَنَّهُ مَرِضَ فِيهِ أَوْ سَافَرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

الحامل و المرضع و الشيخ الكبير كلهم مخاطبون بالصوم
770 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ, وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالصَّوْمِ
فَصَوْمُ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ, فَإِنْ خَافَتْ الْمُرْضِعُ عَلَى الْمُرْضَعِ قِلَّةَ اللَّبَنِ وَضَيْعَتَهُ لِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا, أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَ غَيْرِهَا, أَوْ خَافَتْ الْحَامِلُ عَلَى الْجَنِينِ, أَوْ عَجَزَ الشَّيْخُ، عَنِ الصَّوْمِ لِكِبَرِهِ: أَفْطَرُوا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ إطْعَامَ, فَإِنْ أَفْطَرُوا لِمَرَضٍ بِهِمْ عَارِضٍ فَعَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ. أَمَّا قَضَاؤُهُمْ لِمَرَضٍ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي الْخَوْفِ عَلَى الْجَنِينِ,

وَالرَّضِيعِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ " فَإِذْ رَحْمَةُ الْجَنِينِ, وَالرَّضِيعِ: فَرْضٌ, وَلاَ وُصُولَ إلَيْهَا إلاَّ بِالْفِطْرِ: فَالْفِطْرُ فَرْضٌ; وَإِذْ هُوَ فَرْضٌ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا الصَّوْمُ, وَإِذَا سَقَطَ الصَّوْمُ فَإِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ, وَالْحَائِضِ, وَالنُّفَسَاءِ, وَمُتَعَمِّدِ الْقَيْءِ فَقَطْ, وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَأَمَّا الشَّيْخُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ لِكِبَرِهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فِي وُسْعِهِ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ. وَأَمَّا تَكْلِيفُهُمْ إطْعَامًا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلاَ يَجُوزُ لاَِحَدٍ إيجَابُ غَرَامَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلْقَمَةَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي حُبْلَى وَأَنَا أُطِيقُ الصَّوْمَ وَزَوْجِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُفْطِرَ فَقَالَ لَهَا عَلْقَمَةُ: أَطِيعِي رَبَّكِ وَأَعْصِي زَوْجَكِ. وَمِمَّنْ أَسْقَطَ عَنْهَا الْقَضَاءَ: رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَهِيَ حُبْلَى فَقَالَ لَهَا: أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ تَقْضِي.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لاََمَةٍ لَهُ مُرْضِعٍ: أَنْتِ بِمَنْزِلَةِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ تَقْضِي.
رُوِّينَا كِلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادٍ, وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تُفْطِرُ الْحَامِلُ الَّتِي فِي شَهْرِهَا وَالْمُرْضِعُ الَّتِي تَخَافُ عَلَى وَلَدِهَا وَتُطْعِمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا. وَبِهِ يَقُولُ قَتَادَةُ, وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمِمَّنْ أَسْقَطَ الإِطْعَامَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُفْطِرُ الْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ فِي رَمَضَانَ وَيَقْضِيَانِهِ صِيَامًا، وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهِمَا. وَمِثْلُهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ, وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ. وَمِمَّنْ رَأَى عَلَيْهِمَا الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا خَافَتْ الْمُرْضِعُ وَالْحَامِلُ عَلَى وَلَدِهَا فَلْتُفْطِرْ وَلْتُطْعِمْ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ وَلِتَقْضِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

قال أبو محمد: فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَلاَ عَلَى إيجَابِ الإِطْعَامِ فَلاَ يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ; إذْ لاَ نَصَّ فِي وُجُوبِهِ، وَلاَ إجْمَاعَ, وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَهُمْ. مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ, فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِنَا كَمَا رُوِّينَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيِّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ مُرْضِعٍ فِي رَمَضَانَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَرَخَّصَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْفِطْرِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ طَعَامًا, وقال مالك: أَمَّا الْمُرْضِعُ فَتُفْطِرُ وَتُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَتَقْضِي مَعَ ذَلِكَ, وَأَمَّا الْحَامِلُ فَتَقْضِي، وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهَا, وَلاَ يُحْفَظْ هَذَا التَّقْسِيمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى الإِطْعَامَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ, وَالشَّيْخِ, وَالْعَجُوزِ".
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ لِلْحُبْلَى, وَالْمُرْضِعِ أَنْ يُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ فَإِذَا أَفْطَمَتْ الْمُرْضِعُ, وَوَضَعَتْ الْحُبْلَى جَدَّدَتَا صَوْمَهُمَا".
قَالَ عَلِيٌّ: حَدِيثُ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ; وَحَدِيثُ الضَّحَّاكِ فِيهِ ثَلاَثُ بَلاَيَا, جُوَيْبِرٌ وَهُوَ سَاقِطٌ وَالضَّحَّاكُ مِثْلُهُ وَالإِرْسَالُ مَعَ ذَلِكَ, لَكِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ قَبْلُ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَقَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ, فَهَذَا هُوَ الْمُسْنَدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ يُصَرِّفُونَ هَذِهِ الآيَةَ تَصْرِيفَ الأَفْعَالِ فِي غَيْرِ مَا أُنْزِلَتْ فِيهِ, فَمَرَّةً يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ, وَمَرَّةً يُصَرِّفُونَهَا فِي الْحَامِلِ, وَالْمُرْضِعِ, وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ, وَكُلُّ هَذَا إحَالَةٌ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَمَا نَدْرِي كَيْفَ يَسْتَجِيزُ مَنْ يَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مِثْلَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَفِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ

وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ الإِطْعَامَ عَلَيْهِ وَاجِبًا. وقال الشافعي مَرَّةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَرَّةً كَقَوْلِ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَجَرِيرٍ قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٌ} يُكَلَّفُونَهُ، وَلاَ يُطِيقُونَهُ. قَالَ: هَذَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْهَرِمُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ الْهَرِمَةُ لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِثْلَهُ.
قال علي: هذا صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ: إنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ ضَعُفَ، عَنِ الصَّوْمِ إذْ كَبِرَ فَكَانَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, قَالَ قَتَادَةُ: الْوَاحِدُ كَفَّارَةٌ, وَالثَّلاَثَةُ تَطَوُّعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هُوَ الْكَبِيرُ الَّذِي عَجَزَ، عَنِ الصَّوْمِ, وَالْحُبْلَى يَشُقُّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ, فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إطْعَامُ مِسْكِينٍ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ, وَقَتَادَةَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ, وَالْعَجُوزِ أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ وَهُوَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ, وطَاوُوس, وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِيمَنْ مَنَعَهُ الْعُطَاشُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا.
قال أبو محمد: فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الشَّيْخِ الَّذِي لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ لِهَرَمِهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَهُ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَأَوْجَبَهُ مَالِكٌ عَلَى الْمُرْضِعِ خَاصَّةً, وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَى الْحَامِلِ، وَلاَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ بِأَنَّ الْحَامِلَ

وَالْمُرْضِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ; لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أُبِيحَ لَهُمْ الْفِطْرُ دُونَ إطْعَامٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّيْخُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ, لاَِنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ كَمَا أُبِيحَ لَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنْفُسِهِمَا وَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ; فَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمَا الْفِطْرُ مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ. وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا: عَلِيًّا, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَقَيْسَ بْنَ السَّائِبِ; وَأَبَا هُرَيْرَةَ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَخَالَفُوا: عِكْرِمَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءً, وَقَتَادَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ, وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِمِثْلِ هَذَا.
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ} فَقِرَاءَةٌ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا; لإِنَّ الْقُرْآنَ لاَ يُؤْخَذُ إلاَّ عَنْ لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلْيَقْرَأْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَحَاشَ اللَّهَ أَنْ يُطَوِّقَ الشَّيْخَ مَا لاَ يُطِيقُهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْخُ هَذِهِ الآيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ, وَفِي بَابِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ, وَأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ قَطُّ فِي الشَّيْخِ, وَلاَ فِي الْحَامِلِ, وَلاَ فِي الْمُرْضِعِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَالٍ وَقَدْ نُسِخَتْ وَبَطَلَتْ. وَالشَّيْخُ, وَالْعَجُوزُ اللَّذَانِ لاَ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَالصَّوْمُ لاَ يَلْزَمُهُمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الصَّوْمُ فَالْكَفَّارَةُ لاَ تَلْزَمُهُمَا, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُلْزِمْهُمَا إيَّاهَا، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَالأَمْوَالُ مُحَرَّمَةٌ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ يُسْقِطُونَ الْكَفَّارَةَ عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا وَقَصَدَ إبْطَالَ صَوْمِهِ عَاصِيًا, لِلَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ, وَبِالأَكْلِ, وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَمْدًا وَبِتَعَمُّدِ الْقَيْءِ. نَعَمْ, وَبَعْضُهُمْ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَنْهُ فِيمَنْ أَخْرَجَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْئًا مِنْ طَعَامِهِ فَتَعَمَّدَ أَكْلَهُ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ, ثُمَّ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ مِمَّنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِفْطَارِ وَأَبَاحَهُ لَهُ مِنْ مُرْضِعٍ خَائِفَةٍ عَلَى رَضِيعِهَا التَّلَفَ, وَشَيْخٍ كَبِيرٍ لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ ضَعْفًا, وَحَامِلٍ تَخَافُ عَلَى مَا فِي1 بَطْنِهَا; وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَخْلِيطًا; ، وَلاَ يَحِلُّ قَبُولُ مِثْلِ هَذَا إلاَّ مِنْ الَّذِي لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "على ذي بطنها".

من وطئ في اليوم مرارا فكفارة واحدة فقط
771 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ عَامِدًا فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ,
وَمَنْ وَطِئَ فِي يَوْمَيْنِ عَامِدًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ, سَوَاءٌ كَفَّرَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَ
الثَّانِيَةَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ لِكُلِّ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَامِدًا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَّرَ ثُمَّ أَفْطَرَ نَهَارًا آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَاءٌ كَفَّرَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَتْ الأَيَّامُ مِنْ شَهْرٍ وَاحِدٍ; فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ أَفْطَرَ فِيهِمَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ اثْنَيْنِ, فَلِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ غَيْرُ كَفَّارَةِ الْيَوْمِ الآخَرِ. فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ أَيَّامَ رَمَضَانَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْهَا فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ, إذَا لَمْ يُكَفِّرْ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ, وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ كَفَّرَ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ وَكَفَّرَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ; فَمَرَّةٌ قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى, وَمَرَّةٌ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ الْكَفَّارَةُ الَّتِي كَفَّرَ بَعْدُ. وقال مالك وَاللَّيْثُ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَالشَّافِعِيُّ: مِثْلَ قَوْلِنَا وَهُوَ عَطَاءٍ, وَأَحَدُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَخَالَفَ فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ.فَصَحَّ أَنَّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْكَفَّارَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا, وَكُلُّ يَوْمٍ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ; لإِنَّ الْخِطَابَ بِالْكَفَّارَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ فِيهِ كَمَا وَقَعَ فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ، وَلاَ فَرْقَ. فإن قيل: هَلاَّ قِسْتُمْ هَذَا عَلَى الْحُدُودِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لإِنَّ الْحُدُودَ الَّتِي يُقِيمُهَا الإِمَامُ وَالْحَاكِمُ عَلَى الْمَرْءِ كُرْهًا, وَلاَ يَحِلُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى نَفْسِهِ, بِخِلاَفِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي إنَّمَا يُقِيمُهَا الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ, وَلَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْحُدُودِ عَلَى نَفْسِهِ; وَفُرُوقٌ أُخَرُ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى إنْ كَانَ الْيَوْمَانِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ فَكَفَّارَتَانِ، وَلاَ بُدَّ; وَلاَ خِلاَفَ مِنْهُ فِي أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِامْرَأَتَيْنِ مِنْ بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي عَامَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مِنْ عَصِيرِ عَامٍ وَاحِدٍ, وَخَمْرًا مِنْ عَصِيرِ عَامٍ آخَرَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ سَرَقَ فِي عَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَقَطْعٌ وَاحِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَا ذَكَرْنَا, وَرَأَى فِيمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتَيْهِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ كَفَّارَةً أُخْرَى. وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ:

وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا, ثُمَّ قَالَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا أَنَّهُمَا يَمِينَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ, وَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا: فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُمَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا إذَا كَرَّرَ الْوَطْءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ إلاَّ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَعَادَ أَمْ لاَ وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ فَقَدْ أَفْطَرَ, فَالْوَطْءُ الثَّانِي وَقَعَ فِي غَيْرِ صِيَامٍ فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ, وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْوَاطِئَ بِأَوَّلِ إيلاَجِهِ مُتَعَمِّدًا ذَاكِرًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَاوَدَ أَوْ لَمْ يُعَاوِدْ, وَلاَ كَفَّارَةَ فِي إيلاَجِهِ ثَانِيَةً بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ.

من أفطر رمضان كله بسفر أو مرض فإنما عليه عدد الأيام التي أفطر و لا يجزئه شهر ناقص مكان تام
772 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ بِسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ عَدَدُ الأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ شَهْرٌ نَاقِصٌ مَكَانَ تَامٍّ,
وَلاَ يَلْزَمُهُ شَهْرٌ تَامٌّ مَكَانَ نَاقِصٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يُجْزِئُ شَهْرٌ مَكَانَ شَهْرٍ إذَا صَامَ مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.

للمرء أن يفطر في صوم التطوع إن شاء
773 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمَرْءِ أَنْ يُفْطِرَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إنْ شَاءَ,
لاَ نَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ, إلاَّ أَنَّ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ عَامِدًا قَضَاءَ يَوْمٍ مَكَانَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ, وَهَذَا مَعْلُومٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالإِجْمَاعِ, وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ, إذْ لاَ يُمْكِنُ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَصْلاً; فَالْفَرْضُ هُوَ الَّذِي يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ; وَالتَّطَوُّعُ هُوَ الَّذِي لاَ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ وَلَوْ عَصَى لَكَانَ فَرْضًا, وَالْمُفَرِّطُ فِي التَّطَوُّعِ تَارِكٌ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضًا, فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ الَّذِي سَأَلَهُ، عَنِ الصَّوْمِ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِرَمَضَانَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ إلاَّ أَنْ تَتَطَوَّعَ شَيْئًا" فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ; فَقَالَ عليه السلام: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ, دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ", فَلَمْ يَجْعَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْكِ التَّطَوُّعِ كَرَاهَةً أَصْلاً. وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ, أَوْ بَدَا لَهُ فِي صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ, أَوْ فَسَخَ عَمْدًا حَجَّ تَطَوُّعٍ, أَوْ اعْتِكَافَ تَطَوُّعٍ, وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَدَعْوَى لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهَا, وَإِيجَابُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا إلاَّ فِي فِطْرِ التَّطَوُّعِ فَقَطْ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فإن قيل: إنَّكُمْ تُوجِبُونَ فَرْضًا فِي الصَّوْمِ غَيْرَ رَمَضَانَ كَالنَّذْرِ وَصِيَامِ الْكَفَّارَاتِ قلنا:

من أفطر عامدا في قضاء رمضان فليس عليه إلا قضاء يوم واحد فقط
774 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ قَضَاءُ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ
لإِنَّ إيجَابَ الْقَضَاءِ إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَضَى ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ كَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ; لاَِنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا, وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ, يَوْمِ رَمَضَانَ, وَيَوْمِ الْقَضَاءِ.

المجلد السابع
تابع كتاب الصيام

تابع مسائل في قضاء الصوم والكفارة
ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان
بسم الله الرحمن الرحيم
775 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ, أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ فَفَرْضٌ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَنْ يَصُومُوهُ عَنْهُ هُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ, وَلاَ إطْعَامَ فِي ذَلِكَ أَصْلاً أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ اُسْتُؤْجِرَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يَصُومُهُ عَنْهُ، وَلاَ بُدَّ أَوْصَى بِكُلِّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمَا.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: إنْ أَوْصَى أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ أُطْعِمَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ, وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالإِطْعَامُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مُدٌّ مُدٌّ, وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ صَاعٌ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْبُرِّ أَوْ دَقِيقِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ كَمَا قلنا. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي النَّذْرِ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، نا ابْنُ وَهْبٍ, وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ: نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، نا أَبِي. ثُمَّ اتَّفَقَ مُوسَى, وَابْنُ وَهْبٍ كِلاَهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ.

نا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، نا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
قال أبو محمد: سَمِعَهُ الأَعْمَشُ مِنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ, وَمِنْ الْحَكَمِ, وَمِنْ سَلَمَةَ, وَسَمِعَهُ الْحَكَمُ, وَسَلَمَةُ مِنْ مُجَاهِدٍ. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ, وَعَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ السَّعْدِيِّ, قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ, وَقَالَ عَبْدٌ: نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ: نا عَلِيُّ بْنُ مِسْهَرٍ, ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ نُمَيْرٍ, وَسُفْيَانُ, وَعَلِيُّ بْنُ مِسْهَرٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: "إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ: "صُومِي", قَالَتْ: إنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ: حُجِّي عَنْهَا" . قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: شَهْرَيْنِ, وَاتَّفَقُوا عَلَى كُلٍّ مَا عَدَا ذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَهَذَا الْقُرْآنُ, وَالسُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ الْمُتَظَاهِرَةُ الَّتِي لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا, وَكُلُّهُمْ يَقُولُ: يُحَجُّ، عَنِ الْمَيِّتِ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ, ثُمَّ لاَ يَرَوْنَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ وَإِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ, وَكِلاَهُمَا عَمَلُ بَدَنٍ, وَلِلْمَالِ فِي إصْلاَحِ مَا فَسَدَ مِنْهُمَا مَدْخَلٌ بِالْهَدْيِ, وَبِالإِطْعَامِ, وَبِالْعِتْقِ, فَلاَ الْقُرْآنَ اتَّبَعُوا, وَلاَ بِالسُّنَنِ أَخَذُوا، وَلاَ الْقِيَاسَ عَرَفُوا, وَشُغِلُوا فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} . وَذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: عِلْمٌ عَلَّمَهُ, أَوْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ, أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ" . وَبِأَثَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ لَمْ يُطْعَمْ عَنْهُ, وَإِنْ صَحَّ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ" وقال بعضهم: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمَا رَوَيَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا الصِّيَامَ، عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ

عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ اسْمُهَا عَمْرَةُ: أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَقْضِيه عَنْهَا قَالَتْ: لاَ, بَلْ تَصَدَّقِي عَنْهَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ. وَإِذَا تَرَكَ الصَّاحِبُ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ, إذْ لَوْ تَعَمَّدَ مَا رَوَاهُ لَكَانَتْ جُرْحَةً فِيهِ, وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: لاَ يُصَامُ عَنْهُ كَمَا لاَ يُصَلَّى عَنْهُ
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَهُوَ كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ, أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} فَحَقٌّ إلاَّ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}. وَهُوَ الَّذِي قَالَ: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى, وَمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لَهُ مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ عَنْهُ, وَالصَّوْمُ عَنْهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ نَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقَالُوا: إنْ حَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ, أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ, أَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ, فَأَجْرُ كُلِّ ذَلِكَ لَهُ، وَلاَ حَقَّ بِهِ, فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ.
فَإِنْ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إنَّمَا يُحَجُّ عَنْهُ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ, لاَِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سَعَى قلنا لَهُ: فَقُولُوا: بِأَنْ يُصَامَ عَنْهُ كَمَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ لاَِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سَعَى. فَإِنْ قَالُوا: لِلْمَالِ فِي الْحَجِّ مَدْخَلٌ فِي جَبْرِ مَا نَقَصَ مِنْهُ قلنا: وَلِلْمَالِ فِي الصَّوْمِ مَدْخَلٌ فِي جَبْرِ مَا نَقَصَ مِنْهُ بِالْعِتْقِ وَالاِطِّعَامِ; وَكُلُّ هَذَا مِنْهُمْ تَخْلِيطٌ, وَتَنَاقُضٌ, وَشَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ يُجِيزُونَ الْعِتْقَ عَنْهُ, وَالصَّدَقَةَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ.
وَأَمَّا إخْبَارُهُ عليه السلام بِأَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ, فَصَحِيحٌ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا الْفَضِيحَةَ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهِ وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ قَالَ لَهُمْ: إنَّ صَوْمَ الْوَلِيِّ، عَنِ الْمَيِّتِ هُوَ عَمَلُ الْمَيِّتِ حَتَّى يَأْتُوا بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلاَّ انْقِطَاعُ عَمَلِ الْمَيِّتِ فَقَطْ, وَلَيْسَ فِيهِ انْقِطَاعُ عَمَلِ غَيْرِهِ أَصْلاً, وَلاَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ; فَظَهَرَ قُبْحُ تَمْوِيهِهِمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَلاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ إلاَّ عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ فَسَادِهَا لِعِلَلٍ ثَلاَثٍ فِيهِ: إحْدَاهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِيهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ, وَهُوَ سَاقِطٌ, وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ فِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ كَذَّابٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ; لإِنَّ فِيهِ إيجَابَ

