كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

وكذلك لو أعطاه كسوة فلم يكتس بها وباعها وإن لم يكن له كاسيا بإعطائه إذ كان موصلا إليه هذا القدر من المال بإعطائه إياه ثبت بذلك أنه ليس المقصد حصول المطعم والإكتساء وأن المقصد وصوله إلى هذا القدر من المال فلا يختلف حينئذ حكم الدراهم والثياب والطعام ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قدر في صدقة الفطر نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ثم قال أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم فأخبر أن المقصود حصول الغنى لهم عن المسألة لا مقدار الطعام بعينه إذ كان الغنى عن المسألة يحصل بالقيمة كحصوله بالطعام فإن قال قائل لو جازت القيمة وكان المقصد فيه حصول هذا القدر من المال للمساكين لما كان لذكر الإطعام والكسوة فائدة مع تفاوت قيمتها في أكثر الأحوال وفي ذكره الطعام أو الكسوة دلالة على أنه غير جائز أن يتعداهما إلى القيمة وأنه ليس المقصد حصول النفع بهذا القدر من المال دون عين الطعام والكسوة قيل له ليس الأمر على ما ظننت وفي ذكره الطعام والكسوة أعظم الفوائد وذلك أنه ذكرها ودلنا بما ذكر على جواز إعطاء قيمتها ليكون مخيرا بين أن يعطي حنطة أو يطعم أو يكسوا أو يعطي دراهم قيمة عن الحنطة أو عن الثياب فيكون موسعا في العدول عن الأرفع إلى الأوكس إن تفاوت القيمتان أو عن الأوكس إلى الأرفع أو يعطي أي المذكورين بأعيانهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - ومن وجبت في إبله بنت لبون فلم توجد أخذ منه بنت مخاض وشاتان أو عشرون درهما فخيره في ذلك وهو يقدر على أن يشتري بنت لبون وهي الفرض المذكور وكما جعل الدية مائة من الإبل واتفقت الأمة على أنها من الدراهم والدنانير أيضا قيمة للإبل على اختلافهم فيها وكمن تزوج امرأة على عبد وسط فإن جاء به بعينه قبل منه وإن جاء بقيمته قبلت منه أيضا ولم يبطل جواز أخذ القيمة في هذه المواضع حكم التسمية لغيرها فكذلك ما وصفنا ألا ترى أنه خيره بين الكسوة والطعام والعتق فالقيمة مثل أحد هذه الأشياء وهو مخير بينها وبين المذكور وإن كانت قد تختلف في الطعام والكسوة لأن في عدوله إلى الأرفع زيادة فضيلة وفي اقتصاره على الأوكس رخصة وأيهما فعل فهو المفروض وهذا مثل ما نقول في القراءة في الصلاة أن المفروض منها مقدار آية فإن أطال القراءة كان الجميع هو المفروض والمفروض من الركوع هو الجزء الذي يسمى به راكعا فإن أطال كان الفرض جميع المفعول منه ألا ترى أنه لو أطال الركوع كان

مدركه في آخر الركوع مدركا لركعته وكذلك لا يمتنع أن يكون المفروض من الكفارة قيمة الأوكس من الطعام أو الكسوة فإن عدل إلى قيمة الأرفع كان هو المفروض أيضا وقد اختلف في مقدار الكسوة فقال أصحابنا الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء وروى ابن سماعة عن محمد أن السراويل تجزي وأنه لو حلف لا يشتري ثوبا فاشترى سراويل حنث إذا كان سراويل الرجال وروى هشام عن محمد أنه لا يجزي السراويل ولا العمامة وكذلك روى بشر عن أبي يوسف وقال مالك والليث إن كسا الرجل كسا ثوبا وللمرأة ثوبين ودرعا وخمارا وذلك أدنى ما تجزي فيه الصلاة ولا يجزي ثوب واحد للمرأة ولا تجزي العمامة وقال الثوري تجزي العمامة وقال الشافعي تجزي العمامة والسراويل والمقنعة قال أبو بكر روي عن عمران بن حصين وإبراهيم والحسن ومجاهد وطاوس والزهري ثوب لكل مسكين قال أبو بكر ظاهره يقتضي ما يسمى به الإنسان مكتسيا إذا لبسه ولابس السراويل ليس عليه غيره أو العمامة ليس عليه غيرها لا يسمى مكتسيا كلابس القلنسوة فالواجب أن لا يجزي السراويل والعمامة ولا الخمار لأنه مع لبسه لأحد هذه الأشياء يكون عريانا غير مكتس وأما الإزار والقميص ونحوه فإن كل واحد من ذلك يعم بدنه حتى يطلق عليه اسم المكتسي فلذلك أجزأه قوله تعالى أو تحرير رقبة يعني عتق رقبة وتحريرها إيقاع الحرية عليها وذكر الرقبة وأراد به جملة الشخص تشبيها له بالأسير الذي تفك رقبته ويطلق فصارت الرقبة عبارة عن الشخص وكذلك قال اصحابنا إذا قال رقبتك حرة أنه يعتق كقوله أنت حر واقتضى اللفظ رقبة سليمة من العاهات لأنه اسم للشخص بكماله إلا أن الفقهاء اتفقوا على أن النقص اليسير لا يمنع جوازها فاعتبر أصحابنا بقاء منفعة الجنس في جوازها وجعلوا فوات منفعة الجنس من تلك الأعضاء مانعا لجوازها قوله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام روى مجاهد عن عبدالله بن مسعود وأبو العالية عن أبي فصيام ثلاثة ايام متتابعات وقال إبراهيم النخعي في قراءتنا فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس هن متتابعات لا يجزي فيها التفريق فثبت التتابع بقول هؤلاء ولم تثبت التلاوة لجواز كون التلاوة منسوخة والحكم ثابتا وهو قول أصحابنا وقال مالك والشافعي يجزي فيه التفريق وقد بينا ذلك في أصول الفقه قوله

تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين يقتضي إيجاب التكفير مع القدرة مع بقاء الخطاب بالكفارة وإنما يجوز الصوم مع عدم المذكور بديا لأنه قال فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فنقله عن أحد الأشياء الثلاثة إلى الصوم عند عدمها فما دام الخطاب بالكفارة قائما عليه لم يجزه الصوم مع وجود الأصل ودخوله في الصوم لم يسقط عنه الخطاب بأحد الأشياء الثلاثة والدليل عليه أنه لو دخل في صوم اليوم الأول ثم أفسده وهو واجد للرقبة لم يجز الصوم مع وجودها فثبت بذلك أن دخوله في الصوم لم يسقط عنه فرض الأصل فلا فرق بين وجود الرقبة قبل الدخول في الصوم وبعده إذ كان الخطاب بالتكفير قائما عليه في الحالين
باب

تحريم الخمر
قال الله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين أحدهما قوله رجس لأن الرجس اسم في الشرع لما يلزمه اجتنابه ويقع اسم الرجس على الشيء المستقذر النجس وهذا أيضا يلزم اجتنابه فأوجب وصفه إياها بأنها رجس لزوم اجتنابها والوجه الآخر قوله تعالى فاجتنبوه وذلك أمر والأمر يقتضي الإيجاب فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين والخمر هي عصير العنب الني المشتد وذلك متفق عليه أنه خمر وقد سمى بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيها بها مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق وقد روي في معنى الخمر آثار مختلفة منها ما روى مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع التمر والبسر وسائر ما يتخذ منهما من الأشربة ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية فهذا يدل على أن أشربة النخل لم تكن عنده تسمى خمرا وروى عكرمة عن ابن عباس قال نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر وجائز أن يكون سماه خمرا من حيث كان شرابا محرما وروى حميد الطويل عن أنس قال كنت أسقي أبي عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة فمر بنا رجل فقال إن الخمر قد حرمت فوالله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا أهرق ما في إنائك يا أنس ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله عز و جل وأنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ فأخبر أنس

إن الخمر يوما حرمت البسر والتمر وهذا جائز أن يكون لما كان محرما سماه خمرا وأن يكون المراد انهم كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامها لا أن ذلك اسم له على الحقيقة ويدل عليه أن قتادة روى عن أنس هذا الحديث وقال إنما نعدها يومئذ خمرا فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر وروى ثابت عن أنس قال حرمت علينا الخمر يوم حرمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل وعامة خمورنا البسر والتمر ومع هذا أيضا معناه أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشرب وطلب الإسكار وطيبة النفس وإنما كان شراب البسر والتمر وروى المختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة وما خمرت من ذلك فهو خمر فذكر في الحديث الأول أنه من البسر والتمر وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء فكان عنده أن ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر ثم قال وما خمرت من ذلك فهو خمر وهذا يدل على أنه إنما سمي ذلك خمرا في حال الإسكار وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر وقد روي عن عمر أنه قال إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء من العنب والتمر والعسل والشعير والخمر ما خامر العقل وهذا أيضا يدل على أنه إنما سماه خمرا في حال ما أسكر إذا أكثر منه لقوله والخمر ما خامر العقل وقد روي عن السري بن إسماعيل عن الشعبي أنه حدثه أنه سمع النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن من الحنطة خمرا وإن من الشعير خمرا وإن من الزبيب خمرا وإن من التمر خمرا وإن من العسل خمرا ولم يقل إن جميع ما يكون من هذه الأصناف خمر وإنما أخبر أن منهم خمرا ويحتمل أن يريد به ما يسكر منه فيكون محرما في تلك الحال ولم يرد بذلك أن ذلك اسم لهذه الأشربة المتخذة من هذه الأصناف لأنه قد روي عنه بأسانيد أصح من إسناد هذا الحديث ما ينفي أن يكون الخمر من هذه الأصناف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير العنبري وهو يزيد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبيد بن حاتم قال حدثنا ابن عمار الموصلي قال حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن عكرمة بن عمار عن أبي كثير عن أبي هريرة قال

