كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرها وقد حكي عن سفيان بن عيينة أن رجلا شهد عند ابن أبي ليلى فرد شهادته قال فقلت لابن أبي ليلى مثل فلان وحاله كذا وحال ابنه كذا ترد شهادته فقال أين يذهب بك إنه فقير فكان عنده أن الفقر يمنع الشهادة إذ لا يؤمن به أن يحمله الفقر على الرغبة في المال وأقام شهادة بما لا تجوز وقال مالك بن أنس لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير وتجوز في الشيء التافه إذا كانوا عدولا فشرط مالك مع الفقر المسألة ولم يقبلها في الشيء الكثير للتهمة وقبلها في اليسير لزوال التهمة وقال المزني والربيع عن الشافعي إذا كان الأغلب على الرجل والأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وإذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته وقال محمد بن عبدالله بن عبدالحكم عن الشافعي إذا كان أكثر أمره الطاعة ولم يقدم على كبيرة فهو عدل فأما شرط المروءة فإن أراد به التصاون والصمت والحسن وحفظ الحرمة وتجنب السخف والمجون فهو مصيب وإن أراد به نظافة الثوب وفراهة المركوب وجودة الآلة والشارة الحسنة فقد أبعد وقال غير الحق لأن هذه الأمور ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين
قال أبو بكر جميع ما قدمنا من ذكر أقاويل السلف وفقهاء الأمصار واعتبار كل واحد منهم في الشهادة ما حكينا عنه يدل على أن كلا منهم بنى قبول أمر الشهادة على ما غلب في اجتهاده واستولى على رأيه أنه ممن يرضى ويؤتمن عليها وقد اختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد فروي عن عمر بن الخطاب في كتابه الذي كتبه إلى أبو موسى في القضاء والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة وقال منصور قلت لإبراهيم وما العدل في المسلمين قال من لم تظهر منه ريبة وعن الحسن البصري والشعبي مثله وذكر معمر عن أبيه قال لما ولي الحسن القضاء كان يجيز شهادة المسلمين ةإلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد وذكر هشيم قال سمعت ابن شبرمة يقول ثلاث لم يعمل بهن أحد قبلي ولن يتركهن أحد بعدي المسألة عن الشهود وإثبات حجج الخصمين وتحلية الشهود في المسألة وقال أبو حنيفة لا أسأل عن الشهود إلا أن يطعن فيهم الخصم المشهود عليه فإن طعن فيهم سألت عنهم في السر والعلانية وزكيتهم في العلانية إلا شهود الحدود والقصاص فإني أسأل عنهم في

السر وأزكيهم في العلانية وقال محمد يسأل عنهم وإن لم يطعن فيهم وروى يوسف بن موسى القطان عن علي بن عاصم عن ابن شبرمة قال أول من سأل في السر أنا كان الرجل يأتي القوم إذا قيل له هات من يزكيك فيقول قومي يزكونني فيستحي القوم فيزكونه فلما رأيت ذلك سألت في السر فإذا صحت شهادته قلت هات من يزكيك في العلانية وقال أبو يوسف ومحمد يسأل عنهم في السر والعلانية ويزكيهم في العلانية وإن لم يطعن فيهم الخصم وقال مالك بن أنس لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسئل عنهم في السر وقال الليث أدركت الناس ولا تلتمس من الشاهدين تزكية وإنما كان الوالي يقول للخصم إن كان عندك من يجرح شهادتهم فأت به وإلا أجزنا شهادته عليك وقال الشافعي يسأل عنهم في السر فإذا عدل سأل عن تعديله علانية ليعلم أن المعدل هو هذا لا يوافق اسم اسما ولا نسب نسبا قال أبو بكر ومن قال من السلف بتعديل من ظهر إسلامه فإنما بنى ذلك على ما كانت عليه أحوال الناس من ظهور العدالة في العامة وقلة الفساق فيهم ولأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد شهد بالخير والصلاح للقرن الأول والثاني والثالث حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي قال حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبيدة عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثلاث أو أربع ثم يجيء قوم سبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته قال وكان أصحابنا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صبيان وإنما حمل السلف ومن قال من فقهاء الأمصار مما وصفنا أمر المسلمين في عصرهم على العدالة وجواز الشهادة لظهور العدالة فيهم وإن كان فيهم صاحب ريبة وفسق كان يظهر النكير عليه ويتبين أمره وأبو حنيفة كان في القرن الثالث الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم - بالخير والصلاح فتكلم على ما كانت الحال عليه وأما لو شهد أحوال الناس بعد لقال بقول الآخرين في المسألة عن الشهود ولما حكم لأحد منهم بالعدالة إلا بعد المسألة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للأعرابي الذي شهد على رؤية الهلال أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال نعم فأمر الناس بالصيام بخبره ولم يسأل عن عدالته بعد ظهور إسلامه لما وصفنا فثبت بما وصفنا أن أمر التعديل وتزكية الشهود وكونهم مرضيين مبني على اجتهاد الرأي وغالب الظن لاستحالة إحاطة علومنا بغيب أمور الناس وقد حذرنا الله الإغترار بظاهر حال الإنسان والركون

إلى قوله مما يدعيه لنفسه من الصلاح والأمانة فقال ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية ثم أخبر عن مغيب أمره وحقيقة حاله فقال وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية فأعلمنا ذلك من حال بعض من يعجب ظاهر قوله وقال أيضا في صفة قوم آخرين وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم الآية فحذر نبيه ص - الاغترار بظاهر حال الإنسان وأمرنا بالاقتداء به فقال واتبعوه وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فغير جائز إذا كان الأمر على ما وصفنا الركون إلى ظاهر أمر الإنسان دون التثبت في شهادته والبحث عن أمره حتى إذا غلب في ظنه عدالته قبلها وقد وصف الله تعالى الشهود المقبولين بصفتين إحداهما العدالة في قوله تعالى اثنان ذوا عدل منكم وقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم والأخرى أن يكونوا مرضيين لقوله ممن ترضون من الشهداء والمرضيون لا بد أن تكون من صفتهم العدالة وقد يكون عدلا غير مرضي في الشهادة وهو أن يكون غمرا مغفلا يجوز عليه التذوير والتمويه فقوله ممن ترضون من الشهداء قد انتظم الأمرين من العدالة والتيقظ وذكاء الفهم وشدة الحفظ وقد أطلق الله ذكر الشهادة في الزنا غير مقيد بذكر العدالة وهي من شرطها العدالة والرضى جميعا وذلك لقوله عز و جل إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وذلك عموم في إيجاب التثبت في سائر أخبار الفساق والشهادة خبر فوجب التثبت فيها إذا كان الشاهد فاسقا فلما نص الله على التثبت في خبر الفاسق وأوجب علينا قبول شهادة العدول المرضيين وكان الفسق قد يعلم من جهة اليقين والعدالة لا تعلم من جهة اليقين دون ظاهر الحال علمنا أنها مبنية على غالب الظن وما يظهر من صلاح الشاهد وصدق لهجته وأمانته وهذا وإن كان مبنيا على أكثر الظن فهو ضرب من العلم كما قال تعالى في المهاجرات فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وهذا هو علم الظاهر دون الحقيقة فكذلك الحكم بعدالة الشاهد طريقه العلم الظاهر دون المغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى وهذا أصل كبير في الدلالة على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث إذ كانت الشهادات من معالم أمور الدين والدنيا وقد عقد بها مصالح الخلق في وثائقهم وإثبات حقوقهم وأملاكهم وإثبات الأنساب والدماء والفروج وهي مبنية على غالب الظن وأكثر الرأي إذ لا يمكن أحدا من الناس إمضاء حكم بشهادة شهود من طريق حقيقة العلم بصحة المشهود به وهو يدل

على بطلان القول بإمام معصوم في كل زمان واحتجاج من يحتج فيه بأن أمور الدين كلها ينبغي أن تكون مبنية على ما يوجب العلم الحقيقي دون غالب الظن وأكثر الرأي وأنه متى لم يكن إمام بهذه الصفة لم يؤمن الخطأ فيها لأن الرأي يخطئ ويصيب لأنه لو كان كما زعموا لوجب أن لا تقبل شهادة الشهود إلا أن يكونوا معصومين مأمونا عليهم الخطأ والزلل فلما أمر الله تعالى بقبول شهادة الشهود إذا كانوا مرضيين في ظاهر أحوالهم دون العلم بحقيقة مغيب أمورهم مع جواز الكذب والغلط عليهم ثبت بطلان الأصل الذي بنوا عليه أمر النص فإن قالوا الإمام يعلم صدق الشهود من كذبهم قيل لهم فواجب أن لا يسمع شهادة الشهود غير الإمام وأن لا يكون للإمام قاض ولا أمين إلا أن يكون بمنزلته في العصمة وفي العلم بمغيب أمر الشهود ويجب أن لا يكون أحد من أعوان الإمام إلا معصوما مأمون الزلل والخطأ لما يتعلق به من أحكام الدين فلما جاز أن يكون للإمام حكام وشهود وأعوان بغير هذه الصفة ثبت بذلك جواز كثير من أمور الدين مبنيا على اجتهاد الرأي وغالب الظن وفيما ذكرناه مما تعبدنا الله به في هذه الآية من اعتبار أحوال الشهود بما يغلب في الظن من عدالتهم وصلاحهم دلالة على بطلان قول نفاة القياس والاجتهاد في الأحكام التي لا نصوص فيها ولا إجماع لأن الدماء والفروج والأموال والأنساب من الأمور التي قد عقد بهما مصالح الدين والدنيا وقد أمر الله فيها بقول شهادة الشهود الذين لا نعلم مغيب أمورهم وإنما نحكم بشهاداتهم بغالب الظن وظاهر أحوالهم مع تجويز الكذب والخطأ والزلل والسهو عليهم فثبت بذلك تجويز الاجتهاد واستعمال غلبة الرأي فيما لا نص فيه من أحكام الحوادث ولا اتفاق وفيه الدلالة على جواز قبول الأخبار المقصرة عن إيجاب العلم بمخبراتها من أمور الديانات عن الرسول ص - لأن شهادة الشهود غير موجبة للعلم بصحة المشهود به وقد أمرنا بالحكم بها مع تجويز أن يكون الأمر في المغيب بخلافه فبطل بذلك قول من قال أنه غير جائز قبول خبر من لا يوجب العلم بخبره في أمور الدين وقد دل أيضا على بطلان قول من يستدل على رد أخبار الآحاد بأنا لو قبلناها لكنا قد جعلنا منزلة المخبر أعلى من منزلة النبي صلى الله عليه وسلم - إذ لم يجب في الأصل قبول خبر النبي صلى الله عليه وسلم - إلا بعد ظهور المعجزات الدالة على صدقه لأن الله تعالى قد أمرنا بقبول شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة وإن لم يكن معها علم معجزة يدل على صدقهم وأما ما ذكرنا من اعتبار

نفي التهمة عن الشهادة وإن كان الشاهد عدلا فإن الفقهاء متفقون على بعضها ومختلفون في بعضها فمما اتفق عليه فقهاء الأمصار بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلا شيء يحكى عن عثمان البتي قال تجوز شهادة الولد لوالديه وشهادة الأب لابنه ولامرأته إذا كانوا عدولا مهذبين معروفين بالفضل ولا يستوي الناس في ذلك ففرق بينهما لوالده وبينها للأجنبي فأما أصحابنا ومالك والليث والشافعي والأوزاعي فإنهم لا يجيزون شهادة واحد منهما للآخر فقد حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع عن سفيان عن جابر عن الشعبي عن شريح قال لا تجوز شهادة الإبن لأبيه ولا الأب لابنه ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامرأته وروي عن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عفان قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا خالد الحذاء عن إياس بن معاوية بذلك والذي يدل على بطلان شهادته لابنه قوله عز و جل ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم ولم يذكر بيوت الأبناء لأن قوله تعالى من بيوتكم قد انتظمها إذ كانت منسوبة إلى الآباء فاكتفى بذكر بيوتهم عن ذكر بيوت أبنائهم وقال ص - أنت ومالك لأبيك فأضاف الملك إليه وقال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم فلما أضاف ملك الإبن إلى الأب وأباح أكله له وسماه له كسبا كان المثبت لابنه حقا بشهادته بمنزلة مثبته لنفسه ومعلوم بطلان شهادته لنفسه فكذلك لابنه وإذا ثبت ذلك في الإبن كان ذلك حكم شهادة الابن لأبيه إذ لم يفرق أحد بينهما فإن قيل إذا كان الشاهد عدلا فواجب قبول شهادته لهؤلاء كما نقبلها لأجنبي وإن كانت شهادته لهؤلاء غير مقبولة لأجل التهمة فغير جائز قبولها للأجنبي لأن من كان متهما في الشهادة لابنه بما ليس يحق له فجائزة عليه مثل هذه التهمة للأجنبي قيل له ليست التهمة المانعة من قبول شهادته لابنه ولأبيه تهمة فسق ولا كذب وإنما التهمة فيه من قبل أنه يصير فيها بمعنى المدعي لنفسه ألا ترى أن أحدا من الناس وإن ظهرت أمانته وصحت عدالته لا يجوز أن يكون مصدقا فيما يدعيه لنفسه لا على جهة تكذيبه ولكن من جهة أن كل مدع لنفسه فدعواه غير ثابتة إلا ببينة تشهد له بها فالشاهد لابنه بمنزلة المدعي لنفسه لما بينا وكذلك قال أصحابنا إن كل شاهد يجر بشهادته

إلى نفسه مغنما أو يدفع بها عن نفسه مغرما فغير مقبول الشهادة لأنه حينئذ يقوم مقام المدعي والمدعي لا يجوز أن يكون شاهدا فيما يدعيه ولا أحد من الناس أصدق من نبي الله ص - إذ دلت الأعلام المعجزة على أنه لا يقول إلا حقا وإن الكذب غير جائز عليه مع وقوع العلم لنا بمغيب أمره وموافقة باطنه لظاهره ولم يقتصر فيما ادعاه لنفسه على دعواه دون شهادة غيره حين طالبه الخصم بها وهو قصة خزيمة بن ثابت حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أبو اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري قال حدثنا عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم -

ابتاع فرسا من أعرابي وذكر القصة وقال فطفق الأعرابي يقول هلم شهيدا يشهد
أني قد بايعتك فقال خزيمة أنا أشهد أنك بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال بم تشهد فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل النبي صلى الله عليه وسلم -
شهادة خزيمة بشهادة رجلين فلم يقتصر النبي ص
- في دعواه على ما تقرر وثبت بالدلائل والأعلام أنه لا يقول إلا حقا ولم يقل للأعرابي حين قال هلم شهيدا أنه لا بينة عليه وكذلك سائر المدعين فعليهم إقامة بينة لا يجر بها إلى نفسه مغنما ولا يدفع بها عنها مغرما وشهادة الوالد لولده يجر بها إلى نفسه أعظم المغنم كشهادته لنفسه والله تعالى أعلم
ومن
هذا الباب أيضا شهادة أحد الزوجين للآخر
وقد اختلف الفقهاء فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والليث لا تجوز شهادة واحد منهما للآخر وقال الثوري تجوز شهادة الرجل لامرأته وقال الحسن بن صالح لا تجوز شهادة المرأة لزوجها وقال الشافعي تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر قال أبو بكر هذا نظير شهادة الوالد للولد والولد للوالد وذلك من وجوه أحدها أنه معلوم تبسط كل واحد من الزوجين في مال الآخر في العادة وأنه كالمباح الذي لا يحتاج فيه إلى الإستيذان فما يثبته الزوج لامرأته بمنزلة ما يثبته لنفسه وكذلك ما تثبته المرأة لزوجها ألا ترى أنه لا فرق في المعتاد بين تبسطه في مال الزوج والزوجة وبينه في مال أبيه وابنه ولما كان كذلك وكانت شهادته لوالده وولده غير جائزة كان كذلك حكم شهادة الزوج والزوجة وأيضا فإن شهادته لزوجته بمال توجب زيادة قيمة البضع الذي في ملكه لأن مهره مثلها يزيد بزيادة مالها فكان شاهدا لنفسه بزيادة قيمة ما هو ملكه وقد

روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعبدالله بن عمرو بن الحضرمي لما ذكر له أن عبده سرق مرة لامرأته عبدكم سرق مالكم لا قطع عليه فجعل مال كل واحد منهما مضافا إليهما بالزوجية التي بينهما فما يثبته كل واحد لصاحبه فكأنه يثبته لنفسه ومن جهة أخرى أنه كلما كثر مال الزوج كانت النفقة التي تستحقها أكثر فكأنها شاهدة إذ كانت مستحقة للنفقة بحق الزوجية في حالي الفقر والغنى فإن قال قائل فالأخت الفقيرة والأخ الزمن يستحقان للنفقة على أخيهما إذا كان غنيا ولم يمنع ذلك جواز شهادتهما له قيل له ليست الأخوة موجبة للإستحقاق لأن الغني لا يستحقها مع وجود النسب والفقير لا تجب عليه مع وجود الأخوة والزوجية سبب لاستحقاقها فقيرا كان الزوج أو غنيا فكانت المرأة مثبتة بشهادتها لنفسها زيادة النفقة مع وجود الزوجية الموجبة لها والنسب ليس كذلك لأنه غير موجب للنفقة لوجوده بينهما فلذلك اختلفا
ومن

هذا الباب أيضا شهادة الأجير
وقد ذكر الطحاوي عن محمد بن سنان عن عيسى عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن شهادة الأجير غير جائزة لمستأجره في شيء وإن كان عدلا لا استحسانا قال أبو بكر روى هشام وابن رستم عن محمد أن شهادة الأجير الخاص غير جائزة لمستأجره وتجوز شهادة الأجير المشترك له ولم يذكر خلافا عن أحد منهم وهو قول عبيدالله بن الحسن وقال مالك لا تجوز شهادة الأجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزا في العدالة وإن كان الأجير في عياله لم تجز شهادته له وقال الأوزاعي لا تجوز شهادة الأجير لمستأجره وقال الثوري شهادة الأجير جائزة إذا كان لا يجر إلى نفسه حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا أبو عمر الحوضي قال حدثنا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - رد شهادة الخائن والخائنة وشهادة ذي الغمر على أخيه ورد القانع لأهل البيت وأجازها على غيرهم وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا محمد بن راشد بإسناده مثله إلا أنه قال ورد شهادة القانع لأهل البيت قال أبو بكر قوله القانع لأهل البيت يدخل فيه الأجير الخاص لأن معناه التابع لهم والأجير الخاص هذه صفته وأما الأجير المشترك فهو وسائر الناس في ماله بمنزلة فلا يمنع ذلك جواز شهادته وكذلك شريك العنان تجوز شهادته

له في غير مال الشركة وقال أصحابنا كل شهادة ردت للتهمة لم تقبل أبدا مثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت لفسقه ثم تاب وأصلح فشهد بتلك الشهادة لم تقبل أبدا ومثل شهادة أحد الزوجين للآخر إذا ردت ثم شهد بها بعد زوال الزوجية لم تقبل أبدا وقالوا لو شهد عبد بشهادة أو كافر أو صبي فردت ثم أعتق العبد أو أسلم الكافر أو كبر الصبي أو عتق العبد وشهد بها لم تقبل أبدا ولو لم تكن ردت قبل ذلك فإنها جائزة وروي عن عثمان بن عفان مثل قول مالك وإنما قال أصحابنا أنها إذا ردت لتهمة لم تقبل أبدا من قبل أن الحاكم قد حكم بإبطالها وحكم الحاكم لا يجوز فسخه إلا بحكم ولا يصح فسخه بما لا يثبت من جهة الحكم فلما لم يصح الحكم بزوال التهمة التي من أجلها ردت الشهادة كان حكم الحاكم بإبطال تلك الشهادة ماضيا لا يجوز فسخه أبدا وأما الرق والكفر والصغر فإن المعاني التي ردت من أجلها وحكم الحاكم بإبطالها محكوم بزوالها لأن الحرية والإسلام والبلوغ كل ذلك مما يحكم به الحاكم فلما صح حكم الحاكم بزوال المعاني التي من أجلها بطلت شهادتهم وجب أن تقبل ولما لم يصح أن يحكم الحاكم بزوال التهمة لأن ذلك معنى لا تقوم به البينة ولا يحكم به الحاكم كان حكم الحاكم بإبطالها ماضيا إذا كان ما ثبت من طريق الحكم لا ينفسخ إلا من جهة الحكم فهذه الأمور الثلاثة التي ذكرناها من العدالة ونفي التهمة وقلة الغفلة هي من شرائط الشهادات وقد انتظمها قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء فانظر إلى كثره هذه المعاني والفوائد والدلالات على الأحكام التي في ضمن قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء مع قلة حروفه وبلاغة لفظه ووجازته اختصاره وظهور فوائده وجميع ما ذكرنا من عند ذكرنا لمعنى هذا اللفظ من أقاويل السلف والخلف واستنباط كل واحد منهم ما في مضمونه وتحريم موافقته مع احتماله لجميع ذلك يدل على أنه كلام الله ومن عنده تعالى وتقدس إذ ليس في وسع المخلوقين إيراد لفظ يتضمن من المعاني والدلالات والفوائد والأحكام ما تضمنه هذا القول مع اختصاره وقلة عدد حروفه وعسى أن يكون مالم يحط به علمنا من معانيه مما لو كتب لطال وكثر والله نسئل التوفيق لنعلم أحكامه ودلائل كتابه وأن يجعل ذلك خالصا لوجهه قوله تعالى عز و جل أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى قرئ فتذكر إحداهما الأخرى بالتشديد وقرئ فتذكر إحداهما الأخرى بالتخفيف وقيل إن معناهما قد يكون

واحدا يقال ذكرته وذكرته وروي ذلك عن الربيع بن أنس والسدي والضحاك وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبيد مؤمل الصيرفي قال حدثنا أبو يعلى البصري قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال من قرأ فتذكر مخففة أراد تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ومن قرأ فتذكر بالتشديد أراد من جهة التذكير وروي ذلك عن سفيان بن عيينة قال أبو بكر إذا كان محتملا للأمرين وجب حمل كل واحدة من القراءتين على معنى وفائدة مجددة فيكون قوله تعالى فتذكر بالتخفيف تجعلهما جميعا بمنزلة رجل واحد في ضبط الشهادة وحفظها وإتقانها وقوله تعالى فتذكر من التذكير عند النسيان واستعمال كل واحد منهما على موجب دلالتيهما أولى من الاقتصار بها على موجب دلالة أحدهما ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن قيل يا رسول الله وما نقصان عقلهن قال جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل فهذا موافق لمعنى من تأول فتذكر إحداهما الأخرى على أنهما تصيران في ضبط الشهادة وحفظها بمنزلة رجل وفي هذه الآية دلالة على أنه غير جائز لأحد إقامة شهادة وإن عرف خطه إلا أن يكون ذاكرا لها ألا ترى ذكر ذلك بعد الكتاب والإشهاد ثم قال تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى فلم يقتصر بنا على الكتاب والخط دون ذكر الشهادة وكذلك قوله تعالى ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا فدل ذلك على أن الكتاب إنما أمر به لتستذكر به كيفية الشهادة وأنها لا تقام إلا بعد حفظها وإتقانها وفيها الدلالة على أن الشاهد إذا قال ليس عندي شهادة في هذا الحق ثم قال عندي شهادة فيه أنها مقبولة لقوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى فأجازها إذا ذكرها بعد نسيانها وذكر ابن رستم عن محمد رحمه الله في رجل سئل عن شهادة في أمر كان يعلمه فقال ليس عندي شهادة ثم أنه شهد بها في ذلك عند القاضي قال تقبل منه إذا كان عدلا لأنه يقول نسيتها ثم ذكرتها ولأن الحق ليس له فيجوز قوله عليه وإنما الحق لغيره فكذلك تقبل شهادته فيه قال أبو بكر يعني أنه ليس هذا مثل أن يقول المدعي ليس لي عنده هذا الحق ثم يدعيه فلا تقبل دعواه له بعد إقراره لأنه أبرأه من الحق وأقر على نفسه فجاز إقراره فلا تقبل دعواه بعد ذلك لذلك الحق لنفسه لأنه قد أبطلها بإقراره وأما الشهادة فإنما هي حق للغير فلا يبطلها قوله ليس عندي شهادة وقوله

تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى يدل على صحة هذا القول وقد اختلف الفقهاء في الشهادة على الخط فقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يشهد بها حتى يذكرها وهذا هو المشهور من قولهم وروى ابن رستم قال قلت لمحمد رجل يشهد على شهادة وكتبها بخطه وختمها أو لم يختم عليها وقد عرف خطه قال إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها ختم عليه أو لم يختم قال فقلت إن كان أميا لا يقرأ فكتب غيره له قال لا يشهد حتى يحفظ ويذكرها وقال أبو حنيفة ما وجد القاضي في ديوانه لا يقضي به إلا أن يذكره وقال أبو يوسف يقضي به إذا كان في قمطره وتحت خاتمه لأنه لو لم يفعله أضر بالناس وهو قول محمد ولا خلاف بينهم أنه لا يمضي شيئا منه إذا لم يكن تحت خاتمه وأنه لا يمضي ما وجده في ديوانه غيره من القضاة إلا أن يشهد به الشهود على حكم الحاكم الذي قبله وقال ابن أبي ليلى مثل قول أبي يوسف فيما يجده في ديوانه وذكر أبو يوسف أيضا عن ابن أبي ليلى إذا أقر عند القاضي لخصمه فلم يثبته في ديوانه ولم يقض به عليه ثم سأله المقر له به أن يقضي له على خصمه فإنه لا يقضي به عليه في قول ابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأبو يوسف يقضي به عليه إذا كان يذكره وقال مالك فيمن عرف خطه ولم يذكر الشهادة أنه لايشهد على ما في الكتاب ولكن يؤدي شهادته إلى الحاكم كما علم وليس للحاكم أن يجيزها فإن كتب الذي عليه الحق شهادته على نفسه في ذكر الحق ومات الشهود فأنكر فشهد رجلان أنه خط نفسه فإنه يحكم عليه بالمال ولا يستحلف رب المال وذكر أشهب عنه فيمن عرف خطه ولا يذكر الشهادة أنه يؤديها إلى السلطان ويعلمه ليرى فيه رأيه وقال الثوري إذا ذكر أنه شهد ولا يذكر عدد الدراهم فإنه لا يشهد وإن كتبها عنده ولم يذكر إلا أنه يعرف الكتاب فإنه إذا ذكر أنه شهد وأنه قد كتبها فأرى أن يشهد على الكتاب وقال الليث إذا عرف أنه خط يده وكان ممن يعلم أنه لا يشهد إلا بحق فليشهد وقال الشافعي إذا ذكر إقرار المقر حكم به عليه أثبته في ديوانه أو لم يثبته لأنه لا معنى للديوان إلا الذكر وقال في كتاب المزني أنه لا يشهد حتى يذكر قال أبو بكر قد ذكرنا دلالة قوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ودلالة قوله تعالى بعد ذكر الكتاب ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط إذ الخط والكتاب مأمور به لتذكر به

الشهادة ويدل عليه أيضا قوله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون فإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها وقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم يدل على ذلك ويدل عليه حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع وقد تقدم ذكر سنده وأما الخط فقد يزور عليه وقد يشتبه على الشاهد فيظن أنه خطه وليس بخطه ولما كانت الشهادة من مشاهدة الشيء وحقيقة العلم به فمن لا يذكر الشهادة فهو بخلاف هذه الصفة فلا تجوز له إقامة الشهادة به وقد أكد أمر الشهادة حتى صار لا يقبل فيها إلا صريح لفظها ولا يقبل ما يقوم مقامها من الألفاظ فكيف يجوز العمل على الخط الذي يجوز عليه التزوير والتبديل وقد روي عن أبي معاوية النخعي عن الشعبي فيمن عرف الخط والخاتم ولا يذكر الشهادة أنه لا يشهد به حتى يذكرها وقوله تعالى أن تضل إحداهما معناه أن ينساها لأن الضلال هو الذهاب عن الشيء فلما كان الناسي ذاهبا عما نسيه جاز أن يقال ضل عنه بمعنى أنه نسيه وقد يقال أيضا ضلت عنه الشهادة وضل عنها والمعنى واحد والله تعالى أعلم
باب الشاهد واليمين

اختلف
الفقهاء في الحكم بشاهد واحد مع يمين الطالب فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة لا يحكم إلا بشاهدين ولا يقبل شاهد ويمين في شيء وقال مالك والشافعي يحكم به في الأموال خاصة قال أبو بكر قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء يوجب بطلان القول بالشاهد واليمين وذلك لأن قوله واستشهدوا يتضمن الإشهاد على عقود المداينات التي ابتدأ في الخطاب بذكرها ويتضمن إقامتها عند الحاكم ولزوم الحاكم الأخذ بها لاحتمال اللفظ للحالين ولأن الإشهاد على العقد إنما الغرض فيه إثباته عند التجاحد فقد تضمن لا محالة استشهاد الشاهدين أو الرجل والمرأتين على العقد عند الحاكم وإلزامه الحكم به وإذا كان كذلك فظاهر اللفظ يقتضي الإيجاب لأنه أمر وأوامر الله على الوجوب فقد ألزم الله الحاكم الحكم بالعدد المذكور كقوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله تعالى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولم يجز الاقتصار على ما دون العدد المذكور كذلك العدد المذكور للشهادة غير جائز الاقتصار فيه على ما دونه وفي تجويز أقل منه

