كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

جابر في قوله أوفوا بالعقود قال هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد وزاد زيد بن أسلم من قبله وعقد الشركة وعقد اليمين وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبدالله بن عبيدة قال العقود ستة عقد الأيمان وعقد النكاح وعقدة العهد وعقدة الشرى والبيع وعقدة الحلف قال أبو بكر العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشد ثم نقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها فإنما أريد به إلزام الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظرا مراعى في المستقبل من الأوقات فيسمى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقودا لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به وسمي اليمين على المستقبل عقدا لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك والشركة والمضاربة ونحوها تسمى أيضا عقودا لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شرطه على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها وكذلك كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك ومالا تعلق له بمعنى في المستقبل ينتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماض قد وقع فإنه لا يسمى عقدا ألا ترى أن من طلق امرأته فإنه لا يسمى طلاقه عقدا ولو قال لها إذا دخلت الدار فأنت طالق كان ذلك عقدا ليمين ولو قال والله لقد دخلت الدار أمس لم يكن عاقدا لشيء ولو قال لأدخلنها غدا كان عاقدا ويدلك على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصح في المستقبل لو قال علي أن أدخل الدار أمس كان لغوا من الكلام مستحيلا ولو قال علي أن أدخلها غدا كان إيجابا مفعولا فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك وذلك معدوم في الماضي ألا ترى أن من قال والله لأكلمن زيدا فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه وكذلك لو قال والله لا كلمت زيدا كان مؤكدا به نفي كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفي أو إثبات فسمي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والإستيثاق به ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه أن يفعله أو يتركه

ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي أن ضد العقد هو الحل ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس يعقد لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل
فإن قيل قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وأنت إذا جاء غد هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ
قيل له جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحل ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر وليس في الكوز ماء أن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا لأنه ليس له نقيض من الحل ولو قال إن لم أصعد السماء فعبدي حر حنث بعد انعقاد يمينه لأن لهذا العقد نقيضا من الحل وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول إذ كان صعود السماء معنى متوهما معقولا وكذلك تركه معقول جائز وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا
وقد اشتمل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقوله تعالى وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى أوفوا بالعقود أي بعقود الله فيما حرم وحلل
وعن الحسن قال يعني عقود الدين واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجازات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقود فمتى اختلفنا في جواز عقده أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج بقوله تعالى أوفوا بالعقود لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجازات والبيوع وغييرها ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار لأن الآية لم تفرق بين شيء منها وقوله ص -

والمسلمون عند شروطهم في معنى قول الله تعالى أوفوا بالعقود وهو عموم في
إيجاب الوفاء بجميع ما يشرط الإنسان على نفسه مالم تقم دلالة

تخصصه
فإن قيل هل يجب على كل من عقد على نفسه يمينا أو نذرا أو شرطا لغيره الوفاء بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه قيل له أما النذور فهي على ثلاثة أنحاء منها نذر قربة فيصير واجبا بنذره بعد أن كان فعله قربة غير وجب لقوله تعالى أوفوا بالعقود وقوله تعالى أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وقوله تعالى يوفون بالنذر وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون وقوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فذمهم على ترك الوفاء بالمنذور نفسه وقول النبي صلى الله عليه وسلم -

لعمر بن الخطاب أوف بنذرك حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية وقوله ص
- من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء بعينه وقسم آخر وهو ما كان مباحا غير قربة فمتى نذر ه لا يصير واجبا ولا يلزمه فعله فإذا أراد به يمينا فعليه كفارة يمين إذا لم يفعله مثل قوله لله علي أن أكلم زيدا وأدخل هذه الدار وأمشي إلى السوق فهذه أمور مباحة لا تلزم بالنذر لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجبا بالنذر فإن أراد به اليمين كان يمينا وعليه الكفارة إذا حنث والقسم الثالث ما نذر المعصية نحو أن يقول لله علي أن أقتل فلانا أو أشرب الخمر أو أغصب فلانا ماله فهذه أمور هي معاص لله تعالى لا يجوز له الإقدام عليه لأجل النذور وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر وهذا يدل على ما ذكرناه في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات أنها لا تصير واجبة بالنذور كما أن ما كان محظروا لا يصير مباحا ولا واجبا بالنذر وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يمينا وحنث لقوله ص - لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء وأما الأيمان فإنها تعقد على هذه الأمور من قربة أو مباح أو معصية فإذا عقدها على قربة لم تصر واجبة باليمين ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يف به وحنث لزمته الكفارة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعبدالله بن عمر بلغني أنك قلت والله لأصومن الدهر فقال نعم قال فلا تفعل ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال إني أطيق أكثر من ذلك إلى أن ورده إلى أن يصوم يوما ويفطر

يوما فلم يلزمه صوم الدهر باليمين فدل ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه ولذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لأصومن غدا ثم لم يصمه فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين والقسم الآخر من الأيمان هو أن يحلف على مباح أن يفعله فلا يلزمه فعله كما لا يلزمه فعل القربة المحلوف عليها فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك حنث لزمته الكفارة والقسم الثالث أن يحلف على معصية فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنها لقوله ص - من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقال أني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني وقال الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن أثاثة لما كان منه من الخوض في أمر عائشة رضي الله عنها فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الانفاق عليه قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام قيل في الأنعام أنها الإبل والبقر والغنم وقال بعضهم الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة وتتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل ولا تتناولهما منفردة عن الإبل وقد روي عن الحسن القول الأول وقيل إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه أخذ من نعومة الوطء ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة غير محلي الصيد وأنتم حرم ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ثم عطف عليه قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها وقد روي عن ابن عباس أنه قال في جنين البقرة أنها بهيمة الأنعام وهو كذلك لأن البقرة من الأنعام وإنما قال بهيمة الأنعام وإن كانت الأنعام كلها من البهائم لأنه بمنزلة قوله أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي كما تقول نفس الأنسان
ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية وليس كذلك لأنه لم يجهل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الإيمان في قوله

تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم بل الإباحة عامة لجيمع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وكذلك قلنا إن الكفار مستحقون للعقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان
فإن قيل إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به فمن لم يعتقد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا وزعم هذا القول أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبح ذكاة وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا وأما قوله إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه فليس كذلك لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته قوله عز و جل إلا ما يتلى عليكم روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي إلا ما يتلى عليكم يعني قوله حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما حرم في القرآن وقال آخرون إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فكأنه قال على هذا التأويل إلا ما يتلى عليكم في نسق هذا الخطاب قال أبو بكر يحتمل قوله إلا ما يتلى عليكم مما قد حصل تحريمه ما روي عن ابن عباس فإذا أريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملا لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم فيكون قوله أحلت

لكم بهيمة الأنعام عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها وجعل هذه الأباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله حرمت عليكم الميتة والدم ويحتمل أن يريد بقوله إلا ما يتلى عليكم إلا ما يبين حرمته فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني فهذا يوجب إجمال قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام لاستثنائه بعضها فهو مجهول المعنى عندنا فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال ويكون حكمه موقوفا على البيان وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها
فإن قيل قوله تعالى إلا ما يتلى عليكم يقتضي تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلا علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني
قيل له يجوز أن يريد به ما قد تلى علينا ويتلى في الثاني لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها
قوله تعالى غير محلي الصيد وأنتم حرم قال أبو بكر فمن الناس من يحمله على معنى إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فيكون المستثنى بقوله إلا ما يتلى عليكم هو الصيد الذي حرمه على المحرمين وهذا تأويل يؤدي إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني وهو قوله غير محلي الصيد وأنتم حرم ويجعله بمنزلة قوله إلا ما يتلى عليكم وهو تحريم الصيد على المحرم وذلك تعسف في التأويل ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة فهذا تأويل لا وجه له ثم لا يخلو من أن يكون قوله غير محلى الصيد وأنتم حرم مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله إلا ما يتلى عليكم إلا محلي الصيد وأنتم حرم ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام لأنه استثناء من

المحظور إذ كان مثل قوله إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد مما قد بين وسيبين تحريمه في الثاني أو أن يكون معناه أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله روي عن السلف فيه وجوه فروي عن ابن عباس أن الشعائر مناسك الحج وقال مجاهد الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر وقال عطاء فرائض الله التي حدها لعباده وقال الحسن دين الله كله لقوله تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب أي دين الله وقيل إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية والأصل في الشعائر أنها مأخوذه من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس ومنه مشاعر البدن وهي الحواس والمشاعر أيضا هي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات وتقول قد شعرت به أي علمته وقال تعالى لا يشعرون يعني لا يعلمون ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شعيرة وهي العلامة التي يشعر بها الشيء ويعلم فقوله تعالى لا تحلوا شعائر الله قد انتظم جميع معالم دين الله وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما وحظر استحلاله بالقتال فيه وحظر قتل من لجأ إليه ويدل أيضا على وجوب السعي بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما روي عن مجاهد لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم - بهما فثبت أنهما من شعائر الله وقوله عز و جل ولا الشهر الحرام روي عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه قال الله تعالى في سورة البقرة يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وقد بينا أنه منسوخ وذكرنا قول من روي عنه ذلك وأن قوله اقتلوا المشركين نسخه وقال عطاء حكمه ثابت والقتال في الشهر الحرام محظور وقد اختلف في المراد بقوله ولا الشهر الحرام فقال قتادة معناه الأشهر الحرم وقال عكرمة هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وجائز أن يكون المراد بقوله ولا الشهر الحرام هذه الأشهر كلها وجائز أن يكون جميعها في حكم واحد منها وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ إذ

كان جميعها في حكم واحد منها فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع قوله تعالى ولا الهدي ولا القلائد أما الهدي فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبي صلى الله عليه وسلم - المبتكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه المهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة والبيضة هديا وأراد به الصدقة وكذلك قال أصحابنا فيمن قال ثوبي هذا هدى أن عليه أن يتصدق به إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه قال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة وقال تعالى من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وأقله شاة عند جميع الفقهاء فاسم الهدي إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم وقوله ولا الهدي أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم وإحلاله استباحة لغير ما سيق إليه من القربة وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدي إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو أجزاء صيد وظاهره يمنع جواز الأكل من هدى المتعة والقرآن لشمول الأسم له إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه وأما قوله عز و جل ولا القلائد فإن معناه لا تحلو القلائد وقد روى في تأويل القلائد وجوه عن السلف فقال ابن عباس أراد الهدي المقلد قال أبو بكر هذا يدل على أن من الهدي ما يقلد ومنه مالا يقلد والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم فحظر تعالى إحلال الهدي مقلدا وغير مقلد وقال مجاهد كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم فكان ذلك أمنا لهم فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا وروي نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم وقال بعض أهل العلم أراد به قلائد الهدي بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها وروي عن الحسن أنه قال يقلد الهدي بالنعال فإذا لم توجد فالجفاف تقور ثم تجعل في أعناقها ثم يتصدق بها وقيل هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدي قال أبو

بكر قد دلت الآية على أن تقليد الهدي قربة وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك وإن لم يوجبه بالقول فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به وقد دل أيضا على أن قلائد الهدي يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها وقال له تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدي ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه لأن قوله ولا الهدي ولا القلائد قد تضمن ذلك كله وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها وهو قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد فلولا ما تعلق بالهدي والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلقها بالشهر وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الأخبار عما فيها من المنافع وصلاح اناس وقوامهم وروى الحكم عن مجاهد قال لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد نسختها اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم - وإن جاؤوك فأحكم بينهم الآية نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله قال أبو بكر يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون به أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدي لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين بعدهم وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى ولا القلائد قال كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا فنزلت لا تحلوا شعائر الله قال أبو بكر يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر الحرم ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام وأما المشركين فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى أقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا والمسلمون قد استغنوا عن ذلك فلم يبق له حكم وبقي حكم قلائد الهدي ثابتا وقد حدثنا عبدالله بن

محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام الآية قال منسوخ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد فلادة شعر فلم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسختها قوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية وكان الرجل إذا لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الأذخر أو من لحاء شجر الحرام فمنعت الناس عنه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قال كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال سألت الحسن هل نسخ من المائدة شيء فقال لا وهذا يدل على أن قوله تعالى ولا آمين البيت الحرام إنما أريد به المؤمنون عند الحسن لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقوله أيضا ولا الشهر الحرام حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتا على نحو ما روي عن عطاء قوله تعالى

يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا روي عن ابن عمر أنه قال أريد به الربح في التجارة وهو نحو قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن التجارة في الحج فأنزل الله تعالى ذلك وقد ذكرناه فيما تقدم وقال مجاهد في قوله تعالى يتبغون فضلا من ربهم ورضوانا الأجرة والتجارة قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قال مجاهد وعطاء في آخرين هو تعليم إن شاء صاد وإن شاء لم يصد قال أبو بكر هو إطلاق من حظر بمنزلة قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله لما حظر البيع بقوله وذروا البيع عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله وقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قد تضمن إحراما متقدما لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام وهذا يدل على أن قوله ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قد اقتضى كون من فعل ذلك محرما فيدل على أن سوق الهدي وتقليده يوجب الإحرام ويدل قوله ولا آمين البيت الحرام على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام إذ كان قوله وإذا حللتم فاصطادوا قد يضمن أن يكون من أم البيت الحرام فعليه إحرام يحل منه ويحل له الاصطياد بعده وقوله وإذا حللتم فاصطادوا قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله ولا ينفر صيدها ولا خلاف بين السلف والخلف فيه فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعا وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق وإن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع لقوله تعالى وإذا حللتم باصطادوا وهذا قد حل إذ كان هذا الحلق واقعا للإحلال وقوله تعالى ولا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا قال ابن عباس وقتادة لا يجرمنكم لا يحملنكم وقال أهل اللغة يقال جرمني زيد على بغضك أو حملني عليه وقال الفراء لا يكسبنكم يقال جرمت على أهلي أي كسبت لهم وفلان جريمة أهله أي كاسبهم قال الشاعر ... جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا

ويقال جرم يجرم جرما إذا قطع وقوله تعالى شنآن قوم فرىء بفتح النون وسكونا فمن فتح النون جعله مصدرا من قولك شنئته أشنأه شنآنا والشنآن البغض فكأنه قال ولا يجرمنكم بغض قوم وكذلك روي عن ابن عباس وقتادة قالا عداوة قوم ومن قرأ بسكون النون فمعناه بغيض قوم فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحق إلى الظلم والتعدي لأجل تعدى الكفار بصدهم المسلمين عن المسجد الحرام ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم -

أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك
وقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى يعتضي ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان تعالى لأن البر هو طاعات الله وقوله تعالى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان نهى عن معاونة غيرنا على معاصي الله تعالى قوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية الميتة ما فارقته الروح بغير تزكية مما شرط علينا الزكاة في إباحته وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح لقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا وقد بينا ذلك في سورة البقرة
والدليل أيضا على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاق المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أحلت لي ميتتان ودمان يعنى بالدمين الكبد والطحال فأباحهما وهما دمان إذ ليسا بمسفوح فدل على إباحة كل ماليس بمسفوح من الدماء فإن قيل لما حصر المباح منه بعدد دل على حظر ما عداه قيل هذا غلط لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في حلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق فدل على أن حصره الدمين بالعدد وتخصيصهما بالذكر لم يقتض حظر جميع ما عداهما من الدماء وأيضا فإنه لما قال أو دما مسفوحا ثم قال والدم كانت الألف واللام للمعهود وهو الدم المخصوص بالصفة وهو أن يكون مسفوحا وقوله ص - أحلت لي ميتتان ودمان إنما ورد مؤكدا لمقتضى قوله عز و جل قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا إذ ليسا بمسفوحين ولو لم يره لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين وقوله تعالى ولحم الخنزير فإنه قد تناول شحمه وعظمه وسائر أجزائه ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم

اللحم يتناوله ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه وأيضا فإن تحريم الخنزير لما كان منهما اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم وأما قوله وما أهل لغير الله به فإن ظاهره يقتضي تحريم ما سمي عليه غير الله لأن الإهلال هو إظهار الذكر والتسمية وأصله استهلال الصبي إذا صاح حين يولد ومنه إهلال المحرم فينتظم ذلك تحريم ما سمي عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله وينتظم أيضا تحريم ما سمي عليه اسم غيرالله أي اسم كان فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح باسم زيد أو عمرو أن يكون غير مذكى وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجبا تحريمها وذلك لأن أحدا لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة ترك التسمية رأسا
قوله تعالى والمنخنقة فإنه روي عن الحسن وقتادة والسدي والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ومن نحوه حديث عباية بن رفاعة عن رافع بن خديح أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ذكوا بكل شيء إلا السن والظفر وهذا عندنا على السن والظفر غير المنزوعين لأني يصير في معنى المخنوق وأما قوله تعالى والموقوذة فإنه روي عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي أنه المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت يقال فيه وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الزكاة وقد روى أبو عامر العقدي عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وروى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبدالله بن المغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال أنها لا تنكأ العدو لا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرمى بالمعراض فأصيب أفآكل قال إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل
حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن احمد قال حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن صيد المعراض فقال ما أصاب بحده فخرق فكل وما أصاب بعرضه فقتل فإنه
وقيذ فلا تأكل فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن

مقدورا على ذكاته وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدورا على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه وعموم قوله والموقوذة عام في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال حدثنا معاوية بن عمر قال حدثنا زائدة قال حدثنا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال سمعت عمر بن الخطاب يقول يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل وأما قوله تعالى والمتردية فإنه روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت وروى مسروق عن عبدالله بن مسعود قال إذا رميت صيدا من على جبل فمات فلا تأكله فإني أخشى أن يكون التردي هو الذي قتله وإذا رميت طيرا فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإن أخشى أن يكون الغرق قتله
قال أبو بكر لما وجد هناك سببا آخر وهو التردي وقد يحدث عنه الموت حظر أكله وكذلك الوقوع في الماء وقد روى نحو ذلك النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا احمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا ابن عرفة قال حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الصيد فقال إذا رميت بسهمك وسميت فكل إن قتل إلا أن تصيبه في الماء فلا ترى أيهما قتله ونظيره ما روي عنه ص -

في صيد الكلب أنه قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل وإن خالطه كلب آخر
فلا تأكل فحظر ص - أكله إذا وجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه وكذلك قول عبدالله في الذي يرمي الصيد وهو على الجبل فيتردى أنه لا يؤكل لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تلفه فجعل الحكم للحظر دون الإباحة وكذلك لو اشترك مجوسي ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة
وأما قوله تعالى والنطيحة فإنه روي عن الحسن والضحاك وقتادة والسدي أنها المنطوحة حتى تموت وقال بعضهم هي الناطحة حتى تموت قال أبو بكر هو عليهما جميعا فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها
وأما قوله وما أكل السبع فإن معناه

ما أكل منه السبع حتى يموت فحذف والعرب تسمي ما قتله السبع وأكل منه أكيلة السبع ويسمون الباقي منه أيضا أكيلة السبع قال أبو عبيدة ما أكل السبع مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهي عنه قد أريد به الموت من ذلك وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى ودل بذلك على أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظورا أكلها بعد أن لا يكون من فعل أدمى على وجه التذكية
وأما قوله تعالى إلا ما ذكيتم فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه لأن قوله حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الزكاة وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائدا إلى المذكور من عند قوله والمنخنقة لما روى ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز وحكى عن بعضهم أنه قال الاستثناء عائدا إلى قوله وما أكل السبع دون ما تقدم لأنه يليه وليس هذا بشيء لاتفاق السلف على خلافه ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل وكذلك النطيحة وما ذكر معها فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله والمنخنقة وإنما قوله إلا ما ذكيتم فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله لكن ما ذكيتم كقوله فلولا كانت قرية آمنت فنفعها أيمانها إلا قوم يونس ومعناه لكن قوم يونس وقوله طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ومعناه لكن تذكرة لمن يخشى ونظائره في القرآن كثيرة
وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها فذكر محمد في الأصل في المتردية إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وعن أبي يوسف في الإملاء أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكي قبل الموت وذكر ابن سماعة عن محمد أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده

وأوامره ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود وقال مالك إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت وقال الحسن بن صالح إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت وقال الأوزاعي إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت والمصيودة إذا ذبحت لم تؤكل وقال الليث إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها
قال أبو بكر قوله تعالى إلا ما ذكيتم يقتضي ذكاتها ما دامت حية فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش وأن تبقى قصير المدة أو طويلها وكذلك روي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة إن ذكاتها بالذبح فكذلك المتردية ونحوها والله اعلم
باب

في شرط الذكاة
قال أبو بكر قوله تعالى إلا ما ذكيتم اسم شرعي يعتوره معان منها موضع الذكاة وما يقطع منه ومنها الآلة ومنها الدين ومنها التسمية في حال الذكر وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سبب من خارج وما مات حتف أنفه فغير مذكى وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في الطافي في سورة البقرة
فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج وهي أربعة الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء فإذا فرى المذكى ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها فإن قصر عن ذلك ففرى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بشر بن الوليد روى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قا إذا قطع أكثر الأوداج أكل وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أي جانب كان وكذلك قال أبو يوسف ومحمد ثم قال أبو يوسف بعد ذلك لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين وقال مالك بن أنس والليث يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئا منها لم يجزه ولم يذكر المريء وقال الثوري لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الشافعي أقل ما يجزى من الذكاة قطع الحلقوم

والمريء وينبغي أن يقطع الودجين وهما العرقان وقد يسلان من البهيمة والإنسان ثم يحييان فإن لم يقطع العرقان وقطع الحلقوم والمريء جاز وإنما قلنا أن موضع الذكاة النحر واللبة لما روى أبو قتادة الحراني عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن الذكاة فقال في اللبة والحلق ولو طعنت في فخذها أجزأ عنك وإنما يعني
بقوله ص - لو ظننت في تخيرها أجزأ عنها فيما لا تقدر على مذبحه قال أبو بكر ولم يختلفوا أنه جائز له قطع هذه الأربعة وهذا يدل على أن قطعها مشروط في الذكاة ولولا أنه كذلك لما جاز له قطعها إذ كان فيه زيادة ألم بما ليس هو شرطا في صحة الذكاة فثبت بذلك أن عليه قطع هذه الأربع إلا أن أبا حنيفة قال إذا قطع الأكثر جاز مع تقصيره عن الواجب فيه لأنه قد قطع والأكثر في مثلها يقوم مقام الكل كما أن قطع الأكثر من الأذن والذنب بمنزلة قطع الكل في امتناع جوازه عن الأضحية وأبو يوسف جعل شرط صحة الذكاة الحلقوم والمريء وأحد العرقين ولم يفرق أبو حنيفة بين قطع العرقين وأحد شيئين من الحلقوم والمريء وبين قطع هذين مع أحد العرقين إذ كان قطع الجميع مأمورا به صحة الذكاة
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبدالله عن عكرمة عن ابن عباس زاد ابن عيسى وأبي هريرة قالا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن شريطة الشيطان زاد ابن عيسى في حديثه وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا يفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت وهذا الحديث يدل على أنه عليه قطع الأوداج وروى أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر
وروى إبراهيم عن أبيه عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اذبحوا بكل ما أفرى الأوداج وهراق الدم ما خلا السن والظفر فهذه الأخبار كلها توجب أن يكون فرى الأوداج شرطا في الذكاة والأوداج اسم يقع على الحلقوم والمريء والعرقين اللذين عن جنبيهما
فصل وأما الآلة فإن كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس به والذكاة صحيحة غير أن أصحابنا كرهوا الظفر المنزع والعظم والقرن والسن لما روى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأما غير ذلك فلا بأس به ذكر ذلك في الجامع الصغير وقال أبو يوسف في الإملاء لو أن

رجلا ذبح بليطة ففرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس بذلك وكذلك لو ذبح بعود وكذلك لو نحر بوتد أو بشظاظ أو بمروة لم يكن بذلك بأس فأما العظم والسن والظفر فقد نهي أن يذكى بها وجاءت في ذلك أحاديث وآثار وكذلك القرن عندنا والناب قال ولو أن رجلا ذبح بسنه أو بظفره فهي ميتة لا تؤكل وقال في الأصل إذا ذبح بسن نفسه أو بظفر نفسه فإنه قاتل وليس بذابح وقال مالك بن أنس كل ما بضع من عظم أو غيره ففرى الأوداج فلا بأس به وقال الثوري كل ما فرى الأوداج فهو ذكاة إلا السن والظفر وقال الأوزاعي لا يذبح بصدف البحر وكان الحسن بن صالح يكره الذبح بالقرن والسن والظفر والعظم وقال الليث لا بأس بأن يذبح بكل ما أنهر الدم إلا العظم والسن والظفر واستثنى الشافعي الظفر والسن
قال أبو بكر الظفر والسن المنهي عن الذبيحة بهما إذا كانتا قائمتين في صاحبهما وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في الظفر أنها مدي الحبشة وهم إنما يذبحون بالظفر القائم في موضعه غير المنزوع وقال ابن عباس ذلك الخنق وعن أبي بشر قال سألت عكرمة عن الذبيحة بالمروة قال إذا كانت حديدة لا تترد الأوداج فكل فشرط في ذلك أن لا تترد الأوداج وهو أ لا تفريها ولكنه يقطعها قطعة قطعة والذبح بالظفر والسن غير المنزوع يترد ولا يفرى فلذلك لم تصح الذكاة بهما وأما إذا كانا منزوعين ففريا الأوداج فلا بأس وإنما كره أصحابنا منها ما كان بمنزلة السكين الكلالة ولهذا المعنى كرهوا الذبح بالقرن والعظم
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحاسنوا قال غير مسلم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته فكانت كراهتهم للذبح بسن منزوع أو عظم أو قرن أو نحو ذلك من جهة كلاله لما يلحق البهيمة من الألم الذي لا يحتاج إليه في صحة الذكاة
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم أنه قال قلت يا رسول الله أرأيت أن أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا قال أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله
وفي

