كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

طريق الحجة وجب أن يكونوا حجة على أهل عصرهم الداخلين معهم في إجماعهم وعلى من بعدهم من سائر أهل الأعصار فهو يدل على أن أهل عصر إذا أجمعوا على شيء ثم خرج بعضهم عن إجماعهم أنه محجوج بالإجماع المتقدم لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد شهد لهذه الجماعة بصحة قولها وجعلها حجة ودليلا فالخارج عنها بعد ذلك تارك لحكم دليله وحجته إذ غير جائز وجود دليل الله تعالى عاريا عن مدلوله ويستحيل وجود النسخ بعد النبي صلى الله عليه وسلم - فيترك حكمه من طريق النسخ فدل ذلك على أن الإجماع في أي حال حصل من الأمة فهو حجة الله عز و جل غير سائغ لأحد تركه ولا الخروج عنه ومن حيث دلت الآية على صحة إجماع الصدر الأول فهي دالة على صحة إجماع أهل الأعصار إذا لم يخصص بذلك أهل عصر دون عصر ولو جاز الإقتصار بحكم الآية على إجماع الصدر الأول دون أهل سائر الأعصار لجاز الإقتصار به على إجماع أهل سائر الأعصار دون الصدر الأول فإن قال قائل لما قال وكذلك جعلناكم أمة وسطا فوجه الخطاب إلى الموجودين في حال نزوله دل ذلك على أنهم هم المخصوصون به دون غيرهم فلا يدخلون في حكمهم إلا بدلالة قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا هو خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها من كان منهم موجودا في وقت نزول الآية ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة كما أن قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم وقوله كتب عليكم القصاص ونحو ذلك من الآي خطاب لجميع الأمة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم - مبعوثا إلى جميعها من كان منهم موجودا في عصره ومن جاء بعده قال الله تعالى إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وقال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وما أحسب مسلما يستجيز إطلاق القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يكن مبعوثا إلى جميع الأمة أولها وآخرها وأنه لم يكن حجة عليها وشاهدا
وأنه لم يكن رحمة لكافتها فإن قال قائل لما قال الله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا واسم الأمة يتناول الموجودين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - ومن جاء بعدهم إلى قيام الساعة فإنما حكم لجماعتها بالعدالة وقبول الشهادة وليس فيه حكم لأهل عصر واحد بالعدالة وقبول الشهادة فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجة على من بعدهم قيل له لما جعل من حكم له بالعدالة حجة على غيره فيما يخبر به أو يعتقده من أحكام الله تعالى وكان معلوما أن ذلك صفة قد حصلت له في الدنيا وأخبر

تعالى بأنهم شهداء على الناس فلو اعتبر أول الأمة وآخرها في كونها حجة له عليهم لعلمنا أن المراد أهل كل عصر لأن أهل كل عصر يجوز أن يسموا أمة إذ كانت الأمة اسما للجماعة التي تؤم جهة واحدة وأهل كل عصر على حيالهم يتناولهم هذا الإسم وليس يمنع إطلاق لفظ الأمة والمراد أهل عصر ألا ترى أنك تقول أجمعت الأمة على تحريم الله تعالى الأمهات والأخوات ونقلت الأمة والقرآن ويكون ذلك إطلاقا صحيحا قيل إن يوجد آخر القوم فثبت بذلك أن مراد الله تعالى بذلك أهل كل عصر وأيضا فإنما قال الله تعالى جعلناكم أمة وسطا فعبر عنهم بلفظ منكر حين وصفهم بهذه الصفة وجعلهم حجة وهذا يقتضي أهل كل عصر إذ كان قوله جعلناكم خطابا للجميع والصفة لاحقة بكل أمة من المخاطبين ألا ترى إلى قوله ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وجميع قوم موسى أمة له وسمى بعضهم على الإنفراد امة لما وصفهم بما وصفهم به فثبت بذلك أن أهل كل عصر جائز أن يسموا أمة وإن كان الإسم قد يلحق أول الأمة وآخرها وفي الآية دلالة على أن من ظهر كفره نحو المشبهة ومن صرح بالجبر وعرف ذلك منه لا يعتد به في الإجماع وكذلك من ظهر فسقه لا يعتد به في الإجماع من نحو الخوارج والروافض وسواء من فسق من طريق الفعل أو من طريق الإعتقاد لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخير وهذه الصفة لا تلحق الكفار ولا الفساق ولا يختلف في ذلك حكم من فسق أو كفر بالتأويل أو برد النص إذ الجميع شملهم صفة الذم ولا يلحقهم صفة العدالة بحال والله أعلم
باب

استقبال القبلة
قال الله تعالى قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها قيل أن التقلب هو التحول وأن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما كان يقلب وجهه في السماء لأنه كان وعد بالتحويل إلى الكعبة فكان منتظرا لنزول الوحي به وكان يسأل الله ذلك فأذن الله تعالى له فيه لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يسئلون الله بعد الإذن لأنهم لا يأمنون أن لا يكون فيه صلاح ولا يجيبهم الله فيكون فتنة على قومه فهذا هو معنى تقلب وجهه في السماء وقد قيل فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يحب أن يحوله الله تعالى إلى الكعبة مخالفة لليهود وتميزا منهم ويروى ذلك عن مجاهد وقال ابن عباس أحب ذلك لأنها قبلة إبراهيم عليه السلام

وقيل أنه أحب ذلك استدعاء للعرب إلى الإيمان وهو معنى قوله فلنولينك قبلة ترضاها وقوله فول وجهك شطر المسجد الحرام فإن أهل اللغة قد قالوا إن الشطر اسم مشترك يقع على معنيين أحدهما النصف يقال شطرت الشيء أي جعلته نصفين ويقولون في مثل لهم أحلب حلبا لك شطره أي نصفه والثاني نحوه وتلقاؤه ولا خلاف أن مراد الآية هو المعنى الثاني قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس ولا يجوز أن يكون المراد المعنى الأول إذ ليس من قول أحد أن عليه استقبال نصف المسجد الحرام واتفق المسلمون لو أنه صلى إلى جانب منه أجزأه وفيه دلالة على أنه لو أتى ناحية من البيت فتوجه إليها في صلاته أجزأه لأنه متوجه شطره ونحوه وإنما ذكر الله تعالى التوجه إلى ناحية المسجد الحرام ومراده البيت نفسه لأنه لا خلاف أنه من كان بمكة فتوجه في صلاته نحو المسجد أنه لا يجزيه إذا لم يكن محاذيا للبيت وقوله تعالى وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره خطاب لمن كان معاينا للكعبة ولمن كان غائبا عنها والمراد لمن كان حاضرها إصابة عينها ولمن كان غائبا عنها النحو الذي هو عنده أنه نحو الكعبة وجهتها في غالب ظنه لأنه معلوم أنه لم يكلف إصابة العين إذ لا سبيل له إليها وقال تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فمن لم يجد سبيلا إلى إصابة عين الكعبة لم يكلفها فعلمنا أنه إنما هو مكلف ما هو في غالب ظنه أنه جهتها ونحوها دون المغيب عند الله تعالى وهذا أحد الأصول الدالة على تجويز الاجتهاد في أحكام الحوادث وأن كل واحد من المجتهدين فإنما كلف ما يؤديه إليه اجتهاده ويستولي على ظنه ويدل أيضا على أن للمشتبه من الحوادث حقيقة مطلوبة كما أن القبلة حقيقة مطلوبة بالاجتهاد والتحري ولذلك صح تكليف الاجتهاد في طلبها كما صح تكليف طلب القبلة بالاجتهاد لأن لها حقيقة لو لم يكن هناك قبلة رأسا لما صح تكليفنا طلبها قوله تعالى ولكل وجهة هو موليها الوجهة قيل فيها قبلة روي ذلك عن مجاهد وقال الحسن طريقة وهو ما شرع الله تعالى من الإسلام وروي عن ابن عباس ومجاهد والسدي لأهل كل ملة من اليهود والنصارى وجهة وقال الحسن لكل نبي فالوجهة واحدة وهي الإسلام وإن اختلفت الأحكام كقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا قال قتادة هو صلاتهم إلى البيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة وقيل فيه لكل قوم من المسلمين من أهل سائر الآفاق التي جهات الكعبة وراءها أو قدامها أو عن

يمينها أو عن شمالها كأنه أفاد أنه ليس جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها وقد روي أن عبدالله بن عمر كان جالسا بإزاء الميزاب فتلا قوله تعالى فلنولينك قبلة ترضاها قال هذه القبلة فمن الناس من يظن عنى الميزاب وليس كذلك لأنه إنما أشار إلى الكعبة ولم يرد به تخصيص جهة الميزاب دون غيرها وكيف يكون ذلك مع قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقوله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام مع اتفاق المسلمين على أن سائر جهات الكعبة قبلة لموليها وقوله تعالى ولكل وجهة هو موليها يدل على أن الذي كلف به من غاب عن حضرة الكعبة إنما هو التوجه إلى جهتها في غالب ظنه لا إصابة محاذاتها غير زائل عنها إذ لا سبيل له إلى ذلك وإذ غير جائز أن يكون جميع من غاب عن حضرتها محاذيا لها وقوله تعالى فاستبقوا الخيرات يعني والله أعلم المبادرة والمسارعة إلى الطعات وهذا يحتج به في أن تعجيل الطاعات أفضل من تأخيرها مالم تقم الدلالة على فضيلة التأخير نحو تعجيل الصلوات في أول أوقاتها وتعجيل الزكاة والحج وسائر الفروض بعد حضور وقتها ووجود سببها ويحتج به بأن الأمر على الفور وأن جواز التأخير يحتاج إلى دلالة وذلك أن الأمر إذا كان غير موقت فلا محالة عند الجميع أن فعله على الفور من الخيرات فوجب بمضمون قوله تعالى فاستبقوا الخيرات إيجاب تعجيله لأنه أمر يقتضي الوجوب قوله تعالى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم من الناس من يحتج به في الاستثناء من غير جنسه وقد اختلف أهل اللغة في معناه فقال بعضهم هو استثناء منقطع ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعون موضع الحجة وهو كقوله تعالى ما لهم به من علم إلا اتباع الظن معناه لكن اتباع الظن قال النابغة ... ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب ...
معناه لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب وقيل فيه أنه أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال لئلا يكون للناس عليكم حجاج إلا الذين ظلموا فإنهم يحاجونكم بالباطل وقال أبو عبيدة إلا ههنا بمعنى الواو وكأنه قال لئلا يكون للناس عليكم حجة ولا الذين ظلموا وأنكر ذلك الفراء وأكثر أهل اللغة قال الفراء لا تجيء إلا بمعنى الواو إلا إذا تقدم استثناء كقول الشاعر

ما بالمدينة دار غير واحدة ... دار الخليفة إلا دار مروان ...
كأنه قال بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان وقال قطرب معناه لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا وأنكر هذا بعض النحاة
باب وجوب ذكر الله تعالى
قوله تعالى فاذكروني أذكركم قد تضمن الأمر بذكر الله تعالى وذكرنا إياه على وجوه وقد روي فيه أقاويل عن السلف قيل فيه اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي وقيل فيه اذكروني بالثناء بالنعمة أذكركم بالثناء بالطاعة وقيل اذكروني بالشكر أذكركم بالثواب وقيل فيه اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة واللفظ محتمل لهذه المعاني وجميعها مراد الله تعالى لشمول اللفظ واحتماله إياه فإن قيل لا يجوز أن يكون الجميع مراد الله تعالى بلفظ واحد لأنه لفظ مشترك لمعان مختلفة قيل له ليس كذلك لأن جميع وجوه الذكر على اختلافها راجعة إلى معنى واحد فهو كاسم الإنسان يتناول الأنثى والذكر والأخوة تتناول الأخوة المتفرقين وكذلك الشركة ونحوها وإن وقع على معان مختلفة فإن الوجه الذي سمى به الجميع معنى واحد وكذلك ذكر الله تعالى لما كان المعنى فيه طاعته والطاعة تارة بالذكر باللسان وتارة بالعمل بالجوارح وتارة باعتقاد القلب وتارة بالفكر في دلائله وحججه وتارة في عظمته وتارة بدعائه ومسئلته جاز إرادة الجميع بلفظ واحد كلفظ الطاعة نفسها جاز أن يراد بها جميع الطاعات على اختلافها إذا ورد الأمر بها مطلقا نحو قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وكالمعصية يجوز أن يتناول جميعها لفظ النهي فقوله فاذكروني قد تضمن الأمر بسائر وجوه الذكر منها سائر وجوه طاعته وهو أعم الذكر ومنها ذكره باللسان على وجه التعظيم والثناء عليه والذكر على وجه الشكر والاعتراف بنعمه ومنها ذكره بدعاء الناس إليه والتنبيه على دلائله وحججه ووحدانيته وحكمته وذكره بالفكر في دلائله وآياته وقدرته وعظمته وهذا أفضل الذكر وسائر وجوه الذكر مبنية عليه وتابعة له وبه يصح معناها لأن اليقين والطمأنينة به تكون قال الله تعالى ألا بذكر الله تطمئن القلوب يعني والله أعلم ذكر القلب الذي هو الفكر في دلائل الله تعالى وحججه وآياته وبيناته وكلما ازددت فيها فكرا ازددت طمأنينة وسكونا وهذا هو أفضل الذكر لأن سائر الأذكار إنما يصح ويثبت حكمها بثبوته وقد

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال خير الذكر الخفي حدثنا ابن قانع قال حدثنا عبدالملك بن محمد قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن أسامة بن زيد عن محمد عن عبدالرحمن عن سعد بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة عقيب قوله فاذكروني أذكركم يدل على أن الصبر وفعل الصلاة لطف في التمسك بما في العقول من لزوم ذكر الله تعالى الذي هو الفكر في دلائله وحججه وقدرته وعظمته وهو مثل قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ثم عقبه بقوله ولذكر الله أكبر والله أعلم أن ذكر الله تعالى بقلوبكم وهو التفكفر في دلائله أكبر من فعل الصلاة وإنما هو معونة ولطف في التسمك بهذا الذكر وإدامته قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون فيه إخبار بإحياء الله تعالى الشهداء بعد موتهم ولا يجوز أن يكون المراد أنهم سيحيون يوم القيامة لأنه لو كان هذا مراده لما قال ولكن لا تشعرون لأن قوله ولكن لا تشعرون إخبار بفقد علمنا بحياتهم بعد الموت ولو كان المراد الحياة يوم القيامة لكان المؤمنون قد شعروا به وعرفوه قبل ذلك فثبت أن المراد الحياة الحادثة بعد موتهم قبل يوم القيامة وإذا جاز أن يكون المؤمنون قد أحيوا في قبورهم قبل يوم القيامة وهم منعمون فيها جاز أن يحيا الكفار في قبورهم فليعذبوا وهذا يبطل قول من ينكر عذاب القبر فإن قيل لما كان المؤمنون كلهم منعمين بعد الموت فكيف خص المقتولين في سبيل الله قيل له جائز أن يكون اختصهم بالذكر تشريفا لهم على جهة تقديم البشارة بذكر حالهم ثم بين بعد ذلك ما يختصون به في آية أخرى وهو قوله تعالى أحياء عند ربهم يرزقون فإن قيل كيف يجوز أن يكونوا أحياء ونحن نراهم رميما في القبور بعد مرور الأزمان عليهم قيل له الناس في هذا على قولين منهم من يجعل الإنسان هو الروح وهو جسم لطيف والنعيم والبؤس إنما هما له دون الجثة ومنهم من يقول إن الإنسان هذا الجسم الكثيف المشاهد فهو يقول إن الله تعالى يلطف أجزاء منه بمقدار ما تقوم به البنية الحيوانية ويوصل النعيم إليه وتكون تلك الأجزاء اللطيفة بحيث يشاء الله تعالى أن تكون تعذب أو تنعم على حسب ما يستحقه ثم يفنيه الله تعالى كما يفني سائر الخلق قبل يوم القيامة ثم يحييه يوم القيامة للحشر وقد حدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد

ابن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن يحيى بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الزهري عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال نسمة المسلم طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعها إلى جسده قوله تعالى
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون إلى قوله تعالى وأولئك هم المهتدون روي عن عطاء والربيع وأنس بن مالك أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة قال أبو بكر جائز والله أعلم أن يكون قدم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد المعنيين أحدهما ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود والثاني ما يتعجلون به من ثواب توطن النفس قوله تعالى وبشر الصابرين يعني والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد وقوله تعالى الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون يعني إقرارهم في تلك الحال بالعبودية والملك له وأن له أن يبتليهم بما يشاء تعريضا منه لثواب الصبر واستصلاحا لهم لما هو أعلم به إذ هو تعالى غير متهم في فعل الخير والصلاح إذ كانت أفعاله كلها حكمة ففي إقرارهم بالعبودية تفويض الأمر إليه ورضى بقضائه فيما يبتليهم به إذ لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء وقال عبدالله بن مسعود لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن وقوله تعالى إنا لله وإنا إليه راجعون إقرار بالبعث والنشور واعتراف بأن الله تعالى سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة الله تعالى فقال أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة يعني الثناء الجميل والبركات والرحمة وهي النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى كقوله في آية أخرى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم ومنها ما هو من فعل الله تعالى فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم - غير ما كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار وكان خوفهم من قبل هؤلاء لقلة المسلمين وكثرتهم وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم وجائز أن يكون الفقر تارة من الله تعالى

بأن يفقرهم بتلف أموالهم وجائز أن يكون من قبل العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يحتمل الوجهين جميعا لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه العدو وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم وجائز أن يكون من فعل الله تعالى بالجوائح التي تصيب الأموال والثمار ونقص الأنفس جائز أن يكون المراد به من يقتل منهم في الحرب وأن يريد به من يميته الله منهم من غير قتل فأما الصبر على ما كان من فعل الله فهو التسليم والرضا بما فعله والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو خير لهم وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم وأن منعه إياهم إعطاء منه لهم وأما ما كان من فعل العدو فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات على دين الله تعالى ولا ينكلون عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما يصيبهم من ذلك ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل المشركين لأن الله تعالى لا يبتلي أحدا بالظلم والكفر ولا يريده ولا يوجب الرضا به ولو كان الله تعالى يبتلي بالظلم والكفر لوجب الرضا به كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك وقد تضمنت الآية مدح الصابرين على شدائد الدنيا وعلى مصائبها على الوجوه التي ذكر والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في الدنيا والدين فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل الجليل في نفوس المؤمنين لائتماره لأمر الله تعالى ولأن في الفكر في ذلك تسلية عن الهم ونفي الجزع الذي ربما أدى إلى ضرر في النفس وإلى إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة وأما في الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله قال أبو بكر وقد اشتملت هذه الآية على حكمين فرض ونفل فأما الفرض فهو التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه لا يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها وأما النفل فإظهار القول بإنا لله وإنا إليه راجعون فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه ومنها أن غيره يقتدي به إذا سمعه ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته ومجاهدة أعدائه ويحكى عن داود الطائي قال الزاهد في الدنيا لا يحب البقاء فيها وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا والله تعالى أعلم بالصواب

باب

السعي بين الصفا والمروة
قال الله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما روي عن ابن عيينة عن الزهري عن عروة قال قرأت عند عائشة رضي الله تعالى عنها إن الصفا والمروة من شعائر الله فقلت لا أبالي أن لا أفعل قالت بئسما قلت يا ابن أختي قد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم - وطاف المسلمون فكانت سنة إنما كان من أهل لمناة الطاغية لا يطوف بهما فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بهما حتى نزلت هذه الآية فطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم - فكانت سنة قال فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبدالرحمن فقال إن هذا العلم ولقد كان رجال من أهل العلم يقولون إنما سأل عن هذا الرجال الذين كانوا يطوفون بين الصفا والمروة فأحسبها نزلت في الفريقين وروي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله قال كان على الصفا تماثيل وأصنام وكان المسلمون لا يطوفون عليها لأجل الأصنام والتماثيل فأنزل الله تعالى فلا جناح عليه أن يطوف بهما قال أبو بكر كان السبب في نزول هذه الآية عند عائشة سؤال من كان لا يطوف بهما في الجاهلية لأجل إهلاله لمناة وعلى ما ذكر ابن عباس وأبو بكر بن عبدالرحمن أن ذلك كان لسؤال من كان يطوف بين الصفا والمروة وقد كان عليهما الأصنام فتجنب الناس الطواف بهما بعد الإسلام وجائز أن يكون سبب نزول هذه الآية سؤال الفريقين وقد اختلف في السعي بينهما فروى هشام بن عروة عن أبيه وأيوب عن ابن أبي مليكة جميعا عن عائشة قالت ما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لامرئ حجة ولا عمرة مالم يطف بين الصفا والمروة وذكر أبو الطفيل عن ابن
عباس أن السعي بينهما سنة وأن النبي صلى الله عليه وسلم - فعله وروى عاصم الأحول عن أنس قال كنا نكره الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الآية والطواف بينهما تطوع وروي عن عطاء عن ابن الزبير قال من شاء لم يطف بين الصفا والمروة وروي عن عطاء ومجاهد أن من تركه فلا شيء عليه وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أصحابنا والثوري ومالك أنه واجب في الحج والعمرة وتركه يجزي عنه الدم وقال الشافعي لا يجزي عنه الدم إذا تركه وعليه أن يرجع فيطوف قال أبو بكر هو عند أصحابنا من توابع الحج يجزي عنه الدم لمن رجع إلى أهله مثل الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار وطواف الصدر والدليل على أنه ليس من فروضه قوله عليه السلام

في حديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بالمزدلفة فقلت يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه
فهل لي من حج فقال ص - من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد أدرك عرفة قبل ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فهذا القول منه ص - ينفي كون السعي بين الصفا والمروة فرضا في الحج من وجهين أحدهما إخباره بتمام حجته وليس فيه السعي بينهما والثاني أن ذلك لو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله بالحكم فإن قيل لم يذكر طواف الزيارة مع كونه من فروضه قيل له ظاهر اللفظ يقتضي ذلك وإنما أثبتناه فرضا بدلالة فإن قيل فهذا يوجب أن لا يكون مسنونا ويكون تطوعا كما روي عن أنس وابن الزبير قيل له كذلك يقتضي ظاهر اللفظ وإنما أثبتناه مسنونا في توابع الحج بدلالة ومما يحتج به لوجوبه أن فرض الحج مجمل في كتاب الله لأن الحج في اللغة القصد قال الشاعر يحج مأمومة في قعرها لجف يعني أنه يقصد ثم نقل في الشرع إلى معان أخر لم يكن اسما موضوعا لها في اللغة وهو مجمل مفتقر إلى البيان فمهما ورد من فعل النبي صلى الله عليه وسلم - فهو بيان للمراد بالجملة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب فلما سعى بينهما النبي ص
- كان ذلك دلالة الوجوب حتى تقوم دلالة الندب ومن جهة أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال خذوا عني مناسككم وذلك أمر يقتضي إيجاب الاقتداء به في سائر أفعال المناسك فوجب الاقتداء به في السعي بينهما وقد روى طارق بن شهاب عن أبي موسى قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو بالبطحاء فقال بم أهللت فقلت أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم - فقال أحسنت طف بالبيت والصفا والمروة ثم أحل فأمره بالسعي بينهما وهذا أمر يقتضي الإيجاب وقد روي فيه حديث مضطرب السند والمتن جميعا مجهول الراوي وهو ما رواه معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن أبي عبيد عن صفية بنت شيبة عن امرأة سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة يقول كتب عليكم السعي فاسعوا فذكرت في هذا الحديث أنها سمعته يقول ذلك بين الصفا والمروة ولم تذكر اسم الرواية وقد روى محمد بن عبدالرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح قال حدثتني صفية بنت شيبة عن امرأة يقال لها حبيبة بنت أبي تجزءة قالت دخلت دار أبي حسين ومعي نسوة من قريش والنبي صلى الله عليه وسلم -
يطوف بالبيت حتى أن ثوبه ليدور به وهو يقول لأصحابه اسعوا فإن الله تعالى
قد كتب عليكم السعي

فذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال ذلك وهو في الطواف فظاهر ذلك يقتضي أن يكون مراده السعي في الطواف
وهو الرمل والطواف نفسه لأن المشي يسمى سعيا قال الله تعالى فاسعوا إلى ذكر الله وليس المراد إسراع المشي وإنما هو المصير إليه والخبر الأول الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ذلك وهو يسعى بين الصفا والمروة لا دلالة فيه على أنه أراد السعي بينهما إذ جائز أن يكون مراد الطواف بالبيت والرمل فيه وهو سعي لأنه إسراع المشي وأيضا فإن ظاهره يقتضي جواز أي سعي كان وهو إذا رمل فقد سعى ووجوب التكرار لا دلالة عليه فالإخبار الأول التي ذكرناها دالة على وجوب السعي لأنه سنة لا ينبغي تركها ولا دلالة فيها على أن من تركها لا ينوب عنه دم والدليل على أن الدم ينوب عنه لمن تركه حتى يرجع إلى أهله اتفاق السلف على جواز السعي بعد الإحلال من جميع الإحرام كما يصح الرمي وطواف الصدر فوجب أن ينوب عنه الدم كما ناب عن الرمي وطواف الصدر فإن قيل طواف الزيارة يفعل بعد الإحلال ولا ينوب عنه الدم قيل له ليس كذلك لأن بقاء طواف الزيارة يوجب كونه محرما عن النساء وإذا طاف فقد حل له كل شيء بلا خلاف بين الفقهاء وليس لبقاء السعي تأثير في بقاء شيء من الإحرام كالرمي وطواف الصدر فإن قال قائل فإن الشافعي يقول إذا طاف للزيارة لم يحل من النساء وكان حراما حتى يسعى بالصفا والمروة قيل له قد اتفق الصدر الأول من التابعين والسلف بعدهم أنه يحل بالطواف بالبيت لأنهم على ثلاثة أقاويل بعد الحلق فقال قائلون هو محرم من اللباس والصيد والطيب حتى يطوف بالبيت وقال عمر بن الخطاب هو محرم من النساء والطيب وقال ابن عمر وغيره هو محرم من النساء حتى يطوف فقد اتفق السلف على أنه يحل من النساء بالطواف بالبيت دون السعي بين الصفا والمروة وأيضا فإن السعي بينهما لا يفعل إلا تبعا للطواف ألا ترى أن من لا طواف عليه لا سعي عليه وأنه لا يتطوع بالسعي بينهما كما لا يتطوع بالرمي فدل على أنه من توابع الحج والعمرة فإن قيل الوقوف بعرفة لا يفعل إلا بعد الإحرام وطواف الزيارة لا يفعل إلا بعد الوقوف وهما من فروض الحج قيل له لم نقل أن من لا يفعل إلا بعد غيره فهو تبع فيلزمنا ما ذكرت وإنما قلنا مالا يفعل إلا على وجه التبع لأفعال الحج أو العمرة فهو تابع ليس بفرض فأما الوقوف بعرفة فإنه غير مفعول على وجه التبع لغيره بل يفعل منفردا

بنفسه ولكن من شروطه شيئان الإحرام والوقت وما كان شرطه الإحرام أو الوقت فلا دلالة على أنه مفعول على وجه التبع وكذلك ما تعلق جوازه بوقت دون غيره فلا دلالة فيه على أنه تبع فرض غيره وطواف الزيارة إنما يتعلق جوازه بالوقت والوقوف بعرفة إنما يتعلق جوازه بالإحرام والوقت ليس صحته موقوفة على وقوع فعل آخر غير الإحرام فليس هو إذا تبعا لغيره وأما السعي بين الصفا والمروة فإنه مع حضور وقته هو موقوف على فعل آخر غيره وهو الطواف فدل على أنه من توابع الحج والعمرة وأنه ليس بفرض فأشبه طواف الصدر لما كانت صحته موقوفة على طواف الزيارة كان تبعا في الحج ينوب عن تركه دم وقوله تعالى إن الصفا والمروة من شعائر الله قد دل على أنه قربة لأن الشعائر هي معالم للطاعات والقرب وهو مأخوذ من الإشعار الذي هو الإعلام ومن ذلك قولك شعرت بكذا وكذا أي علمته ومنه إشعار البدنة أي إعلامها للقربة وشعارالحرب علاماتها ا لتي يتعارفون بها فالشعائر هي المعالم للقرب قال الله تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب وشعائر الحج معالم نسكه ومنه المشعر الحرام فقد دلت الآية بفحواها على أن السعي بينهما قربة إلى الله تعالى في قوله من شعائر الله ثم قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما فقد أخبرت عائشة وغيرها أنه خرج مخرج الجواب لمن سأل عنهما وأن ظاهر هذا اللفظ لم ينف إرادة الوجوب وإن لم يدل عليه وقد قامت الدلالة من غير الآية على وجوبه وهو ما قدمنا ذكره وقد اختلف أهل العلم في السعي في بطن الوادي وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

فيه أخبار مختلفة ومذهب أصحابنا أن السعي فيه مسنون لا ينبغي تركه كالرمل
في الطواف وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما تصوبت قدماه في الوادي سعى حتى خرج منه وروى سفيان بن عيينة عن صدقة قال سئل ابن عمر أرأيت النبي صلى الله عليه وسلم - يرمل بين الصفا والمروة قال كان في الناس فرملوا ولا أراهم فعلوا إلا برمله وقال نافع كان ابن عمر يسعى في بطن الوادي وروى مسروق أن عبدالله بن مسعود سعى في بطن الوادي وروى عطاء عن ابن عباس قال من شاء يسعى بمسيل مكة ومن شاء لم يسع وإنما يعني الرمل في بطن الوادي وروى سعيد بن جبير قال رأيت ابن عمر يمشي بين الصفا والمروة وقال إن مشيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يمشي وإن سعيت فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يسعى وروى عمرو عن عطاء عن

ابن عباس قال إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بين الصفا والمروة ليري المشركين قوته فأتيت ابن عباس فقال سعى النبي ص
- في بطن الوادي وذكر السبب الذي من أجله فعل ذلك وهو إظهار الجلد والقوة للمشركين وتعلق فعله بهذا السبب لا يمنع كونه سنة مع زواله على نحو ما ذكرنا في الرمل في الطواف فيما تقدم وقد ذكرنا أن السبب في رمي الجمار كان رمي إبراهيم عليه السلام إبليس لما عرض له بمنى وصار سنة بعد ذلك وكذلك كان سبب الرمل في الوادي ان هاجر لما طلبت الماء لابنها إسماعيل وجعلت تتردد بين الصفا والمروة فكانت إذا نزلت الوادي غاب الصبي عن عينها فأسرعت المشي وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما علم المناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسبقه إبراهيم فكان ذلك سبب سرعة المشي هناك وهو سنة كنظائره مما وصفنا والرمل في بطن الوادي في الطواف بين الصفا والمروة مما قد نقلته الأمة قولا وفعلا ولم يختلف في أن النبي صلى الله عليه وسلم -
فعله وإنما اختلف في كونه مسنونا بعده وظهور نقله فعلا إلى هذه الغاية
دلالة على بقاء حكمه على ما قدمنا من الدلالة والله تعالى أعلم
باب طواف الراكب
قال أبو بكر قد اختلف في طواف الراكب بينهما فكره أصحابنا ذلك إلا من عذر وذكر أبو الطفيل أنه قال لابن عباس إن قومك يزعمون أن الطواف بين الصفا والمروة على الدابة سنة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فعل ذلك فقال صدقوا وكذبوا إنما فعل ذلك رسول الله ص
- لأنه كان لا يدفع عنه أحد وليست بسنة وروى عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة أنها شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - إني أشتكي فقال طوفي من وراء الناس وأنت راكبة وكان عروة إذا رآهم يطوفون على الدواب نهاهم فيتعللون بالمرض فيقول خاب هؤلاء وخسروا وروى ابن أبي مليكة عن عائشة قالت ما منعني من الحج والعمرة إلا السعي بين الصفا والمرة وإني لأكره الركوب وروى عن يزيد بن أبي زياد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - جاء وقد اشتكى فطاف على بعير ومعه محجن كلما مر على الحجر استلمه فلما فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين ولما ثبت من سنة الطواف بهما السعي في بطن الوادي على ما وصفنا وكان الراكب تاركا للسعي كان فعله خلاف السنة إلا أن يكون معذورا على نحو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
والصحابة فيجوز

فصل روى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر وذكر حج النبي صلى الله عليه وسلم - وطوافه بالبيت إلى قوله فاستلم الحجر بعد الركعتين ثم خرج إلى الصفا حتى بدا له البيت فقال نبدأ بما بدأ الله به يدل على أن لفظ الآية لا يقتضي الترتيب إذ لو كان ذلك معقولا من الآية لم يحتج أن يقول نبدأ بما بدأ الله به فإنما بدئ بالصفا قبل المروة لقوله ص - نبدأ بما بدأ الله به ونفعله كذلك مع قوله خذوا عني مناسككم ولا خلاف بين أهل العلم أن المسنون على الترتيب أن يبدأ بالصفا قبل المروة فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية المشهورة عن أصحابنا وروي عن أبي حنيفة أنه ينبغي له أن يعيد ذلك الشوط فإن لم يفعل فلا شيء عليه وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء الطهارة قوله تعالى ومن تطوع خيرا عقيب ذكر الطواف بهما يحتج به من يراه تطوعا وذلك لأنه معلوم رجوع الكلام إلى ما تقدم ذكره من الطواف بهما ومعلوم مع ذلك أن الطواف لا يتطوع به عند من يراه واجبا في الحج والعمرة وعند من لا يراه في غيرهما فوجب أن يكون قوله ومن تطوع خيرا إخبار بأن من فعله في الحج والعمرة فإنما يفعله تطوعا إذ لم يبق موضع لفعله في غيرهما لا تطوعا ولا غيره وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا لأنه جائز أن يكون المراد من تطوع بالحج والعمرة لتقدم ذكرهما في الخطاب في قوله تعالى فمن حج البيت أو اعتمر
باب