مخالفة الكتاب كما لو أجاز مجيز أن يكون حد القذف سبعين أو حد الزنا تسعين كان مخالفا للآية وأيضا قد انتظمت الآية شيئين من أمر الشهود أحدهما العدد والآخر الصفة وهي أن يكونوا أحرارا مرضيين لقوله تعالى من رجالكم وقوله تعالى ممن ترضون من الشهداء فلما لم يجز إسقاط الصفة المشروطة لهم والاقتصار على دونها لم يجز إسقاط العدد إذ كانت الآية مقتضية لاستيفاء الأمرين في تنفيذ الحكم بها وهو العدد والعدالة والرضا فغير جائز إسقاط واحد منهما والعدد أولى بالاعتبار من العدالة والرضا لأن العدد معلوم من جهة اليقين والعدالة إنما نثبتها من طريق الظاهر لا من طريق الحقيقة فلما لم يجز إسقاط العدالة المشروطة من طريق الظاهر لم يجز إسقاط العدد المعلوم من جهة الحقيقة واليقين وأيضا فلما أراد الله الاحتياط في إجازة شهادة النساء أوجب شهادة المرأتين وقال أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ثم قال ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا فنفى بذلك أسباب التهمة والريب والنسيان وفي مضمون ذلك ما ينفي قبول يمين الطالب والحكم له بشاهد واحد لما فيه من الحكم بغير ما أمر به من الاحتياط والاستظهار ونفي الريبة والشك وفي قبول يمينه أعظم الريب والشك وأكبر التهمة وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل على بطلان الشاهد واليمين قول الله تعالى ممن ترضون من الشهداء وقد علمنا أن الشاهد الواحد غير مقبول ولا مراد بالآية ويمين الطالب لا يجوز أن يقع عليها إثم الشاهد ولا يجوز أن يكون رضي فيما يدعيه لنفسه فالحكم بشاهد واحد ويمينه مخالف للآية من هذه الوجوه ورافع لما قصد به من أمر الشهادات من الاحتياط والوثيقة على ما بين الله في هذه الآية وقصد به من المعاني المقصودة بها ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وفرق بين اليمين والبينة فغير جائز أن تكون اليمين بينة لأنه لو جاز أن تسمى اليمين بينة لكان بمنزلة قول القائل البينة على المدعي والبينة على المدعى عليه وقوله البينة اسم للجنس فاستوعب ما تحتها فما من بينة إلا وهي التي على المدعي فإذا لا يجوز أن يكون عليه اليمين وأيضا لما كانت البينة لفظا مجملا قد يقع على معان مختلفة واتفقوا أن الشاهدين والشاهد والمرأتين مرادون بهذا الخبر وأن الاسم يقع عليهم صار كقوله الشاهدان أو الشاهد والمرأتان على المدعي فغير جائز الاقتصار على ما دونهم وهذا الخبر وإن كان وروده من طريق الآحاد فإن

الأمة قد تلقته بالقبول والاستعمال فصار في حيز المتواتر ويدل عليه قوله ص - لو أعطي الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم فحوى هذا الخبر ضربين من الدلالة على بطلان القول بالشاهد واليمين أحدهما أن يمينه دعواه لأن مخبرها ومخبر دعواه واحد فلو استحق بيمينه كان مستحقا بدعواه وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك والثاني إن دعواه لما كانت قوله ومنع النبي صلى الله عليه وسلم - أن يستحق بها شيئا لم يجز أن يستحق بيمينه إذا كانت يمينه قوله ويدل على ذلك حديث علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه في الحضرمي الذي خاصم الكندي في أرض ادعاها في يده وجحد الكندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم - للحضرمي شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك فنفى النبي صلى الله عليه وسلم - أن يستحق شيئا بغير شاهدين وأخبر أنه لا شيء له غير ذلك فإن قيل لم ينف بذلك أن يستحق بإقرار المدعى عليه كذلك لا ينفي أن يستحق بشاهد ويمين قيل له قد كان المدعى عليه جاحدا فبين النبي صلى الله عليه وسلم - حكم ما يوجب صحة دعواه عند الجحود فأما حال الإقرار فلم يجز لها ذكر وهي موقوفة على الدلالة وأيضا فإن ظاهره يقتضي أن لا يستحق شيئا إلا ما ذكرنا في الخبر والإقرار قد ثبت بالإجماع وجوب الاستحقاق به فحكمنا به أو الشاهد واليمين مختلف فيه فقضى قوله شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك ببطلانه واحتج القائلون بالشاهد واليمين بأخبار رويت مبهمة ذكر فيها قضية النبي صلى الله عليه وسلم - به أنا ذاكرها ومبين ما فيها أحدها ما حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أبو سعيد قال حدثنا سليمان قال حدثنا ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن سهل بن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد وروى عثمان بن الحكم عن زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وحديث آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة والحسن بن علي أن زيد بن الحباب حدثهم قال حدثنا سيف يعني ابن سليمان المكي عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن يحيى وسلمة بن شبيب قالا حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار بإسناده ومعناه وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالرحمن بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالله بن الحرث قال حدثنا

سيف بن سليمان عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد قال عمرو وإنما ذاك في الأموال وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا وكيع قال حدثنا خلد بن أبي كريمة عن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة رجل مع يمين المدعي في الحقوق ورواه مالك وسفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قضى بشهادة رجل مع اليمين قال أبو بكر والمانع من قبول هذه الأخبار وإيجاب الحكم بالشاهد واليمين بها وجوه أحدها فساد طرقها والثاني جحود المروي عنه روايتها والثالث رد نص القرآن لها والرابع أنها لو سلمت من الطعن والفساد لما دلت على قول المخالف والخامس احتمالها لموافقة الكتاب فأما فسادها من طريق النقل فإن حديث سيف بن سليمان غير ثابت لضعف سيف بن سليمان هذا ولأن عمرو بن دينار لا يصح له سماع من ابن عباس فلا يصح لمخالفنا الاحتجاج به وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أبو سلمة الخزاعي قال حدثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن سعد بن عبادة عن أبيه أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد فلو كان عنده عن عمرو بن دينار عن ابن عباس لذكره ولم يلجأ إلى ما وجده في كتاب وأما حديث سهيل فإن محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن أبي بكر أبو مصعب الزهري قال حدثنا الدراوردي عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد قال أبو داود وزادني الربيع بن سليمان المؤذن في هذا الحديث قال أخبرنا الشافعي عن عبدالعزيز قال فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه قال عبدالعزيز وقد كان أصابت سهيلا علة أزالت بعض عقله ونسي بعض حديثه فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة عنه عن أبيه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن داود الإسكندراني قال حدثنا زياد يعني ابن يونس قال حدثني سليمان بن بلال عن ربيعة بإسناد أبي مصعب ومعناه قال سليمان فلقيت سهيلا فسألته عن هذا الحديث فقال ما أعرفه فقلت له إن ربيعة أخبرني به عنك قال فإن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني ومثل هذا الحديث لا يثبت به شريعة مع إنكار من روى

عنه إياه وفقد معرفته به فإن قال قائل يجوز أن يكون رواه ثم نسيه قيل له ويجوز أن يكون قد وهم بديا فيه وروى ما لم يكن سمعه وقد علمنا أنه كان آخر أمره جحوده وفقد العلم به فهو أولى وأما حديث جعفر بن محمد فإنه مرسل وقد وصله عبدالوهاب الثقفي وقيل إنه أخطأ فيه فذكر فيه جابرا وإنما هو عن أبي جعفر محمد بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر فهذه الأمور التي ذكرنا إحدى العلل المانعة من قبول هذه الأخبار وإثبات الأحكام بها ومن جهة أخرى وهو ما حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا إسماعيل عن سوار بن عبدالله قال سألت ربيعة الرأي قلت قولكم شهادة الشاهد ويمين صاحب الحق قال وجدت في كتاب سعد فلو كان حديث سهيل صحيحا عند ربيعة لذكره ولم يعتمد على ما وجد في كتاب سعد وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن احمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري في اليمين مع الشاهد قال هذا شيء أحدثه الناس لا إلا شاهدين حدثنا حماد بن خالد الخياط قال سألت ابن أبي ذئب إيش كان الزهري يقول في اليمين مع الشاهد قال كان يقول بدعة وأول من أجازه معاوية وروى محمد بن الحسن عن ابن أبي ذئب قال سألت الزهري عن شهادة شاهد ويمين الطالب فقال ما أعرفه وأنها البدعة وأول من قضى به معاوية والزهري من أعلم أهل المدينة في وقته فلو كان هذا الخبر ثابتا كيف كان يخفى مثله عليه وهو أصل كبير من أصول الأحكام وعلى أنه قد علم أن معاوية أول من قضى به وأنه بدعة وقد روي عن معاوية أنه قضى بشهادة امرأة واحدة في المال من غير يمين الطالب حدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن احمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرزاق وروح ومحمد بن بكر قالوا أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عبدالله ابن أبي مليكة أن علقمة بن أبي وقاص أخبره أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم - شهدت لمحمد بن عبدالله بن زهير وأخوته أن ربيعة بن أبي أمية أعطى أخاه زهير بن أبي أمية نصيبه من ريعه ولم يشهد على ذلك غيرها فأجاز معاوية شهادتها وحدها وعلقمة حاضر ذلك من قضاء معاوية فإن كان قضاء معاوية بالشاهد مع اليمين جائزا فينبغي أن يجوز أيضا قضاؤه بالشاهد من غير يمين الطالب فاقضوا بمثله وأبطلوا حكم الكتاب والسنة وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرزاق قال

أخبرنا ابن جريج قال كان عطاء يقول لا يجوز شهادة على دين ولا غيره دون شاهدين حتى إذا كان عبدالملك بن مروان جعل مع شهادة الرجل الواحد يمين الطالب وروى مطرف بن مازن قاضي أهل اليمن عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال أدركت هذا البلد يعني مكة وما يقضى فيه في الحقوق إلا بشاهدين حتى كان عبدالملك بن مروان يقضي بشاهد ويمين وروى الليث بن سعد عن زريق بن حكيم أنه كتب إلى عمر بن عبدالعزيز وهو عامله إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق فكتب إليه عمر إنا قد كنا نقضي كذلك وإنا وجدنا الناس على غير ذلك فلا تقضين إلا بشهادة رجلين أو برجل وامرأتين فقد أخبر هؤلاء السلف أن القضاء باليمين سنة معاوية وعبدالملك وأنه ليس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم -

فلو كان ذلك عن النبي ص
- لما خفى على علماء التابعين فهذان الوجهان اللذان ذكرنا أحدهما فساد السند واضطرابه والثاني جحود سهيل له وهو العمدة فيه وأخبار ربيعة أن أصله ما وجد في كتاب سعد وإنكار علماء التابعين وأخبارهم أنه بدعة وأن معاوية وعبدالملك أول من قضى به والوجه الثالث أنها لو وردت من طرق مستقيمة تقبل أخبار الآحاد في مثلها وعريت من ظهور نكير السلف على روايتها وأخبارهم أنها بدعة لما جاز الاعتراض بها على نص القرآن إذ غير جائز نسخ القرآن بأخبار الآحاد ووجه النسخ منه أن المفهوم منه الذي لا يرتاب به أحد من سامعي الآية من أهل اللغة حظر قبول أقل من شاهدين أو رجل وامرأتين وفي استعمال هذا الخبر ترك موجب الآية والاقتصار على أقل من العدد المذكور إذ غير جائز أن ينطوي تحت ذكر العدد المذكور في الآية الشاهد واليمين كما كان المفهوم من قوله فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة منع الاقتصار على أقل منها في كونها حدا فإن قال قائل جائز أن يكون حد القاذف أقل من ثمانين وحد الزاني أقل من مائة كان مخالفا للآية كذلك من وجه آخر وهو ما أبان الله تعالى من قبل شهادة رجل واحد فقد لخالف أمر الله وتعالى في إستشهاد شاهتدين وهو مخالف لمعنى كذلك به عن المقصد في الكتاب واستشهاد الشهود في قوله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا وقوله ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى فأخبر أن المقصد فيه الاحتياط والتوثق لصاحب الحق والاستظهار بالكتاب والشهود لنفي الريبة

والشك والتهمة عن الشهود في قوله ممن ترضون من الشهداء وفي الحكم بشاهد ويمين دفع هذه المعاني كلها وإسقاط اعتبارها فثبت بما وصفنا أن الحكم بها خلاف الآية فهذان الوجهان مما قد ظهر بهما مخالفة الحكم بالشاهد واليمين للآية وأيضا فلما كان حكم القرآن في الشاهدين والرجل والمرأتين مستعملا ثابتا وكانت أخبار الشاهد واليمين مختلفا فيها وجب أن يكون خبر الشاهد واليمين منسوخا بالقرآن لأنه لو كان ثابتا لاتفق على استعمال حكمه كاتفاقهم على استعمال حكم القرآن والوجه الرابع أن خبر الشاهد واليمين لو سلم من معارضة الكتاب وورد من طرق مستقيمة لما صح الاحتجاج به في الاستحقاق فشاهد ويمين الطالب وذلك أن أكثر ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قضى بشاهد ويمين وهذه حكاية قضية من النبي ص
- ليس بلفظ عموم في إيجاب الحكم بشاهد ويمين حتى يحتج به في غيره ولم يبين لنا كيفيتها في الخبر وفي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد وذلك محتمل أن يريد به أن وجود الشاهد الواحد لا يمنع استحلاف المدعى عليه وأن وجوده وعدمه بمنزلة وقد كان يجوز أن يظن ظان أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه إذا لم يكن للمدعي شاهد أصلا فأبطل الراوي بنقله لهذه القضية ظن الظان لذلك وأيضا فإن الشاهد قد يكون اسما للجنس فجائز أن يكون مراد الراوي أنه قضى باليمين في حال وبالبينة في حال فلا يكون حكم الشاهد مفيدا للقضاء بشهادة واحد وهذا كقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لما كان اسما للجنس لم يكن المراد سارقا واحدا وجائز أن يكون قضى بشاهد واحد وهو خزيمة بن ثابت الذي جعل شهادته بشهادة رجلين فاستحلف الطالب مع ذلك لأن المطلوب ادعى البراءة والوجه الخامس احتماله لموافقة مذهبنا وذلك بأن تكون القضية فيمن اشترى جارية وادعى عيبا في موضع لا يجوز النظر إليه إلا لعذر فتقبل شهادة الشاهد الواحد في وجود العيب واستحلف المشتري مع ذلك بالله ما رضي فيكون قد قضى بالرد على البائع بشهادة شاهد مع يمين الطالب وهو المشتري وإذا كان خبر الشاهد واليمين محتملا لما وصفنا وجب حمله عليه وأن لا يزال به حكم ثابت من جهة نص القرآن لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو مني وما
خالفه فليس مني

وأيضا فإن القضية المروية في الشاهد واليمين ليس فيها أنها كانت في الأموال أو غيرها وقد اتفق الفقهاء على بطلانه في غير الأموال فكذلك في الأموال فإن قيل قال عمرو ابن دينار ومذهبه وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى بها في الأموال فإذا جاز أن لا يقضى في غير الأموال وإن كانت القضية مبهمة ليس فيها بيان ذكر الأموال ولا غيرها فكذلك لا يقضى به في الأموال إذا لم يبين كيفيتها وليس القضاء بها في الأموال بأولى منه في غيرها فإن قيل إنما يقضى به فيما تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين وهو الأموال فتقوم يمين الطالب مقام شاهد واحد مع شهادة الآخر قيل له هذه دعوى لا دلالة عليها ومع ذلك فكيف صارت يمين الطالب قائمة مقام شاهد آخر دون أن تقوم مقام امرأة ويقال له أرأيت لو كان المدعي امرأة هل تقيم يمينها مقام شهادة رجل فإن قال نعم قيل له فقد صارت اليمين آكد من ا لشهادة لأنك لا تقبل شهادة امرأة واحدة في الحقوق وقبلت يمينها وأقمتها مقام شهادة رجل واحد والله تعالى إنما أمرنا بقبول من نرضى من الشهداء وإن كانت هذه شهادة وقامت يمينها مقام شهادة رجل فقد خالفت القرآن لأن أحدا لا يكون مرضيا فيما يدعيه لنفسه ومما يدل على تناقض قولهم أنه لا خلاف أن شهادة الكافر غير مقبولة على المسلم في عقود المداينات وكذلك شهادة الفاسق غير مقبولة ثم إن كان المدعي كافرا أو فاسقا وشهد منه شاهد واحد استحلفوه واستحق ما يدعيه بيمينه وهو لو شهد مثل هذه الشهادة لغيره وحلف عليها خمسين يمينا لم تقبل شهادته ولا أيمانه وإذا ادعى لنفسه وحلف استحق ما ادعى بقوله مع أنه غير مرضي ولا مأمون لا في شهادته ولا في أيمانه وفي ذلك دليل على بطلان قولهم وتناقض مذهبهم
قوله عز و جل ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا روي عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد والشعبي وطاوس إذا ما دعوا لإقامتها وعن قتادة والربيع بن أنس إذا دعوا لإثبات الشهادة في الكتب وقال ابن عباس والحسن هو على الأمرين جميعا من إثباتها في الكتاب وإقامتها بعد علم الحاكم قال أبو بكر الظاهر أنه عليهما جميعا لعموم اللفظ هو في الابتداء على إثبات الشهادة كأنه قال إذا دعوا لإثبات شهاداتهم في الكتاب ولا خلاف أنه ليس على الشهود الحضور عند المتعاقدين وإنما على المتعاقدين أن يحضرا عند الشهود فإذا حضرا هم وسألاهم إثبات شهاداتهم في الكتاب فهذه الحال هي المرادة بقوله

إذا ما دعوا لإثبات الشهادة وأما إذا ما أثبتا شهادتهما ثم دعيا لإقامتها عند الحاكم فهذا الدعاء هو كحضورهما عند الحاكم للأن الحاكم ا يحضر عند الشاهدين يشهدا عنده وإنما الشهود عليهم الحضور عند الحاكم فالدعاء الأول إنما هو لإثبات الشهادة في الكتاب والدعاء والثاني لحضورهم عند الحاكم وإقامة الشهادة عنده وقوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم يجوز أن ليكيون أيضا على الحالين من الابتداء والإقامة لها عند الحاكم وقوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى لا يدل على أن المراد ابتداء الشهادة لأنه ذكر بعض ما انتظمه اللفظ فلا دلالة فيه على خصوصه فيه دون غيره فإن قال قائل لما قال ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فسماهم شهداء دل على أن المراد حال إقامتها عند الحاكم لأنهم لا يسمون شهداء قبل أن يشهدوا في الكتاب قيل له هذا غلط لأن الله تعالى قال واستشهدوا شهيدين من رجالكم فسماهما شهيدين وأمر باستشهادهما قبل أن يشهدا لأنه لا خلاف أن حال الابتداء مرادة بهذا اللفظ وهو كما قال تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فسماه زوجا قبل أن تتزوج وإنما يلزم الشاهد إثبات الشهداء ابتداء ويلزمه إقامتها على طريق الإيجاب إذا لم يجد من يشهد غيره وهو فرض على الكفاية كالجهاد والصلاة على الجنائز وغسل الموتى دفنهم ومتى قام به بعض سقط عن الباقين وكذلك حكم الشهادة في تحملها وأدائها والذي يدل على أنها فرض على الكفاية أنه غير جائز للناس كلهم الامتناع من تحمل الشهادة ولو جاز لكل واحد أن يمتنع من تحملها لبطلت الوثائق وضاعت الحقوق وكان فيه سقوط ما أمر الله تعالى به وندب إليه من التوثق بالكتاب والاشهاد فدل ذلك على لزوم فرض إثبات الشهادة في الجملة والدليل على أن فرضها غير معين على كل أحد في نفسه اتفاق المسلمين على أنه ليس على كل أحد من الناس تحملها ويدل عليه قوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد فإذا ثبت فرض التحمل على الكفاية كان حكم الأداء عند الحاكم كذلك إذا قام بها البعض منهم سقط عن الباقين وإذا لم يكن في الكتاب إلا شاهدان فقد تعين الفرض عليهما متى دعيا لإقامتها بقوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا وقال ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وقال وأقيموا الشهادة لله وقوله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ولو على أنفسكم وإذا كان منهما مندوحة بإقامة غيرهما فقد سقط

الفرض منهما لما وصفنا قوله عز و جل ولا تساموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله يعني والله أعلم لا تملوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل الذي جرت العادة بتأجيله والكثير الذي ندب فيه الكتاب والإشهاد لأنه معلوم أنه لم يرد به القيراط والدانق ونحوه إذ ليس في العادة المدينة بمثله إلى أجل فأبان أن حكم القليل المتعارف فيه التأجيل كحكم الكثير فيما ندب إليه من الكتابة والإشهاد لما ثبت أن النزر اليسير غير مراد بالآية وإن قليل ما جرت به العادة فهو مندوب إلى كتابته والإشهاد فيه وكل ما كان مبنيا على العادة فطريقه الاجتهاد وغالب الظن وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا توقيف فيها ولا اتفاق وقوله إلى أجله يعني إلى محل أجله فيكتب ذكر الأجل في الكتاب ومحله كما كتب أصل الدين وهذا يدل على أن عليهما أن يكتبا في الكتاب صفة الدين ونقده ومقداره لأن الأجل بعض أوصافه فحكم سائر أوصافه بمنزلته وقوله تعالى ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة فيه بيان أن الغرض الذي أجري بالأمر وبالكتاب واستشهاد الشهود هي الوثيقة والاحتياط للمتداينين عند التجاحد ورفع الخلاف وبين المعنى المراد بالكتابة فأعلمهم أن ذلك أقسط عند الله بمعنى أنه أعدل وأولى أن لا يقع فيه بينهم التظالم وأنه مع ذلك أقوم للشهادة يعني والله أعلم أنه أثبت لها وأوضح منها لو لم تكن مكتوبة وأنه مع ذلك أقرب إلى نفي الريبة والشك فيها فأبان لنا جل وعلا أنه أمر بالكتاب والإشهاد احتياطا لنا في ديننا ودنيانا ودفع التظالم فيما بيننا وأخبر مع ذلك أن في الكتاب من الاحتياط للشهادة ما نفى عنها الريب والشك وأنه أعدل عند الله من أن لا يكون مكتوبا فيرتاب الشاهد فلا ينفك بعد ذلك من أن يقيمها على ما فيها من الارتياب والشك فيقدم على محظور أو يتركها فلا يقيمها فيضيع حق الطالب وفي هذا دليل على أن الشهادة لا تصح إلا مع زوال الريب والشك فيها وأنه لا يجوز للشاهد إقامتها إذا لم يذكرها وإن عرف خطه لأن الله تعالى أخبر أن الكتاب مأمور به لئلا يرتاب بالشهادة فدل ذلك على أنه لا تجوز له إقامتها مع الشك فيها فإذا كان الشك فيها يمنع فعدم الذكر والعلم بها أولى أن يمنع صحتها قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها يعني والله أعلم البياعات التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل فأباح ترك الكتاب فيها وذلك توسعة منه جل

وعز لعباده ورحمة لهم لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في المأكول والمشروب والأقوات التي حاجتهم إليها ماسة في أكثر الأوقات ثم قال تعالى في نسق هذا الكلام وأشهدوا إذا تبايعتم وعمومه يقتضي الإشهادة على سائر عقود البياعات بالأثمان العاجلة والآجلة وإنما خص التجارات الحاضرة غير المؤجلة بإباحة ترك الكتاب فيها فأما الإشهاد مندوب إليه في جميعها إلا النزر اليسير الذي ليس في العادة التوثق فيها بالإشهاد نحو شرى الخبز والبقل والماء وما جرى مجرى ذلك وقد روي عن جماعة من السلف أنهم رأوا الإشهاد في شري البقل ونحوه ولو كان مندوبا إليه لنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة والسلف والمتقدمين ولنقله الكافة لعموم الحاجة إليه وفي علمنا بأنهم كانوا يتبايعون الأقوات وما لا يستغني الإنسان عن شرائه من غير نقل عنهم الإشهاد فيه دلالة على أن الأمر بالإشهاد وإن كان ندبا وإرشادا فإنما هو في البياعات المعقودة على ما يخشى فيه التجاحد من الأثمان الخطيرة والأبدال النفيسة لما يتعلق بها من الحقوق لبعضهم على بعض من عيب إن وجده ورجوع ما يجب لمبتاعيه باستحقاق مستحق لجميعه أو بعضه وكان المندوب إليه فيما تضمنته هذه الآية الكتاب والإشهاد على البياعات المعقودة على أثمان آجلة والإشهاد على البياعات الحاضرة دون الكتاب وروى الليث عن مجاهد في قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم قال إذا كان نسيئة كتب وإذا كان نقدا أشهد وقال الحسن في النقد إن أشهدت فهو ثقة وإن لم تشهد فلا بأس وعن الشعبي مثل ذلك وقد قال قوم إن الأمر بالإشهاد منسوخ بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وقد بينا الصواب عندنا من ذلك فيما سلف قوله عز و جل ولا يضار كاتب ولا شهيد روى يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس قال هي أن يجيء الرجل إلى الكاتب أو الشاهد فيقول إني على حاجة فيقول إنك قد أمرت أن تجيب فلا يضار وعن طاوس ومجاهد مثله وقال الحسن وقتادة لا يضار كاتب فيكتب مالم يؤمر به ولا يضار الشهيد فيزيد في شهادته وقرأ الحسن وقتادة وعطاء ولا يضار كاتب بكسر الراء وقرأ عبدالله بن مسعود ومجاهد لا يضار بفتح الراء فكانت إحدى القرائتين نهيا لصاحب الحق عن مضارة الكاتب والشهيد والقراءة الأخرى فيها نهي الكاتب والشهيد عن مضارة صاحب الحق وكلاهما صحيح مستعمل فصاحب الحق منهي عن مضارة الكاتب والشهيد بأن يشغلهما عن حوائجهما ويلح عليهما في الاشتغال

بكتابه وشهادته والكاتب والشهيد كل واحد منهما منهي عن مضارة الطالب بأن يكتب الكتاب مالم يمل ويشهد الشهيد بما لم يستشهد ومن مضارة الشهيد للطالب القعود عن الشهادة وليس فيها إلا شاهدان فعليهما فرض أدائها وترك مضارة الطالب بالامتناع من إقامتها وكذلك على الكاتب أن يكتب إذا لم يجدا غيره فإن قيل قوله تعالى في التجارة فليس عليكم جناح ألا تكتبوها فرق بينها وبين الدين المؤجل دلالة على أن عليهم كتب الدين المؤجل والإشهاد فيه قيل له ليس كذلك لأن الأمر بالإشهاد على عقود المداينات المؤجلة لما كان مندوبا إليه وكان تاركه تاركا لما ندب إليه من الإحتياط لماله جاز أن يعطف عليه قوله إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها بأن لا تكونوا تاركين لما ندبتم إليه بترك الكتابة كما تكونوا تاركين الندب والاحتياط إذا لم تكتبوا الديون المؤجلة ولم تشهدوا عليها ويحتمل قوله فليس عليكم جناح أنه لا ضرر عليكم في باب حياطة الأموال لأن كل واحد منهما يسلم ما استحق عليه بإزاء تسليم الآخر وقوله وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم عطفا على ذكر المضارة تدل على أن مضارة الطالب للكاتب والشهيد ومضارتهما له فسق لقصد كل واحد منهم إلى مضارة صاحبه بعد نهي الله تعالى عنها والله أعلم
باب

الرهن
قال الله تعالى وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة يعني والله أعلم إذا عدمتم التوثق بالكتاب والإشهاد فالوثيقة برهان مقبوضة وقام الرهن في باب التوثق في الحال التي لا يصل فيها إلى التوثق بالكتاب والإشهاد مقامها وإنما ذكر حال السفر لأن الأغلب فيها عدم ا لكتاب والشهود وقد روي عن مجاهد أنه كان يكره الرهن إلا في السفر وكان عطاء لا يرى به بأسا في الحضر فذهب مجاهد إلى أن حكم الرهن لما كان مأخوذا من الآية وإنما أباحته الآية في السفر لم يثبت في غيره وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك ولا خلاف بين فقهاء الأمصار وعامة السلف في جوازه في الحضر وقد روى إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
اشترى من يهودي طعاما إلى أجل ورهنه درعه وروى قتادة عن أنس قال رهن ا
لنبي ص - درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا لأهله فثبت جواز الرهن في الحضر بفعله ص -
وقال تعالى فاتبعوه وقال لقد كان

لكم في رسول الله أسوة حسنة فدل على أن تخصيص الله لحال السفر بذكر الرهن إنما هو لأن الأغلب فيها عدم الكاتب والشهيد وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - في خمس وعشرين من الإبل ابنة مخاض وفي ست وثلاثين ابنة لبون لم يرد به وجود المخاض واللبن بالأم وإنما أخبر عن الأغلب الأعم من الحال وإن كان جائزا أن لا يكون بأمها مخاض ولا لبن فكذلك ذكر السفر هو على هذا الوجه وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا قطع في ثمر حتى يؤويه الجرين والمراد استحكامه وجفافه لا حصوله في الجرين لأنه لو حصل في بيته أو حانوته بعد إستحكامه وجفافه فسرقه سارق قطع فيه فكان ذكر الجرين على الأغلب الأعم من حاله في استحكامه فكذلك ذكره لحال السفر هو على هذا المعنى وقوله فرهان مقبوضة يدل على أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من وجهين أحدهما أنه عطف على ما تقدم من قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط له من الصفة فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة إذ كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضى للإيجاب والوجه ا لثاني أن حكم الرهن مأخوذ من الآية والآية إنما أجازته بهذه الصفة فغير جائز إجازته على غيرها إذ ليس ههنا أصل آخر يوجب جواز الرهن غير الآية ويدل على أنه لا يصح إلا مقبوضا أنه معلوم أنه وثيقة لمرتهن بدينه ولو صح غير مقبوض لبطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة سائر أموال الراهن التي لا وتيقة للمرتهن فيها وإنما جعل وثيقة له ليكون محبوسا في يده بدينه فيكون عند الموت والإفلاس أحق به من سائر الغرماء ومتى لم يكن في يده كان لغوا لا معنى فيه وهو وسائر الغرماء فيه سواء ألا ترى أن المبيع إنما يكون محبوسا بالثمن ما دام في يد البائع فإن هو سلمه إلى المشتري سقط حقه وكان هو وسائر الغرماء سواء فيه واختلف الفقهاء في إقرار المتعاقدين بقبض الرهن فقال أصحابنا جميعا والشافعي إذا قامت البينة على إقرار الراهن بالقبض والمرتهن يدعيه جازت الشهادة وحكم بصحة الرهن وعند مالك أن البينة غير مقبولة على إقرار المصدق بالقبض حتى يشهدوا على معاينة القبض فقيل إن القياس قوله في الرهن كذلك والدليل على جواز الشهادة على إقرارهما بقبض الرهن اتفاق