حديث نافع عن كعب بن مالك عن أبيه أن جارية سوداء ذكت شاة بمروة فذكر ذلك كعب للنبي ص -

فأمرهم بأكلها وروى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت عن النبي ص
- مثله وفي حديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا ما كان من سن أو ظفر
فصل وهذا الذي ذكرناه فيما كان من الحيوان مقدورا على ذبحه فيعتبر في ذكاته ما وصفنا من موضع الذكاة ومن الآلة على النحو الذي بينا وأما الذي لا نقدر منه على ذبحه فإن ذكاته إنما تكون بإصابته بما يجرح ويسيل الدم أو بإرسال كلب أو طير فيجرحه دون ما يصدم أو يهشم مما لا حد له يجرحه ولا يختلف في ذلك عندنا حكم ما يكون أصله ممتنعا مثل الصيد وما ليس بممتنع في الأصل من الأنعام ثم يتوحش ويمتنع أو يتردى في موضع لا نقدر فيه على ذكاته وقد اختلف الفقهاء في ذلك في موضعين أحدهما في الصيد إذا أصيب بما لا يجرحه من الآلة فقال أصحابنا ومالك والثوري إذا أصابه بعرض المعراض لم يؤكل إلا أن يدرك ذكاته وقال الثوري وإن رميته بحجر أو بندقة كرهته إلا أن تذكيه ولا فرق عند أصحابنا بين المعراض والحجر والبندقة وقال الأوزاعي في صيد المعراض يؤكل خزق أو لم يخزق قال وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبدالله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا وقال الحسن بن صالح إذا خزق الحجر فكل والبندقة لا تخزق وقال الشافعي إن خزق المرمي برميه أو قطع بحده أكل وما جرح بثقله فهو وقيذ وفيما نالته الجوارح فقتلته فيه قولان أحدهما أن لا يؤكل حتى يجرح لقوله تعالى من الجوارح مكلبين والآخر أنه حل قال أبو بكر ولم يختلف أصحابنا ومالك والشافعي في الكلب إذا قتل الصيد بصدمته لم يؤكل وأما الموضع الآخر فما ليس بممتنع في الأصل مثل البعير والبقر إذا توحش أو تردى في بئر فقال أصحابنا إذا لم يقدر على ذبحه فإنه يقتل كالصيد ويكون مذكى وهو قول الثوري والشافعي وقال مالك والليث لا يؤكل إلا أن يذبح على شرائط الذكاة وروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والأسود ومسروق مثل قول أصحابنا وقد تقدم ذكر الآثار المؤيدة لقول أصحابنا في الصيد إن شرط ذكاته أن يجرحه بما له حد ومنه ما ذكر في المعراض أنه إن أصاب بحده أكل وإن أصاب بعرضه لم يؤكل فإنه وقيذ لقوله تعالى والموقوذة فكل

مالا يجرح من ذلك فهو وقيذ محرم بظاهر الكتاب والسنة وفي حديث قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبدالله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن الخذف وقال إنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين فدل ذلك على أن الجراحة في مثله لا تذكى إذ ليس له حد وإنما الجراحة التي لها حكم في الذكاة هي ما يقع بما له حد ألا ترى أن النبي قال في المعراض إن أصابه بحده فخزق فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ولا يفرق بين ما يجرح ولا يجرح فدل ذلك على اعتبار الآلة وأن سبيلها أن يكون لها حد في صحة الذكاة بها وكذلك قوله في الحذف أنها لا تصيد الصيد يدل على سقوط اعتبار جراحته في صحة الذكاة إذا لم يكن له حد
وأما البعير ونحوه إذا توحش أو تردى في بئر فإن الذي يدل على أنه بمنزلة الصيد في ذكاته ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا سفيان عن عمرو بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج قال ند علينا بعير فرميناه بالنبل ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا ند منها شيء فاصنعوا به ذلك وكلوه وقال سفيان وزاد إسماعيل بن مسلم فرميناه بالنبل حتى رهصناه فهذا يدل على إباحة أكله إذا قتله النبل لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم - من غير شرط ذكاة غيره وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في اللبة والنحر فقال ص -

لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك وهذا على الحال التي لا يقدر فيها على ذبحها
إذ لا خلاف أن المقدور على ذبحه لا يكون ذلك ذكاته
ويدل على صحة قولنا من طريق النظر اتفاق الجميع على أن رمي الصيد يكون ذكاة له إذا قتله ثم لا يخلو المعنى الموجب لكون ذلك ذكاة من أحد وجهين إما أن يكون ذلك لجنس الصيد أو لأنه غير مقدور على ذبحه فلما اتفقوا على أن الصيد إذا صار في يده حيا لم تكن ذكاته إلا بالذبح كذكاة ما ليس من جنس الصيد دل ذلك على أن هذا الحكم لم يتعلق بجنسه وإنما تعلق بأنه غير مقدور على ذبحه في حال امتناعه فوجب مثله في غيره إذا صار بهذه الحال لوجود العلة التي من أجلها كان ذلك ذكاة للصيد
واختلف الفقهاء في الصيد يقطع بعضه فقال أصحابنا والثوري

وهو قول إبراهيم ومجاهد إذا قطعه بنصفين أكلا جميعا وإن قطع الثلث مما يلي الرأس أكل فإن قطع الثلث الذي يلحق العجز أكل الثلثان الذي يلي الرأس ولا يؤكل الثلث الذي يلي العجز وقال ابن أبي ليلى والليث إذا قطع منه قطعة فمات الصيد مع الضربة أكلهما جميعا وقال مالك إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل وإن قطع فخذه لم يأكل الفخذ وأكل الباقي وقال الأوزاعي إذا أبان عجزه لم يؤكل من قطع منه ويؤكل سائره وإن قطعه بنصفين أكله كله وقال الشافعي إن قطعه قطعتين أكله وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى وإن قطع يدا أو رجلا أو شيئا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل مالم يبن منه ولم يؤكل ما بان وفيه الحياة ولو مات من القطع الأول أكلهما جميعا قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا عبدالرحمن بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة وهذا إنما يتناول قطع القليل منه من غير موضع الذكاة وذلك لأنه لا خلاف أنه لو ضرب عنق الصيد فأبان رأسه كان الجميع مذكى فثبت بذلك أن المراد ما بان منها من غير موضع الذكاة وذلك إنما يتناول الأقل منه لأنه إذا قطع النصف أو الثلث الذي يلي الرأس فإنه يقطع العروق التي يحتاج إلى قطعها للذكاة وهي الأوداج والحلقوم والمريء فيكون الجميع مذكى وإذا قطع الثلث مما يلي الذنب فإنه لا يصادف قطع العروق التي يحتاج إليها في شرط الذكاة فيكون ما بان منه ميتة لقوله ص - ما بان من البهيمة وهي حية ميتة وذلك لأنه لا محالة إنما يحدث الموت بعد القطع فقد بان ذلك العضو منها وهي حية فهو ميتة وما يلي الرأس كله مذكى كما لو قطع رجلها أو جرحها في غير موضع الذكاة ولم يبن منها شيئا فيكون ذلك ذكاة لها لتعذر قطع موضع الذكاة
فصل وأما الدين فأن يكون الرامي أو المصطاد مسلما أو كتابيا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وأما التسمية فهي أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح أو عند الرمي أو إرسال الجوارح والكلب إذا كان ذاكرا فإن كان ناسيا لم يضره ترك التسمية وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى وأما قوله تعالى وما ذبح على النصب فإنه روي عن مجاهد وقتادة وابن جريج أن النصب أحجار منصوبة كانوا

يعبدونها ويقربون الذبائح لها فنهى الله عن أكل ما ذبح على النصب لأنه مما أهل به لغير الله والفرق بين النصب والصنم أن الصنم يصور وينقش وليس كذلك النصب لأ النصب حجارة منصوبة والوثن كالنصب سواء ويدل على أن الوثن اسم يقع على ما ليس بمصور أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعدي بن حاتم حين جاؤه وفي عنقه صليب ألق هذا الوثن من عنقك فسمى الصليب وثنا فدل ذلك على أن النصب والوثن اسم لما نصب للعبادة وإن لم يكن مصورا ولا منقوشا وهذه ذبائح قد كان أهل الجاهلية يأكلونها فحرمها الله تعالى مع ما حرم من الميتة ولحم الخنزير وما ذكر في الآية مما كان المشركون يستبيحونه وقد قيل إنها المرادة بالاستثناء المذكور في قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى وأن تستقسموا بالأزلام قيل في الاستقسام وجهان أحدهما طلب علم ما قسم له بالأزلام والثاني إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين والاستقسام بالأزلام أن أهل الجاهلية كانوا إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات أجال القداح وهي الأزلام وهي على ثلاثة أضرب منها ما كتب عليه نهاني ربي ومنها غفل لا كتابة عليه يسمى المنيح فإذا خرج أمرني ربي مضى في الحاجة وإذا خرج نهاني ربي قعد عنها وإذا خرج الغفل أجالها ثانية قال الحسن كانوا يعمدون إلى ثلاثة قداح نحو ما وصفنا وكذلك قال سائر أهل العلم بالتأويل وواحد الأزلام زلم وهي القداح فحظر الله تعالى ذلك وكان من فعل أهل الجاهلية وجعله فسقا بقوله ذلكم فسق وهذا يدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذ كان فيه اتباع ما أخرجته القرعة من غير استحقاق لأن من أعتق عبديه أو عبيدا له عند موته ولم يخرجوا من الثلث فقد علمنا أنهم متساوون في استحقاق الحرية ففي استعمال القرعة إثبات حرية غير مستحقة وحرمان من هو مساو له فيها كما يتبع صاحب الأزلام ما يخرجه الأمر والنهي لا سبب له غيره
فإن قيل قد جازت القرعة في قسمة الغنائم وغيرها وفي إخراج النساء
قيل إنما القرعة فيها لتطييب نفوسهم وبراءة للتهمة من إيثار بعضهم بها ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة وأما الحريةالواقعة على واحد منهم فغير جائز نقلها عنه إلى غيره وفي استعمال القرعة نقل الحرية عمن وقعت عليه وإخراجه منها مع مساواته لغيره فيها قوله عز و جل اليوم يئس الذين كفروا من دينكم قال ابن

عباس والسدي يئسوا أن ترتدوا راجعين إلى دينهم وقد اختلف في اليوم فقال مجاهد هو يوم عرفة عام حجة الوداع فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم عن ابن جريج وقال الحسن ذلك اليوم يعني به اليوم أكملت لكم دينكم وهو زمان النبي صلى الله عليه وسلم -

كله قال ابن عباس نزلت يوم عرفة وكان يوم الجمعة
قال أبو بكر اسم اليوم يطلق على الزمان كقوله ومن يولهم يومئذ دبره إنما عنى به وقتا منهما قوله تعالى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الاضطرار هو الضر الذي يصيب الإنسان من جوع أو غيره ولا يمكنه الامتناع منه والمعنى ههنا من إصابة ضر الجوع وهذا يدل على إباحة ذلك عند الخوف على نفسه أو على بعض أعضائه وقد بين ذلك في قوله تعالى في مخمصة قال ابن عباس والسدي وقتادة المخمصة المجاعة فأباح الله عند الضرورة أكل جميع ما نص على تحريمه في الآية ولم يمنع ما عرض من قوله اليوم أكملت لكم دينكم مع ما ذكر معه من عود التخصيص إلى ما تقدم ذكره من المحرمات فالذي تضمنه الخطاب في أول السورة في قوله أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم فيه بيان إباحة الصيد في حال الإحلال وغيرداخل في قوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم بين ما حرم علينا في قوله حرمت عليكم الميتة إلى آخر ما ذكر ثم خص من ذلك حال الضرورة وأبان أنها غير داخلة في التحريم وذلك عام في الصيد في حال الإحرام وفي جميع المحرمات فمتى اضطر إلى شيء منها حل له أكله بمقتضى الآية
وقوله تعالى غير متجانف لإثم قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي غير معتمد عليه فكأنه قال غير معتمد بهواه إثم وذلك بأن يتناول منه بعد زوال الضرورة
وقوله عز و جل يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات اسم يتناول معنيين أحدهما الطيب المستلذ والآخر الحلال وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث والخبيث حرام فإذا الطيب حلال والأصل فيه الاستلذاذ فشبه الحلال به في انتفاء المضرة منهما جميعا وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات يعني الحلال وقال ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث والخبائث هي المحرمات وقال تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهو يحتمل ما حل لكم ويحتمل ما استطبتموه فقوله قل أحل لكم الطيبات جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذتموه مما لا ضرر عليكم في تناوله من

طريق الدين فيرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل قوله تعالى وما علمتم من الجوارح حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا إبراهيم بن عبيد قال حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى عن أبي رافع قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن أقتل الكلاب فقال الناس يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي
أمرت بقتلها فأنزل الله قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح الآية حدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل وابن عبدوس بن كامل قالا حدثنا عبيدالله بن عمر الجشمي قال حدثنا أبو معشر النواء قال حدثنا عمرو بن بشير قال حدثنا عامر الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن صيد الكلاب لم يدر ما يقول لي حتى نزلت وما علمتم من الجوارح مكلبين قال أبو بكر قد اقتضى ظاهر هذا الحديث الأول أن تكون الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع بها فدل على جواز بيع الكلب والجوراح والانتفاع بها بسائر وجوه الانتفاع إلا ما خصه الدليل وهو الأكل ومن الناس من يجعل في الكلام حذفا فجعله بمنزلة قل أحل لكم الطيبات من صيد ما علمتم من الجوارح ويستدل عليه بحديث عدي بن حاتم الذي ذكرناه حين سأله عن صيد الكلاب فأنزل الله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين وحديث أبي رافع فيه أنه سئل عما أحل من الكلاب اتلي أمروا بقتلها فأنزل الله تعالى الآية وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها جميعا وحقيقة اللفظ تقتضي الكلاب أنفسها لأن قوله وما علمتم يوجب إباحة ما علمنا وإضمار الصيد فيه يحتاج إلى دلالة وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها أيضا وهو قوله فكلوا مما أمسكن عليكم فحمل الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما وقد دلت الآية أيضا على أن شرط إباحة الجوارح أن تكون متعلمة لقوله وما علمتم من الجوارح وقوله تعلمونهن مما علمكم الله وأما الجوارح فإنه قد قيل إنها الكواسب للصيد على أهلها وهي الكلاب وسباع الطير التي يصاد بها غيرها وأحدها جارح ومنه سميت الجارحة لأنه يكسب بها قال الله تعالى ما جرحتم

بالنهار يعني ما كسبتم ومنه أم حسب الذين اجترحوا السيئات وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وقيل في الجوارح أنها ما تجرح بناب أو مخلب قال محمد في الزيادات إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل لأنه لم يجرحه بناب أو مخلب ألا ترى إلى قوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب وإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيفيد الأصناف التي يصطاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم ويفيد مع ذلك في شرط الذكاة وقوع الجراحة بالمقتول من الصيد وأن ذلك شرط ذكاته
ويدل أيضا على أن الجراحة مرادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم -

في المعراض أنه إن خزق بحده فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل ومتى وجدنا
للنبي ص - حكما يواطئ معنى ما في القرآن وجب حمل مراد القرآن عليه وأن ذلك مما أراد الله تعالى به
وقوله تعالى مكلبين قد قيل فيه وجهان أحدهما أن المكلب هو صاحب الكلب الذي يعلمه الصيد ويؤدبه وقيل معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب والتكليب هو التضرية يقال كلب كلب إذا ضرى بالناس وليس في قوله مكلبين تخصيص للكلاب دون غيرها من الجوارح إذ كانت التضرية عامة فيهن وكذلك إن أراد تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عموما في سائر الجوارح
وقد اختلف السلف فيما قتلته الجوارح غير الكلاب فروى مروان العمري عن نافع عن علي بن الحسين قال الصقر والبازي من الجوارح مكلبين وروى معمر عن ليث قال سئل مجاهد عن البازي والفهد وما يصاد به من السباع فقال هذه كلها جوارح وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى من الجوارح مكلبين قال الطير والكلاب وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه وما علمتم من الجوارح مكلبين قال الجوارح الكلاب وما تعلم من البزاة والفهود وروى أشعث عن الحسن وما علمتم من الجوارح مكلبين قال الصقر والبازي والفهد بمنزلة الكلب وروى صخر بن جويرية عن نافع قال وجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب قال لا يصلح أكل ما قتلته البزاة وروى ابن جريج عن نافع قال قال عبدالله فأما ما صاد من الطير البزاة وغيرها فما أدركت ذكاته فذكيته فهو لك وإلا فلا تطعمه وروى سلمة بن علقمة عن نافع أن عليا كره ما قتلت

الصقور وروى أبو بشر عن مجاهد أنه كان يكره صيد الطير ويقول مكلبين إنما هي الكلاب
قال أبو بكر فتأول بعضهم قوله مكلبين على الكلاب خاصة وتأوله بعضه على الكلاب وغيرها ومعلوم أن قوله تعالى وما علمتم من الجوارح شامل للطير والكلاب ثم قوله مكلبين محتمل أن يريد ذكره من الجوارح والكلاب منها ويكون قوله مكلبين بمعنى مؤدبين أو مضرين ولا يخصص ذلك بالكلاب دون غيرها فوجب حمله على العموم وأن لا يخصص بالاحتمال ولا نعلم خلافا بين فقهاء الأمصار في إباحة صيد الطير وإن قتل وأنه كصيد الكلب
قال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي ما علمت من كل ذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع فإنه يجوز صيده وظاهر الآية يشهد لهذه المقابلة لأنه أباح صيد الجوارح وهو مشتمل على جميع ما يجري بناب أو مخلب وعلى ما يكسب على أهله بالاصطياد لم يفرق فيه بين الكلب وبين غيره
وقوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين يدل على أن شرط إباحة صيد هذه الجوارح أن تكون معلمة وأنها إذا لم تكن معلمة لم يكن مذكى وذلك لأن الخطاب خرج على سؤال السائلين عما يحمل من الصيد فأطلق لهم إباحة صيد الجوارح المعلمة وذلك شامل لجميع ما شملته الإباحة وانتظمه الإطلاق لأن السؤال وقع عن جميع ما يحل لهم من الصيد فخص الجواب بالأوصاف المذكورة فلا تجوز استباحة شيء منه إلا على الوصف المذكور ثم قال تعالى تعلمونهن مما علمكم الله فروي عن سليمان وسعد أن تعليمه أن يضرى على الصيد ويعود إلى إلف صاحبه حتى يرجع إليه ولا يهرب عنه وكذلك قال ابن عمر وسعيد بن المسيب ولم يشرطوا فيه ترك الأكل وروي عن غيرهما أن ذلك من تعليم الكلب وأن من شرط إباحة صيده أن لا يأكل منه فإن أكل منه لم يؤكل وهو قول ابن عباس وعدي بن حاتم وأبي هريرة وقالوا جميعا في صيد البازي أنه يؤكل منه وإنما تعليمه أن تدعوه فيجيبك
ذكر

اختلاف الفقهاء في ذلك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده ويؤكل صيد البازي وإن أكل وهو قول الثوري وقال مالك والأوزاعي والليث يؤكل وإن أكل الكلب منه وقال الشافعي لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي

مثله في القياس قال أبو بكر اتفق السلف المجيزون لصيد الجوارح من سباع الطير أن صيدها يؤكل وإن أكلت منه منهم سعد وابن عباس وسلمان وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن المسيب وإنما اختلفوا في صيد الكلب فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعدي بن حاتم وأبو هريرة وسعيد بن جبير وإبراهيم لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه وقال سلمان وسعد وابن عمر يؤكل صديه وإن لم يبق منه إلا ثلثه وهو قول الحسن وعبيد بن عمير وإحدى الروايتين عن أبي هريرة وعطاء وسليمان بن يسار وابن شهاب قال أبو بكر معلوم من حال الكلب قبوله للتأديب في ترك الأكل فجائز أن يعلم تركه ويكون تركه للأكل علما للتعليم ودلالة عليه فيكون تركه للأكل من شرائط صحة ذكاته ووجود الأكل مانع من صحة ذكاته وأما البازي فإنه معلوم أنه لا يمكن تعليمه بترك الأكل وأنه لا يقبل التعليم من هذه الجهة فإذ كان الله قد أباح صيد جميع الجوارح على شرط التعليم فغير جائز أن يكون من شرط التعليم للبازي تركه الأكل إذ لا سبيل إلى تعليمه ذلك ولا يجوز أن يكلفه الله تعليم ما لا يصح منه التعلم وقبول التأديب فثبت أن ترك الأكل ليس من شرائط تعلم البازي وجوارح الطير وكان ذلك من شرائط تعلم الكلب لأنه يقبله ويمكن تأديبه به ويشبه أن يكون ما روي عن علي بن أبي طالب وغيره في حظر ما قتله البازي من حيث كان عندهم أن من شرط التعليم ترك الأكل وذلك غير ممكن في الطير فلم يكن معلما فلا يكون ما قتله مذكى إلا أن ذلك يؤدي إلى أن لا تكون لذكر التعليم في الجوارح من الطير فائدة إذ كان صيدها غير مذكى وأن يكون المعلم وغير المعلم فيه سواء وذلك غير جائز لأن الله تعالى قد عمم الجوارح كلها وشرط تعليمها ولم يفرق بين الكلب وبين الطير فوجب استعمال عموم اللفظ فيها كلها فيكون من جوارح الطير ما يكون معلما وكذلك من الكلاب وإن اختلفت وجوه تعليمها فيكون من تعليم الكلاب ونحوها ترك الأكل ومن تعليم جوارح الطير أن يجيبه إذا دعاه ويألفه ولا ينفر عنه حتى يكون التعليم عاما في جميع ما ذكر في الآية ومن الدليل على أن من شرائط ذكاة صيد الكلب ونحوه ترك الأكل قول الله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم ولا يظهر الفرق بين إمساكه على نفسه وبين إمساكه علينا إلا بترك الأكل ولو لم يكن ترك الأكل مشروطا لزالت فائدة قوله فكلوا مما أمسكن عليكم فلما كان ترك الأكل علما لإمساكه

علينا وكان الله إنما أباح لنا أكل صيدها بهذه الشريطة وجب أن يكون ما أمسكه على نفسه محظورا
فإن قيل فقد يأكل البازي منه ويكون مع الكل ممسكا علينا قيل له الإمساك علينا إنما هو مشروط في الكب ونحوه فأما الطير فلم يشرط فيه أن يمسكه علينا لما قدمناه بديا ويدل على أن إمساك الكلب علينا أن لا يأكل منه وأنه متى أكل منه كان ممسكا على نفسه وما روي عن ابن عباس أنه قال إذا أكل منه الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فأخبر أن الإمساك علينا تركه للأكل فإذا كان اسم الإمساك يتناول ما ذكره ولو لم يتناوله لم يتأوله عليه وجب حمل الآية عليه من حيث صار ذلك اسما له وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك أيضا فثبتت حجته من وجهين أحدهما بيان معنى الآية والمراد بها والثاني نص السنة في تحريم ذلك حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثني الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن صيد الكلب المعلم فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عبدالله بن ابي السفر عن الشعبي قال قال عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن المعراض فقال إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ قلت أرسل كلبي قال إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وقال أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر قال لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك فثبت بهذا الخبر مراد الله تعالى بقوله فكلوا مما أمسكن عليكم ونص النبي صلى الله عليه وسلم -

على النهي عن أكل ما أكل منه الكلب فإن قيل قد روى حبيب المعلم عن عمرو
بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ثعلبة الخشني فكل مما أمسك عليك الكلب قال فإن أكل منه قال وإن أكل منه قيل له هذا اللفظ غلط في حديث أبي ثعلبة وذلك لأن حديث أبي ثعلبة قد رواه عنه أبو إدريس الخولاني وأبو أسماء وغيرهم فلم يذكر فيه هذا اللفظ وعلى أنه لو ثبت في حديث أبي ثعلبة كان حديث عدي بن حاتم أولى من وجهين أحدهما من موافقته لظاهر الآية في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم والثاني ما فيه من حظر ما أكل منه الكلب ومتى ورد خبران في أحدهما حظر شيء وفي

الآخر إباحته فخبر الحظر أولاهما بالاستعمال فإن قيل في معنى قوله فكلوا مما أمسكن عليكم أن يحبسه علينا بعد قتله له فهذا هو إمساكه علينا فيقال له هذا غلط لأنه قد صار محبوسا بالقتل فلا يحتاج الكلب إلى أن يحبسه علينا بعد قتله فهذا لا معنى له فإن قيل قتله هو حبسه عليه قيل له هذا أيضا لا معنى له لأنه يصير تقديره الآية على هذا فكلوا مما قتلن عليكم وهذا يسقط فائدة الآية لأن إباحة ما قتلته قد تضمنته الآية قبل ذلك في قوله تعالى وما علمتم من الجوارح وهو يعني صيد ما علمنا من الجوارح جوابا لسؤال من سأل عن المباح منه وعلى أن الإمساك ليس بعبارة عن القتل لأنه قد يمسكه علينا وهو حي غير مقتول فليس إمساكه علينا إذا إلا أن يحبسه حتى يجيء صاحبه ولا يخلو الإمساك علينا من أن يكون حبسه إياه علينا من غير قتل أو حبسه علينا بعد قتله أو تركه للأكل منه بعد قتله ومعلوم أنه لم يرد به حبسه علينا وهو حي غير مقتول لاتفاق الجميع على أن ذلك غير مراد وإن حبسه علينا حيا ليس بشرط في إباحة أكله لأنه لو كان كذلك لكان لا يحل أكل ما قتله ولا يجوز أيضا أن يكون المراد حبسه علينا بعد وإن أكل منه لأن ذلك لا معنى له لأن الله تعالى جعل إمساكه علينا شرطا في الإباحة ولا خلاف أنه لو قتله ثم تركه وانصرف عنه ولم يحبسه علينا أنه يجوز أكله فعلمنا أن ذلك غير مراد فثبت أن المراد تركه الأكل
فإن قيل قوله فكلوا مما أمسكن عليكم يقتضي إباحة ما بقي من الصيد بعد أكله لأنه قد أمسكه علينا إذا لم يأكله وإنما لم يمسك علينا المأكول منه دون ما بقي منه فقد اقتضى ظاهر الآية إباحة أكل الباقي إذ هو ممسك علينا
قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن من روي عنه معنى الإمساك من السلف قالوا فيه قولين أحدهما أن لا يأكل منه وهو قول ابن عباس وقول من قال حبسه علينا بعد القتل ولم يقل أحد منهم إن ترك أكل الباقي منه بعد ما أكل هو إمساك فبطل هذا القول والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فلم يجعله ممسكا علينا ما بقي منه إذا كان قد أكل منه شيئا والثالث أنه يصير في معنى قوله فكلوا مما قتله من غير ذكر إمساك إذ معلوم أن ما قد أكله لا يجوز أن يتناوله الحظر فيؤدي ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر إمساكه علينا وأيضا فإنه إذا أكل منه فقد علمنا أنه إنما اصطاد لنفسه وأمسكه عليها ولم يمسكه علينا باصطياد وتركه أكل بعضه بعد ما أكل