في النهي عن كتمان العلم
قال الله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى الآية وقال في موضع آخر إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا الآية وقال وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه هذه الآي كلها موجبة لإظهار علوم الدين وتبيينه للناس زاجرة عن كتمانها ومن حيث دلت على لزوم بيان المنصوص عليه فهي موجبة أيضا لبيان المدلول عليه منه وترك كتمانه لقوله تعالى يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى وذلك يشتمل على سائر أحكام الله في الم8نصوص عليه والمستبط لشمول اسم الهدى للجميع وقوله تعالى يكتمون ما أنزل الله من الكتاب يدل على أنه لا فرق في ذلك بين ما علم من جهة النص أو الدليل لأن في الكتاب الدلالة على أحكام الله تعالى كما فيه النص عليها وكذلك قوله تعالى لتبيننه للناس ولا

تكتمونه عام في الجميع وكذلك ما علم من طرق أخبار الرسول ص -

قد انطوت تحت الآية لأن في الكتاب الدلالة على قبول أخبار الآحاد عنه ص
- فكل ما اقتضى الكتاب إيجاب حكمه من جهة النص أو الدلالة فقد تناولته الآية ولذلك قال أبو هريرة لولا آية في كتاب الله عز و جل ما حدثتكم ثم تلا إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى فأخبر أن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - من البينات والهدى الذي أنزله الله تعالى وقال شعبة عن قتادة في قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب الآية فهذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم فمن علم علما فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فإن كتمانه هلكة ونظيره في بيان العلم وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون وقد روى حجاج عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار فإن قيل روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في شأن اليهود حين كتموا ما في كتبهم من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - قيل له نزول الآية على سبب غير مانع من اعتبار عمومها في سائر ما انتظمته لأن الحكم عندنا للفظ لا للسبب إلا أن تقوم الدلالة عندنا على وجوب الاقتصار به على سببه ويحتج بهذه الآيات في قبول الأخبار المقصرة عن مرتبة إيجاب العلم لمخبرها في أمور الدين وذلك لأن قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب وقوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب قد اقتضى النهي عن الكتمان ووقوع البيان بالإظهار فلو لم يلزم السامعين قبوله لما كان المخبر عنه مبينا لحكم الله تعالى إذ مالا يوجب حكما فغير محكوم له بالبيان فثبت بذلك أن المنهيين عن الكتمان متى أظهروا ما كتموا وأخبروا به لزم العمل بمقتضى خبرهم وموجبه ويدل عليه قوله في سياق الخطاب إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فحكم بوقوع العلم بخبرهم فإن قال قائل لا دلالة فيه على لزوم العمل به وجائز أن يكون كل واحد منهم كان منهيا عن الكتمان ومأمورا بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر الخبر قيل له هذا غلط لأنهم ما نهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ومن جاز منهم التوطؤ على الكتمان جاز منهم التواطؤ على التقول فلا يكون خبرهم موجبا للعلم فقد دلت الآثار على قبول الخبر المقصر عن المنزلة الموجبة للعلم بمخبره وعلى أن

ما ادعيته لا برهان عليه فظواهر الآي مقتضية لقبول ما أمروا به لوقوع بيان حكم الله تعالى به وفي الآية حكم آخر وهو أنها من حيث دلت على لزوم إظهار العلم وترك كتمانه فهي دالة على امتناع جواز أخذ الأجرة عليه إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما عليه فعله ألا ترى أنه لا يصح استحقاق الأجر على الإسلام وقد روي أن رجلا قال للنبي ص -

إني أعطيت قومي مائة شاة على أن يسلموا فقال ص
- المائة شاة رد عليك وإن تركوا الإسلام قاتلناهم ويدل على ذلك من جهة أخرى قوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا وظاهر ذلك يمنع أخذ الأجر على الإظهار والكتمان جميعا لأن قوله تعالى ويشترون به ثمنا قليلا مانع أخذ البدل عليه من سائر الوجوه إذ كان الثمن في اللغة هو البدل قال عمر بن أبي ربيعة ... إن كنت حاولت دنيا أو رضيت بها ... فما أصبت بترك الحج من ثمن ...
فثبت بذلك بطلان الإجارة على تعليم القرآن وسائر علوم الدين قوله تعالى
إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا يدل على أن التوبة من الكتمان إنما يكون بإظهار البيان وأنه لا يكتفى في صحة التوبة بالندم على الكتمان فيما سلف دون البيان فيما استقبل
باب
لعن الكفار
قال الله تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فيه دلالة على أن على المسلمين لعن من مات كافرا وأن زوال التكليف عنه بالموت لا يسقط عنه لعنه والبراءة منه لأن قوله والناس أجمعين قد اقتضى أمرنا بلعنه بعد موته وهذا يدل على أن الكافر لو جن لم يكن زوال التكليف عنه بالجنون مسقطا للعنه والبراءة منه وكذلك سبيل ما يوجب المدح والموالاة من الإيمان والصلاح أن موت من كان كذلك أو جنونه لا يغير حكمه عما كان عليه قبل حدوث هذه الحادثة فإن قيل روي عن أبي العالية أن مراد الآية أن الناس يلعنونه يوم القيامة كقوله تعالى ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا قيل له هذا تخصيص بلا دلالة ولا خلاف أنه يستحق اللعن من الله تعالى والملائكة في الدنيا بالآية فكذلك من الناس وإنما يشتبه ذلك على من يظن أن ذلك إخبار من الله تعالى أن الناس يلعنونه وليس كذلك بل هو إخبار باستحقاقه اللعن من الناس لعنوه أو لم يلعنوه قوله تعالى وإلهكم

إله واحد وصفه تعالى لنفسه بأنه واحد انتظم معاني كلها مرادة بهذا اللفظ منها إنه واحد لا نظير له ولا شبيه ولا مثل ولا مساوي في شيء من الأشياء فاستحق من أجل ذلك أن يوصف بأنه واحد دون غيره ومنها أنه واحد في استحقاق العبادة والوصف له بالألوهية لا يشاركه فيها سواه ومنها أنه واحد ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه التجزي والتقسيم لأن من كان ذا أبعاض وجاز عليه التجزيء والتقسيم فليس بواحد على الحقيقة ومنها أنه واحد في الوجود قديما لم يزل منفردا بالقدم لم يكن معه وجود سواه فانتظم وصفه لنفسه بأنه واحد هذه المعاني كلها قوله تعالى إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار الآية قد انتظمت هذه الآية ضروبا من الدلالات على توحيد الله تعالى وأنه لا شبيه له ولا نظير وفيها أمر لنا بالاستدلال بها وهو قوله لآيات لقوم يعقلون يعني والله تعالى أعلم أنه نصبها ليستدل بها ويتوصل بها إلى معرفة الله تعالى وتوحيده ونفي الأشباه عنه والأمثال وفيه إبطال لقول من زعم أنه إنما يعرف الله تعالى بالخبر وأنه لا حظ للعقول في الوصول إلى معرفة الله تعالى فأما دلالة السموات والأرض على الله فهو قيام السماء فوقنا على غير عمد مع عظمها ساكنة غير زائلة وكذلك الأرض تحتنا مع عظمها فقد علمنا أن لكل واحد منهما منتهى من حيث كان حيث كان موجودا في وقت واحد محتملا للزيادة والنقصان وعلمنا أنه لو اجتمع الخلق على إقامة حجر في الهواء من غير علاقة ولا عمد لما قدروا عليه فعلمنا أن مقيما أقام السماء على غير عمد والأرض على غير قرار فدل ذلك على وجود الباري تعالى الخالق لهما ودل أيضا على أنه لا يشبه الأجسام وأنه قادر لا يعجزه شيء إذ كانت الأجسام لا تقدر على مثل ذلك وإذا صح ذلك ثبت أنه قادر على اختراع الأجسام إذ ليس اختراع الأجسام واختراع الأجرام بأبعد في العقول والأوهام من إقامتها مع عظمها وكثافتها على غير قرار وعمد ومن جهة أخرى تدل على حدوث هذه الأجسام وهي امتناع جواز تعريها من الأعراض المتضادة ومعلوم أن هذه الأعراض محدثة لوجود كل واحد منها بعد أن لم يكن ومالم يوجد قبل المحدث فهو محدث فصح بذلك حدوث هذه الأجسام والمحدث يقتضي محدثا كاقتضاء البناء للباني والكتابة للكاتب والتأثر للمؤثر فثبت بذلك أن السموات والأرض وما بينهما من آيات الله دالة عليه وأما دلالة اختلاف الليل والنهار على الله تعالى فمن جهة أن كل واحد منهما حادث بعد

الآخر والمحدث يقتضي محدثا فدل ذلك على محدثهما وأنه لا يشبههما إذ كل فاعل فغير مشبه لفعله ألا ترى أن الباني لا يشبه بنائه والكاتب لا يشبه كتابته ومن جهة أخرى أنه لو أشبهه لجرى عليه ما يجري عليه من دلالة الحدوث فكان لا يكون هو أولى بالحدوث من محدثه ولما صح أن محدث الأجسام والليل والنهار قديم صح أنه لا يشبهها وهي تدل على أن محدثها قادر لاستحالة وجود الفعل إلا من القادر ويدل أن محدثها حي لاستحالة وجود الفعل إلا من قادر حي ويدل أيضا على أنه عالم لاستحالة الفعل المحكم المتقن المتسق إلا من عالم به قبل إحداثه ولما كان اختلاف الليل والنهار جاريا على منهاج واحد لا يختلف في كل صقع في الطول والقصر أزمان السنة على المقدار الذي عرف منهما الزيادة والنقصان دل على أن مخترعهما قادر على ذلك عالم إذ لو لم يكن قادرا لم يوجد منه الفعل ولو لم يكن عالما لم يكن فعله متقنا منتظما وأما دلالة الفلك التي تجري في البحر على توحيد الله فمن جهة أنه معلوم أن الأجسام لو اجتمعت على أن تحدث مثل هذا الجسم الرقيق السيال الحامل للفلك وعلى أن تجري الرياح المجرية للفلك لما قدرت على ذلك ولو سكنت الرياح بقيت راكدة على ظهر الماء لا سبيل لأحد من المخلوقين إلى إجرائها وإزالتها كما قال تعالى في موضع آخر إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره ففي تسخير الله تعالى الماء لحمل السفن وتسخيره الرياح لإجرائها أعظم الدلائل على إثبات توحيد الله تعالى القديم القادر العالم الحي الذي لا شبه له ولا نظير إذ كانت الأجسام لا تقدر عليه فسخر الله الماء لحمل السفن على ظهره وسخر الرياح لإجرائها ونقلها لمنافع خلقه ونبههم على توحيده وعظم نعمته واستدعى منهم النظر فيها ليعلموا أن خالقهم قد أنعم بها فيشكروه على نعمه ويستحقوا به الثواب الدائم في دار السلام قال أبو بكر وأما دلالة إنزاله الماء على توحيده فمن قبل أنه قد علم كل عاقل أن من شأن الماء النزول والسيلان وأنه غير جائز ارتفاع الماء من سفل إلى علو إلا بجاعل يجعله كذلك فلا يخلو الماء الموجود في السحاب من أحد معنيين إما أن يكون محدث أحدثه هناك في السحاب أو رفعه من معادنه من الأرض والبحار إلى هناك وأيهما كان فدل ذلك على إثبات الواحد القديم الذي لا يعجزه شيء ثم إمساكه في السحاب غير سائل منه حتى ينقله إلى المواضع التي يريدها بالرياح المسخرة لنقله فيه أدل دليل على توحيده وقدرته فجعل السحاب مركبا للماء والرياح مركبا للسحاب

حتى تسوقه من موضع إلى موضع ليعم نفعه لسائر خلقه كما قال تعالى أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم ثم أنزل ذلك الماء قطرة قطرة لا تلتقي واحدة مع صاحبتها في الجو مع تحريك الرياح لها حتى تنزل كل قطرة على حيالها إلى موضعها من الأرض ولولا أن مدبرا حكيما عالما قادرا دبره على هذا النحو وقدره بهذا الضرب من التقدير كيف كان يجوز أن يوجد نزول الماء في السحاب مع كثرته وهو الذي تسيل منه السيول العظام على هذا النظام والترتيب ولو اجتمع القطر في الجو وأتلف لقد كان يكون نزولها مثل السيول المجتمعة منها بعد نزولها إلى الأرض فيؤدي إلى هلاك الحرث والنسل وإبادة جميع ما على الأرض من شجر وحيوان ونبات وكان يكون كما وصف الله تعالى من حال الطوفان في نزول الماء من السماء في قوله تعالى ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر فيقال إنه كان صبا كنحر السيول الجارية في الأرض ففي إنشاء الله تعالى السحاب في الجو وخلق الماء فيه وتصريفه من موضع إلى موضع أدل دليل على توحديه وقدرته وأنه ليس بجسم ولا مشبه الأجسام إذ الأجسام لا يمكنها فعل ذلك ولا ترومه ولا تطمع فيه وأما دلالة إحياء الله الأرض بعد موتها على توحديه فهي من جهة أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على إحياء شيء منها لما قدروا عليه ولما أمكنهم إنبات شيء من النبات فيها فإحياء الله تعالى الأرض بالماء وإنباته أنواع النبات فيها التي قد علمنا يقينا ومشاهدة أنه لم يكن فيها شيء منه ثم كل شيء من النبات لو فكرت فيه على حياله لوجدته دالا على أنه من صنع صانع حكيم قادر عالم بما قدره عليه من ترتيب أجزائه ونظمها على غاية الإحكام من أدل الدليل على أن خالق الجميع واحد وأنه قادر عالم وأنه ليس من فعل الطبيعة على ما يدعيه الملحدون في آيات الله تعالى إذ الماء النازل من السماء على طبيعة واحدة وكذلك أجزاء الأرض والهواء ويخرج منه أنواع النبات والأزهار والأشجار المثمرة والفواكه المختلفة الطعوم والألوان والأشكال فلو كان ذلك من فعل الطبيعة لوجب أن يتفق موجبها إذ المتفق لا يوجب المختلف فدل ذلك على أنه من صنع صانع حكيم قد خلقه وقدره على اختلاف أنواعه وطعومه وألوانه رزقا للعباد ودلالة لهم على صنعه ونعمه وأما دلالة ما بث فيها من دابة على توحيده فهي كذلك في الدلالة أيضا في اختلاف أنواعه إذ غير جائز أن تكون الحيوانات هي

المحدثة لأنفسها لأنها لا تخلو من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو معدومة فإن كانت موجودة فوجودها قد أغنى عن إحداثها وإن كانت معدومة فإنه يستحيل إيجاد الفعل من المعدوم ومع ذلك فقد علمنا أنها بعد وجودها غير قادرة على اختراع الأجسام وإنشاء الأجرام فهي في حال عدمها أحرى أن لا تكون قادرة عليها وأيضا فإنه لا يقدر أحد من الحيوان على الزيادة في أجزائه فهو ينفي القدرة على إحداث جميعه أولى فثبت أن المحدث لها هو القادر الحكيم الذي لا يشبهه شيء ولو كان محدث هذه الحيوانات مشبها لها من وجه لكان حكمها في امتناع جواز وقوع إحداث الأجسام وأما دلالة تصريف الرياح على توحيده فهي أن الخلق لو اجتمعوا على تصريفها لما قدروا عليه ومعلوم أن تصريفها تارة جنوبا وتارة شمالا وتارة صبا وتارة دبورا محدث فعلمنا أن المحدث لتصريفها هو القادر الذي لا شبه له إذ كان معلوما استحالة إحداث ذلك من المخلوقين فهذه دلائل قد نبه الله تعالى العقلاء عليها وأمرهم بالإستدلال بها وقد كان الله تعالى قادرا على إحداث النبات من غير ماء ولا زراعة وإحداث الحيوانات بلا نتاج ولا زواج ولكنه تعالى أجرى عادته في إنشاء خلقه على هذا تنبيها لهم عند كل حادث من ذلك على قدرته والفكر في عظمته وليشعرهم في كل وقت ما أغفلوه ويزعج خواطرهم للفكر فيما أهملوه فخلق تعالى الأرض والسماء ثابتتين دائمتين لا تزولان ولا تتغيران عن الحال التي جعلهما وخلقهما عليها بديا إلى وقت فنائها ثم أنشأ الحيوان من الناس وغيرهم من الأرض ثم أنشأ للجميع رزقا منها وأقواتا بها تبقي حياتهم ولم يعطهم ذلك الرزق جملة فيظنون أنهم مستغنون بما أعطوا بل جعل لهم قوتا معلوما في كل سنة بمقدار الكفاية لئلا يبطروا ويكونوا مستشعرين للإفتقار إليه في كل حال ووكل إليهم في بعض الأسباب التي يتوصلون بها إلى ذلك من الحرث والزراعة ليشعرهم أن للأعمال ثمرات من الخير والشر فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الخير فيجتنون ثمتره واجتناب الشر ليسلموا من شر مغبته ثم تولى هو لهم من إنزال الماء مالم يكن في وسعهم وطاقتهم أن ينزلوه لأنفهسم فأنشأ سحابا في الجو وخلق فيه ماء ثم أنزله على الأرض بمقدار الحاجة ثم أنبت لهم به سائر أقواتهم وما يحتاجون إليه لملابسهم ثم لم يقتصر فيما أنزله من السماء على منافعه في وقت منافعه حتى جعل لذلك الماء مخازن وينابيع في الأرض يجتمع فيه ذلك الماء فيجري أولا فأولا

على مقدار الحاجة كما قال تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ولو كان على ما نزل من السماء من غير حبس له في الأرض لوقت الحاجة لسال كله وكان في ذلك تلف سائر الحيوان الذي على ظهرها لعدمه الماء فتبارك الله رب العالمين الذي جعل الأرض بمنزلة البيت الذي يأوي إليه الإنسان وجعل السماء بمنزلة السقف وجعل سائر ما يحدثه من المطر والنبات والحيوان بمنزلة ما ينقله الإنسان إلى بيته لمصالحه ثم سخر هذه الأرض لنا وذللها للمشي عليها وسلوك طرقها ومكننا من الإنتفاع بها في بناء البيوت والدور ليسكن من المطر والحر والبرد وتحصنا من الأعداء لم تخرجنا إلى غيرها فأي موضع منها أردنا الإنتفاع به في إنشاء الأبنية مما هو موجود فيها من الحجارة والجص والطين ومما يخرج منها من الخشب والحطب أمكننا ذلك وسهل علينا سوى ما أودعهما من الجواهر التي عقد بها منافعنا من الذهب والفضة والحديد والرصاص والنحاس وغير ذلك كما قال تعالى وقدر فيها أقواتها فهذه كلها وما يكثر تعداده ولا يحيط علمنا به من بركات الأرض ومنافعها ثم لما كانت مدة أعمارنا وسائر الحيوان لا بد من أن تكون متناهية جعلها كفاتا لنا بعد الموت كما جعلها في الحياة فقال تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وقال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ثم لم يقتصر فيما خلق من النبات والحيوان على الملذ دون المألم ولا على الغذاء دون السم ولا على الحلو دون المر بل مزج ذلك كله ليشعرنا أنه غير مريد منا الركون إلى هذه اللذات ولئلا تطمئن نفوسنا إليها فنشتغل بها عن دار الآخرة التي خلقنا لها فكان النفع والصلاح في الدين في الذوات المؤلمة المؤذية كهو في الملذة السارة وليشعرنا في هذه الدنيا كيفية الآلام ليصح الوعيد بآلام الآخرة ولنزجر عن القبائح فنستحق النعيم الذي لا يشوبه كدر ولا تنغيص فلو اقتصر العاقل من دلائل التوحيد على ما ذكره الله تعالى في هذه الآية الواحدة لكان كافيا شافيا في إثباته وإبطال قول سائر أصناف الملحدين من أصحاب الطبائع ومن الثنوية ومن يقول بالتشبيه ولو بسطت معنى الآية وما تضمنته من ضروب الدلائل لطال وكثر وفيما ذكرنا كفاية في هذا الموضع إذ كان الغرض فيه التنبيه على مقتضى دلالة الآية بوجيز من القول دون الاستقصاء والله نسأل حسن التوفيق للاستدلال بدلائله والاهتداء بهداه وحسبنا الله ونعم الوكيل

باب

إباحة ركوب البحر
وفي قوله تعالى والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس دلالة على إباحة ركوب البحر غازيا وتاجرا ومبتغيا لسائر المنافع إذ لم يخص ضربا من المنافع دون غيره وقال تعالى هو الذي يسيركم في البر والبحر وقال ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله وقوله لتبتغوا من فضله قد انتظم التجارة وغيرها كقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقال تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وقد روي عن جماعة من الصحابة إباحة التجارة في البحر وقد كان عمر بن الخطاب منع الغزو في البحر إشفاقا على المسلمين وروي عن ابن عباس أنه قال لا يركب أحد البحر إلا غازيا أو حاجا أو معتمرا وجائز أن يكون ذلك منه على وجه المشورة والإشفاق على راكبه وقد روي ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا إسماعيل بن زكريا عن مطرف عن بشر أبي عبيدالله عن بشير بن مسلم عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز في سبيل الله فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وجائز أن يكون ذلك على وجه الاستحباب لئلا يغرر بنفسه في طلب الدنيا وأجاز ذلك في الغزو والحج والعمرة إذ لا غرر فيه لأنه إن مات في هذا الوجه غرقا كان شهيدا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود حدثنا سليمان ابن داود العتكي حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أنس ابن مالك قال حدثتني أم حرام بنت ملحان أخت أم سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نام عندهم فاستيقظ وهو يضحك قالت فقلت يا رسول الله وما أضحكك قال رأيت قوما ممن يركب ظهر هذا البحر كالملوك على الأسرة قالت قلت يا رسول الله أدع الله يجعلني منهم قال فإنك منهم قالت ثم نام فاستيقظ وهو يضحك قالت فقلت يا رسول الله ما أضحكك فقال مثل مقالته قلت يا رسول الله أدع الله أن يجعلني منهم قال أنت من الأولين قال فتزوجها عبادة بن الصامت فغزا في البحر فحملها معه فلما رجع قربت لها بغلة لتركبها فصرعتها فاندقت عنقها فماتت وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود وحدثنا عبدالوهاب بن عبدالرحيم الجوبري الدمشقي قال حدثنا مروان قال أخبرنا هلال بن ميمون الرملي عن يعلى بن شداد

عن أم حرام عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد والغرق له أجر
شهيدين والله تعالى أعلم
باب تحريم الميتة
قال الله تعالى إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله قال أبو بكر الميتة في الشرع اسم حيوان الميت غير المذكى وقد يكون ميتة بأن يموت حتف أنفه من غير سبب لآدمي فيه وقد يكون ميتة لسبب فعل آدمي إذا لم يكن فعله فيه على وجه الذكاة المبيحة له وسنبين شرائط الذكاة في موضعها إن شاء الله تعالى والميتة وإن كانت فعلا لله تعالى وقد علق التحريم بها مع علمنا بأن التحريم والتحليل والحظر والإباحة إنما يتناولان أفعالنا ولا يجوز أن يتناولا فعل غيرنا إذ غير جائز أن ينهى الإنسان عن فعل غيره ولا أن يؤمر به فإن معنى ذلك لما كان معقولا عند المخاطبين جاز إطلاق لفظ التحريم والتحليل فيه وإن لم يكن حقيقة وكان ذلك دليلا على تأكيد حكم التحريم فإنه يتناول سائر وجوه المنافع ولذلك قال أصحابنا لا يجوز الإنتفاع بالميتة على وجه ولا بطعمها الكلاب والجوارح لأن ذلك ضرب من الإنتفاع بها وقد حرم الله الميتة تحريما مطلقا معلقا بعينها مؤكدا له حكم الحظر فلا يجوز الإنتفاع بشيء منها إلا أن يخص شيء منها بدليل يجب التسليم له وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
تخصيص ميتة السمك والجراد من هذه الجملة بالإباحة فروى عبدالرحمن بن زيد
بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالجراد والسمك وأما الدمان فالطحال والكبد وروى عمرو بن دينار عن جابر في قصة جيش الخبط أن البحر ألقى إليهم حوتا فأكلوا منه نصف شهر ثم لما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم - فقال هل عندكم منه شيء تطعموني ولا خلاف بين المسلمين في إباحة السمك غير الطافي وفي الجراد ومن الناس من استدل على تخصيص عموم آية تحريم الميتة بقوله تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وبقول النبي صلى الله عليه وسلم -
في حديث صفوان بن سليم الزرقي عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وسعيد بن سلمة مجهول غير معروف بالثبت وقد خالفه في سنده يحيى بن سعيد الأنصاري فرواه عن المغيرة بن عبدالله بن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ومثل هذا الإختلاف

في السند يوجب اضطراب الحديث وغير جائز تخصيص آية محكمة به وقد روى ابن زياد بن عبدالله البكائي قال حدثنا سليمان الأعمش قال حدثنا أصحابنا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - في البحر ذكي صيده طهور ماؤه وهذا أضعف عند أهل النقل من الأول وقد روي فيه حديث آخر وهو ما رواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم بن مخشي المدلجي عن الفراسي أن رسول الله ص قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهذا أيضا مما لا يحتج به لجهالة رواية ولا يخص به ظاهر القرآن وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال حدثنا إسحاق بن حازم عن عبدالله بن مقسم عن عطاء عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته قال أبو بكر وقد اختلف في السمك الطافي وهو الذي يموت في الماء حتف أنفه فكرهه أصحابنا والحسن بن حي وقال مالك والشافعي لا بأس به وقد اختلف السلف فيه أيضا فروى عطاء بن السائب عن ميسرة عن علي عليه السلام قال ما طفا من ميتة البحر فلا تأكله وروى عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله وعبدالله بن أبي الهذيل عن ابن عباس أنهما كرها الطافي فهؤلاء الثلاثة من الصحابة قد روي عنهم كراهته وروي عن جابر بن زيد وعطاء وسعيد ابن المسيب والحسن وابن سيرين وإبراهيم كراهيته وروي عن أبي بكر الصديق وأبي أيوب إباحة أكل الطافي من السمك والذي يدل على حظر أكله ظاهر قوله تعالى حرمت عليكم الميتة واتفق المسلمون على تخصيص غير الطافي من الجملة فخصصناه واختلفوا في الطافي فوجب استعمال حكم العموم فيه وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد ابن عبدة حدثنا يحيى بن سليم الطائفي قال حدثنا إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه وروى إسماعيل بن عياش قال حدثني عبدالعزيز بن عبدالله عن وهب بن كيسان ونعيم بن عبدالله المجمر عن جابر بن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ما جزر عنه البحر فلا تأكل وما ألقى فكل وما وجدته ميتا طافيا فلا تأكله وقد روى ابن أبي ذيب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

مثله وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا موسى

ابن زكريا قال حدثنا سهل بن عثمان قال حدثنا حفص عن يحيى بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا وجدتموه حيا فكلوه وما ألقى البحر حيا فمات فكلوه وما وجدتموه ميتا طافيا فلا تأكلوه وحدثنا ابن قانع قال حدثنا عبدالله بن موسى بن أبي عثمان الدهقان قال حدثنا الحسين بن يزيد الطحان حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ذيب عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه وما ألقى البحر ميتا طافيا فلا تأكلوه فإن قيل قد روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير موقوفا على جابر قيل له هذا لا يفسده عندنا لأنه جائز أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم -

تارة ثم يرسل عنه فيفتي به وفتياه بما رواه عن النبي ص
- غير مفسد له بل يؤكده على إن إسماعيل بن أمية فيما يرويه عن أبي الزبير ليس بدون من ذكرت وكذلك ابن أبي ذيب فزيادتهما في الرفع مقبولة على هؤلاء فإن قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد وذلك عموم في جميعه قيل له يخصه ما ذكرنا وروينا في النهي عن الطافي ويلزم مخالفنا على أصله في ترتيب الأخبار أن يبنى العام على الخاص فيستعملهما وأن لا يسقط الخاص بالعام وعلى أن هذا خبر في رفعه اختلاف فرواه مرحوم العطار عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر موقوفا عليه ورواه يحيى الحماني عن عبدالرحمن بن زيد مرفوعا فيلزمك فيه مثل ما رمت إلزامنا إياه في خبر الطافي فإن احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الطهور ماؤه الحل ميتته ولم يخصص الطافي من غيره قيل له نستعملهما جميعا ونجعلهما كأنهما وردا معا نستعمل خبر الطافي في النهي ونستعمل خبر الإباحة فيما عدا الطافي فإن قيل فإن من أصل أبي حنيفة في الخاص والعام أنه متى اتفق الفقهاء على استعمال أحد الخبرين واختلفوا في استعمال الآخر كان ما اتفق في الاستعمال قاضيا على ما اختلف فيه وقوله ص - هو الحل ميتته وأحلت لنا ميتتان متفق على استعمالهما وخبر الطافي مختلف فيه فينبغي أن يقضى عليه بالخبرين الآخرين قيل له إنما يعرف ذلك من مذهبه وقوله فيما لم يعضده نص الكتاب فأما إذا كان عموم الكتاب معاضدا للخبر المختلف في استعماله فإنا لا نعرف قوله فيه وجائز أن يقال إنه لا يعتبر وقوع الخلاف في استعماله بعد أن يعضده عموم الكتاب فيستعمل حينئذ مع العام المتفق على استعماله ويكون ذلك مخصوصا منه فإن

احتجوا بحديث جابر في قصة جيش الخبط وإباحة النبي صلى الله عليه وسلم - أكل الحوت الذي ألقاه البحر فليس عندنا بطاف وإنما الطافي ما مات حتف أنفه في الماء من غير سبب حادث ومن الناس من يظن أن كراهة الطافي من أجل بقائه في الماء حتى طفا عليه فيلزموننا عليه الحيوان المذكى إذا ألقي في الماء حتى طفا عليه وهذا جهل منهم بمعنى المقالة وموضع الخلاف لأن السمك لو مات ثم طفا على الماء لأكل ولو مات حتف أنفه ولم يطف على الماء لم يؤكل والمعنى فيه عندنا هو موته في الماء حتف انفه لا غير وقد روى لنا عبدالباقي حديثا وقال لنا إنه حديث منكر فذكر أنه حدثه به عبيد بن شريك البزاز قال حدثنا أبو الجماهر قال حدثنا سعيد بن بشير عن إبان بن أبي عياش عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال كل ما طفا على البحر وإبان بن عياش ليس هو ممن يثبت ذلك بروايته قال شعبة لأن أزني سبعين زنية أحب إلي من أن أروي عن إبان بن عياش فإن احتج محتج بقوله تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه وأنه عموم في الطافي وغيره قيل له الجواب عنه من وجهين أحدهما أنه مخصوص بما ذكرنا من تحريم الميتة والأخبار الواردة في النهي عن أكل الطافي والثاني أنه روي في التفسير في قوله تعالى وطعامه أنه ما ألقاه البحر فمات وصيده ما اصطادوا وهو حي والطافي خارج منهما لأنه ليس مما ألقاه البحر ولا مما صيد إذ غير جائز أن يقال اصطاد سمكا ميتا كما لا يقال اصطاد ميتا فالآية لم تنتظم الطافي ولم تتناوله والله أعلم
باب

أكل الجراد
قال أصحابنا والشافعي رضي الله عنهم لا بأس بأكل الجراد كله ما أخذته وما وجدته ميتا وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا أخذه حيا ثم قطع رأسه وشواه أكل وما أخذ حيا فغفل عنه حتى مات لم يؤكل وإنما هو بمنزلة ما لو وجده ميتا قبل أن يصطاده فلا يؤكل وهو قول الزهري وربيعة وقال مالك وما قتله مجوسي لم يؤكل وقال الليث بن سعد أكره أكل الجراد ميتا فأما الذي أخذته حيا فلا بأس به قال أبو بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد يوجب إباحته جميعه مما وجد ميتا ومما قتله آخذه وقد استعمل الناس جميعهم هذا الخبر في إباحة أكل الجراد فوجب استعماله على عمومه من غير شرط لقتل آخذه إذ لم يشترطه النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا عبدالباقي قال حدثنا

الحسن بن المثنى قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا زكريا بن يحيى بن عمارة الأنصاري قال حدثنا فائد أبو العوام عن أبي عثمان الهندي عن سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم -

سئل عن الجراد قال أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه وما لم يحرمه النبي
ص - فهو مباح وتركه أكله لا يوجب حظره إذ جائز ترك أكل المباح وغير جائز نفي التحريم عما هو محرم ولم يفرق بين ما مات وبين ما قتله آخذه وقال عطاء عن جابر غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فأصبنا جرادا فأكلناه وقال عبدالله بن أبي أوفى غزوت مع رسول الله ص
- سبع غزوات نأكل الجراد ولا نأكل غيره قال أبو بكر ولم يفرق بين ميته وبين مقتوله حدثنا عبدالباقي قال حدثنا موسى بن زكريا التستري قال حدثنا أبو الخطاب قال حدثنا أبو عتاب حدثنا النعمان عن عبيدة عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها كانت تأكل الجراد وتقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يأكله قال أبو بكر فهذه الآثار الواردة في الجراد لم يفرق في شيء منها
بين ميته وبين مقتوله فإن قيل ظاهر قوله تعالى حرمت عليكم الميتة يقتضي حظر جميعها فلا يخص منها إلا ما أجمعوا عليه وهو ما يقتله آخذه وما عداه فهو محمول على ظاهر الآية في إيجاب تحريمه قيل له تخصه الأخبار الواردة في إباحته وهي مستعملة عند الجميع في تخصيص الآية ولم تفرق هذه الأخبار بين شيء منها فلم يجز تخصيص شيء منها ولا الإعتراض عليها بالآية لاتفاق الجميع على أنها قاضية على الآية مخصصة لها وليس الجراد عندنا مثل السمك في حظرنا للطافي منه دون غيره لأن الأخبار الواردة في تخصيص السمك بالإباحة من جملة الميتة بإزائها أخبار أخر في حظر الطافي منه فاستعملناها جميعا وقضينا بالخاص منها على العام مع معاضدة الآية لأخبار الحظر وأيضا فإنه لما وافقنا مالك ومن تابعه على إباحة المقتول منه دل ذلك على أنه لا فرق بينه وبين الميت من غير قتل وذلك لأن القتل ليس بذكاة في حقه لأن الذكاة في الأصل على وجهين وهي فيما له دم سائل أحدهما قطع الحلقوم والأوداج في حال إمكانه والآخر إسالة دمه عند تعذر الذبح ألا ترى أن الصيد لا يكون مذكى بإصابته إلا أن يجرحه ويسفح دمه فلما لم يكن للجراد دم سائل كان قتله وموته حتف أنفه سواء كما كان قتل ما له دم سائل من غير سفح دمه وموته حتف أنفه سواء في كونه غير مذكى فكذلك واجب أن يستوي حكم قتل الجراد وموته حتف أنفه إذ ليس هو مما يسفح دمه فإن قيل قد فرقت بين السمك