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الخمر من هاتين الشجرتين النخل والعنب وهذا الخبر يقضي على جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب بصحة سنده وقد تضمن نفي اسم الخمر عن الخارج من غير هاتين الشجرتين لأن قوله الخمر اسم للجنس فاستوعب بذلك جميع ما يسمى خمرا فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما مسمى باسم الخمر واقتضى هذا الخبر أيضا أن يكون المسمى بهذا الاسم من الخارج من هاتين الشجرتين وهو على أول الخارج منهما مما يسكر منه وذلك هو العصير الني المشتد ونقيع التمر والبسر قبل أن تغيره النار لأن قوله منهما يقتضي أول خارج منهما مما يسكر والذي حصل عليه الاتفاق من الخمر هو ما قدمنا ذكره من عصير العنب الني المشتد إذ غلا وقذف بالزبذ فيحتمل على هذا إذا كان الخمر ما وصفنا أن يكون معنى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - الخمر من هاتين الشجرتين أن مراده أنها من إحداهما كما قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وإنما الرسل من الإنس وقال تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرج من أحدهما ويدل على أن الخمر هو ما ذكرنا وأن ما عداها ليس بخمر في الحقيقة اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من هذه الأشربة غير مستحق لسمة الكفر فلو كانت خمرا لكان مستحلها كافرا خارجا عن الملة كمستحل الني المشتد من عصير العنب وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر في الحقيقة إنما يتناول ما وصفنا وزعم بعض من ليس معه من الورع إلا تشدده في تحريم النبيذ دون التورع عن أموال الأيتام وأكل السحت أن كتاب الله عز و جل والأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وما جاء في الحديث من تفسير الخمر ما هي واللغة القائمة المشهورة والنظر وما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم يدل على أن كل شيء أسكر فهو خمر فأما كتاب الله فقوله تتخذون منه سكرا فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخل فادعى هذا القائل أن كتاب الله يدل على أن ما أسكر فهو خمر ثم تلا الآية وليس في الآية أن السكر ما هو ولا أن السكر خمر فإن كان السكر خمرا على الحقيقة فإنما هو الخمر المستحيلة عن عصير العنب لأنه قال ومن ثمرات النخيل والأعناب ومع ذلك فإن الآية مقتضية لإباحة السكر المذكور فيها لأنه تعالى اعتد علينا فيها بمنافع النخيل والأعناب كما اعتد بمنافع الأنعام وما خلق فيها من اللبن فلا دلالة في الآية إذا على تحريم

السكر ولا على أن السكر خمر ولو دلت على أن السكر خمر لما دلت على أن الخمر تكون من كل ما يسكر إذ فيها ذكر الأعناب التي منها تكون الخمر المستحيلة من عصيرها فكان دعواها على الكتاب غير صحيحة وذكر من الأحاديث في ذلك ما قدمنا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وعن السلف وقد بينا وجهه وذكرنا ما روي عن النبي ص
- أنه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وكل شراب أسكر فهو حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام ونحوها من الأخبار والمعنى في هذه الأخبار حال وجود الإسكار دون غيرها الموافق لما ذكرنا من الأخبار النافية لكونها خمرا وما ذكرنا من دلالة الإجماع وقد تواترت الآثار عن جماعة من عليه السلف شرب النبيذ الشديد منهم عمر وعبدالله وأبو الدرداء وبريدة في آخرين قد ذكرناهم في كتابنا في الأشربة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه شرب من النبيذ الشديد في أخبار أخر فينبغي على قول هذا القائل أن يكونوا قد شربوا خمرا وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا مطين قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل مسكر حرام فقلنا يا ابن عباس إن هذا النبيذ الذي نشرب يسكرنا قال ليس هكذا إن شرب أحدكم تسعة أقداح لم يسكر فهو حلال فإن شرب العاشر فأسكره فهو حرام حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا هودة قال حدثنا عوف بن سنان عن أبي الحكم عن بعض الأشعريين عن الأشعري قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومعاذا إلى اليمن فقلت يا رسول الله إنك تبعثنا إلى أرض بها أشربة منها البتع من العسل والمزر من الشعير والذرة يشتد حتى يسكر قال وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم - جوامع الكلم فقال إنما حرم المسكر الذي يسكر عن الصلاة فأخبر ص - في هذا الحديث أن المحرم منه ما يوجب السكر دون غيره وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا عبدالرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الأشربة عام حجة الوداع فقال حرم الخمر بعينها والسكر من كل شراب وفي هذا الحديث أيضا بيان ما حرم من الأشربة سوى الخمر وهو ما يوجب السكر وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا سماك بن حرب عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار قال سمعت رسول الله ص

يقول اشربوا في الظروف ولا تسكروا فقوله اشربوا في الظروف منصرف إلى ما كان حظره من الشرب في الأوعية فأباح الشرب منها بهذا الخبر ومعلوم أن مراده ما يسكر كثيره ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال اشربوا الماء ولا تسكروا إذا كان الماء لا يسكر بوجه ما فثبت أن مراده إباحة شرب قليل ما يسكره كثيره وأما ما روي عن الصحابة من شرب النبيذ الشديد فقد ذكرنا منه طرفا في كتاب الأشربة ونذكر ههنا بعض ما روي فيه حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حسين بن جعفر القتات قال حدثنا يزيد بن مهران الخباز قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين والأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قال كنا ندخل على عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فيسقينا النبيذ الشديد وحدثنا عبدالله بن الحسين الكرخي قال حدثنا أبو عون الفرضي قال حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال حدثنا نعيم بن حماد قال كنا عند يحيى بن سعيد القطان بالكوفة وهو يحدثنا في تحريم النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش حتى وقف عليه فقال أبو بكر أسكت يا صبي حدثنا الأعمش بن إبراهيم عن علقمة قال شربنا عند عبدالله بن مسعود نبيذا صلبا آخره يسكر وحدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال شهدت عمر بن الخطاب حين طعن وقد أتي بالنبيذ فشربه قال عجبنا من قول أبي بكر ليحيى أسكت يا صبي وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الشعبي عن سعيد وعلقمة أن أعرابيا شرب من شراب عمر فجلده عمر الحد فقال الأعرابي إنما شربت من شرابك فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال من رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه وقال فيه إنه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابي وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا المعمري قال حدثنا محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب قال حدثنا عمر قال حدثني عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك عن أم سليم وأبي طلحة أنهما كانا يشربان نبيذ الزبيب والتمر يخلطانه فقيل له يا أبا طلحة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

نهى عن هذا فقال إنما نهى عنه للعوز في ذلك الزمان كما نهى عن الإقران
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب كثير وقد ذكرنا منه طرفا في كتابنا الأشربة وكرهت التطويل بإعادته هنا وما روي عن أحد من الصحابة والتابعين تحريمه الأشربة التي يبيحها أصحابنا فيما نعلمه وإنما روي عنهم تحريم نقيع الزبيب والتمر وما لم يرد من العصير إلى الثلث إلى أن نشأ

قوم من الحشو تصنعوا عند العامة بالتشديد في تحريمه ولو كان النبيذ محرما لورد النقل به مستفيضا لعموم البلوى كانت به إذ كانت عامة أشربتهم نبيذ التمر والبسر كما ورد تحريم الخمر وقد كانت بلواهم بشرب النبيذ أعم منها بشرب الخمر لقلتها كانت عندهم وفي ذلك دليل على بطلان قول موجبي تحريمه وقد استقصينا الكلام في ذلك من سائر وجوهه في الأشربة وأما الميسر فقد روي عن علي أنه قال الشطرنج من الميسر وقال عثمان وجماعة من الصحابة والتابعين النرد وقال قوم من أهل العلم القمار كله من الميسر وأصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه وهو السهام التي يجيلونها فمن خرج سهمه استحق منه ما توجبه علامة السهم فربما أخفق بعضهم حتى لا يخطئ بشيء وينجح البعض فيحظى بالسهم الوافر وحقيقته تمليك المال على المخاطرة وهو أصل في بطلان عقود التمليكات الواقعة على الأخطار كالهبات والصدقات وعقود البياعات ونحوها إذا علقت على الأخطار بأن يقول قد بعتك إذا قدم زيد ووهبته لك إذا خرج عمرو لأن معنى إيسار الجزور أن يقول من خرج سهمه استحق من الجزور كذا فكان استحقاقه لذلك السهم منه معلقا على الحظر والقرعة في الحقوق تنقسم إلى معنيين أحدهما تطييب النفوس من غير إحقاق واحد من المقترعين ولا بخس حظه مما اقترعوا عليه مثل القرعة في القسمة وفي قسم النساء وفي تقديم الخصوم إلى القاضي والثاني مما ادعاه مخالفونا في القرعة بين عبيد أعتقهم المريض ولا مال له غيرهم فقول مخالفينا هنا من جنس الميسر المحظورة بنص الكتاب لما فيه من نقل الحرية عمن وقعت عليه إلى غيره بالقرعة ولما فيه أيضا من إحقاق بعضهم وبخس حقه حتى لا يخطئ منه بشيء واستيفاء بعضهم حقه وحق غيره ولا فرق بينه وبين الميسر في المعنى وأما الأنصاب فهي ما نصب للعبادة من صنم أو حجر غير مصور أو غير ذلك من سائر ما ينصب للعبادة وأما الأزلام فهي القداح وهي سهام كانوا يجعلون عليها علامات أفعل ولا تفعل ونحو ذلك فيعملون في سائر ما يهتمون به من أعمالهم على ما تخرجه تلك السهام من أمر أو نهي أو إثبات أو نفي ويستعملونها في الأنساب أيضا إذا شكوا فيها فإن خرج لا نفوه وإن خرج نعم أثبتوه وهي سهام الميسر أيضا وأما قوله رجس من عمل الشيطان فإن الرجس هو الذي يلزم اجتنابه إما لنجاسته وإما لقبح ما يفعل به عباده أو تعظيم لأنه يقال رجس نجس فيراد