منه ما أكل لا يكسبه في الباقي حكم الإمساك علينا لأنه لا يجوز أن يترك أكل الباقي لأنه قد شبع ولم يحتج إليه لا لأنه أمسكه علينا وفي أكله منه بديا دلالة على أنه لم يمسكه علينا باصطياده وهذا الذي يجب علينا اعتباره في صحة التعليم وهو أن يعلم أنه ينبغي أن يصطاده لنا ويمسكه علينا فإذا أكل منه علمنا أنه لم يبلغ حد التعليم فإن قيل الكلب إنما يصطاد ويمسك لنفسه لا لصاحبه ألا ترى أنه لو كان شبعان حين أرسل لم يصطد وهو إنما يضرى على الصيد بأن يطعم منه فليس إذا في أكله منه نفي التعليم والإمساك علينا ولو اعتبر ما ذكرتم فيه لاحتجنا إلى اعتبار نية الكلب وضميره وذلك مما لا نعلمه ولا نقف عليه بل لا نشك أن نيته وقصده لنفسه قيل له أما قولك أنه يصطاد ويمسك لنفسه فليس كذلك لأنه لو كان كذلك لما ضرب حتى يترك الأكل ولما تعلم ذلك إذا علم فلما كان إذا علم ترك الأكل تعلم ذلك ولم يأكل منه علمنا أنه متى ترك الأكل فهو ممسك له علينا معلم لما شرط الله تعالى من تعليمه فهو حينئذ مصطاد لصاحبه ممسك عليه وقولك إنه لو كان يصطاد لصاحبه لكان يصطاد في حال الشبع فهو يصطاد في حال الشبع لصاحبه ويمسكه عليه إذا أرسله صاحبه وهو إذا كان معلما لم يمتنع من الاصطياد إذا أرسله وأما قولك أنه يضرى على الصيد بانه يطعم منه فإنه إنما يطعمه منه بعد إمساكه على صاحبه وأما ضمير الكلب ونيته فإن الكلب يعلم ما يراد منه بالتعليم فينتهي إليه كما يعرف الفرس ما يراد منه بالزجر ورفع السوط ونحوه والذي يعلم به ذلك من الكلب تركه للأكل ومتى أكل منه فقد علم منه أنه قصد بذلك إمساكه على نفسه دون صاحبه
ومما يدل على ما ذكرنا وأن تعليم الكلب إنما يكون بتركه الأكل أنه معلوم أنه ألوف غير مستوحش فلا يجوز أن يكون تعليمه ليتألف ولا يستوحش فوجب أن يكون بتركه الأكل والبازي من جوارح الطير هو مستوحش في الأصل ولا يجوز أن يكون تعليمه بأن يضرب ليترك الأكل فثبت أن تعليمه بألفه لصاحبه وزوال الوحشة منه بأن يدعوه فيجيبه فيزول بذلك عن طبعه الأول ويكون ذلك علما لتعليمه
وقوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم قيل فيه أن من دخلت للتبعيض ويكون معنى التبعيض فيه أن بعض ما يمسكه عليه مباح دون جميعه وهو الذي يجرحه فيقتله دون ما يقتله بصدمه من غير جراحة وقال بعضهم أن من ههنا زائدة للتأكيد كقوله تعالى يكفر عنكم من سيئاتكم وقال بعض النحويين هذا خطأ

لأنها لا تزاد في الموجب وإنما تزاد في النفي والاستفهام وقوله تعالى يكفر عنكم من سيئاتكم ابتداء الغاية أي يكفر عنكم أعمالكم التي تحبون سترها عليكم من سيئاتكم قال ويجوز أن يكون بمعنى يكفر عنكم من السيئات ما يجوز تكفيره في الحكمة دون مالا يجوز لأنه خطاب عام لسائر المكلفين وقال أبو حنيفة في الكلب إذا أكل من الصيد وقد صاد قبل ذلك صيدا ولم يأكل منه أن جميع ما تقدم حرام لأنه قد تبين حين أكل أنه لم يكن معلما وقد كان الحكم بتعليمه بديا حين ترك الأكل من طريق الاجتهاد وغالب الظن والحكم بنفي التعليم عند الأكل من طريق اليقين ولا حظ للاجتهاد مع اليقين وقد يترك الأكل بديا وهو غير معلم كما يترك سائر السباع فرائسها عند الاصطياد ولا يأكلها ساعة الاصطياد فإنما يحكم إذا كثر منه ترك الأكل التعليم من جهة غالب الظن فإذا أكل منه بعد ذلك حصل اليقين بنفي التعليم فيحرم ما قد اصطاده قبل ذلك وقال أبو يوسف ومحمد إذا ترك الأكل ثلاث مرات فهو معلم فإن أكل بعد ذلك لم يحرم ما تقدم من صيده لأنه جائز أن يكون قد نسي التعليم فلم يحرم ما قد حكم بإباحته بالاحتمال وينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة محمولا على أنه أكل في مدة لا يكاد ينسى يها فإن تطاولت المدة في الاصطياد ثم اصطاد فأكل منه وفي مثل تلك المدة يجوز أن ينسى فإنه ينبغي أن لا يحرم ما تقدم ويكون موضع الخلاف بينه وبين أبي يوسف ومحمد أنهما يعتبران في شرط التعليم ترك الأكل ثلاث مرات وأبو حنيفة لا يحده وإنما يعتبر ما يغلب في الظن من حصول التعليم فإذا غلب في الظن أنه معلم بترك الأكل ثم أرسل مع قرب المدة فأكل منه فهو محكوم بأنه غير معلم فيما ترك أكله وإن تطاولت المدة بإرساله بعد ترك الأكل حتى يظن في مثلها نسيان التعليم لم يحرم ما تقدم وأبو يوسف ومحمد يقولان إذا ترك الأكل ثلاث مرات ثم اصطاده فأكل في مدة قريبة أو بعيدة لم يحرم ما تقدم من صيده فيظهر موضع الخلاف بينهم ههنا قوله تعالى واذكروا اسم الله عليه قال ابن عباس والحسن والسدي يعني على إرسال الجوارح قال أبو بكر قوله واذكروا اسم الله عليه أمر يقتضي الإيجاب ويحتمل أن يرجع إلى الأكل المذكور في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم ويحتمل أن يعود إلى الإرسال لأن قوله وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله قد تضمن إرسال الجوارح المعلمة على الصيد فجائز عود الأمر

بالتسمية إليه ولو احتماله لذلك لما تأوله السلف عليه وإذا كان ذلك كذلك وقد تضمن الأمر بالذكر إيجابه واتفقوا أن الذكر غير واجب على الكل فوجب استعمال حكمه على الإرسال إذ كان مختلفا فيه وإذا كانت التسمية واجبة على الإرسال صارت من شرائط الذكاة كتعليم الجوارح وكون المرسل ممن تصح ذكاته وإسالة دم الصيد بما يجرح وله حد فإذا تركها لم تصح ذكاته كما لا تصح ذكاته مع ترك ما ذكرنا من شرائط الذكاة والذي تقتضيه الآية فساد الذكاة عند ترك التسمية عامدا وذلك لأن الأمر لا يتناول الناسي إذ لا يصح خطابه فلذلك قال أصحابنا إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة إذ هو غير مكلف بها في حال النسيان وسنذكر إيجاب التسمية على الذبيحة عند قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إذا انتهينا إليه إن شاء الله
وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر قال أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عبدالله بن أبي السفر عن الشعبي قال قال عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقلت أرسل كلبي قال إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وقال أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر قال لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك فنهاه عن أكل مالم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية
عليه وقد اختلف الفقهاء في أشياء من أمر الصيد منها الاصطياد بكلب المجوسي فقال أصحابنا ومالك والأوزاعي والشافعي لا بأس بالاصطياد بكلب المجوسي إذا كان معلما وإن كان الذي عمله مجوسيا بعد أن يكون الذي أرسله مسلما وقال الثوري أكره الاصطياد بكلب المجوسي إلا أن يأخذه من تعليم المسلم
قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم يقتضي جواز صديه وإباحة أكله ولم يفرق بين أن يكون مالكه مسلما أو مجوسيا وأيضا فإن الكلب آلة كالسكين يذبح بها والقوس يرمى عنها فواجب أن لا يختلف حكم الكلب لمن كان كسائر الآلات التي يصطاد بها وأيضا فلا اعتبار بالكلب وإنما الاعتبار بالمرسل ألا ترى أن مجوسيا لو اصطاد بكلب مسلم لم يجز أكله وكذلك اصطياد المسلم بكلب المجوسي ينبغي أن يحل أكله
فإن قيل قال الله تعالى يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من

الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ومعلوم أن ذلك خطاب للمؤمنين فواجب أن يكون تعليم المسلم شرطا في الإباحة
قيل له لا يخلو تعليم المجوسي من أن يكون مثل تعليم المسلم المشروط في إباحة الذكاة أو مقصرا عنه فإن كان مثله فلا اعتبار بالمعلم وإنما الاعتبار بحصول التعليم ألا ترى أنه لو ملكه مسلم وهو معلم كتعليم المسلم جاز أكل ما صاده فإذا لا اعتبار بالملك وإنما الاعتبار بالتعليم وإن كان تعليم المجوسي مقصرا عن تعليم المسلم حتى يخل عند الاصطياد ببعض شرائط الذكاة فهذا كلب غير معلم ولا يختلف حينئذ حكم ملك المجوسي والمسلم في حظر ما يصطاده وأما قوله تعلمونهن مما علمكم الله فإنه وإن كان خطابا للمسلمين فالمقصد فيه حصول التعليم للكلب فإذا علمه المجوسي كتعليم المسلم فقد وجد المعنى المشروط فلا اعتبار بعد ذلك بملك المجوسي
واختلفوا في الصيد يدركه حيا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيمن يدرك صيد الكلب أو السهم فيحصل في يده حيا ثم يموت فإنه لا يؤكل وإن لم يقدر على ذبحه حتى مات وقال مالك والشافعي إن لم يقدر على ذبحه حتى مات أكل وإن مات في يده وإن قدر على ذبحه فلم يذبحه لم يؤكل وإن لم يحصل في يده وقال الثوري إن قدر أن يأخذه من الكلب فيذبحه فلم يفعل لم يؤكل وقال الأوزاعي إذا أمكنه أن يذكيه ولم يفعل لم يؤكل وإن لم يمكنه حتى مات بعد ما صار في يده أكل وقال الليث إن أدركه في في الكلب فأخرج سكينة من خفه أو منطقته ليذبحه فمات أكله وإن ذهب ليخرج السكين من خرجه فمات قبل أن يذبحه لم يأكله قال أبو بكر إذا حصل في يده حيا فلا اعتبار بإمكان ذبحه أو تعذره في أن شرط ذكاته الذبح وذلك لأن الكلب إنما حل صيده لامتناع الصيد وتعذر الوصول إليه إلا من هذه الجهة فإذا حصل في يده حيا فقد زال المعنى الذي من أجله أبيح صيده صار بمنزلة سائر البهائم التي يخاف عليها الموت فلا تكون ذكاته إلا بالذبح سواء مات في وقت لا يقدر على ذبحه أو قدر عليه والمعنى فيه كونه حيا
فإن قيل إنما لم تكن ذكاة سائر البهائم إلا بالذبح لأن ذبحها قد كان مقدورا عليه ولو مات حتف أنفها لم يكن ذلك ذكاة وجراحة الكلب والسهم قد كانت تكون ذكاة للصيد لو لم يحصل في يده حتى مات فإذا صار في يده ولم يبق من حياته بمقدار ما يدرك ذكاته فهو مذكى بجراحة الكلب وهو بمنزلة ما لو صار في يده بعد الموت
قيل له هذا على وجهين أحدهما

أن يكون الكلب قد جرحه جراحة لا يعاش من مثلها إلا مثل حياة المذبوح وذلك بأن قد قطع أوداجه أو شق جوفه فأخرج حشوته فإذا كان ذلك كذلك كانت جراحته ذكاة له سواء أمكن بعد ذلك ذبحه أو لم يمكن فهذا الذي تكون جراحة الكلب ذكاة له وأما الوجه الآخر فهو أن يعيش من مثلها إلا أنه اتفق موته بعد وقوعه في يده في وقت لم يكن يقدر على ذبحه فهذا لا يكون مذكى لأن تلك الجراحة قد كانت مراعاة على حدوث الموت قبل حصوله في يده وإمكان ذكاته فإذا صار في يده حيا بطل حكم الجراحة وصار بمنزلة سائر البهائم التي يصيبها جراحات غير مذكية لها مثل المتردية والنطيحة وغيرهما فلا يكون ذكاته إلا بالذبح
واختلفوا في الصيد يغيب عن صاحبه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا توارى عنه الصيد والكلب وهو في طلبه فوجده قد قتله جاز أكله وإن ترك الطلب واشتغل بعمل غيره ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولا والكلب عنده كرهنا أكله وكذلك قالوا في السهم إذا رماه به فغاب عنه وقال مالك إذا أدركه من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جراحة وإن بات عنه لم يأكله وقال الثوري إذا رماه فغاب عنه يوما أو ليلة كرهت أكله وقال الأوزاعي إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا في أكله وقال الشافعي القياس أن لا يأكله إذا غاب عنه
قال أبو بكر روي عن ابن عباس أنه قال كل ما أصميت ودع ما أنميت وفي خبر آخر عنه وما غاب عنك ليلة فلا تأكله والإصماء ما أدركه من ساعته والإنماء ما غاب عنه وروى الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن عبدالله بن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في الصيد إذا غاب عنك مصرعه كرهه وذكر هوام الأرض وأبو رزين هذا ليس بأبي
رزين العقيلي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم - وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل
ويدل على أنه إذا تراخى عن طلبه لم يأكله أنه لا خلاف أنه لو لم يغب عنه وأمكنه أن يدرك ذكاته فلم يفعل حتى مات أنه لا يؤكل فإذا لم يترك الطلب وأدركه ميتا فقد علمنا أنه لم يكن يدرك ذكاته فكان قتل الكلب أو السهم له ذكاة له وإذا تراخى عن الطلب فجائز أن يكون لو طلبه في فوره أدرك ذكاته ثم لم يفعل حتى مات فإنه لا يؤكل فإذا لم يترك الطلب وأدرك حياته تيقن أن قتل الكلب ليس بذكاة له فلا يجوز أكله ألا ترى أنه النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لعدي بن حاتم وإن شاركه كلب آخر فلا تأكله فلعله أن يكون الثاني قتله
فحظر

الشارع ص - أكله حين جوز أن يكون قتله كلب آخر فكذلك إذا جاز أن يكون مما كان يدرك ذكاته لو طالبه فلم يفعل وجب أن لا يؤكل لتجويز هذا المعنى فيه فإن قيل روى معاوية بن صالح عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الذي يدرك صيده بعد ثلاث يأكله إلا أن ينتن وروي في بعض الألفاظ إذا أدركت بعد ثلاث وسهمك فيه فكله مالم ينتن قيل له قد اتفق الجميع على رفض هذا الخبر وترك استعماله من جوه أحدها أن أحدا من الفقهاء لا يقول أنه إذا وجده بعد ثلاث يأكله والثاني أنه أباح له أكله مالم ينتن ولا اعتبار عند أحد بتغير الرائحة والثالث أن تغير الرائحة لا حكم له في سائر الأشياء وإنما الحكم يتعلق بالذكاة أو فقدها فإن كان الصيد مذكى مع تراخي المدة فلا حكم للرائحة وإن كان غير مذكى فلا حكم أيضا لعدم تغيره وقد روى محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة عن رجل من نهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

مر بالروحاء فإذا هو بحمار وحش عقير فيه سهم قد مات فقال رسول الله ص
- دعوه حتى يجيء صاحبه فجاء النهدي فقال يا رسول الله هي رميتي فكلوه فأمر أبا بكر أن يقسم بين الرفاق وهم محرمون فمن الناس من يحتج بذلك في إباحة أكله إن تراخى عن طلبه لترك النبي صلى الله عليه وسلم -
مسألته عن ذلك ولو كان ذلك يختلف حكمه لسأله وليس في هذادليل على ما ذكر
من قبل أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - شاهد هذا الحمار على حال استدل بها على قرب وقت الجراحة من سيلان الدم وطراوته ومجيء الرامي عقبه فعلم أنه لم يتراخ عن طلبه فلذلك لم يسأله
فإن قيل روى هشيم عن أبي هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله إنا أهل صيد يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين يتبع أثره بعد ما يصبح فيجد سهمه فيه قال إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكله
قيل له هذا يوجب أن يكون لو أصابه بعد ليال كثيرة أن يأكله إذا علم أن سهمه قتله ولا نعلم ذلك قول أحد من أهل العلم لأنه اعتبر العلم بأن سهمه قتله وأيضا فإنه لا يحصل له العلم بأن سهمه قتله بعد ما تراخى عن طلبه وقد شرط ص - حصول العلم بذلك فإذا لم يعلم بذلك فواجب أن لا يأكله وهو لا يعلم إذا تراخى عن طلبه وطالت المدة أن سهمه قتله ويدل على صحة قول أصحابنا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال

حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا محمد بن سليمان عن مشمول عن عمرو بن تميم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول إنا أهل بدو ونصيد بالكلاب المعلمة ونرمي الصيد فما يحل لنا من ذلك وما يحرم علينا قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل مما أمسك عليك أكل أو لم يأكل قتل أو لم يقتل وإذا رميت الصيد فكل مما أصميت ولا تأكل مما أنميت فحظر ما أنمي وهو غاب عنه وهو محمول على ما غاب عنه وتراخى عن طلبه لأنه لا خلاف أنه إذا كان في طلبه فأكل إن قيل فقد أباح في هذا الحديث أكل ما أكل منه الكلب وهو خلاف قولكم قيل له قد عارضه حديث عدي بن حاتم وقد تقدم الكلام فيه قوله تعالى اليوم أحل لكم الطيبات فإنه جائز أن يريد به اليوم الذي نزلت فيه الآية ويجوز أن يريد به اليوم الذي تقدم ذكره في موضعين أحدهما قوله اليوم يئس الذين كفروا من دينكم والآخر قوله تعالى اليوم أكملت لكم دينكم قيل أنه يوم عرفة في حجة الوداع وقيل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم - كله على ما قدمنا من اختلاف السلف فيه والطيبات ههنا يجوز أن يريد بها ما استطبناه واستلذذناه ما عدا ما بين تحريمه في هذه الآيات وفي غيرها فيكون عموما في إباحة جميع المتلذذات إلا ما قام دليل حظره ويحتمل أن يريد بالطيبات ما اباحه لنا من سائر الأشياء التي ذكر إباحتها في غير هذا الموضع وقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم روي عن ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة والسدي أنه ذبائحهم وظاهره يقتضي ذلك لأن ذبائحهم من طعامهم ولو استعملنا اللفظ على عمومه لانتظم جميع طعامهم من الذبائح وغيرها والأظهر أن يكون المراد الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم من الخبز والزيت وسائر الأدهان لا يختلف حكمها بمن يتولاه ولا شبهة في ذلك على أحد سواء كان المتولي لصنعه واتخاذه مجوسيا أو كتابيا ولا خلاف فيه بين المسلمين وما كان منه غير مذكى لا يختلف حكمه في إيجاب حظره بمن تولى إماتته من مسلم أو كتابي أو مجوسي فلما خص الله تعالى طعام أهل الكتاب بالإباحة وجب أن يكون محمولا على ا لذبائح التي يختلف حكمها باختلاف الأديان وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أكل من الشاة المسمومة المشوية التي أهدت إليه اليهودية ولم يسئلها عن ذبيحتها أهي من ذبيحة المسلم أم اليهودي واختلف الفقهاء فيمن انتحل دين أهل الكتاب من العرب فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من كان يهوديا أونصرانيا من العرب والعجم

فذبيحته مذكاة إذا سمى الله عليها وإن سمى النصراني عليها باسم المسيح لم تؤكل ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك وقال مالك ما ذبحوه لكنائسهم أكره أكله وما سمي عليه باسم المسيح لا يؤكل والعرب والعجم فيه سواء وقال الثوري إذا ذبح وأهل به لغير الله كرهته وهو قول إبراهيم وقال الثوري وبلغني عن عطاء أنه قال قد أحل الله ما أهل به لغير الله لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول وقال الأوزاعي إذا سمعته يرسل كلبه باسم المسيح أكل وقال فيما ذبح أهل الكتابين لكنائسهم وأعيادهم كان مكحول لا يرى به بأسا ويقول هذه كانت ذبائحهم قبل نزول القرآن ثم أحلها الله تعالى في كتابه وهو قول الليث بن سعد وقال الربيع عن الشافعي لا خير في ذبائح نصارى العرب من بني تغلب قال ومن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول القرآن فهو خارج من أهل الأوثان وتقبل منه الجزية عربيا كان أو عجميا ومن دخل عليه إسلام ولم يدن بدين أهل الكتاب فلا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف قال أبو بكر وقد روي عن جماعة من السلف القول في أهل الكتاب من العرب لم يفرق أحد منهم فيه بين من دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده ولا نعلم أحدا من السلف أو الخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله لا إكراه في الدين قال كانت المرأة من الأنصار لا يعيش لها ولد فتحلف لأن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار فقالت الأنصار يا رسول الله أبناؤها فأنزل الله لا إكراه في الدين قال سعيد فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام فلم يفرق فيما ذكر بين من دان باليهودية قبل نزول القرآن وبعده
وروى عبادة بن نسي عن غضيف بن الحارث أن عاملا لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناسا من السامرة يقرؤن التوراة ويسبتون السبت ولا يؤمنون بالبعث فما ترى فكتب إليه عمر أنهم طائفة من أهل الكتاب وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب فقال لا تحل ذبائحهم فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر
وروى عطاء بن

السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال في كتابه ومن يتولهم منكم فإنه منهم فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية كانوا منهم ولم يفرق أحد من هؤلاء بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده فهو إجماع منهم
ويدل على بطلان هذه المقالة من التفرقة بين من دان بدين أهل الكتاب قبل نزول القرآن أو بعده قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم وذلك إنما يقع على المستقبل فأخبر تعالى بعد نزول القرآن أن من يتولهم من العرب فهو منهم وذلك يقتضي أن يكون كتابيا لأنهم أهل الكتاب وأن تحل ذبائحهم لقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ومن الناس من يزعم أن أهل الكتاب هم بنو إسرائيل الذين ينتحلون اليهودية والنصرانية دون من سواهم من العرب والعجم الذين دانوا بدينهم ولم يفرقوا في ذلك بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده ويحتجون في ذلك بقوله ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة فأخبر أن الذين آتاهم الكتاب هم بنو إسرائيل وبحديث عبيدة السلماني عن علي أنه قال لا تحل ذبائح نصارى العرب لأنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر
أما الآية فلا دلالة فيها على قولهم لأنه إنما أخبر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب ولم ينف بذلك أن يكون من انتحل دينهم في حكمهم وقد قال ابن عباس تحل ذبائحهم لقوله تعالى لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم وقول علي رضي الله عنه في ذلك وحظر ذبائح نصارى العرب ليس من جهة أنهم من غير بني إسرائيل لكن من قبل أنهم غير متمسكين بأحكام تلك الشريعة لأنه قال إنهم لا يتعلقون من دينهم إلا بشرب الخمر ولم يقل لأنهم ليسوا من بني إسرائيل فقول من قال إن أهل الكتاب لا يكونون إلا من بني إسرائيل وإن دانوا بدينهم قول ساقط مردود وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة عن حذيفة عن عدي بن حاتم قال أتينا النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال لي رسول الله ص
- يا عدي بن حاتم أسلم تسلم فقلت له إن لي دينا فقال أنا أعلم بدينك منك قلت أنت أعلم بديني مني قال نعم ألست ركوسيا قال قلت بلى قال ألست ترأس قومك قال قلت بلى قال ألست تأخذ المرباع قال

قلت بلى قال فإن ذلك لا يحل لك في دينك قال فكأني رأيت أن علي بها غضاضة وكأني تواضعت بها وروى عبدالسلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم -

وفي عنقي صليب ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ اتخذوا
أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال قلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله عز و جل فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه قال فتلك عبادتهم وفي هذين الخبرين ضروب من الدلالة على ما ذكرنا أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نسبه إلى متخذي الأحبار والرهبان أربابا وهم اليهود والنصارى ولم ينف ذلك عنه من حيث كان عربيا وقال في الحديث الأول ألست ركوسيا وهم صنف من النصارى فلم يخرجه عنهم بأخذهم المرباع وهو ربع الغنيمة وليس ذلك من دين النصارى لأن في دينهم أن الغنائم لا تحل فهذا يدل على أن ترك التمسك بما ينتحله المنتحلون للأديان لا يخرجهم من أن يكونوا من أهل تلك الشريعة وذلك الدين ويدل على أن العرب وبني إسرائيل سواء فيما ينتحلون من دين أهل الكتاب وأنهم غير مختلفي الأحكام ولما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم - عما انتحله من دين النصارى أكان قبل نزول القرآن أو بعده ونسبه إلى فرقة منهم من غير مسألة دل على أنه لا فرق بين من انتحل ذلك قبل نزول القرآن أو بعده والله أعلم
باب
تزوج الكتابيات
قال الله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال أبو بكر اختلف في المراد بالمحصنات ههنا فروي عن الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي أنهم العفائف وروي عن عمر ما يدل على أن المعنى عنده ذلك وهو ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت بن بهرام عن شقيق بن سلمة قال تزوج حذيفة بيهودية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه حذيفة أحرام هي فكتب إليه عمر لا ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن قال أبو عبيد يعني العواهر فهذا يدل على أن معنى الإحصان عنده ههنا كان على العفة وقال مطرف عن الشعبي في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها وروى ابن