الطافي وما قتله آخذه أو مات بسبب حادث فما أنكرت من فرقنا بين ما مات من الجراد وما قتل منه قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن هذا هو القياس في السمك لما لم يحتج في صحة ذكاته إلى سفح الدم إلا أنا تركنا القياس للآثار التي ذكرنا ومن أصلنا تخصيص القياس بالآثار وليس معك الأثر في تخصيص بعض الجراد بالإباحة دون بعض فوجب استعمال أخبار الإباحة في الكل والوجه الآخر أن السمك له دم سائل فكان له ذكاة من جهة القتل ولم يحتج إلى سفح دمه في شرط الذكاة لأن دمه ظاهر وهو يؤكل بدمه فلذلك شرط فيه موته بسبب حادث يقوم له مقام الذكاة في سائر ما له دم سائل وهذا المعنى غير موجود في الجراد فلذلك اختلفا وقد روي عن ابن عمر أنه قال الجراد كله ذكي وعن عمر وصهيب والمقداد إباحة أكل الجراد ولم يفرقوا بين شيء منه والله أعلم
باب

ذكاة الجنين
قال أبو بكر اختلف أهل العلم في جنين الناقة والبقرة وغيرهما إذا خرج ميتا بعد ذبح الأم فقال أبو حنيفة رضي الله عنه لا يؤكل إلا أن يخرج حيا فيذبح وهو قول حماد وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمة الله عليهم يؤكل أشعر أو لم يشعر وهو قول الثوري وقد روي عن علي وابن عمر قالا ذكاة الجنين ذكاة أمه وقال مالك إن تم خلقه ونبت شعره أكل وإلا فلا وهو قول سعيد بن المسيب وقال الأوزاعي إذا تم خلقه فذكاة أمه ذكاته قال الله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم وقال في آخرها إلا ما ذكيتم وقال حرمت عليكم الميتة فحرم الله الميتة مطلقا واستثنى المذكى منها وبين النبي صلى الله عليه وسلم -
الذكاة في المقدور على ذكاته في النحر واللبة وفي غير مقدور على ذكاته
بسفح دمه بقوله ص - انهر الدم بما شئت وقوله في المعراض إذا خزق فكل وإذا لم يخزق فلا تأكل فلما كانت الذكاة منقسمة إلى هذين الوجهين وحكم الله بتحريم الميتة حكما عاما واستثنى منه المذكى بالصفة التي ذكرنا على لسان نبيه ولم تكن هذه الصفة موجودة في الجنين كان محرما بظاهر الآية واحتج من أباح ذلك بأخبار رويت من طرق منها عن أبي سعيد الخدري وأبي الدرداء وأبي أمامة وكعب بن مالك وابن عمر وأبي أيوب وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ذكاة الجنين ذكاة أمه وهذه الأخبار كلها واهية السند عند أهل النقل كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وبيان ضعفها واضطرابها إذ ليس في شيء منها دلالة على موضع الخلاف

وذلك لأن قوله ذكاة الجنين ذكاة أمه يحتمل أن يريد به أن ذكاة أمه ذكاة له ويحتمل أن يريد به إيجاب تذكيته كما تذكى أمه وأنه لا يؤكل بغير ذكاة كقوله تعالى وجنة عرضها السماوات والأرض معناه كعرض السموات والأرض وكقول القائل قولي قولك ومذهبي مذهبك والمعنى قولي كقولك ومذهبي كمذهبك قال الشاعر ... فعيناك عيناها وجيدك جيدها ... سوى أن عظم الساق منك دقيق ...
ومعناه فعيناك كعينيها وجيدك كجيدها وإذا احتمل اللفظ لما وصفنا ولم يجز أن يكون المعنيان جميعا مرادين بالخبر لتنافيهما إذ كان في أحد المعنيين إيجاب تذكيته فإنه لا يؤكل غير مذكى في نفسه والآخر يبيح أكله بذكاة أمه إذ غير معتبر ذكاته في نفسه لم يجز لنا أن نخصص الآية به ووجب أن يقول محمولا على موافقة الآية إذ غير جائز تخصيص الآية بخبر الواحد واهي السند محتمل لموافقتها ويدل على أن مراده إيجاب تذكيته كما تذكى الأم اتفاق الجميع على أنه إذا خرج حيا وجب تذكيته ولم يجز الاقتصار على تذكية الأم فكان ذلك مرادا بالخبر فلم يجز أن يريد به مع ذلك أن ذكاة أمه ذكاة له لتنافيهما وتضادهما إذ كان في أحد المعنيين أيجاب تذكيته وفي الآخر نفيه فإن قال قائل ما أنكرت أن نريد المعنيين في حالين بأن يجب ذكاته إذا خرج حيا ويقتصر على ذكاة أمه إذا خرج ميتا قيل له ليس ذكر الحالين موجودا في الخبر وهو لفظ واحد ولا يجوز أن يريد به الأمرين جميعا لأن في إرادة أحد المعنيين إثبات زيادة حرف وليس في الآخر إثبات زيادة حرف وليس في الجائز أن يكون لفظ واحد فيه حرف وغير حرف فلذلك بطل قول من يقول بإرادتهما فإن قيل إذا كان إرادة أحد المعنيين توجب زيادة حرف وهو الكاف وليس في الآخر زيادة فحمله على المعنى الذي لا يفتقر إلى زيادة أولى لأن حذف الحرف يوجب أن يكون اللفظ مجازا وإذا لم يكن فيه حذف شيء فهو حقيقة وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز قيل له كون الحرف محذوفا أو غير محذوف لا يزيل عنه الاحتمال لأنه وإن كان مجازا فهو مفهوم اللفظ محتمل له ولا فرق بين الحقيقة والمجاز فيما هو من مقتضى اللفظ فلم يجز من أجل ذلك تخصيص الآية فإن قال قائل ليس في اللفظ احتمال كونه غير مذكى بذكاة الأم لأنه لا يسمى جنينا إلا في حال كونه في بطن أمه ومتى باينها لا يسمى جنينا والنبي صلى الله عليه وسلم - إنما أثبت له الذكاة في حال اتصاله بالأم وذلك يوجب أن يكون مذكى

بتلك الحال في ذكاتها قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أنه جائز أن يسمى بعد الانفصال جنينا لقرب عهده من الاجتنان في بطن أمه ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن الجنين لو خرج حيا ذكي كما تذكى الأم فيطلق عليه اسم الجنين بعد الذكاة والانفصال وقال حمل بن مالك كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بعمود فسطاط فألقت جنينا ميتا فقضى النبي صلى الله عليه وسلم -

بغرة عبد أو أمة فسماه جنينا بعد الإلقاء وإذا كان ذلك كذلك جاز أن يكون
مراد النبي صلى الله عليه وسلم - ذكاة الجنين ذكاة أمه أنه يذكى كما تذكى أمه إذا ألقته حيا والوجه الآخر أنه لو كان مراده كونه مذكى وهو جنين لوجب أن يكون مذكى بذكاة الأم وإن خرج حيا وإن موته بعد خروجه لا يكسبه حكم الميتات كموته في بطن أمه فلما اتفق الجميع على أن خروجه حيا يمنع أن يكون ذكاة الأم ذكاته ثبت أنه لم يرد إثبات ذكاة الأم له في حال اتصاله بالأم فإن قال قائل إنما أراد إثبات الحكم بحال خروجه ميتا قيل له هذه دعواك لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم -
فإن جاز أن تشترط فيه موته في حال كونه جنينا وإن لم يذكره النبي ص
- جاز لنا أن نشترط إيجاب ذكاته خرج حيا أو ميتا فمتى لم يوجد له ذكاة في نفسه لم يجز أكله وعلى أنا متى شرطنا إيجاب ذكاته في نفسه غير معتبر بأمه استعملنا الخبر على عمومه فجعلنا إباحة الأكل معلقة بوجود الذكاة فيه في حال كونه جنينا وبعد خروجه وحمل الخبر على ذلك أولى من الاقتصار به على ما ذكرت وإثبات ضمير فيه لا ذكر له في الخبر ولا دلالة عليه فإن قال قائل حمل الخبر على ما ذكرت في إيجاب ذكاته إذا خرج يسقط فائدته لأن ذلك معلوم قبل وروده قيل له ليس كذلك من قبل أنه أفاد أنه إن خرج حيا فقد وجبت ذكاته سواء مات في حال لم يقدر على ذكاته أو بقي وبطل بذلك قول من يقول أنه إن مات في وقت لا يقدر على ذكاته كان مذكى بذكاة الأم ومن جهة أخرى أنه حكم بإيجاب ذكاته وأنه إن خرج ميتا لم يؤكل إذ هو غير مذكى فإن خرج حيا ذكي فأفاد أنه ميتة لا تؤكل وبطل به قول من يقول أنه لا يحتاج إلى ذكاة إذا خرج ميتا فإن احتج محتج بما ذكره زكريا بن يحيى الساحي عن بندار وإبراهيم بن محمد التيمي قالا حدثنا يحيى بن سعيد قالا حدثنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم - سئل عن الجنين يخرج ميتا فقال إن شئتم فكلوه فإن ذكاته ذكاة أمه قيل له قد روى هذا الحديث جماعة من الثقات عن يحيى بن سعيد ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا ورواه جماعة عن مجالد منهم هشيم وأبو

أسامة وعيسى بن يونس ولم يذكروا فيه أنه خرج ميتا وإنما قالوا سئل النبي صلى الله عليه وسلم -

عن الجنين يكون في بطن الجزور أو البقرة أو الشاة فقال كلوه فإن ذكاته
ذكاة أمه ورواه أيضا ابن أبي ليلى عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك قال كل من يروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ممن قدمنا ذكره لم يذكر واحد منهم أنه خرج ميتا ولم تجئ هذه اللفظة إلا في رواية الساجي ويشبه أن تكون هذه الزيادة من عنده فإنه غير مأمون فإن احتج بما روي عن ابن عباس في قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام أنها الأجنة قيل له أنه قد روي عن ابن عباس أنها جميع الأنعام وأن قوله تعالى إلا ما يتلى عليكم الخنزير وروي عن الحسن أن بهيمة الأنعام الشاة والبعير والبقر والأولى أن تكون على جميع الأنعام ولا تكون مقصورة على الجنين دون غيره لأنه تخصيص بلا دلالة وأيضا فإن كان المراد الأجنة فهي على إباحتها بالذكاة كسائر الأنعام هي مباحة بشرط ذكاتها وكالجنين إذا خرج حيا هو مباح بشرط الذكاة وأيضا فإن قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إذا كان المراد ما سيتلى عليكم في المستقبل مما هو محرم في الحال فهو مجمل لا يصح الاحتجاج به لأنه يكون بمنزلة ما لو قال بعض الأنعام مباح وبعضه محظور ولم يبينه فلا يصح اعتبار عموم شيء منه فإن قال قائل لما كان حكم الجنين حكم أمه فيمن ضرب بطن امرأة فماتت وألقت جنينا ميتا ولم ينفرد بحكم نفسه كان كذلك حكمه في الذكاة إذا مات في بطن أمه بموتها ولو خرج الولد حيا ثم مات انفرد بحكم نفسه دون أمه في إيجاب الغرة فيه فكذلك جنين الحيوان إذا مات بموت أمه وخرج ميتا أكل وإذا خرج حيا لم يؤكل حتى يذكى قيل له هذا قياس فاسد لأنه قياس حكم على حكم غيره وإنما القياس الصحيح الجمع بين المسئلتين في حكم واحد بعلة توجب رد إحداهما إلى الأخرى فأما في قياس مسئلة على مسئلة في حكمين مختلفين فإن ذلك ليس بقياس وقد علمنا أن المسئلة التي استشهدت بها إنما حكمها ضمان الجنين في حال انفصاله منها حيا بعد موتها ومسئلتنا إنما هي في إثبات ذكاة الأم له في حال ومنعه في حال أخرى فكيف يصح رد هذه إلى تلك ومع ذلك فلو ضرب بطن شاة أو غيرها فألقت جنينا ميتا لم يجب للجنين أرش ولا قيمة على الضارب وإنما يجب فيه نقصان الأم إن حدث بها نقصان وإذا لم يكن لجنين البهائم بعد الإنفصال حكم في حياة الأم وثبت ذلك لجنين

المرأة فكيف يجوز قياس البهيمة على الإنسان وقد اختلف حكمهما في نفس ما ذكرت فإن قيل لما كان الجنين في حال اتصاله بالأم في حكم عضو من أعضائها كان بمنزلة العضو منها إذا ذكيت الأم فيحل بذكاتها قيل له غير جائز أن يكون بمنزلة عضو منها لجواز خروجه حيا تارة في حياة الأم وتارة بعد موتها والعضو لا يجوز أن يثبت له حكم الحياة بعد انفصاله منها فثبت أنه غير تابع لها في حال حياتها ولا بعد موتها فإن قيل الواجب أن يتبع الجنين الأم في الذكاة كما يتبع الولد الأم في العتاق والإستيلاد والكتابة ونحوها قيل له هذا غلط من الوجه الذي قدمنا في امتناع قياس حكم على حكم آخر ومن جهة أخرى أنه غير جائز إذا أعتقت الأمة أن ينفصل الولد منها غير حر وهو تابع للأم في الأحكام التي ذكرت وجائز أن يذكي الأم ويخرج الولد حيا فلا يكون ذكاة الأم ذكاة له فعلمنا أنه لا يتبع الأم في الذكاة إذ لو تبعها في ذلك لما جاز أن ينفرد بعد ذكاة الأم بذكاة نفسه وأما مالك فإنه ذهب فيه إلى ما روي في حديث سليمان أبي عمران عن ابن البراء عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قضى في أجنة الأنعام أن ذكاتها ذكاة أمها إذا أشعرت وروى الزهري عن ابن
كعب بن مالك قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقولون إذا أشعر الجنين فإن ذكاته ذكاة أمه وروي عن علي وابن عمر من قولهما مثل ذلك فيقال له إذا ذكر الإشعار في هذا الخبر وأبهم في غيره من الأخبار التي هي أصح منه وهو خبر جابر وأبي سعيد وأبي الدرداء وأبي أمامة ولم يشترط فيها الإشعار فهلا سويت بينهما إذ لم تنف هذه الأخبار ما أوجبه خبر الإشعار إذ هما جميعا يوجبان حكما واحدا وإنما في أحدهما تخصيص ذلك الحكم من غير نفي لغيره وفي الآخر إبهامه وعمومه ولما اتفقنا جميعا على أنه إذا لم يشعر لم تعتبر فيه ذكاة الأم واعتبرت ذكاة نفسه وهو في هذه الحالة أقرب أن يكون بمنزلة أعضائها منه بعد مباينته لها وجب أن يكون ذلك حكمه إذا أشعر ويكون معنى قوله ذكاته ذكاة أمه على أنه يذكى كما تذكى أمه ويقال لأصحاب الشافعي إذا كان قوله ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر ينفي ذكاته بأمه إذا لم يشعر فهلا خصصت به الأخبار المبهمة أكان عندكم أن هذا الضرب من الدليل يخص به العموم بل هو أولى منه ومما يحتج به على الشافعي أيضا في ذلك قوله ص -
أحلت لنا ميتتان ودمان ودلالة هذا الخبر يقتضي عنده تحريم سائر الميتات
سواهما فيلزمه أن يحمل معنى قوله ذكاة الجنين

ذكاة أمه على موافقة دلالة هذا الخبر
باب

جلود الميتة إذا دبغت
قوله تعالى إنما حرم عليكم الميتة والدم وقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما يقتضي تحريم الميتة بجميع أجزائها وجلدها من أجزائها لأنه قد حله الموت بدلا من الحياة التي كانت فيه إلا أن قوله على طاعم يطعمه قد دل على الاقتصار بالتحريم على ما يتأتى فيه الأكل وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى في جلد الميتة بعد الدباغ بقوله إنما حرم أكلها وإنما حرم لحمها وقد اختلف الفقهاء في حكم جلد الميتة بعد الدباغ فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح وسفيان الثوري وعبدالله بن الحسن العنبري والأوزاعي والشافعي يجوز بيعه بعد الدباغ والانتفاع به قال الشافعي إلا جلد الكلب والخنزير وأصحابنا لم يفرقوا بين جلد الكلب وغيره وجعلوه طاهرا بالدباغ إلا جلد الخنزير خاصة وقال مالك ينتفع بجلود الميتة في الجلوس عليها ويغربل عليها ولا تباع ولا يصلى عليها وقال الليث بن سعد لا بأس ببيع جلود الميتة قبل الدباغ إذا بينت أنها ميتة والحجة لمن طهرها وجعلها مذكاة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - من الآثار المتواترة من الوجوه المختلفة بألفاظ مختلفة كلها يوجب طهارتها والحكم بذكاتها فمنها حديث ابن عباس قال أيما إهاب دبغ فقد طهر وحديث الحسن عن الجون بن قتادة عن سلمة بن المحبق أن النبي صلى الله عليه وسلم - أتى في غزوة تبوك على بيت بفنائه قربة معلقة فاستسقى فقيل أنها ميتة فقال ذكاة الأديم دباغته وروى سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال دباغ جلود الميتة طهورها وسماك عن عكرمة عن سودة بنت زمعة قالت كانت لنا شاة فماتت فطرحناها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم - فقال ما فعلت شاتكم فقلنا رميناها فتلا قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية أفلا استمتعتم بإهابها فبعثنا إليها فسلخناها ودبغنا جلدها وجعلناه سقاء وشربنا فيه حتى صار شنا وقالت أم سلمة مر النبي صلى الله عليه وسلم - بشاة ميمونة فقال ما على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها والزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن ميمونة قالت مر النبي صلى الله عليه وسلم - بشاة لهم ميتة فقال ألا دبغوا إهابها فانتفعوا به فقالوا يا رسول الله إنها ميتة فقال إنما حرم من الميتة أكلها في غير ذلك من الأخبار كلها يوجب طهارة جلد الميتة

بعد الدباغ كرهت الإطالة بذكرها وهذه الأخبار كلها متواترة موجبة للعلم والعمل قاضية على الآية من وجهين أحدهما ورودها من الجهات المختلفة التي يمنع من مثلها التواطؤ والاتفاق على الوهم والغلط والثاني جهة تلقي الفقهاء إياها بالقبول واستعمالهم لها فثبت بذلك أنها مستعملة مع آية تحريم الميتة وأن المراد بالآية تحريمها قبل الدباغ وما قدمنا من دلالة قوله على طاعم يطعمه أن المراد بالآية فيما يتأتى فيه الأكل والجلد بعد الدباغ خارج عن حد الأكل فلم يتناوله التحريم ومع ذلك فإن هذه الأخبار لا محالة بعد تحريم الميتة لولا ذلك لما رموا بالشاة الميتة ولما قالوا أنها ميتة ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - ليقول إنما حرم أكلها فدل ذلك على أن تحريم الميتة مقدم على هذه الأخبار وأن هذه الأخبار مبينة أن الجلد بعد الدباغ غير مراد بالآية ولما وافقنا مالك على جواز الانتفاع به بعد الدباغ فقد استعمل الأخبار الواردة في طهارتها ولا فرق في شيء منها بين افتراشها والصلاة عليها وبين أن تباع أو يصلى عليها بل في سائر الأخبار أن دبغها ذكاتها ودباغها طهورها وإذا كانت مذكاة لم يختلف حكم الصلاة عليها وبيعها وحكم افتراشها والجلوس عليها كسائر جلود الحيوان المذكاة ألا ترى أنها قبل الدباغ باقية على حكم التحريم في امتناع جواز الانتفاع بها من سائر الوجوه كالانتفاع بلحومها فلما اتفقنا على خروجها عن حكم الميتة بعد الدباغ فيما وصفنا ثبت أنها مذكاة طاهرة بمنزلة ذكاة الأصل ويدل على ذلك أيضا أن التحريم متعلق بكونها مأكولة وإذا خرج عن حد الأكل صار بمنزلة الثوب والخشب ونحو ذلك ويدل على ذلك أيضا موافقة مالك إيانا على جواز الانتفاع بشعر الميتة وصوفها لامتناع أكله وذلك موجود في الجلد بعد الدباغ فوجب أن يكون حكمه حكمها فإن قيل إنما جاز ذلك في الشعر والصوف لأنه يؤخذ منه في حال الحياة قيل له ليس يمتنع أن يكون ما ذكرنا علة الإباحة وكذلك ما ذكرت فيكون للإباحة علتان إحداهما أنه لا يتأتى فيه الأكل والأخرى أنه يؤخذ منه في حال الحياة فيجوز الانتفاع به لأن موجبهما حكم واحد ومتى عللناه بما وصفناه وجب قياس الجلد عليه وإذا عللته بما وصفت كان مقصور الحكم على المعلول وقد روى الحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عبدالله بن عكيم قال قرئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فاحتج بذلك من حظر جلد الميتة بعد الدباغ وغير جائز معارضة الأخبار الواردة في الإباحة

بهذا الخبر من وجوه أحدها أن الأخبار التي قدمناها في حيز التواتر الموجب للعلم وحديث عبدالله بن عكيم ورد من طريق الآحاد وقد روى عاصم بن علي عن قيس بن الربيع عن حبيب بن أبي ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عبدالله بن عكيم قال كتب إلينا عمر بن الخطاب أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب فذكر في هذا الحديث أن عمر كتب إليهم بذلك فلا يجوز معارضة الأخبار التي قدمنا بمثله ومن جهة أخرى أنهما لو تساويا في النقل لكان خبر الإباحة أولى لاستعمال الناس له وتلقيهم إياه بالقبول ووجه آخر وهو أن خبر عبدالله بن عكيم لو انفرد عن معارضة الأخبار التي قدمنا لم يكن فيه ما يوجب تحريم الجلد بعد الدباغ لأنه قال لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وهو إنما يسمى إهابا قبل الدباغ والمدبوغ لا يسمى إهابا وإنما يسمى أديما فليس إذا في هذا الخبر ما يوجب تحريمه بعد الدباغ وأما قول الليث بن سعد في إباحة بيع جلد الميتة قبل الدباغ فقول خارج عن اتفاق الفقهاء لم يتابعه عليه أحد ومع ذلك هو مخالف لقوله ص - لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب لأنه قبل الدباغ يسمى إهابا والبيع من وجوه الانتفاع فوجب أن يكون محظورا بقوله لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب قال أبو بكر فإن قال قائل قوله ص - إنما حرم من الميتة أكلها يدل على أن التحريم مقصور على الأكل دون البيع قيل له فينبغي أن تجيز بيع لحمها بقوله إنما حرم أكلها فإذا لم يجز بيع اللحم مع قوله إنما حرم أكلها كذلك حكم الجلد قبل الدباغ فإن قال قائل منعت بيع اللحم بقوله إنما حرم أكلها قيل له وأمنع بيع الجلد بقوله حرمت عليك الميتة لأنه لم يفرق بين الجلد واللحم وإنما خص من جملته المدبوغ منه دون غيره وأيضا فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإذا كان الجلد محرم الأكل قبل الدباغ كتحريم اللحم وجب أن لا يجوز بيعه كبيع اللحم نفسه وكبيع سائر المحرمات لأعيانها كالخمر والدم ونحوهما وأما جلد الكلب فيلحقه الدباغ ويطهر إذا كان ميتة لقوله ص - أيما إهاب دبغ فقد طهر وقال دباغ الأديم ذكاته ولم يفرق بين الكلب وغيره ولأنه تلحقه الذكاة عندنا لو ذبح لكان طاهرا فإن قيل إذا كان نجسا في حال الحياة كيف يطهر بالدباغ قيل له كما يكون جلد الميتة نجسا ويطهره الدباغ لأن الدباغ ذكاته كالذبح وأما الخنزير فلا تلحقه الذكاة لأنه محرم العين بمنزلة الخمر والدم

فلا تعمل فيه الذكاة ألا ترى أنه لا يجوز الانتفاع به في حال الحياة والكلب يجوز الانتفاع به في حال الحياة فليس هو محرم العين والله أعلم
باب

تحريم ا لانتفاع بدهن الميتة
قال الله تعالى إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقال قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وهذان الظاهران يحظران دهن الميتة كما أوجبا حظر لحمها وسائر أجزائها وقد روى محمد بن إسحاق عن عطاء عن جابر قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم - مكة أتاه أصحاب الصليب الذين يجمعون الأوداك فقالوا يا رسول الله إنا نجمع هذه الأوداك وهي من الميتة وعكرها وإنما هي للأدم والسفن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها فنهاهم عن ذلك فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن تحريم الله تعالى إياها على الإطلاق قد أوجب تحريم بيعها كما أوجب تحريم أكلها وقد ذكر عن ابن جريج عن عطاء أنه يدهن بشحوم الميتة ظهور السفن وهو قول شاذ وقد ورد الأثر بتحريمه واقتضى ظاهر الأية حظره
باب الفأرة تموت في السمن
قال الله تعالى إنما حرم عليكم الميتة وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة لم يقتض تحريم ما ماتت فيه من المائعات وإنما اقتضى تحريم عين الميتة وما جاور الميتة فلا يسمى ميتة فلم ينتظمه لفظ التحريم ولكنه محرم الأكل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم -
وهو ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال سئل النبي ص
- عن الفأرة تقع في السمن فقال ص -
إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعا فلا تقربوه وروى أبو سعيد
الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
القوها وما حولها ثم كلوه وروى عبدالجبار بن عمر عن ابن شهاب عن سالم بن
عبدالله بن عمر عن ابن عمر أنه أخبره أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - حيث سأله رجل عن فأرة وقعت في ودك لهم فقال أجامد هو قال نعم قال اطرحوها واطرحوا ما حولها وكلوا ودككم قالوا يا رسول الله إنه مائع قال فانتفعوا به ولا تأكلوه فأطلق النبي صلى الله عليه وسلم -
جواز ا لانتفاع به من غير جهة الأكل وهذا يقتضي جواز

بيعه لأنه ضرب من ضروب الانتفاع ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم - شيئا منه وروي عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري والحسن في آخرين من السلف جواز الانتفاع به من غير جهة الأكل قال أبوموسى بيعوه ولا تطعموه ولا نعلم أحدا من الفقهاء منع الإنتفاع به من جهة الاستصباح ودبغ الجلود ونحوه ويجوز بيعه عند أصحابنا أيضا ويبين عيبه وحكى عن الشافعي أن بيعه لا يجوز ويجوز الإستصباح به وقد روي في حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - إطلاق الإنتفاع من غير تخصيص منه لوجه دون يجوز بيع سائر الأشياء التي يجوز الإنتفاع بها من نحو الحمار والبغل إذ ليس لهذه الأشياء حق في منع البيع وهو مما يجوز الإنتفاع به وهو غير محرم العين فإن قيل يجوز الإنتفاع بأم الولد والمدبر ولا يجوز بيعهما قيل له هذا لا يلزم على ما ذكرنا لأنا قيدنا المعنى بأنه لا حق لما جاز الإنتفاع به من ذلك في منع بيعه فلم يمنع تحريم أكله جواز بيعه من حيث جاز الإنتفاع به من غير جهة الأكل ولا حق له في منع البيع وأما المدبر وأم الولد فإنه قد ثبت لهما حق العتاق وفي جواز بيعهما إبطال لحقهما فلذلك منع بيعهما مع إطلاق سائر وجوه الإنتفاع فيهما وليس هذا عندهم بمنزلة ودك الميتة لأنه محرم العين كلحمها ممنوع الإنتفاع به من سائر الوجوه وليس ما مات فيه الفأرة من المائعات بمحرم العين وإنما هو محرم الأكل لمجاورته الميتة وسائر وجوه المنافع مطلقة فيه سوى الأكل فكان بيعه بمنزلة بيع الحمار والبغل والكلب ونحوه مما يجوز الإنتفاع به ولا يجوز أكله وكذلك الرقيق يجوز بيعهم كسائر منافعهم وقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم - في أمره بإلقاء الفأرة وما حولها في الجامد منه على معنيين أحدهما أن ما كان نجسا في نفسه فإنه ينجس بالمجاورة لحكمه فيما جاور الفأرة منه بالنجاسة وإن ما ينجس بالمجاورة لا ينجس ما جاوره إذ لم يحكم بنجاسة السمن المجاور للسمن النجس لأنه لو وجب الحكم بذلك لوجب الحكم بتنجيس سائر سمن الإناء بمجاورة كل جزء منه لغيره فهذا أصل قد ثبت بالسنة وكل ذلك يدل على اختلاف مراتب النجاسة في التغليظ والتخفيف وأنها ليست متساوية المنازل فجاز من أجل ذلك أن يعتبر في بعضها أكثر من قدر الدرهم وفي بعضها الكثير الفاحش على حسب قيام دلالة التخفيف والتغليظ والله أعلم بالصواب

باب القدر يقع فيها ا لطير فيموت
ذكر أبو جعفر الطحاوي قال سمعت أبا حازم القاضي يحدث عن سويد بن سعيد عن علي بن مسهر قال كنت عند أبي حنيفة رضي الله عنه فأتاه ابن المبارك بهيئة خراساني فسأله عن رجل نصب له قدرا فيها لحم على النار فمر طير فوقع فيها فمات فقال أبو حنيفة لأصحابه ماذا ترون فذكروا له عن ابن عباس أن اللحم يؤكل بعد ما يغسل ويهراق المرق فقال أبو حنيفة بهذا نقول ولكن هو عندنا على شريطة فإن كان وقع فيها في حال سكونها فكما في هذه الرواية وإن وقع فيها في حال غليانها لم يؤكل اللحم ولا المرق فقال له ابن المبارك ولم ذلك فقال لأنه إذا سقط فيها في حال غليانها فمات فقد داخلت الميتة اللحم وإذا وقع في حال سكونها فمات فإن الميتة وسخت اللحم فقال ابن المبارك وعقد بيده ثلاثين هذا زرين بالفارسية يعني المذهب وروى ابن المبارك عن عباد بن راشد عن الحسن مثل جواب أبي حنيفة رضي الله عنه وقد ذكر أبو حنيفة رضي الله عنه علة فرقه بين وقوعه في حال الغليان وحال السكون وهو فرق ظاهر وقال ابن وهب عن مالك في الدجاجة تقع في قدر اللحم وهي تطبخ فتموت فيها قال لا أرى أن آكل تلك القدر لأن الميتة قد اختلطت بما كان في القدر وقال الأوزاعي يغسل اللحم ويؤكل وقال الليث بن سعد لا يؤكل ذلك اللحم حتى يغسل مرارا ويغلي على النار حتى يذهب كل ما كان فيه وقد روى ابن المبارك عن عثمان بن عبدالله الباهلي قال حدثني عكرمة عن ابن عباس في طير وقع في قدر فمات فقال يهراق المرق ويؤكل اللحم ولم يذكر فيه حال الغليان وروى محمد بن ثوبان عن السائب بن خباب أنه كان له قدر على النار فسقطت فيها دجاجة فماتت ونضجت مع اللحم فسألت ابن عباس فقال اطرح الميتة واهرق المرق وكل اللحم فإن كرهته فأرسل إلي منه عضوا أو عضوين وهذا أيضا لا دلالة فيه على حال الغليان لأنه جائز أن يكون وقعت فيه بعد سكون الغليان والمرق حار فنضجت والله سبحانه أعلم
باب

النفحة الميتة ولبنها
قال أبو حنيفة لبن الميتة وأنفحتها طاهران لا يلحقهما حكم النجاسة وقال أبو يوسف ومحمد والثوري يكره اللبن لأنه في وعاء نجس وكذلك الأنفحة إذا كانت مائعة فإن كانت جامدة فلا بأس وقالوا جميعا في البيضة إذا كانت من دجاجة ميتة فلا بأس بها وقال مالك

وعبدالله بن الحسن والشافعي لا يحل اللبن في ضروع الميتة وقال الليث بن سعد لا تؤكل البيضة التي تخرج من دجاجة ميتة وقال عبدالله بن الحسن أكره أن أرخص فيها قال أبو بكر اللبن لا يجوز أن يلحقه حكم الموت لأنه لا حياة فيه ويدل عليه أنه يؤخذ منها وهي حية فيؤكل فلو كان مما يلحقه حكم الموت لم يحل إلا بذكاة الأصل كسائر أعضاء الشاة وأيضا فإن قوله نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين عام في سائر الألبان فاقتضى ذلك شيئين أحدهما أن اللبن لا يموت ولا يحرمه موت الشاة والثاني أنه لا ينجس بموت الشاة ولا يكون بمنزلة لبن جعل في وعاء ميت فإن قيل ما الفرق بينه وبين ما لو حلب من شاة حية ثم جعل في وعاء نجس وبين ما إذا كان في ضرع الميتة قيل الفرق بينهما أن موضع الخلقة لا ينجس ما جاوره بما حدث فيه خلقة والدليل على ذلك اتفاق المسلمين على جواز أكل اللحم بما فيه من العروق مع مجاورة الدم لدواخلها من غير تطهير ولا غسل لذلك فدل ذلك على أن موضع الخلقة لا ينجس بالمجاورة لما خلق فيه ودليل آخر وهو قوله من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين وهذا يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما ما قدمناه آنفا في صدر المسئلة في اقتضائه لبن الحية ولبن الميتة والثاني إخباره بخروجه من بين فرث ودم هما نجسان مع الحكم بطهارته ولم تكن مجاورته لهم موجبة لتنجيسه لأنه موضع الخلقة كذلك كونه في ضرع ميتة لا يوجب تنجيسه ويدل على ذلك أيضا ما رواه شريك عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم - في غزوة الطائف بجبنة فجعلوا يقرعونها بالعصا فقال أين يصنع هذا فقالوا بأرض فارس فقال اذكروا اسم الله عليه وكلوا ومعلوم أن ذبائح المجوس ميتة وقد أباح ص - أكلها مع العلم بأنها من صنعة أهل فارس وأنهم كانوا إذ ذاك مجوسا ولا ينعقد الجبن إلا بأنفحة فثبت بذلك أن أنفحة الميتة طاهرة وقد روى القاسم بن الحكم عن غالب بن عبدالله عن عطاء بن أبي رباح عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -

قالت سألت النبي ص
- عن الجبن فقال ضعي السكين واذكري اسم الله تعالى وكلي فأباح النبي صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث أكل الجميع منه ولم يفصل بين ما صنع منه بأنفحة ميتة أو غيرها وقد روي عن علي وعمر وسلمان وعائشة وابن عمر وطلحة بن عبيدالله وأم سلمة والحسن بن علي إباحة أكل الجبن الذي فيه أنفحة الميتة فدل ذلك على أن الأنفحة طاهرة وإن كانت

من ميتة وإذا ثبت بما وصفنا طهارة الأنفحة وإن كانت من ميتة ثبت طهارة لبن الميتة وأنفحتها ووجب أن يكون ذلك حكم البيضة الخارجة من الدجاجة الميتة لأنها تبين منها في حياتها وهي طاهرة يجوز أكلها فكذلك بعد موتها لأنها لو كانت مما يحتاج إلى ذكاة لما أباحها إلا ذكاة الأصل كسائر أعضائها لما كان شرط إباحتها الذكاة لم تحل إلا بذكاة الأصل
باب

شعر الميتة وصوفها والفراء وجلود السباع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومحمد بن صالح وعبيدالله بن الحسن يجوز الانتفاع بعظام الميتة ولا بأس بشعر الميتة وصوفها ولا يكون ميتة لأنه يؤخذ منها في حال الحياة وقال الليث لا ينتفع بعصب الميتة ولا بعقبها ولا أرى بأسا بالقرن والظلف أن ينتفع به ولا بأس بعظام الميتة ولا الشعر ولا الصوف حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسمعيل بن الفضل قال حدثنا سليمان بن عبدالرحمن الدمشقي قال حدثنا يوسف بن الشقر قال حدثنا الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال سمعت أم سلمة قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها وقرنها إذا اغتسل بالماء حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسمعيل بن الفضل قال حدثنا الحسن ابن عمر قال حدثنا عبدالله بن سلمة عن ابن أبي ليلى عن ثابت البناني عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال حدثني أبي أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم - فسأله رجل عن الصلاة في الفراء والمساتق قال وفي الدباغ عنكم وروى يحيى الحماني قال حدثنا سيف بن هارون البرجمي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم - عن الفراء والجبن والسمن فقال إن الحلال الذي أحل الله تعالى في القرآن والحرام الذي حرم الله تعالى في القرآن وما سكت عنه فهو عفو منه قال أبو بكر هذه الأخبار فيها إباحة الشعر والصوف والفراء والجبن من وجهين أحدهما ما ذكرناه في حديث أم سلمة من النص على إباحة الشعر والصوف من الميتة وحديث ابن أبي ليلى في إباحة الفراء والمساتق والآخر ما ذكر في حديث سلمان وفيه دلالة على الإباحة من وجهين أحدهما أنه لو كان محرما لأجابه النبي صلى الله عليه وسلم - بالتحريم والثاني أن مالم يذكر بتحريم ولا تحليل فهو مباح بقوله وما سكت عنه فهو عفو وليس في القرآن تحريم الشعر والصوف ونحوهما بل فيه ما يوجب الإباحة وهو قوله والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع والدفء ما يتدفأ به من شعرها ووبرها

وصوفها وذلك يقتضي إباحة الجميع من الميتة والحي وقال تعالى ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين فعم الجميع بالإباحة من غير فصل بين المذكى منه وبين الميتة ومن حظر هذه الأشياء من الميتة احتج فيه بقوله تعالى حرمت عليكم الميتة وذلك يتناولها بجميع أجزائها فإذا كان الصوف والشعر والعظام ونحوها من أجزائها اقتضت الآية تحريم جميعها فيقال له إنما المراد بالآية ما يتأتى فيه الأكل والدليل عليه قوله تعالى في الآية الأخرى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه فأخبر أن التحريم مقصور على ما يتأتى فيه الأكل وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

إنما حرم من الميتة لحمها وفي خبر آخر إنما حرم أكلها فأبان النبي ص
- عن مراد الله تعالى بتحريم الميتة فلما لم يكن الشعر والصوف والعظم ونحوها مما ذكرنا من المأكول لم يتناولها التحريم ومن حيث خصصنا جلد الميتة والمدبوغ بالإباحة للآثار الواردة فيه وجب تخصيص الشعر والصوف وما لا يتأتى فيه الأكل من جملة المحرم بالآثار المروية فيها مما قدمنا ذكره ويدل عليه أيضا من جهة أخرى وهي أن جلد الميتة لما كان خروجه عن حد الأكل بالدباغ مبيحا له وجب أن يكون ذلك حكم سائر ما لا يتأتى فيه الأكل منها من الشعر والصوف ونحوهما ويدل عليه أيضا أن الأخبار الواردة في إباحة الانتفاع بجلود الميتة لم يذكر فيها حلق الشعر والصوف عنها بل فيها الإباحة على الإطلاق فاقتضى ذلك إباحة الإنتفاع بها بما عليها من الشعر والصوف ولو كان التحريم ثابتا في الصوف والشعر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم - لعلمه أن الجلود لا تخلو من أجزاء الحيوان مما ليس فيه حياة وما لا حياة فيه لا يلحقه حكم الموت ووجود النماء فيها لا يوجب لها حياة لأن الشجر والنبات ينميان ولا حياة فيهما ولا يلحقهما حكم الموت فكذلك الشعر والصوف ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميت ويبين منها الشعر والصوف ولا يلحقهما حكم الموت فلو كان مما يلحقهما حكم الموت لوجب أن لا يحل إلا بذكاة الأصل كسائر أعضاء الحيوان فدل ذلك على أنه لا يلحقه حكم الموت ولا يحتاج إلى ذكاة وقد روي عن الحسن ومحمد بن سيرين وسعيد بن المسيب

وإبراهيم إباحة شعر الميتة وصوفها وروي عن عطاء كراهية الميتة وعظام الفيل وعن طاوس كراهة عظام الفيل وروي عن ابن عمر أنه رأى على رجل فروا فقال لو أعلمه ذكيا لسرني أن يكون لي منه ثوب وذكر أنس أن عمر رأى على رجل قلنسوة ثعلب فنزعها وقال ما يدريك لعله مما لم يذك وقد اختلف في جلود السباع فكرهها قوم وأباحها أصحابنا ومن قدمنا ذكره من الصحابة والتابعين وقد روى عطاء عن ابن عباس وأبو الزبير عن جابر ومطرف عن عمار إباحة الانتفاع بجلود السباع وعن علي بن حسين والحسن وإبراهيم والضحاك وابن سيرين لا بأس بلبس جلود السباع وعن عطاء عن عائشة في الفراء دباغها ذكاتها فإن قال قائل روى قتادة عن أبي المليح عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه نهى عن جلود السباع وقتادة عن أبي شيخ الهنائي أن معاوية قال لنفر من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن سروج النمور أن يركب عليها قالوا نعم وقد تنازع أهل العلم معنى هذين الحديثين فقال قائلون هذا نهي تحريم يقتضي تحريم لبسها على كل حال وقال آخرون هو على وجه الكراهية والتشبه بزي العجم كما روى أبو إسحاق عن هبيرة بن مريم عن علي قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن خاتم الذهب وعن لبس القسي وعن الثياب الحمر وما روي عن الصحابة في إباحة لبس جلود السباع والانتفاع بها يدل على أن النهي على وجه الكراهية والتشبه بالعجم وقد تقدم ذكر حديث سلمان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في إباحة لبس الفراء والانتفاع بها وقوله ص
- أيما إهاب دبغ فقد طهر وقوله دباغ الأديم ذكاته عام في جلود السباع وغيرها وهذا يدل على أن النهي عن جلود السباع ليس من جهة النجاسة بل على وجه الكراهة والتشبه بالعجم
باب
تحريم الدم
قال الله تعالى إنما حرم عليكم الميتة والدم وقال حرمت عليكم الميتة والدم فلو لم يرد في تحريمه غير هاتين الآيتين لاقتضى ذلك تحريم سائر الدماء قليلها وكثيرها فلما قال في آية أخرى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا دل ذلك على أن المحرم من الدم هو المسفوح دون غيره فإن قال قائل قوله أو دما مسفوحا خاص فيما كان منه على هذه الصفة وقوله في الآيتين الأخريين عام في سائر الدماء فوجب إجراؤه على عمومه إذ ليس في الآية ما يخصه قيل

له قوله أو دما مسفوحا جاء فيه نفي لتحريم سائر الدماء إلا ما كان منه بهذا الوصف لأنه قال قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم إلى قوله أو دما مسفوحا وإذا كان ذلك عل ما وصفنا لم يخل من أن يكون قوله إنما حرم عليكم الميتة والدم متأخرا عن قوله أو دما مسفوحا أو أن يكونا نزلا معا فلما عدمنا تاريخ نزول الآيتين وجب الحكم بنزولهما معا فلا يثبت حينئذ تحريم الدم إلا معقودا بهذه الصفة وهو أن يكون مسفوحا وحدثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن إسحق المروزي قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال لولا هذه الآية أو دما مسفوحا لاتبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله أو دما مسفوحا قال حرم من الدم ما كان مسفوحا وأما اللحم يخالطه الدم فلا بأس به وروى القاسم بن محمد عن عائشة أنها سئلت عن الدم يكون في اللحم والمذبح قالت إنما نهى الله عن الدم المسفوح ولا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم مع بقاء أجزاء الدم في العروق لأنه غير مسفوح ألا ترى أنه متى صب عليه الماء ظهرت تلك الأجزاء فيه وليس هو بمحرم إذ ليس هو مسفوحا ولما وصفنا قال أصحابنا إن دم البراغيث والبق والذباب ليس بنجس وقالوا أيضا إن دم السمك ليس بنجس لأنه يؤكل بدمه وقال مالك في دم البراغيث إذا تفاحش غسله ويغسل دم الذباب ودم السمك وقال الشافعي لا يفسد الوضوء غلا أن تقع منه نجاسة مندم أو بول أو غيره فعم الدماء كلها فإن قال قائل قوله حرمت عليكم الميتة والدم وقوله أو دما مسفوحا يوجب تحريم دم السمك لأنه مسفوح قيل له هذا مخصوص بقوله ص - أحلت لي ميتتان ودمان السمك والجراد فلما أباح السمك بما فيه من الدم من غير إراقة دمه وقد تلقى المسلمون هذا الخبر بالقبول في إباحة السمك من غير إراقة دمه وجب تخصيص الآية في إباحة دم السمك إذ لو كان محظورا لما حل دون إراقة دمه كالشاة وسائر الحيوان ذوات الدماء والله أعلم
باب تحريم الخنزير
قال الله تعالى إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقال تعالى حرمت

عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وقال تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فنص في هذه الآيات على تحريم لحم الخنزير والأمة عقلت من تأويله ومعناه مثل ما عقلت من تنزيله واللحم وإن كان مخصوصا بالذكر فإن المراد جميع أجزائه وإنما خص اللحم بالذكر لأنه أعظم منفعته وما يبتغى منه كما نص على تحريم قتل الصيد على المحرم والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد وخص القتل بالذكر لأنه أعظم ما يقصد به الصيد وكقوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فخص البيع بالنهي لأنه كان أعظم ما يبتغون من منافعهم والمعنى جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة وإنما نص على البيع تأكيدا للنهي عن الاشتغال عن الصلاة كذلك خص لحم الخنزير بالنهي تأكيدا لحكم تحريمه وحظرا لسائر أجزائه فدل على أن المراد بذلك جميع أجزائه وإن كان النص خاصا في لحمه وقد اختلف الفقهاء في جواز الإنتفاع بشعر الخنزير فقال أبو حنيفة ومحمد يجوز الإنتفاع به للخرز وقال أبو يوسف أكره الخرز به وروي عنه الإباحة وقال الأوزاعي لا بأس أن يخاط بشعر الخنزير ويجوز للخراز أن يشتريه ولا يبيعه وقال الشافعي لا يجوز الإنتفاع بشعر الخنزير قال أبو بكر لما كان المنصوص عليه في الكتاب من الخنزير لحمه وكان ذلك تأكيدا لحكم تحريمه على ما بينا جاز أن يقال أن التحريم قد يتناول الشعر وغيره وجائز أن يقال أن التحريم منصرف إلى ما كان فيه الحياة منه مما لم يألم بأخذه منه فأما الشعر فإنه لما لم يكن فيه حياة لم يكن من أجزاء الحي فلم يلحقه حكم التحريم كما بينا في شعر الميتة وأن حكم المذكى والميتة في الشعر سواء إلا أن من أباح الإنتفاع به من أصحابنا فذكر أنه إنما أجازه استحسانا وهذا يدل على أن التحريم قد تناول الجميع عندهم بما عليه من الشعر وإنما استحسنوا إجازة الإنتفاع به للخرز دون جواز بيعه وشرائه لما شاهدوا المسلمين وأهل العلم يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم عليهم فصار هذا عندهم إجماعا من السلف على جواز الإنتفاع به وظهور العمل من العامة في شيء مع إقرار السلف إياهم عليه وتركهم النكير عليهم يوجب إباحته عندهم وهذا مثل ما قالوا في إباحة دخول الحمام من غير شرط أجرة معلومة ولا مقدار معلوم لما يستعمله من الماء ولا مقدار مدة لبثه فيه لأن هذا كان ظاهرا مستفيضا في عهد السلف

من غير منكر به على فاعليه فصار ذلك إجماعا منهم وكذلك قالوا في الاستصناع أنهم أجازوه لعمل الناس ومرادهم فيه إقرار السلف الكافة على ذلك وتركهم النكير عليهم في استعماله فصار ذلك أصلا في جوازه ونظائر ذلك كثيرة واختلف أهل العلم في خنزير الماء فقال أصحابنا لا يؤكل وقال مالك وابن أبي ليلى والشافعي والأوزاعي لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر وقال الشافعي لا بأس بخنزير الماء ومنهم من يسميه حمار الماء وقال اللبث بن سعد لا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء قال أبو بكر ظاهر قوله ولحم الخنزير موجب لحظر جميع ما يكون منه في البر وفي الماء لشمول الإسم له فإن قيل إنما ينصرف هذا إلى خنزير البر لأنه الذي يسمى بهذا الاسم على الإطلاق وخنزير الماء لا يطلق عليه الاسم وإنما يسمى به مقيدا واسمه الذي يطلق عليه في العادة حمار الماء قيل له لا يخلو خنزير الماء من أن يكون على خلقة خنزير البر وصفته أو على غير ذلك فإن كان على هذه الخلقة فلا فرق بينهما في إطلاق الاسم عليه من قبل أن كونه في الماء لا يغير حكمه إذا كان في معناه وعلى خلقته إلا أن تقوم الدلالة على خصوصه وإن كان على خلقة أخرى غيرها ومن أجلها يسمى حمار الماء فكأنهم إنما أجروا اسم الخنزير على ما ليس بخنزير ومعلوم أن أحدا لم يخطئهم في التسمية فدل ذلك على أنه خنزير على الحقيقة وأن الاسم يتناوله على الإطلاق وتسميتهم إياه حمار الماء لا يسلبه اسم الخنزير إذ جائز أن يكونوا سموه بذلك ليفرقوا بينه وبين خنزير البر وكذلك كلب الماء وكلب البر سواء لا فرق بينهما إذ كان الاسم يتناول الجميع وإن خالفه في بعض أوصافه والله أعلم
باب

تحريم ما أهل به لغير الله
قال الله تعالى إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ولا خلاف بين المسلمين أن المراد به الذبيحة إذا اهل بها لغير الله عند الذبح فمن الناس من يزعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم كقوله تعالى وما ذبح على النصب وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب وقالوا إن الله تعالى قد أباح أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح على ذبائحهم وهو مذهب الأوزاعي والليث بن سعد أيضا وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي لا تؤكل

ذبائحهم إذا سموا عليها باسم المسيح وظاهر قوله تعالى وما أهل به لغير الله يوجب تحريمها إذا سمي عليها باسم غير الله لأن الإهلال به لغير الله هو إظهار غير اسم الله ولم يفرق في الآية بين تسمية المسيح وبين تسمية غيره بعد أن يكون الإهلال به لغير الله وقوله في آية أخرى وما ذبح على النصب وعادة العرب في الذبائح للأوثان غير مانع اعتبار عموم الآية فيما اقتضاه من تحريم ما سمي عليه غير الله تعالى وقد روى عطاء بن السائب عن زادان وميسرة أن عليا عليه السلام قال إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحال ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وأما ما احتج به القائلون بإباحة ذلك لإباحة الله طعام أهل الكتاب مع علمه بما يقولون فليس فيه دلالة على ما ذكر ولأن إباحة طعام أهل الكتاب معقودة بشريطة أن لا يهلوا لغير الله إذ كان الواجب علينا استعمال الآيتين بمجموعهما فكأنه قال وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم مالم يهلوا به لغير الله فإن قال قائل إن النصرانيإذا سمى الله فإنما يريد به المسيح عليه السلام فإذا كان إرادته كذلك ولم تمنع صحة ذبيحته وهو مع ذلك مهل به لغير الله كذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح قيل له لا يجب ذلك لأن الله تعالى إنما كلفنا حكم الظاهر لأن الإهلال هو إظهار القول فإذا أظهر اسم غير الله لم تحل ذبيحته لقوله وما أهل به لغير الله وإذا أظهر اسم الله فغير جائز لنا حمله على اسم المسيح عنده لأن حكم الأسماء أن تكون محمولة على حقائقها ولا تحمل على مالا يقع الاسم عليه عندنا ولا يستحقه ومع ذلك فليس يمتنع أن تكون العبادة علينا في اعتبار إظهار الاسم دون الضمير ألا ترى أن من أظهر القول بالتوحيد وتصديق الرسول ص -

كان حكمه حكم المسلمين مع جواز اعتقاده للتشبيه المضاد للتوحيد وكذلك قال
ص - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقد أعلمه الله أن في القوم منافقين يعتقدون غير ما يظهرون ولم يجرهم مع ذلك مجرى سائر المشركين بل حكم لهم فيما يعاملون به من أحكام الدنيا بحكم سائر المسلمين على ما ظهر من أمورهم دون ما بطن من ضمائرهم وكذلك جائز أن تكون صحة ذكاة النصراني متعلقة بإظهار اسم الله تعالى وأنه متى أظهر اسم المسيح لم تصح ذكاته كسائر المشركين إذا أظهروا على ذبائحهم

أسماء أوثانهم والله أعلم
باب

ذكر الضرورة المبيحة لأكل الميتة
قال الله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقال في آية أخرى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وقال فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم فقد ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات وأطلق الإباحة في بعضا بوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وجدت الضرورة فيها واختلف أهل العلم في معنى قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فقال ابن عباس والحسن ومسروق غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس وأباحوا للبغاة الخارجين على المسلمين أكل الميتة عند الضرورة كما أباحوه لأهل العدل وقال مجاهد وسعيد بن جبير إذا لم يخرج باغيا على إمام المسلمين ولم يكن سفره في معصية فله أن يأكل الميتة إذا اضطر إليها وإن كان سفره في معصية أو كان باغيا على الإمام لم يجز له أن يأكل وهو قول الشافعي وقوله إلا ما اضطررتم إليه يوجب الإباحة للجميع من المطيعين والعصاة وقوله في الآية الأخرى غير باغ ولا عاد وقوله غير متجانف لإثم لما كان محتملا أن يريد به البغي والعدوان في الأكل واحتمل البغي على الإمام أو غيره لم يجز لنا تخصيص عموم الآية الأخرى بالاحتمال بل الواجب حمله على ما يواطئ معنى العموم من غير تخصيص وأيضا فقد اتفقوا على أنه لو لم يكن سفره في معصية بل كان سفره لحج أو غزو أو تجارة وكان مع ذلك باغيا على رجل في أخذ ماله أو عاديا في ترك صلاة أو ذكاة لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعا من استباحة الميتة للضرورة فثبت بذلك أن قوله غير باغ ولا عاد لم يرد به إنفاء البغي والعدوان في سائر الوجوه وليس في الآية ذكر شيء منه مخصوص فيوجب ذلك كون اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان فلا يجوز تخصيص الآية الأولى به لتعذر استعماله على حقيقته وظاهره ومتى حملنا ذلك على البغي والتعدي في الأكل استعملنا اللفظ على عمومه وحقيقته فيما أريد به وورد فيه فكان حمله على ذلك أولى من وجهين أحدهما أنه يكون مستعملا على عمومه والآخر أنا لا نوجب به تخصيص قوله إلا ما اضطررتم

إليه وكذلك غير متجانف لإثم لا يخلو من أن يريد به مجانبة سائر الآثام حتى يكون شرط ا لإباحة للمضطر أن يكون غير متجانف لإثم أصلا في الأكل وغيره حتى إن كان مقيما على ترك رد مظلمة درهم أو ترك صلاة أو صوم لم يتب منه لا يحل له الأكل أو أن يكون جائز له الأكل مع كونه مقيما على ضرب من المعاصي بعد أن لا يكون سفره في معصية ولا خارجا على إمام وقد ثبت عند الجميع أن إقامته على بعض المعاصي لا تمنع استباحته للميتة عند الضرورة فثبت أن ذلك ليس بمراد ثم بعد ذلك يحتاج في إثبات المأثم الذي يمنع الإستباحة إلى دلالة من غير الآية وهذا يوجب إجمال اللفظ وافتقاره إلى البيان فيؤدي ذلك إلى وقوف حكم الآية على بيان من غيرها ومتى أمكننا استعمال حكم الآية وجب علينا استعمالها وجهة إمكان استعمالها ما وصفنا من إثبات المراد بغيا وتعديا في الأكل بأن لا يتناول منها إلا بمقدار ما يمسك الرمق ويزيل خوف التلف وأيضا قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ومن امتنع من المباح حتى مات كان قاتلا نفسه متلفا لها عند جميع أهل العلم ولا يختلف في ذلك عندهم حكم العاصي والمطيع بل يكون امتناعه عند ذلك من الأكل زيادة على عصيانه فوجب أن يكون حكمه وحكم المطيع سواء في استباحة الأكل عند الضرورة ألا ترى أنه لو امتنع من أكل المباح من الطعام معه حتى مات كان عاصيا لله تعالى وإن كان باغيا على الإمام خارجا في سفر معصية والميتة عند الضرورة بمنزلة المذكى في حال الإمكان والسعة فإن قيل قد يمكنه الوصول إلى استباحة أكل الميتة بالتوبة فإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه قيل له أجل هو كما قلت إلا أنه غير مباح له الجناية على نفسه بترك الأكل وإن لم يتب لأن ترك التوبة لا يبيح له قتل نفسه وهذا العاصي متى ترك الأكل في حال الضرورة حتى مات كان مرتكبا لضربين من المعصية أحدهما خروجه في معصية والثاني جنايته على نفسه بترك الأكل وأيضا فالمطيع والعاصي لا يختلفان فيما يحل لهما من المأكولات أويحرم ألا ترى أن سائر المأكولات التي هي مباحة للمطيعين هي مباحة للعصاة كسائر الأطعمة والأشربة المباحة وكذلك ما حرم من الأطعمة والأشربة لا يختلف في تحريمه حكم المطيعين والعصاة فلما كانت الميتة مباحة للمطيعين عند الضرورة وجب أن يكون كذلك حكم العصاة فيها كسائر الأطعمة المباحة في غير حال الضرورة فإن قال قائل إباحة الميتة رخصة للمضطر ولا رخصة للعاصي

قيل له قد انتظمت هذه المعارضة الخطأ من وجهين أحدهما قولك إباحة الميتة رخصة للمضطر وذلك لأن أكل الميتة فرض على المضطر والإضطرار يزيل الحذر ومتى امتنع المضطر من أكلها حتى مات صار قاتلا لنفسه بمنزلة من ترك أكل الخبز وشرب الماء في حال الإمكان حتى مات كان عاصيا لله جانيا على نفسه ولا خلاف في أن هذا حكم المضطر إلى الميتة غير الباغي فقول القائل إباحة الميتة رخصة للمضطر بمنزلة قوله لو قال إن إباحة أكل الخبز وشرب الماء رخصة لغير المضطر ولا يطلق هذا أحد يعقل لأن الناس كلهم يقولون فرض على المضطر إلى الميتة أكلها فلا فرق بينهما ولما لم يختلف العاصي والمطيع في أكل الخبز وشرب الماء كذلك في أكل الميتة عند الضرورة وأما الوجه الثاني من الخطأ فهو قولك أنه لا رخصة للعاصي وهذه قضية فاسدة بإجماع المسلمين لأنهم رخصوا للمقيم العاصي الإفطار في رمضان إذا كان مريضا وكذلك يرخصون له في السفر التيمم عند عدم الماء ويرخصون للمقيم العاصي أن يمسح يوما وليلة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه رخص للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع فبان بما وصفنا فساد هذه المقالة وقوله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وقوله فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم كل واحد من هذين فيه ضمير لا يستغني عنه الكلام وذلك لأن وقوع الضرورة ليس من فعل المضطر فيكون قوله فلا إثم عليه وقوله فإن الله غفور رحيم خبر له وقوله فمن اضطر لا بد له من خبر به تم الكلام إذ لم يكن الحكم متعلقا بنفس الضرورة وخبره الذي يتم به الكلام ضميره وهو الأكل فكان تقديره فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه ثم قوله غير باغ ولا عاد على قول من يقول غير باغ في الميتة ولا عاد في الأكل فيكون البغي والعدوان حالا للأكل وتقديره على قول من يقول غير باغ ولا عاد على المسلمين فمن اضطر غير باغ ولا عاد على المسلمين فأكل فلا إثم عليه فيكون البغي والعدوان حالا له عند الضرورة قبل أن يأكل فلا يكون ذلك صفة للأكل وعند الأولين يكون صفة للأكل والحذف في هذا الموضع كالحذف في قوله فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر والمعنى فأفطر فعدة من أيام أخر فحذف فأفطر وقوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ومعناه فحلق ففدية وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالمحذوف

ودلالة الخطاب عليه وهذا يوجب أن يكون حمله على البغي والعدوان في الأكل أولى منه على المسلمين وذلك لأنه لم يتقدم للمسلمين في الآية ذكر لا محذوفا ولا مذكورا كحذف الأكل فحمله على ما في مقتضى الآية بأن يكون حالا له فيه وصفة أولى من حمله على معنى لم يتضمنه اللفظ لا محذوفا ولا مذكورا وأما قوله إلا ما اضطررتم إليه فلا ضمير فيه ولا حذف لأنه لفظ مستغن بنفسه إذ هو استثناء من جملة مفهومة المعنى وهو التحريم بقوله وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه فإنه مباح لكم وهذا اللفظ مستغن عن الضمير ومعنى الضرورة ههنا هو خوف الضرر على نفسه أو بعض أعضائه بتركه الأكل وقد انطوى تحته معنيان أحدهما أن يحصل في موضع لا يجد غير الميتة والثاني أن يكون غيرها موجودا ولكنه أكره على أكلها بوعيد يخاف منه تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه وكلا المعنيين مراد بالآية عندنا لاحتمالهما وقد روي عن مجاهد أنه تأولها على ضرورة الإكراه ولأنه إذا كان المعنى في ضرورة الميتة ما يخاف على نفسه من الضرر في ترك تناوله وذلك موجود في ضرورة الإكراه وجب أن يكون حكمه حكمه ولذلك قال أصحابنا فيمن أكره على أكل المينة فلم يأكلها حتى قتل كان عاصيا لله كمن اضطر إلى ميتة بأن عدم غيرها من المأكولات فلم يأكل حتى مات كان عاصيا كمن ترك الطعام والشراب وهو واجدهما حتى مات فيموت عاصيا لله بتركه الأكل لأن أكل الميتة مباح في حال الضرورة كسائر الأطعمة في غير حال الضرورة والله أعلم
باب

المضطر إلى شرب الخمر
قال أبو بكر وقد اختلف في المضطر إلى شرب الخمر فقال سعيد بن جبير المطيع المضطر إلى شرب الخمر يشربها وهو قول أصحابنا جميعا وإنما يشرب منها مقدار ما يمسك به رمقه إذ كان يرد عطشه وقال الحارث العكلي ومكحول لا يشرب لأنها لا تزيده إلا عطشا وقال مالك والشافعي لا يشرب لأنها لا تزيده إلا عطشا وجوعا وقال الشافعي ولأنها تذهب بالعقل وقال مالك إنما ذكرت الضرورة في الميتة ولم تذكر في الخمر قال أبو بكر في قول من قال إنها لا تزيل ضرورة العطش والجوع لا معنى له من وجهين أحدهما أنه معلوم من حالها أنها تمسك الرمق عند الضرورة وتزيل العطش ومن أهل الذمة فيما بلغنا من لا يشرب الماء دهرا إكتفاء بشرب الخمر عنه فقولهم في ذلك غير المعقول

المعلوم من حال شاربها والوجه الآخر أنه إن كان كذلك كان الواجب أن نحيل مسئلة السائل عنها ونقول إن الضرورة لا تقع إلى شرب الخمر وأما قول الشافعي في ذهاب العقل فليس من مسئلتنا في شيء لأنه سئل عن القليل الذي لا يذهب العقل إذا اضطر إليه وأما قول مالك أن الضرورة إنما ذكرت في الميتة ولم تذكر في الخمر فإنها في بعضها مذكورة في الميتة وما ذكر معها وفي بعضها مذكورة في سائر المحرمات وهو قوله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وقد فصل لنا تحريم الخمر في مواضع من كتاب الله في قوله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير وقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم وقال إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه وذلك يقتضي التحريم والضرورة المذكورة في الآية منتظمة لسائر المحرمات وذكره لها في الميتة وما عطف عليها غير مانع من اعتبار عموم الآية الأخرى في سائر المحرمات ومن جهة أخرى أنه إذا كان المعنى في إباحة الميتة إحياء نفسه بأكلها وخوف التلف في تركها وذلك موجود في سائر المحرمات وجب أن يكون حكمها حكمها لوجود الضرورة والله أعلم
باب

في مقدار ما يأكل المضطر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي فيما رواه عنه المزني لا يأكل المضطر من الميتة إلا مقدار ما يمسك به رمقه وروى ابن وهب عن مالك أنه قال يأكل منها حتى يشبع ويتزود منها فإن وجد عنها غنى طرحها وقال عبدالله بن الحسن العنبري يأكل منها ما يسد به جوعه قال أبو بكر قال الله تعالى إلا ما اضطررتم إليه وقال فمن اضطر غير باغ ولا عاد فعلق الإباحة بوجود الضرورة والضرورة هي خوف الضرر بترك الأكل إما على نفسه أو على عضو من أعضائه فمتى أكل بمقدار ما يزول عنه الخوف من الضرر في الحال فقد زالت الضرورة ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة لأن الجوع في الإبتداء لا يبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه وأيضا في قوله تعالى فمن اضطر غير باغ ولا عاد فقد بينا أن المراد منه غير باغ ولا عاد في الأكل ومعلوم أنه لم يرد الأكل منها فوق الشبع لأن ذلك محظورا في الميتة وغيرها من المباحات فوجب أن يكون المراد غير باغ في الأكل منها مقدار الشبع فيكون البغي والتعدي واقعين في أكله منها مقدار

الشبع حتى يكون لاختصاصه الميتة بهذا الوصف وعقده الإباحة بهذه الشريطة فائدة وهو أن لا يتناول منها إلا مقدار زوال خوف الضرورة ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة ثم إذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة وكذلك إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر حرم عليه أكلها إذ ليس أكل الميتة بأولى بإباحة الأكل بعد زوال الضرورة من الطعام الذي هو مباح في الأصل وقد روى الأوزاعي عن حسان بن عطية الميثي أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم - فقال إنا نكون بالأرض تصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة قال متى مالم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تجدوا بها بقلا فشأنكم بها فلم يبح لهم الميتة إلا إذا لم يجدوا صبوحا وهو شرب الغداء أو عبوقا وهو شرب العشاء أو يجدوا بقلا يأكلونه لأن من وجد غداء أو عشاء أو بقلا فليس بمضطر وهذا يدل على معنيين أحدهما أن الضرورة هي المبيحة للميتة دون حال المضطر في كونه مطيعا أو عاصيا إذ لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم - للسائل بين حائل المطيع والعاصي في إباحته بل سوى بينهما والثاني أن إباحة الميتة مقصورة على حال خوف الضرر والله أعلم
باب

هل في المال حق واجب سوى الزكاة
قال الله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الآية قيل في قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أنه يريد به اليهود والنصارى حين أنكرت نسخ القبلة فأعلم الله تعالى أن البر إنما هو طاعة الله تعالى واتباع أمره لا في التوجه إلى المشرق والمغرب إذا لم يكن فيه اتباع أمره وأن طاعة الله الآن في التوجه إلى الكعبة إذ كان التوجه إلى غيرها منسوخا وقوله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر قيل أن فيه حذفا ومعناه أن البر بر من آمن بالله وقيل إنه أراد به أن البار من آمن بالله كقول الخنساء ... ترتع ما رتعت حتى إذا أدركت ... فإنما هي إقبال وإدبار ...
يعني مقبلة ومدبرة وقوله تعالى
وآتى المال على حبه يعني أن البار من آتى المال على حبه قيل فيه أنه يعني حب المال كقوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقيل إنه يعني حب الإيتاء وأن لا يكون متسخطا عند الإعطاء ويحتمل أن يكون أراد على حب

الله تعالى كقوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني وجائز أن يكون مراده جميع هذه الوجوه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما يدل على أنه أراد حب المال وهو ما رواه جرير بن عبدالحميد عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله أي الصدقة أفضل فقال أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان وحدثنا أبو القاسم عبدالله بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا الثوري عن زبيد عن مرة عن عبدالله بن مسعود في قوله تعالى وآتى المال على حبه قال أن تؤتيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر وقوله تعالى وآتى المال على حبه ذوي القربى يحتمل به أن يريد به الصدقة الواجبة وأن يريد به التطوع وليس في الآية دلالة على أنها ا لواجبة وإنما فيها حث على الصدقة ووعد بالثواب عليها وذلك لأن أكثر ما فيها أنها من البر وهذا لفظ ينطوي على الفرض والنفل إلا أن في سياق الآية ونسق التلاوة ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة لقوله تعالى وأقام الصلاة وآتى الزكاة فلما عطف الزكاة عليها دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها ومن الناس من يقول أراد به حقوقا واجبة في المال سوى الزكاة نحو وجوب صلة الرحم إذا وجده ذا ضر شديد ويجوز أن يريد من قد أجهده الجوع حتى يخاف عليه التلف فيلزمه أن يعطيه ما يسد جوعته وقد روى شريك عن أبي حمزة عن عامر عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال في المال حق سوى الزكاة وتلا قوله تعالى
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الآية وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الإبل فقال إن فيها حقا فسئل عن ذلك فقال إطراق فحلها وإعارة ذلولها ومنحة سمينها فذكر في هذين الحديثين أن في المال حقا سوى الزكاة وبين في الحديث الأول أنه تأويل قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم الآية وجائز أن يريد بقوله في المال حق سوى الزكاة ما يلزم من صلة الرحم بالإنفاق على ذوي المحارم الفقراء ويحكم به الحاكم عليه لوالديه وذوي محارمه إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب وجائز أن يريد به ما يلزمه من طعام الجائع المضطر وجائز أن يريد به حقا مندوبا إليه لا واجبا إذ ليس قوله في المال حق يقتضي

الوجوب إذ من الحقوق ما هو ندب ومنها ما هو فرض وحدثنا عبدالباقي حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان قال حدثنا كثير بن عبيد حدثنا بقية عن رجل من بني تميم يكنى أبا عبدالله عن الضبي الشعبي عن مسروق عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نسخت الزكاة كل صدقة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا علي بن سعيد قال حدثنا المسيب بن شريك عن عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي قال نسخت الزكاة كل صدقة فإن صح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم - فسائر الصدقات الواجبة منسوخة بالزكاة وإن لم يصح ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - لجهالة راويه فإن حديث علي عليه السلام حسن السند وهو يوجب أيضا إثبات نسخ الصدقات التي كانت واجبة بالزكاة وذلك لا يعلم إلا من طريق التوقيف فيعلم بذلك أن ما قاله علي هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم - إياه عليه وحينئذ يكون المنسوخ من الصدقات صدقات قد كانت واجبة ابتداء بأسباب من قبل من يجب عليه تقتضي لزوم إخراجها ثم نسخت بالزكاة نحو قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ونحو ما روي في قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده إنه منسوخ عند بعضهم بالعشر ونصف العشر فيكون المنسوخ بالزكاة مثل هذه الحقوق الواجبة في المال من غير ضرورة وأما ما ذكرنا من الحقوق التي تلزم من نحو الإنفاق على ذوي الأرحام عند العجز عن التكسب وما يلزم من إطعام المضطر فإن هذه فروض لازمة ثابتة غير منسوخة بالزكاة وصدقة الفطر واجبة عند سائر الفقهاء ولم تنسخ بالزكاة مع أن وجوبها ابتداء من قبل الله تعالى غير متعلق بسبب من قبل العبد فهذا يدل على أن الزكاة لم تنسخ صدقة الفطر وقد روى الواقدي عن عبدالله بن عبدالرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - بزكاة الفطر قبل أن تفرض الزكاة فلما فرضت الزكاة لم يأمرهم ولم ينههم وكانوا يخرجونها فهذا الخبر لو صح لم يدل على نسخها لأن وجوب الزكاة لا ينفي بقاء وجوب صدقة الفطر وعلى أن الأولى أن فرض الزكاة متقدم على صدقة الفطر لأنه لا خلاف بين السلف في أن حم السجدة مكية وأنها من أوائل ما نزل من القرآن وفيها وعيد تارك الزكاة عند قوله وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون والأمر بصدقة الفطر إنما كان بالمدينة فدل ذلك على أن فرض الزكاة متقدم لصدقة الفطر وقد روي عن ابن عمر

ومجاهد في قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده أنها محكمة وأنه حق واجب عند القوم غير الزكاة وأما الحقوق التي تجب بأسباب من قبل العبد نحو الكفارات والنذور فلا خلاف أن الزكاة لم تنسخها واليتامى المرادون بالآية هم الصغار الفقراء الذين مات آباؤهم والمساكين مختلف فيه وسنذكر ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى وابن السبيل روي عن مجاهد أنه المسافر وعن قتادة أنه الضيف القول الأول أشبه لأنه إنما سمي ابن السبيل لأنه على الطريق كما قيل للطير الأوز ابن ماء لملازمته له قال ذو الرمة ... وردت اعتسافا والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق ...