الجميع على جواز أقراره بالبيع والغصب والقتل فكذلك قبض الرهن والله أعلم
ذكر

اختلاف الفقهاء في رهن المشاع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يجوز رهن المشاع فيما يقسم ولا فيما لا يقسم وقال مالك والشافعي يجوز فيما لا يقسم وما يقسم وذكر ابن المبارك عن الثوري في رجل يرتهن الرهن ويستحق بعضه قال يحرج من الرهن ولكن له أن يجبر الراهن على أن يجعله رهنا فإن مات قبل أن يجعله رهنا كان بينه وبين الغرماء وقال الحسن بن صالح يجوز رهن المشاع فيما لا يقسم ولا يجوز فيما يقسم قال أبو بكر لما صح بدلالة الآية أن الرهن لا يصح إلا مقبوضا من حيث كان رهنه على جهة الوثيقة وكان في ارتفاع القبض ارتفاع معنى الرهن وهو الوثيقة وجب أن لا يصح رهن المشاع فيما يقسم وفيما لا يقسم لأن المعنى الموجب لاستحقاق القبض وإبطال الوثيقة مقارن العقد وهو الشركة التي يستحق بها دفع القبض للمهايأة فلم يجز أن يصح مع وجود ما يبطله ألا ترى أنه متى استحق ذلك القبض بالمهايأة وعاد إلى يد الشريك فقد بطل معنى الوثيقة وكان بمنزلة الرهن الذي لم يقبض وليس ذلك بمنزلة عارية الرهن المقبوض إذا أعاده لراهن فلا يبطل الرهن وله أن يرده إلى يده من قبل أن هذا القبض غير مستحق وللمرتهن أخذه منه متى شاء وإنما هو ابتدأ به من غير أن يكون ذلك القبض مستحقا بمعنى يقارن العقد وليس هذا أيضا بمنزلة هبة المشاع فيما لا يقسم فيجوز عندنا وإن كان من شرط الهبة القبض كالرهن من قبل أن الذي يحتاج إليه في الهبة من القبض لصحة الملك وليس من شرط بقاء الملك استصحاب اليد فلما صح القبض بديا لم يكن في استحقاق اليد تأثير في رفع الملك ولما كان في استحقاق المرتهن رفع معنى الوثيقة لم يصح مع وجود ما يبطله وينافيه فإن قيل هلا أجزت رهنه من شريكه إذ ليس فيه استحقاق يده في الثاني لأن يده تكون باقية عليه إلى وقت الفكاك قيل له لأن للشريك استخدامه إن كان عبدا بالمهايأة بحق ملكه ومن فعل ذلك لم يكن يده فيه يد رهن فقد استحقت يد الرهن في اليوم الثاني فلا فرق بين الشريك وبين الأجنبي لوجود المعنى الموجب لاستحقاق قبض الرهن مقارنا للعقد واختلف في رهن الدين فقال سائر الفقهاء لا يصح رهن الدين بحال وقال ابن القاسم عن مالك في قياس قوله إذا كان لرجل على رجل دين فبعته بيعا وارتهنت منه الدين الذي

له عليه فهو جائز وهو أقوى من أن يرتهن دينا على غيره لأنه جائز لما عليه قال ويجوز في قول مالك أن يرهن الرجل الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويبتاع من رجل بيعا ويرهن منه الدين الذي يكون له على ذلك الرجل ويقبض ذلك الحق له ويشهد له وهذا قول لم يقل أحد به من أهل العلم سواه وهو فاسد أيضا لقوله تعالى فرهان مقبوضة وقبض الدين لا يصح ما دام دينا لا إذا كان عليه ولا إذا كان على غيره لأن الدين هو حق لا يصح فيه قبض وإنما يتأتى القبض في الأعيان ومع ذلك فإنه لا يخلو ذلك الدين من أن يكون باقيا على حكم الضمان الأول أو منتقلا إلى ضمان الرهن فإن انتقل إلى ضمان الرهن فالواجب أن يبرأ من الفضل إذا كان الدين الذي به الرهن أقل من الرهن وإن كان باقيا على حكم الضمان الأول فليس هو رهنا لبقائه على ما كان عليه والدين الذي على الغير أبعد في الجواز لعدم الحيازة فيه والقبض بحال وقد اختلف الفقهاء في الرهن إذا وضع على يدي عدل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري يصح الرهن إذا جعلاه على يدي عدل ويكون مضمونا على المرتهن وهو قول الحسن وعطاء والشعبي وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة والأوزاعي لا يجوز حتى يقبضه المرتهن وقال مالك إذا جعلاه على يدي عدل فضياعه من الراهن وقال الشافعي في رهن شقص السيف إن قبضه أن يحول حتى يضعه الراهن والمرتهن على يدي عدل أو على يدي الشريك قال أبو بكر قوله عز و جل فرهان مقبوضة يقتضي جوازه إذا قبضه العدل إذ ليس فيه فصل بين قبض المرتهن والعدل وعمومه يقتضي جواز قبض كل واحد منهما وأيضا فإن العدل وكيل للمرتهن في القبض فكان القبض بمنزلة الوكالة في الهبة وسائر المقبوضات بوكالة من له القبض فيها فإن قيل لو كان العدل وكيلا للمرتهن لكان له أن يقبضه منه ولما كان للعدل أن يمنعه إياه قيل له هذا لا يخرجه عن أن يكون وكيلا وقابضا له وإن لم يكن له حق القبض من قبل أن الراهن لم يرض بيده وإنما رضي بيد وكيله ألا ترى أن الوكيل بالشرى هو قابض للسلعة للموكل وله أن يحبسها بالثمن ولو هلك قبل الحبس هلك من مال الموكل وليس جواز حبس الوكيل الرهن عن المرتهن علما لنفي الوكالة وكونه قابضا له ويدل على أن يد العدل يد المرتهن وأنه وكيله في القبض أن للمرتهن متى شاء أن يفسخ هذا الرهن ويبطل يد العدل ويرده إلى الراهن وليس للراهن إبطال يد العدل فدل ذلك

على أن العدل وكيل للمرتهن فإن قيل لو جعلا المبيع على يدي عدل لم يخرج عن ضمان البيع ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري في قبضه كذلك المرتهن قيل له الفرق بينهما أن العدل في البيع لو صار وكيلا للمشتري لخرج عن ضمان البائع وفي خروجه من ضمان بائعه سقوط حقه منه ألا ترى أنه لو أحاز قبضه بطل حقه ولم يكن له استرجاعه لأن المبيع ليس له إلا قبض واحد فمتى وجد سقط حق البائع ولم يكن له أن يرده إلى يده وكذلك إذا أودعه إياه فلذلك لم يكن العدل وكيلا للمشتري لأنه لو صار وكيلا له لصار قابضا له قبض بيع ولم يكن المشتري ممنوعا منه فكان لا معنى لقبض العدل بل يكون المشتري كأنه قبضه والبائع لم يرض بذلك فلم يجز إثباته ولم يصح أن يكون العدل وكيلا للمشتري ومن جهة أخرى أنه لو قبضه للمشتري لتم البيع فيه وفي تمام البيع سقوط حق البائع فيه فلا معنى لبقائه في يدي العدل بل يجب أن يأخذه المشتري والبائع لم يرض بذلك وليس كذلك الرهن لأن كون العدل وكيلا للمرتهن لا يوجب إبطال حق الراهن ألا ترى أن حق الراهن باق بعد قبض المرتهن فكذلك بعد قبض العدل فلا فرق بين قبض العدل وقبض المرتهن وفارق العدل في الشرى لامتناع كونه وكيلا للمشتري إذ كان يصير في معنى قبض المشتري في خروجه من ضمان البائع ودخوله في ضمانه وفي معنى تمام البيع فيه وسقوط حق البائع منه والبائع لم يرض بذلك ولا يجوز أن يكون عدلا للبائع من قبل أن حق الحبس موجب له بالعقد فلا يسقط ذلك أو يرضى بتسليمه إلى المشتري أو يقبض الثمن والله أعلم
باب

ضمان الرهن
قال الله تعالى فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته فعطف بذكر الأمانة على الرهن فذلك يدل على أن الرهن ليس بأمانة وإذا لم يكن أمانة كان مضمونا إذ لو كان الرهن أمانة لما عطف عليه الأمانة لأن الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره واختلف الفقهاء في حكم الرهن فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن أبي ليلى والحسن بن صالح الرهن مضمون بأقل من قيمته ومن الدين وقال الثقفي عن عثمان البتي ما كان من رهن ذهبا أو فضة أو ثيابا فهو مضمون يترادان الفضل وإن كان عقارا أو حيوانا فهلك فهو من مال الراهن والمرتهن على حقه إلا أن يكون الراهن

اشترط الضمان فهو على شرطه وقال ابن وهب عن مالك إن علم هلاكه فهو من مال الراهن ولا ينقص من حق المرتهن شيء وإن لم يعلم هلاكه فهو من مال المرتهن وهو ضامن لقيمته يقال له صفه فإذا وصفه حلف على صفته وتسمية ماله فيه ثم يقومه أهل البصر بذلك فإن كان فيه فضل عما سمي فيه أخذه الراهن وإن كان أقل مما سمى الراهن حلف على ما سمى وبطل عنه الفضل وإن أبى الراهن أن يحلف أعطى المرتهن ما فضل بعد قيمة الرهن وروى عنه ابن القاسم مثل ذلك وقال فيه إذا شرط أن المرتهن مصدق في ضياعه وأن لا ضمان عليه فيه فشرطه باطل وهو ضامن وقال الأوزاعي إذا مات العبد الرهن فدينه باق لأن الرهن لا يغلق ومعنى قوله لا يغلق الرهن أنه لا يكون بما فيه إذا علم ولكن يترادان الفضل إذا لم يعلم هلاكه وقال الأوزاعي في قوله له غنمه وعليه غرمه قال فأما غنمه فإن كان فيه فضل رد إليه وأما غرمه فإن كان فيه نقصان وفاه إياه وقال الليث الرهن مما فيه إذا هلك ولم تقم بينة على ما فيه إذا اختلفا في ثمنه فإن قامت البينة على ما فيه ترادا الفضل وقال الشافعي هو أمانة لا ضمان عليه فيه بحال إذا هلك سواء كان هلاكه ظاهرا أو خفيا قال أبو بكر قد اتفق السلف عن الصحابة والتابعين على ضمان الرهن لا نعلم بينهم خلافا فيه إلا أنهم اختلفوا في كيفية ضمانه اختلفت الرواية عن علي رضي الله عنه فروى إسرائيل عن عبدالأعلى عن محمد بن علي عن علي قال إذا كان أكثر مما رهن فهلك فهو بما فيه لأنه أمين في الفضل وإذا كان بأقل مما رهنه به فهلك رد الراهن الفضل وروى عطاء عن عبيد بن عمير عن عمر مثله وهو قول إبراهيم النخعي وروى الشعبي عن الحرث عن علي في الرهن إذا هلك قال يترادان الفضل وروى قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي قال إذا ان فيه فضل فأصابته جائحة فهو بما فيه وإن لم تصبه جائحة واتهم فإنه يرد الفضل فروى عن علي هذه الروايات الثلاث وفي جميعها ضمانه إلا أنهم اختلفوا عنه في كيفية الضمان على ما وصفنا وروي عن ابن عمر أنه يترادان الفضل وقال شريح والحسن وطاوس والشعبي وابن شبرمة أن الرهن بما فيه وقال شريح وإن كان خاتما من حديد بمائة درهم فلما اتفق السلف على ضمانه وكان اختلافهم إنما هو في كيفية الضمان كان قول القائل إنه أمانة غير مضمون خارجا عن قول الجميع وفي الخروج عن اختلافهم مخالفة لإجماعهم وذلك أنهم لما اتفقوا على ضمانه فذلك اتفاق منهم على

بطلان قول القائل بنفي ضمانه ولا فرق بين اختلافهم في كيفية ضمانه وبين اتفاقهم على وجه واحد فيه أن يكون قد حصل من اتفاقهم أنه مضمون فهذا اتفاق قاض بفساد قول من جعله أمانة وقد تقدم ذكر دلالة الآية على ضمانه ومما يدل عليه من جهة السنة حديث عبدالله بن المبارك عن مصعب بن ثابت قال سمعت عطاء يحدث أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - للمرتهن ذهب حقك وفي لفظ آخر لا شيء لك فقوله للمرتهن ذهب حقك إخبار بسقوط دينه لأن حق المرتهن هو دينه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن علي الغنوي وعبدالوارث بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن أبي أمية الزارع قال حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الرهن بما فيه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحسين بن إسحاق قال حدثنا المسيب بن واضح قال حدثنا ابن المبارك عن مصعب بن ثابت قال حدثنا علقمة بن مرثد عن محارب بن دثار قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن الرهن بما فيه والمفهوم من ذلك ضمانه بما فيه من الدين ألا ترى إلى قول شريح الرهن بما فيه ولو خاتما من حديد وكذلك قول محارب بن دثار إنما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في خاتم رهن بدين فهلك أنه بما فيه وظاهر ذلك يوجب أن يكون بما فيه قل الدين أو كثر إلا أنه قد قامت الدلالة على أن مراده إذا كان الدين مثل الرهن أو أقل وأنه إذا كان الدين أكثر رد الفضل ويدل على أنه مضمون اتفاق الجميع على أن المرتهن أحق به بعد الموت من سائر الغرماء حتى يباع فيستوفي دينه منه فدل ذلك على أنه مقبوض للإستيفاء فقد وجب أن يكون مضمونا ضمان الإستيفاء لأن كل شيء مقبوض على وجه فإنما يكون هلاكه على الوجه الذي هو مقبوض به كالمغصوب متى هلك هلك على ضمان الغصب وكذلك المقبوض على بيع فاسد أو جائز إنما يهلك على الوجه الذي حصل قبضه عليه فلما كان الرهن مقبوضا للإستيفاء بالدلالة التي ذكرنا وجب أن يكون هلاكه على ذلك الوجه فيكون مستوفيا بهلاكه لدينه الذي يصح عليه الإستيفاء فإذا كان الرهن أقل قيمة فغير جائز أن يجعل استيفاء العدة بما هو أقل منها وإذا كان أكثر منه لم يجز أن يستوفى منه أكثر من مقدار دينه فيكون أمينا في الفضل ويدل على ضمانه اتفاق الجميع على بطلان الرهن بالأعيان نحو الودائع والمضاربة والشركة لا يصح الرهن بها لأنه لو هلك لم يكن مستوفيا للعين وصح بالديون المضمونة وفي هذا دليل على أن الرهن مضمون

بالدين فيكون المرتهن مستوفيا له بهلاكه ويدل عليه أنا لم نجد في الوصول حبسا لملك الغير لحق لا يتعلق به ضمان ألا ترى أن المبيع مضمون على البائع حتى يسلمه إلى المشتري لما كان محبوسا بالثمن وكذلك الشيء المستأجر يكون محبوسا في يد مستأجره مضمونا بالمنافع استعمله أو لم يستعمله ويلزمه بحبسه ضمان الأجرة التي هي بدل المنافع فثبت أن حبس ملك الغير لا يخلو من تعلق ضمان واحتج الشافعي لكونه أمانة بحديث ابن أبي ذؤيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه قال الشافعي
ووصله ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر إنما يوصله يحيى بن أبي أنيسة وقوله له غنمه وعليه غرمه من كلام سعيد بن المسيب كما روى مالك ويونس وابن أبي ذؤيب عن ابن شهاب عن ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا يغلق الرهن قال يونس بن زيد قال ابن شهاب وكان ابن المسيب يقول الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه فأخبر ابن شهاب أن هذا قول ابن المسيب لا عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولو كان ابن المسيب قد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم -
لما قال وكان ابن المسيب يقول ذلك بل كان يغرمه إلى النبي ص
- فاحتج الشافعي بقوله له غنمه وعليه غرمه بأنه قد أوجب لصاحب الرهن زيادته وجعل عليه نقصانه والدين بحاله قال أبو بكر فأما قوله لا يغلق الرهن فإن إبراهيم النخعي وطاوسا ذكرا جميعا أنهم كانوا يرهنون ويقولون إن جئتك بالمال إلى وقت كذا وإلا فهو لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يغلق الرهن وتأوله على ذلك أيضا مالك وسفيان وقال أبو عبيد لا يجوز في كلام العرب أن يقال للرهن إذا ضاع قد غلق الرهن إنما يقال غلق إذا استحقه المرتهن فذهب به وهذا كان من فعل أهل الجاهلية فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله لا يغلق الرهن وقال بعض أهل اللغة إنهم يقولون غلق الرهن إذا ذهب بغير شيء قال زهير ... وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى رهنها غلقا ... يعني ذهبت بقلبه شيء ومنه قول الأعشى ... فهل يمنعني ارتياد البلا ... دمن حذر الموت أن يأتين ... على رقيب له حافظ ... فقل في امرئ غلق مرتهن ... فقال في البيت الثاني فقل في امرئ غلق مرتهن يعني أنه يموت فيذهب بغير شيء كأن لم

يكن فهذا يدل على أن قوله لا يغلق الرهن ينصرف على وجهين أحدهما إن كان قائما بعينه لم يستحقه المرتهن بالدين عند مضي الأجل والثاني عند الهلاك لا يذهب بغير شيء وأما قوله له غنمه وعليه غرمه فقد بينا أنه من قول سعيد بن المسيب أدرجه في الحديث بعض الرواة وفصله بعضهم وبين أنه من قوله وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأما ما تأوله الشافعي من أن له زيادته وعليه نقصانه فإنه تأويل خارج عن أقاويل الفقهاء خطأ في اللغة وذلك لأن الغرم في أصل اللغة هو اللزوم قال الله تعالى إن عذابها كان غراما يعني ثابتا لازما والغريم الذي قد لزمه الدين ويسمى به أيضا الذي له الدين لأن له اللزوم والمطالبة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - يستعيذ بالله من المأثم والمغرم فقيل له في ذلك فقال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف فجعل الغرم هو لزوم المطالبة له من قبل الآدمي وفي حديث قبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن المسألة لا تحل إلا من ثلاث فقر مدقع أو غرم مفظع أو دم موجع وقال تعالى إنما الصدقات للفقراء إلى قوله والغارمين وهم المدينون وقال تعالى إنا لمغرمون يعني ملزمون مطالبون بديوننا فهذا أصل الغرم في أصل اللغة وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي في معنى الغرم قال أبو عمر أخطأ من قال إن هلاك المال ونقصانه يسمى غرما لأن الفقير الذي ذهب ماله لا يسمى غريما وإنما الغريم من توجهت عليه المطالبة للآدمي بدين وإذا كان كذلك فتأويل من تأوله وعليه غرمه أنه نقصانه خطأ وسعيد بن المسيب هو راوي الحديث وقد بينا أنه هو القائل له غنمه وعليه غرمه ولم يتأوله على ما قاله الشافعي لأن من مذهبه ضمان الرهن وذكر عبدالرحمن بن أبي الزناد في كتاب السبعة عن أبيه عن سعيد بن المسيب وعروة والقاسم بن محمد وأبي بكر بن عبدالرحمن وخارجة بن زيد وعبيدالله بن عبيدالله وغيرهم أنهم قالوا الرهن بما فيه إذا هلك وعميت قيمته ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت أن من مذهب سعيد بن المسيب ضمان الرهن فكيف يجوز أن يتأول متأول قوله وعليه غرمه على نفي الضمان فإن كان ذلك رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -

فالواجب على مذهب الشافعي أن يقضي بتأويل الراوي على مراد النبي ص
- لأنه زعم أن الراوي للحديث أعلم بتأويله فجعل قول عمرو بن دينار في الشاهد واليمين أنه في الأموال حجة في أن لا يقضي في غير الأموال وقضى بقول ابن جريج في حديث القلتين أنه بقلال

هجر على مراد النبي صلى الله عليه وسلم -

وجعل مذهب ابن عمر في خيار المتبايعين مالم يفترقا إنه على التفرق
بالأبدان قاضيا على مراد النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك فلزمه على هذا أن يجعل قول سعيد بن المسيب قاضيا على مراد النبي صلى الله عليه وسلم -
إن كان قوله وعليه غرمه ثابتا عنه وإنما معنى قوله له غنمه أن للراهن
زيادته وعليه غرمه يعني دينه الذي به الرهن وهو تفسير قوله ص - لا يغلق الرهن لأنهم كانوا يوجبون استحقاق ملك الرهن للمرتهن بمضي الأجل قبل انقضاء الدين فقال ص - لا يغلق الرهن أي لا يستحقه المرتهن بمضي ا لأجل ثم فسره فقال لصاحبه يعني للراهن غنمه يعني زيادته فبين أن المرتهن لا يستحق غير عين الرهن لإنمائه وزيادته وإن دينه باق عليه كما كان وهو معنى قوله وعليه غرمه كقوله وعليه دينه فإذا ليس في الخبر دلالة على كون الرهن غير مضمون بل هو دال على أنه مضمون على ما بينا قال أبو بكر وقوله ص - لا يغلق الرهن إذا أراد به حال بقائه عند الفكاك وإبطال النبي صلى الله عليه وسلم -
شرط استحقاق ملكه بمضي الأجل قد حوى معاني منها أن الرهن لا تفسده الشروط
الفاسدة بل يبطل الشرط ويجوز هو لإبطال النبي صلى الله عليه وسلم - شرطهم وإجازته الرهن ومنها أن الرهن لما كان شرط صحته القبض كالهبة والصدقة ثم لم تفسده الشروط وجب أن يكون كذلك حكم ما لا يصح إلا بالقبض من الهبات والصدقات في أن الشروط لا تفسدها لاجتماعها في كون القبض شرطا لصحتها وقد دل هذا الخبر أيضا على أن عقود التمليكات لا تعلق على الأخطار لأن شرطهم لملك الرهن بمضي المدة كان تمليكا معلقا على خطر وعلى مجيء وقت مستقبل فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم - شرط التمليك على هذا الوجه فصار ذلك أصلا في سائر عقود التمليكات والبراءة في امتناع تعلقها على الأخطار ولذلك قال أصحابنا فيمن قال إذا جاء غد فقد وهبت لك العبد أو قال قد بعتكه أنه باطل لا يقع به الملك وكذلك إذا قال إذا جاء غد فقد أبرأتك مما لي عليك من الدين كان ذلك باطلا وفارق ذلك عندهم العتاق والطلاق في جواز تعلقهما على الأخطار لأن لهما أصلا آخر وهو أن الله تعالى قد أجاز الكتابة بقوله ص - وكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وهو أن يقول كاتبتك على ألف درهم فإن أديت فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق وذلك عتق معلق على خطر وعلى مجيء حال مستقبلة وقال في شأن الطلاق فطلقوهن لعدتهن ولم يفرق بين إيقاعه في الحال وبين إضافته إلى وقت السنة ولما كان إيجاب هذا العقد أعني العتق على مال والخلع بمال

مشروط للزوج يمنع الرجوع فيما أوجبه قبل قبول العبد والمرأة صار ذلك عتقا معلقا على شرط بمنزلة شروط الأيمان التي لا سبيل إلى الرجوع فيها وفي ذلك دليل على جواز تعلقهما على شروط وأوقات مستقبلة والمعنى في هذين أنهما لا يلحقهما الفسخ بعد وقوعهما وسائر العقود التي ذكرناها من عقود التمليكات يلحقها الفسخ بعد وقوعها فلذلك لم يصح تعلقها على الأخطار ونظير دلالة قوله ص -

لا يغلق الرهن على ما ذكرنا ما روي عن النبي ص
- أنه نهى عن بيع المنابذة والملامسة وعن بيع الحصاة وهذه بياعات كان أهل الجاهلية يتعاملون بها فكان أحدهم إذا لمس السلعة أو ألقى الثوب إلى صاحبه أو وضع عليه حصاة وجب البيع فكان وقوع الملك متعلقا بغير الإيجاب والقبول بل بفعل آخر يفعله أحدهما فأبطله النبي صلى الله عليه وسلم - فدل ذلك على أن عقود التمليكات لا تتعلق على الأخطار وإنما جعل أصحابنا الرهن مضمونا بأقل من قيمته ومن الدين من قبل أنه لما كان مقبوضا للاستيفاء وجب اعتبار ما يصح الاستيفاء به وغير جائز أن يستوفي من عدة أقل منها ولا أكثر فوجب أن يكون أمينا في الفضل وضامنا لما نقص الرهن عن الدين ومن جعله بما فيه قل أو كثر شبهة بالمبيع إذا هلك في يد البائع أنه يهلك بالثمن قل أو كثر والمعنى الجامع بينهما أن كل واحد محبوس بالدين وليس هذا كذلك عندنا لأن المبيع إنما كان مضمونا بالثمن قل أو كثر لأن البيع ينتقض بهلاكه فسقط الثمن إذ غير جائز بقاء الثمن مع انتقاض البيع وأما الرهن فإنه يتم بهلاكه ولا ينتقض وإنما يكون مستوفيا للدين به فوجب اعتبار ضمانه بما وصفنا فإن قيل إذا جاز أن يكون الفضل عن الدين أمانة فما أنكرت أن يكون جميعه أمانة وأن لا يكون حبسه بالدين للاستيفاء موجبا لضمانه لوجودنا هذا المعنى في الزيادة مع عدم الضمان فيها وكذلك ولد المرهونة المولود بعد الرهن يكون محبوسا في يد المرتهن مع الأم ولو هلك هلك بغير شيء فيه ولم يكن كونه محبوسا في يد المرتهن علة لكونه مضمونا قيل له إن الزيادة على الدين من مقدار قيمة الرهن وولد المرهونة كلاهما تابع للأصل غير جائز إفرادهما دون الأصل إذا أدخلا في العقد على وجه التبع وإذا كان كذلك لم يجز إفرادهما بحكم الضمان لامتناع إفرادهما بالعقد المتقدم قبل حدوث الولادة وليس حكم ما يدخل في العقد على وجه التبع حكم ما يفرد به ألا ترى أن ولد أم الولد يدخل في حكم الأم ويثبت له حق الإستيلاد على وجه التبع ولا يصح انفراده في الأصل

بهذا الحق لا على وجه التبع وكذلك ولد المكاتبة يدخل في الكتابة وهو حمل مع استحالة إفراده بالعقد في تلك الحال فكذلك ما ذكرت من زيادة الرهن وولد المرهونة لما دخلا في العقد على وجه التبع لم يلزم على ذلك أن يجعل حكمهما حكم الأصل ولا أن يلحقهما بمنزلة ما ابتدئ العقد عليهما ويدل على ذلك أن رجلا لو أهدى بدنة فزادت في بدنها أو ولدت أن عليه أن يهديها بزيادتها وولدها ولو ذهبت الزيادة وهلك الولد لم يلزمه بالهلاك شيء غير ما كان عليه وكذلك لو كان عليه بدنة وسط فأهدى بدنة خيارا مرتفعة أن هذه الزيادة حكمها ثابت ما بقي الأصل فإن هلك قبل أن ينحر بطل حكم الزيادة وعاد إلى ما كان عليه في ذمته وكذلك لو كان بدل الزيادة ولدا ولدته كان في هذه المنزلة فكذلك ولد المرهونة وزيادتها على قيمة الرهن هذا حكمهما في بقاء حكمهما ما داما قائمين وسقوط حكمهما إذا هلكا والله أعلم
ذكر

اختلاف الفقهاء في الإنتفاع بالرهن
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زيادة وزفر لا يجوز للمرتهن الإنتفاع بشيء من الرهن ولا للراهن أيضا وقالوا إذا آجر المرتهن الراهن بإذن الراهن أو آجره الراهن بإذن المرتهن فقد خرج من الراهن ولا يعود وقال ابن أبي ليلى إذا آجره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله والغلة للمرتهن قضاء من حقه وقال ابن القاسم عن مالك إذا خلى المرتهن بين الرهن والراهن يكريه أو يسكنه أو يعيره لم يكن رهنا وإذا آجره المرتهن بإذن الراهن لم يخرج من الرهن وكذلك إذا أعاره المرتهن بإذن الراهن فهو رهن على حاله فإذا آجره المرتهن بإذن الراهن فالأجر لرب الأرض ولا يكون الكرى رهنا بحقه إلا أن يشترط المرتهن فإن اشتراطه في البيع أن يرتهن ويأخذ حقه من الكرى فإن مالكا كره ذلك وإن لم يشترط ذلك في البيع وتبرع به الراهن بعد البيع فلا بأس به وإن كان البيع وقع بهذا الشرط إلى أجل معلوم أو شرط فيه البائع بيعه الرهن ليأخذها من حقه فإن ذلك جائز عند مالك في الدور والأرض وكرهه في الحيوان وذكر المعافى عن الثوري أنه كره أن ينتفع من الرهن بشيء ولا يقرأ في المصحف المرهون وقال الأوزاعي غلة الرهن لصاحبه ينفق عليه منها والفضل له فإن لم تكن له غلة وكان يستخدمه فطعامه بخدمته فإن لم يكن يستخدمه فنفقته على صاحبه وقال الحسن بن صالح لا يستعمل الرهن