أبي نجيح عن مجاهد والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال الحرائر قال أبو بكر الاختلاف في نكاح الكتابية على أنحاء مختلفة منها إباحة نكاح الحرائر منهن إذا كن ذميات فهذا لا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئا يروى عن ابن عمر أنه كرهه حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالله بن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب ويكره نكاح نسائهم قال جعفر وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن الليث قال حدثني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال إن الله حرم المشركات على المسلمين ولا أعلم من الشرك شيئا أعظم من أن تقول ربها عيسى بن مريم أو عبد من عبيد الله
قال أبو عبيد وحدثني علي بن معبد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال قلت لابن عمر إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فقرأ علي آية التحليل وآية التحريم قال قلت إني أقرأ ما تقرأ أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فأعاد علي آية التحليل وآية التحريم
قال أبو بكر يعني بآية التحليل والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وبآية التحريم ولا تنحوا المشركات حتى يؤمن فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامها تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميات سوى ابن عمر وجعلوا قوله ولا تنكحوا المشركات خاصا في غير أهل الكتاب حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن حماد قال سألت سعيد بن جبير عن نكاح اليهودية والنصرانية قال لا بأس قال قلت فإن الله تعالى قال ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال أهل الأوثان والمجوس وقد روي عن عمر ما قدمنا ذكره
وروي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية وتزوجها على نسائه وروي عن طلحة بن عبيدالله أنه تزوج يهودية من أهل الشام وتروى إباحة ذلك عن عامة التابعين منهم الحسن وإبراهيم والشعبي في آخرين منهم ولا يخلو قوله

تعالى ولا تنكحوا المشركات من أحد معنيين إما أن يكون إطلاقه مقتضيا لدخول الكتابيات فيه أو مقصورا على عبدة الأوثان غير الكتابيات فإن كان إطلاق اللفظ يتناول الجميع فإن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يخصه ويكون قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات مرتبات عليه لأنه متى أمكننا استعمال الآيتين على معنى ترتيب العام على الخاص وجب استعمالهما ولم يجز لنا نسخ الخاص بالعام إلا بيقين وإن كان قوله ولا تنكحوا المشركات إنما يتناول إطلاقه عبدة الأوثان على ما بيناه في غير هذا الموضع فقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ثابت الحكم إذ ليس في القرآن ما يوجب نسخه فإن قيل قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إنما المراد به اللاتي كن كتابيات فأسلمن كما قال تعالى في آية أخرى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم وقوله تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر والمراد من كان من أهل الكتاب فأسلم كذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المراد به من كان من أهل الكتاب فأسلم
قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى الطائفتين من اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ولا يطلق أحد على المسلمين أنهم أهل الكتاب كمالا يطلق عليهم أنهم يهود أو نصارى والله تعالى حين قال وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله فإنه لم يطلق الاسم عليهم إلا مقيدا بذكر الإيمان عقيبه وكذلك قال من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون فذكر إيمانهم بعد وصفهم أنهم أهل الكتاب ولست واجدا في شيء من القرآن إطلاق أهل الكتاب من غير تقييد إلا وهو يريد به اليهود والنصارى والثاني أنه قد ذكر المؤمنات في قوله والمحصنات من المؤمنات فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات فأسلمن وممن نشأ منهن على الإسلام فغير جائز أن يعطف عليه مؤمنات كن كتابيات فوجب أن يكون قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وأيضا فإن ساغ التأويل الذي ادعاه من خالف في ذلك فغير جائز لنا الانصراف عن الظاهر إلى غيره إلا بدلالة وليس معناه دلالة

توجب صرفه عن الظاهر وأيضا فلو حمل على ذلك لزالت فائدته إذ كانت مؤمنة وقد تقدم في الآية ذكر المؤمنات
وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب وأن المراد به اليهود والنصارى كذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب هو على الكتابيات دون المؤمنات ويحتج للقائلين بتحريمهمن بقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر قيل له إنما ذلك في الحربية إذا خرج زوجها مسلما أو الحربي تخرج امرأته مسلمة ألا ترى إلى قوله واسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا وأيضا فلو كان عموما لخصه قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وقد اختلف في نكاح الكتابيات من وجه آخر فقال ابن عباس لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا وتلا هذه الآية قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله وهم صاغرون قال الحكم حدثت بذلك إبراهيم فأعجبه ولم يفرق في غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات والذميات وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن قال أبو بكر ومما يحتج به لقول ابن عباس قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله والنكاح يوجب المودة بقوله تعالى خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليا وجعل بينكم مودة ورحمة فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورا لأن قوله تعالى يوادون من حاد الله ورسوله إنما يقع على أهل الحرب لأنهم في حد غير حدنا وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة وأصحابنا يكرهون مناكحات أهل الحرب من أهل الكتاب
وقد اختلف السلف في نكاح المرأة من بني تغلب فروي عن علي أنه لا يجوز لأنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وهو قول إبراهيم وجابر بن زيد وقال ابن عباس لا بأس بذلك لأنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم واختلف أيضا في نكاح الأمة الكتابية وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه في سورة النساء ومن تأول قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم على الحرائر جعل الإباحة مقصورة على نكاح الحرائر من الكتابيات ومن تأوله على العفة أباح نكاح الإماء الكتابيات
واختلف في المجوس فقال جل السلف وأكثر الفقهاء ليسوا أهل الكتاب وقال آخرون هم أهل الكتاب والقائلون بذلك شواذ والدليل

على أنهم ليسوا أهل الكتاب قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فأخبر تعالى أن أهل الكتاب طائفتان فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف ألا ترى أن من قال إنما لي على فلان جبتان لم يكن له أن يدعي أكثر منه وقول القائل إنما لقيت اليوم رجلين ينفي أن يكون قد لقي أكثر منهما فإن قيل إنما حكى الله ذلك عن المشركين وجائز أن يكونوا قد غلطوا قيل له إن الله لم يحك هذا القول عن المشركين ولكنه قطع بذلك عذرهم لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين فهذا إنما هو قول الله واحتجاج منه على المشركين في قطع عذرهم بالقرآن وأيضا فإن المجوس لاينتحلون شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه وإنما يقرؤن كتاب زرادشت وكان متنبيا كذابا فليسوا إذا أهل كتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب حديث يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال عمر ما أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب فقال عبدالرحمن بن عوف سمعت رسول اله ص -

يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب ولم يخالفه
عبدالرحمن ولا غيره من الصحابة وروى عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب فلو كانوا أهل الكتاب لما قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولقال هم من أهل الكتاب وفي حديث آخر أنه أخذ الجزية من مجوس هجر وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب
فإن قيل إن لم يكونوا أهل كتاب فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم - حكمهم حكم أهل الكتاب بقوله سنوا بهم سنة أهل الكتاب قيل له إنما قال ذلك في الجزية خاصة وقد روي ذلك في غير هذا الخبر وروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام قال فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وقد روي النهي عن صيد المجوس عن علي وعبدالله وجابر بن عبدالله والحسن وسعيد بن المسيب وأبي رافع وعكرمة وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهل كتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كتب إلى صاحب الروم يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب وروي في قوله تعالى الم غلبت الروم أن المسلمين أحبوا غلبة الروم لأنهم أهل كتاب

وأحبت قريش غلبة فارس لأنهم جميعا ليسوا بأهل الكتاب فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه والقصة في ذلك مشهورة وأما من قال إنهم كانوا أهل كتاب ثم ذهب منهم بعد ذلك ويجعلهم من أجل ذلك من أهل الكتاب فإن هذا لا يصح ولا يعلم ثبوته وإن ثبت اوجب أن لا يكونوا من أهل الكتاب لأن الكتاب قد ذهب منهم وهم الآن غير منتحلين لشيء من كتب الله تعالى وقد اختلف في الصابئين هم من أهل الكتاب أم لا فروي عن أبي حنيفة أنهم أهل كتاب وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئون الذين هم عنده من أهل الكتاب قوم ينتحلون دين المسيح ويقرؤن الإنجيل فأما الصابئون الذين يعبدون الكواكب وهم الذين بناحية حران فإنهم ليسوا بأهل كتاب عندهم جميعا
قال أبو بكر الصابئون الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فهيم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في سواد واسط وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة وعبادتها واتخاذها آلهة وهم عبدة الأوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق مملكة الصابئين وكانوا نبطا لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا لأنهم منعوهم من ذلك وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ودخلوا في عمار النصارى في الظاهر وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان فلما ظهر الإسلام دخلوا في جملة النصارى ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان كاتمين لأصل الاعتقاد وهم أكتم الناس لاعتقادهم ولهم أمور وحيل في صبيانهم إذا عقلوا في كتمان دينهم وعنهم أخذت الإسماعيلية كتمان المذهب وإلى مذهبهم انتهت دعوتهم وأصل الجميع اتخاذ الكواكب السبعة آلهة وعبادتها واتخاذها أصناما على أسمائها لا خلاف بينهم في ذلك وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران وبين الذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب في ظني في قول أبي حنيفة في الصابئين أنه شاهد قوما منهم أنهم يظهرون أنهم من النصارى وأنهم يقرؤن الإنجيل وينتحلون دين المسيح تقية لأن كثيرا من الفقهاء لا يرون إقرار معتقدي مقالهم بالجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ومن كان اعتقاده من الصابئين

ما وصفنا فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ليسوا أهل كتاب وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم
باب

الطهارة للصلاة
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية قال أبو بكر ظاهر الآية يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الطهارة وحكم الجزاء أن يتأخر عن الشرط ألا ترى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما يقع الطلاق بعد الدخول وإذا قيل إذا لقيت زيدا فأكرمه أنه موجب للإكرام بعد اللقاء وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة أنه مقتضى اللفظ وحقيقته ولا خلاف بين السلف والخلف أن القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة وأن وجوب الطهارة متعلق بسبب آخر غير قيام فليس إذا هذا اللفظ عموما في إيجاب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة إذ كان الحكم فيه متعلقا بضمير غير مذكور وليس في اللفظ أيضا ما يوجب تكرار وجوب ا لطهارة بعد القيام إلى الصلاة من وجهين أحدهما ما ذكرنا من تعلق الحكم بضمير غير مذكور يحتاج فيه إلى طلب الدلالة عليه من غيره والثاني إذا لا توجب التكرار في لغة العرب ألا ترى أن من قال لرجل إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فدخلها مرة أنه يستحق درهما فإن دخلها مرة أخرى لم يستحق شيئا وكذلك من قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها مرة طلقت فإن دخلتها مرة أخرى لم تطلق فثبت بذلك أنه ليس في الآية دلالة على وجوب تكرار الطهارة لتكرار القيام
بها فإن قيل فلم يتوضأ أحد بالآية إلا مرة واحدة
قيل له قد بينا أن الآية غير مكتفية بنفسها في إيجاب الطهارة دون بيان مراد الضمير بها فقول القائل إنه لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة خطأ لأن الآية في معنى المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد به البيان فهو المراد الذي به تعلق الحكم على وجه الإفراد أو التكرار على حسب ما اقتضاه بيان المراد ولو كان لفظ الآية عموما مقتضيا للحكم فيما ورد غير مفتقر إلى البيان لم يكن أيضا موجبا لتكرار الطهارة عند القيام إليها من جهة اللفظ وإنما كان يوجب التكرار من جهة المعنى الذي علق به وجوب الطهارة وهو الحدث دون القيام إليها
وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا أبو مسلم الكرخي قال حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن علقمة

ابن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال ص - يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر يا رسول الله صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال عمدا فعلته وحدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن يحيى الذهلي قال حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبدالله بن عبدالله بن عمر قال قلت له أرأيت وضوء عبدالله بن عمر لكل صلاة طاهرا أكان أو غير طاهر عمن هو قال حدثتنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبدالله يرى أن
به قوة على ذلك ففعله حتى مات
فقد دل الحديث الأول على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة إذ لم يجدد النبي صلى الله عليه وسلم -
لكل صلاة طهارة فثبت بذلك أن فيه ضميرا به يتعلق إيجاب الطهارة وبين في
الحديث الثاني أن الضمير هو الحدث لقوله ووضع عنه الوضوء إلا من حدث
ويدل على أن الضمير فيه هو الحدث ما روى سفيان الثوري عن جابر عن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبدالله بن علقمة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يكلمنا حتى يأتي أهله
فيتوضأ وضوءه للصلاة فقلنا له في ذلك حين نزلت آية الرخصة يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية فأخبر أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا محمد بن علي بن زيد أن سعيد بن منصور حدثهم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن عبدالله بن أبي مليكة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - خرج من الخلاء فقدم إليه الطعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء قال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة قال أبو بكر سألوه عن الوضوء من الحدث عند الطعام فأخبر أنه أمر بالوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وروى أبو معشر المدني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك وهذا يدل على أن الآية لم تقض إيجاب الوضوء لكل صلاة من وجهين أحدهما أن الآية لو أوجبت ذلك لما قال لأمرت في كل صلاة بوضوء والثاني إخباره بأنه لو أمر به لكان

واجبا بأمره دون الآية وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم قال إذا قمتم من المضجع يعني النوم وقد كان رد السلام محظورا إلا بطهارة وروى قتادة عن الحسن عن حضين أبي ساسان عن المهاجر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهو يتوضأ فسلمت عليه فلما فرغ من وضوئه قال ما منعني ان أرد عليك السلام إلا أني كنت على غير وضوء وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى بن منصور قال أخبرني محمد بن ثابت العبدري قال حدثنا نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما قضى حاجته من ابن عباس كان من حديثه يومئذ قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم - في سكة من سكك المدينة وقد خرج من غائط أو بول فخرج عليه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم - ضرب بكفيه على الحائط ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه إلى المرفقين ثم رد على الرجل السلام وقال لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على وضوء أو قال على طهارة فهذا يدل على أن رد السلام كان مشروطا فيه الطهارة وجائز أن يكون ذلك كان خاصا للنبي ص - لأنه لم يرو أنه نهى عن رد السلام إلا على طهارة ويدل على أن ذلك كان على الوجوب أنه تيمم حين خاف فوت الرد لأن رد السلام إنما يكون على الحال فإذا تراخى فات فكان بمنزلة من خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة إن توضأ فيجوز له التيمم وجائز أن يكون قد نسخ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ويجوز أن يكون هذا الحكم قد كان باقيا إلى أن قبضه الله تعالى وقد روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يتوضؤن لكل صلاة وهذا محمول على أنهم فعلوه استحبابا وقال سعد إذا توضأت فصل بوضوئك مالم تحدث وقد روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس أن عبيد بن عمير كان يتوضأ لكل صلاة ويتأول قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فأنكر ذلك عليه ابن عباس وقد روي نفي إيجاب الوضوء لكل صلاة من غير حدث عن ابن عمر وأبي موسى وجابر بن عبدالله وعبيدة السلماني وأبي العالية وسعيد بن المسيب وإبراهيم والحسن ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك
باب

فضل تجديد الوضوء
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أخبار في فضيلة تجديد الوضوء منها ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن
زيد قال حدثنا سعيد قال حدثنا سلام الطويل عن زيد العمى عن

معاوية بن قرة عن ابن عمر قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ مرة مرة وقال هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من توضأ به ضاعف الله له الأجر مرتين ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي وروي عنه ص - أنه قال الوضوء على الوضوء نور على نور وقال ص - لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة فهذا كله يدل على استحباب الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا وعلى هذا يحمل ما روي عن السلف من تجديد الوضوء عند كل صلاة وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح على نعليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - فثبت بما قدمنا أن قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة غير موجب للوضوء لكل صلاة وثبت أنه غير مستعمل على حقيقته وإن فيه ضميرا به يعلق إيجاب الطهارة وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قام دليل مراده
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم وهذا يدل على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للوضوء لأنه إذا وجب من النوم لم يكن القيام إلى الصلاة بعد ذلك موجبا ألا ترى أنه إذا وجب من النوم لم يجب عليه بعد ذلك من حدث آخر وضوء آخر إذا لم يكن توضأ من النوم فلو كان القيام إلى الصلاة موجبا للوضوء لما وجب من النوم عند إرادة القيام إليها كالسببين إذا كان كل واحد منهما موجبا للوضوء ثم وجب من الأول لم يجب من الثاني وهذا يدل على أن من النوم هو الضمير الذي في الآية فكان تقديره إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم ويدل على أن النوم الموجب للوضوء هو النوم المعتاد الذي يجوز أن يقال فيه أنه قام من النوم ومن نام قاعدا أو ساجدا أو راكعا لا يقال إنه قام من النوم وإنما يطلق ذلك في نوم المضطجع ومن قال إن النوم ليس بحدث وإنما وجب به الطهارة لغلبة الحال في وجود الحدث فيه فإن الآية جالة على وجوب الطهارة من الريح وإذا كان المعنى على ما وصفنا فيكون حينئذ في مضمون الآية إيجاب الوضوء من النوم ومن الريح وقد أريد به أيضا إيجاب الوضوء من الغائط والبول وذلك من ضمير الآية لأنه مذكور في قوله أو جاء أحد منكم من الغائط والغائط هو المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه

لقضاء حوائجهم فيه وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسلس البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سلس البول والمذي ودم الاستحاضة فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية وقد اتفق السلف وسائر فقهاء الأمصار على نفي إيجاب الوضوء على من نام قاعدا غير مستند إلى شيء روى عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس ثم استيقظوا فجاءه عمر فقال
الصلاة يا رسول الله فخرج وصلى ولم يذكر أنهم توضؤا
وروي عن أنس قال كنا نجيء إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ننتظر الصلاة فمنا من نعس ومنا من نام ولا نعيد وضوء وروى نافع عن ابن عمر قال لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في ذلك في غير هذا الموضع وروى أبو يوسف عن محمد بن عبدالله عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه كان يصلي الصبح ولا يتوضأ فسئل عن ذلك فقال إني لست كأحدكم إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي لو أحدثت لعلمته وهذا الحديث يدل على أن النوم في نفسه ليس بحدث وان إيجاب الوضوء فيه إنما هو لما عسى أن يكون فيه من الحدث الذي لا يشعر به وهو الغالب من حال النائم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال العين وكاءا له فإذا نامت العين استطلق الوكاء فلما كان الأغلب في النوم الذي يستثقل فيه النائم وجود الحدث فيه حكم له بحكم ا لحدث هذا إنما هو في النوم المعتاد الذي يضع النائم جنبه على الأرض ويكون في المضطجع من غير علم منه بما يكون منه فإذا كان جالسا أو على حال من أحوال الصلاة لغير ضرورة مثل القيام والركوع والسجود لم تنتقض طهارته لأن هذه أحوال يكون الإنسان فيها محتفظا وإن كان منه حدث علم به وقد روى يزيد بن عبدالرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله
فصل قال أبو بكر قوله تعالى وإذا قمتم إلى الصلاة لما كان ضميره ما وصفنا من القيام من النوم أو إرادة القيام إليها في حال الحدث فأوجب ذلك تقديم الطهارة من

الأحداث للصلاة وكانت الصلاة اسما للجنس يتناول سائرها من المفروضات والنوافل اقتضى ذلك أن تكون من شرائط صحة الصلاة الطهارة أي صلاة إذ لم تفرق الآية بين شيء منها وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم -

ذلك بقوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور
قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يقتضي إيجاب الغسل والغسل اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة وإذا كان هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه فقوله تعالى فاغسلوا وجوهكم إنما المقصد فيه إمرار الماء على الموضع إذ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها فإذا ليس عليه ذلك الموضع بيده وإنما عليه إمرار الماء حتى يجري على الموضع
وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أوجه فقال مالك بن أنس عليه إمرار الماء وذلك الموضع بيده وإلا لم يكن غسلا وقال آخرون وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء عليه إجراء الماء عليه وليس عليه دلكه بيده وروى هشام عن أبي يوسف أنه إن مسح الموضع بالماء كما يسمح بالدهن أجزأه والدليل على بطلان قول موجبي ذلك الموضع إن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دلك والدليل على ذلك أنه لو كان على بدنه نجاسة فوالى بين صب الماء عليه حتى أزالها سمي بذلك غاسلا وإن لم يدلكه بيده فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدلك لأجل إمرار الماء عليه وقال الله تعالى فاغسلوا فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها فمن شرط فيه دلك الموضع بيده فقد زاد فيه ما ليس منه وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فإنه لما لم يكن هناك شيء يزال بالدلك لم يكن لدلك الموضع وإمساسه بيده فائدة ولا حكم فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أمر الماء عليه من غير دلك وأيضا فليس لذلك الموضع بديه حكم في الطهارة في سائر الأصول فوجب أن لا يتعلق به فيما اختلف فيه فإن قال قائل إذا لم يكن الغسل مأمورا به لإزالة شيء هناك علمنا أنه عبادة فمن حيث شرط فيه إمرار الماء وجب أن يكون دلكه بيده شرطا وإلا فلا معنى لإمرار الماء وإجرائه عليه قيل له قد ثبت في الأصول لإمرار الماء على الموضع حكم في غسل النجاسات ولم يثبت بدلك الموضع حكم بل حكمه ساقط في إزالة الأنجاس لأنه لو كان له حكم لكان اعتبار الدلك فيها أولى فوجب أن يكون كذلك حكمه في طهارة الحدث واما من أجاز مسح هذه الأعضاء المأمور بغسلها فإن قوله مخالف لظاهر الآية فإن الله

تعالى شرط في بعض الأعضاء الغسل وفي بعضها المسح فما أمر بغسله لا يجزي فيه المسح لأن الغسل يقتضي إمرار الماء على الموضوع وإجراءه عليه ومتى لم يفعل ذلك لم يسم غاسلا والمسح لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي مباشرته بالماء دون إمراره عليه فغيرجائز ترك الغسل إلى المسح ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل فمتى مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به
ويدل على ذلك أنه ليس عليه في مسح الرأس في الوضوء لإبلاغ الماء إلى أصول الشعر وإنما عليه مسح الظاهر منه وعليه في غسل الجنابة إبلاغ الماء أصول الشعر فلو كان المسح والغسل واحدا لأجزى في غسل الجنابة مسحه كما يجزي في الوضوء وفي ذلك دليل على أن ما شرط فيه الغسل لا ينوب عنه المسح فإن قيل إذا لم تكن هناك نجاسة تزال بالغسل فالمقصد فيه مباشرة الموضع بالماء فلا فرق بين الغسل والمسح قيل له هذا يدل على صحة ما ذكرنا وذلك لأنه لما لم تكن هناك نجاسة من أجلها يجب الغسل فكان وجوب عبادة ثم فرق الله تعالى في الآية بين الغسل والمسح فعلينا اتباع الأمر على حسب مقتضاه وموجبه وغير جائز لنا ترك الغسل إلى غيره والعبادة علينا في الغسل في الأعضاء المأمور بها كهي علينا في مسح العضو المأمور به فلم يجز استعمال النظر في ترك حكم اللفظ إلى غيره فإن قيل لو بقيت لمعة في ذراعه فمسحها جاز وهذا يدل على جواز مسح الجميع كما جاز مسح البعض
قيل له هذا غلط لأن اللمعة إذا اتصلت صارت في حكم المغسول وأما إذا لم تتصل فلا يجوز الإجماع ففي ذلك دلالة على أن المسح لا ينوب مناب الغسل وقيل له لو لزم منا هذا في الوضوء للزمك في غسل الجنابة مثله والله أعلم
باب

الوضوء بغير نية
قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء فارنته النية أو لم تقارنه وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة وهو إمرار الماء على الموضع وليس هو عبارة عن النية فمن شرط فيه النية فهو زائد في النص وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه يوجب نسخ الآية قد أباحت فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية فمن حظر الصلاة ومنعها إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها

وذلك لا يجوز إلا بنص مثله والوجه الآخر أن النص له حكمه ولا يجوز أن يلحق به ما ليس منه كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه فإن قيل فقد شرطت في صحة الصلاة النية مع عدم ذكرها في اللفظ قيل له إنما جاز ذلك فيها من وجهين أحدهما أن الصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان غير موجب للحكم بنفسه إلا ببيان يرد فيه وقد ورد فيه البيان بإيجاب إليه فلذلك أوجبناها وليس كذلك الوضوء لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بين المراد فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النص ولا يجوز ذلك إلا بنص مثله والوجه الآخر اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها فلو كان اسم الصلاة عموما ليس بمجمل لجاز إلحاق النية بها بالاتفاق فهي إذا كانت مجملا أحرى بإثبات النية فيها من جهة الإجماع
ذكر

اختلاف الفقهاء في فرض النية
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل طهارة بماء تجوز بغير نية ولا يجزي التيمم إلا بنية وهو قول الثوري وقال الأوزاعي يجزي الوضوء بغير نية ولم تحفظ عنه في التيمم وقال مالك والليث والشافعي لا يجزي الوضوء ولا الغسل إلا بالنية وكذلك التيمم وقال الحسن بن صالح يجزي الوضوء والتيمم جميعا بغير نية قال أبو جعفر الطحاوي ولم نجد هذا القول في التيمم عن غيره قال أبو بكر قد قدمنا ذكر دلالة الآية على جواز الوضوء بغير نية وقوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا دل على جواز الاغتسال من الجنابة بغير نية كذلك قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم على النحو الذي بينا ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا ومعناه مطهرا فحيثما وجد فواجب أن يكون مطهرا ولو شرطنا فيه النية كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله بها من كونه طهورا لأنه حينئذ لا يكون طهورا إلا بغيره والله تعالى جعله طهورا من غير شرط معنى آخر فيه فإن قيل إيجاب شرط النية فيه لا يخرجه من أن يكون طهورا كما وصفه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء ولم يمنع ذلك إيجاب النية شرطا فيه قيل له إنما سماه طهورا على وجه المجاز تشبيها له بالماء في باب إباحة الصلاة والدليل عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس فعلمنا أنه سماه طهورا استعارة ومجازا ومن