الإِطْعَامِ عَنْهُ إنْ صَحَّ بَعْدَ أَنْ مَرِضَ, وَالْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ, إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ, وَإِلاَّ فَلاَ.
فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى ذَلِكَ إنْ أَوْصَى بِهِ قلنا: كَذَبْتُمْ وَزِدْتُمْ فِي الْخَبَرِ خِلاَفَ مَا فِيهِ, لإِنَّ فِيهِ إنْ مَاتَ وَلَمْ يَصِحَّ لَمْ يُطْعَمْ عَنْهُ فَلَوْ أَرَادَ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ لَمَا كَانَ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ تَمَادِي مَرَضِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ, وَبَيْنَ صِحَّتِهِ بَيْنَ مَرَضِهِ وَمَوْتِهِ فَيُطْعَمُ عَنْهُ; لاَِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِالإِطْعَامِ عَنْهُ, وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أُطْعِمَ عَنْهُ عِنْدَهُمْ; فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْهَالِكِ وَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا تَمْوِيهُهُمْ بِأَنَّ عَائِشَةَ, وَابْنَ عَبَّاسٍ رَوَيَا الْخَبَرَ وَتَرَكَاهُ فَقَوْلٌ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَا قَالُوا, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا افْتَرَضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ رِوَايَةِ الصَّاحِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفْتَرِضْ عَلَيْنَا قَطُّ اتِّبَاعَ رَأْيِ أَحَدِهِمْ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الصَّاحِبُ اتِّبَاعَ مَا رَوَى لِوُجُوهٍ غَيْرِ تَعَمُّدِ الْمَعْصِيَةِ, وَهِيَ أَنْ يَتَأَوَّلَ فِيمَا رَوَى تَأْوِيلاً مَا اجْتَهَدَ فِيهِ فَأَخْطَأَ فَأُجِرَ مَرَّةً, أَوْ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ مَا رَوَى فَأَفْتَى بِخِلاَفِهِ; أَوْ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِخِلاَفِهِ وَهُمَا مِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ، عَنِ الصَّاحِبِ; فَإِذْ كُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنُ فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا لَمْ يَأْمُرْنَا بِاتِّبَاعِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَلُ فَكَيْفَ وَكُلُّهَا مُمْكِنٌ فِيهِ، وَلاَ مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ, لاَِنَّهُ يُعَارَضُ بِأَنْ يُقَالَ: كَوْنُ ذَلِكَ الْخَبَرِ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّاحِبِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِخِلاَفِهِ, أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا وَافَقَتْ تَقْلِيدَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلُ الصَّاحِبِ رَأْيَ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ إطْرَاحُ رَأْيِ الصَّاحِبِ وَالتَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ وَهَذَا فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى رِقَّةِ الدِّينِ وَقِلَّةِ الْوَرَعِ.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها رَوَتْ فُرِضَتْ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحَالَةِ الآُولَى. ثُمَّ رُوِيَ عَنْهَا مِنْ أَصَحِّ طَرِيقِ الإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ; فَتَعَلَّقَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ بِرِوَايَتِهَا وَتَرَكُوا رَأْيَهَا, إذْ خَالَفَتْ فِيهِ مَا رَوَتْ, وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا

فَنِكَاحُهَا بَاطِلٍ" ثُمَّ أَنْكَحَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبُوهَا غَائِبٌ بِالشَّامِ بِغَيْرِ إذْنِهِ, وَأَنْكَرَ ذَلِكَ إذْ بَلَغَهُ أَشَدَّ الإِنْكَارِ, فَخَالَفُوا رَأْيَهَا وَاتَّبَعُوا رِوَايَتَهَا. وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ التَّحْرِيمَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ثُمَّ كَانَتْ لاَ تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إخْوَتِهَا, وَتُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ بَنَاتُ أَخَوَاتِهَا, فَتَرَكُوا رَأْيَهَا وَاتَّبَعُوا رِوَايَتَهَا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ عَنْهُ: إيجَابَ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ, وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ وَأَنَّهُ لاَ يَقْضِيهِ, فَتَرَكُوا الثَّابِتَ مِنْ رَأْيِهِ لِلْهَالِكِ مِنْ رِوَايَتِهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ثُمَّ رُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَاءَانِ لاَ يُجْزِئَانِ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ: مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْحَمَّامِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ "مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ" مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ, وَصَحَّ عَنْهُ مِنْ رَأْيِهِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَتَرَكَ الْحَنَفِيُّونَ رَأْيَهُ لِرِوَايَتِهِ, وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ جِدًّا وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ تُحَقِّقُ تَلاَعُبَ الْقَوْمِ بِدِينِهِمْ.
وَالرَّابِعُ أَنْ نَقُولَ: لَعَلَّ الَّذِي رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ فِيهِ الإِطْعَامُ كَأَنْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَتْ فَلاَ صَوْمَ عَلَيْهَا.
وَالْخَامِسُ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفُتْيَا بِمَا رُوِيَ مِنْ الصَّوْمِ، عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ نَسِيَ, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ مِمَّنْ لَمْ نُكَلَّفْهُ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ فِي هَذَا أَقْوَالٌ.
رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لاَِخِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: إنَّ عَلَيَّ رَمَضَانَيْنِ لَمْ أَصُمْهُمَا فَسَأَلَ أَخُوهُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بَدَنَتَانِ مُقَلَّدَتَانِ, ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ مَا شَأْنُ الْبُدْنِ وَشَأْنُ الصَّوْمِ, أَطْعِمْ، عَنْ أَخِيكَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قال أبو محمد: إنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْبَدَنَتَيْنِ حُجَّةً فَلَيْسَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِطْعَامِ حُجَّةً، وَلاَ فَرْقَ; وَلَعَلَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُطِيقًا لِلصَّوْمِ, أَوْ لَعَلَّ ذَيْنَكَ الرَّمَضَانَيْنِ كَانَا، عَنْ تَعَمُّدٍ فَلاَ قَضَاءَ فِي ذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:

إذَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ صِيَامُ رَمَضَانَ أُطْعِمَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَمِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ مَاتَ الَّذِي عَلَيْهِ صَوْمٌ وَلَمْ يَصِحَّ قَبْلَ مَوْتِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَإِنْ صَحَّ أُطْعِمَ عَنْهُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةً. وَعَنِ الْحَسَنِ إنْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ صَحَّ فَلَمْ يَقْضِ صَوْمَهُ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مَكُّوكٌ مِنْ بُرٍّ, وَمَكُّوكٌ مِنْ تَمْرٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ طَائِفَةٍ مُدٌّ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ, وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ: لاَ إطْعَامَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ صِيَامَ, وَأَيْضًا فَإِنَّ احْتِجَاجَ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ بِتَرْكِ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لأَنَّهُمْ خَالَفُوا عَائِشَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهَا أَنْ يُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ لِمِسْكِينٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ: بِهَذَا, فَإِنْ كَانَ تَرْكُ عَائِشَةَ لِلْخَبَرِ حُجَّةً, فَقَوْلُهَا فِي نِصْفِ صَاعٍ حُجَّةٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهَا فِي نِصْفِ صَاعٍ حُجَّةً فَلَيْسَ تَرْكُهَا لِلْخَبَرِ حُجَّةً, فَظَهَرَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَجُّونَ مِنْ قَوْلِ الصَّاحِبِ بِمَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ فَقَطْ; فَإِذَا خَالَفَ مَنْ قَلَّدُوهُ هَانَ عَلَيْهِمْ خِلاَفُ الصَّاحِبِ, وَهَذَا دَلِيلُ سَوْءٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ, وَرَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ وَنَذْرُ شَهْرٍ: يُطْعَمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ وَيَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ نَذْرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ وَصَوْمُ شَهْرٍ فَقَالَ: يُطْعَمُ عَنْهُ لِرَمَضَانَ وَيُصَامُ عَنْهُ النَّذْرُ, وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ; فَإِنْ كَانَ تَرْكُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا تَرَكَ مِنْ الْخَبَرِ حُجَّةً فَأَخْذُهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ حُجَّةٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ بِمَا أَخَذَ بِهِ حُجَّةً فَتَرْكُهُ مَا تَرَكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَمَا عَدَا هَذَا فَتَلاَعُبٌ بِالدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: حَدَّثُونِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ: إنْ لَمْ يَجِدُوا مَا يُطْعَمُ عَنْهُ صَامَهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ, وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ

مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ صِيَامُ رَمَضَانَ قَضَى عَنْهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ, قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَبِهِ إلَى مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرُ صِيَامٍ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ, وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ; لإِنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِذَلِكَ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِالإِطْعَامِ فَيُطْعَمَ عَنْهُ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ قَالَ بِهَذَا; إلاَّ رِوَايَةً، عَنِ الْحَسَنِ قَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يُصَامُ عَنْهُ كَمَا لاَ يُصَلَّى عَنْهُ; فَبَاطِلٌ وَقِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ بَلْ يُصَلَّى عَنْهُ النَّذْرُ, وَصَلاَةُ فَرْضٍ إنْ نَسِيَهَا أَوْ نَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى مَاتَ; فَهَذَا دَخَلَ تَحْتَ, قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" . وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ تُصَلَّى الرَّكْعَتَانِ إثْرَ الطَّوَافِ، عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُحَجُّ عَنْهُ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي قَضَاءِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمَيِّتِ. وقال الشافعي: إنْ صَحَّ الْخَبَرُ قلنا بِهِ وَإِلاَّ فَيُطْعَمُ عَنْهُ مُدٌّ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ. وَإِنَّمَا قلنا: إنَّ الاِسْتِئْجَارَ لِذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
قال أبو محمد: مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: بَلْ دَيْنُ النَّاسِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ.

فإن صامه بعض أوليائه
776 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَامَهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ أَجْزَأَ; لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ, وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَاقْتَسَمُوهُ جَازَ كَذَلِكَ أَيْضًا إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَنْ يَصُومُوا كُلُّهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . فَلاَ بُدَّ مِنْ أَيَّامٍ مُتَغَايِرَةٍ, فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَلاَ عَلَيْهِ; لإِنَّ الأَثَرَ إنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ, وَهَذَا مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ الصَّوْمُ فَلَمْ يُكَلَّفْ, وَإِذَا لَمْ يُكَلَّفْهُ فَقَدْ مَاتَ، وَلاَ صَوْمَ عَلَيْهِ.

وَالأَوْلِيَاءُ هُمْ ذَوُو الْمَحَارِمِ بِلاَ شَكٍّ وَلَوْ صَامَهُ الأَبْعَدُ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أَجْزَأَ عَنْهُ, لاَِنَّهُ وَلِيُّهُ, فَإِنْ أَبَوْا مِنْ الصَّوْمِ فَهُمْ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ ذَلِكَ الصَّوْمِ; لاَِنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" . وَبِأَمْرِهِ عليه السلام الْوَلِيَّ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ.

فإن تعمد النذور ليوقعها على وليه بعد موته
777 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَعَمَّدَ النُّذُورَ لِيُوقِعَهَا عَلَى وَلِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَيْسَ نَذْرًا، وَلاَ يَلْزَمُهُ هُوَ، وَلاَ وَلِيُّهُ بَعْدَهُ, وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ".
قال علي: وهذا النَّذْرُ إنَّمَا يَكُونُ نَذْرًا إذَا قُصِدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ فَإِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَلاَ غَيْرَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ومن نذر صوم يوم فأكثر
778 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ, شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, أَوْ تَقَرُّبًا إلَيْهِ تَعَالَى, أَوْ إنْ فَاقَ, أَوْ إنْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَلاً يَأْمُلُهُ لاَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَأْمُولِ, فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَيْلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ". فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ نَذْرِ مَعْصِيَةٍ كَمَنْ نَذَرَتْ صَوْمَ يَوْمِ حَيْضَتِهَا أَوْ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ, وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ.

فإِن نذر ما ليس طاعة
...
779 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً كَالْقُعُودِ فِي دَارِ فُلاَنٍ أَوْ أَنْ لاَ يَأْكُلَ خُبْزًا مَأْدُومًا أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ, وَلاَ حُكْمَ لِهَذَا إلاَّ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ تَعَالَى

وينهى عنِ النذرِ جملة فإِن وقع لزِم كما قدمنا
...
780 - مَسْأَلَةٌ: وَيُنْهَى، عَنِ النَّذْرِ جُمْلَةً فَإِنْ وَقَعَ لَزِمَ كَمَا قَدَّمْنَا, رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى أَبِي دَاوُد، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى، عَنِ النَّذْرِ وَيَقُولُ: "لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ" . فَفِي قَوْلِهِ عليه السلام: "وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ". إيجَابٌ لِلْوَفَاءِ بِهِ إذَا وَقَعَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

ومن قال علي لله تعالى صوم يوم أفيق
781 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ لِلَّهِ تَعَالَى صَوْمُ يَوْمَ أُفِيقُ, أَوْ قَالَ: يَوْمَ يَقْدَمُ فُلاَنٌ, أَوْ قَالَ يَوْمَ أَنْطَلِقُ مِنْ سِجْنِي, أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا فَكَانَ مَا رَغِبَ فِيهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا: لَمْ يَلْزَمْهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلاَ قَضَاؤُهُ، وَلاَ صَوْمُ غَيْرِهِ; لاَِنَّهُ إنْ كَانَ مَا رَغِبَ فِيهِ لَيْلاً فَلَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ, وَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلاَ يُمْكِنُهُ إحْدَاثُ صَوْمٍ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ، وَلاَ تَقَدَّمَ إلْزَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إيَّاهُ, وَلاَ يَلْزَمُهُ صِيَامُ يَوْمٍ آخَرَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إنْ قَدِمَ نَهَارًا صَامَ بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, وقال مالك: إنْ قَدِمَ لَيْلاً صَامَ النَّاذِرُ غَدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ.

فلو قال في كل ذلك: علي صوم ذلك اليوم
ِ
...
782 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ قَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ: عَلَيَّ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَبَدًا فَإِنْ كَانَ لَيْلاً لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا قَدَّمْنَا, لاَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ صِيَامُ اللَّيْلِ, لاَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ, فَإِنْ كَانَ نَهَارًا لَزِمَهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا تَكَرَّرَ كَمَا نَذَرَهُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ غَيْرُ مَا نَذَرَ.

ومن أفطر في صوم نذرٍ عامدا أو لعذرٍ
...
783 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ فِي صَوْمِ نَذْرٍ عَامِدًا أَوْ لِعُذْرٍ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ نَذَرَ أَنْ يَقْضِيَهُ فَيَلْزَمُهُ, لاَِنَّهُ إذَا لَمْ يَنْذِرْ الْقَضَاءَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَنْذِرْهُ; إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ.

ومن نذر صوم يومين
784 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ مُتَفَرِّقًا لاَِنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا نَذَرَ.

فلو نذر صوم جمعة أو قال: شهر
ٍ
...
785 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ جُمُعَةٍ أَوْ قَالَ: شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ إلاَّ مُتَتَابِعًا، وَلاَ بُدَّ; فَإِنْ تَعَمَّدَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ فِطْرًا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ: ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ لإِنَّ اسْمَ الْجُمُعَةِ وَالشَّهْرِ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ لاَ مُتَفَرِّقَةٍ, فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ لاَ مَا لَمْ يَنْذِرْ; فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ ذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ بِمَا نَذَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ.

ومن نذر صوم جمعتين أو قال: شهرين, ولم ينذر التتابع
786 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ جُمُعَتَيْنِ أَوْ قَالَ: شَهْرَيْنِ, وَلَمْ يَنْذِرْ التَّتَابُعَ فِي ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ كُلَّ جُمُعَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَلاَ بُدَّ, وَكُلُّ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا، وَلاَ بُدَّ, وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجُمُعَةِ, وَبَيْنَ الشَّهْرِ وَالشَّهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا إلاَّ أَنْ يَنْذِرَهُمَا مُتَتَابِعِينَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ; لاَِنَّهُ طَاعَةٌ زَائِدَةٌ.

فإِن صام الشهر ما بين الهِلالين لزِمه إتمامه
...
787 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَامَ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ, فَإِنْ ابْتَدَأَ صِيَامَهُ بَعْدَ دُخُولِ الشَّهْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا مُتَّصِلَةٌ، وَلاَ بُدَّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ"، وَأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَلاَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ يَوْمٍ إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ، وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ; وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا نَذَرَ مِنْ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَقَطْ; فَإِنْ نَذَرَ نِصْفَ شَهْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا, لإِنَّ كَسْرَ يَوْمٍ لاَ يَلْزَمُهُ صِيَامُهُ لِمَنْ نَذَرَهُ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ يَوْمًا زَائِدًا لَمْ يُنْذَرْهُ.

ومن نذر صوم سنة فقد قال قوم: يصوم اثني عشر شهرا
ً
...
788 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَصُومُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لاَ يَعُدُّ فِيهَا رَمَضَانَ, وَلاَ يَوْمَ الْفِطْرِ, وَالأَضْحَى, وَلاَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ, وَفِي هَذَا عِنْدَنَا نَظَرٌ وَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا أَنْ لاَ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ; لإِنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا إلْزَامٌ لَهُ مَا لَمْ يَنْذِرْهُ; لإِنَّ اسْمَ سَنَةٍ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مُتَّصِلَةٍ لاَ مُبَدَّدَةٍ, وَهُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ كَمَا نَذَرَهُ; فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلاَ نَذَرَهُ, وَلاَ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَمْ يُمْكِنْ, وَمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَمَنْ ادَّعَى هَاهُنَا إجْمَاعًا فَقَدْ كَذَبَ; لاَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ فِي ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ، عَنْ صَاحِبٍ أَصْلاً, وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ قَوْلاً، عَنْ تَابِعٍ. وَقَدْ قَالَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ يُفْطِرُ فِيهَا يَوْمَيْ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ, ثُمَّ يَقْضِيهَا. وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, وَلاَ يَقْضِيهَا. وقال مالك: يَصُومُ, وَيُفْطِرُ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, وَلاَ يَقْضِي رَمَضَانَ, وَلاَ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَصُومُ

ومن كان عليه صوم يومٍ بِعينه نذرا
...
789 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ نَذْرًا فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ لَزِمَهُ فَرْضًا أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِرَمَضَانَ لاَ لِلنَّذْرِ أَصْلاً; فَإِنْ صَامَهُ لِنَذْرِهِ أَوْ لِرَمَضَانَ وَلِنَذْرِهِ فَالإِثْمُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ لاَ لِنَذْرِهِ، وَلاَ لِرَمَضَانَ; لإِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَقَدِّمٌ لِنَذْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ، وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِهِ مُخْلِصًا لَهُ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ; وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

وأفضل الصوم بعد الصيامِ المفروض صوم يومٍ وإفطار يوم
...
790 - مَسْأَلَةٌ: وَأَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ. وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ مِمَّنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بِهَا الْحُجَّةُ, وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ الدَّهْرِ أَصْلاً.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا الأَوْزَاعِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَلاَ تَفْعَلْ, صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ; فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا; وَإِنَّ

قال أبو محمد: ونستحِب صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر
...
791 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ, وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ الاِثْنَيْنِ, وَالْخَمِيسِ, وَكُلُّ هَذَا فَبِأَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, فأما الثَّلاَثَةُ الأَيَّامِ فَلِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَمَّا الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسُ فَلِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، نا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْمُسَيِّبِ، هُوَ ابْنُ رَافِعٍ، عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الاِثْنَيْنِ, وَالْخَمِيسَ" . وَيَكْرَهُ صَوْمَ شَهْرٍ تَامٍّ غَيْرِ رَمَضَانَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ قَوْلِنَا آنِفًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

ومن اقتصر على الفرض فقط
792 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْضِ فَقَطْ فَحَسَنٌ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي سَأَلَهُ، عَنِ الدِّينِ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِوُجُوبِ رَمَضَانَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ: "لاَ إلاَّ أَنْ تَتَطَوَّعَ" وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ; فَقَالَ السَّائِلُ: وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ".