بالرجس النجس ويتبع أحدهما الآخر كقولهم حسن بسن وعطشان نطشان وما جرى مجرى ذلك والرجز قد قيل فيه إنه العذاب في قوله تعالى لئن كشفت عنا الرجز أي العذاب وقد يكون في معنى الرجس كما في قوله والرجز فاهجر وقوله ويذهب عنكم رجز الشيطان وإنما قال تعالى من عمل الشيطان لأنه يدعو إليه ويأمر به فأكد بذلك أيضا حكم تحريمها إذ كان الشيطان لا يأمر إلا بالمعاصي والقبائح والمحرمات وجازت نسبته إلى الشيطان على وجه المجاز إذ كان هو الداعي إليه والمزين له ألا ترى لو أغرى غيره أو نسبه وزينه له جاز أن يقال له هذا من عملك قوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر الآية فإنما يريد به ما يدعو الشيطان إليه ويزينه من شرب الخمر حتى يسكر منها شاربها فيقدم على القبائح ويعربد على جلسائه فيؤدي ذلك إلى العداوة والبغضاء وكذلك القمار يؤدي إلى ذلك قال قتادة كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء ومن الناس من يستدل به على تحريم النبيذ إذ كان السكر منه يوجب من العداوة والبغضاء مثل ما يوجبه السكر في الخمر وهذا المعنى لعمري موجود فيما يوجب السكر منه غير موجود فيما لا يوجبه ولا خلاف في تحريم ما يوجب السكر منه وأما قليل الخمر فليست هذه العلة موجودة فيه فهو محرم لعينه وليس فيه علة تقتضي تحريم قليل النبيذ قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك لما حرم الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهم يشربون الخمر قبل أن تحرم فقالت الصحابة كيف بمن مات منا وهم يشربونها فأنزل الله تعالى هذه الآية وروى عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي إن قوما شربوا بالشام وقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية فأجمع عمر وعلي على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا وروى الزهري قال أخبرني عبدالله بن عامر بن ربيعة أن الجارود سيد بني عبدالقيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر وأراد عمر أن يجلده فقال قدامة ليس لك ذلك لأن الله تعالى يقول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية فقال عمر إنك قد أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك فلم يحكموا على قدامة بحكمهم

على الذين شربوها بالشام ولم يكن حكمه حكمهم لأن أولئك شربوها مستحلين لها ومستحل ما حرم الله كافر فلذلك استتابوهم وأما قدامة بن مظعون فلم يشربها مستحلا لشربها وإنما تأول الآية على أن الحال التي هو عليها ووجود الصفة التي ذكر الله تعالى في الآية فيه مكفرة لذنوبه وهو قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين فكان عنده أنه من أهل هذه الآية وأنه لا يستحق العقوبة على شربها مع اعتقاده لتحريمها ولتكفير إحسانه إساءته وأعاد ذكر الاتقاء في الآية ثلاث مرات والمراد بكل واحد منهما غير المراد بالأخرى فأما الأول فمن اتقى فيما سلف والثاني الاتقاء منهم في مستقبل الأوقات والثالث اتقاء ظلم العباد والإحسان إليهم
باب

الصيد للمحرم
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد قيل في موضع من ههنا أنها للتبعيض بأن يكون المراد صيد البر دون صيد البحر وصيد الإحرام دون صيد الإحلال وقيل إنها للتمييز كقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان وقولك باب من حديد وثوب من قطن وجائز أن يريد ما يكون من أجزاء الصيد وإن لم يكن صيدا كالبيض والفرخ لأن البيض من الصيد وكذلك الفرخ والريش وسائر أجزائه فتكون الآية شاملة لجميع هذه المعاني ويكون المحرم بعض الصيد في بعض الأحوال وهو صيد البر في حال الإحرام ويفيد أيضا تحريم ما كان من أجزاء الصيد ونما عنه كالبيض والفرخ والوبر وغيره وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى تناله أيديكم قال فراخ الطير وصغار الوحش وقال مجاهد الفرخ والبيض وقد روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أتاه أعرابي بخمس بيضان فقال إنا محرمون وإنا لا نأكل فلم يقبلها وروى
عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى في بيض نعام أصابه المحرم بقيمته وروي عن عمر وعبدالله بن مسعود وابن عباس وأبي موسى في بيض النعامة يصيبه المحرم أن عليه قيمته ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في ذلك وقوله تعالى ورماحكم قال ابن عباس كبار الصيد قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم

حرم قيل فيه ثلاثة أوجه كلها محتمل أحدها محرمون بحج أو عمرة والثاني دخول الحرم يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم كما يقال أنجد إذا أتى نجدا وأعرق إذا أتى العراق وأتهم إذا أتى تهامة والثالث الدخول في الشهر الحرام كما قال الشاعر ... قتل الخليفة محرما ...
يعني في الشهر الحرام وهو يريد عثمان بن عفان رضي الله عنه ولا خلاف أن الوجه الثالث غير مراد بهذه الآية وأن الشهر الحرام لا يحظر الصيد والوجهان الأولان مرادان وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -

النهي عن صيد الحرم للحلال والمحرم فدل أنه مراد بالآية لأنه متى ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم - حكم ينتظمه لفظ القرآن فالواجب أن يحكم بأنه صدر عن الكتاب غير مبتدأ وقوله عز و جل لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم يقتضي عمومه صيد البر والبحر لولا ما خصه بقوله أحل لكم صيد البحر وطعامه فثبت أن المراد بقوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم صيد البر خاصة دون صيد البحر وقد دل قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم أن كل ما يقتله المحرم من الصيد فهو غير ذكي لأن الله تعالى سماه قتلا والمقتول لا يجوز أكله وإنما يجوز أكل المذبوح على شرائط الذكاة وما ذكي من الحيوان لا يسمى مقتولا لأن كونه مقتولا يفيد أنه غير مذكى وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم قد دل على أن هذه الخمسة ليست مما يؤكل لأنه مقتول غير مذكى ولو كان مذكى كانت إفاتة روحه لا تكون قتلا ولم يكن يسمى بذلك وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لله علي ذبح شاة أن عليه أن يذبح ولو قال لله علي قتل شاة لم يلزمه شيء وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لله علي ذبح ولدي أو نحره فعليه شاة ولو قال لله علي قتل ولدي لم يلزمه شيء لأن اسم الذبح متعلق بحكم الشرع في الإباحة والقربة وليس كذلك القتل وروي عن سعيد بن المسيب في قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم قال قتله حرام في هذه الآية وأكله حرام في هذه الآية يعني أكل ما قتله المحرم منه وروى أشعث عن الحسن قال كل صيد يجب فيه الجزاء فذلك الصيد ميتة لا يحل أكله وروى عنه يونس أيضا أنه لا يؤكل وروى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في الصيد يذبحه المحرم قال يأكله الحلال وعن عطاء إذا أصاب المحرم الصيد لا يأكله الحلال وقال الكم وعمرو بن دينار يأكله الحلال وهو قول سفيان وقد ذكرنا

دلالة الية على تحريم ما اصابه المحرم من الصيد وأنه لا يكون مذكى ويدل على أن تحريمه عليه من طريق الدين على أنه حق الله تعالى فأشبه صيد المجوسي والوثني وما ترك فيه التسمية أو شيء من شرائط الذكاة ليس بمنزلة الذبح بسكين مغصوبة لأن تحريمه تعلق بحق آدمي ألا ترى أنه لو أباحه جاز فلم يمنع صحة الذكاة إذ كانت الذكاة حقا لله تعالى فشروطها ما كان حقا لله تعالى
باب

ما يقتله المحرم
قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم لما كان خاصا في صيد البر دون صيد البحر لما ذكرنا في سياق الآية من التخصيص اقتضى عمومه تحريم سائر صيد البر إلا ما خصه الدليل وقد روى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم الحية والعقرب والغراب والفأرة والكلب العقور على اختلاف منهم في بعضها وفي بعضها هن فواسق وروي عن أبي هريرة قال الكلب العقور والأسد وروى حجاج بن أرطاة عن وبرة قال سمعت ابن عمر يقول أمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقتل الذئب والفأرة والغراب والحدأة فذكر في هذا الحديث الذئب وذكر القعنبي عن مالك قال الكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والذئب وهو الكلب العقور وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب والهرة وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم فإن قتل منهن شيئا فداه قال أبو بكر قد تلقى الفقهاء هذا الخبر بالقبول واستعملوه في إباحة قتل الأشياء الخمسة للمحرم وقد اختلف في الكلب العقور فقال أبو هريرة على ما قدمنا الرواية فيه أنه الأسد ويشهد لهذا التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم - دعا على عتبة بن أبي لهب فقال أكلك كلب الله فأكله الأسد قيل له إن الكلب العقور هو الذئب وروي في بعض أخبار ابن عمر في موضع الكلب الذئب ولما ذكر الكلب العقور أفاد بذلك كلبا من شأنه العدو على الناس وعقرهم وهذا صفة الذئب فأولى الأشياء بالكلب ههنا الذئب وقد دل على أن كل ما عدا على المحرم وابتدأه بالأذى فجائز له قتله من غير فدية لأن فحوى ذكره الكلب العقور يدل عليه وكذلك قال أصحابنا فيمن ابتدأه السبع فقتله فلا شيء عليه وإن كان هو الذي ابتدأ السبع فعليه الجزاء لعموم قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم واسم الصيد واقع على كل ممتنع الأصل متوحش