جهة أخرى أن إثبات النية شرطا في التيمم جائز مع قوله التراب طهور المسلم ولا يجوز مثله في الوضوء وذلك لأن قوله فتيمموا يقتضي إيجاب النية إذ كان التيمم هو القصد في اللغة وقوله التراب طهور المسلم وارد من طريق الآحاد فواجب أن يكون الخبر مرتبا على الآية إذ غير جائز ترك حكم الآية بالخبر وتجوز الزيادة في الخبر بالآية وليس ذلك كقوله وأنزلنا من السماء ماء طهورا لأنه غير جائز أن يزاد في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به نسخه ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به فأبان تعالى عن وقوع التطهير بالماء من غير شرط النية فيه
فإن قيل لما كان قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم الآية مقتضيا لفرض الطهارة فمن حيث كان فرضا وجب أن تكون النية شرطا في صحته لاستحالة وقوع الفعل موقع الفرض إلا بالنية وذلك لأن الفرض يحتاج في صحة وقوعه إلى نيتين أحدهما نية التقرب به إلى الله تعالى والأخرى نية الفرض فإذا لم ينوه لم توجد صحة الفرض فلم يجز عن الفرض إذ هو غير فاعل للمأمور به قيل له إنما يجب ما ذكرت في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقاربه فلما جعل الله الطهارة شرطا لصحة الصلاة ولم تكن مفروضة لنفسها لأن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة كالمريض المغمى عليه أياما وكالحائض والنفساء وقال تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقال ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فجعله شرطا في غيره ولم يجعله مأمورا به لنفسه فاحتاج موجب النية شرطا فيه إلى دلالة من غيره ألا ترى أن كثيرا مما هو شرط في الفرض وليس بمفروض بعينه فجائز أن يكون من فعل غيره نحو الوقت الذي هو شرط في صحة أداء الصلاة ولا صنع للمصلي ونحو البلوغ والعقل اللذين هما شرط في صحة التكليف وليسا بفعل المكلف فبان بما وصفنا أن ورود لفظ الأمر بما جعل شرطا في غيره لا يقتضي وقوعه طاعة منه ولا إيجاب النية فيه ألا ترى أن قوله تعالى وثيابك فطهر وإن كان أمرا بتطهير الثوب من النجاسة فإنه لم يوجب كون النية شرطا في تطهيره إذا لم تكن إزالة النجاسة مفروضة لنفسها وإنما هي شرط في غيرها وإنما تقديره لا تصل إلا في ثوب طاهر ولا تصل إلا مستور العورة ويدل على ذلك ايضا أن الشافعي قد وافقنا على أن رجلا لو قعد في المطر ينوي الطهارة

فأصاب جميع أعضائه أنه يجزيه من غير فعل له فيه ولو كان ذلك مفروضا لنفسه لما أجزأه دون أن يفعله هو أو يأمر به غيره لأن هذا حكم المفروض
فإن قيل فالتيمم غير مفروض لنفسه ولا يصح مع ذلك إلا بالنية فليس إيجاب النية مقصورا على ما كان مفروضا لنفسه قيل له هذا غير لازم لأنا لم نخرج هذا القول مخرج الاعتلال فتلزمنا عليه المناقضة وإنما بينا أن لفظ الأمر إذا ورد فيما كان وصفه ما ذكرنا فإنه لا يقتضي إيجاب النية شرطا فيه إلا بدلالة أخرى من غيره فإنما أسقطنا بذلك احتجاج من احتج بظاهر ورود الأمر في إيجاب النية وفي مضمون لفظ التيمم إيجاب النية إذ كان التيمم في اللغة اسما للقصد قال الله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون يعني لا تقصدوا وقال الشاعر ... ولن يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما ...
وقال آخر ... فإن تلي خيلي قد أصيب صميمها ... فعمدا على عين تيممت مالكا ...
وقال الأعشى ... تيممت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمه ذي شزن ...
يعني قصدته فلما كان في لفظ الآية إيجاب القصد والقصد هو النية لفعل ما أمر به جعلنا النية شرطا ولم يكن في إيجاب النية لحاق زيادة بالآية غير مذكورة فيها وأما الغسل فلا تنطوي تحته النية وفي إيجابها فيه إثبات زيادة فيها ليست منها وذلك غير جائز ووجه آخر في الفصل بين التيمم والوضوء وهو أن التيمم قد يقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء وهو على صفة واحدة في الحالين فاحتيج إلى النية للفصل بين حكميهما لأن النية إنما شرطت لتمييز أحكام الأفعال فلما كان حكم التيمم قد يختلف فيقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء احتيج إلى النية فيه لتمييز ما يقع منه عن الغسل عما يقع منه عن الوضوء وأما الغسل لا يختلف حكمه في نفسه ولا فيما يقع له فاستغنى عن النية فيه والتمييز إذ كان المقصد منه إيقاع الفعل كما قيل لا تصل حتى تغسل النجاسة من بدنك أو ثوبك ولا تصل إلا مستور العورة وليس يقتضي شيء من ذلك إيجاب النية فيه
ويدل على ما ذكرنا من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في تعليمه الأعرابي

الصلاة وقوله لا تتم صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فقوله حتى يضع الطهور مواضعه يقتضي جوازه بغير نية لأن مواضع الطهور معلومة مذكورة في القرآن فصار كقوله حتى يغسل هذه الأعضاء وقوله فيغسل وجهه ويديه يوجب ذلك أيضا إذ لم يشرط فيه النية فظاهره يقتضي جوازه على أي وجه غسله ويدل من جهة أخرى أنه معلوم أن الأعرابي كان جاهلا بأحكام الصلاة والطهارة فلو كانت النية شرطا فيها لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم -

من التوقيف عليها وفي ذلك أوضح دليل على أنها ليست من فروضها
ويدل عليه أيضا قوله ص - في غسل الجنابة لأم سلمة إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات على سائر جسدك فإذا أنت قد طهرت ولم يشرط فيه النية وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فأشار إلى الفعل المشاهد دون النية هي ضمير لا تصح الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به وقال إذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال إن تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة ومن جهة النظر أن الوضوء طهارة الماء كغسل النجاسة وأيضا هو سبب يتوصل به إلى صحة أداء الصلاة لا على وجه البدل عن غيره فأشبه غسل النجاسة وستر العورة والوقوف على مكان طاهر ولا يلزم عليه التيمم لأنه بدل عن غيره فإن احتجوا بقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ذلك يقتضي إيجاب النية له لأن ذلك أقل أحوال الإخلاص قيل له ينبغي أن يثبت أن الوضوء عبادة أو أنه من الدين إذ جائز أن يقال إن العبادات هي مقصودة لعينه في التعبد فأما ما أمر به لأجل غيره أو جعل شرطا فيه أو سببا له فليس يتناوله هذا الاسم ولو لزم أن يكون تارك النية في الطهارة غير مخلص لله لوجب مثله في تارك النية في غسل النجاسة وستر العورة فلما لم يجز أن يكون تارك النية فيما وصفنا غير مخلص إذ كان مأمورا به لأجل الصلاة كان كذلك في الطهارة وأيضا فإن كل من اعتقد الإسلام فهو مخلص لله تعالى فيما يفعله من العبادات إذ لم يشرك في النية بين الله وبين غيره لأن ضد الإخلاص هو الإشراك فمتى لم يشرك فهو مخلص بنفس اعتقاد الإيمان في جميع ما يفعله من العبادات ما لم يشرك غيره فيه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم -
الأعمال بالنيات وهذا لا يصح الاحتجاج به في موضع الخلاف من قبل أن حقيقة
اللفظ تقتضي كون العمل موقوفا على النية والعمل موجود

مع فقد النية فعلمنا أنه لم يرد به حقيقة اللفظ وإنما أراد معنى مضمرا فيه غير مذكور فالمحتج بعموم الخبر في ذلك مغفل فإن قيل مراده حكم العمل قيل له الحكم غير مذكور فالاحتجاج بعمومه ساقط فإن ترك الاحتجاج بظاهر اللفظ وقال ما لم يجز أن يخلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم - من فائدة وقد علمنا أنه لم يرد نفس العمل وجب أن يكون مراده حكم العمل قيل له يحتمل أن يريد به فضيلة العمل لا حكمه وإذا احتمل الأمرين احتيج إلى دلالة من غيره في إثبات المراد وسقط الاحتجاج به فإن قيل هو على الأمرين قيل له هذا خطأ لأن الضمير المحتمل للمعنيين غير ملفوظ به فيقال عمومه شامل للجميع فأما ما ليس بمذكور وهو ضمير ليس اللفظ عبارة عنه فقول القائل أحمله على العموم خطأ وأيضا فغير جائز إرادة الأمرين لأنه إن أريد به فضيلة العمل صار بمنزلة قوله لا فضيلة للعمل إلا بالنية وذلك يقتضي إثبات حكم العمل حتى يصح نفي فضيلته لأجل عدم النية ومتى أراد به حكم العمل لم يجز أن يريد به الفضيلة والأصل منتف فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد إذ غير جائز أن يكون لفظ واحد لنفي الأصل ونفي الكمال وأيضا غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الآحاد على ما بينا وهذا من أخبار الآحاد
فصل قوله عز و جل وجوهكم قال أبو بكر قد قيل فيه إن حد الوجه من قصاص الشعر إلى أصل الذقن إلى شحمة الأذن حكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن أبي سعيد ا لبردعي ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى وكذلك يقتضي ظاهر الاسم إذ كان إنما سمي وجها لظهوره ولأنه يواجه ا لشيء ويقابل به وهذا الذي ذكرناه من تحديد الوجه هو الذي يواجه انسان ويقابله من غيره فإن قيل فينبغي أن يكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى قيل له لا يجب ذلك لأن الأذنين تستران بالعمامة والقلنسوة ونحوهما كما يستر صدره وإن كان متى ظهر كان مواجها لمن يقابله وهذا الذي ذكرناه من معنى الوجه يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية إذ ليس داخل الأنف والفم من الوجه إذ هما غير مواجهين لمن قابلهما وإذا لم تقتض الآية إيجاب غسلهما وإنما اقتضت غسل ما واجهنا وقابلنا منه فمن قال بإيجاب المضمضة والاستنشاق فهو زائد في حكم الفرض ما ليس منه وهذا غير جائز لأنه يوجب نسخه فإن قيل قول النبي صلى الله عليه وسلم -

بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما وقوله ص
- حين توضأ مرة مرة هذا وضوء لا يقبل

الله الصلاة إلا به يوجب فرض المضمضة والإستنشاق قيل له أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم

قال
هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب والوضوء هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله تعالى وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزي غيره فإذا لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يجز أن يراد في حكم الآية وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما لا يجوز الاعتراض به على الآية في إثبات الزيادة لأنه غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الواحد وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال حدثنا ابن جريج عن عطاء قال سئلت عائشة عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بإناء فيه ماء فتوضأ وكفا على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا ثم أعاد ذلك فقال من ضاعف ضاعف الله له ثم أعاد الثالثة فقال هذا وضوؤنا معشر الأنبياء فمن زاد فقد أساء فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق لأنه قصد بيان المفروض منه ولو كان فرضا فيه لفعله
باب غسل اللحية وتخليلها
قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان فاحتمل أن تكون اللحية من الوجه لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه وقد يقال أيضا خرج وجهه إذا خرجت لحيته فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضي ظاهر ذلك وجوب غسلها ويحتمل أن يقال ليست من الوجه وإنما الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه بعد ما كانت البشرة ظاهرة دونه ولمن قال بالقول الأول أن يقول نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه كما أن شعر الرأس من الرأس وقد قال الله تعالى وامسحوا برءوسكم فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه

ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبي حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها فلذلك لم يكن من الوجه وقد ذكر عن السلف اختلاف في غسل اللحية وتخليلها ومسحها فروى إسرائيل عن جابر قال رأيت القاسم ومجاهدا وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم وكذلك روي عن طاوس وروى جرير عن زيد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت عليا رضي الله عنه توضأ وقال يونس رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا ورى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها وكذلك روي عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير فهؤلاء كلهم روي عنهم غسل اللحية ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه وقد كان ابن عمر متقصيا في أمر الطهارة كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه خلل لحيته وروي عن أنس أن النبي ص
- خلل لحيته وقال بهذا أمرني ربي وروى عثمان وعمار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه خلل لحيته في الوضوء وروى الحسن عن جابر قال وضأت رسول الله ص
- لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط قال أبو بكر وروي أخبار أخر في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ليس فيها ذكر تخليل اللحية منها حديث عبد خير عن علي وحديث عبدالله بن
زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم كلهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه والوجه ما واجهك منه وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على وجوب غسلها أو تخليلها لم يجز لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد وجميع ما روي من أخبار التخليل إنما هي أخبار

أحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نص القرآن وأيضا فإن التخليل ليس بغسل فلا يجوز أن يكون موجبا بالآية ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -

التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجبا لما تركه إلى التخليل
وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومسحها
فروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال لا يخللها ويجزيه أن يمر بيده على ظاهرها قال فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء وبه قال ابن أبي ليلى قال أبو يوسف وأنا أخلل وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف في نوادره يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلى وذكر ابن شجاع عن الحسن عن زفر في الرجل يتوضأ أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يمر الماء على لحيته فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك وإن كان أقل من ذلك لم يجزه وهو قول أبي حنيفة وبه أخذ الحسن وقال أبو يوسف يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يمس لحيته بشيء من الماء وقال ابن شجاع لما لم يلزمه غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الراس إذ لم يجب غسله فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزي منه الربع كما قالوا في مسح الرأس قال أبو بكر لا تخلو اللحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دل ذلك على أنها ليست من الوجه لأنها لو كانت منه لوجب غسلها ولما سقط غسلها لم يجز إيجاب مسحها لأن فيه إثبات زيادة في الآية كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نص الكتاب وأيضا لوجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة وذلك خلاف الأصول فإن قيل قد يجتمع فرض المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقي العضو قيل له إنما يجب للضرورة والعذر وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل والوجه بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة ويقتضي ما قال أبو يوسف من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعا وإن كان المستحب إمرار الماء عليها قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق قال أبو بكر اليد اسم يقع على هذا العضو إلى المنكب

والدليل على ذلك أن عمارا تيمم إلى المنكب وقال تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إلى المناكب وكان ذلك لعموم قوله
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب وإذا كان الإطلاق يقتضي ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين أحدهما أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها إذ لم تقم الدلالة على سقوطها والثاني أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن ووجود الطهر شرط في الإباحة وقال حتى تنكح زوجا غيره ووجوده شرط فيه وإلى وحتى جميعا للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله ثم أتموا الصيام إلى الليل والليل خارج منه فلما كان هذا هكذا وكان الحدث فيه يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو وجود غسل المرفقين إذ كانت الغاية مشكوكا فيها وأيضا روى جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما وفعله ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان لأن قوله تعالى إلى المرافق لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملا مفتقرا إلى البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب والذي ذكرنا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعا إلا زفر فإنه يقول إن المرافق غير داخلة في الوضوء وكذلك الكعبان على هذا الخلاف
وقوله تعالى وامسحوا برؤسكم قال أبو بكر اختلف الفقهاء في المفروض من مسح الرأس فروي عن أصحابنا فيه روايتان إحداهما ربع الرأس والأخرى مقدار ثلاثة أصابع ويبدأ بمقدم الرأس وقال الحسن بن صالح يبدأ بمؤخر الرأس وقال الأوزاعي والليث يمسح مقدم الرأس وقال مالك الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز وقال الشافعي الفرض مسح بعض رأسه ولم يحد شيئا وقوله تعالى وامسحوا برؤسكم يقتضي مسح بعضه وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني فمتى أمكننا استعالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة نحو من هي مستعملة على معان منها التبعيض ثم قد تدخل في الكلام وتكون

ملغاة وجودها وعدمها سواء ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها قلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام على أنها ملغاة ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت مسحت يدي بالحائط كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه ولو قلت مسحت الحائط كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة فوجب إذا كان ذلك كذلك أن نحمل قوله وامسحوا برؤسكم على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقوله كتبت بالقلم ومررت بزيد فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فنكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته
ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى وامسحوا برؤسكم قال إذا مسح ببعض الرأس أجزأه قال ولو كانت امسحوا رؤسكم كان مسح الرأس كله فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده
فإن قيل لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول مسحت رأسي كله كما لا تقول مسحت ببعض رأسي كله
قيل له قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة فإذا قال مسحت برأسي كله علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها للتبعيض وقد توجد صلة الكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى مالكم من إله غيره ويغفر لكم من ذنوبكم ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة
وقد روي نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف منهم ابن عمر روى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه وعن عائشة مثل ذلك وقال الشعبي أي جانب رأسك مسحت أجزأك وكذلك قال

إبراهيم
ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيدالله بن الحسين الكرخي قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا هشيم قال حدثنا يونس عن ابن سيرين قال أخبرني عمرو بن وهب قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول خصلتان لا أسأل عنهما أحدا بعد ما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنا كنا معه في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته وروى سليمان التيمي عن بكر بن عبدالله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة وحدثنا عبيدالله بن الحسين قال حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال حدثنا كردوس بن أبي عبيدالله قال حدثنا المعلى بن عبدالرحمن قال حدثنا عبدالحميد بن جعفر عن عطاء عن ابن عباس قال توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فمسح رأسه مسحة واحدة بين ناصيته وقرنه فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب
والسنة أن المفروض مسح بعض الرأس فإن قيل يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث قيل له إنه لو كان هناك ضرورة لنقلت كما نقل غيره وأما كونه وضوء من لم يحدث فإنه تأويل ساقط لأن في حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث
واحتج من قال بمسح الجميع بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره قال فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبي ص
- جميعه ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعديا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال من زاد فقد اعتدى وظلم
فيقال له لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاثا فلا يكون الزائد على المفروض معتديا إذا أصاب السنة وكما أن المفروض من المسح على الخفين هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن معتديا وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق والمفروض مسح

الرأس والمسنون مسح الأذنين معه وكما يقول مخالفنا إن المفروض من مسح الرأس هو الأكثر وإن ترك القليل جائز ولو مسح الجميع لم يكن متعديا بل كان مصيبا كذلك نقول إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع وإنما قال أصحابنا إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل وفي رواية لحسن بن زياد الربع فإن وجه تقدير ثلاث اصابع أنه لما ثبت أن المفروض البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسول ص -

فلما روي عن النبي ص
- أنه مسح على ناصيته كان فعله ذلك واردا مورد البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها فقدروا الناصية بثلاث أصابع وقد روي عن ابن عباس أنه مسح بين ناصيته وقرنه
فإن قيل فقد روي أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر فينبغي أن يكون ذلك واجبا
قيل له معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يترك المفروض وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنون فلما روي عنه الاقتصار على مقدار الناصية في حال وروي عنه استيعاب الرأس في أخرى استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وما زاد عليها فهو مسنون وأيضا لو كان المفروض أقل من مقدار الناصية لاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم - في حال بيانا للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دل على أنه هو المفروض فإن قيل لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بيانا للمقدار ولم تجز أقل منها فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دل ذلك على أن فعله ذلك غير موجب للاقتصار على مقداره قيل له قد كان ظاهر فعله يقتضي ذلك لولا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله فإن قيل لما كان قوله تعالى وامسحوا برؤسكم مقتضيا مسح بعضه فأي بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر قيل له إذا كان ذلك البعض مجهولا صار مجملا ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال ألا ترى أن قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وقوله وآتوا الزكاة وقوله يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل

الله كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عليه الاسم منها فكذلك قوله تعالى برؤسكم وإن اقتضى البعض فإن ذلك البعض لما كان مجهولا عندنا وجب أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - من فعل فيه فهو بيان مراد الله به ودليل آخر وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدار وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس لأنه من أعضاء الوضوء وهذا يحتج به على مالك والشافعي جميعا لأن مالكا يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار والشافعي يقول كل ما وقع عليه اسم المسح جاز وذلك مجهول القدر وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليل في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية وذلك بأن نقول لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدرا اعتبارا بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار
فإن قيل ما أنكرت أن يكون مقدرا بثلاث شعرات
قيل له هذا محال لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه وأيضا فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدرا بالأصابع وبه وردت السنة وهو مس بالماء وجب أن يكون مسح الرأس مثله وأما وجه رواية من روى الربع فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزي وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجرى على الشخص وهو الربع لأنك تقول رأيت فلانا والذي يليك منه الربع فيطلق عليه الاسم فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضا في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحل به المحرم إذا حلقه ولا يحل عند أصحابنا بأقل منه فلذلك يوجبون به ما إذا حلقه في الإحرام
واختلف الفقهاء في مسح الرأس بأصبع واحدة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يجوز مسحه بأقل من ثلاث أصابع وإن مسحه بإصبع أو إصبعين ومدها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يجز وقال الثوري وزفر والشافعي يجزيه غلا أن زفر يعتبر الربع والأصل في ذلك أنه لا يجزي في

مفروض المسح نقل الماء من موضع إلى موضع وذلك لأن المقصد فيه إمساس الماء الموضع لا إجراؤه عليه فإذا وضع إصبعا فقد حصل ذلك الماء ممسوحا به فغير جائز مسح موضع غيره به وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يجره عليها لم يجزه فلا يحصل معنى الغسل إلا بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع فلذلك لم يكن مستعملا بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو وأما المسح فلو اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جري لجاز فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يجز نقله إلى غيره فإن قيل فلو صب على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجزى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره فهلا أجزته أيضا إذا مسح بإصبع واحدة ونقله إلى غيره قيل له من قبل أن صب الماء غسل وليس بمسح والغسل يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره وأما إذا وضع إصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعا غيره وأيضا فإن الماء الذي يجري عليه بالصب والغسل يتسع للمقدار المفروض كله وما على إصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض وإنما يكفي لمقدار الإصبع فإذا جره إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملا في غيره فلا يجوز له ذلك
باب

غسل الرجلين
قال الله تعالى وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين قال أبو بكر قرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير وأرجلكم بالخفض وتأولوها على المسح وقرأ علي وعبدالله بن مسعود وابن عباس في رواية وإبراهيم والضحاك ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب وكانوا يرون غسلها واجبا والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض وقال قوم يجوز مسح البعض ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن المراد الغسل وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعا ونقلتهما الأمة تلقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء وذلك لأن قوله وأرجلكم بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم ويحتمل أن يكون

معطوفا على الرأس فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون معطوفا على المعنى لا على اللفظ لأن الممسوح به مفعول به كقول الشاعر ... معاوية إننا بشر فاسجح ... فلسنا بالجبال ولا الحديدا ...
فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس فيراد به المسح ويحتمل عطفه على الغسل ويكون مخفوضا بالمجاورة كقوله تعالى يطوف عليهم ولدان مخلدون ثم قال وحور عين فخفضهن بالمجاورة وهن معطوفات في المعنى على الولدان لأنهن يطفن ولا يطاف بهن وكما قال الشاعر ... فهل أنت إن ماتت أتانك راكب ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب ...
فخفض خاطبا بالمجاورة وهو معطوف على المرفوع من قوله راكب والقوافي مجرورة ألا ترى إلى قوله ... فنل مثلها في مثلهم أو فلمهم ... على دارمى بين ليلى وغالب ...
فثبت بما وصفنا احتمال كل واحد من القراءتين للمسح والغسل فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثه إما أن يقال إن المراد هما جميعا مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير وغير جائز أن يكونا هما جميعا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ولا جائز أيضا أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع فيظل التخيير بما وصفنا وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير ملوم على ترك المسح
فثبت أن المراد الغسل وأيضا فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد فيه من البيان عن الرسول ص -

من فعل أو قول علمنا أنه مراد الله تعالى وقد ورد البيان عن الرسول ص
- بالغسل قولا وفعلا فأما وروده من جهة

الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم - غسل رجليه في الوضوء ولم يختلف الأمة فيه فصار فعله ذلك واردا مورد البيان وفعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فثبت أن ذلك هو مراد الله تعالى بالآية وأما من جهة القول فما روى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبدالله بن عمر وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم - رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم - مرة مرة فغسل رجليه وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به فقوله ويل للأعقاب من النار وعيد لا يجوز أن يستحق إلا بترك الفرض فهذا يوجب استيعاب الرجل بالطهارة ويبطل قول من يجيز الاقتصار على البعض وقوله ص - أسبغوا الوضوء وقوله بعد غسل الرجلين هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به يوجب استيعابهما بالغسل لأن الوضوء اسم للغسل يقتضي إجراء الماء على الموضع والمسح لا يقتضي ذلك وفي الخبر الآخر إخبار أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بغسلهما وأيضا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم - من بيانه إذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد وأيضا فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح لأن في الغسل زيادة فعل وقد اقتضاه الأمر بالغسل فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وهو الغسل لأنه يأتي على المسح والمسح لا ينتظم الغسل وأيضا لما حدد الرجلين بقوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين كما قال وأيديكم إلى المرافق دل على استيعاب الجميع كما دل ذكر الأيدي إلى المرافق على استيعابهما بالغسل
فإن قيل قد روى علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه توضأ ومسح على قدميه ونعليه
قيل له لا يجوز قبول أخبار الآحاد فيه من وجهين أحدهما لما فيه من الاعتراض به على موجب الآية من الغسل على ما قد دللنا عليه والثاني أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله لعموم الحاجة إليه وقد روي عن علي أنه قرأ وأرجلكم بالنصب وقال المراد الغسل فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم -
جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال إن مراد الله الغسل وأيضا
فإن الحديث الذي روي عن علي في ذلك قال

فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - هذا وضوء من لم يحدث وهو حديث شعبة عن عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن عليا صلى الظهر ثم قعد في الرحبة فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فعل وقال هذا وضوء من لم يحدث ولا خلاف في جواز مسح الرجلين في وضوء من لم يحدث وأيضا لما احتملت الآية الغسل والمسح استعملناها على الوجوب في أن الحالين الغسل في حال ظهور الرجلين والمسح في حال لبس الخفين
فإن قيل لما سقط فرض الرجل في حال التيمم كما سقط الرأس دل على أنها ممسوحة غير مغسولة قيل له فهذا يوجب أن لا يكون الغسل مرادا ولا خلاف أنه إذا غسل فقد فعل المفروض ولم تختلف الأمة أيضا في نقل الغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأيضا فإن غسل البدن كله يسقط في الجنابة إلى التيمم عند عدم الماء وقام التيمم في هذين العضوين مقام غسل سائر الأعضاء كذلك جائز أن يقوم مقام غسل الرجلين وإن لم يجب التيمم فيها
فصل وقد اختلف في الكعبين ما هما فقال جمهور أصحابنا وسائر أهل العلم الناتئان بين مفصل القدم والساق وحكى هشام عن محمد أنه مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم والصحيح هو الأول لأن الله تعالى قال وأرجلكم إلى الكعبين فدل ذلك أن في كل رجل كعبين ولو كان في كل رجل كعب واحد لقال إلى الكعاب كما قال تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما لما كان لكل واحد قلب واحد أضافهما إليهما بلفظ الجميع فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية دل على أن في كل رجل كعبين ويدل عليه أيضا ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه قال حدثنا إسحاق بن راهويه قال حدثنا الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبدالله المحاربي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه وهو يقول يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب فقلت من هذا فقالوا ابن عبدالمطلب قلت فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة قالوا هذا عبد العزى أبو لهب وهذا يدل على أن الكعب هو العظم الناتئ في جانب القدم لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا يضرب ظهر القدم قال وحدثنا عبدالله بن محمد بن شيرويه قال أخبرنا

وكيع

قال
حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن القاسم الجدلي قال سمعت النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم أو وجوهكم قال فلقد رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه وهذا يدل على أن الكعب ما وصفنا والله أعلم
ذكر الخلاف في المسح على الخفين
قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها وروي عن مالك والليث أنه لا وقت للمسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له قال مالك والمقيم والمسافر في ذلك سواء وأصحابه يقولون هذا هو الصحيح من مذهبه وروى عنه ابن القاسم أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم وروى ابن القاسم أيضا عن مالك أنه المسح على الخفين قال أبو بكر قد ثبت المسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم - من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ولذلك قال أبو يوسف إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ولم يشك أحد منهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد مسح وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها فروي المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وعمر وعلي وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة
ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير موقت سعد بن أبي وقاص وجرير بن عبدالله البجلي وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وروى الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبدالله قال قال رأيت رسول
الله ص - توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش قال إبراهيم كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها وجب استعمالها مع حكم الآية وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور

الرجلين فلا فرق بين أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم - قبل نزول المائدة أو بعدها من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الاية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت
فإن احتج المخالف في ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة أصبت السنة وبما روى حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فلا يوقتون
قيل له قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبدالله حين أنكر على سعد المسح على الخفين يا بني عمك أفقه منك للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة وسويد بن غفلة عن عمر أنه قال ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه فاحتمل أن يكون قوله ص - لعقبة حين مسح على خفيه جمعة أصبت السنة يعني أنك أصبت السنة في المسح وقوله إنه مسح جمعة إنما عنى به أنه مسح جمعة علىالوجه الذي يجوز عليه المسح كما يقول القائل مسحت شهرا على الخفين وهو يعني على الوجه الذي يجوز فيه المسح لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح وكما تقول صليت الجمعة شهرا بمكة والمعنى في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة وأما قول الحسن أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس إنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعون ثلاثا فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث فإن قيل في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أنه قال المسح على

الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ولو استزدناه لزادنا وفي حديث أبي ابن عمارة أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوما قال ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت وفي حديث آخر قال حتى بلغ سبعا
قيل له أما حديث خزيمة وما قيل فيه ولو استزدناه لزادنا فإنما هو ظن من الراوي والظن لا يغني من الحق شيئا وأما حديث أبي بن عمارة فقد قيل إنه ليس بالقوي وقد اختلف في سنده ولو ثبت كان قوله وما شئت على أنه يمسح بالثلاث ما شاء وغير جائز الاعتراض على إخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتمله للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم -

بالتوقيت فإن قيل لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس
قيل له لا حظ للنظر مع الأثر فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط وإن كانت غير ثابتة فالاكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق ا لنظر وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره والمسح على الخفين يدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة فلم يجز إثباته بدلا إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت فإن قيل قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل قيل له أما على مذهب أبي حنيفة فهذا السؤال ساقط لأنه لا يوجب المسح على الجبائر وهو عنده مستحب تركه لا يضر وعلى قول أبي يوسف ومحمد أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة فلذلك اختلفا فإن قيل ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه وأن لا يجوز في الحضر لما روي أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت سلوا عليا فإنه كان معه في أسفاره وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر لأن مثله لا يخفى على عائشة
قيل له يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على علي رضي الله عنه وأيضا فإن عائشة أحد من روى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعا وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم
فإن قيل تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله ويل للعراقيب من النار قيل له إنما ذلك في حال ظهور الرجلين
فإن قيل جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار
قيل له لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر

قياسا وإنما أبحناه بالآثار وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر فلا معنى للمقايسة واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر فقال أصحابنا إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث وهو قول الثوري وروي عن مالك مثله وذكر الطحاوي عن مالك والشافعي أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة ودليل أصحابنا عموم قوله ص - يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها وروى الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ فأهويت إلى خفيه لأنزعهما فقال مه فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما وروي عن عمر بن الخطاب قال إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء كما يقال غسل رجليه وكما يقال صلى ركعة وإن لم يتم صلاته وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه
واختلف في المسح على الجوربين فلم يجزه أبو حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في المسح على الخفين لما أجزنا المسح فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجوربين في وزن ورودها في المسح على الخفين بقينا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه
فإن قيل روى المغيرة بن شعبة وأبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم - مسح على جوربيه ونعليه قل له يحتمل أنهما كانا مجلدين فلا دلالة فيه على موضع الخلاف إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فعل لا نعلم حاله وأيضا يحتمل أن يكون وضوء من لم يحدث كما مسح على رجليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ومن جهة النظر اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة إذ ليس في العادة المشي فيها كذلك الجوربان وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشى فيهما وبمنزلة

الجرموقين ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلدا جاز المسح ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلدا أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف واختلف في المسح على العمامة فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعي لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار وقال الثوري والأوزاعي يمسح على العمامة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى فامسحوا برؤسكم وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به وأيضا فإن الآثار متواترة في مسح الرأس فلو كان المسح على العمامة جائزا لورد النقل به متواترا في وزن وروده في المسح على الخفين فلما لم يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين أحدهما أن الآية تقتضي مسح الرأس فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم والثاني عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار وأيضا حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ومعلوم أنه مسح برأسه لأن مسح العمامة لا يسمى وضوء ثم نفى جواز الصلاة إلا به وحديث عائشة الذي قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ومسح برأسه ثم قال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا فأخبر أن مسح الرأس بالماء هو المفروض علينا فلا تجزي الصلاة إلا به
وإن احتجوا بما روى بلال والمغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

مسح على الخفين والعمامة وما روى راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول الله
ص - سريه فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم -
أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين
قيل لهم هذه أخبار مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون ولو استقامت أسانيدها لما جاز الاعتراض بمثلها على الآية وقد بينا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته وفي بعضها على جانب عمامته وفي بعضها وضع يده على عمامته فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة وذلك جائز عندنا ويحتمل ما رواه بلال ما بين في حديث المغيرة وأما حديث ثوبان فمحمول على معنى حديث المغيرة أيضا بأن مسحوا على بعض الرأس وعلى العمامة والله أعلم
باب
الوضوء مرة مرة
قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم الآية الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة

واحدة إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل فمن غسل مرة فقد أدى الفرض وبه وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -

منها حديث ابن عمر أن النبي ص
- توضأ مرة مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا وروى ابن عباس وجابر ان النبي صلى الله عليه وسلم -
توضأ مرة مرة وقال أبو رافع توضأ رسول الله ص
- ثلاثا ثلاثا ومرة مرة
قال أبو بكر فما نص الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بيناه وفيه أشياء مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا عبدالله بن الحسن قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا خالد بن علقمة عن عبدالخير قال دخل على الرحبة بعد ما صلى الفجر فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه إيتني بطهور فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبدالخير ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء فأكفاه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا ثم مسح رأسه بيده كلتيهما ثم صب بيديه اليمنى على قدمه اليمنى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم أخذ غرفة بكفه فشرب منه ثم قال من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره وهذا الذي رواه علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم - هو مذهب أصحابنا وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثا وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة ويروى عن الحسن البصري أنه قال من غمس يده في إناء قبل الغسل إهراق الماء وتابعه على ذلك من لا يعتد به ويحكى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء ولا ينكشف في نوم النهار
قال أبو بكر والذي في حديث علي من صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يسقط هذا الاعتبار ويقتضي أن يكون ذلك سنة الوضوء لأن عليا كرم الله وجهه
صلى الفجر ثم توضأ ليعلمهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - فغسل يديه قبل إدخالهما في

الإناء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده قال محمد بن الحسن كانوا يستنجون بالأحجار فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلة من عرق أو غيره فتصيبها فأمر بالاحتياط مع تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء
وقد اتفق الفقهاء على الندب ومن ذكرنا قوله آنفا فهو شاذ وظاهر الآية ينفي إيجابه وهو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فاقتضى الظاهر وجوب غسلهما بعد إدخالهما الإناء ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها وذلك لا يجوز إلا بنص مثله أو باتفاق والآية على عمومها فيمن قام من النوم وغيره
وعلى أنه قد روي أن الآية نزلت فيمن قام من النوم وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه وقد روى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يتوضأ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف بيده اليمنى فتمضمض واستنشق ثم أخذ أخرى فغسل بها يديه اليمنى ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى وذكر الحديث فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده الإناء قبل أن يغسلها وهذا يدل على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحباب ليس بإيجاب وإن ما في حديث علي وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب وحديث أبي هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يرد به الإيجاب وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء وهو قوله فإنه لا يدري أين باتت يده فأخبر أن كون النجاسة على يده ليس بيقين ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم فهي على أصل طهارتها كمن كان على يقين من الطهارة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - عند الشك أن يبنى على يقين من الطهارة ويلغي الشك فدل ذلك على أن أمره إذا استيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء استحباب ليس بإيجاب وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبدالله كانوا إذا ذكر لهم حديث أبي هريرة في أمر المستيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا إن أبا هريرة كان مهذارا فما يصنع بالمهراس وقال الأشجعي لأبي هريرة فما تصنع بالمهراس فقال أعوذ بالله من شرك

والذي أنكره أصحاب عبدالله من قول أبي هريرة اعتقاده الإيجاب فيه لأنه كان معلوما أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يتوضأ منه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبعده فلم ينكره احد ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه فاستنكر أصحاب عبدالله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب
واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس فقال أصحابنا هما من الرأس تمسحان معه وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ورواه أشهب عن مالك وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد وأنهما تمسحهما بماء جديد وقال الحسن بن صالح يغسل باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه وقال الشافعي يمسحهما بماء جديد وهما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس
والدليل على أنهما من الرأس وتمسحان معه ما حدثنا عبيدالله بن الحسين قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

توضأ فغسل كفيه ثلاثا وطهر وجهه ثلاث وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه
وقال الأذنان من الرأس
وأخبرنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال حدثنا عامر بن سنان قال حدثنا زياد بن علاقة عن عبدالحكم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر وروى ابن عباس وأبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم - مثله أيضا
أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين أحدهما قوله أنه مسح رأسه وأذنيه وهذا يقتضي أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية والثاني قوله الأذنان من الرأس لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة وكلام النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يخلو من الفائدة فثبت أن المراد الوجه الثاني
فإن قيل يجوز أن يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس
قيل له لا يجوز ذلك لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه فثبت أن قوله الأذنان من الرأس إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له ووجه آخر وهو أن من بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة

على غيره فقوله الأذنان من الرأس حقيقته إنهما بعض الرأس فواجب إذا كان كذلك أن تمسحا معه بماء واحد كما يمسح سائر أبعاض الرأس وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا مسح المتوضئ برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من تحت أشفار عينيه فأضاف الأذنين إلى الرأس كما جعل العينين من الوجه
فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال عشر من الفطرة خمس في الرأس فذكر منها المضمضة والاستنشاق ولم يدل ذلك على دخولهما في حكم الرأس كذلك قوله الأذنان من الرأس قيل له لم يقل الفم والأنف من الرأس وإنما قال خمس في الرأس فوصف ما يفعل من الخمس في الرأس ونحن نقول إن هذه الجملة هو الرأس ونقول العينان في الرأس وكذلك الفم والأنف قال الله تعالى لووا رؤسهم والمراد هذه الجملة على أن ما ذكرته هو لنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لما سمى ما تشتمل عليه هذه الجملة رأسا فوجب أن تكون الأذنان من الرأس لاشتمال هذه الجملة عليهما وأن لا يخرج شيء منها إلا بدلالة ولما قال تعالى وامسحوا برؤسكم وكان معلوما أنه لم يرد به الوجه وإن كان في الرأس وإنما أراد ما علا منه مما فوق الأذنين ثم قال ص -

الأذنان من الرأس كان ذلك إخبارا منه بأنهما من الرأس الممسوح فإن قيل
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ لهما ماء جديدا وروت الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه وصدغيه ثم مسح أذنيه وهذا يقتضي تجديد الماء لهما قيل له أما قولك أنه أخذ لهما ماء جديدا فلا نعلمه روي من جهة يعتمد عليها ولو صح لم يدل على قولك لأنهما إذا كانتا من الرأس فالماء الجديد الذي أخذ لهما هو الذي أخذه لجميع الرأس ولا فرق بين قول القائل أخذ للأذنين ماء جديدا وبين قوله أخذ للرأس ماء جديدا إذا كانتا من الرأس والماء المأخوذ للرأس هو للأذنين وقول الربيع بنت معوذ مسح برأسه ثم مسح أذنيه لا دلالة فيه على تجديد الماء للأذنين لأن ذكر المسح لا يقتضي تجديد الماء لهما لأن اسم المسح يقع على هذا الفعل مع عدم الماء وهو مثل ما روي أنه مسح رأسه مرتين بماء واحد أقبل بهما وأدبر وقد علمنا أنه أقبل بهما وأدبر ولم يوجد ذلك تجديد الماء كذلك الأذنان إذ غير ممكن مسح الرأس مع الأذنين في وقت واحد كما لا يمكن مسح مقدم الرأس ومؤخره في حال واحدة فلا دلالة في ذكر مسح الأذنين بعد مسح الرأس على تجديد الماء لهما دون الرأس فإن

احتجو بأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره فجعل السمع من الوجه قيل له لم يرد بالوجه في هذا الموضع العضو المسمى بذلك وإنما أراد به أن جملة الإنسان هو الساجد لله لا الوجه وهو كقوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه يعني به ذاته وأيضا فإنه ذكر السمع وليس الأذنان هما السمع فلا دلالة فيه على حكم الأذنين وقد قال الشاعر ... إلى هامة قد وقر الضرب سمعها ... وليست كأخرى سمعها لم يوقر ...
فأضاف السمع إلى الهامة ويدل على أنهما تمسحان مع الرأس على وجه التبع أنه ليس في الأصول مسح مسنون إلا على وجه التبع للمفروض منه ألا ترى أن من سنة المسح على الخفين أن يمسح من أطراف الأصابع إلى أصل الساق والمفروض منه بعضه أما على قولنا فمقدار ثلاثة أصابع وعلى قول المخالف مقدار ما يسمى مسحا وقد روي في حديث عبد خير عن علي أنه مسح رأسه مقدمه ومؤخره ثم قال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروى عبدالله بن زيد المازني والمقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ومعلوم أن القفا ليس بموضع مفروض المسح لأن مسح ما تحت الأذنين لا يجزي من المفروض وإنما مسح ذلك الموضع على جهة التبع للمفروض فإن قيل لما لم تكن الأذنان موضع فرض المسح أشبهتا داخل الفم والأنف فيجدد لهما ماء جديدا كالمضمضة والاستنشاق فيكون سنة على حيالها قيل له هذا غلط لأن القفا ليس بموضع لفرض المسح والنبي صلى الله عليه وسلم - قد مسحه مع الرأس على وجه التبع فكذلك الأذنان وأما المضمضة والاستنشاق فكانا سنة على حيالهما من قبل أن داخل الفم والأنف ليسا من الوجه بحال فلم يكونا تابعين له فأخذ لهما ماء جديدا والأذنان والقفا جميعا من الرأس وإن لم يكونا موضع الفرض فصارا تابعين له فإن قيل لو كانت الأذنان من الرأس لحل بحلقهما من الإحرام ولكان حلقهما مسنونا مع الرأس إذا أراد الإحلال من إحرامه قيل له لم يسن حلقهما ولا حل بحلقهما لأن في العادة أن لا شعر عليهما وإنما الحلق مسنون في الرأس في الموضع الذي يكون عليه الشعر في العادة فلما كان وجود الشعر على الأذنين شاذا نادرا أسقط حكمهما في الحلق ولم يسقط في المسح وأيضا

فإنا قلنا إن الأذنين تابعتان للرأس على ما بينا لا على أنهما الأصل ألا ترى أنا لا نجيز المسح عليهما دون الرأس فكيف يلزمنا أن نجعلهما أصلا في الحلق وأما قول الحسن بن صالح في غسل باطن الأذنين ومسح ظاهرهما فلا وجه له لأنه لو كان باطنهما مغسولا لكانتا من الوجه فكان يجب غسلهما ولما وافقنا على أن ظاهرهما ممسوح مع الرأس دل ذلك على أنهما من الرأس ولأنا لم نجد عضوا بعضه من الرأس وبعضه من الوجه وقال أصحابنا لو مسح ما تحت أذنيه من الرأس لم يجزه من الفرض لأن ذلك من القفا وليس هو من مواضع فرض المسح فلا يجزيه ألا ترى أنه لو كان شعره قد بلغ منكبه فمسح ذلك الموضع من شعره لم يجزه عن مسح رأسه
واختلف الفقهاء في تفريق الوضوء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي هو جائز وقال ابن أبي ليلى ومالك والليث إن تطاول أو تشاغل بعمل غيره ابتدأ الوضوء من أوله والدليل على صحة ما قلناه قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق الآية فإذا أتى بالغسل على أي وجه فعله فقد قضى عهدة الآية ولو شرطنا فيه وترك الفريق الموالاة كان فيه إثبات زيادة في النص والزيادة في النص توجب نسخه ويدل عليه أيضا قوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم والحرج الضيق فأخبر تعالى أن المقصد حصول الطهارة ونفي الحرج وفي قول مخالفينا إثبات الحرج مع وقوع الطهارة المذكورة في الآية ويدل عليه قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به الآية فأخبر بوقوع التطهير الماء من غير شرط الموالاة فحيثما وجد كان مطهرا بحكم الظاهر ويدل عليه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا ومعناه مطهرا فحيثما وجد فواجب أن يكون هذا حكمه ولو منعنا الطهارة مع وجود الغسل لأجل التفريق كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله تعالى بها من كونه طهورا ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا محمد بن عبيدالله عن الحسين بن سعد عن أبيه عن علي قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال يا رسول الله إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر فلما أصبحت رأيت
بذراعي قدر موضع الظفر لم يصبه الماء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - لو مسحت عليه بيدك أجزاك فأجاز له أن يمسح عليه بعد تراخي الوقت ولم يأمره

باستئناف الطهارة وروى عبدالله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم -

رأى قوما وأعقابهم تلوح فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء ويدل
عليه حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه والتفريق لا يخرجه من أن يكون وضعه مواضعه لأن مواضعه هذه الأعضاء المذكورة في القرآن ولم يشرط فيه الموالاة وترك التفريق
ويدل عليه من وجه آخر قوله في لفظ آخر حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه ولم يذكر فيه التتابع فهو على الأمرين من تفريق أو موالاة فإن قيل لما كان قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم أمرا يقتضي الفور وجب ان يكون مفعولا على الفور فإذا لم يفعل استقبل إذ لم يفعل المأمور به قيل له الأمر على الفور لا يمنع صحة فعله على المهلة ألا ترى أن تارك الوضوء رأسا لا تفسد طهارته إذا فعله بعد ذلك على التراخي وكذلك سائر الأوامر التي ليست موقتة فإن تركها في وقت الأمر بها لا يفسدها إذا فعلها ولا يمنع صحتها وعلى أن هذا المعنى لأن يكون دليلا على صحة قولنا أولى وذلك لأن غسل العضو المفعول على الفور قد صح عندنا جميعا وتركه لغسل باقي الأعضاء ينبغي أن لا يغير حكم الأول ولا تلزمه إعادته لأن في إيجاب إعادته إبطاله عن الفور وإيجاب فعله على التراخي فواجب أن يكون مقرا على حكمه في صحة فعله بديا على الفور واحتج أيضا القائلون بذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به قالوا ومعلوم أن فعله كان على وجه المتابعة قيل له هذا دعوى ومن أين لك أنه فعله متتابعا وجائز أن يكون غسل وجهه في وقت ثم غسل يديه بعد ساعات وكذلك سائر أعضائه ليفيد الحاضرين حكم جواز فعله متفرقا وعلى أنه لو تابع لم يدل قوله ذلك على وجوب التتابع لأن قوله هذا وضوء إنما إشارة إلى الغسل لا إلى الزمان فإن قيل لما كان بعضه منوطا ببعض حتى لا يصح لبعضه حكم إلا بجميعه أشبه أفعال الصلاة قيل له هذا منتقض بالحج لأن بعضه منوط ببعض ألا ترى أنه لو لم يقف بعرفة بطل إحرامه وطوافه الذي قدمه ولم يجب من أجل ذلك متابعة أفعاله وأيضا فإنه قد ثبت لغسل بعض الأعضاء حكم دون بعض ألا ترى أنه لو كان بذراعه عذر لسقط فرض طهارته عنه وليس كذلك الصلاة لأن أفعالها كلها منوطة بعضها ببعض فإما أن يسقط جميعها أو يثبت جميعها على

الحال التي يمكن فعلها فمن حيث جاز سقوط بعض أعضاء الطهارة وبقي البعض أشبه الصلاة والزكاة وسائر العبادات إذا اجتمع وجوبها عليه فيجوز تفريقها عليه وأيضا فإن الصلاة إنما لزم فيها الموالاة من غير فصل لأنه يدخل فيها بتحريمة ولا يصح بناء أفعالها إلا على التحريمة التي دخل بها في الصلاة فمتى أبطل التحريمة بكلام أو فعل لم يصح له بناء باقي أفعالها بغير تحريمة والطهارة لا تحتاج إلى تحريمة ألا ترى أنه يصح في أضعافها الكلام وسائر الأفعال ولا يبطلها ذلك وإنما شرط فيه من قال ذلك عدم جفاف العضو قبل إتمام الطهارة وجفاف العضو لا تأثير له في حكم رفع الطهارة ألا ترى أن جفاف جميع الأعضاء لا يؤثر في رفعها كذلك جفاف بعضها وأيضا فلو كان هذا تشبيها صحيحا وقياسا مستقيما لما صح في هذا الموضع إذ غير جائز الزيادة في النص بالقياس فلا مدخل للقياس ههنا وأيضا فإنه لا خلاف أنه لو كان في الشمس ووالى بين الوضوء إلا أنه كان يجف العضو منه قبل أن يغسل الآخر إنه لا يوجب ذلك بطلان الطهارة كذلك إذا جف بتركه إلى أن يغسل الآخر

فصل وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم الآية يدل على أن التسمية على الوضوء ليست بفرض لأنه أباح الصلاة بغسل هذه الأعضاء من غير شرط التسمية وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار وحكي عن بعض أصحاب الحديث أنه رآها فرضا في الوضوء فإن تركها عامدا لم يجزه وإن تركها ناسيا أجزأه ويدل على جوازه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا فعلق صحة الطهارة بالفعل من غير ذكر التسمية شرطا فيه فمن شرطها فهو زائد في حكم هذه الآيات ما ليس منها وناف لما أباحته من جواز الصلاة بوجود الغسل ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ولم يذكر فيه التسمية وقد علم الأعرابي الطهارة في الصلاة في حديث رفاعة بن رافع وقال لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه إلى آخره ولم يذكر التسمية وحديث علي وعثمان وعبدالله بن زيد وغيرهم في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر أحد منهم التسمية فرضا فيه وقالوا هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فلو كانت التسمية فرضا فيه لذكروها ولورد النقل به متواترا في وزن ورود
النقل في سائر الأعضاء المفروض طهارتها لعموم الحاجة إليه فإن احتجوا

بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه قيل له لا تجوز الزيادة في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به النسخ فهذا سؤال ساقط من وجهين أحدهما ما ذكرنا والآخر أن أخبار الآحاد غير مقبولة فيما عمت البلوى به وإن صح احتمل أنه يريد به نفي الكمال لا نفي الأصل كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ومن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له ونحو ذلك فإن قيل لما كان الحدث يبطله صار كالصلاة في الحاجة إلى ذكر اسم الله تعالى في ابتدائه قيل له قولك إن الحدث يبطل الصلاة غلط عندنا لأنه جائز بقاء الصلاة مع الحدث إذا سبقه ويتوضأ ويبني وأيضا فليست العلة في حاجة الصلاة إلى الذكر أن الحدث يبطلها وإنما المعنى أن القراءة مفروضة فيها وأيضا نقيسه على غسل النجاسة بمعنى أنه طهارة وأيضا فقد وافقونا على أن تركها ناسيا لا يمنع صحة الطهارة فبطل بذلك قولهم من وجهين أحدهما أن الصلاة يستوي في بطلانها ترك ذكر التحريمة ناسيا أو عامدا والثاني أنها لو كانت فرضا لما أسقطها النسيان إذ كانت شرطا في صحة الطهارة كسائر شرائطها المذكورة