والسائلين يعني به الطالبين للصدقة قال الله تعالى
وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثنا مصعب بن محمد قال حدثنا يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت حسين بن علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - للسائل حق وإن جاء على فرس حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبيد بن شريك حدثنا أبو الجماهر قال حدثنا عبدالله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أعطوا السائل وإن أتى على فرس والله تعالى أعلم
باب
القصاص
قال الله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى هذا كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده ألا ترى أنه لو اقتصر عليه لكان معناه مفهوما من لفظه واقتضى ظاهره وجوب القصاص على المؤمنين في جميع القتلى والقصاص هو أن يفعل به مثل ما فعل به من قولك اقتص أثر فلان إذا فعل مثل فعله قال الله تعالى فارتدا على آثارهما قصصا وقال تعالى وقالت لأخته قصيه أي ابتغي أثره وقوله كتب عليكم معناه فرض عليكم كقوله تعالى كتب عليكم الصيام و كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات يعني بها المفروضات فانتظمت الآية إيجاب القصاص على المؤمنين إذا قتلوا لمن قتلوا من سائر المقتولين لعموم لفظ المقتولين والخصوص إنما هو في القاتلين لأنه لا يكون

القصاص مكتوبا عليهم إلا وهم قاتلون فاقتضى وجوب القصاص على كل قاتل عمدا بحديدة إلا ما خصه الدليل سواء كان المقتول عبدا أو ذميا ذكرا أو أنثى لشمول لفظ القتلى للجميع وليس توجيه الخطاب إلى المؤمنين بإيجاب القصاص عليهم في القتلى بموجب أن يكون القتلى مؤمنين لأن علينا اتباع عموم اللفظ مالم تقم دلالة الخصوص وليس في الآية ما يوجب خصوص الحكم في بعض القتلى دون بعض فإن قال قائل يدل على خصوص الحكم في القتلى وجهان أحدهما في نسق الآية فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف والكافر لا يكون أخا للمسلم فدل على أن الآية خاصة في قتلى المؤمنين والثاني قوله الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أنه إذا كان أول الخطاب قد شمل الجميع فما عطف عليه بلفظ الخصوص لا يوجب تخصيص عموم اللفظ وذلك نحو قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وهو عموم في المطلقة ثلاثا وما دونها ثم عطف قوله تعالى فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وهذا الحكم خاص في المطلق لما دون الثلاث ولم يوجب ذلك تخصيص عموم اللفظ في إيجاب ثلاثة قروء من العدة على جميعهن ونظائر هذا كثير في القرآن والوجه الآخر أن يريد الأخوة من طريق النسب لا من جهة الدين كقوله تعالى وإلى عاد أخوهم هودا وأما قوله الحر بالحر والعبد بالعبد فلا يوجب تخصيص عموم اللفظ في القتلى لأنه إذا كان أول الخطاب مكتفيا بنفسه غير مفتقر إلى ما بعده لم يجز لنا أن نقصره عليه وقوله الحر بالحر إنما هو بيان لما تقدم ذكره على وجه التأكيد وذكر الحال التي خرج عليها الكلام وهو ما ذكره الشعبي وقتادة أنه كان بين حيين من العرب قتال وكان لأحدهما طول على الآخر فقالوا لا نرضى إلا أن نقتل بالعبد منا الحر منكم وبالأنثى منا الذكر منكم فأنزل الله كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد مبطلا بذلك ما أرادوه مؤكدا عليهم فرض القصاص على القاتل دون غيره لأنهم كانوا يقتلون غير القاتل فنهاهم الله عن ذلك وهو ما روى عنه ص -

أنه قال من أعتى الناس على الله يوم القيامة ثلاثة رجل قتل غير قاتله
ورجل قتل في الحرم ورجل أخذ بذحول الجاهلية وأيضا فإن قوله تعالى الحر بالحر والعبد بالعبد تفسير لبعض ما انتظمه عموم اللفظ ولا يوجب ذلك تخصيص

اللفظ ألا ترى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم -

الحنطة بالحنطة مثلا بمثل وذكره الأصناف الستة لم يوجب أن يكون حكم الربا
مقصورا عليها ولا نفي الربا عما عداها كذلك قوله الحر بالحر لا ينفي اعتبار عموم اللفظ في قوله كتب عليكم القصاص في القتلى ويدل على أن قوله الحر بالحر غير موجب لتخصيص عموم القصاص ولم ينف القصاص عن غير المذكور اتفاق الجميع على قتل العبد بالحر والأنثى بالذكر فثبت بذلك أن تخصيص الحر بالحر لم ينف موجب حكم اللفظ في جميع القتلى فإن قال قائل كيف يكون القصاص مفروضا والولي مخير بين العفو وبين القصاص قيل له لم يجعله مفروضا على الولي وإنما جعله مفروضا على القاتل للولي بقوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وليس القصاص على الولي وإنما هو حق له وهذا لا ينفي وجوبه على القاتل وإن كان الذي له القصاص مخيرا فيه وهذه الآية تدل على قتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي والرجل بالمرأة لما بينا من اقتضاء أول الخطاب إيجاب عموم القصاص في سائر القتلى وأن تخصصه الحر بالحر ومن ذكر معه لا يوجب الإقتصار بحكم القصاص عليه دون اعتبار عموم ابتداء الخطاب في إيجاب القصاص ونظيرها من الآي في إيجاب القصاص عاما قوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فانتظم ذلك جميع المقتولين ظلما وجعل لأوليائهم سلطانا وهو القود لاتفاق الجميع على أن القود مراد بذلك في الحر المسلم إذا قتل حرا مسلما فكان بمنزلة قوله تعالى فقد جعلنا لوليه قودا لأن ما حصل الاتفاق عليه من معنى الآية مراد فكأنه منصوص عليه فيها بلفظ السلطان وإن كان مجملا فقد عرف معنى مراده من طريق الاتفاق وقوله ومن قتل مظلوما هو عموم يصح اعتباره على حسب ظاهره ومقتضى لفظه ونظيرها أيضا من الآي قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس فأخبر أن ذلك كان مكتوبا على بني إسرائيل وهو عموم في إيجاب القصاص في سائر المقتولين وقد احتج أبو يوسف بذلك في قتل الحر بالعبد وهذا يدل على أن مذهبه أن شريعة من كان قبلنا من الأنبياء ثابتة علينا مالم يثبت نسخها على لسان الرسول ص - ولا نجد في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخ ذلك فوجب أن يكون حكمه ثابتا علينا على حسب ما اقتضاه ظاهر لفظه من إيحاب القصاص في سائر الأنفس ونظيره أيضا قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم

لأن من قتل وليه يكون معتدي وذلك عموم في سائر القتلى وكذلك قوله وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به يقتضي عمومه وجوب القصاص في الحر والعبد والذكر والأنثى والمسلم والذمي مسئلة في قتل الحر بالعبد قال أبو بكر وقد اختلف الفقهاء في القصاص بين الأحرار والعبيد فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر رضي الله عنهم لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس ويقتل الحر بالعبد والعبد بالحر وقال ابن أبي ليلى القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات التي نستطيع فيها القصاص وقال ابن وهب عن مالك ليس بين الحر والعبد قود في شيء من الجراح والعبد يقتل بالحر ولا يقتل الحر بالعبد وقال الليث بن سعد إذا كان العبد هو الجاني اقتص منه ولا يقتص من الحر للعبد وقال إذا قتل العبد الحر فلولي المقتول أن يأخذ بها نفس العبد القاتل فيكون له وإذا جنى على الحر فيما دون النفس فللمجروح القصاص إن شاء وقال الشافعي من جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه في الجراح ولا يقتل الحر بالعبد ولا يقتص له منه فيما دون النفس وجه دلالة الآية في وجوب القصاص بين الأحرار والعبيد في النفس أن الآية مقصورة الحكم على ذكر القتلى وليس فيها ذكر لما دون النفس من الجراح وسائر ما ذكرنا من عموم آي القرآن في بيان القتلى والعقوبة والاعتداء يقتضي قتل الحر بالعبد ومن حيث اتفق الجميع على قتل العبد بالحر وجب قتل الحر بالعبد لأن العبد قد ثبت أنه مراد الآية والآية لم يفرق مقتضاها بين العبد المقتول والقاتل فهي عموم فيها جميعا ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب فأخبر أنه أوجب القصاص لأن فيه حياة لنا وذلك خطاب شامل للحر والعبد لأن صفة أولي الألباب تشملهم جميعا فإذا كانت العلة موجودة في الجميع لم يجز الاقتصار بحكمها على بعض من هي موجودة فيه دون غيره ويدل عليه من جهة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم - المسلمون تتكافأ دماؤهم وهو عام في العبيد والأحرار فلا يخص منه شيء إلا بدلالة ويدل عليه من وجه آخر وهو اتفاق الجميع على أن العبد إذا كان هو القاتل فهو مراد به كذلك إذا كان مقتولا لأنه لم يفرق بينه إذا كان قاتلا أو مقتولا فإن قيل لما قال في سياق الحديث ويسعى بذمتهم أدناهم وهو العبد يدل على أنه لم يرده بأول الخطاب قيل له هذا غلط من قبل أنه لا خلاف أن العبد إذا كان قاتلا فهو مراد ولم يمنع قوله ويسعى بذمتهم أدناهم

أن يكون مرادا إذا كان قاتلا كذلك لايمنع إرادته إذا كان مقتولا على أن قوله ويسعى بذمتهم أدناهم ليس فيه تخصيص العبد من غيره وإنما المراد أدناهم عددا هو كقوله واحد منهم فلا تعلق لذلك في إيجاب اقتصار حكم أول اللفظ على الحر دون العبد وعلى أنه لو قال ويسعى بذمتهم عبدهم لم يوجب تخصيص حكمه في مكافأة دمه لدم الحر لأن ذلك حكم آخر استأنف له ذكرا وخص به العبد ليدل على أن غير العبد أولى بالسعي بذمتهم فإذا كان تخصيص العبد بالذكر في هذا الحكم لم يوجب أن يكون مخصوصا به دون الآخر فلأن لا يوجب تخصيص حكم القصاص أولى فإن قيل قوله المسلمون تتكافأ دماؤهم يقتضي التماثل في الدماء وليس العبد مثلا للحر قيل له فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم -

مثلا له في الدم إذ علق حكم التكافؤ منهم بالإسلام ومن قال ليس بمكاف له
فهو خارج على حكم النبي صلى الله عليه وسلم - مخالف بغير دلالة ويدل عليه أيضا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن عبدالله بن مرة عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وإني رسول الله إلا في إحدى ثلاث التارك للإسلام المفارق للجماعة والثيب الزاني والنفس بالنفس فلم يفرق بين الحر والعبد وأوجب القصاص في النفس بالنفس وذلك موافق لما حكى الله مما كتبه على بني إسرائيل فحوى هذا الخبر معنيين أحدهما أن ما كان على بني إسرائيل من ذلك فحكمه باق علينا والثاني أنه مكتف بنفسه في إيجاب القصاص عاما في سائر النفوس ويدل عليه أيضا من جهة السنة ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن زكريا التستري قال حدثنا سهل بن عثمان العسكري أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول فقد دل هذا الخبر على معنيين أحدهما إيجاب القود في كل عمد وأوجب ذلك القود على قتل العبد والثاني نفى به وجوب المال لأنه لو وجب المال مع القود على وجه التخيير لما اقتصر على ذكر القود دونه ويدل أيضا عليه من جهة النظر أن العبد محقون الدم حقنا لا يرفعه مضي الوقت وليس بولد للقاتل ولا ملك له فأشبه الحر الأجنبي فوجب القصاص بينهما كما يجب على العبد إذا قتل حرا بهذه العلة كذلك إذا قتله الحر لوجود العلة فيه وأيضا فمن منع أن يقاد الحر بالعبد فإنما منعه لنقصان الرق الذي

فيه ولا اعتبار بالمساواة في الأنفس وإنما يعتبر ذلك فيما دونها والدليل على ذلك أن عشرة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولم تعتبر المساواة وكذلك لو أن رجلا صحيح الجسم سليم الأعضاء قتل رجلا مفلوجا مريضا مدنفا مقطوع الأعضاء قتل به وكذلك الرجل يقتل بالمرأة مع نقصان عقلها ودينها وديتها ناقصة عن دية الرجل فثبت بذلك أن لا اعتبار بالمساواة في إيجاب القصاص في الأنفس وأن الكامل يقاد منه للناقص وليس ذلك حكم ما دون النفس لأنهم لا يختلفون في أنه لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء وتؤخذ النفس الصحيحة بالسقيمة وروى الليث عن الحكم أن عليا وابن مسعود قالا من قتل عبدا عمدا فهو قود
باب

قتل المولى لعبده
وقد اختلف في قتل المولى لعبده فقال قائلون وهم شواذ يقتل به وقال عامة الفقهاء لا يقتل به فمن قتله احتج بظاهر قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر على نحو ما احتججنا به في قتل الحر بالحر وقوله النفس بالنفس وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وقوله ص المسلمون تتكافأ دماؤهم وقد روي حديث عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه أما ظاهر الآي فلا حجة
لهم فيها لأن الله تعالى إنما جعل القصاص فيها للمولى بقوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وولي العبد هو مولاه في حياته وبعد وفاته لأن العبد لا يملك شيئا وما يملكه فهو لمولاه لا من جهة الميراث لكن من جهة الملك فإذا كان هو الولي لم يثبت له القصاص على نفسه وليس هو بمنزلة من قتل وارثه فيجب عليه القصاص ولا يرثه لأن ما يحصل للوارث إنما ينتقل عن ملك المورث إليه والقاتل لا يرث فوجب عليه القصاص لغيره والعبد لا يملك شيئا فينتقل إلى مولاه ألا ترى أنه لو قتل ابن العبد لم يثبت له القصاص على قاتله لأنه لا يملك فكذلك لا يثبت له القصاص على غيره ومتى وجب له القود على قاتله فإنما يستحقه مولاه دونه فلم يجز من أجل ذلك إيجاب القصاص على مولاه بقتله إياه ويدل على أن العبد لا يثبت له ذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فنفى بذلك ملك العبد نفيا عاما عن كل شيء فلم يجز أن يثبت له بذلك على أحد شيء وإذا لم يجز أن يثبت له ذلك لأجل أنه ملك لغيره والمولى

إذا استحق ما يجب له فلا يجب له القود على نفسه وليس العبد في هذا كالحر لأن الحر يثبت له القصاص ثم من جهته ينتقل إلى وارثه ولذلك يستحقونه بينهم على قدر مواريثهم فمن حرم ميراثه بالقتل لم يرثه القود فكان القود لمن يرثه فإن قيل ليس دم العبد في هذا الوجه كماله لأن المولى لا يملك قتله ولا الإقرار عليه بالقتل فهو بمنزلة الأجنبي فيه قيل له إن كان المولى لا يملك قتله ولا الإقرار عليه به ولكنه وليه وهو المستحق للقصاص على قاتله إذا كان أجنبيا من حيث كان مالكا لرقبته لا من جهة الميراث ألا ترى أنه المستحق للقود على قاتله دون أقربائه فدل ذلك على أنه يملك القود به كما يملك رقبته فإذا كان هو القاتل لم يجز أن يستحق القود غيره عليه فاستحال من أجل ذلك وجوب القود له على نفسه وأيضا فقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه لا يجوز أن يكون خطابا للمولى إذا كان هو المعتدي بقتل عبده لأنه وإن كان معتديا على نفسه بقتل عبده وإتلاف ملكه فغير جائز خطابه باستيفاء القود من نفسه وغير جائز أن يكون غيره مخاطبا باستيفاء القود منه لأنه غير معتد عليه والله تعالى إنما أوجب الحق لمن اعتدي عليه دون غيره فإن قال قائل يقيد الإمام منه كما يقيد ممن قتل رجلا لا وارث له قيل له إنما يقوم الإمام بما ثبت من القود لكافة المسلمين إذا كانوا مستحقين لميراثه والعبد لا يورث فيثبت الحق في الاقتصاص من قاتله لكافة المسلمين ولا جائز أن يثبت ذلك للإمام ألا ترى أنه لو قتل العبد خطأ كان المولى هو المستحق لقيمته على قاتله دون سائر المسلمين ودون الإمام وأن الحر الذي لا وارث له لو قتل خطأ كانت ديته لبيت المال فكذلك القود لو ثبت على المولى لما استحقه الإمام ولكان المولى هو الذي يستحقه ويستحيل ثبوت ذلك له على نفسه فبطل وأما الحديث الذي روي فيه فهو معارض بضده وهو ما حدثنا ابن قانع قال حدثنا المقبري قال حدثنا خالد بن يزيد بن صفوان النوفلي قال حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن عباس وعن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم - ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقده به فنفى هذا الخبر ظاهر ما أثبته خبر سمرة بن جندب الذي احتجوا به مع موافقته لما ذكرنا من ظاهر الآي ومعانيها من إيجاب الله تعالى القود للمولى ومن نفيه لملك العبد بقوله لا يقدر على شيء ولو انفرد خبر سمرة عن معارضة الخبر الذي قدمناه لما جاز القطع به لاحتماله لغير ظاهره وهو

أنه جائز أن يكون رجل أعتق عبده ثم قتله أو جدعه أو لم يقدم على ذلك ولكنه هدده به فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال من قتل عبده قتلناه يعني عبده المعتق الذي كان عبده وهذا الإطلاق
شائع في اللغة والعادة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - لبلال حين أذن قبل طلوع الفجر إلا أن العبد نام وقد كان حرا في ذلك الوقت وقال علي عليه السلام ادعو إلى هذا العبد الأبظر يعني شريحا حين قضى في ابني عم أحدهما أخ لأم بأن الميراث للأخ من الأم لأنه كان قد جرى عليه رق في الجاهلية فسماه بذلك وقال تعالى وآتوا اليتامى أموالهم والمراد الذين كانوا يتامى وقال ص -
تستأمر اليتيمة في نفسها يعني التي كانت يتيمة ولا يمتنع أن يكون مراد
النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله من قتل عبده قتلناه ما وصفناه فيمن كان عبدا فأعتق وزال بهذا توهم متوهم لو ظن أن مولى النعمة لا يقاد بمولاه الأسفل كما لا يقاد والد بولده وقد كان جائزا أن يسبق إلى ظن بعض الناس أن لا يقاد به ص -
قد جعل حق مولى النعمة كحق الوالد والدليل عليه قوله ص
- لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فجعل عتقه لأبيه كفاء لحقه ومساويا ليده عنده ونعمته لديه والله أعلم
باب
القصاص بين الرجال والنساء
قال الله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقال ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فظاهر ما ذكر من ظواهر الآي الموجبة للقصاص في الأنفس بين العبيد والأحرار موجب للقصاص بين الرجال والنساء فيها وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة لا قصاص بين الرجال والنساء إلا في الأنفس وروى عن ابن شبرمة رواية أخرى أن بينهم قصاصا فيما دون النفس وقال ابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في الأنفس وما دونها إلا أن الليث قال إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولم يقتص منه وقال عثمان البتي إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية وكذلك إن أصابته بجراحة قال وإن كان هو الذي قتلها أو جرحها فعليه القود ولا يرد عليه شيء وقد روي عن السلف اختلاف في ذلك فروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل نفرا من أهل صنعاء بامرأة أقادهم بها وروي عن عطاء والشعبي ومحمد بن سيرين أنه يقتل بها واختلف عن علي عليه السلام فيها فروى ليث عن الحكم عن علي وعبدالله

قالا إذا قتل الرجل المرأة متعمدا فهو بها قود وروي عن عطاء والشعبي والحسن البصري أن عليا قال إن شاؤا قتلوه وأدوا نصف الدية وإن شاؤا أخذوا نصف دية الرجل وروى أشعث عن الحسن في امرأة قتلت رجلا عمدا قال تقتل وترد نصف الدية قال أبو بكر ما روي عن علي من القولين في ذلك مرسل لأن أحدا من رواته لم يسمع من علي شيئا ولو ثبتت الروايتان كان سبيلهما أن تتعارضا وتسقطا فكأنه لم يرو عنه في ذلك شيء وعلى أن رواية الحكم في إيجاب القود دون المال أولى لموافقتها لظاهر الكتاب وهو قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وسائر الآي الموجبة للقود ليس في شيء منها ذكر الدية وهو غير جائز أن يزيد في النص إلا بنص مثله لأن الزيادة في النص توجب النسخ حدثنا ابن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري قال حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرض عليهم الأرش فأبوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم - فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال يا رسول الله تكسر سن الربيع لا والذي بعثك بالحق فقال يا أنس كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال ص - إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره فأخبر ص - أن الذي في كتاب الله القصاص دون المال فلا جائز إثبات المال مع القصاص ومن جهة أخرى أنه إذا لم يجب القصاص بنفس المقتل فغير جائز إيجابه مع إعطاء المال لأن المال حينئذ يصير بدلا من النفس وغير جائز قتل النفس بالمال ألا ترى أن من رضي أن يقتل ويعطى مالا يكون لوارثه لم يصح ذلك ولم يجز أن يستحق النفس بالمال فبطل أن يكون القصاص موقوفا على إعطاء المال وأما مذهب الحسن وقول عثمان البتي في أن المرأة إذا كانت القاتلة قتلت وأخذ من مالها نصف الدية فقول يرده ظاهر الآي الموجبة للقصاص ويوجب زيادة حكم غير مذكور فيها وقد روى قتادة عن أنس أن يهوديا قتل جارية وعليها أوضاح لها فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم - فقتله بها وروى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إن الرجل يقتل بالمرأة وأيضا قد ثبت عن عمر بن الخطاب قتل جماعة رجال بالمرأة الواحدة من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائه مع استفاضة ذلك وشهرته عنه ومثله يكون إجماعا ومما يدل على قتل الرجل بها من غير بدل مال ما قدمنا من سقوط اعتبار

المساواة بين الصحيحة والسقيمة وقتل العاقل بالمجنون والرجل بالصبي وهذا يدل على سقوط اعتبار المساواة في النفوس وأما ما دون النفس فإن اعتبار المساواة واجب فيه والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع أخذ اليد الصحيحة بالشلاء وكذلك لم يوجب أصحابنا القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وكذلك بين العبيد والأحرار لأن ما دون النفس من أعضائها غير متساوية فإن قال قائل هلا قطعت يد العبد ويد المرأة بيد الرجل كما قطعت اليد الشلاء بالصحيحة قيل له إنما سقط القصاص في هذا الموضع لاختلاف أحكامها لا من جهة النقص فصار كاليسرى لا تؤخذ باليمنى وأوجب أصحابنا القصاص بين النساء فيما دون النفس لتساوي أعضائهما من غير اختلاف في أحكامهما ولم يوجبوا القصاص فيما بين العبيد فيما دون النفس لأن تساويهما إنما يعلم من طريق التقويم وغالب الظن كما لا تقطع اليد من نصف الساعد لأن الوصول إلى علمه من طريق الاجتهاد وعندهم أن أعضاء العبد حكمها حكم الأموال في جميع الوجوه فلا يلزم العاقلة منها شيء وإنما يلزم الجاني في ماله وليس كذلك النفس لأنها تلزم العاقلة في الخطأ وتجب فيها الكفارة ففارق الجنايات على الأموال والله أعلم
باب

قتل المؤمن بالكافر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبي ليلى وعثمان البتي يقتل المسلم بالذمي وقال ابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي لا يقتل وقال مالك والليث بن سعد إن قتله غيلة قتل به وإلا لم يقتل قال أبو بكر سائر ما قدمنا من ظواهر الآي يوجب قتل السلم بالذمي على ما بينا إذ لم يفرق شيء منها بين المسلم والذمي وقوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى عام في الكل وكذلك قوله تعالى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وقوله في سياق الآية فمن عفي له من أخيه شيء لا دلالة فيه على خصوص أول الآية في المسلمين دون الكفار لاحتمال الأخوة من جهة النسب ولأن عطف بعض ما انتظمه لفظ العموم عليه بحكم مخصوص لا يدل على تخصيص حكم الجملة على ما بيناه فيما سلف عند ذكرنا حكم الآية وكذلك قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس يقتضي عمومه قتل المؤمن بالكافر لأن شريعة من قبلنا من الأنبياء ثابتة في حقنا مالم ينسخها الله تعالى على لسان رسوله ص -
وتصير حينئذ شريعة النبي ص

قال الله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ويدل عن أن ما في هذه الآية وهو قوله النفس بالنفس إلى آخرها هو شريعة لنبينا ص -

قوله ص
- في إيجابه القصاص في السن في حديث أنس الذي قدمنا حين قال أنس بن النضر لا تكثر ثنية الربيع كتاب الله القصاص وليس في كتاب الله السن بالسن إلا في هذه الآية فأبان النبي صلى الله عليه وسلم - عن موجب حكم الآية علينا ولو لم تلزمنا شريعة من قبلنا من الأنبياء بنفس ورودها لكان قوله كافيا في بيان موجب حكم هذه الآية وأنها قد اقتضت من حكمها علينا مثل ما كان على بني إسرائيل فقد دل قول النبي صلى الله عليه وسلم - هذا على معنيين أحدهما لزوم حكم الآية لنا وثبوته علينا والثاني إخباره أن ظاهر الكتاب قد ألزمنا هذا الحكم قبل إخبار النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك فدل ذلك على ما حكاه الله في كتابه مما شرعه لغيره من الأنبياء فحكمه ثابت مالم ينسخ وإذا ثبت ما وصفنا وليس في الآية فرق بين المسلم والكافر وجب إجراء حكمها عليهما ويدل عليه قوله عز و جل ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقد ثبت بالاتفاق أن السلطان المذكور في هذا الموضع قد انتظم القود وليس فيها تخصيص مسلم من كافر فهو عليهما ومن جهة السنة ما روي عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - خطب يوم فتح مكة فقال ألا ومن قتل قتيلا فوليه بخير النظرين بين أن يقتص أو يأخذ الدية وروى أبو سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وحديث عثمان وابن مسعود وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل
نفس بغير نفس وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال العمد قود وهذه الأخبار يقتضي عمومها قتل المسلم بالذمي وروى ربيعة ابن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن السلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم - أقاد مسلما بذمي وقال أنا أحق من وفى بذمته وقد ورى الطحاوي عن سليمان بن شعيب قال حدثنا يحيى بن سلام عن محمد بن أبي حميد المدني عن محمد بن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وقد روي عن عمر وعلي وعبدالله قتل المسلم بالذمي حدثنا ابن قانع قال حدثنا علي بن الهيثم عن عثمان الفزاري قال حدثنا مسعود بن جويرية قال حدثنا عبدالله بن خراش عن واسط عن الحسن بن ميمون عن أبي الجنوب الأسدي قال جاء رجل من أهل الحيرة إلى علي كرم الله وجهه فقال يا أمير المؤمنين رجل من المسلمين قتل ابني ولي بينة فجاء الشهود فشهدوا وسأل عنهم

فزكوا فأمر بالمسلم فأقعد وأعطي الحيري سيفا وقال أخرجوه معه إلى الجبانة فليقتله وأمكناه من السيف فتباطأ الحيري فقال له بعض أهله هل لك في الدية تعيش فيها وتصنع عندنا يدا قال نعم وغمد السيف وأقبل إلى علي فقال لعلهم سبوك وتواعدوك قال لا والله ولكني اخترت الدية فقال علي أنت أعلم قال ثم أقبل علي على القوم فقال أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤنا كدمائهم ودياتنا كدياتهم وحدثنا ابن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال حدثنا شعبة عن عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من العباديين فقدم أخوه على عمر بن الخطاب فكتب عمر أن يقتل فجعلوا يقولون يا جبير اقتل فجعل يقول حتى يأتي الغيظ فكتب عمر أن لا يقتل ويودي وروي في غير هذا الحديث أن الكتاب ورد بعد أن قتل وأنه إنما كتب أن يسأل الصلح على الدية حين كتب إليه أنه من فرسان المسلمين وروى أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا ابن إدريس عن ليث عن الحكم عن علي وعبدالله بن مسعود قالا إذا قتل يهوديا أو نصرانيا قتل به وروى حميد الطويل عن ميمون عن مهران أن عمر بن عبدالعزيز أمر أن يقتل مسلم بيهودي فقتل فهؤلاء الثلاثة أعلام الصحابة وقد روي عنهم ذلك وتابعهم عمر بن عبدالعزيز عليه ولا نعلم أحدا من نظرائهم خلافه واحتج مانعو قتل المسلم بالذمي بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده رواه قيس بن عباد وحارثة بن قدامة
وأبو جحيفة وقيل لعلي هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم - عهد سوى القرآن فقال ما عهدي إلا كتاب في قراب سيفي وفيه المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يوم فتح مكة لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده وقد روى ابن عمر أيضا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إدريس بن عبدالكريم الحدار قال حدثنا محمد بن الصباح حدثنا سليمان بن الحكم حدثنا القاسم بن الوليد عن سنان بن الحارث عن طلحة بن مطرف عن مجاهد عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده ولهذا الخبر ضروب من التأويل كلها توافق ما قدمنا ذكره من الآي والسنن أحدها أنه قد ذكر أن ذلك كان في خطبته يوم فتح مكة وقد كان رجل من خزاعة قتل رجلا من هذيل بذحل الجاهلية