ولا ينتفع به إلا أن يكون دارا يخاف خرابها فيسكنها المرتهن لا يريد الانتفاع بها وإنما يريد إصلاحها وقال ابن أبي ليلى إذا لبس المرتهن الخاتم للتجمل ضمن وإن لبسه ليحوزه فلا شيء عليه وقال الليث بن سعد لا بأس بأن يستعمل العبد الرهن بطعامه إذا كانت النفقة بقدر العمل فإن كان العمل أكثر أخذ فضل ذلك من المرتهن وقال المزني عن الشافعي فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - الرهن محلوب ومركوب أي من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الرهن م ظهرها ودرها وللراهن أن يستخدم العبد ويركب الدابة ويحلب الدر ويجز الصوف ويأوي بالليل إلى المرتهن أو الموضوع على يده قال أبو بكر لما قال الله تعالى فرهان مقبوضة فجعل القبض من صفات الرهن أوجب ذلك أن يكون استحقاق القبض موجبا لإبطال الرهن فإذا آجره أحدهما بإذن صاحبه خرج من الرهن لأن المستأجر قد استحق القبض الذي به يصح الرهن وليس ذلك كالعارية عندنا لأن العارية لا توجب استحقاق القبض إذ للمعير أن يرد العارية إلى يده متى شاء واحتج من أجاز إجازته والإنتفاع به بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونا والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويحلب النفقة فذكر في هذا الحديث أن وجوب النفقة لركوب ظهره وشرب لبنه ومعلوم أن الراهن إنما يلزمه نفقته لملكه لا لركوبه ولبنه لأنه لو لم يكن مما يركب أو يحلب لزمته النفقة فهذا يدل على أن المراد به أن اللبن والظهر للمرتهن بالنفقة التي ينفقها وقد بين ذلك هشيم في حديثه فإنه رواه عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها ويركب فبين في هذا الخبر أن المرتهن هو الذي تلزمه النفقة ويكون له ظهره ولبنه وقال الشافعي إن نفقته على الراهن دون المرتهن فهذا الحديث حجة عليه لا له وقد روى الحسن بن صالح عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال لا ينتفع من الرهن بشيء فقد ترك الشعبي ذلك وهو رواية عن أبي هريرة فهذا يدل على أحد معنيين إما أن يكون الحديث غير ثابت في الأصل وإما أن يكون ثابتا وهو منسوخ عنده وهو كذلك عندنا لأن مثله كان جائزا قبل تحريم الربا فلما حرم الربا وردت الأشياء إلى مقاديرها صار ذلك منسوخا ألا ترى أنه جعل النفقة بدلا من اللبن قل أو كثر وهو نظير

ما روي في المصراة أنه يردها ويرد معها صاعا من تمر ولم يعتبر مقدار اللبن الذي أخذه وذلك أيضا عندنا منسوخ بتحريم الربا ويدل على بطلان قول القائلين بإيجاب الركوب واللبن للراهن إن الله تعالى جعل من صفات الرهن القبض كما جعل من صفات الشهادة العدالة بقوله اثنان ذوا عدل منكم وقوله ممن ترضون من الشهداء ومعلوم أن زوال هذه الصفة عن الشهادة يمنع جواز الشهادة فكذلك لما جعل من صفات الرهن أن يكون مقبوضا بقوله فرهان مقبوضة وجب إبطال الرهن لعدم هذه الصفة وهو استحقاق القبض فلو كان الراهن مستحقا للقبض الذي به يصح الرهن لمنع ذلك من صحته بديا لمقارنة ما يبطله ولو صح بديا لوجب أن يبطل باستحقاق قبضه وجوب رده إلى يده وأيضا لما اتفق الجميع على أن الراهن ممنوع من وطء الأمة المرهونة والوطء من منافعها وجب أن يكون ذلك حكم سائر المنافع في بطلان حق الراهن فيها ومن جهة أخرى أن الراهن إنما لم يستحق الوطء لأن المرتهن يستحق ثبوت يده عليها كذلك الإستخدام واختلف الفقهاء فيمن شرط ملك الرهن للمرتهن عند حلول الأجل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا رهنه رهنا وقال إن جئتك بالمال إلى شهر وإلا فهو بيع فالرهن جائز والشرط باطل وقال مالك الرهن فاسد وينقض فإن لم ينقض حتى حل الأجل فإنه لا يكون للمرتهن بذلك الشرط وللمرتهن أن يحبسه بحقه وهو أحق به من سائر الغرماء فإن تغير في يده لم يرد ولزمته القيمة في ذلك يوم حل الأجل وهذا في السلع والحيوان وأما في الدور والأرضين فإنه يردها إلى الراهن وإن تطاول إلا أن تنهدم الدار أو يبنى فيها أو يغرس في الأرض فهذا فوت ويغرم القيمة مثل البيع الفاسد وقال المعافى عن الثوري في الرجل يرهن صاحبه المتاع ويقول إن لم آتك فهو لك قال لا يغلق ذلك الرهن وقال الحسن بن صالح ليس قوله هذا بشيء وقال الربيع عن الشافعي لو رهنه وشرط له إن لم يأته بالحق إلى كذا فالرهن له بيع فالرهن فاسد والرهن لصاحبه الذي رهنه قال أبو بكر اتفقوا أنه لا يملكه بمضي الأجل واختلفوا في جواز الرهن وفساده وقد بينا فيما سلف أن قوله لا يغلق الرهن أنه لا يملك بالدين بمضي الأجل للشرط الذي شرطاه فإنما نفي النبي صلى الله عليه وسلم -

غلقه بذلك ولم ينف صحة الرهن الذي شرطاه فدل ذلك على جواز الرهن وبطلان
الشرط وهو أيضا قياس العمرى التي أبطل النبي صلى الله عليه وسلم - فيها الشرط وأجاز الهبة والمعنى الجامع

بينهما أن كل واحد منهما لا يصح بالعقد دون القبض واختلفوا أيضا في مقدار الدين إذا اختلف فيه الراهن والمرتهن فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا هلك ا لرهن واختلف الراهن والمرتهن في مقدار الدين فالقول قول الراهن في الدين مع يمينه وهو قول الحسن بن صالح والشافعي وإبراهيم النخعي وعثمان البتي وقال طاوس يصدق المرتهن إلى ثمن الرهن ويستحلف وكذلك قول الحسن وقتادة والحكم وقال أياس بن معاوية قولا بين هذين القولين قال إن كان للراهن بينة بدفعه الرهن فالقول قول الراهن وإن لم تكن له بينة فالقول قول المرتهن لأنه لو شاء جحده الراهن ومتى أقر بشيء وليست عليه بينة فالقول قوله وقال ابن وهب عن مالك إذا اختلفا في الدين والرهن قائم فإن كان الرهن قدر حق المرتهن أخذه المرتهن وكان أولى به ويحلفه إلا أن يشاء رب الرهن أن يعطيه حقه عليه ويأخذ رهنه وقال ابن القاسم عن مالك القول قول المرتهن فيما بينه وبين قيمة الرهن لا يصدق على أكثر من ذلك قال أبو بكر قال الله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فيه الدلالة على أن القول قول الذي عليه الدين لأنه وعظه في البخس وهو النقصان فيدل على أن القول قوله وأيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -

البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه والمرتهن هو المدعي والراهن
هو المدعى عليه فالقول قوله بقضية قوله ص - وأيضا لو لم يكن رهن لكان القول قول الذي عليه الدين في مقداره بالإتفاق كذلك إذا كان به رهن لأن الرهن لا يخرجه من أن يكون مدعى عليه قال أبو بكر وزعم بعض من يحتج لمالك أن قوله أشبه بظاهر القرآن لأنه قال فرهان مقبوضة فأقام الرهن مقام الشهادة ولم يأتمن الذي عليه الحق حين أخذ منه وثيقة كما لم يأتمنه على مبلغه إذا أشهد عليه الشهود لأن الشهود والكتاب تنبئ عن مبلغ الحق فلم يصدق الراهن وقام الرهن مقام الشهود إلى أن يبلغ قيمته فإذا جاوز قيمته فلا وثيقة فيه والمرتهن مدع فيه والراهن مدعى عليه قال أبو بكر وهذا من عجيب الحجاج وذلك أنه زعم أنه لما لم يأتمنه حتى أخذ الرهن قام الرهن مقام الشهادة وزعم مع ذلك أن ذلك موافق لظاهر القرآن وقد جعل الله تعالى القول قول الذي عليه الحق حين قال وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فجعل القول قوله في الحال التي أمر فيها بالإشهاد والكتاب ولم يجعل عدم ائتمان الطالب

للمطلوب مانعا من أن يكون القول قول المطلوب فكيف يكون ترك ائتمانه إياه بالتوثق منه بالرهن مانعا من قبول قول المطلوب وموجبا لتصديق الطالب على ما يدعيه والذي ذكره مخالف لظاهر القرآن والعلة التي نصبها لتصديق المرتهن في ترك ائتمانه منتقضة بنص الكتاب ثم دعواه موافقته لظاهر القرآن أعجب الأشياء وذلك لأن القرآن قد قضى ببطلان قوله حين جعل القول قول المطلوب في الحال التي لم يؤتمن فيها حتى استوثق منه الكتاب والإشهاد وهو فإنما زعم أنه لم يأتمنه حين أخذ الرهن وجب أن يكون القول قول الطالب ثم زعم أن قوله موافق لظاهر القرآن وبنى عليه أنه لم يأتمنه وأن الرهن توثق كما أن الشهادة توثق فقام الرهن مقام الشهادة وليس ما ذكره من المعنى من ظاهر القرآن في شيء وأنا كنا قد دللنا على أنه مخالف له وإنما هو قياس ورد لمسألة الرهن إلى مسألة الشهادة بعلة أنه لم يؤتمن في الحالين على الدين الذي عليه وهو قياس باطل من وجوه أحدها أن ظاهر القرآن يرده وهو ما قدمناه والثاني أنه منتقض باتفاق الجميع على أن من له على رجل دين فأخذ منه كفيلا ثم اختلفوا في مقداره كان القول قول المطلوب فيما يلزمه ولم يكن عدم الائتمان بأخذه الكفيل موجبا لتصديق الطالب مع وجود علته فيه فانتقضت علته بالكفالة والثالث أن المعنى الذي من أجله لم يصدق الطالب إذا قامت البينة أن شهادة الشهود مقبولة محكوم بتصديقهم فيها وهم قد شهدوا على إقراره بأكثر مما ذكره وبما ادعاه المدعي فصار كإقراره عند القاضي بالزيادة ولا دلالة في قيمة الرهن على أن الدين بمقداره لأنه لا خلاف أنه جائز أن يرهن بالقليل الكثير وبالكثير القليل ولا تنبئ قيمة الرهن عن مقدار الدين ولا دلالة فيه عليه فكيف يكون الرهن بمنزلة الشهادة ويدل على فساد قياسه هذا أنهما لو اتفقا على أن الدين أقل من قيمة الرهن لم يوجب ذلك بطلان الرهن ولو أقر الطالب أن دينه أقل مما شهد به شهوده بطلت شهادة شهوده فهذه الوجوه كلها توجب بطلان ما ذكره هذا المحتج
وقوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه قال أبو بكر قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة كلام مكتف بنفسه وإن كان معطوفا على ما تقدم ذكره من الأمر بالإشهاد عند التبايع بقوله وأشهدوا إذا تبايعتم فهو عموم في سائر الشهادات التي يلزم الشاهد إقامتها وأداؤها وهو نظير قوله تعالى وأقيموا الشهادة لله وقوله يا أيها

الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم فنهى الله تعالى الشاهد بهذه الآيات عن كتمان الشهادة التي تركها يؤدي إلى تضييع الحقوق وهو على ما بيننا من إثبات الشهادة في كتب الوثائق وأدائها بعد إثباتها فرض على الكفاية فإذا لم يكن من يشهد على الحق غير هذين الشاهدين فقد تعين عليهما فرض أدائها ويلحقهما إن تخلفا عنها الوعيد المذكور في الآية وقد كان نهيه عن الكتمان مفيدا لوجوب أدائها ولكنه تعالى أكد الفرض فيها بقوله ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وإنما أضاف الإثم إلى القلب وإن كان في الحقيقة الكاتم هو الآثم لأن المأثم فيه إنما يتعلق بعقد القلب ولأن كتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أدائها باللسان فعقد النية من أفعال القلب لا نصيب للجوارح فيه وقد انتظم الكاتم للشهادة المأثم من وجهين أحدهما عزمه على أن لا يؤديها والثاني ترك أدائها باللسان وقوله آثم قلبه مجاز لا حقيقة وهو آكد في هذا الموضع من الحقيقة لو قال ومن يكتمها فإنه آثم وأبلغ منه وأدل على الوعيد من بديع البيان ولطيف الإعراب عن المعاني تعالى الله الحكيم قال أبو بكر وآية الدين بما فيه من ذكر الإحتياط بالكتاب والشهود المرضيين والرهن تنبيه على موضع صلاح الدين والدنيا معه فأما في الدنيا فصلاح ذات البين ونفي التنازع والاختلاف وفي التنازع والاختلاف فساد ذات البين وذهاب الدين والدنيا قال الله عز و جل ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وذلك أن المطلوب إذا علم أن عليه دينا وشهودا وكتابا ورهنا بما عليه وثيقة في يد الطالب قل الخلاف علمنا منه أن خلافه وبخسه لحق المطلوب لا ينفعه بل يظهر كذبه بشهادة الشهود عليه وفيه وثيقة واحتياط للطالب وفي ذلك صلاح لهما جميعا في دينهما ودنياهما لأن في تركه بخس حق الطالب صلاح دينه وفي جحوده وبخسه ذهاب دينه إذا علم وجوبه وكذلك الطالب إذا كانت له بينة وشهود أثبتوا ماله وإذا لم تكن له بينة وجحد الطالب حمله ذلك على مقابلته بمثله والمبالغة في كيده حتى ربما لم يرض بمقدار حقه دون الإضرار به في أضعافه متى أمكنه وذلك متعالم من أحوال عامة الناس وهذا نظير ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه ص -

من البياعات المجهولة القدر والآجال المجهولة والأمور التي كانت عليها
الناس قبل مبعثه ص - مما كان يؤدي إلى الإختلاف وفساد ذات البين وإيقاع العداوة والبغضاء ونحوه مما حرم الله تعالى من الميسر والقمار وشرب الخمر وما يسكر فيؤدي إلى

العداوة والبغضاء والاختلاف والشحناء قال الله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون فأخبر الله تعالى أنه إنما نهى عن هذه الأمور لنفي الاختلاف والعداوة ولما في ارتكابها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة فمن تأدب بأدب ا لله وانتهى إلى أوامره وانزجر بزواجره حاز صلاح الدين والدنيا قال الله تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما وفي هذه الآيات التي أمر الله فيها بالكتاب والإشهاد على الدين والعقود والاحتياط فيها تارة بالشهادة وتارة بالرهن دلالة على وجوب حفظ المال والنهي عن تضييعه وهو نظير قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وقوله والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقوله ولا تبذر تبذيرا الآية فهذه الآي دلالة على وجوب حفظ المال والنهي عن تبذيره وتضييعه وقد روي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا بعض من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا معاذ بن المثنى قال حدثنا مسدد قال حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا عبدالرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يحب الله إضاعة المال ولا قيل ولا قال وحدثنا من لا أتهم قال أخبرنا محمد بن إسحاق قال حدثنا موسى بن عبدالرحمن المسروقي قال حدثنا حسن الجعفي عن محمد بن سوقة عن وراد قال كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ليس بينك وبينه أحد قال فأملى علي وكتبت أني سمعت رسول الله ص
- يقول إن الله حرم ثلاثا ونهى عن ثلاث فأما الثلاث التي حرم فعقوق الأمهات ووأد البنات ولا وهات والثلاث التي نهى عنهن فقيل وقال وإلحاف السؤال وإضاعة المال قال تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال أبو بكر روي أنها منسوخة بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله قال نسخها قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر قال سمعت الزهري يقول في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه

قال قرأها ابن عمر وبكى وقال إنا لمأخوذون بما نحدث به أنفسنا فبكى حتى سمع نشيجه فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له فقال يرحم الله ابن عمر لقد وجد منها المسلمون نحوا مما وجد حتى نزلت بعدها لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وروي عن الشعبي عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال نسختها الآية التي تليها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله أنها لم تنسخ لكن الله إذا جمع الخلق يوم القيامة يقول إني أخبركم مما في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم من الشك والنفاق وروي عن الربيع بن أنس مثل ذلك وقال عمرو بن عبيد كان الحسن يقول هي محكمة لم تنسخ وروي عن مجاهد أنها محكمة في الشك واليقين قال أبو بكر لا يجوز أن تكون منسوخة لمعنيين أحدهما أن الأخبار لا يجوز فيها النسخ لأن نسخ مخبرها يدل على البداء والله تعالى عالم بالعواقب غير جائز عليه البداء والثاني أنه لا يجوز تكليف ما ليس في وسعها لأنه سفه وعبث والله تعالى يتعالى عن فعل العبث وإنما قول من روي عنه أنها منسوخة فإنه غلط من الراوي في اللفظ وإنما أراد بيان معناها وإزالة التوهم عن صرفه إلى غير وجهه وقد روى مقسم عن ابن عباس أنها نزلت في كتمان الشهادة وروي عن عكرمة مثله وروي عن غيرهما أنها في سائر الأشياء وهذا أولى لأنه عموم مكتف بنفسه فهو عام في الشهادة وغيرها ومن نظائر ذلك في المؤاخذة بكسب القلب قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم وقال تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم وقال تعالى في قلوبهم مرض أي شك فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به أو يعملوا به قيل له هذا فيما يلزمه من الأحكام فلا يقع عتقه ولا طلاقه ولا بيعه ولا صدقته ولا هبته بالنية ما لم يتكلم به وما ذكر في الآية فيما يؤاخذ به مما بين العبد وبين الله تعالى وقد روى الحسن بن عطية عن أبيه عن عطية عن ابن عباس في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فقال سر عملك وعلانيته يحاسبك به الله وليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل

به فإن عمل به كتب له به عشر حسنات وإن هو لم يقدر يعمل به كتب له به حسنة من أجل أنه مؤمن وأن الله رضى بسر المؤمنين وعلانيتهم وإن كان شرا حدث به نفسه اطلع الله عليه أخبر به يوم تبلى السرائر فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم وهذا على معنى قوله إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها مالم يتكلموا به أو يعملوا به قوله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيه نص على أن الله تعالى لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يطيقه ولو كلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يستطيعه لكان مكلفا له ما ليس في وسعه ألا ترى قول القائل ليس في وسعي كيت وكيت بمنزلة قوله لا أقدر عليه ولا أطيقه بل الوسع دون الطاقة ولم تختلف الأمة في أن الله لا يجوز أن يكلف الزمن المشي والأعمى البصر والأقطع اليدين البطش لأنه لا يقدر عليه ولا يستطيع فعله ولا خلاف في ذلك بين الأمة وقد وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن من لم يستطع الصلاة قائما فغير مكلف للقيام فيها ومن لم يستطعها قاعدا فغير مكلف للقعود بل يصليها على جنب يومئ إيماء لأنه غير قادر عليها إلا على هذا الوجه ونص التنزيل قد أسقط التكليف عمن لا يقدر على الفعل ولا يطيقه وزعم قوم جهال نسبت إلى الله فعل السفه والعبث فزعموا أن كل ما أمر به أحد من أهل التكليف أو نهى عنه فالمأمور به منه غير مقدور على فعله والمنهي عنه غير مقدور على تركه وقد أكذب الله قيلهم بما نص عليه من أنه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها مع ما قد دلت عليه العقول من قبح تكليف ما لا يطاق وإن العالم بالقبيح المستغنى عن فعله لا يقع منه فعل القبيح ومما يتعلق بذلك من الأحكام سقوط الفرض عن المكلفين فيما لا تتسع له قواهم لأن الوسع هو دون الطاقة وأنه ليس عليهم استفراغ المجهود في أداء الفرض نحو الشيخ الكبير الذي يشق عليه الصوم ويؤديه إلى ضرر يلحقه في جسمه وإن لم يخش الموت بفعله فليس عليه صومه لأن الله لم يكلفه إلا ما يتسع لفعله ولا يبلغ به حال الموت وكذلك المريض الذي يخشى ضرر الصوم وضرر استعمال الماء لأن الله قد أخبر أنه لا يكلف أحدا إلا ما اتسعت له قدرته وإمكانه دون ما يضيق عليه ويعنته وقال الله تعالى ولو شاء الله لأعنتكم وقال في صفة النبي صلى الله عليه وسلم - عزيز عليه ما عنتم فهذا حكم مستمر في سائر أوامر الله وزواجره ولزوم التكليف فيها على ما يتسع له ويقدر

عليه قوله عز و جل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال أبو بكر النسيان علىوجهين أحدهما أنه قد يتعرض الإنسان للفعل الذي يقع معه النسيان فيحسن الاعتذار به إذا وقعت منه جناية على وجه السهو والثاني أن يكون النسيان بمعنى ترك المأمور به لشبهة تدخل عليه أو سوء تأويل وإن لم يكن الفعل نفسه واقعا على وجه السهو فيحسن أن يسأل الله مغفرة الأفعال الواقعة على هذا الوجه والنسيان بمعنى الترك مشهور في اللغة قال الله تعالى نسوا الله فنسيهم يعني تركوا أمر الله تعالى فلم يستحقوا ثوابه فأطلق اسم النسيان على الله تعالى على وجه مقابلة الاسم كقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم قال أبو بكر النسيان الذي هو ضد الذكر فإن حكمه مرفوع فيما بين العبد وبين الله تعالى في استحقاق العقاب والتكليف في مثله ساقط عنه والمؤاخذة به في الآخرة غير جائزة لا أنه لا حكم له فيما يكلفه من العبادات فإن النبي صلى الله عليه وسلم -

قد نص على لزوم حكم كثير منها مع النسيان واتفقت الأمة أيضا على حكمها من
ذلك قوله ص - من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وتلا عند ذلك وأقم الصلواة لذكري فدل على أن مراد الله تعالى بقوله أقم الصلواة لذكري فعل المنسية منها عند الذكر وقال تعالى واذكر ربك إذا نسيت وذلك عموم في لزومه قضاء كل منسي عند ذكره ولا خلاف بين الفقهاء في أن ناسي الصوم والزكاة وسائر الفروض بمنزلة ناسي الصلاة في لزوم قضائها عند ذكرها وكذلك قال أصحابنا في المتكلم في الصلاة ناسيا أنه بمنزلة العامد لأن الأصل أن العامد الناسي في حكم ا لفروض سواء وإنه لا تأثير للنسيان في إسقاط شيء منها إلا ما ورد به التوقيف ولا خلاف أن تارك الطهارة ناسيا كتاركها عامدا في بطلان حكم صلاته وكذلك قالوا في الأكل في نهار شهر رمضان ناسيا إن القياس فيه إيجاب القضاء وإنهم إنما تركوا القياس فيه للأثر ومع ما ذكرنا فإن الناسي مؤد لفرضه على أي وجه فعله إذ لم ميكلفه الله في تلك الحال غيره وإنما القضاء فرض آخر ألزمه الله تعالى بالدلائل التي ذكرنا فكان تأثير النسيان في سقوط المأثم فحسب فأما في لزوم فرض فلا وقول النبي صلى الله عليه وسلم - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان مقصور على المأثم أيضا دون رفع الحكم ألا ترى أن الله تعالى قد نص على لزوم حكم قتل الخطأ في إيجاب الدية والكفارة فلذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم - النسيان مع الخطأ وهو على هذا المعنى فإن قال قائل

من أصلكم إيجاب فرض التسمية على الذبيحة ولو تركها عامدا كانت ميتة وإذا تركها ناسيا حلت وكانت مذكاة ولم تجعلوها بمنزلة تارك الطهارة ناسيا حتى صلى فيكون مأمورا بإعادتها بالطهارة قطعا وكذلك الكلام في الصلاة ناسيا قيل له لما بينا من أنه لم يكلف في الحال غير ما فعل على وجه النسيان والذي لزمه بعد الذكر فرض مبتدأ آخر وكذلك نجيز في هذه القضية أن لا يكون مكلفا في حال النسيان للتسمية فصحت الزكاة ولا تتأتى بعد الزكاة فيه ذبيحة أخرى فيكون مكلفا لها كما كلف إعادة الصلاة والصوم ونحوه قوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت هو مثل قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها وقوله وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى وفيه الدلالة على أن كل واحد من المكلفين فأحكام أفعاله متعلقة به دون غيره وإن أحدا لا يجوز تصرفه على غيره ولا يؤاخذ بجريرة سواه وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لأبي رمثة حين رآه مع ابنه فقال هذا ابنك قال نعم قال إنك لا تجني عليه
ولا يجني عليك وقال ص - لا يؤاخذ أحد بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه فهذا هو العدل الذي لا يجوز في العقول غيره وقوله تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت يحتج به في نفي الحجر وامتناع تصرف أحد من قاض أو غيره على سواه ببيع ماله أو منعه منه إلا ما قامت الدلالة على خصوصه ويحتج به في بطلان مذهب مالك بن أنس في أن من أدى دين غيره بغير أمره أن له أن يرجع به عليه لأن الله تعالى إنما جعل كسبه له وعليه ومنع لزومه غيره قوله عز و جل ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قد قيل في معنى الإصر إنه الثقل وأصله في اللغة يقال إنه العطف ومنه أواصر الرحم لأنها تعطفه عليه والواحد آصرة والمأصر يقال أنه حبل يمد على طريق أو نهر تحبس به المارة ويعطفون به على النفوذ ليؤخذ منهم العشور والمكس والمعنى في قوله لا تحمل علينا إصرا يريد به عهدا وهو الأمر الذي يثقل روي نحوه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وهو في معنى قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج يعني من ضيق وقوله يريد الله بكم اليسر الآية وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج وقال النبي صلى الله عليه وسلم - جئتكم بالحنيفية السمحة وروي عنه أن بني إسرائيل شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فقوله ولا تحمل علينا إصرا يعني من ثقل الأمر والنهي كما حملته على الذين من قبلنا وهو كقوله ويضع عنهم إصرهم

والأغلال التي كانت عليهم وهذه الآية ونظائرها يحتج بها على نفي الحرج والضيق والثقل في كل أمر اختلف الفقهاء فيه وسوغوا فيه الاجتهاد فالموجب للثقل والضيق والحرج محجوج بالآية نحو إيجاب النية في الطهارة وإيجاب الترتيب فيها وما جرى مجرى ذلك في نفي الضيق والحرج يجوز لنا الاحتجاج بالظواهر التي ذكرناها قوله تعالى ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به قيل فيه وجهان أحدهما ما يشتد ويثقل من التكليف كنحو ما كلف بنو إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم وجائز أن يعبر بما يثقل أنه لا يطيقه كقولك ما أطيق كلام فلان ولا أقدر أن أراه ولا يراد به نفي القدرة وإنما يريدون أنه يثقل عليه فيكون بمنزلة العاجز الذي لا يقدر على كلامه ورؤيته لبعده من قلبه وكراهته لرؤيته وكلامه وهو كما قال تعالى وكانوا لا يستطيعون سمعا وقد كانت لهم أسماع صحيحة إلا أن المراد أنهم استثقلوا استماعه فأعرضوا عنه وكانوا بمنزلة من لم يسمع والوجه الثاني أن لا يحملنا من العذاب مالا نطيقه وجائز أن يكون المراد الأمرين جميعا والله أعلم بالصواب
سورة

آل عمران
بسم
الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه أيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات إلى آخر القصة قال الشيخ أبو بكر قد بينا في صدر الكتاب معنى المحكم والمتشابه وأن كل واحد منهما ينقسم إلى معنيين أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى الر كتاب أحكمت آياته وقال تعالى الر تلك آيات الكتاب الحكيم فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالأحكام وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني فوصف جميعه بالمتشابه ثم قال في موضع آخر هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات عن أم الكتاب وأخر متشابهات فوصف ههنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه والأحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول وأما موضع الخصوص في قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل عند سامعه إلا معنى واحدا وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه إلا أن هذا المعنى لا محالة قد انتظمه لفظ الأحكام المذكور في هذه الآية وهو الذي جعل

إما للمتشابه الذي يرد إليه ويحمل معناه عليه وإما المتشابه الذي عم به جميع القرآن في قوله تعالى كتابا متشابها فهو التماثل ونفي الاختلاف والتضاد عنه وأما المتشابه الخصوص به بعض القرآن فقد ذكرنا أقاويل السلف فيه وما روي عن ابن عباس أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ فهذا عندنا هو أحد أقسام المحكم والمتشابه لأنه لم ينف أن يكون للمحكم والمتشابه وجوه غيرهما وجاجز أن يسمى الناسخ محكما لأنه ثابت الحكم والعرب تسمي البناء الوثيق محكما ويقولون في العقد ا لوثيق الذي لا يمكن حله محكما فجائز أن يسمى الناسخ محكما إذ كانت صفته الثبات والبقاء ويسمى المنسوخ متشابها من حيث أشبه في التلاوة المحكم وخالفه في ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه فمن هذا الوجه جائز أن يسمى المنسوخ متشابها وأما قول من قال إن المحكم هو الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه هو الذي تتكرر ألفاظه فإن اشتباه هذا من جهة اشتباه وجه الحكمة فيه على السامع وهذا سائغ عام في جميع ما يشتبه فيه وجه الحكمة فيه على السامع إلى أن يتبينه ويتضح له وجهه فهذا مما يجوز فيه إطلاق اسم المتشابه ومالا يشتبه فيه وجه الحكمة على السامع فهو المحكم الذي لا تشابه فيه على قول هذا القائل فهذا أيضا أحد وجوه المحكم والمتشابه وإطلاق الاسم فيه سائغ جائز وأما ما روي عن جابر بن عبدالله أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه مالا يعلم تأويله كقوله تعالى يسألونك عن الساعة أيان مرسيها وما جرى مجرى ذلك فإن إطلاق اسم المحكم والمتشابه سائغ فيه لأن ما علم وقته ومعناه فلا تشابه فيه وقد أحكم بيانه ومالا يعلم تأويله ومعناه ووقته فهو مشتبه على سامعه فجائز أن يسمى بهذا الاسم فجميع هذه الوجوه يحتمله اللفظ على ما روي فيه ولولا احتمال اللفظ لما ذكروا لما تأولوه عليه وما ذكرناه من قول من قال إن المحكم هو مالا يحتمل إلا معنى واحدا والمتشابه ما يحتمل معنيين فهو أحد الوجوه الذي ينتظمها هذا الاسم لأن المحكم من هذا القسم سمي محكما لأحكام دلالته وإيضاح معناه وإبانته والمتشابه منه سمي بذلك لأنه أشبه المحكم من وجه واحتمل معناه وأشبه غيره مما يخالف معناه معنى المحكم فسمي متشابها من هذا الوجه فلما كان المحكم والمتشابه يعتورهما ما ذكرنا من المعاني احتجنا إلى معرفة المراد منها بقوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء

الفتنة وابتغاء تأويله مع علمنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رد المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه لقوله تعالى في صفة المحكمات هن أم الكتاب والأم هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه فسماها أما فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها ورده إليها ثم أكد ذلك بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فوصف متبع المتشابه من غير حمله له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه وأعلمنا أنه مبتغ للفتنة وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى والفتنة أشد من القتل يعني والله أعلم الكفر فأخبر أن متبع المتشابه وحامله على مخالفة المحكم في قلبه زيغ يعني الميل عن الحق يستدعي غيره بالمتشابه إلى الضلال والكفر فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني الذي يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه ثم نظرنا بعد ذلك في المعاني التي تعتور هذا اللفظ وتتعاقب عليه مما قدمنا ذكره في أقسام المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال للفظ فوجدنا قول من قال بأنه الناسخ والمنسوخ فإنه إن كان تاريخهما معلوما فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتاريخهما وعلم يقينا أن المنسوخ متروك الحكم وأن الناسخ ثابت الحكم فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحكمين اللذين لا احتمال فيهما لغير الناسخ وإن اشتبه على السامع من حيث أنه لم يعلم التاريخ فهذا ليس أحد اللفظين أولى بكونه محكما من الآخر ولا يكونا متشابها منه إذ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا فهذا لا مدخل له في قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وأما قول من قال إن المحكم مالم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه فهذا أيضا لا مدخل له في هذه الآية لأنه لا يحتاج إلى رده إلى المحكم وإنما يحتاج إلى تدبيره بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه وأما قول من قال إن المحكم ما علم وقته وتعيينه والمتشابه مالا يعلم تعيين تأويله كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيسنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا وإن هذا الضرب أيضا منها خارج عن حكم هذه الآية لأنا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم فلم يبق من الوجوه التي ذكرنا من أقسام المحكم والمتشابه مما يجب بناء أحدهما على الآخر وحمله على معناه إلا الوجه الأخير الذي قلنا وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني فيجب حمله على

المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه من نظائر ما قدمنا في صدر الكتاب وبينا أنه ينقسم إلى وجهين من العقليات والسمعيات وليس يمتنع أن تكون الوجوه التي ذكرناها عن السلف على اختلافها بتناولها الاسم على ما روي عنهم فيه لما بينا من وجوهها ويكون الوجه الذي يجب حمله على المحكم هو هذا الوجه الأخير لامتناع إمكان حمل سائر وجوه المتشابه على المحكم على ما تقدم من بيانه ثم يكون قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم ينف بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء لأن في فحوى الآية ما قد دل على أنا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بينا من ذلك ويستحيل أن تدل الآية على وجوب رده إلى المحكم وتدل أيضا على أنا لا نصل إلى علمه ومعرفته فإذا ينبغي أن يكون قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله غير ناف لوقوع العلم ببعض المتشابه فمما لا يجوز وقوع العلم لنا به وقت الساعة والذنوب الصغائر ومن الناس من يجوز ورود لفظ مجمل في حكم يقتضي البيان ولا يبينه أبدا فيكون في حيز المتشابه الذي لا نصل إلى العلم به وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فمنهم من جعل تمام الكلام عند قوله تعالى والراسخون في العلم وجعل الواو التي في قوله والراسخون في العلم للجمع كقول القائل لقيت زيدا وعمرا وما جرى مجراه ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله وما يعلم تأويله إلا الله وجعل الواو للإستقبال وابتداء خطاب غير متعلق بالأول فمن قال بالقول الأول وجعل الراسخين في العلم عالمين ببعض المتشابه وغير عالمين بجميعه وقد روي نحوه عن عائشة والحسن وقال مجاهد فيما رواه ابن أبي نجيح في قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيع يعني شكا ابتغاء الفتنة الشبهات بما هلكوا لكن الراسخون في العلم يعلمون تأويله يقولون آمنا به وروي عن ابن عباس ويقولون الراسخون في العلم وكذلك روي عن عمر بن عبدالعزيز وقد روي عن ابن عباس أيضا وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به وعن الربيع بن أنس مثله والذي يقتضيه اللفظ على ما فيه من الاحتمال أن يكون تقديره وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل جميع المتشابه على ما بينا والراسخون في العلم يعلمون

بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا يعني ما نصب لهم من الدلالة عليه في بنائه على المحكم ورده إليه وما لم يجعل لهم سبيل إلى علمه من نحو ما وصفنا فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا وما أخفى عنا علم ما غاب عنا علمه إلا لعلمه تعالى بما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا وما أعلمنا وما يعلمناه إلا لمصلحتنا ونفعنا فيعترفون بصحة الجميع والتصديق بما علموا منه ومالم يعلموه ومن الناس من يظن أنه لا يجوز إلا أن يكون منتهى الكلام وتمامه عند قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله وأن الواو للإستقبال دون الجمع لأنها لو كانت للجمع لقال ويقولون آمنا به ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر وقال من ذهب إلى القول الأول هذا سائغ في اللغة وقد وجد مثله في القرآن وهو قوله تعالى في بيان قسم الفيء ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول إلى قوله تعالى شديد العقاب ثم تلاه بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفيء فقال للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله تعالى والذين جاؤا من بعدهم وهم لا محالة داخلون في استحقاق الفيء كالأولين والواو فيه للجمع ثم قال تعالى يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان معناه قائلين ربنا اغفر لنا ولإخواننا كذلك قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون معناه والراسخون في العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه قائلين ربنا آمنا به فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في حيزه وقد وجد مثله في الشعر قال يزيد بن مفرغ الحميري ... وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه ... فالريح تبكي شجوه ... والبرق يلمع في الغمامه ... والمعنى والبرق يبكي شجوه لامعا في الغمامة وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية في وجوب رد المتشابه إلى المحكم فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه ومن جهة أخرى أن الواو لما كانت حقيقتها الجمع فالواجب حملها على حقيقتها ومقتضاها ولا يجوز حملها على الابتداء إلا بدلالة ولا دلالة معنا توجب صرفها عن الحقيقة فوجب استعمالها على الجمع فإن قيل إذا كان استعمال المحكم مقيدا بما في العقل وقد يمكن كل مبطل أن يدعي ذلك لنفسه فيبطل فائدة الاحتجاج

بالمحكم قيل له إنما هو مقيد بما هو في تعارف العقول فيكون اللفظ مطابقا لما تعارفه العقلاء من أهل اللغة ولا يحتاج في استعمال حكم العقل فيه إلى مقدمات بل يوقع العلم لسامعه بمعنى مراده على الوجه الذي هو ثابت في عقول العقلاء دون عادات فاسدة قد جروا عليها فما كان كذلك فهو المحكم مالذي لا يحتمل معناه إلا مقتضى لفظه وحقيقته فأما العادات الفاسدة فلا اعتبار بها فإن قيل كيف وجه اتباع من في قلبه زيغ ما تشابه منه دون ما أحكم قيل له نحو ما روى الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم - في المسيح فقالوا أليس هو كلمة الله وروح منه فقال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله فأما الذين في قلبوهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ثم أنزل الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فصرفوا قوله كلمة الله إلى ما يقولونه في قدمه مع الله وروحه صرفوه إلى أنه جزء منه قديم معه كروح الإنسان وإنما أراد الله تعالى بقوله كلمة أنه بشر به في كتاب الأنبياء المتقدمين فسماه كلمة من حيث قدم البشارة به وسماه روحه لأن الله تعالى خلقه من غير ذكر بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيب مريم عليها السلام وأضافه إلى نفسه تعالى تشريفا له كبيت الله وسماء الله وأرضه ونحو ذلك وقيل إنه سماه روحا كما سمى القرآن روحا بقوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وإنما سماه روحا من حيث كان فيه حياة الناس في أمور دينهم فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال وقال قتادة أهل الزيغ المتبعون للمتشابه منه هم الحرورية والسبائية قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم روي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق أنه لما هلكت قريش يوم بدر جمع النبي صلى الله عليه وسلم - اليهود بسوق قينقاع فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثل ما نزل بقريش من الإنتقام فأبوا وقالوا ألسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون القتال لئن حاربتنا لتعرفن أنا الناس فأنزل الله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما فيها من الأخبار عن غلبة المؤمنين المشركين فكان على ما أخبر به ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغيوب في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خلف وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب إذ ليس في وسع أحد من

الخلق الإخبار بالأمور المستقبلة ثم يتفق مخبر أخباره على ما أخبر به من غير خلف لشيء منه وقوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله الآية روي عن ابن مسعود والحسن أن ذلك خطاب للمؤمنين وإن المؤمنين هي الفئة الرائية للمشركين مثليهم رأي العين فرأوهم مثلي عدتهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم لأن المشركين كانوا نحو ألف رجل والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر فقللهم الله تعالى في أعين المسلمين لتقوية قلوبهم وقال آخرون قوله قد كان لكم آية مخاطبة للكفار الذين ابتدأ بذكرهم في قوله قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وقوله قد كان لكم أية معطوف عليه وتمام له والمعنى فيه إن الكافرين رأوا المؤمنين مثليهم وأراهم الله تعالى كذلك في رأي العين ليجبن قلوبهم ويرهبهم فيكون أقوى للمؤمنين عليهم وذلك أحد أبواب النصر للمسلمين والخذلان للكافرين وفي هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - أحدهما غلبة الفئة القليلة العدد والعدة للكثيرة العدد والعدة وذلك على خلاف مجرى العادة لما أمدهم الله به من الملائكة والثاني أن الله تعالى قد كان وعدهم إحدى الطائفتين وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة وقال هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى زين للناس حب الشهوات قال الحسن زينها الشيطان لأنه لا أحد أشد ذما لها من خالقها وقال بعضهم زينها الله بما جعل في الطباع من المنازعة إليها كما قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها وقال آخرون زين الله ما يحسن منه وزين الشيطان ما يقبح منه وقوله تعالى إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس الآية روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم وهو الذي ذكر الله تعالى وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل وأنه منزلة شريفة

يستحق بها الثواب الجزيل لأن الله مدح هؤلاء الذين قتلوا حين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وروى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وفي بعض الروايات يقتل عليه
وروى أبو حنيفة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتل قال عمرو بن عبيد لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه وإنما قال الله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وإن كان الإخبار عن أسلافهم من قبل أن المخاطبين من الكفار كانوا راضين بأفعالهم فأجملوا معهم في الأخبار بالوعيد لهم وهذا كقوله تعالى قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل وقوله تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين فنسب القتل إلى المخاطبين لأنهم رضوا بأفعال أسلافهم وتولوهم عليها فكانوا مشاركين لهم في استحقاق العذاب كما شاركوهم في الرضا بقتل الأنبياء عليهم السلام قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله الآية روي عن ابن عباس أنه أراد اليهود حين دعوا إلى التوراة وهي كتاب الله وسائر الكتب التي فيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم - فدعاهم إلى الموافقة على ما في هذه الكتب من صحة نبوته كما قال تعالى في آية أخرى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فتولى فريق من أهل الكتاب عن ذلك لعلمهم بما فيه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم - وصحة نبوته ولولا أنهم علموا ذلك لما أعرضوا عند الدعاء إلى ما في كتبهم وفريق منهم آمنوا وصدقوا لعلمهم بصحة نبوته ولما عرفوه من التوراة وكتب الله من نعته وصفته وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنهم لولا أنهم كانوا عالمين بما ادعاه مما في كتبهم من نعته وصفته وصحة نبوته لما أعرضوا عن ذلك بل كانوا يسارعون إلى الموافقة على ما في كتبهم حتى يتبينوا بطلان دعواه فلما أعرضوا ولم يجيبوا إلى ما دعاهم إليه دل ذلك على أنهم كانوا عالمين بما في كتبهم من ذلك وهو نظير ما تحدى الله تعالى به العرب من الإتيان بمثل سورة من القرآن فأعرضوا عن ذلك وعدلوا إلى القتال والمحاربة لعلمهم بالعجز عن الإتيان بمثلها وكما دعاهم إلى المباهلة في قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم إلى قوله تعالى ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين

وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لو حضروا وباهلوا لأضرم الله تعالى عليهم الوادي نارا ولم يرجعوا إلى أهل ولا ولد وهذه الأمور كلها من دلائل النبوة وصحة الرسالة وروي عن الحسن وقتادة إنما أراد بقوله تعالى يدعون إلى كتاب الله إلى القرآن لأن ما فيه يوافق ما في التوراة في أصول الدين والشرع والصفات التي قد قدمت بها البشارة في الكتب المتقدمة والدعاء إلى كتاب الله تعالى في هذه الآية يحتمل معاني جائز أن يكون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - على ما بينا ويحتمل أن يكون أمر إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام ويحتمل أن يريد به بعض أحكام الشرع من حد أو غيره كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه ذهب إلى بعض مدارسهم فسألهم عن حد الزاني فذكروا الجلد والتحميم
وكتموا الرجم حتى وقفهم النبي صلى الله عليه وسلم - على آية الرجم بحضرة عبدالله بن سلام وإذا كانت هذه الوجوه محتملة لم يمتنع أن يكون الدعاء قد وقع إلى جميع ذلك وفيه الدلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله تعالى ونظيره أيضا قوله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء قيل في قوله تعالى مالك الملك أنه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى ومن أنه مالك كل ملك وقيل مالك أمر الدنيا والآخرة وقيل مالك العباد وما ملكوا وقال مجاهد أراد بالملك ههنا النبوة وقوله تؤتي الملك من تشاء يحتمل وجهين أمر ملك الأموال والعبيد وذلك مما يجوز أن يؤتيه الله للمسلم والكافر والآخر أمر التدبير وسياسة الأمة فهذا مخصوص به المسلم العدل دون الكافر ودون ا لفاسق وسياسة الأمة وتدبيرها متعلقة بأوامر ا لله تعالى ونواهيه وذلك لا يؤتمن الكافر عليه ولا الفاسق لا يجوز أن تجعل إلى من هذه صفته سياسة المؤمنين لقوله تعالى لا ينال عهدي الظالمين فإن قيل قال الله تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك فأخبر أنه آتى الكافر الملك قيل له يحتمل أن يريد به المال إن كان المراد إيتاء الكافر الملك وقد قيل إنه أراد به آتى إبراهيم الملك يعني النبوة وجواز الأمر والنهي في طريق الحكمة وقوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الآية فيه نهي عن اتخاذ الكافرين أولياء لأنه جزم الفعل فهو إذا نهي وليس بخبر قال ابن عباس نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يلاطفوا ونظيرها من الآي قوله تعالى لا تتخذوا بطانة من

دونكم لا يألونكم خبالا وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد اللل ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم الآية وقال تعالى فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وقال تعالى فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وقال تعالى فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا وقال تعالى وأعرض عن الجاهلين وقال تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض وقال تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - مر بإبل لبني المصطلق وقد عبست بأبوالها من السمن فتقنع بثوبه ومضى لقوله تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أنا بريء من كل مسلم مع مشرك فقيل لم يا رسول الله فقال لا تراءى ناراهما وقال أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين فهذه الآي والآثار دالة على أنه ينبغي أن يعامل الكفار بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة مالم تكن حال يخاف فيها على تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه أو ضررا كبيرا يلحقه في نفسه فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد والولاء ينصرف على وجهين أحدهما من يلي أمور من يرتضي فعله بالنصرة والمعونة والحياطة وقد يسمى بذلك المعان المنصور قال الله تعالى الله ولي الذين آمنوا يعني أنه يتولى نصرهم ومعونتهم والمؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم معانون بنصرة الله قال الله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
وقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية يعني إن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين قال لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في

دينه وقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية إلا أن تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك فجعل التقية صلة لقرابة الكافر وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب بل ترك التقية أفضل قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل أنه أفضل ممن أظهر وقد أخذ المشركون خبيب بن عدي فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعطى التقية وأظهر الكفر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم -

عن ذلك فقال كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان فقال ص
- وإن عادوا فعد وكان ذلك على وجه الترخيص وروي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال نعم فخلاه ثم دعا بالآخر وقال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال إني أصم قالها ثلاثا فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصة وأن الأفضل ترك إظهارها وكذلك قالوا أصحابنا في كل أمر كان فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة في العدول عنه ألا ترى أن من بذل نفسه فجهاد العدو فقتل كان أفضل ممن انحاز وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين فكذلك بذل النفس في إظهار دين الله تعالى وترك إظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شيء وإنه إذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره ويدل على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم وكذلك المسلم لا يعقل جنايته لأن ذلك من الولاية والنصرة قوله تعالى وآل إبراهيم وآل عمران روي عن ابن عباس والحسن إن آل إبراهيم هم المؤمنون الذين على دينه وقال الحسن وآل عمران المسيح عليه السلام لأنه ابن مريم بنت عمران وقيل آل عمران هم آل إبراهيم كما قال ذرية بعضها من بعض وهم موسى وهارون ابنا عمران وجعل أصحابنا الآل وأهل البيت واحدا فيمن يوصي لآل فلان إنه بمنزلة قوله لأهل بيت فلان فيكون لمن يجمعه وإياه الجد

الذي ينسبون إليه من قبل الآباء نحو قولهم آل النبي صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته هما عبارتان عن معنى واحد قالوا إلا أن يكون من نسب إليه الآل هو بيت ينسب إليه مثل قولنا آل العباس وآل علي والمعنى فيه أولاد العباس وأولاد علي الذين ينسبون إليهما بالآباء وهذا محمول على المتعارف المعتاد وقوله عز و جل ذرية بعضها من بعض روي عن الحسن وقتادة بعضها من بعض في التناصر في الدين كما قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يعني في الإجتماع على الضلال والمؤمنون بعضهم من بعض في الاجتماع على الهدى وقال بعضهم ذرية بعضها من بعض في التناسل لأن جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم عليهم السلام قوله عز و جل إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرارا روي عن الشعبي أنه قال مخلصا للعبادة وقال مجاهد خادما للبيعة وقال محمد بن جعفر بن الزبير عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى والتحرير ينصرف على وجهين أحدهما العتق من الحرية والآخر تحرير الكتاب وهو إخلاصه من الفساد والإضطراب وقولها إني نذرت لك ما في بطني محررا إذا أرادت مخلصا للعبادة أنها تنشئه على ذلك وتشغله بها دون غيرها وإذا أرادت به أنها تجعله خادما للبيعة أو عتيقا لطاعة الله تعالى فإن معاني جميع ذلك متقاربة كان نذرا من قبلها نذرته لله تعالى بقولها نذرت ثم قالت فتقبل مني إنك أنت السميع العليم والنذر في مثل ذلك صحيح في شريعتنا أيضا بأن ينذر الإنسان أن ينشئ ابنه الصغير على عبادة الله وطاعته وأن لا يشغله بغيرهما وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين وجميع ذلك نذور صحيحة لأن في ذلك قربة إلى الله تعالى وقولها نذرت لك يدل على أنه يقتضي الإيجاب وأن من نذر لله تعالى قربة يلزمه الوفاء بها ويدل على أن النذور تتعلق على الأخطار وعلى أوقات مستقبلة لأنه معلوم أن قولها نذرت لك ما في بطني محررا أرادت به بعد الولادة وبلوغ الوقت الذي يجوز في مثله أن يخلص لعبادة الله تعالى ويدل أيضا على جواز النذر بالمجهول لأنها نذرته وهي لا تدري ذكرا أم أنثى ويدل على أن للأم ضربا من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته لولا أنها تملك ذلك لما نذرته في ولدها ويدل أيضا على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإن لم يسمه الأب لأنها قالت وإني سميتها مريم وأثبت الله تعالى لولدها هذا الاسم وقوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن المراد به والله

أعلم رضيها للعبادة في النذر الذي نذرته بالإخلاص للعبادة في بيت المقدس ولم يقبل قبلها أنثى في هذا المعنى قوله تعالى وكفلها زكريا إذا قرئ بالتخفيف كان معناه أنه تضمن مؤنتها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه يعني به من يضمن مؤنة اليتيم وإذا قرئ بالتثقيل كان معناه أن الله تعالى كفله إياها وضمنه مؤنتها وأمره بالقيام بها والقراءتان صحيحتان بأن يكون الله تعالى كفله إياها فتكفل بها قوله تعالى قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الهبة تمليك الشيء من غير ثمن ويقولون قد تواهبوا لأمر بينهم وسمى الله تعالى ذلك هبة على وجه المجاز لأنه لم تكن هناك هبة على الحقيقة إذ لم يكن تمليك شيء وقد كان الولد حرا لا يقع فيه تمليك ولكنه لما أراد أن يخلص له الولد على ما أراد من عبادة الله تعالى ووراثته النبوة والعلم أطلق عليه لفظ الهبة كما سمى الله تعالى بذل النفس للجهاد في الله شراء بقوله إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة هو تعالى مالك الجميع من الأنفس والأموال قبل أن جاهدوا وبعده وسمى ذلك شراء لما وعدهم عليه من الثواب الجزيل وقد يقول القائل لي جناية فلان ولا تمليك فيه وإنما أراد إسقاط حكمها وقوله تعالى وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يسمى بهذا الاسم لأن الله تعالى سمى بمحي سيدا والسيد هو الذي تجب طاعته وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحكم بينه وبين بني قريظة قوموا إلى سيدكم وقال ص - للحسن إن ابني هذا سيد وقال لبني سلمة من سيدكم يا بني سلمة قالوا الحر بن قيس على بخل فيه قال وأي داء أدوى من البخل ولكن سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمى سيدا وليس السيد هو المالك فحسب لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال سيد الدابة وسيد الثوب كما يقال سيد العبد وقد روي أن وفد بني عامر قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا أنت سيدنا وذو الطول علينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

السيد هو الله تكلموا بكلامكم ولا يستهوينكم الشيطان وقد كان النبي ص
- أفضل السادة من بني آدم ولكنه رآهم متكلفين لهذا القول فأنكره عليهم كما قال أبغضكم إلي الثرثارون المتشدقون المتفيقون فكره لهم تكلف الكلام على وجه التصنع وقد روي عن النبي أنه قال لا تقولوا للمنافق سيدا فإنه إن يك سيدا فقد هلكتم فنهى أن يسمى المنافق سيدا لأنه لا تجب

طاعته فإن قيل قال الله تعالى ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا فسموهم سادات وهم ضلال قيل له لأنهم أنزلوهم منزلة من تجب طاعته وإن لم يكن مستحقا لها فكانوا عندهم وفي اعتقادهم ساداتهم كما قال تعالى فما أغنت عنهم آلهتهم ولم يكونوا آلهة ولكنهم سموهم آلهة فأجرى الكلام على ما كان في زعمهم واعتقادهم قوله تعالى قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا يقال إنه طلب آية لوقت الحمل ليعجل السرور به فأمسك على لسانه فلم يقدر أن يكلم الناس إلا بالإيماء يروى ذلك عن الحسن والربيع بن أنس وقتادة وقال في هذه الآية ثلاثة أيام وفي موضع آخر في سورة مريم في هذه القصة بعينها ثلاث ليال سويا عبر تارة بذكر الأيام وتارة بذكر الليالي وفي هذا دليل على أن أحد العددين من الجميع عند الإطلاق يعقل به مقداره من الوقت الآخر فيعقل من ثلاثة أيام ثلاث ليال معها ومن ثلاث ليال ثلاثة أيام ألا ترى أنه لما أراد التفرقة بينهما أفرد كل واحد منهما بالذكر فقال سبع ليال وثمانية أيام حسوما لأنه لو اقتصر على العدد الأول عقل مثله من الوقت الآخر قوله تعالى وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين قيل في قوله اصطفاك اختارك بالتفضيل على نساء العالمين في زمانهم يروى ذلك عن الحسن وابن جريج وقال غيرهما معناه أنه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح وقال الحسن ومجاهد وطهرك من الكفر بالإيمان قال أبو بكر هذا سائغ كما جاز إطلاق اسم النجاسة على الكافر لأجل الكفر في قوله تعالى إنما المشركون نجس والمراد نجاسة الكفر فكذلك يكون وطهرك بطهارة الإيمان وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن ليس بنجس يعني به نجاسة الكفر وهو كقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والمراد طهارة الإيمان والطاعات وقيل إن المراد وطهرك من سائر الأجناس من الحيض والنفاس وغيرهما وقد اختلف في وجه تطهير الملائكة لمريم وإن لم تكن نبية لأن الله تعالى قال وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فقال قائل كان ذلك معجزة لزكريا عليه السلام وقال آخرون على وجه إرهاص نبوة المسيح كحال الشهب وإظلال الغمامة ونحو ذلك مما كان لنبينا ص - قبل المبعث قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين قال سعيد أخلصي لربك وقال قتادة أديمي الطاعة وقال

مجاهد أطيلي القيام في الصلاة وأصل القنوت الدوام على الشيء وأشبه هذه الوجوه بالحال الأمر بإطالة القيام في الصلاة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الصلاة طول القنوت يعني طول القيام ويدل عليه قوله عطفا على ذلك واسجدي واركعي فأمرت بالقيام والركوع والسجود وهي أركان الصلاة ولذلك لم يكن هذا موضع سجدة عند سائر أهل العلم كسائر مواضع السجود لأجل ذكر السجود فيها لأنه قد ذكر مع السجود القيام والركوع فكان أمرا بالصلاة وفي هذا دلالة على أن الواو لا توجب الترتيب لأن الركوع مقدم على السجود في المعنى وقدم السجود ههنا في اللفظ قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم قال أبو بكر حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى إذ يلقون أقلامهم قال تساهموا على مريم أيهم يكفلها فقرعهم زكريا ويقال إن الأقلام ههنا القداح التي يتساهم عليها وأنهم ألقوها في جرية الماء فاستقبل قلم زكريا عليه السلام جرية الماء مصعدا وانحدرت أقلام الآخرين معجزة لزكريا عليه السلام فقرعهم يروى ذلك عن الربيع بن أنس ففي هذا التأويل أنهم تساهموا عليها حرصا على كفالتها ومن الناس من يقول إنهم تدافعوا كفالتها لشدة الأزمة والقحط في زمانها حتى وفق لها زكريا خير الكفلاء والتأويل الأول أصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه كفلها زكريا وهذا يدل على أنه كان حريصا على كفالتها ومن الناس من يحتج بذلك على جواز القرعة في العبيد يعتقهم في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا من عتق العبيد في شيء لأن الرضا بكفالة الواحد منهم بعينه جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له لحرية وقد كان عتق الميت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه وإلقاء الأقلام يشبه القرعة في القسمة وفي تقديم الخصوم إلى الحاكم وهو نظير ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه وذلك لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة وكذلك حكم كفالة مريم عليها السلام وغير جائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه قوله تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح البشارة هي خبر على وصف وهو في الأصل لما يسر لظهور السرور في بشرة وجهه إذا

بشر والبشرة هي ظاهر الجلد فأضافت الملائكة البشارة إلى الله تعالى وكان الله هو مبشرها وإن كانت الملائكة خاطبوها وكذلك قال أصحابنا فيمن قال إن بشرت فلانا بقدوم فلان فعبدي حر فقدم وأرسل إليه رسولا يخبره بقدومه فقال له الرسول إن فلانا يقول لك قد قدم فلان أنه يحنث في يمينه لأن المرسل هو المبشر دون الرسول ولأجل ما ذكرنا من تضمن البشارة إحداث السرور قال أصحابنا إن المبشر هو المخبر الأول وأن الثاني ليس بمبشر لأنه لا يحدث بخبره سرور وقد تطلق البشارة ويراد بها الخبر فحسب كقوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم قوله تعالى بكلمة منه قد قيل فيه ثلاثةأوجه أحدها أنه لما خلقه الله تعالى من غير والد كما قال الله تعالى خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فلما كان خلقه على هذا الوجه من غير والد أطلق عليه اسم الكلمة مجازا كما قال وكلمته ألقاها إلى مريم والوجه الثاني أنه لما بشر به في الكتب القديمة أطلق عليه الاسم والوجه الثالث إن الله يهدي به كما يهدي بكلمته قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الاحتجاج المتقدم لهذه الآية على النصارى في قولهم إن المسيح هو ابن الله وهم وفد نجران وفيهم السيد والعاقب قالا للنبي ص - هل رأيت ولدا من غير ذكر فأنزل الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم روي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة وقال قبل ذلك فيما حكي عن المسيح ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم إلى قوله تعالى إن الله ربي وربكم فاعبدوه وهذا موجود في الإنجيل لأن فيه إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم والأب السيد في تلك اللغة ألا تراه قال وأبي وأبيكم فعلمت أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة فلما قامت الحجة عليهم بما عرفوه واعترفوا به وأبطل شبهتهم في قولهم أنه ولد من غير ذكر بأمر آدم عليه السلام دعاهم حينئذ إلى المباهلة فقال تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم الآية فنقل رواة السير ونقلة الأثر لم يختلفوا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم ثم دعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة فأحجموا عنها وقال بعضهم لبعض إن باهلتموه اضطرم الوادي عليكم نارا ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة وفي هذه الآيات دحض شبه النصارى في أنه إله أو ابن الإله وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -

لولا أنهم عرفوا يقينا أنه

نبي ما الذي كان يمنعهم من المباهلة فلما أحجموا وامتنعوا عنها دل أنهم قد كانوا عرفوا صحة نبوته بالدلائل المعجزات وبما وجدوا من نعته في كتب الأنبياء المتقدمين وفيه الدلالة على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال تعالوا ندع
أبناءها وأبناءكم ولم يكن هناك للنبي ص - بنون غيرهما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للحسن رضي الله عنه إن ابني هذا سيد وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير لا تزرموا ابني وهما من ذريته أيضا كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام بقوله تعالى ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله تعالى وزكريا ويحيى وعيسى وإنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له ومن الناس من يقول أن هذا مخصوص في الحسن والحسين رضي الله عنهما أن يسميا ابني النبي صلى الله عليه وسلم - دون غيرهما وقد روي في ذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - يدل علىخصوص إطلاق اسم ذلك فيهما دون غيرهما من الناس لأنه روي عنه أنه قال سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وقال محمد فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة أن الوصية لولد الإبن دون ولد الإبنة وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إن ولد الإبنة يدخلون فيه وهذا يدل على أن قوله تعالى وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك مخصوص به الحسن والحسين في جواز نسبتهما على الإطلاق إلى النبي صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الناس لما ورد فيه من الأثر وأن غيرهما من الناس إنما ينسبون إلى الآباء وقومهم دون قوم الأم ألا ترى أن الهاشمي إذا استولد جارية رومية أو حبشية أن ابنه يكون هاشميا منسوبا إلى قوم أبيه دون أمه وكذلك قال الشاعر ... بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد ... فنسبة الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم - بالبنوة على الإطلاق مخصوص بهما لا يدخل فيه غيرهما هذا هو الظاهر المتعالم من كلام الناس فيمن سواهما لأنهم ينسبون إلى ا لأب وقومه دون قوم الأم قوله تعالى قل يا أيه الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله الآية قوله تعالى كلمة سواء يعني والله أعلم كلمة عدل بيننا وبينكم نتساوى جميعا فيها إذ كنا جميعا عباد الله ثم فسرها بقوله تعالى ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله وهذه هي

الكلمة التي تشهد العقول بصحتها إذ كان الناس كلهم عبيد الله لا يستحق بعضهم على بعض العبادة ولا يجب على أحد منهم طاعة غيره إلا فيما كان طاعة لله تعالى وقد شرط الله تعالى في طاعة نبيه ص - ما كان منها معروفا وإن كان الله تعالى قد علم أنه لا يأمر إلا بالمعروف لئلا يترخص أحد في إلزام غيره طاعة نفسه إلا بأمر الله تعالى كما قال الله تعالى مخاطبا لنبيه ص - في قصة المبايعات ولا يعصينك في معروف فبايعهن فشرط عليهن ترك عصيان النبي صلى الله عليه وسلم - في المعروف الذي يأمرهن به تأكيدا لئلا يلزم أحدا طاعة غيره إلا بأمر الله وما كان منه طاعة لله تعالى وقوله تعالى ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله أي لا يتبعه في تحليل شيء ولا تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه وهو نظير قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وقد روى عبدالسلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قلت يا رسول ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم فيحرمونه قال فتلك عبادتهم وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوهم أربابا لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه ا لله ولم يحلله ولا يستحق أحد أن يطاع بمثله إلا الله تعالى الذي هو خالقهم والمكلفون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم إلى قوله تعالى أفلا تعقلون روي عن ابن عباس والحسن والسدي أن أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم - فتنازعوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود ما كان إلا يهوديا وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا فأبطل الله دعواهم بقوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده فلا تعقلون فاليهودية والنصرانية حادثتان بعد إبراهيم فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا وقد قيل إنهم سموا بذلك لأنهم من ولد يهودا والنصارى سموا بذلك لأن أصلهم من ناصرة قرية بالشام ومع ذلك فإن اليهودية ملة محرفة عن ملة موسى عليه السلام والنصرانية ملة محرفة عن شريعة عيسى عليه السلام فلذلك قال تعالى وما أنزلت التوراة والإنجيل

إلا من بعده فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملة حادثة بعده فإن قيل فينبغي أن لا يكون حنيفا مسلما لأن القرآن نزل بعده قيل له ما كان معنى الحنيف الدين المستقيم لأن الحنف في اللغة هو الإستقامة والإسلام ههنا هو الطاعة لله تعالى والانقياد لأمره وكل واحد من أهل الحق يصح وصفه بذلك فقد علمنا بأن الأنبياء المتقدمين إبراهيم ومن قبله قد كانوا بهذه الصفة فلذلك جاز أن يسمى إبراهيم حنيفا مسلما وإن كان القرآن نزل بعده لأن هذا الاسم ليس بمختص بنزول القرآن دون غيره بل يصح صفة جميع المؤمنين به واليهودية والنصرانية صفة حادثة لمن ان على ملة حرفها منتحلوها من شريعة التوراة والإنجيل فغير جائز أن ينسب إليها من كان قبلها وفي هذه الآيات دليل على وجوب المحاجة في الدين وإقامة الحجة على المبطلين كما احتج الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأبطل بها شبهتهم وشغبهم وقوله تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم أوضح دليل على صحة الاحتجاج للحق لأنه لو كان الحجاج كله محظورا لما فرق بين المحاجة بالعلم وبينها إذا كانت بغير علم وقيل في قوله تعالى حاججتم فيما لكم به علم فيما وجدوه في كتبهم وأما ما ليس لهم به علم فهو شأن إبراهيم في قولهم إنه كان يهوديا أو نصرانيا قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك معناه تأمنه على قنطار لأن الباء وعلى تتعاقبان في هذا الموضع كقولك مررت بفلان ومررت عليه وقال الحسن في القنطار هو ألف مثقال ومائتا مثقال وقال أبو نضرة ملء مسك ثور ذهبا وقال مجاهد سبعون ألفا وقال أبو صالح مائة رطل فوصف الله تعالى بعض أهل الكتاب بأداء الأمانة في هذا الموضع ويقال إنه أراد به النصارى ومن الناس من يحتج بذلك في قبول شهادة بعضهم على بعض لأن الشهادة ضرب من الأمانة كما أن بعض المسلمين لما كان مأمونا جازت شهادته فكذلك الكتابي من حيث كان منهم موصوفا بالأمانة دل على جواز قبول شهادته على الكفار فإن قيل فهذا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين لأنه وصفه بأداء الأمانة إلى المسلمين إذا ائتمنوه عليها قيل له كذلك يقتضي ظاهر الآية إلا أنا خصصناه بالاتفاق وأيضا فإنما دلت على جواز شهادتهم للمسلمين لأن أداء أمانتهم حق لهم فأما جوازه عليهم فلا دلالة في الآية عليه وقوله تعالى ومنهم من إن تأمنه

بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما قال مجاهد وقتادة إلا ما دمت عليه قائما بالتقاضي وقال السدي إلا ما دمت قائما على رأسه بالملازمة له واللفظ محتمل للأمرين من التقاضي ومن الملازمة وهو عليهما جميعا وقوله تعالى إلا ما دمت عليه قائما بالملازمة أولى منه بالتقاضي من غير ملازمة وقد دلت الاية على أن للطالب ملازمة المطلوب بالدين وقوله تعالى ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل روي عن قتادة والسدي أن اليهود قالت ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون وزعموا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم وقيل انهم قالوا ذلك في سائر من يخالفهم في دينهم ويستحلون أموالهم لأنهم يزعمون أن على الناس جميعا اتباعهم وادعوا ذلك على الله أنه أنزل عليهم فأخبر الله تعالى عن كذبهم في ذلك بقوله تعالى ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنه كذب قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وروى الأعمش عن سفيان عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فاجر فيها لقي الله وهو عليه غضبان وقال الأشعث بن قيس في نزلت كان بيني وبين رجل خصومة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال ألك بينة قلت لا قال فيمينه قلت إذا يحلف فذكر مثل قول عبدالله فنزلت إن الذين يشترون بعهد الله الآية وروى مالك عن العلاء بن عبدالرحمن عن معبد بن كعب عن أخيه عبدالله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن كان قضيبا من أراك وروى الشعبي عن علقمة عن عبدالله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان وظاهر الآية وهذه الآثار تدل على أنه لا يستحق أحد بيمينه مالا هو في الظاهر لغيره وكل من في يده شيء يدعيه لنفسه فالظاهر أنه له حتى يستحقه غيره وقد منع ظاهر الآية والآثار التي ذكرنا أن يستحق بيمينه مالا هو لغيره في الظاهر ولولا يمينه لم يستحقه لأنه معلوم أنه لم يرد به مالا هو له عند الله دون ما هو عندنا في الظاهر إذ كانت الأملاك لا تثبت عندنا إلا من طريق الظاهر دون الحقيقة وفي ذلك دليل على بطلان قول القائلين برد اليمين لأنه يستحق بيمينه ما كان ملكا لغيره في الظاهر وفيه الدلالة على أن الأيمان ليست

موضوعة للإستحقاق وإنما موضوعها لإسقاط الخصومة وروى العوام بن حوشب قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أنه سمع ابن أبي أوفى يقول أقام رجل سلعة فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت بها ثمنا لم يعط بها ليوقع فيها مسلما فنزلت إن الذين يشترون بعهد الله الآية وروي عن الحسن وعكرمة أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود كتبوا كتابا بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله ممن ادعوا أنه ليس علينا في الأميين سبيل قوله تعالى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب إلى قوله تعالى وما هو من عند الله يدل على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله لأنها لو كانت من فعله لكانت من عنده وقد نفى الله نفيا عاما كون المعاصي من عنده ولو كانت من فعله لكانت من عنده من آكد الوجوه فكان لا يجوز إطلاق النفي بأنه ليس من عنده فإن قيل فقد يقال إن الإيمان من عند الله ولا يقال إنه من عنده من كل الوجوه كذلك الكفر والمعاصي قيل له لأن إطلاق النفي يوجب العموم وليس كذلك إطلاق الإثبات ألا ترى أنك لو قلت ما عند زيد طعام كان نفيا لقليله وكثيره ولو قلت عنده طعام ما كان عموما في كون جميع الطعام عنده قوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قيل في معنى البر ههنا وجهان أحدهما الجنة وروي ذلك عن عمرو بن ميمون والسدي وقيل فيه البر بفعل الخير الذي يستحقون به الأجر والنفقة ههنا أخراج ما يحبه في سبيل الله من صدقة أو غيرها وروى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس قال لما نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ومن ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قال أبو طلحة يا رسول الله حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله تعالى ولو استطعت أن أسره ما أعلنته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اجعله في قرابتك أو في أقربائك وروى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي عمرو بن حماس عن حمزة بن عبدالله عن عبدالله بن عمر قال خطرت هذه الآية لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فتذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب إلي من جاريتي أميمة فقلت هي حرة لوجه الله فلولا أن أعود في شيء فعلته لله لنكحتها فأنكحتها نافعا وهي أم ولده حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب وغيره أنها حين نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فحمل النبي صلى الله عليه وسلم - عليها أسامة بن

زيد فكان زيد أوجد في نفسه فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك منه قال أما الله تعالى فقد قبلها وروي عن الحسن أنه قال هو الزكاة الواجبة وما فرض الله تعالى في الأموال قال أبو بكر عتق ابن عمر للجارية على تأويل الآية على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القربةإلى الله فهو من النفقة المراد بالآية ويدل على أن ذلك كان عنده عاما في الفروض والنوافل وكذلك فعل أبي طلحة وزيد بن حارثة يدل على أنهم لم يروا ذلك مقصورا على الفرض دون النفل ويكون حينئذ معنى قوله تعالى لن تنالوا البر على أنكم لن تنالوا البر الذي هو في أعلى منازل القرب حتى تنفقوا مما تحبون على وجه المبالغة في الترغيب فيه لأن الإنفاق مما يحب يدل على صدق نيته كما قال تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة وإن لم يرد به نفي الأصل وإنما يريد به نفي الكمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد ما ينفق ولا يفطن له فيتصدق عليه فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة لا على نفي المسكنة عن غيره على الحقيقة قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه قال أبو بكر هذا يوجب أن يكون جميع المأكولات قد كان مباحا لبني إسرائيل إلى أن حرم إسرائيل ما حرمه على نفسه وروي عن ابن عباس والحسن أنه أخذه وجع عرق النسا فحرم أحب الطعام إليه إن شفاه الله على وجه النذر وهو لحوم الإبل وقال قتادة حرم العروق وروي أن إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام نذر إن برئ من عرق النسا أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الإبل وألبانها وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وسلم - لحوم الإبل لأنهم لا يرون النسخ جائزا فأنزل الله هذه الآية وبين أنها كانت مباحة لإبراهيم وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه وحاجهم بالتوراة فلم يجسروا على إحضارها لعلمهم بصدق ما أخبر أنه فيها وبين بذلك بطلان قولهم في إباء النسخ إذ ما جاز أن يكون مباحا في وقت ثم حظر جازت إباحته بعد حظره وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه ص - كان أميا لا يقرأ الكتاب ولم يجالس أهل الكتاب فلم يعرف سرائر كتب الأنبياء المتقدمين إلا بإعلام الله إياه وهذا الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه صار محظورا عليه وعلى بني إسرائيل يدل

عليه قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فاستثنى ذلك مما أحله تعالى لبني إسرائيل ثم حظره إسرائيل على نفسه فدل على أنه صار محظورا عليه وعليهم فإن قيل كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئا وهو لا يعلم موقع المصلحة في الحظر والإباحة إذ كان علم المصالح في العبادات لله تعالى وحده قيل هذا جائز بأن يأذن الله له فيه كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله تعالى فيكون ما يؤدي ليه الاجتهاد حكما لله تعالى وأيضا فجائز للإنسان أن يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يأذن الله له في تحريم الطعام إما من جهة النص أو الاجتهاد وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك أو توقيفا من الله له في إباحة التحريم له إن شاء وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك لإضافة الله تعالى التحريم إليه ولو كان ذلك عن توقيف لقال إلا ما حرم الله على بني إسرائيل فلما أضاف التحريم إليه دل ذلك على أنه كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد وهذا يدل على أنه جائز أن يجعل للنبي ص -

الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره والنبي ص
- أولى بذلك لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأي وقد بينا ذلك في أصول الفقه قال أبو بكر قد دلت الآية على أن تحريم إسرائيل لما حرمه من الطعام على نفسه قد كان واقعا ولم يكن موجب لفظه شيئا غير التحريم وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا ص -
وذلك لأن النبي ص
- حرم مارية على نفسه وقيل أنه حرم العسل فلم يحرمهما الله تعالى عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين بقوله تعالى يا أيهاالنبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك إلىقوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فجعل في التحريم كفارة يمين إذا استباح ما حرم بمنزلة الحلف أن لا يستبيحه وكذلك قال أصحابنا فيمن حرم على نفسه جارية أو شيئا من ملكه أنه لا يحرم عليه وله أن يستبيحه بعد التحريم وتلزمه كفارة يمين بمنزلة من حلف أن لا يأكل هذا الطعام إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه وهو أن القائل والله لا أكلت هذا الطعام لا يحنث إلا بأكل جميعه ولو قال قد حرمت هذا الطعام على نفسي حنث بأكل جزء منه لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى الحنث بأكل الجزء منه بمنزلة قوله والله لا آكل شيئا منه لأن ما حرمه الله تعالى من الأشياء

فتحريمه شامل لقليله وكثيره وكذلك المحرم له على نفسه عاقد لليمين على كل جزء منه أن لا يأكل قوله عز و جل إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين قال مجاهد وقتادة لم يوضع قبله بيت على الأرض وروي عن علي والحسن أنهما قالا هو أول بيت وضع للعبادة وقد اختلف في بكة فقال الزهري بكة المسجد ومكة الحرم كله وقال مجاهد بكة هي مكة ومن قال هذا القول يقول قد تبدل الباء مع الميم كقوله سبد رأسه وسمده إذا حلقه وقال أبو عبيدة بكة هي بطن مكة وقيل إن البك الزحم من قولك بكه يبكه بكا إذا زاحمه وتباك الناس بالموضع إذا ازدحموا فيجوز أن يسمى بها البيت لازدحام الناس فيه للتبرك بالصلاة ويجوز أن يسمى به ما حول البيت من المسجد لازدحام الناس فيه للطواف قوله تعالى وهدى للعالمين يعني بيانا ودلالة على الله لما أظهر فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره وهو أمن الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي في الحرم فلا الكلب يهيج الظبي ولا الظبي يتوحش منه وفي ذلك دلالة على توحيد الله وقدرته وهذا يدل على أن المراد بالبيت ههنا البيت وما حوله من الحرم لأن ذلك موجود في جميع الحرم وقوله مباركا يعني أنه ثابت الخير والبركة لأن البركة هي ثبوت الخير ونموه وتزيده والبرك هو الثبوت يقال برك بركا وبروكا إذا ثيت على حاله هذه في الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونمو الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والديانة قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم قال أبو بكر الآية في مقام إبراهيم عليه السلام أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله تعالى ليكون ذلك دلالة وآية على توحيد الله وعلى صحة نبوة إبراهيم عليه السلام ومن الآيات فيه ما ذكرنا من أمن الوحش وأنسه فيه مع السباع الضارية المتعادية وأمن الخائف في الجاهلية فيه ويتخطف الناس من حولهم وإمحاق الجمار على كثرة الرمي من لدن إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا مع أن حصى الجمار إنما تنقل إلى موضع الرمي من غيره وامتناع الطير من العلو عليه وإنما يطير حوله لا فوقه واستشفاء المريض منها به وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وقد كانت العادة بذلك جارية ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا لإخرابة بالطير الأبابيل فهذه كلها من آيات الحرم سوى ما لا نحصيه منها وفي جميع ذلك دليل على أن المراد بالبيت هنا الحرم كله لأن هذه الآيات موجودة في الحرم

ومقام إبراهيم ليس في البيت إنما هو خارج البيت والله أعلم
باب

الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجني فيه
قال الله تعالى ومن دخله كان آمنا قال أبو بكر لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله إن أول بيت وضع للناس موجودة في جميع الحرم ثم قال ومن دخله كان آمنا وجب أن يكون مراده جميع الحرم وقوله ومن دخله كان آمنا يقتضي أمنه على نفسه سواء كان جانيا قبل دخوله أو جنى بعد دخوله إلا أن الفقهاء متفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها ومعلوم أن قوله ومن دخله كان آمنا هو أمر وإن كان في صورة الخبر كأنه قال هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به كما نقول هذا مباح وهذا محظور والمراد به كذلك في حكم الله وما أمر به عباده وليس المراد أن مبيحا يستبيحه ولا أن معتقدا للحظر يحظره وإنما هو بمنزلة قوله في المباح افعله على أن لا تبعة عليك فيه ولا ثواب وفي المحظور لا تفعله فإنك تستحق العقاب به وكذلك قوله تعالى ومن دخله كان آمنا هو أمر لنا بإيمانه وحظر دمه ألا ترى إلى قوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا ولو كان قوله تعالى ومن دخله كان آمنا خبرا لما جاز أن لا يوجد مخبره فثبت بذلك أن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا هو أمر لنا بإيمانه ونهي لنا عن قتله ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمرا لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن تؤمنه من قتل قد استحقه بجنايته فلما كان حمله على الإيمان من قتل غير مستحق عليه بل على وجه الظلم تسقط فائدة تخصيص الحرم به لأن الحرم وغيره في ذلك سواء إذا كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قبلنا أومن قبل غيرنا إذا أمكننا ذلك علمنا أن المراد الأمر بالإيمان من قبل مستحق فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحق من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قتل في الحرم قتل قال الله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ففرق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه وقد اختلف الفقهاء فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم

لم يقتص منه ما دام فيه ولكنه لا يبايع ولا يؤاكل إلى أن يخرج من الحرم فيقتص منه وإن قتل في الحرم قتل وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه وقال مالك والشافعي يقتص منه في الحرم ذلك كله قال أبو بكر روي عن ابن عباس وابن عمر وعبيدالله بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والشعبي فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل قال ابن عباس ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه وروى قتادة عن الحسن أنه قال لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه قال وكان الحسن يقول ومن دخله كان آمنا كان هذا في الجاهلية لو أن رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا إذا أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم حتى يقام عليه وعن مجاهد مثله وهذا يحتمل أن يريد به أن يضطر إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته وقد روي ذلك عن عطاء مفسرا فجائز أن يكون ما روي عنه وعن الحسن في إخراجه من الحرم على هذا الوجه وقد ذكرنا دلالة قوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه على مثل ما دل عليه قوله تعالى ومن دخله كان آمنا في موضعه وبينا وجه دلالة ذلك على أن دخول الحرم يحظر قتل من لجأ إليه إذا لم تكن جنايته في الحرم وأما ما ذكرنا من قول السلف فيه يدل على أنه اتفاق منهم على حظر قتل من قتل في غير الحرم ثم لجأ إليه لأن الحسن روي عنه فيه قولان متضادان أحدهما رواية قتادة عنه أنه يقتل والآخر رواية هشام بن حسان في أنه لا يقتل في الحرم ولكنه يخرج منه فيقتل وقد بينا أنه يحتمل قوله يخرج فيقتل أنه يضيق عليه في ترك المبايعة والمشاراة والأكل والشرب حتى يضطر إلى الخروج فلم يحصل للحسن في هذا قول لتضاد الروايتين وبقي قول الآخرين من الصحابة والتابعين في منع القصاص في الحرم بجناية كانت منه في غير الحرم ولم يختلف السلف ومن بعدهم من الفقهاء أنه إذا جنى في الحرم وكان مأخوذا بجنايته يقام عليه ما يستحقه من قتل أو غيره فإن قيل قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله النفس بالنفس وقوله ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يوجب

عمومه القصاص في الحرم على من جنى فيه أو في غيره قيل له قد دللنا على أن قوله ومن دخله كان آمنا قد اقتضى وقوع الأمن من القتل بجناية كانت منه في غيره وقوله كتب عليكم القصاص وسائر الآي الموجبة للقصاص مرتب على ما ذكرنا من الأمن بدخول الحرم ويكون ذلك مخصوصا من آي القصاص وأيضا فإن قوله تعالى كتب عليكم القصاص وارد في إيجاب القصاص لا في حكم الحرم وقوله ومن دخله كان آمنا وارد في حكم الحرم ووقوع الأمن لمن لجأ إليه فيجري كل واحد منهما على بابه ويستعمل فيما ورد فيه ولا يعترض بآي القصاص على حكم الحرم ومن جهة أخرى أن إيجاب القصاص لا محالة متقدم لإيجاب أمانه بالحرم لأنه لو لم يكن القصاص واجبا قبل ذلك استحال أن يقال هو آمن مما لم يجن ولم يستحق عليه فدل ذلك علىأن الحكم بأمنه بدخول الحرم متأخر عن إيجاب القصاص ومن جهة الأثر حديث ابن عباس وأبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن الله حرم مكة ولم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار فظاهر ذلك يقتضي حظر قتل اللاجئ إليه والجاني فيه إلا أن الجاني فيه لا خلاف فيه أنه يؤخذ بجنايته فبقي حكم اللفظ في الجاني إذا لجأ إليه وروى حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن أعتى الناس على الله عز و جل رجل قتل غير قاتله أو قتل في الحرم أو قتل بذحل الجاهلية وهذا أيضا يحظر عمومه قتل كل من كان فيه فلا يخص منه شيء إلا بدلالة وأما ما دون النفس فإنه يؤخذ به لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به لقوله ص - لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والحبس في الدين عقوبة فجعل الحبس عقوبة وهو فيما دون النفس فكل حق وجب فيما دون النفس أخذ به وإن لجأ إلى الحرم قياسا على الحبس في الدين وأيضا لا خلاف بين الفقهاء أنه مأخوذ بما ايجب عليه فيما دون النفس وكذلك لا خلاف أن الجاني في الحرم مأخوذ بجنايته في النفس وما دونها ولا خلاف أيضا أنه إذا جنى في غير الحرم ثم دخل الحرم أنه إذا لم يجب قتله في الحرم أنه لا يبايع ولا يشارى ولا يؤوى حتى يخرج ولما ثبت عندنا أنه لا يقتل وجب استعمال الحكم الآخر فيه في ترك مشاراته ومبايعته وإيوائه فهذه الوجوه كلها لا خلاف فيها وإنما الخلاف فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم وقد دللنا عليه وما عدا ذلك فهو محمول على ما حصل عليه الاتفاق

وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال حدثنا يعقوب بن حميد قال حدثنا عبدالله بن الوليد عن سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يسكن مكة سافك دم ولا آكل ربا ولا مشاء بنميمة وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يؤو ولم يجالس ولم يبايع ولم يشار ولم يطعم ولم يسق حتى يخرج لقوله ص - لا يسكنها سافك دم وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبار قال حدثنا داود بن عمرو قال حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال إذا دخل القاتل الحرم لم يجالس ولم يبايع ولم يؤو واتبعه طالبه يقول له اتق الله في دم فلان واخرج من الحرم ونظير قوله تعالى ومن دخله كان آمنا قوله عز و جل أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وقوله أو لو نمكن لهم حرما آمنا وقوله وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إليه وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله وما عبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دل على أن الحرم في حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه ولما لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه فإن قيل من قتل في البيت لم يقتل فيه ومن قتل في الحرم قتل فيه فليس الحرم كالبيت قيل له لما جعل الله حكم الحرم حكم البيت فيما عظم من حرمته وعبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم اقتضى ذلك التسوية بينهما إلا فيما قام دليل تخصيصه وقد قامت الدلالة في حظر القتل في البيت فخصصناه وبقي حكم الحرم على ما اقتضاه ظاهر القرآن من إيجاب التسوية بينهما والله تعالى أعلم
باب

فرض الحج
قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال أبو بكر هذا ظاهر في إيجاب فرض الحج على شريطة وجود السبيل إليه والذي يقتضيه من حكم السبيل إن كل من أمكنه الوصول إلى الحج لزمه ذلك إذ كانت استطاعة السبيل إليه هي إمكان الوصول إليه كقوله تعالى فهل إلى خروج من سبيل يعني من وصول وهل إلى مرد من سبيل يعني من وصول وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم -
من شرط استطاعة السبيل إليه وجود الزاد والراحلة وروى أبو إسحاق عن
الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من ملك

زادا وراحلة يبلغه بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وروى إبراهيم بن يزيد الجوزي عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن قوله عز و جل ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال السبيل إلى الحج الزاد والراحلة وروى يونس عن الحسن لما نزلت هذه الآية ولله على الناس حج البيت الآية قال رجل يا رسول الله ما السبيل قال زاد وراحلة وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال السبيل الزاد والراحلة ولم يحل بينه وبينه أحد وقال سعيد بن جبير هوالزاد والراحلة قال أبو بكر فوجود الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره الله تعالى ومن شرائط وجوب الحج وليست الإستطاعة مقصورة على ذلك لأن المريض الخائف والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة والزمنى وكل من تعذر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجدا للزاد والراحلة فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يرد بقوله الإستطاعة الزاد والراحلة إن ذلك جميع شرائط الإستطاعة وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن من أمكنه المشي إلى بيت الله ولم يجد زادا وراحلة فعليه الحج فبين ص - أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي وأن من لا يمكنه الوصول إليه إلا بالمشي الذي يشق ويعسر فلا حج عليه فإن قيل فينبغي أن لا يلزم فرض الحج إلا من كان بينه وبين مكة مسافة ساعة إذا لم يجد زادا وراحلة وأمكنه المشي قيل له إذا لم يلحقه في المشي مشقة شديدة فهذا أيسر أمر من الواجد للزاد والراحلة إذا بعد وطنه من مكة ومعلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لأن لا يشق عليه ويناله ما يضره من المشي فإذا كان من أهل مكة وما قرب منها ممن لا يشق عليه المشي في ساعة من نهار فهذا مستطيع للسبيل بلا مشقة وإذا كان لا يصل إلى البيت إلا بالمشقة الشديدة فهو الذي خفف الله عنه ولم يلزمه الفرض إلا على الشرط المذكور ببيان النبي صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج يعني من ضيق وعندنا أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الحج لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج وروى عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم - فقال لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقال رجل يا رسول الله إني

قد اكتتبت في غزوة كذا وقد أرادت امرأتي أن تحج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - احجج مع امرأتك وهذا يدل على أن قوله لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم قد انتظم المرأة إذا أرادت الحج من ثلاثة أوجه أحدها أن السائل عقل منه ذلك ولذلك سأله عن امرأته وهي تريد الحج ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك عليه فدل على أن مراده ص - عام في الحج وغيره من الأسفار والثاني قوله حج مع امرأتك وفي ذلك إخبار منه بإرادة سفر الحج في قوله لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم والثالث أمره إياه بترك الغزو للحج مع امرأته ولو جاز لها الحج بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو وهو فرض للتطوع وفي هذا دليل أيضا على أن حج المرأة كان فرضا ولم يكن تطوعا لأنه لو كان تطوعا لما أمره بترك الغزو الذي هو فرض لتطوع المرأة ومن وجه آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يسئله عن حج المرأة أفرض هو أم نفل وفي ذلك دليل على تساوي حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم فثبت بذلك أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الإستطاعة ولا خلاف أن من شرط استطاعتها أن لا تكون معتدة لقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة فلما كان ذلك معتبرا في الإستطاعة وجب أن يكون نهيه للمرأة أن تسافر بغير محرم معتبرا فيها ومن شرائطه ما ذكرنا من إمكان ثبوته على الراحلة وذلك لما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عبادة قال حدثنا محمد بن مصعب قال حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك فأجاز ص - للمرأة أن تحج عن أبيها ولم يلزم الرجل الحج بنفسه فثبت بذلك أن من شرط الإستطاعة إمكان الوصول إلى الحج وهؤلاء وإن لم يلزمهم الحج بأنفسهم إذا كانوا واجدين للزاد والراحلة فإن عليهم أن يحجوا غيرهم عنهم أعني المريض والزمن والمرأة إذا حضرتهم الوفاة فعليهم أن يوصوا بالحج وذلك أن وجود ما يمكن به الوصول إلى الحج في ملكهم يلزمهم فرض الحج في أموالهم إذا لم يمكنهم فعله بأنفسهم لأن فرض الحج يتعلق بمعنيين أحدهما بوجود الزاد والراحلة وإمكان فعله بنفسه فعلى من كانت هذه صفته الخروج والمعنى الآخر أن يتعذر فعله بنفسه لمرض أو كبر سن أو زمانة أو