ونستحِب صوم يوم عاشوراء: وهو التاسع من المحرم
...
793 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: وَهُوَ التَّاسِعُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ صَامَ الْعَاشِرَ بَعْدَهُ فَحَسَنٌ. وَنَسْتَحِبُّ أَيْضًا صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ وَغَيْرِهِ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ". وَسُئِلَ، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الأَعْرَجِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: إذَا رَأَيْتَ هِلاَلَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا فَقُلْتُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ قَالَ: نَعَمْ.
نا حَمَّادُ بْنُ مُفَرِّجٍ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا الدَّبَرِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي

ونستحِب صيام أيام العشرِ من ذي الحجة قبل النحر
...
794 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ النَّحْرِ لِمَا ناهُ حُمَامٌ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا الدَّبَرِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِيهِمْ الْعَمَلُ أَوْ أَفْضَلُ فِيهِنَّ الْعَمَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". قال أبو محمد: هُوَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ, وَالصَّوْمُ عَمَلُ بِرٍّ; فَصَوْمُ عَرَفَةَ يَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا.

ولا يحل صوم يوم الجمعة إلا لمن صام يوما قبله أو يوما بعده
795 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلاَّ لِمَنْ صَامَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ فَلَوْ نَذَرَهُ إنْسَانٌ كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلاً, فَلَوْ كَانَ إنْسَانٌ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَجَاءَهُ صَوْمُهُ فِي الْجُمُعَةِ فَلْيَصُمْهُ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلاَ تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْجَحْدَرِيُّ، نا بِشْرٌ، هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، نا سَعِيدٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ لَهَا: أَصُمْتِ أَمْسِ قَالَتْ: لاَ قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ: لاَ قَالَ: فَأَفْطِرِي. وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ; وَمِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ جُنَادَةَ الأَزْدِيُّ: وَلَهُ صُحْبَةٌ كُلُّهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ، هُوَ ابْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِزَيْدِ بْنِ صَوْحَانَ: "اُنْظُرْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلاَ تُصَلِّهَا".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ قَالَ: مَرَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَبِي ذَرٍّ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَهُمْ صِيَامٌ فَقَالَ: عَزَمْت عَلَيْكُمْ لِمَا أَفْطَرْتُمْ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ أَدْرَكَ أَبَا ذَرٍّ وَجَالَسَهُ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَهَى، عَنْ تَعَمُّدِ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لاَ تَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلاَّ أَنْ تَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ; وَمُجَاهِدٍ, وَالشَّعْبِيِّ, وَابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمْ, وَذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ عَمَّنْ لَقِيَ, وَإِنَّمَا لَقِيَ أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ.

فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زَرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرً وَقَلَّ مَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَلَّ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُفْطِرًا يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَلَّ مَا رَأَيْتُهُ مُفْطِرًا يَوْمَ جُمُعَةٍ قَطُّ.
قال أبو محمد: لَيْثٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَصَحِيحٌ, وَالْقَوْلُ فِيهَا كُلُّهَا سَوَاءٌ, وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لاَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إبَاحَةُ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ دُونَ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ. وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ صِيَامَهُ إذَا صَامَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ نَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ عَنْهُ صَاحِبُهُ, وَلاَ أَنْ نَحْمِلَ فِعْلَهُ عَلَى مُخَالِفَةِ أَمْرِهِ أَلْبَتَّةَ إلاَّ بِبَيَانِ نَصٍّ صَحِيحٍ فَيَكُونَ حِينَئِذٍ نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا, قَالَ تَعَالَى آمِرًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وطَاوُوس بَيَانُ قَوْلِنَا بِأَصَحَّ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ.
نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى، عَنْ افْتِرَادِ الْيَوْمِ كُلَّمَا مَرَّ بِالإِنْسَانِ يَعْنِي، عَنْ صِيَامِهِ: فَصَحَّ نَهْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ افْتِرَادِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فِي الصَّوْمِ, فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَتَحَرَّى يَوْمًا يَصُومُهُ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفًا أَصْلاً فِي النَّهْيِ، عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

فلو نذر المرء صوم يوم يفِيق, أو ذلك فوافق يوم جمعة
...
796 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ نَذَرَ الْمَرْءُ صَوْمَ يَوْمَ يُفِيقُ, أَوْ ذَلِكَ فَوَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ لَمْ يَلْزَمْ; لاَِنَّهُ لاَ يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَهُ, وَلاَ يَوْمًا بَعْدَهُ, وَلاَ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ, وَلاَ يَجُوزُ صِيَامُهُ إلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ولا يحِل صوم الليلِ أصلا
...
797 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ اللَّيْلِ أَصْلاً, وَلاَ أَنْ يَصِلَ الْمَرْءُ صَوْمَ يَوْمٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ لاَ يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا, وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلاَ بُدَّ.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، نا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ الْهَادِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ

ولا يجوز صوم يومِ الشك الذي من آخرِ شعبان
...
798 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ الَّذِي مِنْ آخِرِ شَعْبَانَ, وَلاَ صِيَامُ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِ الشَّكِّ الْمَذْكُورِ إلاَّ مَنْ صَادَفَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَيَصُومُهُمَا حِينَئِذٍ لِلْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَصُومُهُمَا لَهُ لاَ لاَِنَّهُ يَوْمُ شَكٍّ، وَلاَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَأَبُو كُرَيْبٍ كِلاَهُمَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، وَلاَ يَوْمَيْنِ إلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْ". وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَهُ عليه السلام بِأَنْ لاَ يُصَامُ حَتَّى يُرَى الْهِلاَلُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَمْرٍو.
نا عبد الله بن ربيع، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلاَثِينَ", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَغَضِبَ وَقَالَ: "لاَ".
قال أبو محمد: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ غَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْخَبَرُ يُوَضِّحُ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَيِّ صَاحِبٍ، وَلاَ غَيْرِهِ أَصْلاً وَبِهَذَا يَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لاََنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ يَوْمًا لَيْسَ فِيهِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ صِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فِي آخِرِ شَعْبَانَ يَقُولُ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ; وَابْنِ عَبَّاسٍ; وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: لَوْ صُمْت السَّنَةَ كُلَّهَا لاََفْطَرْت الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ.
قال أبو محمد: وَرُوِيَ خِلاَفُ هَذَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: لاََنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ الشَّكِّ.

وَنا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا خَلَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً مِنْ شَعْبَانَ بَعَثَ مَنْ يَنْظُرُ الْهِلاَلَ فَإِنْ حَالَ مِنْ دُونِ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا, وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ أَصْبَحَ مُفْطِرًا. وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الشَّكِّ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَكْرَهُ صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ إلاَّ إنْ أُغْمِيَ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ يَوْمَ الشَّكِّ صَائِمًا فَإِنْ قَدِمَ خَبَرٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ أَتَمَّ صَوْمَهُ وَإِلاَّ أَفْطَرَ. وَبِالنَّهْيِ، عَنْ صَوْمِهِ جُمْلَةً يَقُولُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَعِكْرِمَةُ, وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ.
قال أبو محمد: هَذَا ابْنُ عُمَرَ هُوَ رَوَى أَنْ لاَ يُصَامُ حَتَّى يَرَى الْهِلاَلَ ثُمَّ كَانَ يَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا; وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ صُمْت مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ [شَيْئًا يَعْنِي شَعْبَانَ] قَالَ: لاَ, قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إلاَّ شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِي الأَزْهَرِ الْمُغِيرَةِ بْنِ فَرْوَةَ قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي النَّاسِ فِي دَيْرِ مِسْحَلٍ الَّذِي عَلَى بَابِ حِمْصٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْهِلاَلَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَأَنَّا مُتَقَدِّمٌ بِالصِّيَامِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلْيَفْعَلْهُ, فَقَامَ إلَيْهِ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّبَائِيُّ فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ شَيْءٌ مِنْ رَأْيِكَ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ".
قال أبو محمد: الْمُغِيرَةُ بْنُ فَرْوَةٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً, لإِنَّ

نَصَّهُ "صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ" وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ شَهْرُ رَمَضَانَ لاَ مَا سِوَاهُ وَسِرَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ, وَلاَ يَخْلُو سِرُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ أَوْ وَسَطَهُ وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ مِنْ رَمَضَانَ لاَ مِنْ شَعْبَانَ, وَلَيْسَ فِيهِ: صُومُوا سِرَّ شَعْبَانَ; فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهِ. وَأَمَّا خَبَرُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ مَعْهُودٌ فَوَافَقَ يَوْمَ الشَّكِّ فَلْيَصُمْهُ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ صَوْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَفِي وَصْلِهِ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ إلاَّ عَلَى أَنَّهُ صَوْمٌ مَعْهُودٌ كَانَ لَهُ.
وَأَمَّا خَبَرُ عِمْرَانَ فَصَحِيحٌ إلاَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَاذَا كَانَ يَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إنَّهُ صَامَ سِرَرَ شَعْبَانَ أَيَنْهَاهُ أَمْ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَالشَّرَائِعُ الثَّابِتَةُ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا بِالظُّنُونِ، وَلاَ بِمَا لاَ بَيَانَ فِيهِ, ثُمَّ لَوْ كَانَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ بَيَانٌ جَلِيٌّ بِإِبَاحَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ شَعْبَانَ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لإِنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ وَغَيْرِهِ كَانَ مُبَاحًا بِلاَ شَكٍّ فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ; لإِنَّ الصَّوْمَ جُمْلَةً عَمَلُ بِرٍّ وَخَيْرٍ; فَلَمَّا صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ قَبْلَ رَمَضَانَ إلاَّ لِمَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ يَصُومُهُ صَحَّ يَقِينًا لاَ مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّ الإِبَاحَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ قَدْ نُسِخَتْ وَبَطَلَتْ; لإِنَّ الصَّوْمَ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا النَّهْيِ بِنَصِّهِ كَمَا هُوَ لاِسْتِثْنَائِهِ عليه السلام مَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ فَلْيَصُمْهُ, وَلاَ يَحِلُّ الْعَمَلُ بِشَيْءٍ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُ النَّاسِخِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْحَالَةَ الْمَنْسُوخَةَ قَدْ عَادَتْ، وَأَنَّ النَّاسِخَ قَدْ بَطَلَ فَقَدْ كَذَبَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَقَالَ مَا لاَ دَلِيلَ لَهُ بِهِ أَبَدًا, وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ.

ولا معنى للتلوم في يوم الشك
799 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ مَعْنَى لِلتَّلَوُّمِ فِي يَوْمِ الشَّكِّ, لاَِنَّهُ إنْ كَانَ تَلَوُّمُهُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَرْكِ صَوْمِهِ وَوَاقَعَ النَّهْيَ, وَإِنْ كَانَ تَلَوَّمُهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الصَّوْمِ فَهُوَ عَنَاءٌ لاَ مَعْنَى لَهُ, وَتَرْكُ الْمُفْطِرِ الأَكْلَ عَمَلٌ فَارِغٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَنَسٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ تَعْجِيلَ الْفِطْرِ فِي أَوَّلِهِ.

ولا يجوز صوم اليوم السادس عشر من شعبان تطوعا أصلا ولا لمن صادف يوما كان يصومه
800 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صَوْمُ الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوُّعًا أَصْلاً، وَلاَ لِمَنْ صَادَفَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ.
نا عبد الله بن ربيع، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، نا أَبُو دَاوُد، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ قَالَ: قَدِمَ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ الْمَدِينَةَ فَمَالَ إلَى مَجْلِسِ الْعَلاَءِ

ولا يحل صوم يوم الفطرِ ولا يوم الاضحى لا في فرض ولا في تطوع
...
801 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْفِطْرِ, وَلاَ يَوْمِ الأَضْحَى لاَ فِي فَرْضٍ، وَلاَ فِي تَطَوُّعٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى, أَوْ يَوْمَ فِطْرٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ, وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَوَّالٍ أَنَّهُ يُفْطِرُ يَوْمَ الْفِطْرِ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمًا مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مَكَانَهُ وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ.

قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ طَاعَةً لاَ إذَا كَانَ مَعْصِيَةً, وَإِذْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى, أَوْ أَيِّ يَوْمٍ نَهَى عَنْهُ فَصَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعْصِيَةٌ; وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ بِالْوَفَاءِ بِنَذْرٍ مَعْصِيَةٍ, وَقَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ آثَارٌ.
مِنْهَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ, وَالْيَوْمُ الآخَرُ يَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ. وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي سَعِيدٍ مُسْنَدًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْهُ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ الدَّهْرَ وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْيَمِينَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ وَيُفْطِرَ: يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ;، وَلاَ يُطْعِمُ شَيْئًا, لَكِنْ يُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ ". وَهَذَا تَخْلِيطٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ.

ولا يجوز صيام أيام التشرِيق
...
802 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ, وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ الأَضْحَى, لاَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ, وَلاَ فِي نَذْرٍ, وَلاَ فِي كَفَّارَةٍ, وَلاَ لِمُتَمَتِّعٍ بِالْحَجِّ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْهَدْيِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ. وقال مالك: يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ الْمَذْكُورُ كُلَّهَا, وَلاَ يَصُومُ النَّاذِرُ مِنْهَا إلاَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَقَطْ;، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ شَيْءٌ مِنْهَا تَطَوُّعًا, وَلاَ فِي كَفَّارَةٍ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، نا مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَرَّبَ إلَيْهِمَا طَعَامًا فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَهَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِإِفْطَارِهَا وَيَنْهَانَا، عَنْ صِيَامِهَا قَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
نا حمام بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، نا بَكْرٌ، هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، نا مُسَدَّدٌ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ مُؤْمِنٌ, وَأَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ".

قال أبو محمد: تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ وَبَيْنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لاَ وَجْهَ لَهُ أَصْلاً; فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى، هُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ عُرْوَةُ: عَنْ عَائِشَةَ, وَقَالَ سَالِمٌ: عَنْ أَبِيهِ, ثُمَّ اتَّفَقَا, قَالاَ: لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. وَقَدْ أَسْنَدَهُ، عَنْ شُعْبَةَ: يَحْيَى بْنُ سَلاَّمٍ, وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ, فَإِنَّ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهم, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْنَدَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ" الْحَدِيثِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي نَعَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُفْطِرُ إلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى. وَعَنِ الأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَلَوْ كَانَ مُسْنَدًا لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ; لاَِنَّهُ أَبَاحَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَنْ يَصُومَهُ النَّاذِرُ, وَهُوَ خِلاَفُ هَذَا الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ: هَذَا لاَ يُقَالَ بِالرَّأْيِ, قَالُوا ذَلِكَ فِي تَيَمُّمِ جَابِرٍ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ. وَفِي قَوْلِ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، لاُِمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إذْ بَاعَتْ مِنْهُ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِ مِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ: أَبْلِغْ زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أُبْطِلَ جِهَادُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ وَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ. وَفِي التَّيَمُّمِ إلَى الْكُوعَيْنِ, فَهَلاَّ قَالُوا هُنَا فِي قَوْلِ عَائِشَةَ, وَابْنِ عُمَرَ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا خَالَفَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ السُّنَنِ مَا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى: لاَ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ, وَرَدُّوا بِذَلِكَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ, فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا: هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلاَ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ, إذْ لَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَحِيحًا مَا خَفِيَ عَلَى عَائِشَةَ, وَأَبِي طَلْحَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَالأَسْوَدِ. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْخَبَرَ الْمُضْطَرَبَ فِيهِ مَرْدُودٌ, وَادَّعُوا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ: "لاَ تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَلاَ الْمَصَّتَانِ" فَهَذَا الْخَبَرُ أَشَدُّ اضْطِرَابًا, لاَِنَّهُ رُوِيَ، عَنْ بِشْرٍ بْنِ سُحَيْمٍ, وَمَرَّةً عَنْهُ، عَنْ عَلِيٍّ. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَهُمْ: هَذَا نَدْبٌ فَهَلاَّ قَالُوهُ هَاهُنَا وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إذَا رَوَى الصَّاحِبُ خَبَرًا وَتَرَكَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ, وَعَائِشَةُ قَدْ رَوَتْ كَمَا ذَكَرْنَا النَّهْيَ، عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَتَرَكَتْ ذَلِكَ فَكَانَتْ تَصُومُهَا تَطَوُّعًا; فَهَلاَّ تَرَكُوا هَاهُنَا رِوَايَتَهَا لِرَأْيِهَا، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَقُولَ إنَّهُمَا وَابْنَ عَبَّاسٍ صَامَاهَا فِي تَمَتُّعِ الْحَجِّ; لإِنَّ يَسَارَهُمَا وَيَسَارَ الأَسْوَدِ وَسَعَةَ أَمْوَالِهِمْ لاَِلْفِ هَدْيٍ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَجْهَلَهُ إلاَّ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ أَصْلاً.

ولا يحل صوم أخرِج مخرج اليمِين
...
803 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمٌ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ كَأَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَنَا لاَ أَدْخُلُ دَارَكَ فَإِنْ دَخَلْتُهَا فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ, أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى.
نا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: نا أَبِي، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنُ سَلاَّمٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إلاَّ بِاَللَّهِ".
قال أبو محمد: فَصَارَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةً, وَخِلاَفًا لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" . وَالنَّذْرُ اللاَّزِمُ: هُوَ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ.

ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصوم تطوعا بغير إذنه
804 – مسألة: ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصةوم تطوعا بغير إذنه, وأما الفرض كلها فتصومها أحب أم كره, فإن كان غائبا لا تقدر على استئذانه أو تقدر فلتصم التطوع إن شائت.
نا عبد الله بن رببيع نا محمد بن أسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا الحسن بن علي – هو الحلواني – نا عبد الرزاق نا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه غير رمضان ولا تأذن في بيته وهو شاهدى إلا بإذنه".
قال عي: البعل اسم للسيد وللزوج في اللغة, وصيام قضاء رمضان والكفارات وكل نذر لها قبل نكاحها إياه مضموم إلى رمضان لأن الله افترض كل ذلك كما افترض رمضان, وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} , فأسقط الله عز وجل الاختيار فيه ولا إذن لأحد فييه ولا في تركه ولا في تغييره فلا مدخل للإستئذان فيما فيه الخيار. وأما لا خيار فيه هو الذي يقتضي تخصصه عليه السلام إذن البعل فيه. وبالله التوفيق.