فقال ص - إلا أن كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده يعني والله أعلم بالكافر الذي قتله في الجاهلية وكان ذلك تفسيرا لقوله كل دم كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي لأنه مذكور في خطاب واحد في حديث وقد ذكر أهل المغازي أن عهد الذمة كان بعد فتح مكة وأنه إنما كان قبل ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين عهود إلى مدد لا على أنهم داخلون في ذمة الإسلام وحكمه وكان قوله يوم فتح مكة لا يقتل مؤمن بكافر منصرفا إلى الكفار المعاهدين إذ لم يكن هناك ذمي ينصرف الكلام إليه ويدل عليه قوله ولا ذو عهد في عهده كما قال تعالى فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وقال فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وكان المشركون حينئذ ضربين أحدهما أهل الحرب ومن لا عهد بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم - والآخر أهل عهد إلى مدة ولم يكن هناك أهل ذمة فانصرف الكلام إلى الضربين من المشركين ولم يدخل فيه من لم يكن على أحد هذين الوصفين وفي فحوى هذا الخبر ومضمونه ما يدل على أن الحكم المذكور في نفي القصاص مقصور على الحربي المعاهد دون الذمي وذلك أنه عطف عليه قوله ولا ذو عهد في عهده ومعلوم أن قوله ولا ذو عهد في عهده غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لو انفرد عما قبله فهو إذا مفتقر إلى ضمير وضميره ما تقدم ذكره ومعلوم أن الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد المستأمن هو الحربي فثبت أن مراده مقصور على الحربي وغير جائز أن يجعل الضمير ولا يقتل ذو عهد في عهده من وجهين أحدهما أنه لما كان القتل المبدو بذكره قتلا على وجه القصاص وكان ذلك القتل بعينه سبيله أن يكون مضمرا في الثاني لم يجز لنا إثبات الضمير قتلا مطلقا إذ لم يتقدم في الخطاب ذكر قتل مطلق غير مقيد بصفة وهو القتل على وجه القود فوجب أن يكون هو المنفي بقوله ولا ذو عهد في عهده فصار تقديره ولا يقتل مؤمن بكافر ولا يقتل ذو عهد في عهده بالكافر المذكور بديا ولو أضمرنا قتلا مطلقا كنا مثبتين لضمير لم يجز له ذكر في الخطاب وهذا لا يجوز وإذا ثبت ذلك وكان الكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الكافر الحربي كان قوله لا يقتل مؤمن بكافر بمنزلة قوله لا يقتل مؤمن بكافر حربي فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - نفي قتل المؤمن بالذمي والوجه الآخر أنه معلوم أن ذكر العهد يحظر قتله ما دام في عهده فلو حملنا قوله ولا ذو عهد في عهده على أنه لا يقتل ذو عهد في عهده لأخلينا اللفظ من الفائدة

وحكم كلام النبي صلى الله عليه وسلم -

حمله على مقتضاه في الفائدة وغير جائز إلغاؤه ولا إسقاط حكمه فإن قال
قائل قد روي في حديث أبي جحيفة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يقتل مؤمن بكافر ولم يذكر العهد وهذا اللفظ ينفي قتل المؤمن بسائر الكفار قيل هو حديث واحد قد عزاه أبو جحيفة أيضا إلى الصحيفة وكذلك قيس بن عباد وإنما حذف بعض الرواة ذكر العهد فأما أصل الحديث فواحد ومع ذلك فلو لم يكن في الخبر دليل على أنه حديث واحد لكان الواجب حملهما على أنهما وردا معا وذلك لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في وقتين مرة مطلقا من غير ذكر ذي العهد وتارة مع ذكر ذي العهد وأيضا فقد وافقنا الشافعي على أن ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم لم يسقط عنه القود فلو كان الإسلام مانعا من القصاص ابتداء لمنعه إذا طرئ بعد وجوبه قبل استيفائه ألا ترى أنه لما لم يجب القصاص للإبن على الأب إذا قتله كان ذلك حكمه إذا ورث ابنه القود من غيره فمنع ما عرض من ذلك من استيفائه كما منع ابتداء وجوبه وكذلك لو قتل مرتدا لم يجب القود ولو جرحه وهو مسلم ثم ارتد ثم مات من الجراحة سقط القود فاستوى فيه حكم الابتداء والبقاء فلو لم يجب القتل بديا لما وجب إذا أسلم بعد القتل وأيضا لما كان المعنى في إيجاب القصاص ما أراد الله تعالى من بقاء حياة الناس بقوله ولكم في القصاص حياة وكان هذا المعنى موجودا في الذمي لأن الله تعالى قد أراد بقاءه حين حقن دمه بالذمة وجب أن يكون ذلك موجبا للقصاص بينه وبين المسلم كما يوجبه في قتل بعضهم بعضا فإن قيل يلزمك على هذا قتل المسلم بالحربي المستأمن لأنه محظور الدم قيل له ليس كذلك بل هو مباح الدم إباحة مؤجلة ألا ترى أنا لا نتركه في دار الإسلام ونلحقه بمأمنه والتأجيل لا يزيل عنه حكم ا لإباحة كالثمن المؤجل لا يخرجه التأجيل عن وجوبه واحتج أيضا من منع القصاص بقوله ص - المسلمون تتكافأ دماؤهم قالوا وهذا يمنع كون دم الكافر مكافيا لدم المسلم وهذا لا دلالة فيه على ما قالوا لأن قوله المسلمون تتكافأ دماؤهم لا ينفي مكافأة دماء غير المسلمين وفائدته ظاهرة وهي إيجاب التكافؤ بين الحر والعبد والشريف والوضيع والصحيح والسقيم فهذه كلها فوائد هذا الخبر وأحكامه ومن فوائده أيضا إيجاب القود بين الرجل والمرأة وتكافؤ دمائهما ونفي لأخذ شيء من أولياء المرأة إذا قتلوا القاتل أو إعطاء نصف الدية من مال المرأة مع قتلها إذا كانت هي القاتلة فإذا كان قوله ص

المسلمون تتكافأ دماؤهم قد أفاد هذه المعاني فهو حكم مقصور على المذكور ولا دلالة فيه على نفي التكافؤ بينهم وبين غيرهم من أهل الذمة ويدل على ذلك أنه لم يمنع تكافؤ دماء الكفار حتى يقاد من بعضه لبعض إذا كانوا ذمة لنا فكذلك لا يمنع تكافؤ دماء المسلمين وأهل الذمة ومما يدل على قتل المسلم بالذمي اتفاق الجميع على أنه يقطع إذا سرقه فوجب أن يقاد منه لأن حرمة دمه أعظم من حرمة ماله ألا ترى أن العبد لا يقطع في مال مولاه ويقتل به واحتج الشافعي بأنه لا خلاف أنه لا يقتل بالحربي المستأمن كذلك لا يقتل بالذمي وهما في تحريم القتل سواء وقد بينا وجوه الفرق بينهما والذي ذكره الشافعي من الإجماع ليس كما ظن لأن بشر بن الوليد قد روى عن أبي يوسف أن المسلم يقتل بالحربي المستأمن وأما قول مالك والليث في قتل الغيلة فإنهما يريان ذلك حدا لا قودا والآيات التي فيها ذكر القتل لم تفرق بين قتل الغيلة وغيره وكذلك السنن التي ذكرنا وعمومها يوجب القتل على وجه القصاص على على وجه الحد فمن خرج عنها بغير دلالة كان محجوجا والله أعلم
باب

قتل الوالد بولده
اختلف الفقهاء في قتل الوالد بولده فقال عامتهم لا يقتل وعليه الدية في ماله قال بذلك أصحابنا والأوزاعي والشافعي وسووا بين الأب والجد وقال الحسن بن صالح بن حي يقاد الجد بابن الإبن وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه ولا يجيز شهادة لأب لابنه وقال عثمان البتي إذا قتل ابنه عمدا قتل به وقال مالك يقتل به وقد حكي عنه أنه إذا ذبحه قتل به وإن حذفه بالسيف لم يقتل به والحجة لمن أبى قتله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا يقتل والد بولده وهذا خبر مستفيض مشهور وقد حكم به عمر بن الخطاب بحضرة الصحابة من غير خلاف من واحد منهم عليه فكان بمنزلة قوله لا وصية لوارث ونحوه في لزوم الحكم به وكان في حيز المستفيض المتواتر وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم بن الحسين قال حدثنا عبدالله بن سنان المروزي قال حدثنا إبراهيم بن رستم عن حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا يقاد الأب بابنه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خلاد بن يحيى قال

حدثنا قيس عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا يقاد الوالد بولده وروي عن النبي ص
- أنه قال لرجل أنت ومالك لأبيك فأضاف نفسه إليه كإضافة ماله وإطلاق هذه الإضافة ينفي القود كما ينفي أن يقاد المولى بعبده لإطلاق إضافته إليه بلفظ يقتضي الملك في الظاهر والأب وإن كان غير مالك لابنه في الحقيقة فإن ذلك لا يسقط استدلالنا بإطلاق الإضافة لأن القود يسقطه الشبهة وصحة هذه الإضافة شبهة في سقوطه ويدل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وأن ولده من كسبه وقال ص
- إن أولادكم من كسبكم فكلوا من كسب أولادكم فسمى ولده كسبا له كما أن عبده كسبه فصار ذلك شبهة في سقوط القود به وأيضا فلو قتل عبد ابنه لم يقتل به لأنه ص -
سماه كسبا له كذلك إذا قتل نفسه وأيضا قال الله تعالى
ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك الآية فأمر بمصاحبة الوالدين الكافرين بالمعروف وأمره بالشكر لقوله تعالى أن اشكر لي ولوالديك وقرن شكرهما بشكره وذلك ينفي جواز قتله إذا قتل وليا لابنه فكذلك إذا قتل ابنه لأن من يستحق القود بقتل الإبن إنما يثبت له ذلك من جهة الإبن المقتول فإذا لم يستحق ذلك المقتول لم يستحق ذلك عنه وكذلك قوله تعالى إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهماجناح الذل من الرحمة وقل رب ارحهمهما كما ربياني صغيرا ولم يخصص حالا دون حال بل أمره بذلك أمرا مطلقا عاما فغير جائز ثبوت حق القود له عليه لأن قتله له يضاده هذه الأمور التي أمر الله تعالى لها في معاملة والده وأيضا نهى النبي صلى الله عليه وسلم -
حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا محاربا لله ولرسوله
وكان مع قريش يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فلو جاز للإبن قتل أبيه في حال لكان أولى الأحوال بذلك حال من قاتل النبي صلى الله عليه وسلم -
وهو مشرك إذ ليس يجوز أن يكون أحد أولى باستحقاق العقوبة والذم والقتل
ممن هذه حاله فلما نهاه ص - عن قتله في هذه الحال علمنا أنه لا يستحق قتله بحال وكذلك قال أصحابنا أنه لو قذفه لم يحد له ولو قطع يده لم يقتص منه ولو كان عليه دين له لم يحبس به لأن ذلك كله يضاد موجب الآي التي ذكرنا ومن الفقهاء

من يجعل مال الإبن لأبيه في الحقيقة كما يجعل مال العبد ومتى أخذ منه لم يحكم برده عليه فلو لم يكن في سقوط القود به إلا اختلاف الفقهاء في حكم ماله على ما وصفنا لكان كافيا في كونه شبهة في سقوط القود به وجميع ما ذكرنا من هذه الدلائل يخص آي القصاص ويدل على أن الوالد غير مراد بها والله أعلم
باب

الرجلين يشتركان في قتل الرجل
قال الله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وقال تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ولا خلاف أن هذا الوعيد لاحق بمن شارك غيره في القتل وإن عشرة لو قتلوا رجلا عمدا لكان كل واحد منهم داخلا في الوعيد قاتلا للنفس المؤمنة وكذلك لو قتل عشرة رجلا خطأ كان كل واحد منهم قاتلا في الحكم للنفس يلزمه من الكفارة مايلزم المنفرد بالقتل ولا خلاف أن ما دون النفس لا يجب فيه كفارة فيثبت أن كل واحد في حكم من أتلف جميع النفس وقال تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فالجماعة إذا اجتمعت على قتل رجل فكل واحد في حكم القاتل للنفس ولذلك قتلوا به جميعا وإذا كان كذلك فلو قتل اثنان رجل أحدهما عمدا والآخر خطأ أو أحدهما مجنون والآخر عاقل فملعوم أن المخطئ في حكم آخذ جميع النفس فيثبت لجميعها حكم الخطأ فانتفى منهما حكم العمد إذ غير جائز ثبوت حكم الخطأ للجميع وحكم العمد للجميع وكذلك المجنون والعاقل والصبي والبالغ ألا ترى أنه إذا ثبت حكم الخطأ للجميع وجبت الدية كاملة وإذا ثبت حكم العمد للجميع وجب القود فيه ولا خلاف بين الفقهاء في امتناع وجوب دية كاملة في النفس ووجوب القود مع ذلك على جهة استيفائهما جميعا فوجب بذلك أنه متى وجب للنفس المتلفة على وجه الشركة شيء من الدية أن لا يثبت معه قود على أحد لأن وجوب يوجب ثبوت حكم العمد في الجميع وثبوت حكم العمد في الجميع ينفي وجوب الأرش لشيء منها وقد اختلف الفقهاء في الصبي والبالغ والمجنون والعاقل والعمد والمخطئ يقتلان رجلا فقال أبو حنيفة وصاحباه لا قصاص على واحد منهما وكذلك لو كان أحدهما أبا المقتول فعلى الأب والعاقل نصف الدية في ماله والمخطئ والمجنون والصبي على عاقلته وهو قول الحسن بن صالح وقال مالك إذا اشترك الصبي

والبالغ في قتل رجل قتل الرجل وعلى عاقلة الصبي نصف الدية وقال الأوزاعي على عاقلتهما الدية وقال الشافعي إذا قتل رجلا مع صبي رجلا فعلى الصبي العامد نصف الدية في ماله وكذلك الحر والعبد إذا قتلا عبدا والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانيا قال وإن شركة قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية في ماله وجناية المخطئ على عاقلته قال أبو بكر أصل أصحابنا في ذلك أنه متى اشترك اثنان في قتل رجل وأحدهما لا يجب عليه القود فلا قود على الآخر وما قدمناه من دلائل الآي التي ذكرنا يمنع وجوب القود على أحدهما عمدا ويجب المال على الآخر لحصول حكم الخطأ للنفس المتلفة ولا جائز أن يكون خطأ وعمدا موجبا للمال والقود في حال واحدة وهي نفس واحدة لا تتبعض ألا ترى أنه غير جائز أن يكون بعضها متلفا وبعضها حيا لأن ذلك يوجب أن يكون الإنسان حيا ميتا في حال واحدة فلما امتنع ذلك ثبت أن كل واحد من القاتلين في حكم المتلف لجميعها فوجب بذلك قسطها من اليدة على من لا يجب عليه القود فيصير حينئذ محكوما للجميع بحكم الخطأ فلا جائز مع ذلك أن يحكم لها بحكم العمد لأنه لو جاز ذلك لوجب أن يكون فيهما جميع الدية ويشبه من هذا الوجه أيضا الواطئ لجارية بينه وبين غيره في سقوط الحد عنه لأن فعله لم يتبعض في نصيبه دون نصيب شريكه فلما لم يجب عليه الحد في نصيبه منع ذلك من وجوبه في نصيب شريكه لعدم التبعيض فيه وعلى هذا قال أصحابنا في رجلين سرقا من ابن أحدهما أنه لا قطع على واحد منهما لمشاركته في انتهاك الحرز من لا يستحق القطع فإن قال قائل إن تعلق حكم العامد على العامد والصحيح والبالغ موجب عليه القود بقضية استدلالك بالآي التي تلوت إذا كان قاتلا لجميع النفس متلفا لجميع الحياة ولذلك استحق الوعيد في حال الاشتراك والانفراد وكذلك الجماعة العامدون لقتل رجل أوجب على كل واحد منهم القود إذ كان في حكم من أتلف الجميع منفردا به وهذا يوجب قتل العاقل منهما وكذلك الصبي والبالغ وأن لا يسقط بمشاركة من لا قود عليه قيل له هذا غير واجب من قبل أنه لا خلاف أن المشارك الذي لا قود عليه يلزمه قسطه من الدية ولما وجب فيه الأرش انتفى عنه حكم العمد في الجميع لما ذكرنا من امتناع تبعيضها في حال الإتلاف فصار الجميع في حكم الخطأ وما لا قود فيه ولما كان الواجب على الشريك الذي لم يستحق عليه القود قسطه من الدية دون جميعها ثبت أن الجميع قد صار في حكم الخطأ لولا ذلك

لوجب جميع الدية ألا ترى أنهم لو كانوا جميعا ممن يجب عليهم القود لأقدنا منهم جميعا وكان كل واحد منهم في حكم القاتل منفردا به فلما وجب على المشارك الذي لا قود عليه قسطه من الدية دل ذلك على سقوط القود وأن النفس قد صارت في حكم الخطأ فلذلك انقسمت الدية على عددهم ومن حيث وافقنا الشافعي في قاتلي العمد والخطأ أن لا قود على العامد منهما لزمه مثل ذلك في العاقل والمجنون والصبي والبالغ لمشاركته في القتل من لا قود عليه فيه وأيضا فوجدنا في الأصول امتناع وجوب المال والقود في شخص واحد ألا ترى أنه لو كان القاتل واحدا فوجب المال انتفى وجوب القصاص وكذلك الوطء إذا وجب به المهر سقط الحد وكذلك السرقة إذا وجب بها الضمان سقط القطع عندنا لأن المال لا يجب في هذه المواضع إلا مع وجود الشبهة المسقطة للقود والحد فلما وجب المال في مسئلتنا بالإتفاق انتفى به وجوب القصاص ومما يدل على أن سقوط القود فيما وصفنا أولى من إيجابه أن القود قد يتحول مالا بعد ثبوته والمال لا يتحول قودا بوجه فكان مالا ينفسخ إلى غيره أولى بالإثبات مما ينفسخ بعد ثبوته إلى الآخر وكان سقوط القود عن أحدهما مسقطا له عن الآخر فإن قيل فأنتم تقولون في العامدين إذا قتلا رجلا ثم عفا الولي عن أحدهما أن الآخر يقتل فكذلك يجب أن تقولوا في هذه المسئلة قيل له هذا سؤال ساقط على أصل الشافعي لأنه يلزمه أن يقيد من العامد إذا شاركه المخطئ إذا كانت الشركة لا حظ لها في نفي القود عمن يجب عليه ذلك لو انفرد وإن كان سقوط القود عن أحد قاتلي العمد بالعفو لا يسقط عن الآخر فلما لم يلزمه ذلك في المخطئ والعامد لم يلزمنا في الصبي والبالغ والمجنون والعاقل والسؤال ساقط للآخرين أيضا من قبل أن هذا كلام في الإستيفاء والإستيفاء لا يجب على وجه الشركة إذ له أن يقتل أحدهما قبل الآخر وله أن يقتل من وجده منهما دون من لم يجد وأيضا مسئلتنا في الوجوب ابتداء إذا وقع القتل على وجه الشركة فيستحيل حينئذ أن يكون كل واحد منهما قد صار في الحكم كمتلف دون الآخر واستحال انفراد أحدهما بالحكم دون شريكه وأيضا فالوجوب حكم غير الإستيفاء فغير جائز إلزام الإستيفاء عليه إذ غير جائز اعتبار حال الإستيفاء بحال الوجوب ألا ترى أنه يجوز أن يكون في حال الإستيفاء تائبا وليا لله عز و جل وغير جائز أن يكون في حال القتل الموجب للقود وليا لله تعالى وجائز أن يتوب الزاني فيكون

حق استيفاء الحد باقيا عليه وغير جائز وجوب الحد وهو على هذه الصفة فمن اعتبر حال الوجوب بحال الإستيفاء فهو مغفل للواجب عليه وأيضا فإنه متى عفا عن أحدهما سقط حكم قتله فصار الباقي في حكم ا لمنفرد بقتله فلزمه القود ولم يسقط عنه بسقوطه عن الآخر وأما المجنون ومن لم يجب عليه القود فحكم فعله ثابت على وجه الخطأ وذلك موجب لحظر دم من شاركه إذ كان حكمه حكمه لاشتراكهما فيه وإذا ثبت بما قدمنا من دلائل الكتاب والنظر سقوط القود عمن شاركه من لا يجب عليه القود جاز أن يخص بهما موجب حكم الآي المذكور فيها القصاص من قوله كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله الحر بالحر وقوله ومن قتل مظلوما و النفس بالنفس وما جرى مجرى ذلك من عموم السنن الموجبة للقصاص ولأن جميع ذلك عام قد أريد به الخصوص بالإتفاق وما كان هذا سبيله فجائز تخصيصه بدلائل النظر والله الموفق وذكر المزني أن الشافعي احتج على محمد في منعه إيجاب القود على العامد إذا شاركه صبي أو مجنون فقال إن كنت رفعت عنه القتل لأن القلم مرفوع عنهما وأن عمدهما خطأ فهلا أقدت من الأجنبي إذا قتل عمدا مع الأب لأن القلم عن الأب ليس بمرفوع وهذا ترك لأصله قال المزني قد شرك الشافعي محمدا فيما أنكر عليه في هذه المسئلة لأن رفع القصاص عن المخطئ والمجنون واحد وكذلك حكم من شركهم في العمد واحد قال أبو بكر ما ذكره المزني عن الشافعي إلزام في غير موضعه لأنه ألزمه عكس المعنى وإنما الذي يلزم على هذا الأصل أن كل من كان عمده خطأ أن لا يقيد المشارك له في القتل وإن كان عامدا فأما من ليس عمده خطأ فليس يلزمه أن يخالف بينهما في الحكم بل حكمه موقوف على دليله لأنه عكس العلة وليس يلزم من اعتل بعلة في الشرع أن يعكسها ويوجب من الحكم عند عدمها ضد موجبها عند وجودها ألا ترى أنا إذا قلنا وجود الغرر يمنع جواز البيع لم يلزمنا على ذلك الحكم بجوازه عند عدم الغرر بل جائز أن يمنع الجواز عند عدم الغرر لوجود معنى آخر وهو أن يكون مما لم يقبضه بائعه أو شرط فيه شرطا لا يوجبه العقد أو يكون مجهول الثمن وما جرى مجرى ذلك من المعاني المفسدة لعقود البياعات وجائز أن يجوز البيع عند زوال الغرر على حسب قيام دلالة الجواز والفساد ونظائر ذلك كثيرة في مسائل العقد لا يخفى على من له أدنى ارتياض بنظر الفقه ومما يحتج به في ذلك حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل

السوط والعصا فيه الدية مغلظة وقتيل الصبي والبالغ والمجنون والعاقل والمخطئ والعامد هو خطأ العمد من وجهين أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم -

فسر قتيل خطأ العمد بأنه قتيل السوط والعصا فإذا اشترك مجنون معه عصا
وعاقل معه السيف فهو قتي خطأ العمد لقضية النبي صلى الله عليه وسلم - فالواجب أن لا قصاص فيه والوجه الآخر أن عمد الصبي والمجنون خطأ لأن القتل لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه إما خطأ أو عمد أو شبه عمد فلما لم يكن قتل الصبي والمجنون عمدا وجب أن يكون في أحد الحيزين الآخرين من الخطأ أو شبه العمد وأيهما كان فقد اقتضى ظاهر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم - إسقاط القود عن مشاركه في القتل لأنه قتيل خطأ أو قتيل خطأ العمد وايضا فإنه أوجب فيمن استحق هذه التسمية دية مغلظة ومتى وجبت الدية كاملة انتفى القود بالإتفاق فإن قيل إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله قتيل خطأ العمد إذا انفرد بقتله بالسوط والعصا قيل له مشاركة غيره فيه بالسيف لا تخرجه من أن يكون قتيل السوط والعصا وقتيل خطأ لأن كل واحد منهما من حيث كان قاتلا وجب أن يكون هو قتيلا لكل واحد منهما فاشتمل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم - على المعنيين وانتفى به القصاص في الحالين ويدل على صحة ما ذكرنا وأنه غير جائز اختلاف حكم مشاركة المجنون للعاقل والمخطئ للعامد أن رجلا لو جرح رجلا وهو مجنون ثم أفاق وجرحه أخرى بعد الإفاقة ثم مات المجروح ممنهما أنه لا قود على القاتل كما لو جرحه خطأ ثم جرحه عمدا ومات منهما لم يجب عليه القود وكذلك لو جرحه مرتدا ثم أسلم ثم جرحه ومات من الجراحتين لم يكن على الجارح القود وذلك يدل على معنيين أحدهما أن موته من جراحتين إحداهما غير موجبة للقود والأخرى موجبة يوجب إسقاط القود ولم يكن لانفراد الجراحة التي لا شبهة فيها عن الأخرى حكم في إيجاب القود بل كان الحكم للتي لم توجب قودا فوجب على هذا أنه إذا مات من جراحة رجلين أحدهما لو انفرد أوجبت جراحته القود والأخرى لا توجبه أن يكون حكم سقوطه أولى من حكم إيجابه لحدوث الموت منهما فكان حكم ما يوجب سقوط القود أولى من حكم ما يوجبه والعلة فيهما موته من جراحتين إحداهما مما توجب القود والأخرى مما لا توجبه والمعنى الآخر ما قسمنا الكلام عليه بديا هو أنه لا فرق بين المخطئ والعامد وبين المجنون والعاقل عند الاشتراك كما لم تختلف جناية المجنون في حال جنونه ثم في حال إفاقته إذا حدث الموت منهما وجناية الخطأ والعمد إذا حدث الموت

منهما في سقوط القود في الحالين كذلك ينبغي أن لا يختلف حكم جناية الصحيح لمشاركة المجنون وحكم جناية العامد لمشاركة المخطئ والله أعلم
باب

ما يجب لولي قتيل العمد
قال الله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقال تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس وقال تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وقد اتفقوا أن القود مراد به وقال تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وقال فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فاقتضت هذه الآيات إيجاب القصاص لا غير وقد اختلف الفقهاء في موجب القتل العمد فقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك بن أنس والثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح ليس للولي إلا القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضى القاتل وقال الأوزاعي والليث والشافعي الولي بالخيار بين أخذ القصاص والدية وإن لم يرض القاتل وقال الشافعي فإن عفا المفلس عن القصاص جاز ولم يكن لأهل الوصايا والدين منعه لأن المال لا يملك بالعمد إلا بمشيئة المجني عليه إذا كان حيا أو بمشيئة الورثة إذا كان ميتا قال أبو بكر ما تقدم ذكره من ظواهر آي القرآن بما تضمنه من بيان المراد من غير اشتراك في اللفظ يوجب القصاص دون المال وغير جائز إيجاب المال على وجه التخيير إلا بمثل ما يجوز به نسخه لأن الزيادة في نص القرآن توجب نسخه ويدل عليه أيضا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فحظر أخذ مال كل واحد من أهل الإسلام إلا برضاه على وجه التجارة وبمثله قد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قوله لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه فمتى لم يرض القاتل بإعطاء المال ولم تطب به نفسه فماله محظور على كل أحد وروي عن ابن عباس وقد ذكرنا سنده فيما تقدم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - العمد قود إلا أن يعفو ولي المقتول وروى سليمان بن كثير قال حدثنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قتل في عميا أو في زحمة لم يعرف قاتله أو رميا تكون بينهم بحجر أو سوط أو عصا فعقله عقل خطأ ومن قتل عمدا فقود يديه فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فأخبر ص - في هذين الحديثين أن الواجب بالعمد هو القود ولو كان له خيار في أخذ الدية لما اقتصر على ذكر القود دونها لأنه

غير جائز أن يكون له أحد شيئين على وجه التخيير ويقتصر ص - بالبيان على أحدهما دون الآخر لأن ذلك يوجب نفي التخيير ومتى ثبت فيه تخيير بعده كان نسخا له فإن قيل قد روى ابن عيينة هذا الحديث الآخر عن عمرو بن دينار عن طاوس موقوفا عليه ولم يذكر فيه ابن عباس ولا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قيل له كان ابن عيينة حدث به مرة هكذا غير مرفوع وحدث به مرة أخرى كما حدث سليمان بن كثير وقد كان ابن عيينة سيء الحفظ كثير الخطأ ومع ذلك فجائز أن يكون طاوس رواه مرة عن ابن عباس عن ا لنبي ص -

ومرة أفتى به وأخبر عن اعتقاده فليس إذا في ذلك ما يوهن الحديث وقد تنازع
أهل العلم معنى قوله تعالى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان فقال قائلون العفو ما سهل وما تيسر قال الله تعالى خذ العفو يعني والله أعلم ما سهل من الأخلاق وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله يعني تيسير الله وتسهيله على عباده
فقوله تعالى فمن عفي له من أخيه شيء يعني الولي إذا أعطى شيئا من المال فليقبله وليتبعه بالمعروف وليؤد القاتل إليه بإحسان فندبه تعالى إلى أخذ المال إذا سهل ذلك من جهة القاتل وأخبر أنه تخفيف منه ورحمة كما قال عقيب ذكر القصاص من سورة المائدة فمن تصدق به فهو كفارة له فندبه إلى العفو والصدقة وكذلك ندبه بما ذكر في هذه الآية إلى قبول الدية إذا بذلها الجاني لأنه بدأ بذكر عفو الجاني بإعطاء الدية ثم أمر الولي بالاتباع وأمر الجاني بالأداء بالإحسان وقال بعضهم المعنى فيه ما روي عن ابن عباس وهو ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان الثوري قال حدثنا عمرو بن دينار قال سمعت مجاهدا يقول سمعت ابن عباس يقول كان القصاص في بني إسرائيل ولم يكن فيهم الدية فقال الله لهذه الأمة يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى إلى قوله فمن عفي له من أخيه شيء قال ابن عباس العفو أن يقبل الدية في العمد فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم قال بعد قبول الدية فأخبر ابن عباس أن الآية نزلت ناسخة لما كان على بني إسرائيل من حظر قبول الدية وأباحت للولي قبول الدية إذا بذلها القاتل تخفيفا من الله علينا ورحمة بنا فلو كان الأمر على ما ادعاه مخالفنا من إيجاب التخيير لما قال فالعفو أن يقبل الدية لأن

القبول لا يطلق إلا فيما بذله غيره لو لم يكن أراد ذلك لقال إذا اختار الولي فثبت بذلك أن المعنى كان عند جواز تراضيهما على أخذ الدية وقد روي عن قتادة ما يدل على أن الحكم الذي كان في بني إسرائيل من امتناع قبول الدية ثابت على من قتل بعد أخذ الدية وهو ما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى فمن اعتدى بعد ذلك قال يقول من قتل بعد أخذ الدية فعليه القتل لا يقبل منه الدية وقد روي فيه معنى آخر وهو ما روى سفيان بن حسين عن ابن أشوع عن الشعبي قال كان بين حيين من العرب قتال فقتل من هؤلاء ومن هؤلاء فقال أحد الحيين لا نرضى حتى نقتل الرجل بالمرأة وبالرجل الرجلين وارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال رسول الله ص
- القتل بواء أي سواء فاصطلحوا على الديات ففضل لأحد الحيين على الآخر فهو قوله تعالى كتب عليكم القصاص إلى قوله فمن عفي له من أخيه شيء قال سفيان فمن عفي له من أخيه شيء يعني فمن فضل له على أخيه شيء فليؤده بالمعروف فأخبر الشعبي عن السبب في نزول الآية وذكر سفيان أن معنى العفو ههنا الفضل وهو معنى يحتمله اللفظ قال الله تعالى حتى عفوا يعني كثروا وقال ص - أعفوا اللحى فتقدير الآية على ذلك فمن فضل له على أخيه شيء من الديات التي وقع الاصطلاح عليها فليتبعه مستحقه بالمعروف وليؤد إليه بإحسان وقد ذكر فيه معنى آخر وهو أنهم قالوا هو في الدم بين جماعة إذا عفا بعضهم تحول نصيب الآخرين مالا وقد روي عن عمر وعلي وعبدالله ذلك ولم يذكروا أنه تأويل الآية وهذا تأويل لفظ الآية يوافقه لأنه قال فمن عفي له من أخيه شيء وهذا يقتضي وقوع العفو عن شيء من الدم لا عن جميعه فيتحول نصيب الشركاء مالا وعليهم اتباع القتل بالمعروف عليه أداؤه إليهم بإحسان وتأوله بعضهم على أن لولي الدم أخذ المال بغير رضى القاتل وهذا تأويل يدفعه ظاهر الآية لأن العفو لا يكون مع أخذ الدية ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال العمد قود إلا أن يعفو الأولياء فأثبت له أحد الشيئين قتل أو عفو ولم يثبت له مالا بحال فإن قال قائل إذا عفا عن الدم ليأخذ المال كان عافيا ويتناوله لفظ الآية قيل له إن كان الواجب أحد الشيئين فجائز أيضا أن يكون عافيا بترك المال وأخذ القود فعلى هذا لا يخلو الولي من عفو قتل أو أخذ مال وهذا فاسد

لا يطلقه أحد ومن جهة أخرى ينفيه ظاهر الآية وهو أنه إذا ان الولي هو العافي بترك القود وأخذ المال فإنه لا يقال له عفا له وإنما يقال له عفا عنه فيتعسف فيقيم اللام مقام عن أو يحمله على أنه عفا له عن الدم فيضمر حرفا غير مذكور ونحن متى استغنينا بالمذكور عن المحذوف لم يجز لنا إثبات الحذف وعلى أن تأويلنا هو سائغ مستعمل على ظاهره من غير إثبات ضمير فيه وهو أن يحمل على معنى التسهيل من جهة القاتل بإعطائه المال ومن جهة أخرى يخالف ظاهرها هو أن قوله من أخيه شيء فقوله من تقتضي التبعيض لأن ذلك حقيقتها وبابها إلا أن تقوم الدلالة على غيره فيوجب هذا أن يكون العفو عن بعض دم أخيه وعند المخالف هو عفو عن جميع الدم وتركه إلى الدية وفيه إسقاط حكم من ومن وجه آخر وهو قوله شيء وهذا أيضا يوجب العفو عن شيء من الم لا عن جميعه فمن حمله على الجميع لم يوف الكلام حظه من مقتضاه وموجبه لأنه يجعله بمنزلة ما لو قال فمن عفي له عن الدم وطولب بالدية فأسقط حكم قوله من وقوله شيء وغير جائز لأحد تأويل الآية على وجه يؤدي إلى إلغاء شيء من لفظها ما أمكن استعماله على حقيقته ومتى استعمل على ما ذكرنا كان موافقا لظاهر الآية من غير إسقاط منه لأنه إن كان التأويل ما ذكره الشعبي من نزولها على السبب وما فضل من بعضهم على بعض من الديات فهو موافق للفظ الآية لأنه عفي له من أخيه بمعنى أنه فضل له شيء من المال فيه التقاضي وذلك بعض من جملة وشيء منها فتناوله اللفظ على حقيقته وإن كان التأويل أنه إن سهل له بإعطاء شيء من المال فالولي مندوب إلى قبوله موعود بالثواب عليه فذلك قد يتناول أيضا للبعض بأن يبذل بعض الدية وذلك جزء من كل مما أتلفه وإن كان التأويل الإخبار بنسخ ما كان على بني إسرائيل من إيجاب حكم القود ومنع أخذ البدل فتأويلنا أيضا على هذا الوجه أشد ملاءمة لمعنى الآية لأنا نقول إن الآية اقتضت جواز الصلح منهما على ما يقع الإصطلاح عليه من قليل أو كثير فذكر البعض وأفاد به حكم الكل أيضا كقوله تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما نص على هذا القول بعينه وأراد به ما فوقه في نظائر لذلك في القرآن وإن كان التأويل عفو بعض الأولياء عن نصيبه فهو أيضا يواطئ ظاهر الآية لوقوع العفو عن البعض دون الجميع فعلى أي وجه يصرف تأويل المتأولين ممن قدمنا قوله فتأويله موافق لظاهر الآية غير تأويل من تأوله على أن للولى العفو عن