فصل قوله تعالى إذا
قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل على أن الاستنجاء ليس بفرض وأن الصلاة جائزة مع تركه إذا لم يتعد الموضع وقد اختلف الفقهاء في ذلك فأجاز أصحابنا صلاته وإن كان مسيئا في تركه وقال الشافعي لا يجزيه إذا تركه رأسا وظاهر الآية يدل على صحة القول الأول وروي في التفسير أن معناه إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون وقال في نسق الآية أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فحوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا أحدهما إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء وإباحة الصلاة وموجب الاستنجاء فرضا مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا والوجه الآخر من دلالة الآية قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط إلى آخرها فأوجب التيمم على من جاء من الغائط وذلك كناية عن قضاء الحاجة فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء فدل ذلك على أنه غير فرض ويدل عليه من جهة السنة حديث علي بن يحيى بن خلاد عن

أبيه عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه
فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء
ويدل عليه أيضا حديث الحصين الحراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فنفى الحرج عن ترك الاستجمار فدل على أنه ليس بفرض
فإن قيل إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء قيل له هذا خطأ من وجهين أحدهما أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء ومن ادعى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصه بغير دلالة والثاني أنه تسقط فائدته لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم -
إذ كان وضعا للكلام في غير موضعه
فإن قيل في حديث سلمان نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن نجتزي بدون ثلاثة أحجار وروت عائشة عن النبي ص
- فليستنج بثلاثة أحجار وأمره على الوجوب فيحمل قوله فلا حرج علي مالا يسقط إيجاب الأمر وهو أن يكون إنما نفى الحرج عمن لم يستجمر وترا ويفعله شفعا لا بأن يتركه أصلا أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب قيل له بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نسقط أحدهما بالآخر فنجعل أمره بالاستنجاء ونهيه عن تركه على الندب ونستعمل معه قوله ص - ومن لا فلا حرج في نفي الإيجاب ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه إسقاط أحدهما أصلا لا سيما إذا كان خبرنا موافقا لما تضمنته نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه ويدل على أنه غير فرض وعلى جواز الصلاة مع تركه اتفاق الجميع على جواز صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار ولو كان الاستنجاء فرضا لكان الواجب أن يكون بالماء دون الأحجار كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجودا وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه فإن قيل أنت تجيز فرك المني من الثوب إذا كان يابسا ولم يدل ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيرا فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار قيل له إنما أجزنا ذلك في المني وإن كان نجسا لخفة حكمه في نفسه ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه في

جواز فركه فأما بدن الإنسان فلا يختلف حكم شيء منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جرم قائم في الخف إنه يطهر بالدلك بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يزلها إلا الغسل فيقال لها إنما اختلفنا لاختلاف حال جرم الخف وبدن الإنسان في كون جرم الخف مستخصفا غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه وجرم النجاسة سخيف متخلخل ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسها فإذا حكت لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له فصار اختلاف أحكامها في الحك والفرك والغسل متعلقا إما بنفس النجاسة لخفتها وإما بما تحله النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه أنه يجزي لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها إلى نفسه فإذا أزيل ما على ظاهره لم يبق هناك إلا ما لا حكم له

فصل ويستدل بقوله تعالى فاغسلوا
وجوهكم الآية على بطلان قول القائلين بإيجاب الترتيب في الوضوء وعلى أنه جائز تقديم بعضها على بعض على ما يرى المتوضئ وهو قول أصحابنا ومالك والثوري والليث والأوزاعي وقال الشافعي لا يجزيه غسل الذراعين قبل الوجه ولا غسل الرجلين قبل الذراعين وهذا القول مما خرج به الشافعي عن إجماع السلف والفقهاء وذلك لأنه روي عن علي وعبدالله وأبي هريرة ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي ولا يروى عن أحد من السلف والخلف فيما نعلم مثل قول الشافعي وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل من ثلاثة أوجه على سقوط فرض الترتيب أحدها مقتضى ظاهرها جواز الصلاة بحصول الغسل من غير شرط الترتيب إذ كانت الواو ههنا عند أهل اللغة لا توجب الترتيب قاله المبرد وثعلب جميعا وقالوا إن قول القائل رأيت زيدا وعمرا بمنزلة قوله رأيت الزيدين ورأيتهما وكذلك هو في عادة أهل اللفظ ألا ترى أن من سمع قائلا يقول رأيت زيدا وعمرا لم يعتقد في خبره أنه رأى زيدا قبل عمرو بل يجوز أن يكون رآهما معا وجائز أن يكون رأى عمرا قبل زيد فثبت بذلك أن الواو لا توجب الترتيب وقد أجمعوا جميعا أيضا في رجل لو قال إذا دخلت الدار فامرأتي طالق وعبدي حر وعلي صدقة أنه إذا دخل الدار لزمه

ذلك كله في وقت واحد لا يلزمه أحدها قبل الآخر كذلك وهذا يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم -

لا تقولوا ما شاء الله وشئت ولكن قولوا ما شاء الله ثم شئت فلو كانت
الواو توجب الترتيب لجرت مجرى ثم ولما فرق النبي صلى الله عليه وسلم - بينهما وإذا ثبت أنه ليس في الآية إيجاب الترتيب فموجبه في الطهارة مخالف لها وزائد فيها ما ليس منها وذلك يوجب نسخ الآية عندنا لحظره ما أباحته وهم يختلفون أنه ليس في هذه الآية نسخ فثبت جواز فعله غير مرتب والوجه الثاني من دلالة الآية قوله تعالى وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الرجل مغسول معطوفة في المعنى على الأيدي وأن تقديرها فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤسكم فثبت بذلك أن ترتيب اللفظ على هذا النظام غير مراد به ترتيب المعنى والوجه الثالث قوله في نسقها ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وهذا الفصل يدل من وجهين على سقوط الترتيب أحدهما نفيه الحرج وهو الضيق فيما تعبدنا به من الطهارة وفي إيجاب الترتيب إثبات للحرج ونفي التوسعة والثاني قوله ولكن يريد ليطهركم فأخبر أن مراده حصول الطهارة بغسل هذه الأعضاء ووجود ذلك مع عدم الترتيب كهو مع وجوده إذ كان مراد الله تعالى الغسل
فإن قيل على الفصل الأول نحن نسلم لك أن الواو لا توجب الترتيب ولكن الآية قد اقتضت إيجابه من حيث كانت الفاء للتعقيب ولا خلاف بين أهل اللغة فيه فلما قال تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لزم بحكم اللفظ أن يكون الذي يلي حال القيام إليها غسل الوجه لأنه معطوف عليه بالفاء فلزم به تقديم غسله على سائر الأعضاء وإذا لزم الترتيب في غسل الوجه لزم في سائر الأعضاء لأن أحدا لم يفرق بينهما
قيل له هذا غير واجب من وجهين أحدهما أن قوله إذا قمتم إلى الصلاة متفق على أنه ليس المراد به حقيقة اللفظ لأن الحقيقة تقتضي إيجاب الوضوء بعد القيام إلى الصلاة لأنه جعله شرطا فيه فأطلق ذكر القيام وأراد به غيره ففيه ضمير على ما بينا فيما تقدم وما كان هذا سبيله فغير جائز استعماله إلا بقيام الدلالة عليه إذ كان مجازا فإذا لا يصح إيجاب غسل الوجه مرتبا على المذكور في الآية لأجل إدخال الفاء عليه إذ كان المعنى الذي ترتب عليه الغسل موقوفا على الدلالة فهذا وجه يسقط به سؤال هذا السائل والوجه الآخر أن نسلم لهم جواز اعتبار هذا اللفظ فيما يقتضيه من الترتيب فنقول لهم

إذا ثبت أن الواو لا توجب الترتيب صار تقدير الآية إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء فيصير الجميع مرتبا على القيام وليس يختص به الوجه دون سائرها إذ كانت الواو للجمع فيصير كأنه عطف الأعضاء كلها مجموعة بالفاء على حال القيام فلا دلالة فيه على الترتيب بل تقتضي إسقاط الترتيب
ويدل على سقوط الترتيب قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا ومعناه مطهرا فحيثما وجد ينبغي أن يكون مطهرا مستوفيا لهذه الصفة التي وصفه الله بها وموجب الترتيب قد سلبه هذه الصفة إلا مع وجود معنى آخر غيره وهذا غير جائز
ويدل عليه من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة الأعرابي حين علمه الصلاة وقال له إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله وذكر الحديث فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه إذا وضع الوضوء مواضعه أجزأه ومواضع الوضوء الأعضاء المذكورة في الآية فأجاز الصلاة بغسلها من غير ذكر الترتيب فدل على أن غسل هذه الأعضاء يوجب كمال طهارته لوضعه الوضوء مواضعه
فإن قيل إذا لم يرتب فلم يضع الوضوء مواضعه
قيل له هذا غلط لأن مواضع الوضوء معلومة مذكورة في الكتاب فعلى أي وجه حصل الغسل فقد وضع الوضوء مواضعه فيجزيه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم -

بإكمال طهارته إذا فعل ذلك ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز
طهارته لو بدأ من المرفق إلى الزند وقال تعالى وأيديكم إلى المرافق فلما لم يجب الترتيب فيما هو مرتب في مقتضى حقيقة اللفظ فما لم يقتض اللفظ ترتيبه أحرى أن يجوز وهذه دلالة ظاهرة لا يحتاج معها إلى ذكر علة يجمعها لأنه قد ثبت بما وصفنا أن المقصد فيه ليس الترتيب إذ لو كان كذلك لكان ما اقتضى اللفظ ترتيبه أولى أن يكون مرتبا وأيضا يجوز أن يقاس عليها بأنهما جميعا من أعضاء الطهارة فلما سقط الترتيب في أحدهما وجب سقوطه في الآخر وأيضا لما لم يجب الترتيب بين الصلاة والزكاة إذ كل واحدة منهما يجوز سقوطها مع ثبوت فرض الأخرى كان كذلك الترتيب في الوضوء لجواز سقوط فرض غسل الرجلين لعلة بهما مع لزوم فرض غسل الوجه وأيضا لما لم يستحل جمع هذه الأعضاء في الغسل وجب أن لا يجب فيها الترتيب كالصلاة والزكاة وقد روي عن عثمان أنه
توضأ
فغسل وجهه ثم يديه ثم غسل رجليه ثم مسح ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - توضأ
فإن احتجوا بما روي

أن النبي صلى الله عليه وسلم -

توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به
قيل له ليس في هذا الخبر ذكر الترتيب وإنما هو حديث زيد العمى عن معاوية بن قرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين وذكر الحديث فلم يذكر فيه أنه فعله مرتبا وليس يمتنع أن يكون قد بدأ بالذراعين قبل الوجه أو يمسح الرأس قبله ومن ادعى أنه فعله مرتبا لم يمكنه إثباته إلا برواية
فإن قيل كيف يجوز أن يتأول عليه ترك الترتيب مع قولك إن المستحب فعله مرتبا
قيل له جائز أن يترك المستحب إلى غيره مما هو مباح ومع ذلك فيجوز أن يكون فعله غير مرتب على وجه التعليم كما أنه أخر المغرب في حال على وجه التعليم والمستحب تقديمها في سائر الأوقات
فإن قيل فإن لم يكن فعله مرتبا فواجب أن يكون فعله غير مرتب واجبا لقوله هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به
قيل له لو قبلنا ذلك وقلنا مع ذلك إن اللفظ يقتضي وجوب فعله على ما أشار به إليه من عدم ترتيب الفعل لكنا أجزناه مرتبا بدلالة تسقط سؤالك ولكنا نقول إن قوله هذا وضوء إنما هو إشارة إلى الغسل دون الترتيب فلذلك لم يكن للترتيب فيه مدخل
فإن احتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - صعد الصفا وقال نبدأ بما بدأ الله به وذلك عموم في ترتيب الحكم به واللفظ جميعا قيل له هذا يدل على أن الواو لا توجب الترتيب لأنها لو كانت توجبه لما احتاج إلا تعريفه الحاضرين وهم أهل اللسان ولا دلالة فيه مع ذلك على وجوب الترتيب في الصفا والمروة فكيف به في غيره لأن أكثر ما فيه أنه إخبار عما يريد فعله من التبدئة بالصفا وإخباره عما يريد فعله لا يقتضي وجوبا كما أن فعله لا يقتضي الإيجاب وعلى أنه لو اقتضى الإيجاب لكان حكمه مقصورا على ما أخبر به وفعله دون غيره
فإن قيل قوله ص - نبدأ بما بدأ الله به إخبار بان ما بدأ الله به في اللفظ فهو مبدوء به في المعنى لولا ذلك لم يقل نبدأ بما بدأ الله به إنما أراد التبدئة به في الفعل فتضمن ذلك إخبارا بأن الله قد بدأ به في الحكم من حيث بدأ به في اللفظ قيل له ليس هذا كما ظننت من قبل إنه يجوز أن يقول نبدأ بالفعل فيما بدأ الله به في اللفظ فيكون كلاما صحيحا مفيدا وأيضا لا يمتنع عندنا أن يريد بترتيب اللفظ ترتيب الفعل إلا أنه لا يجوز إيجابه إلا بدلالة ألا ترى أن ثم حقيقتها التراخي وقد ترد وتكون في معنى الواو كقوله تعالى ثم كان

من الذين آمنوا ومعناه وكان من الذين آمنوا وقوله تعالى ثم الله شهيد ومعناه والله شهيد وكما تجيء أو بمعنى الواو كقوله تعالى إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ومعناه إن يكن غنيا وفقيرا فكذلك لا يمتنع أن يريد بالواو الترتيب فتكون مجازا ولا يجوز حملها عليه إلا بدلالة
فإن قيل سئل ابن عباس وقيل له كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول وأتموا الحج والعمرة لله فقال كيف تقرؤن الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين قالوا الوصية قال فبأيهما تبدؤون قالوا بالدين قال فهو ذاك فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك قيل له كيف يحتج بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه وهو قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه فمن جهل هذا لم ينكر منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل أو قول هذا السائل فلو لم يكن في إسقاط قول القائلين بالترتيب إلا قول ابن عباس لكان كافيا مغنيا
فإن قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال ابدؤا بما بدأ الله به وقال تعالى إن
علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فقوله ابدؤا بما بدأ الله به أمر يقتضي التبدئة مما بدأ الله به في اللفظ والحكم وقوله عز و جل فاتبع قرآنه لزوم في عموم اتباعه مرتبا إذا ورد اللفظ كذلك قيل له وأما قوله ابدؤا بما بدأ الله به فإنما ورد في شأن الصفا والمروة فذكر بعضهم القصة على وجهها وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله ص -
ابدؤوا بما بدأ الله به وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي
ص - القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك وأيضا فنحن نبدأ بما بدأ الله به وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به وكذلك الجواب في قوله فاتبع قرآنه لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو جمع وغيره وأنت متى أوجبت الترتيب فيما لا يقتضي المراد ترتيبه فلم تتبع قرآنه وترتيب

اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل
فإن قيل إذا كان القرآن اسما للتأليف والحكم جميعا فواجب علينا اتباعه في الأمرين قيل له القرآن اسم للمتلو حكما كان أو خبرا فعلينا اتباعه في تلاوته فأما مراد ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ فإن المرجع فيه إلى مقتضى اللغة وليس في اللغة إيجاب ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ في المأمور به ألا ترى أن كثيرا من القرآن قد نزل بأحكام ثم نزلت بعده أحكام أخر ولم يوجب تقديم تلاوته تقديم فعله على ما نزل بعده وقد علمنا أنه غير جائز تعبير نظم القرآن والسور والآي عما هي عليه وليس يجب ذلك ترتيب الأحكام المذكورة فيها حسب ترتيب التلاوة فبان بذلك سقوط هذا السؤال
فإن قيل قد أثبت الترتيب بالواو في قول الرجل لامرأته أنت طالق وطالق وطالق قبل الدخول بها فأثبتها بالأولى ولم توقع الثانية والثالثة فجعلت الواو مرتبة بحكم اللفظ فكذلك قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يلزمك إيجاب الترتيب في غسل هذه الأعضاء حسب ما في نظام التلاوة من الترتيب قيل له لم نوقع الأولى قبل الثانية في مسألة الطلاق لما ذكرت من كون الواو مقتضية للترتيب وإنما أوقعنا الأولى قبل الثانية لأنه أوقعها غير معلقة بشرط ولا مضافة إلى وقت وحكم الطلاق إذا حصل هكذا أن يقع غير منتظر به حال أخرى فلما وقعت الأولى لأنه قد بدأ بها في اللفظ ثم أوقع الثانية صادفتها الثانية وليست هي بزوجة فلم تلحقها وأما قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم فلم يقع به غسل الوجه قبل اليد ولا اليد قبل المسح لأن غسل بعض هذه الأعضاء لا يغني ولا يتعلق به حكم إلا بغسل الجميع فصار غسل الجميع موجبا معا بحكم اللفظ فلم يقتض اللفظ الترتيب ألا ترى أنه لو علق الطلاق الأول والثاني والثالث بشرط فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار لم يقع منه شيء إلا بالدخول لأنه شرط في كل واحدة ما شرطه في الأخرى من الدخول كما شرط في غسل كل واحد من الأعضاء غسل الأعضاء الأخر ولا يختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق فدخلت الثانية ثم الأولى أنها تطلق ولم يكن قوله هذه وهذه موجبا لتقديم الأولى في الشرط الذي علق به وقوع الطلاق فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه وثم تقتضي الترتيب بلا خلاف قيل له لا يخلو

قائل ذلك من أن يكون متكذبا أو جاهلا وأكثر ظني أن قائله فيه متكذب وقد تعمد ذلك لأن هذا إنما هو حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع وقد روي من طرق كثيرة وليس في شيء منها ما ذكر من الترتيب وعطف الأعضاء بعضها على بعض بثم وإنما أكثر ما فيه يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين وقال في بعضها حتى يضع الطهور مواضعه وذلك يقتضي جواز ترك الترتيب وأما عطفه بثم فما رواه أحد ولا ذكره بإسناد ضعيف ولا قوي وعلى أنه لو روي ذلك في الحديث لم يجز الاعتراض به على القرآن في إثبات الزيادة فيه وإيجاب نسخه فإذ قد ثبت أنه ليس في القرآن إيجاب الترتيب فغير جائز إثباته بخبر الواحد لما وصفنا
باب

الغسل من الجنابة
قال الله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا قال أبو بكر الجنابة اسم شرعي يفيد لزوم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلا بعد الاغتسال فمن كان مأمور باجتناب ما ذكرنا من الأمور موقوف الحكم على الاغتسال فهو جنب وذلك إنما يكون بالإنزال على وجه الدفق والشهوة أو الإيلاج في أحد السبيلين من الإنسان ويستوي فيه الفاعل والمفعول به وينفصل حكم الجنابة من حكم الحيض والنفاس وإن كان الحيض والنفاس يحظران ما تحظره الجنابة مما قدمنا بأن الحيض والنفاس يحظران الوطء أيضا ووجود الغسل لا يطهرهما أيضا ما دامت حائضا أو نفساء والغسل يطهر الجنب ولا تحظر عليه الجنابة الوطء وإنما سمي جنبا لما لزم من اجتناب ما وصفنا إلى أن يغتسل فيطهره الغسل والجنب اسم يطلق على الواحد وعلى الجماعة وذلك لأنه مصدر كما قالوا رجل عدل وقوم عدل ورجل زور وقوم زور من الزيارة وتقول منه أجنب الرجل وتجنب واجتنب والمصدر الجنابة والاجتناب فالجنابة المذكورة في هذا الموضع هي البعد والاجتناب لما وصفنا وقال الله تعالى والجار ذي القربى والجار الجنب يعني البعيد منه نسبا فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفنا من الأمور وأصله التباعد عن الشيء وهو مثل الصوم قد صار اسما في الشرع للإمساك عن أشياء معلومة وقد كان أصله في اللغة الإمساك فقط واختص في الشرع بما قد علم وقوعه عليه ونظائره من الأسماء الشرعية المنقولة من اللغة إليها فكان المعقول بها ما استقرت عليه أحكامها

في الشرع فأوجب الله تعالى على من حصلت له هذه السمة الطهارة بقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا وقوله في آية أخرى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وقال وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان روي أنهم أصابتهم جنابة فأنزل الله مطرا فأزالوا به أثر الاحتلام والمفروض من غسل الجنابة إيصال المال بالغسل إلى كل موضع يلحقه حكم التطهير من بدنه لعموم قوله فاطهروا وبين النبي صلى الله عليه وسلم - مسنون الغسل فيما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد بن عبدالملك قال حدثنا محمد بن مسدد قال حدثنا عبدالله بن داود عن الأعمش عن سالم عن كريب قال حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت وضعت للنبي ص - غسلا يغتسل من الجنابة فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثا ثم صب على فرجه بشماله ثم ضرب بيده الأرض فغسلها ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثم صب على رأسه وجسده ثم تنحى ناحية فغسل رجليه فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده وكذلك الغسل من الجنابة عند أصحابنا والوضوء ليس بفرض في الجنابة لقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا وإذا اغتسل فقد تطهر وقضى عهدة الآية وقال تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إلى قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء فمن شرط في صحته مع وجود الغسل وضوءا فقد زاد في الآية ما ليس فيها وذلك غير جائز لما بينا فيما سلف فإن قيل قال الله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية وذلك عموم في سائر من قام إليها قيل له فالجنب حين غسل سائر جسده فهو غاسل لهذه الأعضاء فقد قضى عهدة الآية لأنه متوضئ مغتسل فهو إن لم يفرد الوضوء قبل الاغتسال فقد أتى بالغسل على وضوء لأنه أعم منه فإن قيل توضأ النبي صلى الله عليه وسلم - قبل الغسل قيل له هذا يدل على أنه مستحب مندوب إليه لأن ظاهر فعله لا يقتضي الإيجاب واختلف الفقهاء في وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والثوري هما فرض فيه وقال مالك والشافعي ليس بفرض فيه وقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا عموم في إيجاب تطهير سائر ما يلحقه حكم التطهير من البدن

فلا يجوز ترك شيء منه
فإن قيل من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمى متطهرا فقد فعل ما أوجبته الآية
قيل له إنما يكون مطهرا لبعض جسده وعموم الآية يقتضي تطهير الجميع فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ ألا ترى أن قوله تعالى اقتلوا المشركين عموم في سائرهم وإن كان الاسم قد يتناول ثلاثة منهم كذلك ما وصفنا ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم لأن الاسم يتناولهم إذ كان العموم شاملا للجميع فكذلك قوله تعالى فاطهروا عموم في سائر البدن فلا يجوز الاقتصار على بعضه
فإن قيل قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا يقتضي جوازه مع تركها لوقوع اسم المغتسل عليه
قيل له إذا كان قوله فاطهروا يقتضي تطهير داخل الفم والأنف فالواجب علينا استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وغير جائز الاقتصار بهما على أخصهما حكما إذ فيه تخصيص بغير دلالة ألا ترى أن من تمضمض واستنشق يسمى مغتسلا أيضا فليس في ذكره الاغتسال نفي لمقتضى قوله عز و جل وإن كنتم جنبا فاطهروا هذا يدل عليه من جهة السنة حديث الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة
وروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار قال
علي فمن ثم عاديت شعري
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر وأحمد بن عبدالله بن سابور والعمري قالوا حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال حدثنا يوسف بن أسلط عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثة فريضة وأما قوله تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة ففيه الدلالة من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أن الأنف فيه شعرة وبشرة والفم فيه بشرة فاقتضى الخبر وجوب غسلها وحديث علي أيضا يوجب غسل داخل الأنف لأن فيه شعرا فإن قيل إن العين قد يكون فيها شعر قيل له هو شاذ نادر والأحكام إنما تتعلق بالأعم الأكثر ولا حكم للشاذ النادر فيها وعلى أنا خصصناه بالإجماع ومع ذلك فإن الكلام في وجه دلالة التخصيص خروج عن المسألة والعموم سالم لنا فيما لم تقم دلالة خصوصه فإن قيل إن

ابن عمر كان يدخل الماء عينيه في الجنابة قيل له لم يكن يفعله على وجه الوجوب وقد كان مصعبا على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيها مالا يراه واجبا قد كان يتوضأ لكل صلاة ويفعل أشياء على وجه الاحتياط لا على وجه الوجوب وحديث يوسف بن أسباط الذي ذكرنا فيه نص على إيجابها فرضا فإن قيل ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل الثلاث فرضا وأنت لا تقول به قيل ظاهره يقتضي كون الثلاث فرضا وقد قامت الدلالة على سقوط فرض الاثنين وبقي حكم اللفظ فيما وراءه ويدل عليه من جهة النظر أن المفروض في غسل الجنابة غسل الظاهر والباطن مما يلحقه حكم التطهير بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر لأنها يلحقها حكم التطهير لو أصابتها نجاسة فكذلك يلزمه تطهير داخل الفم والأنف لهذه العلة فإن قيل فيجب على غسل داخل العينين لهذه العلة قيل له لو أصاب داخل عينيه نجاسة لم يلزمه تطهيرها هكذا كان يقول أبو الحسن وأيضا فليس في داخل العينين بشرة وإنما يلزم في الجنابة تطهير البشرة فإن قيل لما كان داخل العينين باطنا ولم يلزم تطهيره وجب أن يكون كذلك حكم داخل الأنف والفم قيل له وكيف صار داخل العينين باطنا فإن أردت به أنه ينطبق عليهما الجفن فذلك موجود في الإبطين لأنهما ينطبق عليهما العضد ولا خلاف في لزوم تطهيرهما في الجنابة ولا يلزمنا إيجاب المضمضة والإستنشاق في الوضوء لأجل إيجابنا لهما في الجنابة وذلك لأن الآية في إيجاب الوضوء إنما اقتضت غسل الوجه والوجه هو ما واجهك فلم يتناول داخل الأنف والفم والآية في غسل الجنابة قد أوجبت تطهير سائر البدن من غير خصوص فاستعملنا الآيتين على ما وردتا والفرق أيضا بينهما من جهة النظر أن الواجب في الوضوء غسل الظاهر دون الباطن بدلالة أنه لا يلزمنا فيه إبلاغ الماء أصول الشعر فلذلك لم يلزم تطهير الفم وداخل الأنف وفي الجنابة عليه غسل الباطن من البشرة بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر وبهذا نجيب عن قوله ص - عشر من الفطرة خمس في الرأس وخمس في البدن فذكر في الرأس المضمضة والإستنشاق فنحمله على أنه مسنون في الطهارة الصغرى ونفرق بينه وبين الجنابة بما ذكرنا والله أعلم تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله باب التيمم