ونستحب تدرِيب الصبيان على الصومِ في رمضان
...
805 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ تَدْرِيبَ الصِّبْيَانِ عَلَى الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ إذَا أَطَاقُوهُ وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ" فَذَكَرَ فِيهِمْ "الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ". وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وُجُوبَ الأَحْكَامِ بِالإِنْبَاتِ,

ويجِب على من وجد التمر أن يفطر عليه فإِن لم يجد فعلى الماء
...
806 - مَسْأَلَةٌ: وَيَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَدَ التَّمْرَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ وَإِلاَّ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى إنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَعَنَدَ، وَلاَ يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ; لإِنَّ صَوْمَهُ قَدْ تَمَّ وَصَارَ فِي غَيْرِ صِيَامٍ; وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْطَرَ عَلَى خَمْرٍ, أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ, أَوْ زَنَى; فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنِ الرَّبَابِ، عَنْ عَمِّهَا سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فَالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ، نا ثَابِتٌ الْبُنَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى

تَمَرَاتٍ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ". وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هَذَا فَرْضًا; لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَفْطَرَ فِي طَرِيقِ خَيْبَرٍ عَلَى السَّوِيقِ.فَقُلْنَا وَمَا دَلِيلُكُمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَفْطَرَ بَعْدُ عَلَى تَمْرٍ, أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ تَمْرٌ وَالسَّوِيقُ الْمَجْدُوحُ بِالْمَاءِ, فَالْمَاءُ فِيهِ ظَاهِرٌ, فَهُوَ فِطْرٌ عَلَى الْمَاءِ. وَأَيْضًا فَالْفِطْرُ عَلَى كُلِّ مُبَاحٍ مُوَافِقٌ لِلْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ, وَالأَمْرُ بِالْفِطْرِ عَلَى التَّمْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى الْمَاءِ أَمْرٌ وَارِدٌ يَجِبُ فَرْضًا; وَهُوَ رَافِعٌ لِلْحَالَةِ الآُولَى بِلاَ شَكٍّ,.وَادَّعَى قَوْمٌ الإِجْمَاعَ عَلَى غَيْرِ هَذَا وَقَدْ كَذَبَ مَنْ ادَّعَى الإِجْمَاعَ وَهُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْصِيَ فِي هَذَا أَقْوَالَ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رضي الله عنهم،; وَذَكَرُوا إفْطَارَ عُمَرَ رضي الله عنه بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ عَلَى اللَّبَنِ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا أَوْ حُجَّةً فَقَدْ خَالَفُوهُ وَأَوْجَبُوا الْقَضَاءَ بِخِلاَفِ قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ, فَقَدْ اعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا إجْمَاعًا, وَلاَ يَكُونُ إجْمَاعًا إلاَّ مَا لاَ شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَقُولُ بِهِ; فَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ فَهُوَ كَافِرٌ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ, وَالْحَجِّ إلَى مَكَّةَ, وَصَوْمِ رَمَضَانَ; وَنَحْوِ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ويستحب فعل الخيرِ في رمضان
...
807 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي رَمَضَانَ: نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد هُوَ الْمَهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسَ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

ومن دعي إلى طعامٍ وهو صائم فليجب
...
808 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُجِبْ; فَإِذَا أَتَاهُمْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ وَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، نا أَبُو خَالِدٍ هُوَ الأَحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ, فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ, وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ". قَالَ هِشَامٌ: وَالصَّلاَةُ الدُّعَاءُ.

ليلة القدرِ
ليلة القدرِ واحدة في العام في كل عامٍ
...
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ}
809- مَسْأَلَةٌ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَاحِدَةٌ فِي الْعَامِ فِي كُلِّ عَامٍ, فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَاصَّةً, فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ خَاصَّةً, فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا لاَ تَنْتَقِلُ أَبَدًا إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ مِنْ الْعَشْرِ الْمَذْكُورِ إلاَّ أَنَّهَا فِي وِتْرٍ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ. فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ بِلاَ شَكٍّ: لَيْلَةُ عِشْرِينَ مِنْهُ; فَهِيَ إمَّا لَيْلَةُ عِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ; لإِنَّ هَذِهِ هِيَ الأَوْتَارُ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ. إنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلاَثِينَ فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ بِلاَ شَكٍّ: لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ, فَهِيَ إمَّا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ, لإِنَّ هَذِهِ هِيَ أَوْتَارُ الْعَشْرِ بِلاَ شَكٍّ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ يَقُمْ الْعَامَ يُدْرِكْهَا.
وَبُرْهَانُ قَوْلِنَا: أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْعَامِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فَصَحَّ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ; فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ لاَ فِي غَيْرِهِ; وَإِذْ لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ كَلاَمُهُ تَعَالَى يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا بِالْمُحَالِ, وَهَذَا مَا لاَ يَظُنُّهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابُ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،

حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الأَعْلَى، نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ قَالَ فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَإِنِّي خَرَجْتُ لاُِخْبِرَكُمْ بِهَا فَجَاءَ رَجُلاَنِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, وَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ, وَالسَّابِعَةِ, وَالْخَامِسَةِ. ثُمَّ فَسَّرَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: إذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ, فَإِذَا مَضَى ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ, فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ".
قال أبو محمد: هَذَا عَلَى مَا قلنا مِنْ كَوْنِ رَمَضَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رِجَالاً رَأَوْا أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا" .
قال أبو محمد: هَذِهِ الأَخْبَارُ تُصَحِّحُ مَا قلنا: إذْ لَوْ كَانَتْ تَنْتَقِلُ لَمَا كَانَ لاِِعْلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقِيقَةٌ, لاَِنَّهَا كَانَتْ لاَ تَثْبُتُ; وَلَوَجَبَ إذْ خَرَجَ لِيُخْبِرَهُمْ بِهَا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِهَا عَامًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَهَذَا مُحَالٌ; وَإِذَا نُسِّيهَا عليه السلام فَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ يَعْلَمَهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ; وَإِذْ لَمْ يَقْطَعْ عليه السلام بِرُؤْيَا مَنْ رَأَى مِنْ أَصْحَابِهِ فَرُؤْيَا مَنْ بَعْدَهُمْ أَبْعَدُ مِنْ الْقَطْعِ بِهَا; وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ, وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
فإن قيل: قَدْ جَاءَ أَنَّ عَلاَمَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ حِينَئِذٍ لاَ شُعَاعَ لَهَا قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: إنَّ ذَلِكَ يَظْهَرُ إلَيْنَا فَنَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ هُوَ عليه السلام; فَيَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلَ طُلُوعِهَا بِحَيْثُ لاَ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيهَا أَحَدٌ. فإن قيل: قَدْ قَالَ عليه السلام: "إنَّهُ أُرِيَ أَنَّهُ

يَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ" فَكَانَ ذَلِكَ صَبَاحَ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ قلنا: نَعَمْ, وَقَدْ وَكَفَ الْمَسْجِدُ أَيْضًا فِي صَبِيحَةِ لَيْلَةِ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَسَجَدَ عليه السلام فِي مَاءٍ وَطِينٍ.
رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ الْكِنْدِيِّ أَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ" , قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُفَّ السَّمَاءُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ كُلِّهَا فَبَقِيَ الأَمْرُ بِحَبْسِهِ.
وَمِنْ طَرَائِفِ الْوَسْوَاسِ: احْتِجَاجُ ابْنِ بُكَيْرٍ الْمَالِكِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَلاَمٌ هِيَ} قَالَ: فَلَفْظَةُ "هِيَ" هِيَ السَّابِعَةُ وَعِشْرُونَ مِنْ السُّورَةِ. قال أبو محمد: حَقُّ مَنْ قَامَ هَذَا فِي دِمَاغِهِ أَنْ يُعَانِيَ بِمَا يُعَانِي بِهِ سُكَّانُ الْمَارَسْتَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْسَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عليه السلام, وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَجَزَاؤُهُ أَنْ يَخْذُلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ هَذَا الْخِذْلاَنِ الْعَاجِلِ ثُمَّ فِي الآخِرَةِ أَشَدُّ تَنْكِيلاً.

ويستحب الاجتهاد في العشرِ الأواخرِ من رمضان
...
810 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الاِجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ" وَإِنَّمَا تُلْتَمَسُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لاَ بِأَنَّ لَهَا صُورَةً وَهَيْئَةً يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا بِخِلاَفِ سَائِرِ اللَّيَالِي كَمَا يَظُنُّ أَهْلُ الْجَهْلِ, إنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنَزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} فَبِهَذَا بَانَتْ، عَنْ سَائِرِ اللَّيَالِي فَقَطْ وَالْمَلاَئِكَةُ لاَ يَرَاهُمْ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالْهُدَى وَالْعِصْمَةَ آمِينَ.
تم كتاب الصيام والحمد لله رب العالمين كثيرا, وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما كثيراً.

كتاب الحج
باب الحج
قال أبو محمد: الحج إلى مكةَ والعمرة إليها فرضان على كل مؤمن
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْحَجِّ
811 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: الْحَجُّ إلَى مَكَّةَ, وَالْعُمْرَةُ إلَيْهَا فَرْضَانِ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ, عَاقِلٍ, بَالِغٍ, ذَكَرٍ, أَوْ أُنْثَى, بِكْرٍ, أَوْ ذَاتِ زَوْجٍ. الْحُرُّ وَالْعَبْدُ, وَالْحُرَّةُ وَالأَمَةُ, فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, مَرَّةً فِي الْعُمْرِ إذَا وَجَدَ مَنْ ذَكَرْنَا إلَيْهَا سَبِيلاً, وَهُمَا أَيْضًا عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلاَّ بَعْدَ الإِسْلاَمِ, وَلاَ يُتْرَكُونَ وَدُخُولَ الْحَرَمِ حَتَّى يُؤْمِنُوا. أَمَّا قَوْلُنَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْحُرِّ, وَالْحُرَّةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ يَحُجُّ مَعَهَا مَرَّةً فِي الْعُمْرِ فَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ, لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ, وَفِي الأَمَةِ وَالْعَبْدِ, وَفِي الْعُمْرَةِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وَقَالَ قَوْمٌ: الْعُمْرَةُ لَيْسَتْ فَرْضًا وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْعُمْرَةِ أَفَرِيضَةٌ هِيَ قَالَ: "لاَ, وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ". وَبِمَا رُوِّينَاهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ قَالَ: لاَ, وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْن غَيْلاَنَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَشَى إلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَهِيَ كَحَجَّةٍ, وَمَنْ مَشَى إلَى صَلاَةِ تَطَوُّعٍ فَهِيَ كَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ". وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَشَى إلَى مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ, وَمَنْ مَشَى إلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ". وَمِنْ طَرِيقِ مُحَاضِرِ بْن الْمُوَرِّعِ، عَنِ الأَحْوَصِ

ابْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَابِرٍ الأَلْهَانِيِّ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ, وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً ثُمَّ ثَبَتَ فِيهِ سُبْحَةَ الضُّحَى كَانَ كَأَجْرِ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ حَدِيثًا فِيهِ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُوسَى, عَنْ عَمِّهِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ قَانِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْن بَحِيرٍ الْعَطَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، نا بِشْرُ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ، نا جَرِيرٌ وَأَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ".
وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالاَ: نا زَيْدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَ: "بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَتَطَوُّعٌ" قَالُوا: فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ, فَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ لِدُخُولِهَا فِي الْحَجِّ, وَقَالُوا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} لاَ يُوجِبُ كَوْنَهَا فَرْضًا, وَإِنَّمَا يُوجِبُ إتْمَامَهَا عَلَى مَنْ دَخَلَ فِيهَا لاَ ابْتِدَاءَهَا; لَكِنْ كَمَا تَقُولُ: أَتِمَّ الصَّلاَةَ التَّطَوُّعَ, وَالصَّوْمَ التَّطَوُّعَ. وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْعُمْرَةُ غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ بِوَقْتٍ وَجَبَ أَنْ لاَ تَكُونَ فَرْضًا: وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّهَا تَطَوُّعٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَكُلُّهُ بَاطِلٌ, أَمَّا الأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرُوا فَمَكْذُوبَةٌ كُلُّهَا; أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ سَاقِطٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ. وَالطَّرِيقُ الآُخْرَى أَسْقَطُ وَأَوْهَنُ; لاَِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ الْعُمَرِيِّ الصَّغِيرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَمَاهَانُ هَذَا ضَعِيفٌ كُوفِيٌّ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَحَدُ طُرُقِهِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غَيْلاَنَ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مَكْحُولٌ مِنْ أَبِي أُمَامَةَ شَيْئًا. وَالآُخْرَى مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثَةُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُوَرِّعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ الأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ وَهُوَ سَاقِطٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَابِرٍ, وَهُوَ مَجْهُولٌ; وَهُوَ حَدِيثٌ

مُنْكَرٌ ظَاهِرُ الْكَذِبِ; لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ أَجْرُ الْعُمْرَةِ كَأَجْرِ مَنْ مَشَى إلَى صَلاَةِ تَطَوُّعٍ لَمَا كَانَ لِمَا تَكَلَّفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْقَصْدِ إلَى الْعُمْرَةِ إلَى مَكَّةَ مِنْ الْمَدِينَةِ مَعْنًى, وَلَكَانَ فَارِغًا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا حَدِيثُ طَلْحَةَ فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ, وَقَدْ أَصْفَقَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَى تَرْكِهِ, وَهُوَ رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ وَكَذِبَةٍ; ثُمَّ فِيهِ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ سندل وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ وَيَكْفِي; ثُمَّ هُوَ، عَنْ ثَلاَثَةٍ مَجْهُولِينَ فِي نَسَقٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَذِبٌ بَحْتٌ مِنْ بَلاَيَا عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا وَالنَّاسُ رَوَوْهُ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ فَزَادَ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ, وَأَوْهَمَ أَنَّهُ صَالِحٌ السَّمَّانُ فَسَقَطَتْ كُلُّهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَوْ شِئْنَا لَعَارَضْنَاهُمْ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ". وَلَكِنْ يُعِيذُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَعَاذَ اللَّهِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ أَنْ نَحْتَجَّ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً; وَلَكِنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ إذَا رَوَى مَا يُوَافِقُهُمْ صَارَ ثِقَةً وَإِذَا رَوَى مَا يُخَالِفُهُمْ صَارَ ضَعِيفًا; وَاَللَّهِ مَا هَذَا فِعْلُ مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ مُحَاسَبٌ بِكَلاَمِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
قال أبو محمد: وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا وَتَرَكَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ. وَقَدْ نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَتَانِ. وَبِهِ نَصًّا إلَى سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: إنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّه وَهَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ الْحَجِّ.
وَنا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا أَبُو قِلاَبَةَ، نا الأَنْصَارِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَيْسَ مُسْلِمٌ إلاَّ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً.
قال أبو محمد: فَلَوْ صَحَّ مَا رَوَوْا مِنْ الْكَذِبِ الْمُلَفَّقِ لَوَجَبَ عَلَى أُصُولِهِمْ الْخَبِيثَةِ الْمُفْتَرَاةِ إسْقَاطُ كُلِّ ذَلِكَ إذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ رَوَيَا تِلْكَ الأَخْبَارَ بِزَعْمِهِمْ قَدْ صَحَّ عَنْهُمَا

خِلاَفُهَا, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَلاَعِبُونَ كَمَا تَرَوْنَ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ كُلُّهَا وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَصِحَّ الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ. لِمَا نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، نا خَالِدُ، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، نا شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ سَالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: "إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلاَ الْعُمْرَةَ، وَلاَ الظَّعْنَ قَالَ: فَحِجَّ، عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ" .
فَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَمَّنْ لاَ يُطِيقُهُمَا; فَهَذَا حُكْمٌ زَائِدٌ وَشَرْعٌ وَارِدٌ; وَكَانَتْ تَكُونُ تِلْكَ الأَحَادِيثُ مُوَافِقَةً لِمَعْهُودِ الأَصْلِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ قَدْ كَانَا بِلاَ شَكٍّ تَطَوُّعًا لاَ فَرْضًا فَإِذَا أَمَرَ بِهِمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ بَطَلَ كَوْنُهُمَا تَطَوُّعًا بِلاَ شَكٍّ وَصَارَا فَرْضَيْنِ, فَمَنْ ادَّعَى بُطْلاَنَ هَذَا الْحُكْمِ وَعَوْدَةَ الْمَنْسُوخِ فَقَدْ كَذَبَ وَأَفِكَ وَافْتَرَى; وَقَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ; فَبَطَلَ كُلُّ خَبَرٍ مَكْذُوبٍ مَوَّهُوا بِهِ لَوْ صَحَّ فَكَيْف وَكُلُّهَا بَاطِلٌ؟
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ إخْبَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِدُخُولِ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ, وَبِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا فَهَذَيَانٌ لاَ يُعْقَلُ; بَلْ هَذَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ فِي كَوْنِ الْعُمْرَةِ فَرْضًا; لاَِنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ بِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ;، وَلاَ يَشُكُّ ذُو عَقْلٍ فِي أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ حَجَّةً; فَوَجَبَ أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُجْزَى لَهُمَا عَمَلٌ وَاحِدٌ فِي الْقِرَانِ. وَالثَّانِي: دُخُولُهَا فِي أَنَّهَا فَرْضٌ كَالْحَجِّ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ جَاءَ أَنَّهَا الْحَجُّ الأَصْغَرُ قلنا لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ حُجَّةً لَنَا; لإِنَّ الْقِرَانَ قَدْ جَاءَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ فَكَانَتْ حِينَئِذٍ تَكُونُ فَرْضًا بِنَصِّ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} لَكِنَّا لاَ نَسْتَحِلُّ التَّمْوِيهَ بِمَا لاَ يَصِحُّ, مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرُوا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ وَقَدْ قَالَ فِيهِ عُقَيْلٌ: سِنَانٌ هُوَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ, وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ وَحَرَّفُوهُ وَأَوْهَمُوا أَنَّ فِيهِ مِنْ لَفْظِ

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ أَصْلاً وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ إمَّا مَعَ الْحَجِّ مَقْرُونَةٌ, وَأَمَّا مَعَهُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ; فَصَارَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا مَنْ دَخَلَ فِيهَا لاَ بِابْتِدَائِهَا, وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَرَأَ: {وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} بِالرَّفْعِ فَقَوْلٌ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهَا دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} لاَ يَقْتَضِي مَا قَالُوا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَجِيءِ بِهِمَا تَامَّيْنِ وَحَتَّى لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ; لاَِنَّهُ إذَا كَانَ الدَّاخِلُ فِيهَا مَأْمُورًا بِإِتْمَامِهَا فَقَدْ صَارَتْ فَرْضًا مَأْمُورًا بِهِ; وَهَذَا قَوْلُنَا لاَ قَوْلُهُمْ الْفَاسِدُ الْمُتَخَاذِلُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَاَللَّهِ إنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى هَذَا النَّصَّ مُوجِبًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا كَالْحَجِّ بِخِلاَفِ كَيْسِ هَؤُلاَءِ الْحُذَّاقِ بِاللُّغَةِ بِالضِّدِّ, وَبِهَذَا احْتَجَّ مَسْرُوقٌ, وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ, وَنَافِعٌ فِي إيجَابِهَا; وَمَسْرُوقٌ; وَسَعِيدٌ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: بِهَذَا فِي الْحَجِّ التَّطَوُّعِ, وَالْعُمْرَةِ التَّطَوُّعِ قلنا: لاَ بَلْ هُمَا تَطَوُّعٌ غَيْرُ لاَزِمٍ جُمْلَةً إنْ تَمَادَى فِيهِمَا أُجِرَ, وَإِلاَّ فَلاَ حَرَجَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَذَا لَكَانَ الْحَجُّ يَتَكَرَّرُ فَرْضُهُ مَرَّاتٍ, وَهَذَا خِلاَفُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الدَّهْرِ. فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: بِإِتْمَامِ النَّذْرِ, وَإِتْمَامِ قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ قلنا: نَعَمْ; لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَارَ فَرْضًا زَائِدًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا الْحَجُّ فَرْضٌ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى مَنْ لَمْ يَنْذِرْهُ لاَ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ; بَلْ هُوَ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ فَرْضٌ آخَرُ لاَ نَضْرِبُ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَهَا بِبَعْضٍ بَلْ نَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَنَأْخُذُ بِجَمِيعِهَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ {وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} بِالرَّفْعِ فَقِرَاءَةٌ مُنْكَرَةٌ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا, وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَهُمْ يَلْجَئُونَ إلَى تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ فَيَحْتَجُّونَ بِهِ!
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَكَانَتْ مُرْتَبِطَةً بِوَقْتٍ فَكَلاَمٌ سَخِيفٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ يُعْقَلُ, وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضٌ وَلَوْ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ وَلَيْسَتْ مُرْتَبِطَةً بِوَقْتٍ, وَأَنَّ النَّذْرَ فَرْضٌ وَلَيْسَ

مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ, وَأَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَرْضٌ وَلَيْسَ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ, وَالإِحْرَامُ لِلْحَجِّ عِنْدَهُمْ فَرْضٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ, فَظَهَرَ هَوَسُ مَا يَأْتُونَ بِهِ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ فِيمَنْ يَعْتَمِرُ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ: نُسُكَانِ لِلَّهِ عَلَيْك لاَ يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا بَدَأَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ إلاَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلاً وَمَنْ زَادَ بَعْدَهُمَا شَيْئًا فَهُوَ خَيْرٌ وَتَطَوُّعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْتُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ, وَالْعُمْرَةِ إلَى الْبَيْتِ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، عَنْ جَابِرٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَتْ عَلَيْكُمْ الْعُمْرَةَ. وَعَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرِيضَةٌ, وَابْنُ سِيرِينَ أَدْرَكَ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرَ التَّابِعِينَ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمَعْمَرٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: الْعُمْرَةُ عَلَيْنَا فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ جَمِيعًا الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ وَعَنْ طَاوُوس الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ; فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فُلاَنًا يَقُولُ: لَيْسَتْ وَاجِبَةً, فَقَالَ: كَذَبَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا يَقُولُ أُمِرْتُمْ فِي الْقُرْآنِ بِإِقَامَةِ أَرْبَعٍ: الصَّلاَةُ, وَالزَّكَاةُ, وَالْحَجُّ, وَالْعُمْرَةُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ يَقُولُ: الْعُمْرَةُ الْحَجُّ الأَصْغَرُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا كُتِبَتْ عَلَيَّ عُمْرَةٌ, وَحَجَّةٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ; وَعَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ الْعُمْرَةُ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى, وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْعُمْرَةِ فَقَالَ: مَا نَعْلَمُهَا إلاَّ وَاجِبَةً {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ السَّرَّاجِ قَالَ: سَأَلْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ, وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ فَقَرَأَ جَمِيعًا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ

وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا مُغِيرَةُ، هُوَ ابْنُ مَقْسَمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْعُمْرَةِ: هِيَ وَاجِبَةٌ وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لَيْسَتْ فَرْضًا, وَالْقَوْمُ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ, وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ, وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفٌ لَهُمْ فِي هَذَا إلاَّ رِوَايَةً سَاقِطَةً مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ, وَالصَّحِيحُ عَنْهُ خِلاَفُ هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الْجُمْهُورِ, وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا عَطَاءً, وطَاوُوسًا, وَمُجَاهِدًا, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنَ, وَابْنَ سِيرِينَ, وَمَسْرُوقًا, وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ, وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ, وَهُشَامَ بْنَ عُرْوَةَ, وَالْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ, وَالشَّعْبِيَّ, وَقَتَادَةَ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ قَالَ: لَيْسَتْ وَاجِبَةً سَلَفًا, مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحْدَهُ; وَرِوَايَةٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ: أَحَدُهُمَا: الْخَبَرُ الثَّابِتُ فِي الَّذِي سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الإِسْلاَمِ فَأَخْبَرَهُ بِالصَّلاَةِ, وَالزَّكَاةِ, وَالصِّيَامِ, وَالْحَجِّ; فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لاَ إلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ. وَالثَّانِي: خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" فَذَكَرَ شَهَادَةَ التَّوْحِيدِ, وَالصَّلاَةَ, وَالزَّكَاةَ, وَالصِّيَامَ, وَالْحَجَّ.
قال أبو محمد: وَهُمَا أَقْوَى, حُجَجِنَا عَلَيْهِمْ لِصِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَصَحَّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِوُجُوبِ الْحَجِّ, وَأَنَّ فَرْضَهَا دَخَلَ فِي فَرْضِ الْحَجِّ. وَأَيْضًا: فَحَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُرُودُ الْقُرْآنِ بِهَا شَرْعًا زَائِدًا وَفَرْضًا وَارِدًا مُضَافًا إلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ الْمَذْكُورَةِ; وَكُلُّهُمْ يَرَى النَّذْرَ فَرْضًا, وَالْجِهَادَ إذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ فَرْضًا; وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ فَرْضًا, وَالْوُضُوءَ فَرْضًا, وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلَمْ يَرَوْا الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ حُجَّةً فِي سُقُوطِ فَرْضِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, فَوَضَحَ تَنَاقُضُهُمْ وَفَسَادُ مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وأما حج العبد والأمة
812 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا حَجُّ الْعَبْدِ, وَالأَمَةِ, فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالُوا: لاَ حَجَّ عَلَيْهِ فَإِنْ حَجَّ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ. وقال أحمد بْنِ حَنْبَلٍ: إذَا عَتَقَ

بِعَرَفَةَ أَجْزَأَتْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ; وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: عَلَيْهِ الْحَجُّ كَالْحُرِّ, وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنْ جَابِرٍ, وَابْنِ عُمَرَ قَالَ أَحَدُهُمَا: مَا مِنْ مُسْلِمٍ, وَقَالَ الآخَرُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلاَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ; فَقَطَعَاً وَعَمَّا وَلَمْ يَخُصَّا إنْسِيًّا مِنْ جِنِّيٍّ, وَلاَ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ, وَلاَ حُرَّةً مِنْ أَمَةٍ, وَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِمَا تَخْصِيصَ الْحُرِّ, وَالْحُرَّةِ; فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمَا;، وَلاَ أَقَلَّ حَيَاءً مِمَّنْ يَجْعَلُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ فَرْضِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ فَرْضِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَجْعَلُ قَوْلَهُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلاَّ عَلَيْهِ: حَجَّةٌ, وَعُمْرَةٌ: حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْعَبْدِ. فإن قيل: لَعَلَّهُمَا أَرَادَا إلاَّ الْعَبْدَ قِيلَ: هَذَا هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ أَنْ يُرِيدَا إلاَّ الْعَبْدَ ثُمَّ لاَ يُبَيِّنَانِهِ; وَأَيْضًا: فَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا إلاَّ الْمُقْعَدَ, وَإِلاَّ الأَعْمَى, وَإِلاَّ الأَعْوَرَ, وَإِلاَّ بَنِي تَمِيمٍ, وَإِلاَّ أَهْلَ إفْرِيقِيَةَ, وَهَذَا حَقٌّ لاَ خَفَاءَ بِهِ;، وَلاَ يَصِحُّ مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَوْلَةٌ لاَِحَدٍ أَبَدًا. وَلَعَلَّ كُلَّ مَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ; وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا تَخْصِيصًا لَمْ يُبَيِّنُوهُ وَهَذِهِ طَرِيقُ السُّوفُسْطَائِيَّة نَفْسِهَا; وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مَا لَمْ يَقُلْ إلاَّ بِبَيَانٍ وَارِدٍ مُتَيَقَّنٍ يُنْبِئُ بِأَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا هَاهُنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}. {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}. {وَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}. وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهَا إنَّمَا دَمَّرَتْ بِنَصِّ الآيَةِ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَدَمَّرَتْ مَا أَمَرَهَا رَبُّهَا بِتَدْمِيرِهِ لاَ مَا لَمْ يَأْمُرْهَا. وَمَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ; فَإِنَّمَا جَعَلَتْ كَالرَّمِيمِ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ لاَ مَا لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ بِنَصِّ الآيَةِ. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: لاَ يَقْتَضِي إلاَّ بَعْضَ الأَشْيَاءِ; لإِنَّ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ, فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَقَدْ آتَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ; لإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ الْعَالَمُ كُلُّهُ; فَمَنْ أُوتِيَ شَيْئًا فَقَدْ أُوتِيَ مِنْ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَكَتَبَ إلَيَّ أَبُو الْمَرْجِيِّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِرٍّ الْمَصْرِيُّ قَالَ: نا أَبُو الْحَسَنِ الرَّحَبِيُّ: نا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَاتِبُ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ المغلس، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ الْعُكْلِيُّ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ قَالَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنِ الْعَبْدِ إذَا حَجَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَقَالاَ جَمِيعًا: تُجْزِئُ عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ فَإِذَا حَجَّ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ تُجْزِهِ; وَبِهِ إلَى زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إذَا حَجَّ الْعَبْدُ وَهُوَ مُخَلًّى فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ.

قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ لِلْعَبْدِ حَجًّا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ أَبَا إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ, وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ عَتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ".
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ, وَعَنْ شَيْخٍ لاَ يُدْرَى اسْمُهُ، وَلاَ مَنْ هُوَ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ خِرْزَادٍ الأَنْطَاكِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرِ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ لَمْ يَبْلُغْ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى".
قال علي: وهذا خَبَرٌ رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ خَرَّزَاذٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ, وَمَنْ هُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ، عَنْ شُعْبَةَ فَأَوْقَفَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَسْنَدَهُ الآخَرُ بِزِيَادَةٍ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ, قَالَ ابْنُ الْمِنْهَالِ: نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ, وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ: نا شُعْبَةُ, ثُمَّ اتَّفَقَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أُمِّ ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا حَجَّ الصَّبِيُّ لَهُ فَهِيَ حَجَّةُ صَبِيٍّ حَتَّى يَعْقِلَ, فَإِذَا عَقَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَإِذَا حَجَّ الأَعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةُ أَعْرَابِيٍّ, فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى". وَأَوْقَفَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ وَأَوْقَفَهُ أَيْضًا: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَوْقَفَهُ أَيْضًا: أَبُو السَّفَرِ, وَعُبَيْدٌ صَاحِبُ الْحُلَى, وَقَتَادَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ حُجَّةً فِي أَنْ لاَ يُجْزِئَ الْعَبْدَ حَجُّهُ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنْ لاَ يُجْزِئَ الأَعْرَابِيَّ حَجُّهُ، وَلاَ فَرْقَ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتُ عَنْهُ كَمَا أَوْرَدْنَا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ فِي إعَادَةِ الْحَجِّ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا احْتَلَمَ, وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ, وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ إذَا هَاجَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. كَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الصَّبِيُّ إنْ حَجَّ, وَالْمَمْلُوكُ إنْ حَجَّ, وَالأَعْرَابِيُّ

إنْ حَجَّ, ثُمَّ هَاجَرَ الأَعْرَابِيُّ, وَاحْتَلَمَ الصَّبِيُّ, وَعَتَقَ الْعَبْدُ فَعَلَيْهِمْ الْحَجُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الأَعْرَابِيُّ فَيُجْزِئُهُ حَجُّهُ, وَأَمَّا الصَّبِيُّ, وَالْمَمْلُوكُ فَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لاَ يُجْزِئُ الْعَبْدَ حَجُّهُ إذَا أُعْتِقَ, وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَأَمَّا الأَعْرَابِيُّ فَيُجْزِئْهُ حَجُّهُ. وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ, وطَاوُوس, وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ, وَلاَ عَنِ الصَّحَابَةِ غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَا.
قال أبو محمد: فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ يَدَّعِي الإِجْمَاعَ فِي هَذَا وَلَيْسَ مَعَهُ فِيهِ إلاَّ خَمْسَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ, أَحَدُهُمْ مُخْتَلَفٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ, وَقَدْ رُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ, وَعَنْ اثْنَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلَّ قَوْلٍ جَاءَ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَا رُوِيَ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ;، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ عَنْ وَاحِدٍ بِاخْتِلاَفٍ فَلَمْ يَجْعَلُوهُ إجْمَاعًا.
قال أبو محمد: لاَ تَخْلُو رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ خَرَّزَاذٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً أَوْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَقَدْ كُفِينَا الْمُؤْنَةُ فِيهَا, وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَهُوَ الأَظْهَرُ فِيهَا; لإِنَّ رُوَاتَهَا ثِقَاتٌ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَنْسُوخٌ بِلاَ. شَكٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِلاَ شَكٍّ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ; لإِنَّ فِيهِ إعَادَةُ الْحَجِّ عَلَى مَنْ حَجَّ مِنْ الأَعْرَابِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ, وَقَدْ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ، نا يَحْيَى وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ قَالاَ جَمِيعًا أَنَا جَرِيرُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ، عَنْ مُجَاشِعٍ,

وَمُجَالِدٍ: ابْنَيْ مَسْعُودٍ السِّلْمِيَّيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذْ قَدْ صَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَقَدْ نَسَخَهُ مَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى مُسْلِمٍ.
نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا", فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ عليه السلام: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ, لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ, ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ, فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ, فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ, وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ".
قال أبو محمد: كَانَ هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَصَارَ عُمُومًا لِكُلِّ حُرٍّ, وَعَبْدٍ, وَأَعْرَابِيٍّ, وَعَجَمِيٍّ وَبِلاَ شَكٍّ، وَلاَ مِرْيَةٍ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ كَانَ غَيْرَ مُخَاطَبٍ بِالْحَجِّ فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ الْحُرُّ أَيْضًا; فَكَانَ خَبَرُ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ فِي أَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ إذَا عَتَقَ الْعَبْدُ, وَهَاجَرَ الأَعْرَابِيُّ, مُوَافِقًا لِلْحَالَةِ الآُولَى وَبَقِيَا عَلَى أَنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ كَمَا كَانَا, وَجَاءَ هَذَا الْخَبَرُ فَدَخَلَ فِي نَصِّهِ فِي الْخِطَابِ بِالْحَجِّ: الْعَبْدُ, وَالأَعْرَابِيُّ; لاَِنَّهُمَا مِنْ النَّاسِ فَكَانَ بِلاَ شَكٍّ نَاسِخًا لِلْحَالَةِ الآُولَى وَمُدْخِلاً لَهُمَا فِي الْخِطَابِ بِالْحَجِّ ضَرُورَةً، وَلاَ بُدَّ.
وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَدْ احْتَجَّ فَقَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَزْوَاجِهِ, وَلَمْ يَحُجَّ بِأُمِّ وَلَدِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ كِذْبَةٌ شَنِيعَةٌ لاَ نَجِدُهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ أَبَدًا وَإِنَّ التَّسَهُّلَ فِي مِثْلِ هَذَا لَعَظِيمٌ جِدًّا.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِي النَّفْيِ فِي الزِّنَا, وَفِي كَثِيرٍ مِنْ السُّنَنِ مِثْلَ: لاَ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، وَلاَ الرَّضْعَتَانِ, وَفِي خَبَرِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي الْقُرْآنِ, وَكَذَبُوا فِي كُلِّ ذَلِكَ, ثُمَّ لَمْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْخَبَرِ: هَذَا تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ, وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ.
وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَرُدُّونَ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ بِدَعْوَى الاِضْطِرَابِ: كَخَبَرِ الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ, وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ; ثُمَّ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي لاَ نَعْلَمُ خَبَرًا أَشَدَّ اضْطِرَابًا مِنْهُ. وَهُمْ يَتْرُكُونَ السُّنَنَ لِلْقِيَاسِ: كَخَبَرِ الْمُصَرَّاةِ, وَخَبَرِ الْقُرْعَةِ فِي السِّتَّةِ الأَعْبُدِ, وَهُمْ هَاهُنَا قَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ; لأَنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعَبْدَ مُخَاطَبٌ بِالإِسْلاَمِ وَبِالصَّلاَةِ, وَالصِّيَامِ, فَمَا الَّذِي مَنَعَ مِنْ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْحَجِّ, وَالْعُمْرَةِ; ثُمَّ يَقُولُونَ:

الْعَبْدُ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا حَضَرَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِهَا وَأَجْزَأَتْهُ, فَهُمْ قَالُوا هَاهُنَا: إنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ إذَا حَضَرَهُ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَجْزَأَهُ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: مَنْ نَوَى تَطَوُّعًا بِحَجِّهِ أَجْزَأَهُ، عَنِ الْفَرْضِ, وَأَقَلُّ حَالِ حَجِّ الْعَبْدِ: أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَهَلاَّ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمْ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ قلنا: قَدْ جَمَعْتُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْكَذِبَ وَخِلاَفَ الْقُرْآنِ إذْ لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا مِنْ حُرٍّ, وَالتَّنَاقُضَ; لاَِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهِ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ، وَلاَ شَيْءٌ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ، وَلاَ فِدْيَةِ أَذًى، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا لاَ يَلْزَمُ الْحَائِضُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ, إذْ لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً بِهِ, وَكَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَهُمَا أَوْ فَعَلَ بِهِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَكَانَ لَهُ حَجٌّ لِلأَثَرِ فِي ذَلِكَ لاَ لِغَيْرِهِ.
فَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الثَّابِتَةَ وَقَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ وَالْقِيَاسُ: نَعَمْ, وَالْخَبَرُ الَّذِي بِهِ احْتَجُّوا; لأَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا فِيهِ مِنْ حُكْمِ الأَعْرَابِيِّ فِي الْحَجِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

وأما المرأة التي لا زوج له
813 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ يَحُجُّ مَعَهَا فَإِنَّهَا تَحُجُّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا; فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مَعَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَحُجُّ هِيَ دُونَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وطَاوُوس, وَالشَّعْبِيِّ, وَالْحَسَنِ: لاَ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ: إنْ كَانَتْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ لَيَالٍ ثَلاَثٍ فَلَهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَ غَيْرِ زَوْجٍ, وَغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ, وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ رِجَالِهَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ: "لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى: أَنَّ عِكْرِمَةَ سُئِلَ، عَنِ الْمَرْأَةِ تَحُجُّ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَحُجُّ فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، وَلاَ كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ يُونُسَ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَرْأَةُ لاَ تُسَافِرُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كُلُّ النِّسَاءِ تَجِدُ مَحْرَماً.

وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ يُسَافِرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْلَيَاتٌ لَهُ لَيْسَ مَعَهُنَّ مَحْرَمٌ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ, وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ, وَقَتَادَةَ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّحْدِيدِ الَّذِي ذُكِرَ فَلاَ نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ، رضي الله عنهم،; بَلْ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُمْ, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَيَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرْنَا; وَرُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَحْسَنِ مُرْسَلٍ يُمْكِنُ وُجُودُ مِثْلِهِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَقَدْ خَالَفَهُمَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ.
قال أبو محمد: ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهَا فَوَجَدْنَا أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَجُّونَ لِقَوْلِهِمْ بِالْخَبَرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ ثَلاَثًا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ". وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ أَيْضًا "لَيْلَتَيْنِ" وَرُوِيَ "يَوْمًا وَلَيْلَةً" وَرُوِيَ "يَوْمًا" وَرُوِيَ "بَرِيدًا" قَالُوا: وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَحْرِيمِ سَفَرِهَا ثَلاَثًا وَعَلَى شَكٍّ مِنْ تَحْرِيمِ سَفَرِهَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ; لاَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الثَّلاَثِ مُتَقَدِّمًا وَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا فَالثَّلاَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا سَفَرُهَا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ فَنَأْخُذُ مَا لاَ شَكَّ فِيهِ وَنَدْعُ مَا فِيهِ الشَّكُّ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرَ هَذَا أَصْلاً.
قال علي: وهذا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ صَوَابُ الْعَمَلِ مَا ذَكَرُوا; لاَِنَّهُ إنْ كَانَ خَبَرُ الثَّلاَثِ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا فَلَيْسَ فِيهِ إنْ تَقَدَّمَ إبْطَالٌ لِحُكْمِ النَّهْيِ، عَنْ سَفَرِهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ لَكِنَّهُ بَعْضُ مَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ, وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ, وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ نَسْخٍ أَصْلاً; بَلْ كُلُّ تِلْكَ الأَخْبَارِ حَقٌّ وَكُلُّهَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهَا وَلَيْسَ بَعْضُهَا مُخَالِفًا لِبَعْضٍ أَصْلاً. وَيُقَالُ لَهُمْ: خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" جَامِعٌ لِكُلِّ سَفَرٍ فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَحْرِيمِ كُلِّ سَفَرٍ عَلَيْهَا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ, ثُمَّ لاَ نَدْرِي أَبَطَلَ هَذَا الْحُكْمُ أَمْ لاَ فَنَأْخُذُ بِالْيَقِينِ وَنُلْغِي الشَّكَّ; فَهَذَا مُعَارِضٌ لاِحْتِجَاجِهِمْ مَعَ مَا قَدَّمْنَا. وَيُقَالُ لَهُمْ: عَهْدُنَا بِكُمْ تَذُمُّونَ الأَخْبَارَ بِالاِضْطِرَابِ, وَهَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, فَلَمْ يَضْطَرِبْ،

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلاً وَاضْطَرَبَ، عَنْ سَائِرِهِمْ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ تُسَافِرْ ثَلاَثًا; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ تُسَافِرْ يَوْمَيْنِ; وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لاَ تُسَافِرْ ثَلاَثًا; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ يَوْمًا وَلَيْلَةً; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ يَوْمًا; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ بَرِيدًا; فَعَلَى أَصْلِكُمْ دَعُوا رِوَايَةَ مَنْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ وَاضْطَرَبَ عَنْهُ إذْ لَيْسَ بَعْضُ مَا رُوِيَ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ مَا رُوِيَ عَنْهُ; وَخُذُوا بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ، وَلاَ اضْطَرَبَ عَنْهُ; وَ، هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ; فَهَذَا أَشْبَهُ مِنْ اسْتِدْلاَلِكُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَأَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, كَمَا ذَكَرْنَا لاَ تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ; فَإِنْ صَحَّحْتُمْ اسْتِدْلاَلَكُمْ الْفَاسِدَ بِأَخْذِ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الأَخْبَارِ فَامْنَعُوهَا مِمَّا زَادَ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ; لاَِنَّهُ الْيَقِينُ وَأَبِيحُوا لَهَا سَفَرَ الثَّلاَثِ; لاَِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ كَمَا سَفَرُ الْيَوْمَيْنِ, وَالْيَوْمِ, وَالْبَرِيدِ مَشْكُوكٌ فِيهِ عِنْدَكُمْ; وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ; فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا هَاهُنَا فَمَا هَذَا يُنْكَرُ مِنْ إقْدَامِهِمْ, وَأَكْذَبَهُمْ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ;، وَلاَ سِيَّمَا، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ. وَأَكْذَبَهُمْ أَيْضًا مَا رُوِّينَا، عَنْ عِكْرِمَةَ آنِفًا مِنْ مَنْعِهِ إيَّاهَا مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ لاَ مَا دُونَ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي امْرَأَةٍ لاَ تَجِدُ مَعَاشًا أَصْلاً إلاَّ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا; أَنَّهَا تَخْرُجُ بِلاَ زَوْجٍ، وَلاَ ذِي مَحْرَمٍ. وَيَقُولُونَ فِيمَنْ حَفَّزَتْهَا فِتْنَةٌ وَخَشِيَتْ عَلَى, نَفْسِهَا غَلَبَةَ الْكُفَّارِ, وَالْمُحَارِبِينَ, أَوْ الْفُسَّاقِ وَلَمْ تَجِدْ أَمْنًا إلاَّ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا أَنَّهَا تَخْرُجُ مَعَ غَيْرِ زَوْجٍ وَمَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ, وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَوُجُوبِ خَلاَصِ رُوحِهَا. فَإِنْ قَالُوا: الزَّوْجُ وَالْمَحْرَمُ مِنْ السَّبِيلِ قلنا: عَلَيْكُمْ الدَّلِيلُ وَإِلاَّ فَهِيَ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لَمْ يَعْجِزْ، عَنْ مِثْلِهَا أَحَدٌ, فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرَنَا فِي قَوْلِ عِكْرِمَةَ وَاحْتِجَاجِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فَوَجَدْنَاهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ سَائِرَ الأَخْبَارِ وَرَدَتْ بِالْمَنْعِ, مِمَّا دُونَ الثَّلاَثِ; فَلَيْسَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ نَهْيُهَا، عَنْ أَنْ تُسَافِرَ ثَلاَثًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ بِأَوْلَى مِنْ سَائِرِ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا مَنْعُهَا مِنْ سَفَرِ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ.

قال أبو محمد: فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ قَوْلُنَا, أَوْ قَوْلُ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ, وطَاوُوس, وَالْحَسَنِ فِي مَنْعِهَا جُمْلَةً أَوْ إطْلاَقِهَا جُمْلَةً; فَوَجَدْنَا الْمَانِعِينَ يَحْتَجُّونَ بِالأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَهِيَ أَخْبَارٌ صِحَاحٌ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا إلاَّ لِنَصٍّ آخَرَ يُبَيِّنُ حُكْمَهَا إنْ وُجِدَ. فَنَظَرْنَا فَوَجَدْنَا مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ, وَابْنُ إدْرِيسَ قَالاَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ".
وَبِهِ إلَى ابْنِ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ، نا حَنْظَلَةُ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ إلَى الْمَسَاجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ" فَأَمَرَ عليه السلام الأَزْوَاجَ وَغَيْرَهُمْ أَنْ لاَ يَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ الْمَسَاجِدِ; وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَجَلُّ الْمَسَاجِدِ قَدْرًا.
وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} ثُمَّ وَجَدْنَا الأَسْفَارَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ سَفَرًا وَاجِبًا, وَسَفَرًا غَيْرَ وَاجِبٍ; فَكَانَ السَّفَرُ الْوَاجِبُ بَعْضَ الأَسْفَارِ بِلاَ شَكٍّ, وَكَانَ الْحَجُّ مِنْ السَّفَرِ الْوَاجِبِ; فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ بَعْضِ الآثَارِ دُونَ بَعْضٍ وَوَجَبَتْ الطَّاعَةُ لِجَمِيعِهَا وَلَزِمَ اسْتِعْمَالُهَا كُلُّهَا، وَلاَ بُدَّ: فَهَذَا هُوَ الْفَرْضُ, وَكَانَ مَنْ رَفَضَ بَعْضَهَا وَأَخَذَ بَعْضَهَا عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهَا إلاَّ بِأَنْ يُسْتَثْنَى الأَخَصُّ مِنْهَا مِنْ الأَعَمِّ, وَلاَ بُدَّ; فَكَانَ نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ عَامًّا لِكُلِّ سَفَرٍ; فَوَجَبَ اسْتِثْنَاءُ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِنْ إيجَابِ بَعْضِ الأَسْفَارِ عَلَيْهَا مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ, وَالْحَجُّ سَفَرٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ إيجَابُ الْحَجِّ عَلَى النِّسَاءِ عُمُومٌ فَيُخَصُّ ذَلِكَ بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ قلنا: هَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ تِلْكَ الأَخْبَارَ إنَّمَا جَاءَتْ بِالنَّهْيِ، عَنْ كُلِّ سَفَرٍ جُمْلَةً لاَ، عَنِ الْحَجِّ خَاصَّةً, وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضُوا بِهَذَا أَنْ لَوْ جَاءَتْ فِي النَّهْيِ، عَنْ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ; فَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ اعْتِرَاضًا صَحِيحًا وَتَخْصِيصًا لاَِقَلِّ الْحُكْمَيْنِ مِنْ أَعَمِّهِمَا وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الأَخْبَارَ كُلَّهَا إنَّمَا خُوطِبَ بِهَا ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ, وَاَللاَّتِي لَهُنَّ الْمَحَارِمُ; لإِنَّ فِيهَا إبَاحَةَ الْحَجِّ أَوْ إيجَابَهُ مَعَ الزَّوْجِ, أَوْ ذِي الْمَحْرَمِ بِلاَ شَكٍّ; وَمِنْ

الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَصْلاً أَنْ يُخَاطِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ, فَبَقِيَ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ مَحْرَمَ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا وَعَلَى خُرُوجِهَا، عَنْ ذَلِكَ النَّهْيِ.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا ناهُ حُمَامٌ قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ, وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ, وَلاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" , فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتَتَبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: "انْطَلِقْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ" فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ رَافِعًا لِلإِشْكَالِ وَمُبَيِّنًا لِمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ, لإِنَّ نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ تُسَافِرَ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَقَعَ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّجُلُ، عَنْ امْرَأَتِهِ الَّتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً لاَ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَلاَ مَعَ زَوْجٍ فَأَمَرَهُ عليه السلام بِأَنْ يَنْطَلِقَ فَيَحُجَّ مَعَهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهَا، وَلاَ عَابَ سَفَرَهَا إلَى الْحَجِّ دُونَهُ وَدُونَ ذِي مَحْرَمٍ, وَفِي أَمْرِهِ عليه السلام بِأَنْ يَنْطَلِقَ فَيَحُجَّ مَعَهَا بَيَانٌ صَحِيحٌ وَنَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُمْكِنًا إدْرَاكُهَا بِلاَ شَكٍّ فَأَقَرَّ عليه السلام سَفَرَهَا كَمَا خَرَجْتُ فِيهِ, وَأَثْبَتَهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ; فَصَارَ الْفَرْضُ عَلَى الزَّوْجِ; فَإِنْ حَجَّ مَعَهَا فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ صُحْبَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهَا التَّمَادِي فِي حَجِّهَا وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ دُونَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ دُونَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ مَعَهُ كَمَا أَقَرَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهَا, فَارْتَفَعَ الشَّغَبُ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا.
فإن قال قائل: فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَمَّا رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ, أَوْ أَبُو مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ نَزَلْتَ" قَالَ عَلَى فُلاَنَةَ, قَالَ: "أَغْلَقْتَ عَلَيْهَا بَابَكَ مَرَّتَيْنِ لاَ تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَخْبَرَنَاهُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ قلنا: هَذَا خَبَرٌ لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ جُرَيْحٍ لاَِنَّهُ شَكَّ فِيهِ أَحَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً أَمْ حَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مُسْنَدًا فَلَمْ يُثْبِتْهُ أَصْلاً; فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهِ وَإِنَّمَا صَوَابُهُ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ.

وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا حدثنا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: "لاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَلاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ إلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ"; فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ نَذَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ قَالَ: فَاخْرُجْ مَعَهَا". فَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: "لاَ تَخْرُجْ إلَى الْحَجِّ إلاَّ مَعَكَ"; وَلاَ نَهَاهَا، عَنِ الْحَجِّ أَصْلاً, بَلْ أَلْزَمَ الزَّوْجَ تَرْكَ نَذْرِهِ فِي الْجِهَادِ وَأَلْزَمَهُ الْحَجَّ مَعَهَا; فَالْفَرْضُ فِي ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ لاَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ فَمُرْسَلٌ كَمَا نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ نُبَاتٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، نا عِيسَى بْنُ خَبِيبٍ قَاضِي أُشُونَةَ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، نا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ نَزَلْتَ عَلَى فُلاَنَةَ فَأَغْلَقْتَ عَلَيْهَا بَابَكَ مَرَّتَيْنِ".
فَهَذَا هُوَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ اخْتَلَطَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ فَلَمْ يَدْرِ أَحَدَّثَهُ بِهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَمْ حَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَدْخَلَ فِيهِ ذِكْرَ الْحَجِّ بِالشَّكِّ;، وَلاَ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ بِخَبَرٍ مَشْكُوكٍ فِي إسْنَادِهِ أَوْ فِي إرْسَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ فَلاَِنَّ طَاعَتَهُ فَرْضٌ عَلَيْهَا فِيمَا لاَ مَعْصِيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ, وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْحَجِّ التَّطَوُّعِ مَعْصِيَةٌ.

فإن أحرمت من الميقات أو من مكان يجوز الإحرام منه بغيرِ إذن زوجه
...
814 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَحْرَمَتْ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ مَكَان يَجُوزُ الإِحْرَامُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا, وَأَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ; فَإِنْ كَانَ حَجَّ تَطَوُّعٍ كُلُّ ذَلِكَ فَلَهُ مَنْعُهُمَا وَإِحْلاَلُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ حَجَّ الْفَرْضِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ لاَ غِنَى بِهِ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ لِمَرَضٍ أَوْ لِضَيْعَتِهِ دُونَهُ أَوْ دُونَهَا أَوْ ضَيْعَةِ مَالِهِ فَلَهُ إحْلاَلُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ". وَإِنْ كَانَ لاَ حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُمَا أَصْلاً فَإِنْ مَنَعَهُمَا فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمَا فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ; وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الاِبْنِ وَالاِبْنَةِ مَعَ الأَبِ وَالآُمِّ، وَلاَ فَرْقَ; وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ مُتَقَدِّمَةٌ لِطَاعَةِ الأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ; قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الطَّاعَةِ" . وَقَالَ عليه السلام: "فَإِذَا أُمِرْتَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ،

وَلاَ طَاعَةَ" وَتَرْكُ الْحَجِّ مَعْصِيَةٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ طَاعَةِ الأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ فِي تَرْكِ الْحَجِّ وَبَيْنَ طَاعَتِهِمْ فِي تَرْكِ الصَّلاَةِ أَوْ فِي تَرْكِ الزَّكَاةِ أَوْ فِي تَرْكِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فإن قيل: الْحَجُّ فِي تَأْخِيرِهِ فُسْحَةٌ قلنا: إلَى مَتَى أَفَرَأَيْت إنْ لَمْ يُبِيحُوا الْحَجَّ لِلأَوْلاَدِ أَوْ الزَّوْجَةِ أَبَدًا فَإِنْ حَدُّوا فِي ذَلِكَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانُوا مُتَحَكِّمِينَ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ وَشَارِعِينَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ يَقُولُ أَحَدٌ بِطَاعَتِهِمْ فِي تَرْكِ الْحَجِّ أَبَدًا جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي امْرَأَةٍ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا, أَنَّهَا مُحْرِمَةٌ قَالَ الْحَكَمُ: حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ.

واستطاعة السبيل الذي يجب بِه الحج
...
815 - مَسْأَلَةٌ: وَاسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَجُّ إمَّا صِحَّةُ الْجِسْمِ وَالطَّاقَةُ عَلَى الْمَشْيِ وَالتَّكَسُّبُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ مَا يَبْلُغُ بِهِ إلَى الْحَجِّ وَيَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِ عَيْشِهِ أَوْ أَهْلِهِ, وَأَمَّا مَالٌ يُمَكِّنُهُ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ أَوْ الْبَرِّ وَالْعَيْشِ مِنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَّةَ وَيَرُدَّهُ إلَى مَوْضِعِ عَيْشِهِ أَوْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْجِسْمِ إلاَّ أَنَّهُ لاَ مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ بَرًّا أَوْ بَحْرًا; وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يُطِيعُهُ فَيَحُجَّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرَ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ إنْ كَانَ هُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى النُّهُوضِ لاَ رَاكِبًا، وَلاَ رَاجِلاً; فَأَيُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَمْكَنَتْ الإِنْسَانَ الْمُسْلِمَ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ, وَمَنْ عَجَزَ، عَنْ جَمِيعِهَا فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ، وَلاَ عُمْرَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الاِسْتِطَاعَةُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ. وقال مالك: الاِسْتِطَاعَةُ قُوَّةُ الْجِسْمِ أَوْ الْقُوَّةُ بِالْمَالِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ, وَلَمْ يَرَ وُجُودَ مَنْ يُطِيعُهُ اسْتِطَاعَةً، وَلاَ أَوْجَبَ بِذَلِكَ حَجًّا. وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقْعَدَ مِنْ رِجْلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَاسِعٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ الأَعْمَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَعَلَى الأَعْمَى. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ: أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ إنَّمَا هِيَ بِمَالٍ يَحُجُّ بِهِ أَوْ مَنْ يُطِيعُهُ فَيَحُجُّ عَنْهُ فَقَطْ, وَلَمْ يَرَ قُوَّةَ الْجِسْمِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ اسْتِطَاعَةً.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: الاِسْتِطَاعَةُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ بِآثَارٍ رُوِّينَاهَا: مِنْهَا: عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْحَجُّ قَالَ: الأَشْعَثُ التَّفِلُ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَا قَتَادَةُ, وَحُمَيْدٌ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ إلَيْهِ قَالَ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ،

عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، نا هِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا, أَوْ نَصْرَانِيًّا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، عَنِ الْعَالَمِينَ} " . وَقَالُوا: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} عَلِمْنَا أَنَّهَا اسْتِطَاعَةٌ غَيْرُ الْقُوَّةِ بِالْجِسْمِ; إذْ لَوْ كَانَ تَعَالَى أَرَادَ قُوَّةَ الْجِسْمِ لَمَا احْتَاجَ إلَى ذِكْرِهَا; لاَِنَّنَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} . وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} فَصَحَّ أَنَّ الرِّحْلَةَ شِقُّ الأَنْفُسِ بِالضَّرُورَةِ، وَلاَ يُكَلِّفُنَا اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي اسْتِطَاعَةِ السَّبِيلِ إلَى الْحَجِّ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا: "زَادٌ, وَبَعِيرٌ": وَمِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ "مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً" قَالَ: "زَادٌ, وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً" قَالَ: "مِلْءُ بَطْنِهِ, وَرَاحِلَةٌ يَرْكَبُهَا" وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: فَادَّعَوْا فِي هَذَا أَنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا أَصْلاً; لاَِنَّنَا قَدْ رُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَنْ مَلَكَ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَحَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الإِمَاءِ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ, فِي الْحَجِّ: سَبِيلُهُ مَنْ وَجَدَ لَهُ سِعَةً, وَلَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِي، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً قَالَ عَلَى قَدْرِ الْقُوَّةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ عَطَاءٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لَوْ كَانَتْ عَلَى الْعُمُومِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهَا مَعْنًى فَكَلاَمٌ فَاسِدٌ, وَاعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى, وَإِخْرَاجٌ لِلْقُرْآنِ، عَنْ ظَاهِرِهِ بِلاَ بُرْهَانٍ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُهُ بِجِسْمِهِ, وَلاَ بِمَالِهِ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلاً فِي الاِسْتِطَاعَةِ بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الرِّحْلَةَ مِنْ شِقِّ الأَنْفُسِ وَالْحَرَجِ, وَاَللَّهُ تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ ذَلِكَ عِبَادَهُ, فَصَحِيحٌ وَلَمْ نَقُلْ نَحْنُ: إنَّ مَنْ كَانَتْ الرِّحْلَةُ تَشُقُّ

عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ فِيهَا حَرَجٌ أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُهُ: بَلْ الْحَجُّ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ سَاقِطٌ كَمَا قَالُوا; وَإِنَّمَا قلنا: إنَّ مَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَهُوَ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِي دُنْيَاهُ حَاجَةٌ لاَسْتَسْهَلَ الْمَشْيَ إلَيْهَا فَالْحَجُّ يَلْزَمُهُ; لاَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ.
وَأَمَّا الأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرُوا: فَإِنَّ فِي أَحَدِهَا: إبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ وَهُوَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ; وَفِي الثَّانِي: الْحَارِثُ الأَعْوَرُ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ, وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ وَالْعَجَبُ مِنْ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; فَإِنَّ الْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ, وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ لاَ سِيَّمَا مُرْسَلُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّهُ كَانَ لاَ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ إلاَّ إذَا حَدَّثَهُ بِهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَاعِدًا; ثُمَّ خَالَفُوا هَاهُنَا أَحْسَنَ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ; وَالشَّافِعِيُّونَ لاَ يَقُولُونَ: إلاَّ بِالْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ وَأَخَذُوا هَاهُنَا بِالسَّاقِطِ, وَالْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَوَاهِيَةٌ كُلُّهَا; لاَِنَّهَا إمَّا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مُرْسَلَةٌ, وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ, وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ, وَأَحْسَنُهَا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُوَافِقَةُ لِقَوْلِنَا, وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الآُخْرَى عَنْهُ فِي الثَّلاَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ, إلاَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ. وَالْحَنَفِيُّونَ يُبْطِلُونَ السُّنَنَ الصِّحَاحَ: كَنَفْيِ الزَّانِي, وَحَدِيثِ لاَ تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَلاَ الْمَصَّتَانِ, وَحَدِيثِ رَضَاعِ سَالِمٍ, وَغَيْرِهَا; لِزَعْمِهِمْ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, أَوْ مُخَالِفَةٌ لَهُ, وَأَخَذُوا هَاهُنَا بِأَخْبَارٍ سَاقِطَةٍ لاَ يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا مُخَصِّصَةٌ لِلْقُرْآنِ مُخَالِفَةٌ لَهُ, ثُمَّ خَالَفُوهَا مَعَ ذَلِكَ فِي تَخْصِيصِهِمْ الْمُقْعَدِ.
وَأَطْرَفُ شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ فِي تَخْصِيصِ الْمُقْعَدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى

حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الأَعْرَجَ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ إذَا وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَقَدَرَ عَلَى الرُّكُوبِ, وَكَذَلِكَ الأَعْمَى; فَخَالَفُوا مَا فِي الآيَةِ وَحَكَمُوا بِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَجَبَ طَلَبُ الْبُرْهَانِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَكَانَ هَذَا عُمُومًا لِكُلِّ اسْتِطَاعَةٍ بِمَالٍ أَوْ جِسْمٍ هَذَا الَّذِي يُوجِبُهُ لَفْظُ الآيَةِ ضَرُورَةً, وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ مُقْعَدٌ، وَلاَ أَعْمَى، وَلاَ أَعْرَجُ إذَا كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ الرُّكُوبَ وَمَعَهُمْ سِعَةٌ, وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الَّذِي أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ; لاَِنَّهُ لاَ حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذِهِ الآيَةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ, وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الشَّدِّ وَالتَّحَفُّظِ وَالْجَرْيِ, وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَجٌ ظَاهِرٌ عَلَى الأَعْرَجِ وَالأَعْمَى; وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً. وَبَقِيَ مَنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ قُوَّةَ جِسْمٍ إلاَّ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِلاَ أُجْرَةٍ أَوْ بِأُجْرَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا; فَوَجَدْنَا اللُّغَةَ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَبِهَا خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَلْزَمَنَا إيَّاهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا فِي أَنَّهُ يُقَالُ: الْخَلِيفَةُ مُسْتَطِيعٌ لِفَتْحِ بَلَدِ كَذَا, وَلِنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مُثْبَتًا لاَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ, وَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلاً فِي نَصِّ الآيَةِ.
وَوَجَدْنَا مِنْ السُّنَنِ: مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حُجِّي عَنْهُ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ: "إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ", وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ".
وَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ

ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: "كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ إنْ حَزَمَهَا خَشِيَ أَنْ يَقْتُلَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْزِمْهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ فَأَمَرَهُ عليه السلام أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، نا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ، هُوَ ابْنُ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَالظَّعْنَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حُجَّ، عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ". رُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ، عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، الْفَضْلُ, وَعَبْدُ اللَّهِ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ, وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ. وَيَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ التُّسْتَرِيُّ بَصْرِيٌّ كَانَ يَنْزِلُ بِأَهْلِهِ عِنْدَ مَقْبَرَةِ بَنِي سَهْمٍ مَاتَ سَنَةَ 161هـ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ, وَقِيلَ: بَلْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 162هـ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ثِقَةٌ ثَبْتٌ, وَثَّقَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَابْنُ مَعِينٍ, وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ, وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ, وَالنَّسَائِيُّ وَلَيْسَ هُوَ يَزِيدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي يَرْوِي، عَنْ قَتَادَةَ, ذَلِكَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ صَحِيحًا فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ لاَزِمَةٌ لَهُ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ; لاَِنَّهُ عليه السلام سَمِعَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ، عَنْ أَبِيهَا: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الثَّبَاتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ, فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا, وَلاَ عَلَى أَبِي رَزِينٍ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَبِيهِ; فَصَحَّ أَنَّ الْفَرْضَ بَاقٍ عَلَى هَذَيْنِ إذَا وَجَدَا مَنْ يَحُجُّ عَنْهُمَا. وقال الشافعي: إنَّمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَهَذَا خَطَأٌ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ رَاحِلَةٌ, وَلاَ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَيْضًا; فَهَذِهِ زِيَادَةٌ فَاسِدَةٌ. فإن قيل: إنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ فِي شَيْخٍ كَبِيرٍ, وَعَجُوزٍ كَبِيرَةٍ, فَمِنْ أَيْنَ تَعَدَّيْتُمْ مَا فِيهَا إلَى كُلِّ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَرَكَةَ بِزَمَانَةٍ, أَوْ مَرَضٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْخًا كَبِيرًا قلنا: لَيْسَ كُلُّ شَيْخٍ كَبِيرٍ تَكُونُ هَذِهِ صِفَتَهُ

وَإِنَّمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ غَلَبَهُ الضَّعْفُ, فَإِنَّمَا أَمَرَ عليه السلام بِذَلِكَ فِيمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ ثَبَاتًا عَلَى الدَّابَّةِ وَلَيْسَ لِلشَّيْخِ هُنَالِكَ مَعْنًى أَصْلاً. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْخِ حَدٌّ مَحْدُودٌ إذَا بَلَغَهُ الْمَرْءُ سُمِّيَ: شَيْخًا, وَلَمْ يُسَمَّ: شَيْخًا, حَتَّى يَبْلُغَهُ; وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُتَسَامَحُ فِيهِ، وَلاَ يُؤْخَذُ بِالظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ الْمُفْتَرَاةِ الْمَشْرُوعِ بِهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى, وَلَوْ كَانَ لِلشَّيْخِ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ لَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّهُ الَّذِي بِهِ يَنْتَقِلُ حُكْمُهُ إلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ كَمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ فِيمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الثَّبَاتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ, وَلاَ الْمَشْيَ إلَى الْحَجِّ; فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْخِ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ أَصْلاً, وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلْعَجْزِ، عَنِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَكَانَ هَذَا اسْتِطَاعَةً لِلسَّبِيلِ مُضَافَةً إلَى الْقُوَّةِ بِالْجِسْمِ وَبِالْمَالِ.
قال أبو محمد: فَتَعَلَّلَ قَوْمٌ فِي هَذِهِ الآثَارِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَحُجُّ، عَنْ أَبِي قَالَ: نَعَمْ, إنْ لَمْ تَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا. قَالُوا: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ لاَ فَرْضٌ".
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَيِّتًا, وَلاَ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا، عَنِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَلاَ أَنَّهُ كَانَ حَجَّ الْفَرِيضَةِ; بَلْ إنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ مُطْلَقٌ، عَنِ الْحَجِّ، عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ، عَنْ نَفْسِهِ, أَوْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ; فَأَجَابَهُ عليه السلام بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ; وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, جَوَازُ الْحَجِّ، عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلاَ مَزِيدَ, وَهُوَ قَوْلُنَا. وَأَمَّا تِلْكَ الأَحَادِيثُ فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّهَا فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ; وَأَيْضًا: فَلَيْسَ قَوْلُهُ عليه السلام: "إنْ لَمْ تَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا". بِمُخْرِجٍ لِذَلِكَ، عَنِ الْفَرْضِ إلَى التَّطَوُّعِ; لإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ كُلِّ عَمَلٍ مُفْتَرَضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ إنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْمَرْءِ فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يُكْتَبُ لَهُ بِهِ سَيِّئَةٌ; فَبَطَلَ اعْتِرَاضُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} . قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَا سَعَى فِيهِ غَيْرُهُمْ عَنْهُمْ بِهَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ.
وقال بعضهم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . قَالَ عَلِيٌّ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى لَزِمَ ذَلِكَ, وَكَانَ مَخْصُوصًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ; وَقَدْ أَجْمَعُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَمْ تَقْتُلْ وَأَنَّهَا تَغْرَمُ، عَنِ الْقَاتِلِ, وَلَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ, وَلَيْسَ

هُوَ إجْمَاعًا; فَإِنَّ عُثْمَانَ الْبَتِّيَّ لاَ يَرَى حُكْمَ الْعَاقِلَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الَّذِي أَتَانَا بِهَذَا هُوَ الَّذِي افْتَرَضَ أَنْ يُحَجَّ، عَنِ الْعَاجِزِ, وَالْمَيِّتِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَهُمْ يُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ, وَالصَّدَقَةَ، عَنِ الْحَيِّ, وَالْمَيِّتِ, وَالْعِتْقَ عَنْهُمَا أَوْصَيَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِيَا, وَلاَ يَعْتَرِضُونَ فِي ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا أَوْصَى بِالْحَجِّ كَانَ مِمَّا سَعَى.
قلنا لَهُمْ: فَأَوْجِبُوا بِذَلِكَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ; لاَِنَّهُ مِمَّا سَعَى. فَإِنْ قَالُوا: عَمَلُ الأَبَدَانِ لاَ يَعْمَلُهُ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ. فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ, وَمِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ هَذَا بَلْ كُلُّ عَمَلٍ إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ، عَنْ غَيْرِهِ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ الْمُعَانِدِ فَإِنْ قَالُوا: قِيَاسًا عَلَى الصَّلاَةِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا عَلَيْكُمْ لاَ لَكُمْ; لاَِنَّكُمْ لاَ تَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَرْءُ الَّذِي يَحُجُّ، عَنْ غَيْرِهِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ، عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ, فَقَدْ جَوَّزْتُمْ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ، عَنْ بَعْضٍ فَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ سَائِرَ أَعْمَالِ الأَبَدَانِ.
وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فِيهِ مَدْخَلٌ لِلْمَالِ فِي جَبْرِهِ بِالْهَدْيِ, وَالإِطْعَامِ: جَازَ أَنْ يَعْمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ، عَنْ بَعْضٍ قلنا: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَشَرْعٌ مَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٍّ ثُمَّ قَدْ تَنَاقَضْتُمْ فِيهِ; لإِنَّ الصِّيَامَ فِيهِ مَدْخَلٌ لِلْمَالِ فِي جَبْرِهِ بِالْعِتْقِ, وَالإِطْعَامِ، وَلاَ فَرْقَ, وَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ صَوْمِهِ, فَأَجِيزُوا لِذَلِكَ أَنْ يَعْمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ، عَنْ بَعْضٍ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يُجِيزُونَ أَنْ يُجَاهِدَ الرَّجُلُ، عَنْ غَيْرِهِ بِجُعْلٍ, وَيُجِيزُونَ الْكَفَّارَةَ، عَنِ الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهَا عَنْهَا, وَهُوَ الَّذِي أَكْرَهَهَا, فَأَجَازُوا كُلَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يُجِزْهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام وَمَنَعُوا مِنْ جَوَازِهِ حَيْثُ افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ: نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَرِيمٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَدَوِيِّ النَّجَّارِيِّ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِتَحُجِّي عَنْهُ، وَلَيْسَ لاَِحَدٍ بَعْدَهُ" . وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْكَرِيرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَقْوَى عَلَى الْحَجِّ فَقَالَ عليه السلام: "فَلْتَحُجِّي عَنْهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لاَِحَدٍ بَعْدَهُ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ صَالِحٍ الطَّلْحِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ أَسْلَمَ،

عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحُجُّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ إلاَّ وَلَدٌ، عَنْ وَالِدٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذِهِ تَكَاذِيبُ, أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ: وَالأَوَّلُ: فِيهِ مَجْهُولاَنِ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمَا وَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدَوِيُّ وَالآخَرَانِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ وَكَفَى; فَكَيْف وَفِيهِ: الطَّلْحِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْكَرِيرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ, وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَهَذَا خَبَرٌ حَرَّفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ; لاَِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ وَلَك مِثْلُ أَجْرِهِ".
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَدَعَوْتَ غُرَمَاءَهُ لِتَقْضِيَهُمْ أَكَانُوا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْكَ" قَالَ: نَعَمْ; قَالَ: "فَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ قَابِلٌ مِنْ أَبِيكَ".
قال أبو محمد: فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْفَضَائِحِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهَا; لأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِهِ, وَأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ غَيْرُ وَلَدِهِ; وَهُوَ خِلاَفٌ لِمَا فِي هَذِهِ الآثَارِ فَهِيَ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ وَتَخْصِيصُهُمْ جَوَازَ الْحَجِّ إذَا أَوْصَى بِهِ لاَ يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ, وَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَلاَ يُوجِبُهَا قِيَاسٌ; لإِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَجُوزُ إلاَّ فِيمَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
قال أبو محمد: فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ يَصُومَنَّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَحُجَّنَّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَفْلَحَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لاَ يَحُجُّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ قلنا: نَعَمْ, هَذَا صَحِيحٌ عَنْهُمَا, وَأَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ; لاَِنَّكُمْ تُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ, وَالْقَاسِمِ وَمَا وَجَدْنَا قَوْلَهُمْ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،; وَصَحَّ قَوْلُنَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْقَرِّيِّ قَالَ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ أُمِّي حَجَّتْ وَلَمْ تَعْتَمِرْ, أَفَأَعْتَمِرُ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ.

قال أبو محمد فَهَذَا لاَ تَخْصِيصَ فِيهِ لِمَيِّتٍ دُونَ حَيٍّ.وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ قَالَ, قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ, لاَِيِّهِمَا الأَجْرُ أَلِلْحَاجِّ أَمْ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاسِعٌ لَهُمَا جَمِيعًا.
قال أبو محمد: صَدَقَ سَعِيدٌ رحمه الله. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّ مُحِبَّةَ أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَشَتْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ عَقَبَةَ الْبَطْنِ عَجَزَتْ فَرَكِبَتْ ثُمَّ أَتَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: أَتَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَحُجِّي قَابِلاً فَإِذَا انْتَهَيْت إلَى الْمَكَانِ الَّذِي رَكِبَتْ فِيهِ فَتَمْشِي مَا رَكِبْت قَالَتْ: لاَ, قَالَ لَهَا: فَهَلْ لَك ابْنَةٌ تَمْشِي عَنْك قَالَتْ: لِي ابْنَتَانِ وَلَكِنَّهُمَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ. وَرُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قال أبو محمد: هَذِهِ هِيَ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَى رِوَايَتِهَا، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، فِي أَمْرِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ, وَتَرَكُوا فِيهِ فِعْلَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَكَانَتْ حُجَّةً هُنَالِكَ إذْ لَمْ تُوَافِقْ النُّصُوصَ, وَلَمْ تَكُنْ حُجَّةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ وَافَقَتْ النُّصُوصَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُجَهِّزُ رَجُلاً بِنَفَقَتِهِ فَيَحُجُّ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: رَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ الْجِمَارَ, وَطَافَ عَنْهُ طَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ وَكَانَ أَبُوهُ مَرِيضًا. وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، عَنْ أَبِيهِ بِأَمْرِ أَبِيهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ مَنْ حَجَّ، عَنْ رَجُلٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ فَعَجَزَ قَالَ: يَمْشِي عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِهِ, وَأَنَّهُ رَأَى الرَّمْيَ، عَنِ الْمَرِيضِ لِلْجِمَارِ.
فَهَؤُلاَءِ: ابْنُ عَبَّاسٍ, وَعَلِيٌّ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ, وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس: وَرُوِيَ أَيْضًا: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ خَالَفَنَا هَاهُنَا فَلَمْ يُوجِبْ الْحَجَّ عَلَى مَنْ وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَهُوَ عَاجِزٌ, وَلاَ عَنِ الْمَيِّتِ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ: سَلَفًا أَصْلاً مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم, وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْجُمْهُورَ مِنْ الْعُلَمَاءِ; وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَابْنُ أَبِي لَيْلَى, وَأَحْمَدُ, وَإِسْحَاقُ.

فإن حج عمن لم يطِق الركوب والمشي لمرض أو زمانة حجة الإسلام
...
816 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: فَإِنْ حَجَّ عَمَّنْ لَمْ يُطِقْ الرُّكُوبَ وَالْمَشْيَ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ ثُمَّ أَفَاقَ; فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ: عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَلاَ بُدَّ, وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بَعْدُ.
قال أبو محمد: إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ عَمَّنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ رَاكِبًا، وَلاَ مَاشِيًا, وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دَيْنُ اللَّهِ يُقْضَى عَنْهُ; فَقَدْ تَأَدَّى الدَّيْنُ بِلاَ شَكٍّ وَأَجْزَأَ عَنْهُ, وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ مَا سَقَطَ وَتَأَدَّى, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ فَرْضُهُ بِذَلِكَ; إلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ هَاهُنَا أَصْلاً بِعَوْدَتِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَائِدًا لَبَيَّنَ عليه السلام ذَلِكَ; إذْ قَدْ يَقْوَى الشَّيْخُ فَيُطِيقُ الرُّكُوبَ; فَإِذْ لَمْ يُخْبِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ عَوْدَةُ الْفَرْضِ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ تَأَدِّيهِ عَنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

وسواء من بلغ وهو عاجز عن المشي والركوب أو من بلغ مطيقاً ثم عجز في كل ما ذكرنا
...
817 - مَسْأَلَةٌ: قال علي وَسَوَاءٌ مَنْ بَلَغَ وَهُوَ عَاجِزٌ، عَنِ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ, أَوْ مَنْ بَلَغَ مُطِيقًا ثُمَّ عَجَزَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ إلاَّ عَمَّنْ قَدَرَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْحَجِّ وَلَوْ عَامًا وَاحِدًا ثُمَّ عَجَزَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ; لإِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِيهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الدَّابَّةِ.فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ بَعْدَ لُزُومِهِ لَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِجِسْمِهِ; فَصَحَّ قَوْلُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ومن مات وهو مستطيع بأحد الوجوه التي قدمنا
818 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا حُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَاعْتُمِرَ، وَلاَ بُدَّ مُقَدَّمًا عَلَى دُيُونِ النَّاسِ إنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ تَطَوُّعًا سَوَاءً أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يُحَجُّ عَنْهُ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَعَمَّ عَزَّ وَجَلَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَّا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْمَصْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حَمِيدٍ الْبَصْرِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرْتُ امْرَأَةَ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ الْجُهَنِيِّ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِئُ، عَنْ أُمِّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ, لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا فَلْتَحُجَّ، عَنْ أُمِّهَا".