الجميع وأخذ المال وليس يمتنع أن يكون جميع المعاني التي قدمنا ذكرها عن متأوليها مرادة بالآية فيكون نزولها على سبب نسخ بها ما كان على بني إسرائيل وأبيح لنا أخذ قليل المال وكثيره ويكون الولي مندوبا إلى القبول إذا تسهل له القاتل بإعطاء المال وموعودا عليه بالثواب ويكون السبب الذي نزلت عليه الآية حصول الفضل من بعض على بعض في الديات فأمروا به بالاتباع بالمعروف وأمر القاتل بالأداء إليهم بإحسان ويكون على اختلاف فيه بيان حكم الدم إذا عفا عنه بعض الأولياء فهذه الوجوه كلها على اختلاف معانيها تحتملها الآية وهي مرادة من غير إسقاط شيء من لفظها فإن قال قائل وما تأوله المخالفون في إيجاب الدية للولي باختياره من غير رضى القاتل تحتمله الآية فوجب أن يكون مرادا إذ ليس فيه نفي لتأويلات الآخرين ويكون قوله فمن عفي له معناه أنه ترك له من قولهم عفت المنازل إذا تركت حتى درست والعفو عن الذنوب ترك العقوبة عليها فيفيد ذلك ترك القود إلى الدية قيل له إن كان كذلك فينبغي أن يكون لو ترك الدية وأخذ القود أن يكون عافيا لأنه تارك لأخذ الدية وقد يسمى ترك المال وإسقاطه عفوا قال الله فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فأطلق اسم العفو على الإبراء من المال ومعلوم عند الجميع امتناع إطلاق العفو على من آثر أخذ القود وترك أخذ الدية فكذلك العادل عن القود إلى أخذ الدية لا يستحق اسم العافي إذ كان إنما اختار أحد الشيئين كان مخيرا في اختيار أيهما شاء لأن من كان مخيرا بين أحد شيئين فاختار أحدهما كان الذي اختاره هو حقه الواجب له قد تعين عليه حكمه عند فعله كأنه لم يكن غيره ألا ترى أن من اختار التكفير بالعتق في كفارة اليمين كان العتق هو كفارته كأنه لم يكن غيره وسقط عنه حكم ما عداه أن يكون من فرضه كذلك هذا الولي لو كان مخيرا في أحد شيئين من قود أو مال ثم اختار أحدهما لم يستحق اسم العافي لتركه أحدهما إلى الآخر فلما كان اسم العفو منتفيا عمن ذكرنا حاله لم يجز تأويل الآية عليه وكانت المعاني التي قدمنا ذكرها أولى بتأويلها ثم ليس يخلو الواجب للولي بنفس القتل أن يكون القود والدية جميعا أو القود دون الدية أو أحدهما على وجه التخيير لا جائز أن يكون حقه الأمرين جميعا بالاتفاق ولا يجوز أيضا أن يكون الواجب أحدهما على حسب ما يختاره الولي كما في كفارة اليمين ونحوها لما بينا من أن الذي أوجبه الله تعالى في الكتاب

هو القصاص وفي إثبات التخيير بينه وبين غيره زيادة في النص ونفي لإيجاب القصاص ومثله عندنا يوجب النسخ فإذا الواجب هو القود لا غيره فلا جائز له أخذ المال إلا برضى القاتل لأن كل من له قبل غيره حق يمكن استيفاءه منه لم يجز له نقله إلى بدل غيره إلا برضى من عليه الحق وعلى أن قائل هذا القول مخطئ في العبارة حين قال الواجب هو القود وله أن يأخذ المال لأنه لم يخرجه من أن يكون مخيرا فيه إذ قد جعل له أن يستوفي الوقد إن شاء وإن شاء المال فلو قال قائل الواجب هو المال وله نقله إلى القود بدلا منه كان مساويا له فلما فسد قول هذا القائل من أن الواجب هو المال وله نقله إلى القود لإيجابه التخيير كذلك قول من قال الواجب هو القود وله نقله إلى المال إذ لم ينفك في الحالين من إيجاب التخيير بنفس القتل والله سبحانه إنما كتب على القاتل القصاص بقوله كتب عليكم القصاص في القتلى ولم يقل كتب عليكم المال في القتلى ولا كتب عليكم القصاص أو المال في القتلى والقائل بأن الواجب هو القود وله نقله إلى المال إنما عبر عن التخيير الذي أوجبه له بغير اسمه وأخطأ في العبارة عنه فإن قال قائل هذا كما تقول إن الواجب هو القصاص ولهما جميعا نقله إلى المال بتراضيهما ولم يكن في جواز تراضيهما على نقله إلى المال إسقاط لموجب حكم الآية من القصاص قيل له من قبل أنا قد بينا بديا أن القصاص حق للولي على القتل من غير إثبات تخيير له بين القود وغيره وتراضهيما على نقله إلى البدل لا يخرجه من أن يكون هو الحق الواجب دون غيره لأن ما تعلق حكمه بتراضيهما لا يؤثر في الأصل الذي كان واجبا من غير خيار ألا ترى أن الرجل قد يملك العبد والدار ولغيره أن يشتريه منه برضاه وليس في جواز ذلك نفي الملك الأصل لمالكه الأول ولا موجبا لأن يكون ملكه موقوفا على الخيار وكذلك الرجل يملك طلاق امرأته ويملك الخلع وأخذ البدل عن الطلاق وليس في ذلك إثبات ملك الطلاق له بديا على أنه مخير في نقله إلى المال من غير رضى المرأة وأنه لو كان له أن يطلق أو يأخذ المال بديا من غير رضاها لكان ذلك موجبا لكونه مالكا لأحد شيئين من طلاق أو مال ويدل على أن الواجب بالقتل هو القود لا غير حديث أنس الذي قدمنا إسناده في قصة الربيع حين كسرت ثنية جارية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

كتاب الله القصاص فأخبر أن موجب الكتاب هو القصاص فغير جائز لأحد إثبات
شيء معه ولا نقله إلى غيره إلا بمثل ما يجوز

به نسخ الكتاب ولو سلمنا احتمال الآية لما ادعوه من تأويلها في جواز أخذ المال من غير رضى القاتل في قوله فمن عفي له من أخيه شيء مع احتماله للوجوه التي ذكرنا كان أكبر أحواله أن يكون اللفظ مشتركا محتملا للمعاني فيوجب ذلك أن يكون متشابها ومعلوم أن قوله تعالى كتب عليكم القصاص محكم ظاهر المعنى بين المراد لا اشتراك في لفظه ولا احتمال في تأويله وحكم المتشابه أن يحمل على معنى المحكم ويرد إليه بقوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله وابتغاء تأويله فأمر الله تعالى برد المتشابه إلى المحكم لأن وصفه للمحكم بأنه أم الكتاب يقتضي أن يكون غيره محمولا عليه ومعناه معطوفا عليه إذ كان أم الشيء ما منه ابتداؤه وإليه مرجعه ثم ذم من اتبع المتشابه واكتفى بما احتمله اللفظ من تأويله من غير رد له إلى المحكم وحمله على موافقته في معناه وحكم عليهم بالزيغ في قلوبهم بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وإذا ثبت أن قوله كتب عليكم القصاص محكم وقوله فمن عفي له من أخيه شيء متشابه وجب حمل معناه على معنى المحكم من غير مخالفة له ولا إزالة لشيء من حكمه وهو أن يكون على أحد الوجوه التي ذكرنا مما لا ينفي موجب لفظ الآية من القصاص من غير معنى آخر يضم إليه ولا عدول عنه إلى غيره وكذلك قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم إذ كانت النفس مثلا فيما يستحقه الولي وهو القود فإذا كان المثل هو القود وإتلاف نفسه كما أتلف كان بمنزلة متلف المال الذي له مثل ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بالتراضي لقوله تعالى بمثل ما اعتدى عليكم وبدلالة الأصول عليه واحتج من أوجب للولي الخيار بين القود وأخذ المال من غير رضى القاتل بأخبار منها حديث يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين فتح مكة من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يودى وحديث يحيى بن سعيد عن أبي ذيب قال حدثني سعيد المقبري قال سمعت أبا شريح الكعبي يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم فتح مكة ألا إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل من هذيل وإني عاقله فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا العقل وبين أن يقتلوا ورواه محمد بن إسحق عن الحرث بن فضيل عن سفيان عن أبي العرجاء عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله

ص - من أصيب بدم أو بخبل يعني بالخبل الجراح فوليه بالخيار بين أحد ثلاث بين العفو أو يقتص أويأخذ الدية وهذه الأخبار غير موجبة لما ذكروا لاحتمالها أن يكون المراد أخذ الدية برضى القاتل كما قال تعالى فإما منا بعد وإما فداء المعنى فداء برضى الأسير فاكتفى بالمحذوف عن ذكره لعلم المخاطبين عند ذكر المال بأنه لا يجوز إلزامه إياه بغير رضاه كذلك قوله أو يأخذ الدية وقوله أو يودى وكما يقول القائل لمن له دين على غيره إن شئت فخذ دينك دراهم وإن شئت دنانير وكما قال ص -

لبلال حين أتاه بتمر أكل تمر خيبر هكذا فقال لا ولكنا نأخذ الصاع منه
بالصاعين والصاعين بثلاثة فقال ص - لا تفعلوا ولكن بع تمرك بعرض ثم خذ بالعرض هذا ومعلوم أنه لم يرد أن يأخذ التمر بالعرض بغير رضى الآخر ويكون ذكره الدية إبانة عما نسخه الله عما كان على بني إسرائيل من امتناع أخذ الدية برضى القاتل وبغير رضاه تخفيفا عن هذه الأمة على ما روي عن ابن عباس أن القصاص كان في بني إسرائيل ولم يكن فيهم أخذ الدية فخفف الله عن هذه الأمة ويدل على ما وصفنا من أن المراد أخذ الدية برضى القاتل أن الأوزاعي قد روى حديث أبي هريرة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقال فيه من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفادى والمفاداة إنما تكون بين اثنين كالمقاتلة والمضاربة والمشاتمة ونحو ذلك فدل على أن مراده في سائر الأخبار أخذ الدية برضى القاتل وهذه الأخبار تبطل قول من يقول إن الواجب على القاتل هو القود وللولي نقله إلى الدية لأن في جميعها إثبات التخيير للولي بنفس القتل بين القود وأخذ الدية ولو كان الواجب هو القود لا غير وإنما للولي نقله إلى الدية بعد ثبوته كما ينقل الدين إلى العرض والعرض إلى الدين على وجه العوض عنه وليس هناك خيار موجب بنفس القتل بل الواجب شيء واحد وهو القود والقائل بإيجاب القود بالقتل دون غيره إلا أن ينقله الولي إلى الدية مخالف لهذه الآثار وقد روى الأنصاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قصة الربيع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال كتاب الله القصاص وذلك ينفي كون المراد بالكتاب المال أو القصاص وقد روى علقمة بن وائل عن أبيه وثابت البناني عن أنس أن رجلا قتل رجلا فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إلى ولي المقتول ثم قال أتعفو قال لا قال أفتأخذ الدية قال لا قال أما
إنك إن قتلته كنت مثله فمضى الرجل فلحقه الناس فقالوا إن رسول الله

ص - قال أما إنك إن قتلته كنت مثله فعفا عنه فاحتج الموجبون للخيار بين القود والمال بهذا الحديث وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا وذلك لأنه يحتمل أن يريد أن يأخذ الدية برضى القاتل كما قال ص - لامرأة ثابت بن قيس حين جاءت تشكوه أتردين عليه حديقته قالت نعم ومعلوم أن رضى ثابت قد كان مشروطا فيه وإن لم يكن مذكورا في الخبر لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن يلزم ثابتا الطلاق ولا يملكه الحديقة إلا برضاه وجائز أن النبي صلى الله عليه وسلم - قصد إلى أن يعقد عقدا على مال فيكون موقوفا على رضى القاتل أو فسخه وجائز أن يكون أراد أن يؤدي الدية من عنده كما فعل في قتيل الخزاعي بمكة وكما تحمل عن اليهود دية عبدالله بن سهل الذي وجد قتيلا بخيبر وقوله ص - إن قتلته كنت مثله يحتمل معنيين أحدهما إنك قاتل كما أنه قاتل لا إنك مثله في المأثم لأنه استوفى حقا له فلا يستحق اللوم عليه والأول فعل مالم يكن له فكان آثما فعلمنا أنه لم يرد كنت مثله في المأثم والآخر إنك إذا قتلته فقد استوفيت حقك منه ولا فضل لك عليه وقد ندب الله تعالى إلى الأفضال بالعفو بقوله تعالى فمن تصدق به فهو كفارة له فإن قال قائل لما كان عليه إحياء نفسه وجب أن يحكم عليه بذلك إذا اختار الولي أخذ المال قيل له وعلى كل أحد أن يحيي غيره إذا خاف عليه التلف مثل أن يرى إنسانا قد قصد غيره بالقتل أو خاف عليه الغرق وهو يمكنه تخليصه أو كان معه طعام وخاف عليه أن يموت من الجوع فعليه إحياؤه بإطعامه وإن كثرت قيمته وإن كان على القاتل إعطاء المال لإحياء نفسه فعلى الولي أيضا إحياؤه إذا أمكنه ذلك فوجب على هذه القضية أجبار الولي على أخذ المال إذا بذله القاتل وهذا يؤدي إلى بطلان القصاص أصلا لأنه إذا كان على كل واحد منهما إحياء نفس القاتل فعليهما التراضي على أخذ المال وإسقاط القود وأيضا فينبغي إذا طلب الولي داره أو عبده أو ديات كثيرة أن يعطيه لأنه لا يختلف فيما يلزمه إحياء نفسه حكم القليل والكثير فلما لم يلزمه إعطاء أكثر من الدية عند القائلين بهذه المقالة كان بذلك انتقاض هذا الاعتلال وفساده واحتج المزني للشافعي في هذه المسئلة بأنه لو صالح من حد القذف على مال أو من كفالة بنفس لبطل الحد والكفالة ولم يستحق شيئا ولو صالح من دم عمد على مال باتفاق الجميع قبل ذلك فدل ذلك على أن دم العمد مال في الأصل لولا ذلك لما صح الصلح كما لم يصح عن حد القذف والكفالة قال أبو بكر قد انتظم هذا الاحتجاج الخطأ والمناقضة

فأما الخطأ فهو أن من أصلنا أن الحد لا يبطل بالصلح ويبطل المال والكفالة بالنفس فيها روايتان إحداهما لا تبطل أيضا والأخرى أنها تبطل وأما المناقضة فهي اتفاق الجميع على جواز أخذ المال على الطلاق ولا خلاف أن الطلاق في الأصل ليس بمال وأنه ليس للزوج أن يلزمها مالا عن طلاق بغير رضاها وعلى أن الشافعي قد قال فيما حكاه المزني عنه أن عفو المحجور عليه عن الدم جائز وليس لأصحاب الوصايا والدين منعه من ذلك لأن المال لا يملك في العمد إلا باختيار المجني عليه فلو كان الدم مالا في الأصل لثبت فيه حق الغرماء وأصحاب الوصايا وهذا يدل على أن موجب العمد عنده هو القود لا غير وأنه لم يوجب له خيارا بين القتل وبين الدية فإن قال قائل قوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يوجب لوليه الخيار بين أخذ القود والمال إذا كان اسم السلطان يقع عليهما والدليل عليه أن بعض المقتولين ظلما تجب فيه الدية نحو قتيل شبه العمد والأب إذا قتل ابنه وبعضهم يجب فيه الوقد وذلك يقتضي أن يكون جميع ذلك مرادا بالآية لاحتمال اللفظ لهما اوقد تأوله الضحاك بن مزاحم على ذلك فقال في معنى قوله فقد جعلنا لوليه سلطانا أنه إن شاء قتل وإن شاء عفا وإن شاء أخذ الدية فلما احتمل السلطان ما وصفنا وجب إثبات سلطانه في أخذ المال كهو في أخذ القود لوقوع الاسم عليهما ولأنه قد ثبت باتفاق الجميع أن كل واحد منهما مراد الله تعالى في حال وحينئذ يكون تقدير الآية ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا في القود والدية ولما حصل الاتفاق على أنهما لا يجبان مجتمعين وجب أن يكون وجوبهما على وجه التخيير وكما احتججتم في إيجاب القود بقوله فقد جعلنا لوليه سلطانا لاتفاق الجميع على أن القود مراد وصار كالمنصوص عليه فيه وجعلتموه كعموم لفظ القود فيلزمكم مثله في إثبات المال لوجودنا مقتولين ظلما يكون سلطان الولي هو المال قيل له حمله على القود أولى من حمله على الدية وذلك لأنه لما كان السلطان لفظا مشتركا محتملا للمعاني كان متشابها يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه وهي آية محكمة في إيجاب القصاص وهو قوله كتب عليكم القصاص في القتلى فوجب أن يكون من حيث ثبت أن القود مراد بالسلطان المذكور في هذه الآية أن يكون معطوفا على ما في الآية المحكمة من ذكر إيجاب القصاص وليس معك آية محكمة في إيجاب المال على قاتل العمد فيكون معنى المتشابه محمولا عليه فلذلك وجب الاقتصار

بمعنى الاسم على القود دون المال وغيره لموافقته لمعنى المحكم الذي لا اشتراك فيه ومن حمله على تخييره في أخذ الدية أو القود فلم يلجأ إلى أصل له من المحكم يحمله عليه فلذلك لم يصح إثبات التخيير مع احتمال اللفظ له وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد القود دون ما سواه لأنه قال ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا يعني والله أعلم السرف في القصاص بأن يقتل غير قاتله أو أن يمثل بالقاتل فيقتله على غير الوجه المستحق من القتل وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله سلطانا القود وأيضا لما ثبت أن القود مراد بالآية انتفت إرادة المال لأنه لو كان مرادا مع القود لكان الواجب هما جميعا في حالة واحدة لا على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير فلما امتنع إرادتهما جميعا وكان القود لا محالة مرادا علمنا أنه لم يرد المال وأن إيجابنا للدية في بعض المقتولين ظلما ليس عن هذه الآية والله تعالى أعلم
باب

العاقلة هل تعقل العمد
قال الله تعالى فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان وقد قدمنا تأويل من تأوله على عفو بعض الأولياء عن نصيبه من الدم ووجوب الأرش للباقين واحتمال اللفظ لذلك وفيه دلالة على أن الواجب على القاتل الذي لم يعف في ماله وكذلك كل عمد فيه القود فهو على الجاني في ماله كالأب إذا قتل ابنه وكالجراحة فيما دون النفس ولا يستطاع فيها القصاص نحو قطع اليد من نصف الساعد والمنقلة والجائفة فالعامد والمخطئ إذا قتلا أن على العامد نصف الدية في ماله والمخطئ على عاقلته وهو قول أصحابنا وعثمان البتي والثوري والشافعي وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك هي على العاقلة وهو آخر قول مالك قال ابن القاسم ولو قطع يمين رجل ولا يمين له كانت دية اليد في ماله ولا تحملها العاقلة وقال الأوزاعي هو في مال الجاني فإن لم يبلغ ذلك ماله حمل على عاقلته وكذلك إذا قتلت المرأة زوجها متعمدة ولها منه أولاد فديته في مالها خاصة فإن لم يبلغ ذلك مالها حمل على عاقلتها قال أبو بكر دلالة الآية ظاهرة على أن الصلح عن دم العمد وسقوط القود بعفو بعض الأولياء يوجب الدية في مال الجاني لأنه تعالى قال فمن عفي له من أخيه شيء وهو يعني القاتل إذا كان المعنى عفو بعض الأولياء ثم قال فاتباع بالمعروف يعني اتباع الولي للقاتل ثم قال وأداء إليه بإحسان يعني أداء القاتل

فاقتضى ذلك وجوبه في مال القاتل وكذلك تأويل من تأوله على التراضي عن الصلح على مال ففيه وجوب الأداء على القاتل دون غيره إذ ليس للعاقلة ذكر في الآية وإنما فيها ذكر الولي والقاتل وروى ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن الفضل الخطيب قال حدثنا إسماعيل بن موسى قال حدثنا شريك عن جابر بن عامر قال اصطلح المسلمون على أن لا يعقلوا عبدا ولا عمدا ولا صلحا ولا اعترافا وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة قتادة بن عبدالله المدلجي الذي قتل ابنه أن عمر جعل عليه مائة من الإبل وأعطاها أخوته ولم يورثه منها شيئا فجعل ذلك في ماله لما كان عمدا ولما ثبت ذلك في النفس ولم يخالف عمر فيه غيره من الصحابة كان كذلك حكم ما دونها إذا سقط القصاص وروى هشام بن عروة عن أبيه قال ليس على العاقلة عقل في عمد وإنما عليهم الخطأ وقال عروة أيضا ما كان من صلح فلا تعقله العشيرة إلا أن تشاء وقال قتادة كل شيء لا يقاد منه فهو في مال الجاني وقال أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم لا تعقل العاقلة صلحا ولا عمدا ولا اعترافا وقوله تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب فيه إخبار من الله تعالى في إيجاب القصاص حياة للناس وسببا لبقائهم لآن من قصد قتل إنسان رده عن ذلك علمه بأنه يقتل به ودل على وجوب القصاص عموما بين الحر والعبد والرجل والمرأة والمسلم والذمي إذ كان الله تعالى مريدا لتبقية الجميع فالعلة الموجبة للقصاص بين الحرين المسلمين موجودة في هؤلاء فوجب استواء الحكم في جميعهم وتخصيصه لأولي الألباب بالمخاطبة غير ناف مساواة غيرهم لهم في الحكم إذ كان المعنى الذي حكم من أجله في ذوي الألباب موجودا في غيرهم وإنما وجه تخصيصه لهم أن ذوي الألباب هم الذين ينتفعون بما يخاطبون به وينتهون إلى ما يؤمرون به ويزدجرون عما يزجرون عنه وهكذا كقوله تعالى إنما أنت منذر من يخشاها وهو منذر لجميع المكلفين ألا ترى إلى قوله تعالى إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ونحو قوله هدى للمتقين وهو هدى للجميع وخص المتقين لانتفاعهم به ألا ترى إلى قوله في آية أخرى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس فعم الجميع به وكقوله قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا لأن التقى هو الذي يعيذ من استعاذ بالله وقد ذكر عن

بعض الحكماء أنه قال قتل البعض إحياء الجميع وعن غيره القتل أقل للقتل وأكثروا القتل ليقل القتل وهو كلام سائر على ألسنة العقلاء وأهل المعرفة وإنما قصدوا المعنى الذي في قوله تعالى ولكم في القصاص حياة ثم إذا مثلت بينه وبينه وجدت بينهما تفاوتا بعيدا من جهة البلاغة وصحة المعنى وذلك يظهر عند التأمل من وجوه أحدها أن قوله تعالى في القصاص حياة هو نظير قولهم قتل البعض إحياء للجميع والقتل أقل للقتل وهو مع قلة عدد حروفه ونقصانها عما حكي عن الحكماء قد أفاد من المعنى الذي يحتاج إليه ولا يستغني عنه الكلام ما ليس في قولهم لأنه ذكر القتل على وجه العدل لذكره القصاص وانتظم مع ذلك الغرض الذي إليه أجرى بإيجابه القصاص وهو الحياة وقولهم القتل أقل للقتل وقتل البعض إحياء الجميع والقتل أنفى للقتل إن حمل على حقيقته لم يصح معناه لأنه ليس كل قتل هذه صفته بل ما كان منه على وجه الظلم والفساد فليست هذه منزلته ولا حكمه فحقيقة هذا الكلام غير مستعملة ومجازه يحتاج إلى قرينة وبيان في أن أي قتل هو إحياء للجميع فهذا كلام ناقص البيان مختل المعنى غير مكتف بنفسه في إفادة حكمه وما ذكره الله تعالى من قوله ولكم في القصاص حياة مكتف بنفسه مفيد لحكمه على حقيقته من مقتضى لفظه مع قلة حروفه ألا ترى أن قوله تعالى في القصاص حياة أقل حروفا من قولهم قتل البعض إحياء للجميع والقتل أقل للقتل وأنفى للقتل ومن جهة أخرى يظهر فضل بيان قوله في القصاص حياة على قولهم القتل أقل للقتل وأنفى للقتل أن في قولهم تكرار اللفظ وتكرار المعنى بلفظ غيره أحسن في حد البلاغة أنه يصح تكرار المعنى الواحد بلفظين مختلفين في خطاب واحد ولا يصلح مثله بلفظ واحد نحو قوله تعالى وغرابيب سود ونحو قول الشاعر ... وألفى قولها كذبا ومينا ...

كرر المعنى الواحد بلفظين وكان ذلك سائغا ولا يصح مثله في تكرار اللفظ
وكذلك قوله ولكم في القصاص حياة لا تكرار فيه مع إفادته للقاتل إذ كان ذكر القصاص يفيد ذلك ألا ترى أنه لا يكون قصاصا إلا وقد تقدمه قتل من المقتص منه وفي قولهم ذكر للقتل وتكرار له في اللفظ وذلك نقصان في البلاغة فهذا وأشباهه مما يظهر به للمتأمل إبانة القرآن في جهة البلاغة والإعجاز من كلام البشر إذ ليس يوجد في كلام الفصحاء من جمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مثل ما يوجد في كلام الله تعالى

باب

كيفية القصاص
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى وقال في آية أخرى والجروح قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقال وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به فأوجب بهذه الآي استيفاء المثل ولم يجعل لأحد ممن أوجب عليه أو على وليه أن يفعل بالجاني أكثر مما فعل واختلف الفقهاء في كيفية القصاص فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر على أي وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف وقال ابن القاسم عن مالك إن قتله بعصا أو بحجر أو بالنار أو بالتغريق قتله بمثله فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتله به حتى يموت وإن زاد على فعل القاتل الأول وقال ابن شبرمة نضربه مثل ضربه ولا نضربه أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون السيف يجزي عن ذلك كله فإن غمسه في الماء فإني لا أزال أغمسه فيه حتى يموت وقال الشافعي إن ضربه بحجر فلم يقلع عنه حتى مات فعل به مثل ذلك وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات حبس فإن لم يمت في مثل تلك المدة قتل بالسيف قال أبو بكر لما كان في مفهوم قوله كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله الجروح قصاص استيفاء المثل من غير زيادة عليه كان محظورا على الولي استيفاء زيادة على فعل الجاني ومتى استوفى على مذهب من ذكرنا في التحريق والتغريق والرضخ بالحجارة والحبس أدى ذلك إلى أن يفعل به أكثر مما فعل لأنه إذا لم يمت بمثل ذلك الفعل قتله بالسيف أو زاد على جنس فعله وذلك هو الاعتداء الذي زجر الله عنه بقوله فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم لأن الاعتداء مجاوزة القصاص والقصاص أن يفعل به مثل فعله سواء إن أمكن وإن تعذر فإن يقتله بأوحى وجوه القتل فيكون مقتصا من جهة إتلاف نفسه غير متعد ما جعل له وقول مالك بتكرار مثل ذلك الفعل عليه حتى يموت زائد على فعل القاتل خارج عن معنى القصاص وقول الشافعي أنه يفعل به مثل ما فعل ثم يقتله مخالف لحكم الآية لأن القصاص إن كان من جهة أن يفعل به مثل ما فعل فقد استوفى فقتله بعد ذلك تعد ومجاوزة لحد القصاص وقال تعالى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وإن كان معنى القصاص هو إتلاف نفس بنفس من غير مجاوزة لمقدار الفعل فهو الذي نقوله فلا ينفك موجب القصاص على الوجه الذي ذهب إليه مخالفونا من مخالفة الآية لمجاوزة

حد القصاص لأن فاعل ذلك داخل في حد الإعتداء الذي أوعد الله عليه وكذلك قوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به يمنع أن يجرح أكثر من جراحته أو يفعل به أكثر مما فعل ويدل على أن الراد به مثل ما فعل لا زائدا عليه اتفاق الجميع على أن من قطع يد رجل من نصف الساعد أنه لا يقتص منه لعدم التيقن بالاقتصار على مقدار حقه وإن كان قد يغلب في الظن إذا اجتهد إنه قد وضع السكين في موضعه من المجني عليه ولم يكن للاجتهاد في ذلك حظ فكيف يجوز القصاص على وجه نعلم يقينا أنه مستوف لأكثر من حقه وجان عليه بأكثر من جنايته وأيضا لا خلاف أنه يجوز للولي أن يقتله ولا يحرقه ولا يغرقه وهذا يدل على أن ذلك مراد بالآية وإذا كان القتل بالسيف مرادا ثبت أن القصاص هو إتلاف نفسه بأيسر وجوه القتل وإذا ثبت أن ذلك مراد انتفت إرادة التحريق والتغريق والرضخ وما جرى مجرى ذلك لأن وجوب الاقتصار على قتله بالسيف ينفي وقوع غيره فإن قيل اسم المثل في القصاص يقع على قتله بالسيف وعلى أن يفعل به مثل فعله وله إن لم يمت أن يقتله بالسيف وله أن يقتصر بديا على قتله بالسيف فيكون تاركا لبعض حقه وله ذلك قيل له غير جائز أن يكون الرضخ والتحريق مستحقا مع قتله بالسيف لأن ذلك ينافي القصاص وفعل المثل ومن حيث أوجب الله تعالى القصاص لا غير فغير جائز حمله على معنى ينافي مضمون اللفظ وحكمه وعلى أن الرضخ بالحجارة والتحريق والتغريق والرمي لا يمكن استيفاء القصاص به لأن القصاص إذا كان هو استيفاء المثل فليس للرضخ حد معلوم حتى يعلم إنه في مقادير أجزاء رضخ القاتل للمقتول وكذلك الرمي والتحريق لم يجز أن يكون ذلك مرادا بذكر القصاص فوجب أن يكون المراد إتلاف نفسه بأوحى الوجوه ويدل على هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في نفي القصاص في المنقلة والجائفة لتعذر استيفائه على مقادير أجزاء الجناية فكذلك القصاص بالرمي والرضخ غير ممكن استيفاؤه في معنى الإيلام وإتلاف الأجزاء التي أتلفها فإن قيل لما كان المثل ينتظم معنيين وكذلك القصاص أحدهما إتلاف نفسه كما أتلف فيكون القصاص والمثل في هذا الوجه إتلاف نفس بنفس والآخر أن يفعل به مثل ما فعل استعملنا حكم اللفظ في الأمرين لأن عمومه يقتضيهما فقلنا نفعل به مثل ما فعل فإن مات وإلا استوفى المثل من جهة

إتلاف النفس قيل له لا يجوز أن يكون المراد بالمثل والقصاص جميع الأمرين بأن يفعل به مثل ما فعل بالمقتول ثم يقتل وإن كان يجوز أن يكون المراد كل واحد من المعنيين على الانفراد غير مجموع إلى الآخر لأن الاسم يتناوله وهو غير مناف لحكم ا لآية وأما إذا جمعهما فغير جائز أن يكون مرادا على وجه الجمع لأنه يخرج عن حد القصاص والمثل بل يكون زائدا عليه وغير جائز تأويل الآية على معنى يضادها وينفي حكمها فلذلك امتنع إرادة القتل بالسيف بعد الرضخ والتغريق والحبس والإجاعة وقد روى سفيان الثوري عن جابر عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا قود إلا بالسيف وهذا الخبر قد حوى معنيين أحدهما بيان مراد الآية في ذكر القصاص والمثل والآخر أنه ابتداء عموم يحتج به في نفي القود بغيره ويدل عليه أيضا ما روى يحيى بن أبي أنيسة عن الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا يستقاد من الجراح حتى تبرأ وهذا ينفي قول المخالف لنا وذلك لأنه لو كان الواجب أن يفعل بالجاني كما فعل لم يكن لاستثنائه وجه فلما ثبت الإستثناء دل على أن حكم الجراحة معتبر بما يؤل إليه حالها فإن قيل يحيى بن أبي أنيسة لا يحتج بحديثه قيل له هذا قول جهال لا يلتفت إلى جرحهم ولا تعديلهم وليس ذلك طريقة الفقهاء في قبول الأخبار وعلى أن علي بن المديني قد ذكر عن يحبى بن سعيد أنه قال يحيى بن أبي أنيسة أحب إلي في حديث الزهري من حديث محمد بن إسحق ويدل عليه أيضا ما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح فأوجب عموم لفظه أن من له قتل غيره أن يقتله بأحسن وجوه القتل وأوحاها وأيسرها وذلك ينفي تعذيبه والمثلة به ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يتخذ شيء من الحيوان غرضا فمنع بذلك أن يقتل القاتل رميا بالسهام وحكي أن القسم بن معن حضر مع شريك بن عبدالله عند بعض السلاطين فقال ما تقول فيمن رمى رجلا بسهم فقتله فقال يرمى فيقتل قال فإن لم يمت بالرمية الأولى قال يرمى ثانيا قال أفتتخذه غرضا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يتخذ شيء من الحيوان غرضا قال شريك لم يموق فقال القسم يا أبا عبدالله هذا ميدان إن سابقناك فيه سبقتنا يعني البذاء وقام ويدل عليه أيضا ما روى عمران بن حصين وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة وقال سمرة بن جندب

ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - خطبة إلا أمرنا فيها بالصدقة ونهانا عن المثلة وهذا خبر ثابت قد تلقاه الفقهاء بالقبول واستعملوه وذلك يمنع المثلة بالقاتل وقول مخالفينا فيه المثلة به وهو يثني عن مراد الآية في إيجاب القصاص واستيفاء المثل فوجب أن يكون القصاص مقصورا على وجه لا يوجب المثلة ويستعمل الآية على وجه لا يخالف معنى الخبر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - مثل بالعرنيين فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا ثم نسخ سمل الأعين بنهيه عن المثلة فوجب على هذا أن يكون معنى أية القصاص محمولا على ما لا مثلة فيه واحتج مخالفونا في ذلك بحديث همام عن قتادة عن أنس أن يهوديا رضخ رأس صبي بين حجرين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - أن يرضخ رأسه بين حجرين وهذا الحديث لو ثبت كان منسوخا بنسخ المثلة وذلك لن النهي عن المثلة مستعمل عند الجميع والقود على هذا الوجه مختلف فيه ومتى ورد عنه ص - خبران واتفق الناس على استعمال أحدهما واختلفوا في استعمال الآخر كان المتفق عليه منهما قاضيا على المختلف فيه خاصا كان أو عاما ومع ذلك فجائز أن يكون قتل اليهودي على وجه الحد كما روى شعبة عن هشام بن زيد عن أنس قال عدا يهودي على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ورضخ رأسها فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وهي في آخر رمق فقال ص
- من قتلك فلان فأشارت برأسها أي لا ثم قال فلان يعني اليهودي قالت نعم فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم - فرضخ رأسه بين حجرين فجائز أن يكون قتله حدا لما أخذ المال وقتل وقد كان ذلك جائزا على وجه المثلة كما سمل العرنيين ثم نسخ بالنهي عن المثلة وقد روى ابن جريج عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن رجلا من اليهود رضخ رأس جارية على حلي لها فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم - أن يرجم حتى قتل فذكر في هذا الحديث الرجم وليس ذلك بقصاص عند الجميع وجائز أن يكون اليهودي نقض العهد ولحق بدار الحرب لقرب محال اليهود كانت حينئذ من المدينة فأخذ بعد ذلك فقتله على أنه حربي ناقض للعهد متهم بقتل صبي لأنه غير جائز أن يكون قتله بإيماء الصبية وإشارتها أنه قتلها لأن ذلك لا يوجب قتل المدعى عليه القتل عند الجميع فلا محالة قد كان هناك سبب آخر استحق به القتل لم ينقله الراوي على جهته ويدل على صحة ما ذكرنا من أن المراد بالقصاص إتلاف نفسه بأيسر الوجوه وهو السيف اتفاق الجميع على أنه لو أوجره خمرا حتى مات لم يجز أن يوجره خمرا وقتل بالسيف فإن قيل لأن شرب

الخمر معصية قيل له كذلك المثلة معصية والله أعلم
باب

القول في وجوب الوصية
قال الله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين قال أبو بكر لم يختلف السلف ممن روي عنه أن قوله خيرا أراد به مالا واختلفوا في المقدار المراد بالمال الذي أوجب الله الوصية فيه حين كانت الوصية فرضا لأن قوله كتب عليكم معناه فرض عليكم كقوله تعالى كتب عليكم الصيام وقوله إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا يعني فرضا موقتا وروي عن علي كرم الله وجهه أنه دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة درهم أو ستمائة رهم فقال ألا أوصي قال لا إنما قال الله تعالى إن ترك خيرا وليس لك كثير مال وروي عن علي أنه قال أربعة آلاف درهم وما دونها نفقة وقال ابن عباس لا وصية في ثمان مائة درهم وقالت عائشة رضي الله عنها في امرأة أرادت الوصية فمنعها أهلها وقالوا لها ولد ومالها يسير فقالت كم ولدها قالوا أربعة قالت فكم مالها قالوا ثلاثة آلاف فكأنها عذرتهم وقالت ما في هذا المال فضل وقال إبراهيم ألف درهم إلى خمس مائة درهم وروى همام عن قتادة إن ترك خيرا قال كان يقال خير المال ألف درهم فصاعدا وقال الزهري هي في كل ما وقع عليه اسم المال من قليل أو كثير وكل هؤلاء القائلين فإنما تأولوا تقدير المال على وجه الاستحباب لا على وجه الإيجاب للمقادير المذكورة وكان ذلك منهم على طريق الاجتهاد فيما تلحقه هذه الصفة من المال ومعلوم في ا لعادة إن من ترك درهما لا يقال ترك خيرا فلما كانت هذه التسمية موقوفة على العادة وكان طريق التقدير فيها على الاجتهاد وغالب الرأي مع العلم بأن القدر اليسير لا تلحقه هذه التسمية وأن الكثير تلحقه فكان طريق الفصل فيها الاجتهاد وغالب الرأي مع ما كانوا عرفوا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم - وقوله الثلث والثلث كثير وأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس واختلف الناس في الوصية المذكورة في هذه الآية هل كانت واجبة أم لا فقال قائلون أنها لم تكن واجبة وإنما كانت ندبا وإرشادا وقال آخرون قد كانت فرضا ثم نسخت على الاختلاف منهم في المنسوخ منها واحتج من قال أنها لم تكن واجبة بأن في سياق الآية وفحواها دلالة على نفي وجوبها وهو قوله الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف فلما

قيل فيها بالمعروف وأنها على المتقين دل على أنها غير واجبة من ثلاثة أوجه أحدها قوله بالمعروف لا يقتضي الإيجاب والآخر قوله على المتقين وليس يحكم على كل أحد أن يكون من المتقين الثالث تخصيصه للمتقين بها والواجبات لا يختلف فيها المتقون وغيرهم قال أبو بكر ولا دلالة فيما ذكره هذا القائل على نفي وجوبها لأن إيجابها بالمعروف لا ينفي وجوبها لأن المعروف معناه العدل الذي لا شطط فيه ولا تقصير كقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ولا خلاف في وجوب هذا الرزق والكسوة وقوله تعالى وعاشروهن بالمعروف بل المعروف هو الواجب قال الله تعالى وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وقال يأمرون بالمعروف فذكر المعروف فيما أوجب الله تعالى من الوصية لا ينفي وجوبها بل هو يؤكد وجوبها إذ كان جميع أوامر الله معروفا غير منكر ومعلوم أيضا أن ضد المعروف هو المنكر وأن ما ليس بالمعروف هو منكر والمنكر مذموم مزجور عنه فإذا المعروف واجب وأما قوله حقا على المتقين ففيه تأكيد لإيحابها لأن على الناس أن يكونوا متقين قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولا خلاف بين المسلمين أن تقوى الله فرض فلما جعل تنفيذ هذه الوصية من شرائط التقوى فقد أبان عن إيجابها وأماتخصيصه المتقين بالذكر فلا دلالة فيه على نفي وجوبها وذلك لأن أقل ما فيه اقتضاء الآية وجوبها على المتقين وليس فيه نفيها عن غير المتقين كما أنه ليس في قوله هدى للمتقين نفي أن يكون هدى لغيرهم وإذا وجبت على المتقين بمقتضى الآية وجبت على غيرهم وفائدة تخصيصه المتقين بالذكر أن فعل ذلك من تقوى الله وعلى الناس أن يكونوا كلهم متقين فإذا عليهم فعل ذلك ودلالة الآية ظاهرة في إيجابها وتأكيد فرضها لأن قوله كتب عليكم معناه فرض عليكم على ما بينا فيما سلف ثم أكده بقوله بالمعروف حقا على المتقين ولا شيء في ألفاظ الوجوب آكد من قول القائل هذا حق عليك وتخصيصه المتقين بالذكر على وجه التأكيد كما بيناه آنفا مع اتفاق أهل التفسير من السلف أنها كانت واجبة بهذه الآية وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أنها كانت واجبة وهو ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا سليمان بن الفضل بن جبريل قال حدثنا عبدالله بن أيوب قال حدثنا عبدالوهاب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يحل لمؤمن يبيت ثلاثا إلا ووصيته عنده وحدثنا عبد

الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا أيوب قال سمعت نافعا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ما حق مرئ مسلم له مال يوصي فيه تمر عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة
وقد رواه هشام بن الغازي عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما ينبغي لمسلم أن يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة وهذا يدل على أن الوصية قد كانت واجبة ثم اختلف القائلون بوجوبها بديا فقالت منهم طائفة جميع ما في هذه الآية من إيجاب الوصية منسوخ منهم ابن عباس حدثنا أبو محمد جعفر بن محمد بن أحمد الواسطي قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في هذه الآية إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين قال نسختها هذه الآية للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا وروى ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى إن ترك خيرا قال نسخ من ذلك من يرث ولم ينسخ من لا يرث فاختلفت الرواية عن ابن عباس في ذلك في إحديهما أن الجميع منسوخ وفي الأخرى أنه منسوخ ممن يرث من الأقربين دون من لا يرث وحدثنا أبو محمد جعفر بن محمد قال حدثنا أبو الفضل المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو مهدي عن عبدالله بن المبارك عن عمارة أبي عبدالرحمن قال سمعت عكرمة يقول في هذه الآية إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين نسختها الفرائض وقال ابن جريج عن مجاهد كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين فهي منسوخة وقالت طائفة أخرى قد كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمن يرث وجعلت للوالدين والأقربين الذين لا يرثون رواه يونس وأشعث عن الحسن وروي عن الحسن وجابر بن زيد وعبدالملك بن يعلى في الرجل يوصي لغير ذي القرابة وله ذو قرابة ممن لا يرثه أن ثلثي الثلث لذي القرابة وثلث الثلث لمن أوصى له وقال طاوس يرد كله إلى ذوي القرابة وقال الضحاك لا وصية إلا لذي قرابة إلا أن لا يكون له ذو قرابة وقالت طائفة أخرى قد كانت الوصية في الجملة واجبة لذي القرابة ولم يكن على الموصي أن يوصى بها لجميعهم بل كان له الاقتصار على الأقربين منهم فلم تكن واجبة للأبعدين ثم نسخت الوصية للأقربين فبقي الأبعدون

على ما كانوا عليه من جواز الوصية لهم أو تركها ثم اختلف القائلون بنسخها فيما نسخت به وقد روينا عن ابن عباس وعكرمة أن آية المواريث نسختها وذكر ابن عباس قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقال آخرون نسخها ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا وصية لوارث رواه شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن عثمان عن عمرو بن خارجة
عنه ص - قال لا وصية لوارث وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لا يجوز لوارث وصية وإسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا
أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجة الوداع ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وحجاج بن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لوارث وصية إلا أن يجيزها الورثة وروي ذلك عن جماعة من الصحابة رواه حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال لا وصية لوارث وعبدالله بن بدر عن ابن عمر قال لا يجوز لوارث وصية وهذا الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك ووروده من الجهات التي وصفنا هو عندنا في حيز التواتر لاستفاضته وشهرته في الأمة وتلقي الفقهاء إياه بالقبول واستعمالهم له وجائز عندنا نسخ القرآن بمثله إذ كان في حيز ما يوجب العلم والعمل من الآيات فأما إيجاب الله تعالى الميراث للورثة فغير موجب نسخ الوصية لجواز اجتماع الميراث والوصية معا ألا ترى أنه ص - قد أجازها للوارث إذا أجازتها الورثة فلم يكن يستحيل اجتماع الميراث والوصية لواحد لو لم يكن إلا آية الميراث على أن الله إنما جعل الميراث بعد الوصية فما الذي كان يمنع أن يعطي قسطه من الوصية ثم يعطي الميراث بعدها وقال الشافعي في كتاب الرسالة يحتمل أن تكون المواريث ناسخة للوصية ويحتمل أن تكون ثابتة معها فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - من طريق مجاهد وهو منقطع أنه قال لا وصية لوارث استدللنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - من ذلك على أن المواريث ناسخة للوصية للوالدين والأقربين مع الخبر المنقطع قال أبو بكر قد أعطي القول باحتمال اجتماع الوصية والميراث فإذا ليس في نزول آية الميراث ما يوجب نسخ الوصية للوارث فلم تكن الوصية منسوخة بالميراث لجواز اجتماعهما والخبر لم يثبت عنده لأنه ورد من طريق منقطع وهو لا يقبل المرسل ولو ورد من جهة الاتصال والتواتر لما قضي به على حكم الآية إذ غير جائز عنده نسخ

القرآن بالسنة فواجب أن تكون الوصية للوالدين والأقربين ثابتة الحكم غير منسوخة إذا لم يرد ما يوجب نسخها قال الشافعي وحكم النبي صلى الله عليه وسلم -

في ستة مملوكين أعتقهم رجل لا مال له غيرهم فجزأهم النبي ص
- ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة والذي أعقتهم رجل من العرب والعرب إنما تملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم فأجاز لهم النبي صلى الله عليه وسلم - الوصية فدل ذلك على أن الوصية لو كانت تبطل لغير قرابة بطلت للعبيد المعتقين لأنهم ليسوا بقرابة للميت وبطلت وصية الوالدين قال أبو بكر هذا كلام ظاهر الاختلال منتقض على أصله فأما اختلاله فقوله أن العرب إنما تملك من لا قرابة بينه وبينه من العجم وهذا خطأ من قبل أنه جائز أن تكون أمه أعجمية فيكون أقرباؤه من قبل أمه عجما فيكون العتق الذي أوقعه المريض وصية لأقربائه ومن جهة أخرى أنه لو ثبت أن آية المواريث نسخت الوصية للوالدين والأقربين فإنما نسختها لمن كان منهم وارثا فأما من لا يرث منهم فليس في إثبات الميراث لغيره ما يوجب نسخ وصتيه وأما انتقاضه على أصله فإيجابه نسخ الوصية للأقربين بخبر عمران بن حصين في عتق المريض لعبيده ومن أصله أن السنة لا تنسخ القرآن وقد روي عن جماعة من الصدر الأول والتابعين تجويز الوصية للأجانب وأنها تنفذ على ما أوصى بها وروي أن عمر أوصى لأمهات أولاده لكل امرأة منهن بأربعة آلاف درهم وعن عائشة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسالم بن عبدالله وعمرو بن دينار والزهري قالوا تنفذ وصيته حيث جعلها وقد حصل الاتفاق من الفقهاء بعد عصر التابعين على جواز الوصايا للأجانب والأقارب والذي أوجب نسخ الوصية عندنا للوالدين والأقربين قوله تعالى في سياق آية المواريث من بعد وصية يوصى بها أو دين فأجازها مطلقة ولم يقصرها على الأقربين دون غيرهم وفي ذلك إيجاب نسخها للوالدين والأقربين لأن الوصية لهم قد كانت فرضا وفي هذه إجازة تركها لهم والوصية لغيرهم وجعل ما بقي ميراثا للورثة على سهام مواريثهم وليس يجوز ذلك إلا وقد نسخ تلك الوصية فإن قيل يحتمل أن يريد بهذه الوصية المذكورة في آية المواريث وإيجاب المواريث بعدها الوصية الواجبة للوالدين والأقربين فيكون حكمها ثابتا لمن لا يرث منهم قيل له هذا غلط من قبل أنه أطلق الوصية في هذا الموضع بلفظ منكور يقتضي شيوعها في الجنس إذ كان ذلك حكم النكرات والوصية المذكورة

للوالدين والأقربين لفظها لفظ المعرفة فغير جائز صرفها إليها إذ لو أرادها لقال من بعد الوصية حتى يرجع الكلام إلى المعرف المعهود من الوصية التي قد علمت كما قال تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم وقال في آية أخرى لما أراد الشهداء المذكورين فإذ لم يأتوا بالشهداء فعرفهم بالألف واللام إذ كان المراد أولئك الشهداء فلما أطلق الوصية في آية المواريث بلفظ منكور ثبت أنه لم يرد بها الوصية المذكورة للوالدين والأقربين وأنها مطلقة جائزة لسائر الناس إلا ما خصته السنة أو الإجماع من الوصية للوارث أو للقاتل ونحوهما وفي ثبوت ذلك نسخ الوصية للوالدين والأقربين قال أبو بكر استدل محمد بن الحسن رحمه الله على أن الوالدين ليسوا من الأقرباء بقوله تعالى الوصية للوالدين والأقربين ولأنهم لا يدلون بغيرهم ورحمه بأنفسهم وسائر الأرحام سواهما إنما يدلون بغيرهم فالأقربون من يقرب إليه بغيره وقال إن ولد الصلب ليسوا من الأقربين أيضا لأنه بنفسه يدلي برحمه لا بواسطة بينه وبين والده ولأنه إذا لم يكن الوالدان من الأقربين والولد أقرب إلى والده من الوالد إلى ولده فهو أحرى أن لا يكون من الأقربين ولذلك قال فيمن أوصى لأقرباء بني فلان أنه لا يدخل فيها ولده ولا والده ويدخل فيها ولد الولد والجد والأخوة ومن جرى مجراهم لأن كلا منهم يدلي إليه بواسطة غير مدل بنفسه وفي معنى الأقرباء خلاف والله أعلم
باب

الوصية للوارث إذا أجازتها الورثة
قال أبو بكر قد بينا نسخ الوصية للورثة بما قدنا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة وفيه بيان أن الأخبار الواردة بأن لا وصية لوارث من غير ذكر إجازة الورثة هي محمولة على أن الورثة لم يجيزوها ويدل أيضا على أن إجازة الورثة هي محمولة على أن إجازتهم معتبرة بعد الموت لأنهم في حال حياته ليسوا بورثة وإنما تحصل لهم هذه السمة بعد موت المورث فمتى أجاز وليس بوارث فإجازته باطلة لعموم قوله لا وصية لوارث ودل على أن الورثة متى أجازت الوصية لم يكن ذلك هبة مستأنفة من جهتهم فتحمل على أحكام الهبات في شرط القبض والتسليم ونفي الشيوع فيما يقسم والرجوع فيها بل تكون محمولة على أحكام الوصايا الجائزة دون الهبات من قبل مجيزيها من الورثة ودل أيضا على جواز العقود الموقوفة التي لها مجيز لأن الميت عقد

الوصية على مال هو للوارث في حال وقوع الوصية وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم - موقوفة على إجازة الوارث فصار ذلك أصلا فيمن عقد عقد بيع أو عتق أو هبة أو رهن أو إجارة على مال الغير أنه يقف على إجازة مالكه إذ كان عقدا له مالك يملك ابتداءه وإيقاعه وقد دل أيضا على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث كانت موقوفة على إجازة الورثة كما وقفها النبي صلى الله عليه وسلم - على إجازتهم إذا أوصى بها لوارث فهذه المعاني كلها في ضمن قوله ص - لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الورثة قبل الموت فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن صالح وعبيدالله بن الحسن إذ أجازوه في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت وروي نحو ذلك عن عبدالله بن مسعود وشريح وإبراهيم وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت وهي جائزة عليهم وقال ابن القاسم عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله فإنهم ليس لهم أن يرجعوا وأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن منه وكل من في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا وكذلك العم وابن العم ومن خاف منهم إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح فلهم أن يرجعوا وروى ابن وهب عن مالك في المريض يستأذن ورثته في الوصية لبعض ورثته فأذنوا له فليس لهم أن يرجعوا في شيء من ذلك ولو كان استأذنهم في الصحة فلهم أن يرجعوا إن شاؤا وإنما يجوز إذنهم في حال المرض لأنه يحجب عن ماله بحقهم فيجوز ذلك عليهم وقول الليث في ذلك كقول مالك ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه وروي عن طاوس وعطاء أنهم إذا أجازوه في الحياة جاز عليهم قال أبو بكر عموم قوله ص - لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة ينفي جواز الوصية في كل حال فلما خص ذلك بقوله إلا أن يجيزها الورثة وهم إنما يكونون ورثة على الحقيقة بعد الموت لا قبله فالمخصوص من الجملة إجازتهم بعد الموت وما عدا ذلك فهو محمول على عموم بقية الوصية والنظر يدل على ذلك إذ ليسوا مالكين للمال في حال الحياة فلا تعمل إجازتهم فيه كما لا تجوز هبتهم ولا بيعهم وإن حدث الموت بعده فالإجازة أبعد من ذلك ولما كان الموصى له إنما تقع الوصية له بعد الموت فكذلك الإجازة حكمها أن يكون في حال وقوع الوصية وأن

لا تعمل الإجازة قبل وقوعها وأيضا لما كان للميت إبطال الوصية في حال الحياة مع كونه مالكا فالورثة أحرى بجواز الرجوع عما أجازوه وإذ جاز لهم الرجوع فقد علمت أن الإجازة لا تصح فإن قيل لما كان حق الورثة ثابتا في ماله بالمرض ومن أجله منع ذلك في المرض عن التصرف فيه بأكثر من الثلث كما منع بعد الموت وجب أن يكون حال المرض حال الموت في باب لزومهم حكم الإجازة إذا أجازوا قيل له تصرف المريض جائز عندنا في جميع ماله بالهبة والصدقة والعتق وسائر معاني التصرف ووجوهه وإنما نسخ منها بعد الموت ما زاد على الثلث لثبوت حق الورثة بالموت وأما قبل ذلك فلا اعتبار بقول الوارث فيه ألا ترى أن الوارث ليس له أن يفسخ عقوده قبل الموت وإنما ثبت له ذلك بعد الموت عند ثبوت حقه في ماله فكذلك إجازته قبل موته كلا إجازة كما لا يعمل فسخه في عقوده وأما ما فرق به مالك بين من يخشى ضررا من جهته في ترك ا لإجازة وبين من لا يخشى ذلك منه فلا معنى له من قبل أن خشية الضرر من جهته لا تمنع صحة عقوده وقوله إذ ليس يكسبه ذلك حكم المكره الا ترى أنه لو باع منه شيئا طلبه منه وقال خشيت أن تقطع عني نفقته وجرايته بترك إجابته لم يكن ذلك عذرا في إبطال البيع وكذلك لو استوهبه المريض شيئا فوهبه له لم يكن ما يخافه بترك إجابته مؤثرا في هبته فكان ذلك بمنزلة من يخشى من قبله ضررا فإذا لا اعتبار لخوف الضرر في قطع النفقة والجراية في إيجاب العتق بين من هو في عياله أو ليس في عياله والله الموفق بمنه وكرمه
باب

تبديل الوصية
قال الله سبحانه وتعالى فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه قيل إن الهاء التي في قوله فمن بدله عائدة على الوصية وجائز فيها التذكير لأن الوصية والإيصاء واحد وأما الهاء في قوله إثمه فإنما هي عائدة على التبديل المدلول عليه بقوله فمن بدله وقوله فمن بدله بعد ما سمعه يحتمل أن يريد به الشاهد على الوصية فيكون معناه زجره عن التبديل على نحو قوله تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ويحتمل أن يريد الوصي لأنه هو المتولي لإمضائها والمالك لتنفيذها فمن أجل ذلك قد أمكنه تغييرها ويبعد أن يكون ذلك عموما في سائر الناس إذ لا مدخل لهم في ذلك ولا تصرف لهم فيه

وهو عندنا على المعنيين الأولين من الشاهد والوصي لاحتمال اللفظ لهما والشاهد إذا احتيج إليه مأمور بأداء ما سمع على وجهه من غير تغيير ولا تبديل والوصي مأمور بتنفيذها على حسب ما سمعه مما تجوز الوصية به ووري عن عطاء ومجاهد قالا هي الوصية تصيب الولي الشاهد وقال الحسن هي الوصية من سمع الوصية ثم بدلها بعد ما سمعها فإنما إثمها على من بدلها قال أبو بكر وجائز أن يكون الحاكم مرادا بذلك لأن له فيه ولاية وتصرفا إذا رفع إليه فيكون مأمورا بإمضائها إذا جازت في الحكم منهيا عن تبديلها وفيها الأمر بإمضائها وتنفيذها على الحق والصدق وقوله فمن بدله بعد ما سمعه قد اقتضى جواز تنفيد الوصي ما سمعه من وصية الموصي كان عليها شهودا ولم تكن وهو أصل في كل من سمع شيئا فجائز له إمضاؤه عند الإمكان على مقتضاه وموجبه من غير حكم حاكم ولا شهادة شهود فقد دل على أن الميت متى أقر بدين لرجل بعينه عند الوصي فجائز له أن يقضيه من غير علم وارث ولا حاكم ولا غيره لأن في تركه ذلك بعد السماع تبديلا لوصية الموصي وقوله فإنما إثمه على الذين يبدلونه قد حوى معاني أحدها أنه معلوم أن ذلك عطف على الوصية المفروضة كانت للوالدين والأقربين وهي لا محالة مضمرة فيه لولا ذلك لم يستقم الكلام لأن قوله فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه غير مستقل بنفسه في إيجاب الفائدة لما انتظم من الكناية والضمير اللذين لا بد لهما من مظهر مذكور وليس في الآية مظهر غير ما تقدم ذكره في أولها وإذا كان كذلك فقد أفادت الآية سقوط الفرض عن الموصي بنفس الوصية وأنه لا يلحقه بعد ذلك من مأثم التبديل شيء بعد موته وفيه دلالة على بطلان قول من أجاز تعذيب الأطفال بذنوب آبائهم وهو نظير قوله ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وقد دلت الآية أيضا على أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه أنه قد برئ من تبعته في الآخرة وإن ترك الورثة قضاءه بعد موته لا يلحقه تبعة ولا إثم وإن إثمه على من بدله دون من أوصى به وفيه الدلالة على أن من كان عليه زكاة ماله فمات ولم يوص به أنه قد صار مفرطا مانعا مستحقا لحكم مانعي الزكاة لأنها لو كانت قد تحولت في المال حسب تحول الديون لكان بمنزلة من أوصى بها عند الموت فينجو من مأثمها ويكون حينئذ المبدل لها مستحقا لمأثمها وكذلك حكى الله تعالى عن مانع الزكاة عند الموت سؤال الرجعة في قوله

وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين فأخبر بحصول التفريط وفوات الأداء إذ لو كان الأداء باقيا على الوارث أو الوصي من ميراث الميت لكانوا هم المستحقين للوم والتعنيف في تركه وكان الميت خارجا عن حكم التفريط فدل ذلك على صحة ما وصفنا من امتناع وجوب أداء زكاته من ميراثه من غير وصية منه به فإن قيل هل يفترق حكم الموصي عند الله في حال تنفيذ وصيته أو تبديلها وهل يكون ما يستحقه من الثواب في الحالين سواء قيل له أن وصية الموصي قد تضمنت شيئين أحدهما استحقاقه الثواب على الله بوصيته والآخر أن وصول ذلك إلى الموصى له يستوجب منه الشكر لله والدعاء للموصي وذلك لا يكون ثوابا للموصي ولكن الموصي يصل عليه من دعاء الموصى له وشكره لله تعالى جزاء له لا للموصي فينتفع الموصي بذلك من وجهين إذا أنفذت الوصية ومتى لم تنفذ كان نفعه مقصورا على الثواب الذي استحقه بوصية دون غيرها فإن قيل فمن كان عليه دين فلم يوص بقضائه وقضاه الورثة هل يبرا الميت من تبعته قيل له امتناعه من قضاء الدين قد تضمن شيئين أحدهما حق الله تعالى والآخر حق الآدمي فإذا استوفى الآدمي حقه فقد برئ من تبعته وبقي من حق الآدمي ما أدخل عليه من الظلم والضرر بتأخيره فإذا لم يتب منه كان مؤاخذا به في الآخرة وبقي حق الله وهو الظلم الواقع منه في حياته لم تكن توبة منه فيه فهو مؤاخذ به فيما بينه وبين الله تعالى ألا ترى أن من غصب من رجل مالا وأصر على منعه كان مكتسبا بذلك المأثم من وجهين أحدهما حق الله بارتكاب نهيه والآخر حق الآدمي بظلمه له وإضراره به فلو أن الآدمي أخذ حقه منه من غير إرادة الغاصب لذلك لكان قد برئ من حقه وبقي حق الله يحتاج إلى التوبة منه فإذا مات غير تائب كانت تبعته باقية عليه لاحقة به وقوله تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إنما هو فيمن بدل ذلك إذا وقع على وجه الصحة والجواز والعدل فأما إذا كانت الوصية جورا فالواجب تبديلها وردها إلى العدل قال الله تعالى غير مضار وصية من الله فإنما تنفذ الوصية إذا وقعت عادلة غير جائرة وقد بين الله تعالى ذلك في الآية التي تليها
باب

الشاهد والوصي إذا علما الجور في الوصية
قال الله تعالى فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه قال أبو

بكر حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى فمن خاف من موص جنفا أو إثما قال هو الرجل يوصي فيجنف في وصيته فيردها الولي إلى العدل والحق وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال الجنف الخطأ والإثم العمد وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وابن طاوس عن أبيه فمن خاف من موص جنفا أو إثما قال هو الموصى لابن ابنه يريد لبنيه وروى المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن في الرجل يوصي للأباعد ويترك الأقارب قال يجعل وصيته ثلاثة أثلاث للأقارب الثلثين وللأباعد الثلث وروى عن طاوس في الرجل يوصي للأباعد قال ينزع منهم فيدفع للأقارب إلا أن يكون فيهم فقير قال أبو بكر الجنف الميل عن الحق وقد حكينا عن الربيع بن أنس أنه قال الجنف الخطأ ويجوز أن يكون مراده الميل عن الحق على وجه الخطأ والإثم ميله عنه على جه العمد وهو تأويل مستقيم وتأوله الحسن على الوصية للأجنبي وله أقرباء أن ذلك حنف وميل عن الحق لأن الوصية كانت عنده للأقارب الذين لا يرثون وتأوله طاوس على معنيين أحدهما الوصية للأباعد فترد إلى الأقارب والآخر أن يوصي لابن ابنته يريد ابنته وقد نسخ وجوب الوصية للوالدين والأقربين فمن خاف من موص جنفا أو إثما غير موجب أن يكون هذا الحكم مقصورا على الوصية المذكورة قبلها لأنه كلام مستقل بنفسه يصح ابتداء الخطاب به غير مضمن بما قبله فهو عام في سائر الوصايا إذا عدل بها عن جهة العدل إلى الجور منتظمة للوصية التي كانت واجبة للوالدين والأقربين في حال بقاء وجوبها وشاملة لسائر الوصايا غيرها فمن خاف من سائر الناس من موص ميلا عن الحق وعدولا إلى الجور فالواجب عليه إرشاده إلى العدل والصلاح ولا يختص بذلك الشاهد والوصي والحاكم دون سائر الناس لأن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن قيل فما معنى قوله تعالى فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم والخوف إنما يختص بما يمكن وقوعه في المستقبل وأما الماضي فلا يكون فيه خوف قيل له يجوز أن يكون قد ظهر له من أحوال الموصي ما يغلب معه على ظنه أنه يريد الجور وصرف الميراث عن الوارث فعلى من خاف ذلك منه رده إلى العدل ويخوفه ذميم عاقبة الجور أو يدخل بين الموصى له وبين الورثة على وجه الصلاح وقد قيل إن معنى قوله فمن خاف أنه علم أن

فيها جورا فيردها إلى ا لعدل وإنما قال تعالى فلا إثم عليه ولم يقل فعليه ردها إلى العدل والصلاح ولا ذكر له فيه استحقاق الثواب لأن أكثر أحوال الداخلين بين الخصوم على وجه الإصلاح أن يسألوا كل واحد منهما ترك بعض حقه فيسبق مع هذه الحال إلى ظن المصلح أن ذلك غير سائغ له ولأنه إنما يعمل في كثير منه على غالب ظنه دون الحقيقة فرخص الله تعالى في الإصلاح بينهم وأزال ظن الظان لامتناع جواز ذلك فلذلك قال فلا إثم عليه في هذا الموضع وقد وعد بالثواب على مثله في غيره فقال تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما وروي في تغليظ الجنف في الوصية ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن قال حدثنا عبدالصمد بن حسان قال حدثنا سفيان الثوري عن عكرمة عن ابن عباس قال الإضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ تلك حدود الله فلا تعتدوها وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قالا حدثنا عبدالله بن يوسف قال حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الإضرار في الوصية من الكبائر وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا طاهر بن عبدالرحمن بن إسحاق القاضي حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أشعث عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدة بن عبدالله قال حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث قال حدثنا نصر بن علي الحداني قال حدثني الأشعث بن جابر قال حدثني شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال إن الرجل والمرأة ليعملان بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت
فيضاران في الوصية فتجب لهما النار ثم قرأ علي أبو هريرة من ههنا من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار حتى بلغ ذلك الفوز العظيم فهذه الأخبار مع ما قدمنا توجب على من علم جنفا في الوصية من موص أن يرده إلى العدل إذا أمكنه ذلك فإن قيل على ماذا يعود الضمير الذي في قوله بينهم قيل

له لما ذكر الله الموصي أفاد بفحوى الخطاب أن هناك موصى له ووارثا تنازعوا فعاد الضمير إليهم بفحوى الخطاب في الإصلاح بينهم وأنشد الفراء ... وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني ... أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني ...
فكنى في البيت الأول عن الشر بعد ذكر الخير وحده لما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه عند ذكر الخير وغيره وقد قيل إن الضمير عائدا على المذكورين في ابتداء الخطاب وهم الوالدان والأقربون وقد أفادت هذه الآية على أن على الوصي والحاكم والوارث وكل من وقف على جور في الوصية من جهة الخطأ او العمد ردها إلى العدل ودل على أن قوله تعالى فمن بدله بعد ما سمعه خاص في الوصية العادلة دون الجائرة وفيها الدلالة على جواز اجتهاد الرأي والعمل على غالب الظن لأن الخوف من الميل يكون في غالب ظن الخائف وفيها رخصة في الدخول بينهم على وجه الإصلاح مع ما فيه من زيادة أو نقصان عن الحق بعد أن يكون ذلك بتراضيهم والله الموفق
باب

فرض الصيام
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون فالله تعالى أوجب علينا فرض الصيام بهذه الآية لأن قوله كتب عليكم معناه فرض عليكم كقوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم وقوله إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا يعني فرضا موقتا والصيام في اللغة هوالإمساك قال الله تعالى إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا يعني صمتا فسمى الإمساك عن الكلام صوما ويقال خيل صيام إذا كانت ممسكة عن العلف وصامت الشمس نصف النهار لأنها ممسكة عن السير والحركة فهذا حكم هذا اللفظ في اللغة وهو في الشرع اسم للكف عن الأكل والشرب وما في معناه وعن الجماع في نهار الصوم مع نية القرابة أو الفرض وهو لفظ مجمل مفتقر إلى البيان عند وروده لأنه اسم شرعي موضوع لمعان لم تكن معقولة في اللغة إلا أنه بعد ثبوت الفرض واستقرار أمر الشريعة قد عقل معناه الموضوع له فيها بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم -
الأمة عليها وقوله تعالى كما
كتب على الذين من قبلكم يعتوره معان ثلاثة كل واحد منها مروي عن السلف قال الحسن والشعبي وقتادة أنه كتب على

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19