بسم الله الرحمن الرحيم
باب

التيمم
قال الله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فتضمنت الآية بيان حكم المريض الذي يخاف ضرر استعمال الماء وحكم المسافر الذي لا يجد الماء إذا كان جنبا أو محدثا لأن قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط فيه بيان حكم الحدث لأن الغائط هو اسم للمنخفض من الأرض وكانوا يقضون الحاجة هناك فجعل ذلك كناية عن الحدث وقوله أو لامستم النساء مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء ولما يستدل عليه إن شاء الله تعالى وقد دل ظاهر قوله وإن كنتم مرضى على إباحة التيمم لسائر المرضى بحق العموم لولا قيام الدلالة على أن المراد بعض المرضى فروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين أنه المجدور ومن يضره الماء ولا خلاف مع ذلك أن المريض الذي لا يضره استعمال الماء لا يباح له التيمم مع وجود الماء وإباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء على ما بينا وذلك لأنه تعالى قال وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فأباح التيمم للمريض من غير شرط عدم الماء وعدم الماء إنما هو مشروط للمسافر دون المريض من قبل أنه لو جعل عدم الماء شرطا في إباحة التيمم للمريض لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المريض لأن العلة المبيحة للتيمم وجواز الصلاة به في المريض والمسافر لو كانت عدم الماء لما كان لذكر المريض مع ذكر عدم الماء فائدة إذ لا تأثير للمريض في إباحة التيمم ولا منعه إذ كان الحكم متعلقا بعدم الماء فإن قيل إذا جاز أن يذكر حال السفر مع عدم الماء وإن كان جواز التيمم متعلقا بعدم الماء دون السفر إذ لو كان واجدا للماء أجزأه التيمم لم يمتنع أن تكون إباحة التيمم للمريض موقوفة على حال عدم الماء قيل له إنما ذكر المسافر لأن الماء إنما يعدم في السفر في الأعم الأكثر فإنما ذكر السفر إبانة عن الحال التي يعدم الماء

فيها في الأعم الأكثر كما قال ص - لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين وليس المقصد فيه أن يأويه الجرين فحسب لأنه لو آواه بيت أو دار كان ذلك كذلك وإنما مراده بلوغ حال الاستحكام وامتناع إسراع الفساد إليه وإيواء الحرز لأن الجرين الذي يأويه حرز وكما قال في خمس وعشرين بنت مخاض ولم يرد به وجود المخاض بأمها وإنما أريد به أنه قد أتى عليها حول وصارت في الثاني لأنها إذا كانت كذلك كان بأمها مخاض في الأعم الأكثر فكان فائدة ذكر المسافر مع شرط عدم الماء ما وصفنا وليس كذلك المريض لأن المريض لا تعلق له بعدم الماء فعلمنا أن مراده ما يلحق من الضرر باستعمال الماء وعموم اللفظ يقتضي جواز التيمم للمريض في كل حال لولا ما روي عن السلف واتفق الفقهاء عليه من أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء لا يبيح له التيمم ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة ومحمد ومن خاف برد الماء إن اغتسل جاز له التيمم لما يخاف من الضرر وقد روي في حديث عمرو بن العاص أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم - ولم ينكره وقد اتفقوا على جوازه في السفر مع وجود الماء لخوف البرد فوجب أن يكون الحضر مثله لوجود العلة المبيحة له وكما لم يختلف حكم المرض في السفر والحضر كذلك حكم خوف ضرر الماء لأجل البرد وقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط فإن أو ههنا بمعنى الواو تقديره وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط وذلك راجع إلى المريض والمسافر إذا كانا محدثين ولزمهما فرض الصلاة وإنما قلنا إن قوله أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى الواو لأنه لو لم يكن كذلك لكان الجائي من الغائط ثالثا لهما غير المريض والمسافر فلا يكون حينئذ وجوب الطهارة على المريض والمسافر متعلقا بالحدث ومعلوم أن المريض والمسافر لا يلزمهما التيمم إلا أن يكونا محدثين فوجب أن يكون قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى وجاء أحدكم كقوله وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون معناه ويزيدون وكقوله إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ومعناه غنيا وفقيرا وأما قوله تعالى أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فإن السلف قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي هي كناية عن الجماع وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مس امرأته وقال عمر وعبدالله بن مسعود المراد اللمس

باليد وكانا يوجبان الوضوء بمس المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمم فمن تأوله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوضوء من مس المرأة ومن حمله على اللمس باليد أوجب الوضوء من مس المرأة ولم يجز التيمم للجنب واختلف الفقهاء في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي لا وضوء على من مس امرأة لشهوة أو لغير شهوة وقال مالك إن مسها لشهوة تلذذا فعليه الوضوء وكذلك إن مسته تلذذا فعليها الوضوء وقال إن مس شعرها تلذذا فعليه الوضوء وإذا قال لها شعرك طالق طلقت وقال الحسن بن صالح إن قبل لشهوة فعليه الوضوء وإن كان لغير شهوة فلا وضوء عليه وقال الليث إن مسها فوق الثياب تلذذا فعليه الوضوء وقال الشافعي إذا مس جسدها فعليه الوضوء لشهوة أو لغير شهوة والدليل على أن لمسها ليس بحدث على أي وجه كان ما روي عن عائشة من طرق مختلفة بأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ كما روي أنه كان يقبل بعض نسائه وهو صائم وقد روي الأمران جميعا في حديث واحد ولا يجوز حمله على أنه قبل خمارها وثوبها لوجهين أحدهما أنه لا يجوز أن يحمل اللفظ على المجاز بغير دلالة إذ حقيقته أن يكون قد باشر جلدها حيث قبلها وما ذكره الخصم يكون قبلة لخمارها والثاني أنه لا فائدة في نقله وأيضا فإنه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم - من الوحشة وبين أزواجه أن يكون مستورات عنه لا يصيب منها إلا الخمار ومنه حديث عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم - ليلة قالت فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك فلو كان مس المرأة حدثا لما مضى في سجوده لأن المحدث لا يجوز أن يبقى على حال السجود وحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها ومعلوم أن من فعل ذلك لا يخلو من وقوع يده على شيء من بدنها فثبت بذلك أن مس المرأة ليس بحدث وهذه الأخبار حجة على من يجعل اللمس حدثا لشهوة أو لغير شهوة ولا يحتج بها على من اعتبر اللمس لشهوة لأنه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يخبر فيه النبي ص
- أنه كان لشهوة ومسه أمامة قد علم يقينا أنه لم يكن لشهوة والذي يحتج به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمس النساء لشهوة والبلوى بذلك أعم منها بالبول والغائط ونحوهما فلو كان حدثا لما أخل النبي صلى الله عليه وسلم -
الأمة من التوقيف عليه لعموم البلوى به

وحاجتهم إلى معرفة حكمه ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض فلو كان منه توقيف لعرفه عامة الصحابة فلما روي عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه دل على أنه لم يكن منه ص -

توقيف لهم عليه وعلم أنه لا وضوء فيه فإن قيل يلزمك مثله لخصمك لأن لو لم
يكن فيه وضوء لكان من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف للكافة عليه لأنه لا وضوء فيه لعموم البلوى به قيل له لا يجب ذلك في نفي الوضوء منه كما يجب في إثباته وذلك لأنه معلوم أن الوضوء منه لم يكن واجبا في الأصل فجائز أن يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم - على ما كان معلوما عندهم من نفي وجوب الطهارة ومتى شرع الله تعالى فيه إيجاب الوضوء فغير جائز أن يتركهم بغير توقيف عليه مع علمه بما كانوا عليه من نفي إيجابه لأن ذلك يوجب إقرارهم على خلاف ما تعبدوا به فلما وجدنا قوما من جلة الصحابة لم يعرفوا الوضوء من مس المرأة علمنا أنه لم يكن منه توقيف على ذلك فإن قيل جائز أن لا يكون منه ص - توقيف في حال ذلك اكتفاء بما في ظاهر الكتاب من قوله تعالى أو لامستم النساء وحقيقته هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد قيل له في الآية نص على أحد المعنيين بل فيها احتمال لكل واحد منهما ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوغوا الاجتهاد في طلب المراد بها فليس إذا فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه وأيضا اللمس يحتمل الجماع على ما تأوله علي وابن عباس وأبو موسى ويحتمل اللمس باليد على ما روي عن عمر وابن مسعود فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ أبان ذلك عن مراد الله تعالى ووجه آخر يدل على أن المراد منه الجماع وهو أن اللمس وإن كان حقيقة للمس باليد فإنه لما كان مضافا إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع كذلك هذا ونظيره قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن يعني من قبل أن تجامعوهن وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -
أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة ومتى ورد عن النبي ص
- حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنما صدر عن الكتاب كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولا بالآية وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم -
مما ينطوي عليه ظاهر الكتاب وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه
مس اليد من وجوه أحدها اتفاق السلف من الصدر الأول أن

المراد أحدهما لأن عليا وابن عباس وأبو موسى لما تأولوه على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد وعمر وابن مسعود لما تأولاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما ومن قال إن المراد هما جميعا فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما وما روي عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعا مرادين بالآية بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود فبين في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضا بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعا بالآية وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا والجماع يوجب الغسل وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه ألا ترى إلى قوله تعالى والسارق والسارقة لما كان لفظ عموم لم يجز أن ينتظم السارقين لا يقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خمسة وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه فإن قيل لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادت الجماع واللمس باليد لأن الواجب فيها التيمم المذكور في الآية قيل له التيمم بدل والأصل هو الطهارة بالماء ومحال إيجاب التيمم إلا وقد وجب قبل ذلك الطهارة بالماء وهو بدل فيها فغير جائز أن يكون اللمس المذكور موجبا للوضوء في إحدى الحالتين وموجبا للغسل في الأخرى وأيضا إن التيمم وإن كان بصورة واحدة فإن حكمه مختلف لأن أحدهما ينوب عن غسل جميع الأعضاء والآخر غسل بعضها فغير جائز أن ينتظمهما لفظ واحد فمتى وجب لأحد المعنيين فكأنه قد نص عليه وذكره بأن قال هو الجماع فلا يدخل فيه اللمس باليد ويدل على انتفاء إرادتهما أن اللمس متى أريد به الجماع كان اللفظ كناية وإذا أريد منه اللمس باليد كان صريحا وكذلك روي عن علي وابن عباس أنهما قالا اللمس هو الجماع ولكنه كني وغير جائز أن يكون لفظ واحد كناية صريحا في حال واحدة ومن جهة أخرى يمتنع ذلك وهو أن الجماع مجاز والحقيقة هو اللمس باليد ولا يجوز أن يكون لفظ واحد حقيقة مجازا في حال واحدة فإن قيل لم لا يكون عموما في اللمس من حيث كان الجماع أيضا مسا ويكون حقيقة فيهما جميعا قيل له يمتنع ذلك من وجوه أحدها أنه قد روي عن علي وابن عباس أنه كناية عن الجماع وهما أعلم باللغة من

هذا القائل فبطل قول القائل أن اللمس صريح فيهما جميعا والآخر ما بينا من امتناع عموم واحد مقتضيا لحكمين مختلفين فيما دخلا فيه ولأن اللمس إذا أريد به مماسة في الجسد فقد حصل نقض الطهارة ووجب التيمم المذكور في الآية بمسه إياها قبل حصول الجماع لاستحالة أن يحصل جماع إلا ويحصل قبله لمس لجسدها فلا يكون الجماع حينئذ موجبا للتيمم المذكور في الآية لوجوبه قبل ذلك بمس جسدها ويدل على أن المراد الجماع دون لمس اليد أن الله تعالى قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أبان به عن حكم الحدث في حال وجود الماء ثم عطف عليه قوله وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فتيمموا صعيدا طيبا فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء فوجب أن يكون قوله أو لامستم النساء على الجنابة لتكون الآية منتظمة لهما مبينة لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه ولو كان المراد اللمس باليد لكان ذكر التيمم مقصورا على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء وحمل الآية على فائدتين أولى من الاقتصار بها على فائدة واحدة وإذا ثبت أن المراد الجماع انتفى اللمس باليد لما بينا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد فإن قيل إذا حمل على اللمس باليد كان مفيدا لكون اللمس حدثا وإذا جعل مقصورا على الجماع لم يفد ذلك فالواجب على قضيتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعا فيفيد كون اللمس حدثا ويفيد أيضا جواز التيمم للجنب فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتفاق السلف على أنهما لم يرادا ولامتناع كون اللفظ مجازا حقيقة أو كناية وصريحا فقد ساويناك في إثبات فائدة مجدد بحمله على اللمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه فما جعلك إثبات فائدة من جهة إباحة التيمم للجنب أولى ممن أثبت فائدته من جهة كون اللمس باليد حدثا قيل له لأن قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة مفيد لحكم الأحداث في حال وجود الماء ونص مع ذلك على حكم الجنابة فالأولى أن يكون ما في نسق الآية من قوله أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله أو لامستم النساء بيانا لحكم الحدث والجنابة في عدم الماء كما كان في أول الآية بيانا لحكمهما في حال وجوده وليس موضع الآية في بيان تفصيل الأحداث وإنما هي في بيان حكمها وأنت متى حملت اللمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها فلذلك كان ما ذكرناه أولى ووجه آخر وهو أن حمله على

الجماع يفيد معنيين أحدهما إباحة التيمم للجنب في حال عوز الماء والآخر أن التقاء الختانين دون الإنزال يوجب الغسل فكان حمله على الجماع أولى من الاقتصار به على فائدة واحدة وهو كون اللمس حدثا ودليل آخر على ما ذكرنا من معنى الآية وهو أنها قد قرئت على وجهين أو لامستم النساء ولمستم فمن قرأ أو لامستم فظاهره الجماع لا غير لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة كقولهم قاتله الله وجازاه وعافاه الله ونحو ذلك وهي أحرف معدودة لا يقاس عليها أغيارها والأصل في المفاعلة أنها بين اثنين كقولهم قاتله وضاربه وسالمه وصالحه ونحو ذلك وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعا ويدل على ذلك أنك لا تقول لامست الرجل ولامست الثوب إذا مسسته بيدك لانفرادك بالفعل فدل على أن قوله أو لامستم بمعنى أو جامعتم النساء فيكون حقيقته الجماع وإذا صح ذلك وكانت قراءة من قرأ أو لمستم يحتمل اللمس ويحتمل اللجماع وجب أن يكون ذلك محمولا على مالا يحتمل إلا معنى واحدا لأن مالا يحتمل إلا معنى واحدا فهو المحكم وما يحتمل معنيين فهو المتشابه وقد أمرنا الله تعالى بحكم المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب الآية فلما جعل المحكم أما للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه وذم متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه فثبت بذلك أن قوله أو لمستم لما كان محتملا للمعنيين كان متشابها وقوله أو لامستم لما كان مقصورا في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكما فوجب أن يكون معنى المتشابه مبينا عليه فإن قيل لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو قراءة من قرأ أو لامستم النساء والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا أحدهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصة فتستعملها فيه دون الجماع ويكون كل واحد من اللفظين مستعملا على مقتضاه من كناية أو صريح إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجاز ولا كناية صريحا في حال واحدة ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة قيل له لا يجوز ذلك لأن السلف من الصدر الأول

المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعا لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفا من الرسول للصحابة عليهما وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتج بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما وحمله كل واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع فثبت بذلك أن القراءتين على أي وجه حصلتا لم تقتضيا بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعا ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها وكان أبو الحسن الكرخي يجيب عن ذلك بجواب آخر وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معا في حال واحدة بل بقيام أحدهما مقام الأخرى ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز إسقاط شيء منه ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصرا على بعض القرآن لاعلى كله وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام أحدهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتهما وإثباتهما في المصحف معا ويدل على أن اللمس ليس بحدث أن ما كان حدثا لا يختلف فيه الرجال والنساء ولو مست امرأة امرأة لم يكن حدثا كذلك مس الرجل إياها وكذلك مس الرجل الرجل ليس بحدث فكذلك مس المرأة ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين أحدهما أنا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء فكل ما كان حدثا من الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأصول ومن جهة أخرى أن العلة في مس المرأة المرأة والرجل الرجل أنه مباشرة من غير جماع فلم يكن حدثا كذلك الرجل والمرأة فإن قيل قد أوجب أبو حنيفة الوضوء على من باشر امرأته وانتشرت آلته وليس بينهما ثوب ولا فرق بين مسها بيده وبين مسها ببدنه قيل له لم يوجب أبو حنيفة ههنا الوضوء بالمباشرة وإنما أوجبه إذ التقى الفرجان من غير إيلاج كذلك رواه محمد عنه وذلك لأن الإنسان لا يكاد يبلغ هذه الحال إلا ويخرج منه شيء وإن لم يشعر به فلما كان الغالب في هذه الحال خروج شيء منه وإن

لم يشعر به أوجب الوضوء له احتياطا فحكم له بحكم الحدث كما أنه لما كان الغالب من حال النوم وجود الحدث فيه حكم له بحكم الحدث فليس إذا في ذلك إيجاب الوضوء من اللمس والله أعلم بالصواب
باب

وجوب التيمم عند عدم الماء
قال ا لله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا قال أبو بكر شرط الوجود مختلف فيه والجملة التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجود إمكان استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم وليس عليه أن يغالي فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه وجعل أصحابنا جميعا شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته وأما العلم بكونه في رحله فمختلف فيه أنه من شرط الوجود وسنذكره إن شاء الله واختلف أيضا في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب وإنما قلنا أنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذورا في تركه إلى التيمم كالمريض قال الله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فنفى الحرج عنا وهو الضيق وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه العطش أعظم الضيق وقد نفاه الله تعالى نفيا مطلقا وقال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر من العسر استعمال الماء الذي يؤديه إلى الضرر وتلف النفس ألا ترى أنه لو اضطر إلى شرب الماء وحضرته الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله وروي نحو هذا القول فيمن خاف العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قميته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة إذ لا يحصل بإزائه بدل فكان إضاعة للمال لأن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه فكذلك شرى الماء بثمن غال وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ

ولا يجزيه التيمم من قبل أنه ليس فيه تضييع المال إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء مالا يكفيه لطهارته فقال أصحابنا جميعا يتيمم وليس عليه استعماله وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم وقال مالك والأوزاعي لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم فإن أحدث بعد ذلك وعندما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله وقال الشافعي عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم لا يجزيه غير ذلك قال أبو بكر قال الله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه لأنه أوجبه بهذه الشريطة ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وإن صلاته غير مجزية إلا به فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه فإن قيل قال الله تعالى فلم تجدوا ماء فأباح التيمم عند عدم ماء منكور وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف فلا يجوز التيمم مع وجوده قيل له الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن بالآية لما لزمه التيمم معه لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم وإن استعمل الماء فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله إنما اراد بالطيب الطاهر المباح كقوله تعالي عند عدم الماء الذي تصح به صلاته فإن قيل فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم قيل له لو كان هذا على ما ذكر لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود فجاز له التيمم وأيضا لما لم يجز الجمع بين غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى لكون المسح بدلا من الغسل فلم يجز الجمع بينهما وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضار والتيمم لهذه العلة وأيضا فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل فلم يجز الجمع بين ما يرفع الحدث وبين مالا يرفعه في المسح كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا

من فرضه وأيضا فإن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء وغيرجائز وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض ألا ترى أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه فإن قام مقام مالم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء وذلك مستحيل لأنه لا يتبعض فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئا متيمما في الأعضاء المغسولة وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب وعلى أن الشافعي يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين فيكون تيممه في هذين العضوين قائما مقامهما ومقام العضوين الآخرين فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقيا مع وجوده فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه فإن قيل يلزمك مثله إذا قلت فيما غسل بعض أعضائه لأنه ملزم التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه قيل له لا يلزمنا ذلك لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شيء منه فإن قال فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره قيل له إن طهارته أحد هذين لإجماعهما ولذلك أجزنا له أن يبدأ بأيهما شاء لأنه مشكوك فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشك فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما كما قالوا جميعا فيمن نسي إحدى الصلوات الخمس ولا يدري أيها هي يصلي خمس صلوات حتى يصلي على اليقين وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها كذلك ههنا وأنت تزعم أن المفروض هما جميعا في مسئلتنا وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء كالصوم بدلا من الرقبة لم يجز اجتماع بعض الرقبة والصوم وجب مثله في التيمم والماء فإن قيل الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قيل انقضائها وجب الحيض وكذلك ذات الحيص لو اعتدت بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة

قيل له إذا طرأ عليها ما ذكرت قبل انقضاء العدة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدا به وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة وكذلك التيمم ودليل آخر في المسألة وهو قوله ص - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء والدلالة من هذا قوله مالم يجد الماء فأدخل عليها الألف واللام وذلك لأحد وجهين إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال التراب طهور مالم يجد مياه الدنيا وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضا لأنه ليس ههنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة وذلك لم يوجد في مسئلتنا فجاز تيممه بظاهر الخبر واختلفوا في العلم بكون الماء في رحله هل هو شرط في الوجود أم لا فقال أبو حنيفة ومحمد إذا نسي الماء في رحله وهو مسافر فتيمم وصلى أجزأه ولا يعيد في الوقت ولا بعده وقال مالك ولا يعيد في الوقت ولا يعيد بعده وقال أبو يوسف والشافعي يعيد في الأحوال كلها والأصل فيه قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا والناسي غير واجد لما هو ناس له إذ لا سبيل له إلى الوصول إلى استعماله فهو بمنزلة من لا ماء في رحله ولا بحضرته وقال الله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فاقتضى ذلك سقوط حكم المنسي وأيضا قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم ومعلوم أن هذا الخطاب لم يتوجه إلى الناسي لأن تكليف الناسي لا يصح وإذا لم يكن مأمورا مكلفا بالغسل فهو مأمور بالتيمم لا محالة لأنه لا يجوز سقوطهما جميعا عنه مع الإمكان فثبت جواز تيممه وأيضا لا يختلفون أنه لو كان في مفازة وطلب في الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم علم أنه كان هناك بئر مغطى الرأس لم تجب عليه الإعادة ووجود الماء لا يختلف حكمه بأن يكون مالكه أو في نهر أو في بئر فلما كان جهله بماء البئر مخرجه من حكم الوجود كذلك جهله بالماء الذي في رحله فإن قيل لو نسي الطهارة أو الصلاة لم يسقطها النسيان فكذلك نسيان الماء قيل له ظاهر قوله ص - رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يقتضي سقوطه وكذلك نقول والذي ألزمناه عند الذكر هو فرض آخر غير الأول وأما الأول فقد سقط وإنما ألزمنا الناسي فعل الصلاة وألزمناه الطهارة المنسية بدلالة أخرى وإلا فالنسيان يسقط عنه القضاء لولا الدلالة وأيضا فلا تأثير للنسيان بانفراده في سقوط الفرض إلا بانضمام معنى آخر إليه فيصيران عذرا في سقوطه نحو السفر الذي هو حال عدم الماء

فإذا انضم إليه النسيان صار جميعا عذرا في سقوطه وأما نسيان الطهارة والقراءة والصلاة ونحو ذلك فلم ينضم إلى النسيان في ذلك معنى آخر حتى يصير عذرا في سقوط هذه الفرائض ومن جهة أخرى إنا جعلنا النسيان عذرا في الانتقال إلى بدل لا في سقوط أصل الفرض وفي المسائل التي ذكرتها فيها إسقاط الفروض لا نقلها إلى أبدال فلذلك اختلفا فإن قيل الناسي للماء في رحله هو واجد له قيل له ليس الوجود هو كون الماء في رحله دون إمكان الوصول إلى استعماله من غير ضرر يلحقه ألا ترى أن من معه ماء وهو يخاف على نفسه العطش يجوز له التيمم وهو واجد للماء فالناسي أبعد من الوجود لتعذر وصوله إلى استعماله ألا ترى أن من ليس في رحله ماء وهو قائم على شفير نهر إنه واجد للماء وإن لم يكن له مالكا لإمكان الوصول إلى استعماله فعلمنا أن الوجود هو إمكان التوصل إلى استعماله من غير ضرر ألا ترى أن الماء لو كان في رحله ومنعه منه مانع جاز له التيمم فعلمنا أن الوجود شرطه ما ذكرنا دون الملك فإن قيل ما تقول لو كان على ثوبه نجاسة فنسي الماء في رحله ولم يغسله وصلى فيه هل يجزيه قيل له لا نعرفها محفوظة عن أصحابنا وقياس قول أبي حنيفة أنه يجزي وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي فيمن نسي في رحله ثوبا وصلى عريانا أنه يجزيه واختلفوا في تارك الطلب إذا لم يكن بحضرته ماء هل هو غير واجد فقال أصحابنا إذا لم يطمع في الماء ولم يخبره مخبر فليس عليه الطلب ويجزيه التيمم وقال الشافعي عليه الطلب وإن تيمم قبل الطلب لم يجزه وقال أصحابنا إن طمع فيه أو أخبره مخبر بموضعه فإن كان بينه وبينه ميل أو أكثر فليس عليه إتيانه لما يلحقه من المشقة والضرر بتخلفه عن أصحابه وانقطاعه عن أهل رفقته وإن كان أقل من ميل أتاه وهذا إذا لم يخف على نفسه وما معه من لصوص أو سبع ونحوه ولم ينقطع عن أصحابه وإنما قالوا فيمن كانت حاله ما قدمنا أنه يجزيه التيمم وليس عليه الطلب من قبل أنه غير واجد للماء وقال الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا غير واجد فإن قالوا لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب قيل له هذا خطأ لأن الوجود لا يقتضي طلبا قال الله تعالى فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأطلق اسم الوجود على مالم يطلبوه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ويكون واجدا لها وإن لم يطلبها وقال في
الرقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ومعناه

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19