ولا يختص بالمأكول منه دون غيره ويدل عليه قوله تعالى ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم فتعلق الحكم منه بما تناله أيدينا ورماحنا ولم يخصص المباح منه دون المحظور الأكل ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم - الأشياء المذكورة في الخبر وذكر معها الكلب العقور فكان تخصيصه لهذه الأشياء وذكره للكلب العقور دليلا على أن كل ما ابتدأ الإنسان بالأذى من الصيد فمباح للمحرم قتله لأن الأشياء المذكورة من شأنها أن تبتدئ بالأذى فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت قد لا تبتدئ في حال لأن الأحكام إنما تتعلق في الأشياء بالأعم الأكثر ولا حكم للشاذ النادر ثم لما ذكر الكلب العقور وقيل هو الأسد فإنما أباح قتله إذا قصد بالعقر والأذى وإن كان الذئب فذلك من شأنه في الأغلب فما خصه النبي صلى الله عليه وسلم - من ذلك بالخبر وقامت دلالته فهو مخصوص من عموم الآية وما لم يخصه ولم تقم دلالة تخصيصه فهو محمول على عمومها ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم وقد نهى رسول الله ص
- عن أكل كل ذي ناب من السباع والضبع من ذي الناب من السباع وجعل النبي صلى الله عليه وسلم - فيها كبشا فإن قيل هلا قست على الخمس ما كان في معناها وهو مالا يؤكل لحمه قيل له إنما خص هذه الأشياء الخمسة من عموم الآية وغير جائز عندنا القياس على المخصوص إلا أن تكون علته مذكورة فيه أو دلالة قائمة فيما خص فلما لم تكن للخمس علة مذكورة فيها لم يجز القياس عليها في تخصيص عموم الأصل وقد بينا وجه دلالته على ما يبتدئ الإنسان بالأذى من السباع وكونه غير مأكول اللحم لم تقم عليه دلالة من فحوى الخبر ولا علته مذكورة فيه فلم يجز اعتباره وأيضا فإنه لا خلاف فيما ابتدأ المحرم في سقوط الجزاء فجاز تخصيصه بالإجماع وبقي حكم عموم الآية فيما لم يخصه الخبر ولا الإجماع وعن أصحابنا من يأبى القياس في مثله لأنه حصره بعدد فقال خمس يقتلهن المحرم وفي ذلك دليل على أن ما عداه محظور فغير جائز استعمال القياس في إسقاط دلالة اللفظ ومنهم من يأبى صحة الاعتلال بكونه غير مأكول لأن ذلك نفي والنفي لا يكون علة وإنما العلل أوصاف ثابتة في الأصل المعلول وأما نفي الصفة فليس يجوز أن يكون علة فإن غير الحكم بإثبات وصف وجعل العلة أنه محرم الأكل لم يصح ذلك أيضا لأن التحريم هو الحكم بنفي الأكل فلم يخل من أن يكون نافيا للصفة فلم يصح الاعتلال بها

وزعم الشافعي أن مالا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا قال أبو بكر اختلف الناس في ذلك على ثلاثة أوجه فقال قائلون وهم الجمهور سواء قتله عمدا أو خطأ فعليه الجزاء وجعلوا فائدة تخصيصه العمد بالذكر في نسق التلاوة من قوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه وذلك يختص بالعمد دون الخطأ لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد فخص العمد بالذكر وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه وهو قول عمر وعثمان والحسن رواية وإبراهيم وفقهاء الأمصار والقول الثاني ما روى منصور عن قتادة عن رجل قد سماه عن ابن عباس أنه كان لا يرى في الخطأ شيئا وهو قول طاوس وعطاء وسالم والقاسم وأحد قولي مجاهد في رواية جابر الجعفي عنه والقول الثالث ما روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ومن قتله منكم متعمدا قال إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء وإن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتله فلا جزاء عليه وفي بعض الروايات قد فسدت حجه وعليه الهدي وقد روي عن الحسن نحو قول مجاهد في أن الجزاء إنما يجب إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه والقول الأول هو الصحيح لأنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذى من رأسه ولم يخلهما من إيجاب الكفارة وكذلك لا خلاف في فوات الحج لعذر أو غيره أنه غير مختلف الحكم ولما ثبت ذلك في جنايات الإحرام وكان الخطأ عذرا لم يكن مسقطا للجزاء فإن قال قائل لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسا وليس في المخطئ نص في إيجاب الجزاء قيل له ليس هذا عندنا قياسا لأن النص قد ورد بالنهي عن قتل الصيد في قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وذلك عندنا يقتضي إيجاب البدل على متلفه كالنهي عن قتل صيد الآدمي أو إتلاف ماله يقتضي إيجاب البدل على متلفه فلما جرى الجزاء في هذا الوجه مجرى البدل وجعله الله مثلا للصيد اقتضى النهي عن قتله إيجاب بدل على متلفه ثم ذلك البدل يكون الجزاء بالاتفاق وأيضا فإنه لما ثبت استواء حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام كان مفهوما من ظاهر النهي تساوي حال العامد والمخطئ وليس ذلك عندنا قياسا كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي صلى الله عليه وسلم - في بريرة ليس بقياس وكذلك حكما في العصفور بحكم الفأرة وحكما في الزيت بحكم السمن إذا مات فيه ليس

هو قياسا على الفأرة وعلى السمن لأنه قد ثبت تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا فإذا ورد في شيء منه كان حكما في جميعه ولذلك قال أصحابنا إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم - ببقاء صوم الآكل ناسيا هو حكم فيه ببقاء صوم المجامع ناسيا لأنهما غير مختلفين فيما يتعلق بهما من الأحكام في حال الصوم وكذلك قالوا فيمن سبقه الحدث في الصلاة من بول أو غائط أنه بمنزلة الرعاف والقيء اللذين جاء فيهما الأثر في جواز البناء عليها لأن ذلك غير مختلف فيما يتعلق بهما من أحكام الطهارة والصلاة فلما ورد الأثر في بعض ذلك كان ذلك حكما في جميعه وليس ذلك بقياس كذلك حكم قاتل الصيد خطأ وأما المجاهد فإنه تارك لظاهر الآية لأن الله تعالى قال ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فمن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتل الصيد فقد شمله الاسم فواجب عليه الجزاء ولا معنى لاعتبار كونه ناسيا لإحرامه عامدا لقتله فإن قال قائل نص الله تعالى على كفارة قاتل الخطأ فلم تردوا عليه قاتل العمد كذلك لما نص الله تعالى على قاتل العمد بإيجاب الجزاء لم يجز إيجابها على قاتل الخطأ قيل له الجواب عن هذا من وجوه أحدها أن الله تعالى لما نص الله على حكم كل واحد من القتلين وجب استعمالهما ولم يجز قياس أحدهما على الآخر لأنه غير جائز عندنا قياس المنصوصات بعضها على بعض ومن جهة أخرى أن قتل العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة والدية ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء لم يجب عليه شيء آخر فيكون لغوا عاريا من حكم وذلك غير جائز وأيضا فإن أحكام القتل في الأصول مختلفة في العمد والخطأ والمباح والمحظور ولم يختلف ذلك في الصيد فلذلك استوى حكم العمد والخطأ فيه واختلف في قتل الآدمي قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل اختلف في المراد بالمثل فروي عن ابن عباس أن المثل نظيره في الأروى بقرة وفي الظبية شاة وفي النعامة بعير وهو قول سعيد بن جبير وقتادة في آخرين من التابعين وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وذلك فيما له نظير من النعم فأما مالا نظير له منه كالعصفور ونحوه ففيه القيمة وروى الحجاج عن عطاء ومجاهد وإبراهيم في المثل أنه القيمة دراهم وروي عن مجاهد رواية أخرى أنه الهدي وقال أبو حنيفة وأبو يوسف المثل هو القيمة ويشتري بالقيمة هديا إن شاء وإن شاء اشترى طعاما وأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما قال أبو بكر

المثل اسم يقع على القيمة وعلى النظير من جنسه وعلى نظيره من النعم ووجدنا المثل الذي يجب في الأصول على أحد وجهين إما من جنسه كمن استهلك لرجل حنطة فيلزمه أن مثلها وإما من قيمة كمن استهلك ثوبا أو عبدا والمثل من غير جنسه ولا قيمة خارج عن الأصول واتفقوا أن المثل من جنسه غير واجب فوجب أن يكون المثل المراد بالآية هو القيمة وأيضا لما كان ذلك متشابها محتملا للمعاني وجب حمله على ما اتفقوا على معناه من المثل المذكور في القرآن وهو قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فلما كان المثل في هذا الموضع فيما لا مثل له من جنسه هو القيمة وجب أن يكون المثل المذكور للصيد محمولا عليه من وجهين أحدهما أن المثل في آية الاعتداء محكم متفق على معناه بين الفقهاء وهذا متشابه يجب رده إلى غيره فوجب أن يكون مردودا على ما اتفق على معناه منه والوجه الثاني أنه قد ثبت أن المثل اسم للقمية في الشرع ولم يثبت أنه اسم للنظير من النعم فوجب حمله على ما قد ثبت اسما له ولم يجز حمله على ما لم يثبت أنه اسم له وأيضا قد اتفقوا أن القيمة مرادة بهذا المثل فيما لا نظير له من النعم فوجب أن تكون هي المرادة من وجهين أحدهما أنه قد ثبت أن القيمة مرادة فهو بمنزلة لو نص عليها فلا ينتظم النظير من النعم والثاني أنه لما ثبت أن القيمة مرادة انتفى النظير من النعم لاستحالة إرادتهما جميعا في لفظ واحد لأنهم متفقون على أن المراد أحدهما من قيمة أو نظير من النعم ومتى ثبت أن القيمة مرادة انتفى غيرها ومن جهة أخرى أن قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم لما كان عاما فيما له نظير وفيما لا نظير له ثم عطف عليه قوله ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل وجب أن يكون ذلك المثل عاما في جميع المذكور والقيمة بذلك أولى لأنه إذا حمل على القيمة كان المثل عاما في جميع المذكور وإذا حمل على النظير كان خاصا في بعضه دون بعض وحكم اللفظ استعماله على عمومه ما أمكن ذلك فلذلك وجب أن يكون اعتبار القيمة أولى ومن اعتبر النظير جعل اللفظ خاصا في بعض المذكور دون البعض فإن قيل إذا كان اسم المثل يقع على القيمة تارة وعلى النظير أخرى فمن استعملهما فيما له نظير على النظير وفيما لا نظير له من النعم على القيمة فلم يخل من استعمال لفظ المثل على عمومه إما في القيمة أو المثل قيل له ليس كذلك بل هو مستعمل في القيمة على الخصوص وفي النظير على