لأنها امرأة لا محرم لها ولا زوج يخرج معها فهؤلاء يلزمهم الحج بأموالهم عند الأياس والعجز عن فعله بأنفسهم فإذا أحج المريض أو المرأة عن أنفسهما ثم لم يبرأ المريض ولم تجد المرأة محرما حتى ماتا أجزأهما وإن برئ المريض ووجدت المرأة محرما لم يجزهما وقول الخثعمية للنبي ص -

إن أبي أدركته فريضة الله في الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم - إياها بالحج عنه يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وإن لم يثبت على الراحلة لأنها أخبرته أن فريضة الله تعالى أدركته وهو شيخ كبير فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم -
قولها ذلك فهذا يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وأمر النبي ص
- إياها بفعل الحج الذي أخبرت أنه قد لزمه يدل على لزومه أيضا وقد اختلف في حج الفقير فقال أصحابنا والشافعي لا حج عليه وإن حج أجزأه من حجة الإسلام وحكي عن مالك أن عليه الحج إذا أمكنه المشي وروي عن ابن الزبير والحسن أن الاستطاعة ما تبلغه كائنا ما كان وقول النبي صلى الله عليه وسلم - أن الإستطاعة الزاد والراحلة يدل على أن لا حج عليه فإن هو وصل إلى البيت مشيا فقد صار بحصوله هناك مستطيعا بمنزلة أهل مكة لأنه معلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لمن بعد من مكة فإذا حصل هناك فقد استغنى عن الزاد والراحلة للوصول إليه فيلزمه الحج حينئذ فإذا فعله كان فاعلا فرضا واختلف في العبد إذا حج هل يجزيه من حجة الإسلام فقال أصحابنا لا يجزيه وقال الشافعي يجزيه والدليل على صحة قولنا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هلال بن عبدالله مولى ربيعة بن سليم قال حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال قال رسول ا لله ص - من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -
أن شرط لزوم الحج ملك الزاد والراحلة والعبد لا يملك شيئا فليس هو إذا من
أهل الخطاب بالحج وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الإستطاعة أنها الزاد والراحلة هي على ملكهما على ما بين في حديث علي رضي الله عنه وأيضا فمعلوم من مراد النبي صلى الله عليه وسلم - في شرطه الزاد والراحلة أن يكون ملكا للمستطيع وأنه لم يرد به زادا وراحلة في ملك غيره وإذا كان العبد لا يملك بحال لم يكن من أهل الخطاب بالحج فلم يجزه حجه فإن قيل

ليس الفقير من أهل الخطاب بالحج لعدم ملك الزاد والراحلة ولو حج جاز حجه كذلك العبد قيل له إن الفقير من أهل الخطاب لأنه ممن يملك والعبد ممن لا يملك وإنما سقط الفرض عن الفقير لأنه غير واجد لا لأنه ليس ممن يملك فإذا وصل إلى مكة فقد استغنى عن الزاد والراحلة وصار بمنزلة سائر الواجدين الواصلين إليها بالزاد والراحلة والعبد إنما سقط عنه الخطاب به لا لأنه لا يجد لكن لأنه لا يملك وإن ملك فلم يدخل في خطاب الحج فلذلك لم يجزه وصار من هذا الوجه بمنزلة الصغير الذي لم يخاطب بالحج لا لأنه لا يجد ولكنه ليس من أهل الخطاب بالحج لأن من شرط الخطاب به أن يكون ممن يملك كما أن من شرطه أن يكون ممن يصح خطابه به وأيضا فإن العبد لا يملك منافعه وللمولى منعه من الحج بالإتفاق ومنافع العبد هي ملك للمولى فإذا فعل بها الحج صار كحج فعله المولى فلا يجزيه من حجة الإسلام ويدل عليه أن العبد لا يملك منافعه أن المولى هو المستحق لإبدالها إذا صارت مالا وأن له أن يستخدمه ويمنعه من الحج فإذا أذن له فيه صار معيرا له ملك المنافع فهي متلفة على ملك المولى فلا يجزئ العبد وليس كذلك الفقير لأنه يملك منافع نفسه وإذا فعل بها الحج أجزأه لأنه قد صار من أهل الإستطاعة فإن قيل للمولى منع العبد من الجمعة وليس العبد من أهل الخطاب بها وليس عليه فرضها ولو حضرها وصلاها أجزأته فهلا كان الحج كذلك قيل له إن فرض الظهر قائم على العبد ليس للمولى منعه منها فمتى فعل الجمعة فقد أسقط بها فرض الظهر الذي كان العبد يملك فعله من غير إذن المولى فصار كفاعل الظهر فلذلك أجزأه ولم يكن على العبد فرض آخر يملك فعله فأسقط بفعل الحج حتى نحكم بجوازه ونجعله في حكم ما هو مالكه فلذلك اختلفا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في حج العبد ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن إسحاق قال حدثنا يحيى بن أيوب عن حرام بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لو أن صبيا حج عشر حجج ثم بلغ لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن أعرابيا حج عشر ثم هاجر لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم أعتق لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عباد قال حدثنا محمد بن المنهال قال حدثنا يزيد بن ذريع قال حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيما صبي حج ثم أدرك الحلم فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم - على العبد أن يحج حجة أخرى ولم يعتد له بالحجة التي فعلها في حال الرق وجعله بمنزلة الصبي فإن قيل فقد قال مثله في الأعرابي وهو مع ذلك يجزيه الحجة المفعولة قبل الهجرة قيل له كذلك كان حكم الأعرابي في حال ما كانت الهجرة فرضا لأنه يمتنع أن يقول ذلك بعد نسخ فرض الهجرة فلما قال ص - لا هجرة بعد الفتح نسخ الحكم المتعلق به من وجوب إعادة الحج بعد الهجرة إذ لا هجرة هناك واجبة وقد روي نحو قولنا في حج العبد عن ابن عباس والحسن وعطاء قال أبو بكر والذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى ولله على الناس حج البيت حجة واحدة إذ ليس فيه ما يوجب تكرارا فمتى فعل الحج فقد قضى عهدة الآية وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم - بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان قال أبو داود هو الدؤلي عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم - قال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة فقال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع قوله تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين روى وكيع عن فطر بن خليفة عن نفيع أبي داود قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية ومن كفر قال هو أن حج لا يرجو ثوابه وإن حبس لا يخاف عقابه وروى مجاهد من قوله مثله وقال الحسن من كفر بالحج وقد دلت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر لأن الله تعالى جعل من وجد زادا وراحلة مستطيعا للحج قبل فعله ومن مذهب هؤلاء أن من لم يفعل الحج لم يكن مستطيعا له قط فواجب على مذهبهم أن يكون معذورا غير ملزم إذا لم يحج إذ كان الله تعالى إنما ألزم الحج من استطاع وهو لم يكن مستطيعا قط إذ لم يحج ففي نص التنزيل واتفاق الأمة على لزوم فرض الحج لمن كان وصفه ما ذكرنا من صحة البدن ووجود الزاد والراحلة ما يوجب بطلان قولهم قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء قال زيد بن أسلم نزلت في قوم من اليهود كانوا يغرون الأوس والخزرج يذكرهم الحروب التي كانت بينهم حتى ينسلخوا من الدين بالعصبية وحمية الجاهلية وعن الحسن أنها نزلت في اليهود والنصارى

جميعا في كتمانهم صفته في كتبهم فإن قيل قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم فلا يصح لكم الإحتجاج بقوله لتكونوا شهداء على الناس في صحة إجماع الأمة وثبوت حجته قيل له أنه جل وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم وقال هناك لتكونوا شهداء على الناس كما قال ويكون الرسول عليكم شهيدا فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم وقال في هذه الآية وأنتم شهداء ومعناه غير معنى قوله شهداء على الناس وقد قيل في معناه وجهان أحدهما وأنتم شهداء إنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى وذلك في أهل الكتاب منهم والثاني أن يريد بقوله شهداء عقلاء كما قال الله تعالى أو ألقى السمع وهو شهيد يعني وهو عاقل لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته روي عن عبدالله والحسن وقتادة في قوله حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى وقيل أن معناه اتقاء جميع معاصيه وقد اختلف في نسخه فروي عن ابن عباس وطاوس أنها محكمة غير منسوخة وعن قتادة والربيع بن أنس والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم فقال بعض أهل العلم لا يجوز أن تكون منسوخة لأن معناه اتقاء جميع معاصيه وعلى جميع المكلفين اتقاء جميع المعاصي ولو كان منسوخا لكان فيه إباحة بعض المعاصي وذلك لا يجوز وقيل إنه جائز أن يكون منسوخا بأن يكون معنى قوله حق تقاته القيام بحقوق الله تعالى في حال الخوف والأمن وترك التقية فيها ثم نسخ ذلك في حال التقية والإكراه ويكون قوله تعالى ما استطعتم فيما لا تخافون فيه على أنفسكم يريد فيما لا يكون فيه احتمال الضرب والقتل لأنه قد يطلق نفي الإستطاعة فيما يشق على الإنسان فعله كما قال تعالى وكانوا لا يستطعون سمعا ومراده مشقة ذلك عليهم قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في معنى الحبل ههنا أنه القرآن وكذلك روي عن عبدالله وقتادة والسدي وقيل أن المراد به دين الله وقيل بعهد الله لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من غرق أو نحوه ويسمى الأمان الحبل لأنه سبب النجاة وذلك في قوله تعالى إلا بحبل من الله وحبل من الناس يعني به الأمان إلا أن قوله واعتصموا بحبل الله جميعا هو أمرا بالاجتماع ونهي عن الفرقة وأكده بقوله ولا تفرقوا معناه

التفرق عن دين الله الذي أمروا جميعا بلزومه والإجتماع عليه وروي نحو ذلك عن عبدالله وقتادة وقال الحسن ولا تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد يحتج به فريقان من الناس أحدهما نفاة القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث مثل النظام وأمثاله من الرافضة والآخر من يقول بالقياس والاجتهاد يقول مع ذلك أن الحق واحد من أقاويل المختلفين في مسائل الاجتهاد ويخطئ من لم يصب الحق عنده لقوله تعالى ولا تفرقوا فغير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه وليس هذا عندنا كما قالوا لأن أحكام الشرع في الأصل على أنحاء منها مالا يجوز الخلاف فيه وهو الذي دلت العقول على حظره في كل حال أو على إيجابه في كل حال فأما ما جاز أن يكون تارة واجبا وتارة محظورا وتارة مباحا فإن الاختلاف في ذلك سائغ يجوز ورود العبادة به كاختلاف حكم الطاهر والحائض في الصوم والصلاة واختلاف حكم المقيم والمسافر في القصر والإتمام وما جرى مجرى ذلك فمن حيث جاز ورود النص باختلاف أحكام الناس فيه فيكون بعضهم متعبدا بخلاف ما تعبد به الآخر لم يمتنع تسويغ الاجتهاد فيما يؤدي إلى الخلاف الذي يجوز ورود النص بمثله ولو كان جميع الاختلاف مذموما لوجب أن لا يجوز ورود الاختلاف في أحكام الشرع من طريق النص والتوقيف فما جاز مثله في النص جاز في الاجتهاد قد يختلف المجتهدان في نفقات الزوجات وقيم المختلفات وأروش كثير من الجنايات فلا يلحق واحدا منهما لوم ولا تعنيف وهذا حكم مسائل الاجتهاد ولو كان هذا الضرب من الاختلاف مذموما لكان للصحابة في ذلك الحظ الأوفر ولما وجدناهم مختلفين في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متواصلون يسوغ كل واحد منهم لصاحبه مخالفته من غير لوم ولا تعنيف فقد حصل منهم الإتفاق على تسويغ هذا الضرب من الاختلاف وقد حكم الله تعالى بصحة إجماعهم وثبوت حجته في مواضع كثيرة من كتابه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال اختلاف أمتي رحمة وقال لا تجتمع أمتي على ضلال فثبت بذلك أن الله تعالى لم ينهنا بقوله ولا تفرقوا عن هذا الضرب من الاختلاف وأن النهي منصرف إلى أحد وجهين إما في النصوص أو فيما قد أقيم عليه دليل عقلي أو سمعي لا يحتمل إلا معنى واحدا وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد هو الاختلاف والتفرق في أصول الدين لا في فروعه وما يجوز ورود العبارة بالاختلاف فيه وهو قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ

كنتم أعداء فألف بين قلوبكم يعني بالإسلام وفي ذلك دليل على أن التفرق المذموم المنهي عنه في الآية هو في أصول الدين والإسلام لا في فروعه والله أعلم
باب

فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قال أبو بكر قد حوت هذه الآية معنيين أحدهما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآخر أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره لقوله تعالى ولتكن منكم أمة وحقيقته تقتضي البعض دون البعض فدل على أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ومن الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه ويجعل مخرج الكلام مخرج الخصوص في قوله ولتكن منكم أمة مجازا كقوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم ومعناه ذنوبكم والذي يدل على صحة هذا القول أنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين كالجهاد وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم ولولا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به وقد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع أخر من كتابه فقال عز و جل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال فيما حكى عن لقمان يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وقال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما علىالأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله وقال عز و جل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي على منازل أولها تغييره باليد إذا أمكن فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفا على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه فإن تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه كما حدثنا عبدالله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا شعبة قال أخبرني قيس بن مسلم قال سمعت طارق بن شهاب قال قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال خالفت السنة كانت الخطبة بعدالصلاة قال ترك ذلك يا أبو فلان قال شعبة وكان لحانا فقام أبو

سعيد الخدري فقال من هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فلينكره بلسانه فإن لم يستطع فلينكره بقلبه وذاك أضعف الإيمان وحدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بديه فعليه تغييره بلسانه ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه وحدثنا عبدالله بن جعفر قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود قال حدثنا شعبة عن أبي إصحاق عن عبدالله بن جرير البجلي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما من قوم يعمل بينهم بالمعاصي هم أكثر وأعز ممن يعمله ثم لم يغيروا إلا عمهم الله منه بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ثم قال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا وتقصرنه على الحق قصرا قال أبو داود حدثنا خلف بن هشام قال حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - بنحوه وزاد فيه أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

أن من شرط النهي عن المنكر أن ينكره ثم لا يجالس المقيم على المعصية ولا
يؤاكله ولا يشاربه وكان ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - من ذلك بيانا لقوله تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا فكانوا بمؤاكلتهم إياهم ومجالستهم لهم تاركين للنهي عن المنكر لقوله تعالى كانوا

لا يتناهون عن منكر فعلوه مع ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

من إنكاره بلسانه إلا أن ذلك لم ينفعه مع مجالسته ومؤاكلته ومشاربته إياه
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا وهب بن بقية قال أخبرنا خالد عن إسماعيل عن قيس قال قال أبو بكر بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرؤن هذه الآية وتضعونها في غير موضعها عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وأنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم - يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثني أبو أمية الشعباني قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك يعني بنفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وفي هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله وإزالته باليد تكون على وجوه منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك كمن رأى رجلا قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله لقوله ص - من رأى منكرا فليغيره بيده فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله وقد ذكر ابن رستم عن محمد في رجل غصب متاع رجل وسعك قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه وكذلك قال أبو حنيفة

في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبه حتى تقتله إن لم يرد المتاع قال محمد وقال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله وقال في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفيء إلى أمر الله تعالى وترك ما هم عليه من البغي والمنكر وقول النبي صلى الله عليه وسلم - من رأى منكم منكرا فليغيره بيده يوجب ذلك أيضا لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة وواجب على المسلمين قتلهم ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له ولا التقدم إليهم بالقول لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر فجائز قتل من كان منهم مقيما على ذلك وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يقتل إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم وكذلك حكم سائر من كان مقيما على شيء من المعاصي الموبقات مصرا عليها مجاهرا بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن وتغيير ما هم عليه بيده وإن لم يستطع فلينكره بلسانه وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه فإن لم يرج ذلك وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم يعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وقوله ص - فإن لم يستطع قد فهم منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن لأن قوله إن لم يستطع معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال وقد روي عن ابن مسعود في قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم مر بالمعروف وانه عن المنكر ما قبل منك فإذا لم يقبل منك فعليك نفسك وحديث أبي ثعلبة الخشني أيضا الذي قدمناه يدل على ذلك لأنه قال ص - ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام يعني والله أعلم إذا لم يقبلوا ذلك

واتبعوا أهواءهم وآراءهم فأنت في سعة من تركهم وعليك نفسك ودع أمر العوام وأباح ترك النكير بالقول فيمن هذه حاله وروي عن عكرمة أن ابن عباس قال له قد أعياني أن أعلم ما فعل بمن أمسك عن الوعظ من أصحاب السبت فقلت له أنا أعرفك ذلك إقرأ الآية الثانية قوله تعالى أنجينا الذين ينهون عن السوء قال فقال لي أصبت وكساني حلة فاستدل ابن عباس بذلك على أن الله أهلك من عمل السوء ومن لم ينه عنه فجعل الممسكين عن إنكار المنكر بمنزلة فاعليه في العذاب وهذا عندنا على أنهم كانوا راضين بأعمالهم غير منكرين لها بقلوبهم وقد نسب الله تعالى قتل الأنبياء المتقدمين إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم - من اليهود الذين كانوا متوالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم بقوله قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم وبقوله فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين فأضاف القتل إليهم وإن لم يباشروه ولم يقتلوه إذ كانوا راضين بأفعال القاتلين فكذلك ألحق الله تعالى من لم ينه عن السوء من أصحاب السبت بفاعليه إذ كانوا به راضين ولهم عليه متوالين فإذا كان منكرا للمنكر بقلبه ولا يستطيع تغييره على غيره فهو غير داخل في وعيد فاعليه بل هو ممن قال الله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وحدثنا مكرم بن أحمد القاضي قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي وقال حدثنا الحماني قال سمعت ابن المبارك يقول لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ بكى حتى ظننا أنه سيموت فخلوت به فقال كان والله رجلا عاقلا ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر قلت وكيف كان سببه قال كان يقدم ويسألني وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله وكان شديد الورع وكنت ربما قدمت إليه الشيء فيسألني عنه ولا يرضاه ولا يذوقه وربما رضيه فأكله فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى فقال لي مد يدك حتى أبايعك فاظلمت الدنيا بيني وبينه فقلت ولم قال دعاني إلى حق من حقوق الله فامتنعت عليه وقلت له إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر ولكن إن وجد عليه أعوانا صالحين ورجلا يرأس عليهم مأمونا على دين الله لا يحول قال وكان يقتضي ذلك كلما قدم على تقاضي الغريم الملح كلما قدم علي تقاضاني فأقول له هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده وهذا متى أمر به الرجل وحده

أشاط بدمه وعرض نفسه للقتل فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه ولكنه ينتظر فقد قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء أهل خراسان وعبادهم حتى أطلقوه ثم عاوده فزجره ثم عاوده ثم قال ما أجد شيئا أقوم به لله تعالى أفضل من جهادك ولأجاهدنك بلساني ليس لي قوة بيدي ولكن يراني الله وأنا أبغضك فيه فقتله قال أبو بكر لما ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن والآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبينا أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيره ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه وقد روى طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال اجتمع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله أرأيت إن عملنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلا عملناه وانتهينا عن المنكر حتى لم يبق شيئا من المنكر إلا انتهينا عنه أيسعنا أن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر قال مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهو عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم - فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التقصير في بعض الواجبات ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس

عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس واعداء الإسلام حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذهب الثنوية والخرمية والمزدكية والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر والله المستعان وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عباد الواسطي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا إسرائيل قال حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر وحدثنا محمد بن عمر قال أخبرني أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب المروزي قال سمعت أبا عمارة قال سمعت الحسن بن رشيد يقول سمعت أبا حنيفة يقول أنا حدثت إبراهيم الصائغ عن عكرمة عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم - سيد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله قوله تعالى وما الله يريد ظلما للعباد قد اقتضى ذلك نفي إرادة الظلم من كل وجه فلا يريد هو أن يظلمهم ولا يريد أيضا ظلم بعضهم لبعض لأنهما سواء في منزلة القبح ولو جاز أن ييد ظلم بعضهم لجاز أن يريد ظلمه لهم ألا ترى أنه لا فرق في العقول بين من أراد ظلم نفسه لغيره وبين من أراد ظلم إنسان لغيره وأنهما سواء في القبح فكذلك ينبغي أن تكون إرادته للظلم منتفية منه ومن غيره قوله عز و جل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر قيل في معنى قوله كنتم وجوه روي عن الحسن أنه يعني فيما تقدمت البشارة والخبر به من ذكر الأمم في الكتب المتقدمة قال الحسن نحن آخرها وأكرمها على الله وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس قال أنتم تتمنون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى فكان معناه كنتم خير أمة أخبر الله بها أنبياءه فيما أنزل إليهم من كتبه وقيل إن دخول كان وخروجها بمنزلة إلا بمقدار دخولها لتأكيد وقوع الأمر لا محالة إذ هو بمنزلة ما قد كان في الحقيقة كما قال تعالى وكان الله غفورا رحيما وكان الله عليما حكيما والمعنى الحقيقي وقوع ذلك وقيل كنتم خير أمة بمعنى حدثتم خير أمة فيكون خير أمة بمعنى

الحال وقيل كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ وقيل كنتم منذ أنتم ليدل أنهم كذلك من أول أمرهم وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه أحدها كنتم خير أمة ولا يستحقون من الله صفة مدح إلا وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين والثاني إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أمروا به فهو أمر الله تعالى لأن المعروف هو أمر الله والثالث أنهم ينكرون المنكر والمنكر هو ما نهى الله عنه ولا يستحقون هذه الصفة إلا وهم لله رضى فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى قوله تعالى لن يضروكم إلا أذى الآية فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر عن اليهود الذين كانوا أعداء المؤمنين وهم حوالي المدينة بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع ويهود خيبر فأخبر الله تعالى أنهم لا يضرونهم إلا أذى من جهة القول وأنهم متى قاتلوهم ولوا الأدبار فكان كما أخبر وذلك من علم الغيب قوله تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وهو يعني به اليهود المتقدم ذكرهم فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأن هؤلاء اليهود صاروا كذلك من الذلة والمسكنة إلا أن يجعل المسلمون لهم عهد الله وذمته لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان قوله تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون قال ابن عباس وقتادة وابن جريج لما أسلم عبدالله بن سلام وجماعة معه قالت اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا فأنزل الله تعالى هذه الآية قال الحسن قوله قائمة يعني عادلة وقال ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس ثابتة على أمر الله تعالى وقال السدي قائمة بطاعة الله تعالى وقوله وهم يسجدون قيل فيه أنه السجود المعروف في الصلاة وقال بعضهم معناه يصلون لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع فجعلوا الواو حالا وهو قول الفراء وقال الأولون الواو ههنا للعطف كأنه قال يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون قوله تعالى يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر صفة لهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لأنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم -

والإنكار على من خالفه فكانوا ممن قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت
للناس في الآية المتقدمة وقد بينا ما دل عليه القرآن من وجوب

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن قيل فهل تجب إزالة المنكر من طريق اعتقاد المذاهب الفاسدة على وجه التأويل كما وجب في سائر المناكير من الأفعال قيل له هذا على وجهين فمن كان منهم داعيا إلى مقالته فيضل الناس بشبهته فإنه تجب إزالته عن ذلك بما أمكن ومن كان منهم معتقدا ذلك في نفسه غير داع إليها فإنما يدعى إلى الحق بإقامة الدلالة على صحة قول الحق وتبين فساد شبهته مالم يخرج على أهل الحق بسفيه ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام فإن خرج داعيا إلى مقالته مقاتلا عليها فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفيء إلى أمر الله تعالى وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان قائما على المنبر بالكوفة يخطب فقالت الخوارج من ناحية المسجد لا حكم إلا لله فقطع خطبته وقال كلمة حق يراد بها باطل أما أن لهم عندنا ثلاثا أن لا نمنعهم حقهم من الفيء ما كانت أيديهم مع أيدينا ولا بمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه ولا نقاتلهم حتى يقاتلونا فأخبر أنه لا يجب قتالهم حتى يقاتلونا وكان ابتدأهم علي كرم الله وجهه بالدعاء حين نزلوا حروراء وحاجهم حتى رجع بعضهم وذلك اصل في سائر المتأول من أهل المذاهب الفاسدة أنهم مالم يخرجوا داعين إلى مذاهبهم لم يقاتلوا وأقروا على ما هم عليه مالم يكن ذلك المذهب كفرا فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجزية وليس يجوز إقرار من كفر بالتأويل على الجزية لأنه بمنزلة المرتد لإعطائه بديا جملة التوحيد والإيمان بالرسول فمتى نقض ذلك بالتفصيل صار مرتدا ومن الناس من يجعلهم بمنزلة أهل الكتاب كذلك كان يقول أبو الحسن فتجوز عنده مناكحتهم ولا يجوز للمسلمين أن يزوجوهم وتؤكل ذبائحهم لأنهم منتحلون بحكم القرآن وإن لم يكونوا مستمسكين به كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية فحكمه حكمهم وإن لم يكن مستمسكا بسائر شرائعهم وقال تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقال محمد في الزيادات لو أن رجلا دخل في بعض الأهواء التي يكفر أهلها كان في وصاياه بمنزلة المسلمين يجوز منها ما يجوز من وصايا المسلمين ويبطل منها ما يبطل من وصاياهم وهذا يدل على موافقة المذهب الذي يذهب إليه أبو الحسن في بعض الوجوه ومن الناس من يجعلهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - فأقروا على نفاقهم مع علم الله تعالى بكفرهم ونفاقهم ومن الناس من يجعلهم كأهل الذمة ومن أبى ذلك ففرق بينهما بأن المنافقين لو وقفنا على نفاقهم لم نقرهم عليه ولم نقبل

منهم إلا الإسلام أو السيف وأهل الذمة إنما أقروا بالجزية وغير جائز أخذ الجزية من الكفار المتأولين المنتحلين للإسلام ولا يجوز أن يقروا بغير جزية فحكمهم في ذلك متى وقفنا على مذهب واحد منهم اعتقاد الكفر لم يجز إقراره عليه وأجري عليه أحكام المرتدين ولا يقتصر في إجرائه حكم الكفار على إطلاق لفظ عسى أن يكون غلطه فيه دون الاعتقاد دون أن يبين عن ضميره فيعرب لنا عن اعتقاده بما يوجب تكفيره فحينئذ يجوز عليه أحكام المرتدين من الاستتابة فإن تاب وإلا قتل والله أعلم
باب

الاستعانة بأهل الذمة
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية قال أبو بكر بطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره ويثق بهم في أمره فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتخذوا أهل الكفر بطانة من دون المؤمنين وأن يستعينوا بهم في خوص أمورهم وأخبر عن ضمائر هؤلاء الكفار للمؤمنين فقال لا يألونكم خبالا يعني لا يقصرون فيما يجدون السبيل إليه من إفساد أموركم لأن الخبال هو الفساد ثم قال ودوا ما عنتم قال السدي ودوا ضلالكم عن دينكم وقال ابن جريج ودوا أن تعنتوا في دينكم فتحملوا على المشقة فيه لأن أصل العنت المشقة فكأنه أخبرعن محبتهم لما يشق عليكم وقال الله تعالى ولو شاء الله لأعنتكم وفي هذه الآية دلالة على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة وقد روي عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة فكتب إليه يعنفه وتلا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم أي لا تردوهم إلى العز بعد أن أذلهم الله تعالى وروى أبو حيان التيمي عن فرقد بن صالح عن أبي دهقانة قال قلت لعمر بن الخطاب أن ههنا رجلا من أهل الحيرة لم نر رجلا أحفظ منه ولا أخط منه بقلم فإن رأيت أن نتخذه كاتبا قال قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين وروى هلال الطائي عن وسق الرومي قال كنت مملوكا لعمر فكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم من ليس منهم فأبيت فقال لا إكراه في الدين فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال اذهب حيث شئت وقوله تعالى لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة قيل في معنى أضعافا مضاعفة وجهان أحدهما المضاعفة بالتأجيل أجلا بعد أجل ولكل