والحج لا يجوز شيء من عمله إلا في أوقاته المنصوصة
819 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَجُّ لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ إلاَّ فِي أَوْقَاتِهِ الْمَنْصُوصَةِ، وَلاَ يَحِلُّ الإِحْرَامُ بِهِ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ السَّنَةِ, وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ, وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيِهَا لاَ تُحَاشِ شَيْئًا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . الآيَةَ, فَنَصَّ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَابْنِ جُرَيْجٍ كِلَيْهِمَا، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ أَيُهِلُّ أَحَدٌ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ: لاَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: رَأَى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَدْرَكُوهُ رَجَمُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ لاَِبِي الْحَكَمِ: أَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ; لاَِنَّك خَالَفْتَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرَكْتَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ

صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ, وَجَعَلَ الْقَرْيَةَ خَلْفَ ظَهْرِهِ أَهَلَّ وَإِنَّك تُهِلُّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَعَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَالشَّعْبِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ قَالاَ: فَإِنَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يُحِلُّ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يُحِلُّ وَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَأَنَّهُ لَيْسَ حَجًّا, يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْمُغِيرَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; فَإِنْ فَعَلَ فَلاَ يَحِلُّ حَتَّى يَقْضِيَ حِجَّهُ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ: تَصِيرُ عُمْرَةً، وَلاَ بُدَّ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ إنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قال أبو محمد مَا نَعْلَمُ فِي هَذَا الْقَوْلِ سَلَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَهُوَ خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَخِلاَفُ الْقِيَاسِ, وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلاَةِ فَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِهَا أَنَّهَا تَكُونُ تَطَوُّعًا.
قال أبو محمد: هَذَا تَشْبِيهُ الْخَطَأِ بِالْخَطَأِ بَلْ هُوَ لاَ شَيْءَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالصَّلاَةِ كَمَا أُمِرَ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ". فَصَحَّ أَنْ عَمَلَ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ أَمْرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهُ رَدٌّ, وَلاَ يَصِيرُ عُمْرَةً، وَلاَ هُوَ حَجٌّ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ مِنْ الْحَنِيفِيِّينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ مَا, فَإِذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمْرَةً فَهُوَ الْحَجُّ, وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُنَاظِرُ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ فَهُوَ لَعَمْرِي لاَزِمٌ لَهُ, وَإِنْ كَانَ قَصَدَ الإِيهَامَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ تَامٌّ فَقَدْ اسْتَسْهَلَ الْكَذِبَ عَلَى الآُمَّةِ كُلِّهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنِ الشَّعْبِيِّ, وَعَطَاءٍ أَنَّهُ يَحِلُّ, وَعَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً. وَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ: أَنْتُمْ تَكْرَهُونَ الإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتُجِيزُونَهُ فَأَخْبِرُونَا عَنْكُمْ أَهُوَ عَمَلُ بِرٍّ وَفِيهِ أَجْرٌ زَائِدٌ فَلِمَ تَكْرَهُونَ الْبِرَّ وَعَمَلاً فِيهِ أَجْرٌ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا وَمَا فِي الدِّينِ كَرَاهِيَةُ الْبِرِّ وَعَمَلُ الْخَيْرِ, أَمْ هُوَ عَمَلٌ لَيْسَ فِيهِ أَجْرٌ زَائِدٌ، وَلاَ هُوَ مِنْ الْبِرِّ فَكَيْف أَجَزْتُمُوهُ فِي الدِّينِ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا؟
قال أبو محمد: إذْ هُوَ عَمَلٌ زَائِدٌ لاَ أَجْرَ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وَيُقَالُ لِلشَّافِعِيِّ: كَيْف تُبْطِلُ عَمَلَهُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ;

لاَِنَّهُ خَالَفَ الْحَقَّ, ثُمَّ تُلْزِمُهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عُمْرَةً لَمْ يُرِدْهَا قَطُّ، وَلاَ قَصَدَهَا، وَلاَ نَوَاهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَهَذَا بَيِّنٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ; فَبَطَلَ كِلاَ الْقَوْلَيْنِ {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْمَذْكُورُونَ فِي أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِصَلاَةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهَا تَبْطُلُ وَمَنْ نَوَى صِيَامًا قَبْلَ وَقْتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ, وَمَنْ قَدَّمَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ; فَهَلاَّ قَاسُوا الْحَجَّ عَلَى ذَلِكَ وَهَلاَّ قَاسُوا بَعْضَ عَمَلِ الْحَجِّ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا أَصَحُّ قِيَاسٍ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ, وَعَمَلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ, وَالْقِيَاسُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنِيفِيِّينَ قَالُوا فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ" : حَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلاَمٍ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ فَهَلاَّ قَالُوا: هَاهُنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. حَاشَا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلاً لاَ فَائِدَةَ فِيهِ هَذَا وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ جُمْلَةً دُونَ ذِكْرِ سَائِمَةٍ, وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ جَوَازُ فَرْضِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ الْمَعْلُومَاتِ.
فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَلِمَ جَعَلْتُمْ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} حُجَّةً فِي أَنْ لاَ يَتَعَدَّى بِأَعْمَالِ الْحَجِّ إلَى غَيْرِهَا قلنا: إنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ دَعْوَاكُمْ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تُبْطِلُوا بِهِ سُنَّةً أُخْرَى عَامَّةً, وَأَمَّا إذَا وَرَدَ نَصٌّ بِحُكْمٍ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ آخَرُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْحُكْمِ النَّصَّ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّ الْخِلاَفَ قَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ عُمْرَةٌ وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَتَمَّ لِحَجِّكُمْ وَلِعُمْرَتِكُمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنِ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ: أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: حَلَّتْ الْعُمْرَةُ الدَّهْرَ إلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: يَوْمَ النَّحْرِ; وَيَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ مُعَاذَةَ عَنْهَا. وَرُوِّينَا أَيْضًا عَنْهَا: تَمَّتْ الْعُمْرَةُ السَّنَةَ كُلَّهَا إلاَّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمَ عَرَفَةَ, وَيَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهَا إلاَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمُ

عَرَفَةَ, وَيَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وقال أبو حنيفة: الْعُمْرَةُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ إلاَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ, يَوْمُ عَرَفَةَ, وَيَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وقال مالك: الْعُمْرَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ السَّنَةِ إلاَّ لِلْحَاجِّ خَاصَّةً فِي أَيَّامِ النَّحْرِ خَاصَّةً. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَمَا قلنا.
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ فَأَذِنَ لَهُ فَاعْتَمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَتْ أُخْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَعْدَ مَا قَضَتْ حَجَّهَا أَتَعْتَمِرُ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ طَاوُوس أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ: تَعَجَّلْتُ فِي يَوْمَيْنِ أَفَأَعْتَمِرُ قَالَ: نَعَمْ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضِ, وَلاَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ، عَنْ عَائِشَةَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا, وَقَدْ نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا سُمَيٌّ هُوَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الْجَنَّةُ وَالْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ تَكْفِيرٌ لِمَا بَيْنَهُمَا". قال أبو محمد: فَحَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَحُدَّ لَهَا وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ; وَأَمَّا اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفَاسِدٌ جِدًّا; لاَِنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ عَلَى صِحَّتِهِ دُونَ سَائِرِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

والحج لا يجوز إلا مرة في السنة
820 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَجُّ لاَ يَجُوزُ إلاَّ مَرَّةً فِي السَّنَةِ; وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَنُحِبُّ الإِكْثَارَ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَضْلِهَا; فأما الْحَجُّ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فِي كُلِّ شَهْرٍ عُمْرَةٌ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ عُمْرَتَيْنِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَرَاهَةُ الْعُمْرَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس: إذَا مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَاعْتَمِرْ مَتَى شِئْت. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: اعْتَمِرْ مَتَى أَمْكَنَك الْمُوسَى. وَعَنْ عَطَاءٍ إجَازَةُ الْعُمْرَةِ

مَرَّتَيْنِ فِي الشَّهْرِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ مَرَّةً فِي رَجَبٍ, وَمَرَّةً فِي شَوَّالٍ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَقَامَ مُدَّةً بِمَكَّةَ فَكُلَّمَا جَمَّ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْمَرَ عَائِشَةَ مَرَّتَيْنِ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكْرَهْ عليه السلام ذَلِكَ بَلْ حَضَّ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهَا, وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ الثَّانِيَةِ, فَالإِكْثَارُ مِنْهَا أَفْضَلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ: بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ فِي عَامٍ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا; لاَِنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ مَا حَضَّ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ عليه السلام لَمْ يَحُجَّ مُذْ هَاجَرَ إلاَّ حَجَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ اعْتَمَرَ مُذْ هَاجَرَ إلاَّ ثَلاَثَ عُمَرَ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَكْرَهُوا الْحَجَّ إلاَّ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ, وَأَنْ تَكْرَهُوا الْعُمْرَةَ إلاَّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي الدَّهْرِ, وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ; وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عليه السلام يَتْرُكُ الْعَمَلَ هُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ أَوْ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَصُومَ الْمَرْءُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, وَأَنْ يَقُومَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ; وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمْ قَطُّ شَهْرًا كَامِلاً, وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, وَلاَ قَامَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً, وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ, فَلَمْ يَرَوْا فِعْلَهُ عليه السلام هَاهُنَا حُجَّةً فِي كَرَاهَةِ مَا زَادَ عَلَى صِحَّةِ نَهْيِهِ، عَنِ الزِّيَادَةِ فِي الصَّوْمِ وَمِقْدَارِ مَا يُقَامُ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ. وَجَعَلُوا فِعْلَهُ عليه السلام فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي الْعَامِ إلاَّ مَرَّةَ مَعَ حَضِّهِ عَلَى الْعُمْرَةِ وَالإِكْثَارِ مِنْهَا حُجَّةً فِي كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى عُمْرَةٍ مِنْ الْعَامِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا.

َ

أشهر الحج
821 - مَسْأَلَةٌ: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقِعْدَةِ, وَذُو الْحِجَّةِ, وَقَالَ قَوْمٌ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقِعْدَةِ, وَعَشَرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. رُوِّينَا قَوْلَنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ. وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الآخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا, وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقَعْدَةِ, وَصَدْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
قال أبو محمد: قَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى شَهْرَيْنِ, وَبَعْضٍ آخَرَ: أَشْهُرٌ, وَأَيْضًا فَإِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ يُعْمَلُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ, وَطَوَافُ الإِفَاضَةِ وَهُوَ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ يُعْمَلُ فِي ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْهُمْ; فَصَحَّ أَنَّهَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

ولِلحج والعمرة مواضِع تسمى: المواقيت
...
822- مَسْأَلَةٌ: وَلِلْحَجِّ, وَالْعُمْرَةِ مَوَاضِعُ تُسَمَّى: الْمَوَاقِيتَ, وَاحِدُهَا: مِيقَاتٌ

فإِذا جاء من يرِيد الحج أو العمرة إلى أحد هذه المواقيت
...
823 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا جَاءَ مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَلْيَتَجَرَّدْ مِنْ ثِيَابِهِ إنْ كَانَ رَجُلاً, فَلاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ, وَلاَ سَرَاوِيلَ, وَلاَ عِمَامَةً, وَلاَ قَلَنْسُوَةً, وَلاَ جُبَّةً, وَلاَ بُرْنُسًا, وَلاَ خُفَّيْنِ, وَلاَ قُفَّازَيْنِ أَلْبَتَّةَ, لَكِنْ يَلْتَحِفُ فِيمَا شَاءَ مِنْ كِسَاءٍ, أَوْ مِلْحَفَةٍ أَوْ رِدَاءٍ; وَيَتَّزِرُ وَيَكْشِفُ رَأْسَهُ وَيَلْبَسُ نَعْلَيْهِ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّزِرَ, وَلاَ أَنْ يَلْتَحِفَ فِي ثَوْبٍ صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِوَرْسٍ, أَوْ زَعْفَرَانٍ, أَوْ عُصْفُرٍ. فَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَلْتَلْبَسْ مَا شَاءَتْ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ وَتُغَطِّي رَأْسَهَا إلاَّ أَنَّهَا لاَ تَنْتَقِبُ أَصْلاً; لَكِنْ إمَّا أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا, وَأَمَّا أَنْ تَسْدُلَ عَلَيْهِ ثَوْبًا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا فَذَلِكَ لَهَا إنْ شَاءَتْ. وَلاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ شَيْئًا صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ,

وَلاَ أَنْ تَلْبَسَ قُفَّازَيْنِ فِي يَدَيْهَا, وَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْخِفَافَ وَالْمُعَصْفَرَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الرَّجُلُ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ كَمَا هِيَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْ خُفَّيْهِ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ بُدَّ وَيَلْبَسُهُمَا كَذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلْبَسُوا الْقُمُصَ, وَلاَ الْعَمَائِمَ, وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ, وَلاَ الْبَرَانِسَ، وَلاَ الْخِفَافَ إلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ, وَلاَ تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلاَ الْوَرْسُ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، نا أَبِيٌّ قَالَ سَمِعْت قَيْسًا، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ قَدْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مُصَفِّرٌ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ, وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ, وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ, وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ".
قال أبو محمد: كُلُّ مَا جُبَّ فِيهِ مَوْضِعٌ لاِِخْرَاجِ الرَّأْسِ مِنْهُ: فَهُوَ جُبَّةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ; وَكُلُّ مَا خِيطَ أَوْ نُسِجَ فِي طَرَفَيْهِ لِيَتَمَسَّكَ عَلَى الرَّأْسِ فَهُوَ بُرْنُسٌ كَالْغِفَارَةِ وَنَحْوِهَا.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، نا يَعْقُوبُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: إنَّ نَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ، عَنِ الْقُفَّازَيْنِ, وَالنِّقَابِ, وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ, مِنْ الثِّيَابِ وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ, أَوْ خَزٍّ, أَوْ حُلِيٍّ, أَوْ سَرَاوِيلَ, أَوْ قَمِيصٍ, أَوْ خُفٍّ".

قَالَ عَلِيٌّ: وَحدثناه عبد الله بن ربيع قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، نا عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ مُتَضَمِّخٌ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَمَّا الْجُبَّةُ فَاخْلَعْهَا, وَأَمَّا الطِّيبُ فَاغْسِلْهُ, ثُمَّ أَحْدِثْ إحْرَامًا".
قال أبو محمد: نُوحٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ; فَالأَخْذُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَاجِبٌ, وَيَجِبُ إحْدَاثُ الإِحْرَامِ لِمَنْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ مُتَضَمِّخًا بِصُفْرَةٍ مَعًا وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ إلاَّ مَنْ جَمَعَهَا, وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرِّجَالَ، عَنِ الْمُعَصْفَرِ جُمْلَةً.
قال أبو محمد: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ, وَهُوَ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِالْوَرْسِ, أَوْ الزَّعْفَرَانِ, إذَا غُسِلَ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ فَقَالَ قَوْمٌ: لِبَاسُهُ جَائِزٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ رَوَى بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا أَثَرًا فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَلاَ نَعْلَمُهُ صَحِيحًا, وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ لِبَاسُهُ أَصْلاً; لاَِنَّهُ قَدْ مَسَّهُ الْوَرْسُ, أَوْ الزَّعْفَرَانُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ التَّنُّورِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُرْوَةَ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، عَنِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ إذَا غُسِلَ حَتَّى ذَهَبَ لَوْنُهُ يَعْنِي بِالزَّعْفَرَانِ لِلْمُحْرِمِ فَنَهَاهُ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ وَمَعِي ثَوْبٌ مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ فَغَسَلْته حَتَّى ذَهَبَ لَوْنُهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَمَعَك ثَوْبٌ غَيْرُهُ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَأَحْرِمْ فِيهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إبَاحَةَ الإِحْرَامِ فِيهِ إذَا غُسِلَ، وَلاَ يَصِحُّ سَمَاعُ إبْرَاهِيمَ مِنْ عَائِشَةَ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, وطَاوُوس: إبَاحَةَ الإِحْرَامِ فِيهِ إذَا غُسِلَ وَفِي أَسَانِيدِهِمْ مَغْمَزٌ.
وَمِنْهُ: مَنْ وَجَدَ خُفَّيْنِ وَلَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا، وَلاَ يَقْطَعُهُمَا.وَقَالَ قَوْمٌ يَشُقُّ السَّرَاوِيلَ فَيَتَّزِرُ بِهَا وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ لَهُ لِبَاسَ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ بِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَار

سَمِعْت جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ, وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ". وقال بعضهم: قَطْعُ الْخُفَّيْنِ إفْسَادٌ لِلْمَالِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ.
قال أبو محمد: حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ, فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ كَمَا هِيَ، وَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; وَأَمَّا الْخُفَّانِ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ زِيَادَةُ الْقَطْعِ حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ, وَلاَ تَرْكُ الزِّيَادَةِ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ "إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ, وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ النَّعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ: قَالَ: يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ وَيَقْطَعُهُمَا حَتَّى يَكُونَا مِثْلَ النَّعْلَيْنِ; وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَسُفْيَانَ, وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ إبَاحَةَ لِبَاسِ الْخُفَّيْنِ بِلاَ ضَرُورَةٍ لِلْمُحْرِمِ مِنْ الرِّجَالِ. وقال أبو حنيفة: إنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ, فَإِنْ لَبِسَهَا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلاَ بُدَّ. وَإِنْ لَبِسَهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ, وَإِنْ لَبِسَ خُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, وَإِنْ لَبِسَهُمَا أَقَلَّ فَصَدَقَةٌ; وقال مالك: مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ وَافْتَدَى, وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ قَطَعَ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَبِسَهُمَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَشُقُّ السَّرَاوِيلَ وَيَتَّزِرُ بِهَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو محمد: أَمَّا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ لِبَاسِ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ, وَبَيْنَ لِبَاسِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُونَ إنْ لَبِسَهُمَا يَوْمًا غَيْرَ طَرْفَةِ عَيْنٍ, أَوْ غَيْرَ نِصْفِ سَاعَةٍ وَهَكَذَا نَزِيدُهُمْ دَقِيقَةً دَقِيقَةً حَتَّى يَلُوحَ هَذَيَانُهُمْ, وَقَوْلُهُمْ بِالأَضَالِيلِ فِي الدِّينِ, وَكَذَلِكَ إيجَابُهُ الدَّمَ فِي ذَلِكَ, أَوْ الصَّدَقَةَ, لاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لإِنَّ فِدْيَةَ الأَذَى جَاءَتْ بِتَخْيِيرٍ بَيْنَ صِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ نُسُكٍ, وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ هَاهُنَا الدَّمَ، وَلاَ بُدَّ; أَوْ صَدَقَةً غَيْرَ مَحْدُودَةٍ،

وَلاَ بُدَّ;، وَلاَ سِيَّمَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا بِالْقِيَاسِ, فَكَمْ هَذَا التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ؟
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمُهُ بَيْنَ حُكْمِ السَّرَاوِيلِ وَبَيْنَ حُكْمِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ, خَطَأٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَمَالِكٌ مَعْذُورٌ, لاَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَإِنَّمَا الْمَلاَمَةُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ وَخَالَفَهُ لِتَقْلِيدِ رَأْيِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ اسْتَدْرَكَ بِعَقْلِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عليه السلام وَأَوْجَبَ فِدْيَةً حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهَا النَّبِيُّ عليه السلام.
قال أبو محمد: وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ; وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَعَائِشَةَ, وَعَلِيٍّ, وَالْمِسْوَرِ, وَلاَ نَعْلَمُ لاَِحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قَوْلاً غَيْرَ الأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَخَالَفَهَا الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ كُلُّهَا آرَاءٌ فَاسِدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ نَهْيَ الْمَرْأَةِ، عَنِ الْقُفَّازَيْنِ, وَعَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ, وَالْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ, وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إبَاحَةَ الْقُفَّازَيْنِ لِلْمَرْأَةِ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ, وَحَمَّادٍ, وَعَطَاءٍ, وَمَكْحُولٍ, وَعَلْقَمَةَ, وَغَيْرِهِمْ; وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْحَاكِمُ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَأَمَّا الْمُعَصْفَرُ فَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَنْعَ مِنْهُ جُمْلَةً وَلِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنِ عُمَرَ, وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: إبَاحَتَهُ لِلْمُحْرِمِ, وَلَمْ يُبِحْهُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ: لِلْمُحْرِمِ, وَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَلِيٍّ, وَعَقِيلِ ابْنَيْ أَبِي طَالِبٍ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَغَيْرِهِمْ, إبَاحَةَ الْمُوَرَّدِ لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ, وَهُوَ مُبَاحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بِزَعْفَرَانٍ, أَوْ وَرْسٍ, أَوْ عُصْفُرٍ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَهْيٌ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.

ونستحِب الغسل عند الإحرامِ للرجال والنساء وليس فرضا إلا على النفساء وحدها
...
824 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْغُسْلَ عِنْدَ الإِحْرَامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, وَلَيْسَ فَرْضًا إلاَّ عَلَى النُّفَسَاءِ وَحْدَهَا: لِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ تُهِلُّ".

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29