الخصوص أيضا واستعماله على العموم في جميع ما انتظمه الاسم باعتبار القيمة أولى من استعماله على الخصوص في كل واحد من المعنيين فإن قال قائل المثل اسم للنظير وليس باسم للقيمة وإنما أوجبت القيمة فيما لا نظير له من الصيد بالإجماع لا بالآية قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن الله تعالى قد سمى القيمة مثلا في قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتفق فقهاء الأمصار فيمن استهلك عبدا أن عليه قيمته وحكم النبي صلى الله عليه وسلم - على معتق عبد بينه وبين غيره بنصف قيمته إذا كان موسرا فبان بذلك غلط هذا القائل في نفيه اسم المثل عن القيمة ووجه آخر وهو أن قولك إن الآية لم تقتض إيجاب الجزاء فيما لا نظير له تخصيص لها بغير دليل مع دخول ذلك في عموم قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وقوله ومن قتله منكم متعمدا والهاء في قتله كناية عن جميع المذكور من الصيد فإذا خرجت منه بعضه فقد خصصته بغير دليل وذلك غير سائغ ويدل على أن المثل القيمة دون النظير أن جماعة من الصحابة قد روي عنهم في الحمامة شاة ولا تشابه بين الحمامة والشاة في المنظر فعلمنا أنهم أوجبوها على وجه القيمة فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه جعل في الضبع كبشا قيل له لأن تلك كانت قيمته ولا دلالة فيه على أنه أوجبه من حيث كان نظيرا له فإن قال قائل إنما كان يسوغ هذا التأويل وحمل الآية على القيمة ولم يكن في الآية بيان المراد بالمثل وقد فسر في نسق الآية معنى المثل في قوله فجزاء مثل ما قتل من النعم فأخبر أن المثل من النعم ولا مساغ للتأويل مع النص قيل له إنما كان يكون على ما ادعيت لو اقتصر على ذلك ولم يصله بما أسقط دعواك وهو قوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما فلما وصله بما ذكر وأدخل عليه حرف التخيير ثبت بذلك أن ذكر النعم ليس على وجه التفسير للمثل ألا ترى أنه قد ذكر الطعام والصيام جميعا وليسا مثلا وأدخل أو بينهما وبين النعم ولا فرق إذ كان ذلك ترتيب الآية بين أن يقول فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما أو من النعم هديا لأن تقديم ذكر النعم في التلاوة لا يوجب تقديمه في المعنى بل الجميع كأنه مذكور معا ألا ترى أن قوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة لم يقتض كون الطعام مقدما على الكسوة ولا الكسوة مقدمة على العتق في المعنى بل الكل كأنه

مذكور بلفظ واحد معا فكذلك قوله فجزاء مثل ما قتل من النعم موصولا بقوله يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل وأيضا فإن قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره وقوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم مع استغناء الكلام عنه لأن كل كلام فله حكم غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه وأيضا قوله من النعم معلوم أن فيه ضمير إرادة المحرم فمعناه من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا إن أراد الهدي والطعام إن أراد الطعام فليس هو إذا تفسيرا للمثل كما أن الطعام والصيام ليسا تفسيرا للمثل المذكور فإن قيل روي عن جماعة من الصحابة أنهم حكموا في النعامة ببدنة ومعلوم أن القيم تختلف وقد أطلقوا القول في ذلك من غير اعتبار الصيد في زيادة القيمة ونقصانها قيل له فما تقول أنت هل توجب في كل نعامة بدنة من غير اعتبار الصيد في ارتفاع قيمته وانخفاضها فتوجب في أدنى النعامة بدنة رفيعة وتوجب في أرفع النعام بدنة وضيعة فإن قيل لا وإنما أوجب بدنة على قدر النعامة فإن كانت رفيعة فبدنة رفيعة وإن كانت وضيعة فبدنة على قدرها قيل له فقد خالفت الصحابة لأنهم لم يسئلوا عن حال الصيد ولم يفرقوا بين الرفيعة منها والدنية فاعتبرت خلاف ما اعتبروا فإن قيل هذا محمول على أنهم حكموا بالبدنة على حسب حال النعامة وإن لم يذكروا ذلك ولم ينقله الراوي قيل له فكذلك يقول لك القائلون بالقيمة إنهم حكموا بالبدنة لأن ذلك كان قيمتها في ذلك الوقت وإن لم ينقل إلينا أنهم حكموا بالبدنة على أن قيمتها كانت قيمة النعامة ويقال لهم هل يدل حكمهم في النعامة ببدنة على أنه لا يجوز غيرها من الطعام والصيام فإن قالوا لا قيل لهم فكذلك حكمهم فيها بالبدنة غير دال على نفي جواز القيمة
فصل وقرئ قوله تعالى فجزاء مثل برفع المثل وقرئ بخفضه وإضافة الجزاء إليه والجزاء قد يكون اسما للواجب بالفعل ويكون مصدرا فيكون فعلا للمجازى فمن قرأه بالتنوين جعل المثل صفة للجزاء المستحق بالفعل وهو القيمة أو النظير من النعم على اختلافهم فيه ومن أضافه جعله مصدرا وأضافه إلى المثل فكان ما يخرجه من

الواجب مضافا إلى المثل المذكور ويحتمل أن يكون الجزاء الذي هو الواجب مضافا إلى المثل والمثل يكون مثلا للصيد فيفيد أن الصيد ميتة محرم لا قيمة له وأن الواجب اعتبار مثل الصيد حيا في إيجاب القيمة فالإضافة صحيحة المعنى في الحالين سواء كان الجزاء اسما أو مصدرا والنعم من الإبل والبقر والغنم وقوله تعالى يحكم به ذوا عدل منكم يحتمل القولين جميعا من القيمة أو النظير من النعم لأن القيم تختلف على حسب اختلاف أحوال الصيد فيحتاج في كل حين وفي كل صيد إلى استيناف حكم الحكمين في تقويمه ومن قال بالنظر فرجع إلى قول الحكمين لا ختلاف الصيد في نفسه من ارتفاع أو انخفاض حتى يوجبا في الرفيع منه من النير وفي الوسط الوسط وفي الدني الدني وذلك يحتاج فيه إلى اجتهاد الحكمين وروي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس وابن عمر قالا في محرم قتل قطاة فيه ثلثا مد وثلثا مد خير من قطاة في بطن مسكين وروى معمر عن صدقة بن يسار قال سألت القاسم وسالما عن حجلة ذبحها وهو محرم ناسيا فقال أحدهما لصاحبه أحجلة في بطن رجل خير أو ثلثا مد فقال بل ثلثا مد فقال هي خير أو نصف مد قال بل نصف مد قال هي خير أو ثلث مد قال قلت أتجزي عني شاة قالا أو تفعل ذلك قلت نعم قالا فاذهب وروي أن عمر وضع رداءه على عود في دار الندوة فأطار حماما فقتله حار فقال لعثمان ونافع بن عبدالحارث احكما علي فحكما بعناق بنية عفراء فأمر بها عمر وروى عبدالملك بن عمير عن قبيصة بن جابر أن محرما قتل ظبيا فسأل عمر رجلا إلى جنبه ثم أمره بذبح شاة وأن يتصدق بلحمها قال قبيصة فلما قمنا من عنده قلت له أيها المستفتي ابن الخطاب إن فتيا ابن الخطاب لم تغن عنك من الله شيئا شيئا فانحر ناقتك وعظم شعائر الله فوالله ما علم ابن الخطاب ما يقول حتى سأل الرجل الذي إلى جنبه فقمت إلى عمر وإذا عمر قد أقبل ومعه الدرة على صاحبي صفعا وهو يقول قاتلك الله أتقتل الحرام وتعدى الفتيا وتقول ما علم عمر حتى سأل من إلى جنبه أما تقرأ يحكم به ذوا عدل منكم فهذا يدل على أن حكم الحكمين في ذلك من طريق الاجتهاد ألا ترى أن عمر وابن عباس وابن عمر والقاسم وسالما كل واحد منهم سأل صاحبه عن اجتهاده في المقدار الواجب فلما اتفق رأيهما على شيء حكما به وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى الاجتهاد في تقويم الصيد وما يجب فيه ويدل أيضا على أن تقويم المستهلكات

موكول إلى الاجتهاد عدلين يحكمان به على المستهلك كما أوجب الرجوع إلى قول الحكمين في تقديم الصيد والحكمان عند أبي حنيفة يحكمان عليه بالقيمة ثم يختار المحرم ما شاء من هدي أو طعام أو صيام وقال محمد الحكمان يحكمان بما يريان من هدي أو طعام أو صيام فإن حكما بالهدي كان عليه أن يهدي وأما قوله تعالى هديا بالغ الكعبة فإن الهدي من الإبل والبقر والغنم وقال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا خلاف أن له أن يهدي من أحد هذه الأصناف أيها شاء منها هذا في الإحصار فأما في جزاء الصيد فإن من يجعل الواجب عليه قيمة الصيد فإنه يخيره بعد ذلك فإن اختار الهدي وبلغت قيمته بدنة نحرها وإن لم تبلغ بدنة وبلغ بقرة ذبحها فإن لم تبلغ وبلغ شاة ذبحها وإن اشترى بالقيمة جماعة شاة أجزأه ومن يوجب النظير من النعم فإنه أحكم عليه بالهدي أهدي بما حكم به من بدنة أو بقرة أو شاة وقد اختلف في السن الذي يجوز في جزاء الصيد فقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزي في الأضحية وفي الإحصار والقران وقال أبو يوسف ومحمد يجزي الجفرة والعناق على قدر الصيد والدليل على صحة الأول أن ذلك هدي تعلق وجوبه بالإحرام وقد اتفقوا في سائر الهدايا التي تعلق وجوبها بالإحرام أنها لا يجزي منها إلا ما يجزي في الأضاحي وهو الجذع من الضأن أو الثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا فكذلك هدي جزاء الصيد وأيضا لما سماه الله تعالى هديا على الإطلاق كان بمنزلة سائر الهدايا المطلقة في القرآن فلا يجزي دون السن الذي ذكرنا وذهب أبو يوسف ومحمد إلى ما روي عن جماعة من الصحابة أن في اليربوع جفرة وفي الأرنب عناق وعلى أنه لو أهدى شاء فولدت ذبح ولدها فأما ما روي عن الصحابة فجائز أن يكون على وجه القيمة وأما ولد الهدي فإنه تبع لها فيسري الحق الذي في الأم من جهة التبع وليس يجوز اعتبار ما كان أصلا في نفسه بالاتباع ألا ترى أنه يصح أن يكون ابن أم الولد بمنزلة أمه في كونه غير مال وعتقه بموت المولى من غير سعاية ولا يصح ابتداء إيجاب هذا الحكم له على غير وجه التبع والدخول في حكم الأم وكذلك ولد المكاتبة هو مكاتب وهو علوق ولو ابتدأ كتابة العلوق لم يصح ونظائر ذلك كثيرة وقوله تعالى بالغ الكعبة صفة للهدي وبلوغه الكعبة ذبحه في الحرم لا خلاف في ذلك وهذا يدل على أن الحرم كله بمنزلة الكعبة في الحرمة وأنه لا يجوز بيع رباعها لأنه