أجل قسط من الزيادة على المال والثاني ما يضاعفون به أموالهم وفي هذا دلالة على أن المخصوص بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذكر تحريم الربا أضعافا مضاعفة دلالة على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة فلما كان الربا محظورا بهذه الصفة وبعدمها دل ذلك على فساد قولهم في ذلك ويلزمهم في ذلك أن تكون هذه الدلالة منسوخة بقوله تعالى وحرم الربا إذا لم يبق لها حكم في الاستعمال وقوله تعالى وجنة عرضها السماء والأرض قيل كعرض السموات والأرض وقال في آية أخرى وجنة عرضها كعرض السماء والأرض وكما قال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أي إلا كبعث نفس واحدة ويقال إنما خص العرض بالذكر دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم ولو ذكر الطول لم يقم مقامه في الدلالة على العظم وهذا يحتج به في قول النبي صلى الله عليه وسلم - ذكاة الجنين ذكاة أمه معناه كذكاة أمه وقوله تعالى والذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس قال ابن عباس في السراء والضراء في العسر واليسر يعني في قلته وكثرته وقيل في حال السرور والغم لا يقطعه شيء من ذلك عن إنفاقه في وجوه البر فمدح المنفقين في هاتين الحالتين ثم عطف عليه الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فمدح من كظم غيظه وعفا عمن اجترم إليه وقال عمر بن الخطاب من خاف الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون وكظم الغيظ والعفو مندوب إليهما موعود بالثواب عليهما من الله تعالى قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا فيه حض على الجهاد من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله تعالى وفي التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه بإذن الله تعالى لأنه قد تقدم ذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم - في قوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية وقوله تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها قيل فيه من عمل للدنيا وفر حظه المقسوم له فيها من غير أن يكون له حظ في الآخرة روي ذلك عن ابن إسحاق وقيل إن معناه من أراد بجهاده ثواب الدنيا لم يحرم حظه من الغنيمة وقيل من تقرب إلى الله بعمل النوافل وليس هو ممن يستحق الجنة بكفره أو بما يحبط عمله جوزي بها في الدنيا من غير أن يكون له حظ في الآخرة وهو نظير قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم

يصلاها مذموما مدحورا قوله تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير قال ابن عباس والحسن علماء وفقهاء وقال مجاهد وقتادة جموع كثيرة وقوله تعالى فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا فإنه قيل في الوهن بأنه انكسار الجسد ونحوه والضعف نقصان القوة وقيل في الإستكانة أنها إظهار الضعف وقيل فيه أنه الخضوع فبين تعالى أنهم لم يهنوا بالخوف ولا ضعفوا لنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع وقال ابن إسحاق فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم وفي هذه الآية الترغيب في الجهاد في سبيل الله والحض على سلوك طريق العلماء من صحابة الأنبياء والأمر بالاقتداء بهم في الصبر على الجهاد وقوله تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا الآية فيه حكاية دعاء الربيين من أتباع الأنبياء المتقدمين وتعليم لنا لأن نقول مثل قولهم عند حضور القتال فنيبغي للمسلمين أن يدعوا بمثله عند معاينة العدو لأن الله تعالى حكى ذلك عنهم على وجه المدح لهم والرضا بقولهم لنفعل مثل فعلهم ونستحق من المدح كاستحقاقهم قوله تعالى فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة قال قتادة والربيع بن أنس وابن جريج ثواب الدنيا الذي أوتوه هو النصر على عدوهم حتى قهروهم وظفروا بهم وثواب الآخرة الجنة وهذا دليل على أنه يجوز اجتماع الدنيا والآخرة لواحد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال من عمل لدنياه أضر بآخرته ومن عمل لآخرته أضر بدنياه وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا فيه دليل على بطلان التقليد لأن الله تعالى حكم ببطلان قولهم إذ لم يكن معهم برهان عليه والسلطان ههنا هو البرهان ويقال إن أصل السلطان القوة فسلطان الملك قوته والسلطان الحجة لقوتها على قمع الباطل وقهر المبطل به والتسليط على الشيء التقوية عليه مع الإغراء به وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -

لما أخبر به من إلقاء الرعب في قلوب المشركين فكان كما أخبر به وقال
النبي صلى الله عليه وسلم - نصرت بالرعب حتى أن العدو ليرعب مني وهو على مسيرة شهر قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه فيه إخبار بتقدم وعد الله تعالى لهم بالنصر على عدوهم ما لم يتنازعوا ويختلفوا فكان كما أخبر به يوم أحد ظهروا على عدوهم وهزموهم وقتلوا منهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -
أمر الرماة بالمقام في موضع

وأن لا يرجوا فعصوا وخلوا مواضعهم حين رأوا هزيمة المشركين وظنوا أنه لم يبق لهم باقية واختلفوا وتنازعوا فحمل عليهم خالد بن الوليد من ورائهم فقتلوا من المسلمين من قتلوا بتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وعصيانهم وفي ذلك دليل على صحة نبوة النبي ص
- لأنهم وجدوا موعود الله كما وعد قبل العصيان فلما عصوا وكلوا إلى أنفسهم وفيه دليل على أن النصر من الله في جهاد العدو مضمون باتباع أمره والاجتهاد في طاعته وعلى هذا جرت عادة الله تعالى للمسلمين في نصرهم على أعدائهم وقد كان المسلمون من الصدر الأول إنما يقاتلون المشركين بالدين ويرجون النصر عليهم وغلبتهم به لا بكثرة العدد ولذلك قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فأخبر أن هزيمتهم إنما كانت لتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الإخلال بمراكزهم التي رتبوا فيها وقال تعالى منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة وإنما أتوا من قبل من كان يريد الدنيا منهم قال عبدالله بن مسعود ما ظننت أن أحدا ممن قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى أنزل الله تعالى منكم من يريد الدنيا وعلى هذا المعنى كان الله قد فرض على العشرين أن لا يفروا من مائتين بقوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين لأنه في ابتداء الإسلام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم - مخلصين لنية الجهاد لله تعالى ولم يكن فيهم من يريد الدنيا وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا رجالة قليلي العدة والسلاح وعدوهم ألف فرسان ورجالة بالسلاح الشاك فمنحهم الله أكتافهم ونصرهم عليهم حتى قتلوا كيف شاؤا وأسروا كيف شاؤا ثم لما خالطهم بعد ذلك من لم يكن له مثل بصائرهم وخلوص ضمائرهم خفف الله تعالى عن الجميع فقال الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله ومعلوم أنه لم يرد ضعف قوى الأبدان ولا عدم السلاح لأن قوى أبدانهم كانت باقية وعددهم أكثر وسلاحهم أوفر وإنما أراد به أنه خالطهم من ليس له قوة البصيرة مثل ما للأولين فالمراد بالضعف ههنا ضعف النية وأجرى الجميع مجرى واحدا في التخفيف إذا لم يكن من المصلحة تمييز ذوي البصائر منهم بأعيانهم وأسمائهم من أهل ضعف اليقين وقلة البصيرة ولذلك قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - في يوم اليمامة حين انهزم الناس أخلصونا أخلصونا يعنون المهاجرين والأنصار قوله

تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم قال طلحة وعبدالرحمن بن عوف والزبير بن العوام وقتادة والربيع بن أنس كان ذلك يوم أحد بعد هزيمة من انهزم من المسلمين وتوعدهم المشركون بالرجوع فكان من ثبت من المسلمين تحت الحجف متأهبين للقتال فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أرعبهم الخوف لسوء الظن قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

فنمنا حتى اصطفقت الحجف من النعاس ولم يصب المنافقين ذلك بل أهمتهن
أنفسهم فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سمعت وأنا بين النائم واليقظان معتب بن قشير وناسا من المنافقين يقولون هل لنا من الأمر من شيء وهذا من لطف الله تعالى للمؤمنين وإظهار أعلام النبوة في مثل تلك الحال التي العدو فيها مطل عليهم وقد انهزم عنهم كثير من أعوانهم وقد قتلوا من قتلوا من المسلمين فينامون وهم مواجهون العدو في الوقت الذي يطير فيه النعاس عمن شاهده ممن لا يقاتل فكيف بمن حضر القتال والعدو قد أشرعوا فيهم الأسنة وشهروا سيوفهم لقتلهم واستيصالهم وفي ذلك أعظم الدلائل وأكبر الحجج في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - من وجوه أحدها وقوع الأمنة مع استعلاء العدو من غير مدد أتاهم ولا نكاية في العدو ولا انصرافهم عنهم ولا قلة عددهم فينزل الله تعالى على قلوبهم الأمنة وذلك في أهل الإيمان واليقين خاصة والثاني وقوع النعاس عليهم في مثل تلك الحال التي يطير في مثلها النعاس عمن شاهدها بعد الإنصراف والرجوع فكيف في حال المشاهدة وقصد العدو نحوهم لاستيصالهم وقتلهم والثالث تمييز المؤمنين من المنافقين حتى خص المؤمنين بتلك الأمنة والنعاس دون المنافقين فكان المؤمنون في غاية الأمن والطمأنينة والمنافقون في غاية الهلع والخوف والقلق والاضطراب فسبحان الله العزيز العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم قيل إن ما ههنا صلة معناه فبرحمة من الله روي ذلك عن قتادة كما قال عما قليل ليصبحن نادمين وقوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم واتفق أهل اللغة على ذلك وقالوا معناها التأكيد وحسن النظم كما قال الأعشى ... أذهبي ما إليك أدركني الحلم ... عداني عن هيجكم أشفاقي

وفي ذلك دليل على بطلان قول من نفى أن يكون في القرآن مجاز لأن ذكر ما ههنا مجاز وإسقاطها لا يغير المعنى قوله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى كما قال تعالى أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله تعالى لموسى وهارون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قوله تعالى وشاورهم في الأمر اختلف الناس في معنى أمر الله تعالى إياه بالمشاورة مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من الصحابة فقال قتادة والربيع بن أنس ومحمد بن إسحاق إنما أمره بها تطييبا لنفوسهم ورفعا من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأيه قال سفيان بن عيينة أمره بالمشاورة لتقتدي به أمته فيها ولا تراها منقصة كما مدحهم الله تعالى بأن أمرهم شورى بينهم وقال الحسن والضحاك جمع لهم بذلك الأمرين جميعا في المشاورة ليكون لإجلال الصحابة ولتقتدي الأمة به في المشاورة وقال بعض أهل العلم إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينص له فيه على شيء بعينه فمن القائلين بذلك من يقول إنما هو في أمور الدنيا خاصة وهم الذين يأبون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -

يقول شيئا من أمور الدين من طريق الاجتهاد وإنما هو في أمور الدنيا خاصة
فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - يستعين بآرائهم في ذلك ويتنبه بها على أشياء من وجوه التدبير ما جائز أن يفعلها لولا المشاورة واستشارة آراء الصحابة وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم - بالنزول على الماء فقبل وأشار منه عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة فينصرفوا فقبل منهم وخرق الصحيفة في أشياء من نحو هذا من أمور الدنيا وقال آخرون كان مأمورا بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى وفي أمور الدنيا أيضا مما طريقه الرأي وغالب الظن وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان ذلك من أمور الدين وكان ص - إذا شاورهم فأظهروا آراءهم ارتأى معهم وعمل بما أداه إليه اجتهاده وكان في ذلك ضروب من الفوائد أحدها إعلام الناس أن ما لا نص فيه من الحوادث فسبيل استدراك حكمه الاجتهاد وغالب الظن والثاني إشعارهم بمنزلة الصحابة رضي الله عنهم وأنهم أهل الاجتهاد وجائز اتباع آرائهم إذ رفعهم الله إلى المنزلة التي يشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم -
ويرضى اجتهادهم ويحريهم لموافقة النصوص من

أحكام الله تعالى والثالث أن باطن ضمائرهم مرضي عند ا لله تعالى لولا ذلك لم يأمره بمشاورتهم فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده ص - في مثله وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدي الأمة به في مثله لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شاوروا فيه وصواب الرأي فيما سئلوا عنه ثم لم يكن ذلك معمولا عليه ولا متلقى منه بالقبول بوجه لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم ولا رفع لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها فهذا تأويل ساقط لا معنى له فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدي به الأمة مع علم الأمة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئا ولم يعمل بشيء أشاروا به فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضا أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأيا صحيحا ولا قولا معمولا لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأيا صحيحا وقولا معمولا عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم - إياهم وإذ قد بطل هذا فلا بد من أن تكون لمشاورته إياهم فائدة تستفاد بها وأن يكون للنبي ص -

معهم ضرب من الارتشاء والاجتهاد فجائز حينئذ أن توافق آراؤهم رأي النبي ص
- وجائز أن يوافق رأي بعضهم رأيه وجائز أن يخالف رأي جميعهم فيعمل ص - حينئذ برأيه ويكون فيه دلالة على أنهم لم يكونوا معنقين في اجتهادهم بل كانوا مأجورين فيه لفعلهم ما أمروا به ويكون عليهم حينئذ ترك آرائهم واتباع رأي النبي صلى الله عليه وسلم - ولا بد من أن تكون مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم - إياهم فيما لا نص فيه إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره ص - بالمشاورة وجب أن يكون ذلك فيهما جميعا ولأنه معلوم أن مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم -
في أمر الدنيا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومكايدة العدو وإن لم يكن
للنبي ص - تدبيره في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره لاقتصاره ص -
من الدنيا على القوت والكفاف الذي لا فضل فيه وإذا كانت مشاورته لهم في
محاربة العدو ومكايدة الحروب فإن ذلك من أمر الدين ولا

فرق بين اجتهاد الرأي فيه وبينه في أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها وفي ذلك دليل على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وعلى أن كل مجتهد مصيب وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يجتهد رأيه فيما لا نص فيه ويدل على أنه قد كان يجتهد رأيه معهم ويعمل بما يغلب في رأيه فيما لا نص فيه قوله تعالى في نسق ذكر المشاورة فإذا عزمت فتوكل على ا لله ولو كان فيما شاور فيه شيء منصوص قد ورد التوقيف به من الله لكانت العزيمة فيه متقدمة للمشاورة إذ كان ورود النص موجبا لصحة العزيمة قبل المشاورة وفي ذكر العزيمة عقيب المشاورة دلالة على أنها صدرت عن المشورة وأنه لم يكن فيها نص قبلها قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل قرئ يغل برفع الياء ومعناه يخان وخص النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك وإن كانت خيانة سائر الناس محظورة تعظيما لأمر خيانته على خيانة غيره كما قال تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور وإن كان الرجس كله محظورا ونحن مأمورون باجتنابه وروي هذا التأويل عن الحسن وقال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى يغل برفع الياء أن معناه يخون فنسبا إلى الخيانة وقال نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل النبي صلى الله عليه وسلم - أخذها فأنزل الله هذه الآية ومن قرأ يغل بنصب الياء معناه يخون والغلول الخيانة في الجملة إلا أنه قد صار الإطلاق فيها يفيد الخيانة في المغنم وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم - أمر الغلول حتى أجراه مجرى الكبائر وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن رسول الله ص
- كان يقول من فارق الروح جسده وهو بريء من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين وروى عبدالله بن عمر أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقال له كركرة فمات فقال النبي ص
- هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء أو عباءة قد غلها وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة والأخبار في أمر
تغليظ الغلول كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روي في إباحة أكل الطعام وأخذ علف الدواب عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين أخبار مستفيضة قال عبدالله بن أبي أوفى أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل منا يأتي فيأخذ منه ما يكفيه ثم ينصرف وعن سلمان أنه أصاب يوم المداين أرغفة حواري وجبنا وسكينا فجعل يقطع من الجبنة ويقول كلوا بسم الله وقد روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يحل لأحد يؤمن

بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه وهذا محمول على الحال التي يكون فيها مستغنيا عنه فأما إذا احتاج إليه فلا بأس به عند الفقهاء وقد روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به قوله تعالى وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قال السدي وابن جريج في قوله أو ادفعوا إن معناه بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا وقال أبو عون الأنصاري معناه ورابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا قال أبو بكر وفي هذا دلالة على أن فرض الحضور لازم لمن كان في حضوره نفع في تكثير السواد والدفع وفي القيام على الخيل إذا احتيج إليهم وقوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم قيل فيه وجهان أحدهما تأكيد لكون القول منهم إذ قد يضاف الفعل إلى غير فاعله إذا كان راضيا به على وجه المجاز كما قال تعالى وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها وإنما قتل غيرهم ورضوا به وقوله تعالى فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ونحو ذلك والثاني أنه فرق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب وقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون زعم قوم أن المراد أنهم يكونون أحياء في الجنة قالوا لأنه لو جاز أن ترد عليهم أرواحهم بعد الموت لجاز القول بالرجعة ومذهب أهل التناسخ قال أبو بكر وقال الجمهور إن الله تعالى يحييهم بعد الموت فينيلهم من النعيم بقدر استحقاقهم إلى أن يفنيهم الله تعالى عند فناء الخلق ثم يعيدهم في الآخرة ويدخلهم الجنة لأنه أخبر أنهم أحياء وذلك يقتضي أنهم أحياء في هذا الوقت ولأن تأويل من تأوله على أنهم أحياء في الجنة يؤدي إلى إبطال فائدته لأن أحدا من المسلمين لا يشك أنهم سيكونون أحياء مع سائر أهل الجنة إذ الجنة لا يكون فيها ميت ويدل عليه أيضا وصفه تعالى لهم بأنهم فرحون على الحال بقوله تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله ويدل عليه قوله تعالى ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وهم في الآخرة قد لحقوا بهم وروى ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طيور خضر تحت
العرش ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل

معلقة تحت العرش وهو مذهب الحسن وعمرو بن عبيد وأبي حذيفة وواصل بن عطاء وليس ذلك من مذهب أصحاب التناسخ في شيء لأن المنكر في ذلك رجوعهم إلى دار الدنيا في خلق مختلفة وقد أخبر الله تعالى عن قوم أنه أماتهم ثم أحياهم في قوله ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وأخبر أن إحياء الموتى معجزة لعيسى عليه السلام فكذلك يحييهم بعد الموت ويجعلهم حيث يشاء وقوله تعالى عند ربهم يرزقون معناه حيث لا يقدر لهم أحد على ضر ولا نفع إلا ربهم عز و جل وليس يعني به قرب المسافة لأن الله تعالى لا يجوز عليه القرب والبعد بالمسافة إذ هو من صفة الأجسام وقيل عند ربهم من حيث يعلمهم هو دون الناس
قوله تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية روي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق إن الذين قالوا كانوا ركبا وبينهم أبو سفيان ليحبسوهم عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم وقال السدي هو أعرابي ضمن له جعلا على ذلك فأطلق الله تعالى اسم الناس على ا لواحد على قول من تأوله على أنه كان رجلا واحدا فهذا على أنه أطلق لفظ العموم وأراد به الخصوص قال أبو بكر لما كان الناس اسما للجنس وكان من المعلوم أن الناس كلهم لم يقولوا ذلك تناول ذلك أقلهم وهو الواحد منهم لأنه لفظ الجنس وعلى هذا قال أصحابنا فيمن قال إن كلمت الناس فعبدي حر أنه على كلام الواحد منهم لأنه لفظ الجنس ومعلوم أنه لم يرد به استغراق لجنس فيتناول الواحد منهم وقوله تعالى فاخشوهم فزادهم إيمانا فيه إخبار بزيادة يقينهم عند زيادة الخوف والمحنة إذ لم يبقوا على الحال الأولى بل ازدادوا عند ذلك يقينا وبصيرة في دينهم وهو كما قال تعالى في الأحزاب ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما فازدادوا عند معاينة العدو إيمانا وتسليما لأمر الله تعالى والصبر على جهادهم وفي ذلك أتم ثناء على الصحابة رضي الله عنهم وأكمل فضيلة وفيه تعليم لنا أن نقتدي بهم ونرجع إلى أمر الله والصبر عليه والاتكال عليه وأن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل وأنا متى فعلنا ذلك أعقبنا ذلك من الله النصر والتأييد وصرف كيد العدو وشرهم مع حيازة رضوان الله وثوابه بقوله تعالى فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله وقوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون

بما آتاهم الله من فضله إلى قوله سيطوقون ما بخلو به قال السدي بخلوا أن ينفقوا في سبيل الله وأن يؤدوا الزكاة وقال ابن عباس هو في أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس وهو بالزكاة أولى كقوله والذين يكنزون الذهب والفضة إلى قوله يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وقوله تعالى سيطوقون ما بخلوا به يدل على ذلك أيضا وروى سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمى بها جبينه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده وقال مسروق يجعل الحق الذي منعه حية فيطوقها فيقول مالي ومالك فتقول الحية أنا مالك وقال عبدالله يطوق ثعبانا في عنقه له أسنان فيقول أنا ملك الذي بخلت به
قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس قد تقدم نظيرها في سورة البقرة وقد روي في ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن المراد به اليهود وقال غيرهم المراد به اليهود والنصارى وقال الحسن وقتادة المراد به كل من أوتي علما فكتمه قال أبو هريرة لولا آية من كتاب الله تعالى ما حدثتكم به ثم تلا قوله وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب فيعود الضمير في قوله لتبيننه في قول الأولين على النبي صلى الله عليه وسلم -

لأنهم كتموا صفته وأمره وفي قول الآخرين على الكتاب فيدخل فيه بيان أمر
النبي صلى الله عليه وسلم - وسائر ما في كتب الله عزوجل
قوله تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الآيات التي فيها من جهات أحدها تعاقب الأعراض المتضادة عليها مع استحالة وجودها عارية منها والأعراض محدثة وما لم يسبق المحدث فهو محدث وقد دلت أيضا على أن خالق الأجسام لا يشبهها لأن الفاعل لا يشبه فعله وفيها الدلالة على أن خالقها قادر لا يعجزه شيء إذ كان خالقها وخالق الأعراض المضمنة بها وهو قادر على أضدادها إذ ليس بقادر يستحيل منه الفعل ويدل على أن فاعلها قديم لم يزل لأن صحة وجودها متعلقة بصانع قديم لولا ذلك لاحتاج الفاعل إلى فاعل آخر إلى مالا نهاية له ويدل على أن صانعها عالم من حيث استحال وجود الفعل المتقن المحكم إلا من عالم به قبل أن يفعله ويدل على أنه حكيم عدل لأنه مستغن عن فعل القبيح عالم بقبحه فلا تكون أفعاله إلا

عدلا وصوابا ويدل على أنه لا يشبهها لأنه لو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من جميع الوجوه أو من بعضها فإن أشبهها من جميع الوجوه فهو محدث مثلها وإن أشبهها من بعض الوجوه فواجب أن يكون محدثا من ذلك الوجه لأن حكم المشبهين واحد من حيث اشتبها فوجب أن يتساويا في حكم الحدوث من ذلك الوجه ويدل وقوف السموات والأرض من غير عمد أن ممسكها لا يشبهها لاستحالة وقوفها من غير عمد من جسم مثلها إلى غير ذلك من الدلائل المضمنة بها ودلالة الليل والنهار على الله تعالى أن الليل والنهار محدثان لوجود كل واحد منهما بعد أن لم يكن موجودا ومعلوم أن الأجسام لا تقدر على إيجادها ولا على الزيادة والنقصان فيها وقد اقتضيا محدثا من حيث كانا محدثين لاستحالة وجود حادث لا محدث له فوجب أن محدثهما ليس بجسم ولا مشبه للأجسام لوجهين أحدهما أن الأجسام لا تقدر على إحداث مثلها والثاني المشبه للجسم يجري عليه ما يجري عليه من حكم الحدوث فلو كان فاعلها حادثا لاحتاج إلى محدث ثم كذلك يحتاج الثاني إلى الثالث إلى مالا نهاية له وذلك محال فلا بد من إثبات صانع قديم لا يشبه الأجسام والله أعلم
باب

فضل الرباط في سبيل الله تعالى
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا قال الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك اصبروا على طاعة الله وصابروا على دينكم وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله وقال محمد بن كعب القرظي اصبروا على الجهاد وصابروا وعدي إياكم ورابطوا أعداءكم وقال زيد بن أسلم اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل عليه وقال أبو مسلمة بن عبدالرحمن ورابطوا بانتظار الصلاة بعد الصلاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال في انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط وقال تعالى ومن رباط
الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وروى سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال رباط يوم في سبيل الله أفضل من صيام شهر ومن قيامه ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة وروى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها
والله الموفق

سورة النساء

بسم
الله الرحمن الرحيم
قال
الله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام قال الحسن ومجاهد وإبراهيم هو قول القائل أسألك بالله وبالرحم وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك اتقوا الأرحام أن تقطعوها وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله تعالى وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من سأل بالله فأعطوه وروى معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بسبع منها إبرار القسم وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله ص - من سألكم بالله فأعطوه وأما قوله والأرحام ففيه تعظيم لحق الرحم وتأكيد للنهي عن قطعها قال الله تعالى في موضع آخر فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض وقال تعالى لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة قيل في الآل أنه القربى وقال تعالى وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في تعظيم حرمة الرحم ما يواطئ ما ورد به التنزيل روى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول الله أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالي حيان بن بشر قال حدثنا محمد بن الحسن عن أبي حنيفة قال حدثني ناصح عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالد بن خداش قال حدثنا صالح المري قال حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد بن عبدالرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح قال الحميدي الكاشح العدو ورواه أيضا

سفيان عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن
سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الصدقة على المسلمين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان لأنها صدقة وصلة قال أبو بكر فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها جعل النبي صلى الله عليه وسلم - الصدقة على ذي الرحم اثنتين صدقة وصلة وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة فدل على أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أيا كان الواهب أو غيره لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة واستحقاق الثواب بها كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم يصح الرجوع فيها كذلك الهبة لذي الرحم المحرم ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وهبه للإبن كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم المحرم إذ كانت بمنزلة الصدقة إلا أن يكون الأب محتاجا فيجوز له أخذه كسائر أموال الإبن فإن قيل لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم المحرم وغيره فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه وإن لم يكن ذا رحم محرم كإبن العم والأباعد من أرحامه قيل له لو اعتبرنا كل من بينه وبينه نسب لوجب أن يشترك فيه بنو آدم عليه السلام كلهم لأنهم ذووا أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السلام وقبله آدم عليه السلام وهذا فاسد فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد ا لنكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم وهو بمنزلة ا لأجنبيين وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بمنى وهو يقول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك فذكر ذوي الرحم المحرم في ذلك فدل على صحة ما ذكرنا وهو مأمور مع ذلك بمن بعد رحمه أن يصله وليس في تأكيد من قرب كما يأمر بالإحسان إلى الجار ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين والله أعلم بالصواب

باب

دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومنعه الوصي من استهلاكها
قال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب روي عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم قال أبو بكر وأظن ذلك غلطا من الراوي لأن المراد بهذه الآية إيتاءهم أموالهم بعد البلوغ إذ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله قبل البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم فهذا هو الصحيح في ذلك وأما قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم فليس من هذا في شيء لأنه معلوم أنه لم يرد به إيتاءهم أموالهم في حال اليتم وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد وأطلق اسم الأيتام عليهم لقرب عهدهم باليتم كما سمى مقارنة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف والمعنى مقاربة البلوغ ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق الآية فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ فعلم أنه أراد بعد البلوغ وسماهم يتامى لأحد معنيين إما لقرب عهدهم بالبلوغ أو لانفرادهم عن آبائهم مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم والقيام بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنكين الذين قد جربوا الأمور واستحكمت آراؤهم وقد روى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسئله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب إليه إذا أونس منه الرشد انقطع عنه يتمه وفي بعض الألفاظ إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يستحكم رأيه ولم يؤنس منه رشده فجعل بقاء ضعف الرأي

موجبا لبقاء اسم اليتيم عليه واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن زوجها قال النبي صلى الله عليه وسلم - تستأمر اليتيمة في نفسها وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة وقال الشاعر ... إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى ... إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخا أو كهلا لا يسمى يتيما وإن كان ضعيف العقل ناقص الرأي فلا بد من اعتبار قرب العهد بالصغر والمرأة الكبيرة المسنة تسمى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج والرجل الكبير المسن لا يسمى يتيما من جهة انفراده عن أبيه وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير ويدبر أمره ويحوطه فيكنفه فسمي الصغير يتما لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يسمى يتيما بعد البلوغ وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله وكنفه فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياطتها فإذا انفردت عمن هذه حاله معها سميت يتيمة كما سمي الصغير يتيما لانفراده عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه ألا ترى إلى قوله تعالى الرجال قوامون على النساء كما قال وأن تقوموا لليتامى بالقسط فجعل الرجل قيما على امرأته كما جعل ولي اليتيم قيما عليه وقد روى علي بن أبي طالب وجابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يتم بعد حلم وهذا هو الحقيقة في اليتيم وبعد البلوغ يسمى يتيما مجازا لما وصفنا وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف على ما روي عن ابن عباس يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون أنها جائزة للفقراء من اليتامى لأن اسم اليتيم يدل على ذلك ويدل عليه ما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله عز و جل ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما قال السفهاء إبنك السفيه وامرأتك السفيهة قال وقوله قياما قيام عيشك وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة فسمي اليتيم ضعيفا ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم وظاهره يقتضي وجود دفعه إليهم بعد البلوغ أونس منه الرشد أو لم يؤنس إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم

منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بينه وبين خمس وعشرين سنة فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه لقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد لاتفاق أهل العلم أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه وهذا وجه شائع من قبل أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما على فائدتهما ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا وهو قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم من غير شرط لإيناس الرشد فيه لأن الله تعالى أطلق إيجاب دفع المال من غير قرينة ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة وأمكننا استعمالهما على فائدتهما ولم يجز لنا الاقتصار بها على فائدة إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه لقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقال في نسق التلاوة فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض إذ كان قوله فأشهدوا عليهم قد تضمن جواز الإشهاد على إقرارهم بقبضها وفي ذلك دلالة على نفي الحجر وجواز التصرف لأن المحجور عليه لا يجوز إقراره ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار وأما قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب فإنه روي عن مجاهد وأبي صالح الحرام بالحلال أي لا تجعل بدل رزقك الحلال حراما تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه أو تتجر فيه لنفسك أو تحبسه وتعطيه غيره فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثا حراما وتعطيه مالك الحلال الذي رزقك الله تعالى ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها وهذا يدل على أن ولي اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه ولا يستبدله فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف فيه بالبيع والشرى لليتيم لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه ويعطي اليتيم غيره وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشتري من مال اليتيم لنفسه بمثل قيمته سواء لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه فهو عام في سائر وجوه الاستبدال إلا ما قام دليله هو أن يكون ما يعطي اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه على قول أبي حنيفة لقوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وقال سعيد بن المسيب والزهري

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19