عبر بالكعبة عن الحرم وهو كما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أن الحرم كله مسجد وكذلك قوله تعالى
فلا يقربوا المسجد الحرام المراد به الحرم كله ومعالم الحج لأنهم منعوا بهذه الآية من الحج وقد اختلف في مواضع تقويم الصيد فقال إبراهيم يقوم في المكان الذي أصابه فإن كان في فلاة ففي أقرب الأماكن من العمران إليها وهو قول أصحابنا وقال الشعبي يقوم بمكة أو بمنى الأول هو الصحيح لأنه كتقويم المستهلكات فيعتبر الموضع الذي وقع فيه الإستهلاك ولا في الموضع الذي يؤدي فيه القيمة ولأن تخصيص مكة ومنى من بين سائر البقاع تخصيص الآية بغير دليل فلا يجوز فإن قال قائل روي عن عمر وعبدالرحمن بن عوف أنهما حكما في الظبي بشاة ولم يسئلا السائل عن الموضع الذي قتله فيه قيل له يجوز أن يكون السائل سأل عن قتله في موضع علم أن قيمته فيه شاة وأما قوله تعالى أو كفارة طعام مساكين فإنه قرئ كفارة بالإضافة وقرىء بالتنوين بلا إضافة وقد اختلف في تقدير الطعام فقال ابن عباس رواية إبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم يقوم الصيد دراهم ثم يشترى بالدراهم طعام فيطعم كل مسكين نصف صاع وروي عن ابن عباس رواية يقوم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما وروي مثله عن مجاهد أيضا والأول قول أصحابنا والثاني قول الشافعي والأول أصح وذلك لأن جميع ذلك جزاء الصيد فلما كان الهدي من حيث كان جزاء معتبرا بالصيد إما في قيمته أو في نظيره وجب أن يكون الطعام مثله لأنه قال فجزاء مثل ما قتل إلى قوله أو كفارة طعام مساكين فجعل الطعام جزاء وكفارة كالقيمة فاعتباره بقيمة الصيد أولى من اعتباره بالهدي إذ هو بدل من الصيد وجزاء عنه لا من الهدي وأيضا قد اتفقوا فيما لا نظير له من النعم أن اعتبار الطعام إنما هو بقيمة الصيد فكذلك فيما له نظير لأن الآية منتظمة للأمرين فلما اتفقوا في أحدهما أن المراد اعتبار الطعام بقيمة الصيد كان الآخر مثله وقال أصحابنا إذا أراد الإطعام اشترى بقيمة الصيد طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر ولا يجزيه أقل من ذلك ككفارة اليمين وفدية الأذى وقد بيناه فيما سلف وقوله تعالى أو عدل ذلك صياما فإنه روي عن ابن عباس وإبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم وقتادة أنهم قالوا لكل نصف صاع يوما وهو قول أصحابنا وروي عن عطاء أيضا أنه قال لكل مد يوما وما ذكره الله تعالى في هذه الآية من الهدي والإطعام والصيام فهو

على التخيير لأن أو يقتضي ذلك كقوله تعالى في كفارة اليمين فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة وكقوله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء والحسن وإبراهيم رواية وهو قول أصحابنا وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها على الترتيب وروي عن مجاهد والشعبي والسدي مثله وعن إبراهيم رواية أخرى أنها على الترتيب والصحيح هو الأول لأنه حقيقة اللفظ ومن حمله على الترتيب زاد فيه ما ليس منه ولا يجوز إلا بدلالة قوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه روي عن ابن عباس والحسن وشريح إن عاد عمدا لم يحكم عليه والله تعالى ينتقم منه وقال إبراهيم كانوا يسئلون هل أصبت شيئا قبله فإن قال نعم لم يحكمون عليه وإن قال لا حكم عليه وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد يحكم عليه أبدا وسأل عمر قبيصة بن جابر عن صيد أصابه وهو محرم فسأل عمر عبدالرحمن بن عوف ثم حكم عليه ولم يسئله هل أصبت قبله شيئا وهو قول فقهاء الأمصار وهو الصحيح لأن قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء يوجب الجزاء في كل مرة كقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وذكره الوعيد للعائد لا ينافي وجوب الجزاء ألا ترى أن الله تعالى قد جعل حد المحارب جزاء له بقوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ثم عقبه بذكر الوعيد بقوله ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم فليس إذا في ذكر الانتقام من العائد نفي لإيجاب الجزاء وعلى أن قوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه لا دلالة فيه على أن المراد العائد إلى قتل الصيد بعد قتله لصيد آخر قبله لأن قوله عفا الله عما سلف يحتمل أن يريد به عفا الله عما سلف قبل التحريم ومن عاد يعني بعد التحريم وإن كان أول صيد بعد نزول الآية وإذا كان فيه احتمال ذلك لم يدل على أن العائد في قتل الصيد بعد قتله مرة أخرى ليس عليه إلا الإنتقام
فصل قوله تعالى ليذوق وبال أمره يحتج به لأبي حنيفة في المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل يتصدق به لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره بإخراج هذا القدر من ماله فإذا أكل منه فقد رجع من الغرم في مقدار ما أكل منه فهو غير ذائق بذلك وبال أمره لأن من غرم شيئا وأخذ

مثله لا يكون ذائقا وبال أمره فدل ذلك على صحة قوله وقال أصحابنا إن شاء المحرم صام عن كل نصف صاع من الطعام يوما وإن شاء صام عن بعض وأطعم بعضا فأجازوا الجمع بين الصيام والطعام وفرقوا بينه وبين الصيام في كفارة اليمين مع الإطعام فلم يجيزوا الجمع بينهما وفرقوا أيضا بينه وبين العتق والطعام في كفارة اليمين بأن يعتق نصف عبد ويطعم خمسة مساكين فأما الصوم في جزاء الصيد فإنما أجازوا الجمع بينه وبين الطعام من قبل إن الله تعالى جعل الصيام عدلا للطعام ومثلا له بقوله أو عدل ذلك صياما ومعلوم أنه لم يرد بقوله عدل ذلك أن يكون مثلا له في حقيقة معناه إذ لا تشابه بين الصيام وبين الطعام فعلمنا أن المراد المماثلة بينهما في قيامه مقام الطعام ونيابته عنه لمن صام بعضا فكأنه قد أطعم بقدر ذلك فجاز ضمه إلى الطعام فكان الجميع طعاما وأما الصيام في كفارة اليمين فإنما يجوز عند عدم الطعام وهو بدل منه فغير جائز الجمع بينهما إذ لا يخلو من أن يكون واجدا أو غير واجد فإن كان واجدا للطعام لم يجزه الصيام وإن كان غير واجد فالصوم فرضه بدلا منه وغير جائز الجمع بين البدل والمبدل منه كالمسح على أحد الخفين وغسل الرجل الأخرى وكالتيمم والوضوء وما جرى مجرى ذلك ولا نعلم خلافا في امتناع جواز الجمع بين الصيام والطعام في كفارة اليمين وأما العتق والطعام فإنما لم يجز الجمع لأن الله تعالى جعل كفارة اليمين أحد الأشياء الثلاثة فإذا أعتق النصف وأطعم النصف فهو غير فاعل لأحدهما فلم يجزه والعتق لا يتقوم فيجزي عن الجميع بالقيمة وليس هو مثل أن يكسو خمسة ويطعم خمسة فيجزي بالقيمة لأن كل واحد من هذين متقوم فيجزي عن أحدهما بالقيمة
فصل قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل ينتظم الواحد والجماعة إذا قتلوا في إيجاب جزاء تام على كل واحد لأن من يتناول كل واحد على حياله في إيجاب جميع الجزاء عليه والدليل عليه قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة قد اقتضى إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين إذا قتلوا نفسا واحدة وقال تعالى ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وعيدا لكل واحد على حياله وقوله عز و جل ومن يقتل مؤمنا متعمدا وعيد لكل واحد من القاتلين وهذا معلوم عند أهل اللغة لا يتدافعونه وإنما يجهله من لا حظ له فيها فإن قال قائل فلو قتل جماعة رجلا كانت على جميعهم دية

واحدة والدية إنما دخلت في اللفظ حسب دخول الرقبة قيل له الذي يقتضيه حقيقة اللفظ وعمومه إيجاب ديات بعدد القاتلين وإنما اقتصر فيه على دية واحدة بالإجماع وإلا فالظاهر يقتضيه ألا ترى أنهما لو قتلاه عمدا كان كل واحد منهما كأنه قاتل له على حياله ويقتلان جميعا به ألا ترى أن كل واحد من القاتلين لا يرث وانه لو كان بمنزلة من قتل بعضه لوجب أن لا يحرم الميراث مما قتله منه غيره فلما اتفق الجميع على أنهما جميعا لا يرثان وأن كل واحد منهما كأنه قاتل له وحده كذلك في إيجاب الكفارة إذ كانت النفس لا تتبعض وكذلك قاتلوا الصيد كل واحد كأنه متلف للصيد على حياله فتجب على كل واحد كفارة تامة ويدل عليه أن الله تعالى سمى ذلك كفارة بقوله أوكفارة طعام مساكين وجعل فيها صوما فأشبهت كفارة القتل فإن قال قائل لما قال الله تعالى فجزاء مثل ما قتل دل على أن الجزاء إنما هو جزاء واحد ولم يفرق بين أن يكونوا جماعة أو واحدا وأنت تقول يجب عليهم جزآن وثلاثة وأكثر من ذلك قيل له هذا الجزاء ينصرف إلى كل واحد منهم ونحن لا نقول إنه يجب على كل واحد منهم جزاآن وثلاثة وإنما يجب عليه جزاء واحد والذي يدل على أنه منصرف إلى كل واحد قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل ولم يقل قتلوا فدل على أنه أراد واحد وقد بينا ذلك في كتاب شرح المناسك والخصم يحتج علينا بهذه الآية في القارن فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد بظاهر الكتاب والجواب عن هذا أنه محرم عندنا بإحرامين على ما سنذكره في موضعه وإذا صح لنا ذلك ثم أدخل النقص عليهما وجب أن يخبرهما بدمين قال أبو بكر ولا خلاف بين الفقهاء أن الهدي لا يجزي إلا بمكة وأن بلوغه الكعبة أن يذبحه ناك في الحرم وأنه لو هلك بعد دخوله الحرم قبل أن يذبحه أن عليه هديا آخر غيره وقال أصحابنا إذا ذبحه في الحرم بعد بلوغ الكعبة فإن سرق بعد ذلك لم يكن عليه شيء لأن الصدقة تعينت فيه بالذبح فصار كمن قال لله علي أن أتصدق بهذا اللحم فسرق فلا يلزمه شيء واتفق الفقهاء أيضا على جواز ا لصوم في غير مكة واختلفوا في الطعام فقال أصحابنا يجوز أن يتصدق به حيث شاء وقال الشافعي لا يجزي إلا أن يعطي مساكين مكة والدليل على جوازه حيث شاء قوله تعالى أو كفارة طعام مساكين وذلك عموم في سائرهم وغير جائز تخصيصه بمكان إلا بدلالة ومن قصره على مساكين مكة فقد خص

الآية بغير دليل وأيضا ليس في الأصول صدقة مخصوصة بمكان لا يجوز أداؤها في غيره فلما كان ذلك صدقة وجب جوازها في سائر المواضع قياسا على نظائرها من الصدقات ولأن تخصيصه بمكان خارج عن الأصول وما خرج عن الأصول وظاهر الكتاب من الأقاويل فهو ساقط مرذول فإن قال قائل فالهدي سبيله الصدقة وهو مخصوص بالحرم فأما الصدقة فحيث شاء وكذلك قال اصحابنا أنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه فتصدق به في غيره أجزأه وأيضا لما اتفقوا على جواز الصيام في غير مكة وهو جزاء للصيد وليس بذبح وجب مثله في الطعام لهذه العلة
باب

صيد البحر
قال الله تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه وروي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة والسدي ومجاهد قالوا صيده ما صيد طريا بالشباك ونحوها فأما قوله وطعامه فقد روي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وقتادة قالوا ما قذفه ميتا وروي عن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد قالوا المملوح منه والقول الأول أظهر لأنه ينتظم إباحة الصنفين مما صيد منه وما لم يصد وأما المملوح فقد تناوله قوله صيد البحر ويكون قوله وطعامه على هذا التأويل تكرارا لما انتظمه اللفظ الأول فإن قال قائل هذا يدل على إباحة الطافي لأنه قد انتظم ما صيد منه وما لم يصد والطافي لم يصد قيل له إنما تأول السلف قوله وطعامه على ما قذفه البحر وعندنا أن ما قذفه البحر ميتا فليس بطاف وإنما الطافي ما يموت في البحر حتف أنفه فإن قيل قالوا ما قذفه البحر متيا وهذا يوجب أن يكون قد مات فيه ثم قذفه وهذا يدل على أنهم قد أرادوا به الطافي قيل له وليس كل ما قذفه البحر ميتا يكون طافيا إذ جائز أن يموت في البحر بسبب طرأ عليه فقتله من برد أو حر أو غيره فلا يكون طافيا وقد بينا الكلام في الطافي فيما تقدم من هذا الكتاب وقد روي عن الحسن في قوله وطعامه قال ما وراء بحركم هذا كله البحر وطعامه البر والشعير والحبوب رواه أشعث بن عبدالملك عن الحسن فلم يجعل البحر في هذا الموضع بحور المياه وجعله على ما اتسع من الأرض لأن العرب تسمي ما اتسع بحرا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم -
للفرس الذي ركبه لأبي طلحة وجدناه بحرا أي واسع الخطو وقد روى حبيب بن
الزبير عن

عكرمة في قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر أنه أرد بالبحر الأمصار لأن العرب تسمى الأمصار البحر وروى سفيان عن بعضهم عن عكرمة ظهر الفساد في البر والبحر قال البر الفيافي التي ليس فيها شيء والبحر القرى والتأويل الذي روي عن الحسن غير صحيح لأنه قد علم بقوله تعالى أحل لكم صيد البحر أن المراد به بحر الماء وأنه لم يرد به البر ولا الأمصار لأنه عطف عليه قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وقوله تعالى متاعا لكم وللسيارة روي عن ابن عباس وقتادة قالوا منفعة للمقيم والمسافر فإن قال قائل هل اقتضى تعالى أحل لكم صيد البحر إباحة صيد الأنهار قيل نعم لأن العرب تسمي النهر بحرا ومنه قوله تعالى ظهر في البر والبحر وقد قيل إن الأغلب على البحر هو الذي ماؤه ملحا إلا أنه إذا جرى ذكره على طريق الجملة الأنهار أيضا وأيضا فالمقصد فيه صيد الماء فسائر الماء يجوز للمحرم اصطياده ولا نعلم خلافا في ذلك الفقهاء وقوله تعالى أحل لكم صيد البحر يحتج به من يبيح أكل جميع حيوان البحر وقد اختلف أهل العلم فيه والله أعلم
ذكر

الخلاف في ذلك
قال أصحابنا لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك وهو قول الثوري رواه عنه أبو إسحاق الفزاري وقال ابن ابي ليلى لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر من الضفدع وحية الماء وغير ذلك وهو قول مالك بن أنس وروي مثله عن الثوري قال الثوري ويذبح وقال الأوزاعي صيد البحر كله حلال ورواه عن مجاهد وقال الليث بن سعد ليس بميتة البحر بأس وكلب الماء والذي يقال له فرس الماء ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء وقال الشافعي ما يعيش في الماء حل أكله وأخذه ذكاته ولا بأس بخنزير الماء واحتج من أباح حيوان الماء كله بقوله تعالى وأحل لكم صيد البحر وهو على جميعه إذ لم يخصص شيئا منه ولا دلالة فيه على ما ذكروا لأن قوله تعالى أحل لكم صيد البحر إنما هو على إباحة اصطياد ما فيه للمحرم ولا دلالة فيه على أكله والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فخرج الكلام مخرج بيان اختلاف حكم صيد البر

والبحر على المحرم وأيضا فإن الصيد اسم مصدر وهو اسم للاصطياد وإن كان قد يقع على المصيد ألا ترى أنك تقول صدت صيدا وإذا كان ذلك مصدرا كان اسما للاصطياد الذي هوفعل الصائد ولا دلالة فيه إذا أريد به ذلك على إباحة الأكل وإن كان قد يعبر به عن المصيد إلا أن ذلك مجاز لأنه تسمية للمفعول باسم الفعل وتسمية الشيء باسم غيره إنما هو استعارة ويدل على بطلان قول من أباح جميع حيوان الماء قول النبي صلى الله عليه وسلم -

أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد فخص من الميتات هذين وفي ذلك دليل
على أن المخصوص من جملة الميتات المحرمة بقوله حرمت عليكم الميتة هو هذان دون غيرهما لأن ما عداهما قد شمله عموم التحريم بقوله حرمت عليكم الميتة وقوله تعالى إلا أن تكون ميتة وذلك عموم في ميتة البر والبحر ومن أصحابنا من يجعل حصره المباح بالعدد المذكور دلالة على حظره ما عداه وأيضا لما خصهما بالذكر وفرق بينهما وبين غيرهما من الميتات دل تفرقه على اختلاف حالهما ويدل عليه أيضا وقوله تعالى ولحم الخنزير وذلك عموم في خنزير الماء كهو في خنزير البر فإن قيل إن خنزير الماء إنما يسمى حمار الماء قيل له إن سماه إنسان حمارا لم يسلبه ذلك اسم الخنزير المعهود له في اللغة فينتظمه عموم التحريم ويدل عليه حديث ابن ابي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبدالرحمن بن عثمان قال ذكر طبيب الدواء عند النبي صلى الله عليه وسلم -
وذكر الضفدع يكون في الدواء فنهى النبي ص
- عن قتله والضفدع من حيوان الماء ولو كان أكله جائزا والانتفاع به سائغا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن قتله ولما ثبت تحريم الضفدع بالأثر كان سائر حيوان الماء سوى السمك بمثابته لأنا لا نعلم أحد فرق بينهما واحتج الذين أباحوه بما روى مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة الزرقي عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وسعيد بن سلمة مجهول لا يقطع بروايته وقد خولف في هذا الإسناد فروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن المغيرة بن عبدالله وهو ابن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سودة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم بن مخشي المدلجي عن الفراسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال له في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبدوس قالا حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو

القاسم بن أبي الزناد قال حدثنا إسحاق يعني ابن حازم عن ابن مقسم يعني عبدالله بن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم - سئل عن البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهذه الأخبار لا يحتج بها من له معرفة بالحديث ولو ثبت كان محمولا على ما بينه في قوله أحلت لنا ميتتان ويدل على ذلك أنه لم يخصص بذلك حيوان الماء دون غيره وإنما ذكر ما يموت فيه وذلك يعم ظاهره حيوان الماء والبر جميعا إذا ماتا فيه وقد علم أنه لم يرد ذلك فثبت أنه اراد السمك خاصة دون ما سواه إذ قد علم أنه لم يرد به العموم ولا يصح اعتقاده فيه واحتج المبيحون له بحديث جابر في جيش الخبط وأن البحر ألقى لهم دابة يقال لها العنبر فأكلوا منها ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال هل معكم منه شيء تطعمونيه وهذا لا دليل فيه على ما قالوا لأن جماعة قد رووا هذا الحديث وذكروا فيه أن البحر ألقى لهم حوتا يقال له العنبر فأخبروا أنها كانت حوتا وهو السمك وهذا لا خلاف فيه ولا دلالة على إباحة ما سواه
باب

أكل المحرم لحم صيد الحلال
قال الله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فروي عن علي وابن عباس أنهما كرها للمحرم أكل صيد اصطاده حلال إلا أن إسناد حديث علي ليس بقوي يرويه علي بن زيد وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - ويقفه بعضهم وروي عن عثمان وطلحة بن عبيدالله وأبي قتادة وجابر وغيرهم إباحته وروى عبدالله بن أبي قتادة وعطاء بن يسار عن أبي قتادة قال أصبت حمار وحش فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم - إني أصبت حمار وحش وعندي منه فضلة فقال للقوم كلوا وهم محرمون وروى أبو الزبير عن جابر قال عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وروى المطلب بن عبدالله بن حنطب عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله ص
- لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم وقد روي في إباحته أخبار أخر غير ذلك كرهت الإطالة بذكرها لاتفاق فقهاء الأمصار عليه واحتج من حظره بقوله وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه لوقوع الاسم عليهما ومن أباحه ذهب إلى قوله وحرم عليكم صيد البر إذ كان يتناول الاصطياد وتحريم المصيد نفسه فإن هذا الحيوان إنما سمي صيدا ما دام حيا وأما اللحم

فغير مسمى بهذا الاسم بعد الذبح فإن سمي بذلك فإنما يسمى به على أنه كان صيدا فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة ويدل على أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم أنه غير محظور عليه التصرف في اللحم بالإتلاف والشرى والبيع وسائر وجوه التصرف سوى الأكل عند القائلين بتحريم أكله ولو كان عموم الآية قد اشتمل عليه لما جاز له التصرف فيه بغير الأكل كهو إذا كان حيا ولكان على متلفه إذا كان محرما ضمانه كما يلزم ضمان إتلاف الصيد الحي لأن قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما يتناول تحريم سائر أفعالنا في الصيد في حال الإحرام فإن قال قائل بيض الصيد محرم على المحرم وإن لم يكن ممتنعا ولا مسمى صيدا فكذلك لحمه قيل له ليس كذلك لأن المحرم غير منهي عن إتلاف لحم الصيد ولو أتلفه لم يضمنه وهو منهي عن إتلاف البيض والفرخ ويلزمه ضمانه وأيضا فإن البيض والفرخ قد يصيران صيدا ممتنعا فحكم لهما بحكم الصيد ولحم الصيد لا يصير صيدا بحال فكان بمنزلة لحوم سائر الحيوانات إذ ليس بصيد في الحال ولا يجيء منه صيد وأيضا فإنا لم نحرم الفرخ والبيض بعموم الآية وإنما حرمناهما بالاتفاق وقد اختلف في حديث مصعب بن جثامة أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحش وهو محرم فرأى في وجهه الكراهة فقال ليس بنا رد عليك ولكنا حرم وخالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن مصعب بن جثامة أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بالأبواء أو بودان حمار وحش فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم قال ابن إدريس فقيل لمالك إن سفيان يقول رجل حمار وحش فقال ذاك غلام ذاك غلام ورواه ابن جريج عن الزهري بإسناد كرواية مالك وقال فيه إنه أهدى له حمار وحش وروى الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن مصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم - حمار وحش وهو محرم فرده وقال لولا أنا حرم لقبلناه منك فهذا يدل على وهاء حديث سفيان وأن الصحيح ما رواه مالك لاتفاق هؤلاء الرواة عليه وقد روي فيه وجه آخر وهو ما روى أبو معاوية عن ابن جريج عن جابر بن زيد أبي الشعثاء عن أبيه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم -

عن محرم أتي بلحم صيد يأكل منه فقال أحسبوا له قال أبو معاوية يعني إن
كان صيد قبل أن يحرم فيأكل وإلا فلا وهذا يحتمل أن يريد به

إذا صيد من أجله أو أمر به أو أعان عليه أو دل عليه ونحو ذلك من الأسباب المحظورة قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الآية قيل إنه أراد أنه جعل ذلك قوما لمعايشهم وعمادا لهم من قولهم هو قوام الأمر وملاكه وهو ما يستقيم به أمره فهو قوام دينهم ودنياهم وروي عن سعيد بن جبير قوله قواما للناس صلاحا لهم وقيل قياما للناس أي تقوم به أبدانهم لأمنهم في التصرف لمعايشهم فهو قوام دينهم لما في المناسك من الزجر عن القبيح والدعاء إلى الحسن ولما في الحرم والأشهر الحرم من الأمن ولما في الحج والمواسم واجتماع الناس من الآفاق فيها من صلاح المعاش وفي الهدي والقلائد أن الرجل إذا كان معه الهدي مقلدا كانوا لا يعرضون له وقيل إن من أراد الإحرام منهم كان يتقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن وقال الحسن القلائد من تقليد الإبل والبقر بالنعال والخفاف فهذا على صلاح التعبد به في الدين وهذا يدل على أن تقليد البدن قربة وكذلك سوق الهدي والكعبة اسم للبيت الحرام قال مجاهد وعكرمة إنما سميت كعبة لتربيعها وقال أهل اللغة إنما قيل كعبة البيت فأضيفت لأن كعبته تربع أعلاه وأصل ذلك من الكعوبة وهو النتو فقيل للتربيع كعبة لنتو زوايا المربع ومنه كعب ثدي الجارية إذا نتأ ومنه كعب الإنسان لنتوه وهذا يدل على أن الكعبين اللذين ينتهي إليهما الغسل في الوضوء هما الناتئان عن جنبي أصل الساق وسمى الله تعالى البيت حراما لأنه أراد الحرم كله لتحريم صيده وخلاه وتحريم قتل من لجأ إليه وهو مثل قوله تعالى هديا بالغ الكعبة والمراد الحرم وأما قوله تعالى والشهر الحرام روي عن الحسن أنه قال هو الأشهر الحرم فأخرجه مخرج الواحد لأنه أراد الجنس وهو أربعة أشهر ثلاثة سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب فأخبر تعالى أنه جعل الشهر الحرام قياما للناس لأنهم كانوا يأمنون فيها ويتصرفون فيها في معايشهم فكان فيه قوامهم وهذا الذي ذكره الله تعالى من قوام الناس بمناسك الحج والحرم والأشهر الحرم والهدي والقلائد ومعلوم مشاهد من ابتداء وقت الحج في زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم - وإلى آخر الدهر فلا ترى شيئا من أمر الدين والدنيا تعلق به من صلاح المعاش والمعاد بعد الإيمان ما تعلق بالحج ألا ترى إلى كثرة منافع الحج في المواسم التي يردون عليها من سائر البلدان التي يجتازون بمنى وبمكة إلى أن يرجعوا إلى أهاليهم وانتفاع الناس بهم وكثرة معايشهم

وتجاراتهم معهم ثم ما فيه منافع الدين من التأهب للخروج إلى الحج وإحداث التوبة والتحري لأن تكون نفقته من أحل ماله ثم احتمال المشاق في السفر إليه وقطع المخاوف ومقاساة اللصوص والمحتالين في مسيرهم إلى أن يبلغوا مكة ثم الإحرام والتجرد لله تعالى والتشبه بالخارجين يوم النشور من قبورهم إلى عرصة القيامة ثم كثرة ذكر الله تعالى بالتلبية واللجأ إلى الله تعالى وإخلاص النية له عند ذلك البيت والتعلق بأستاره موقنا بأنه لا ملجأ له غيره كالغريق المتعلق بما يرجو به النجاة وأنه لا خلاص له بالتمسك به ثم إظهار التمسك بحبل الله الذي من تمسك به نجا وما حاد عنه هلك ثم حضور الموقف والقيام على الأقدام داعين راجين لله تعالى متخلفين عن كل شيء من أمور الدنيا تاركين لأموالهم وأولادهم وأهاليهم على نحو وقوفهم في عرصة القيامة وما في سائر مناسك الحج من الذكر والخشوع والانقياد لله تعالى ثم ما يشتمل عليه الحج من سائر القرب التي هي معروفة في غير الصلاة والصيام والصدقة والقربات والذكر بالقلب واللسان والطواف بالبيت وما لو استقصينا ذكره لطال به القول فهذه كلها من منافع الدين والدنيا قوله تعالى ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض إخبار عن علمه بما يؤدي إليه شريعة الحج من منافع الدين والدنيا فدبره هذا التدبير العجيب وانتظم به صلاح الخلق من أول الأمة وآخرها إلى يوم القيامة فلولا أن الله تعالى كان عالما بالغيب وبالأشياء كلها قبل كونها لما كان تدبيره لهذه الأمور مؤديا إلى ما ذكر من صلاح عباده في دينهم ودنياهم لأن من لا يعلم الشيء قبل كونه لا يتأتى منه فعل المحكم المتقن على نظام وترتيب يعم جميع الأمة نفعه في الدين والدنيا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم روى قيس بن الربيع عن ابي حصين عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - غضبان قد احمر وجهه فجلس على المنبر فقال لا تسئلوني عن شيء إلا أجبتكم فقام إليه رجل فقال أين أنا فقال في النار فقام إليه آخر فقال من أبي فقال أبوك حذافة فقام عمر فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبمحمد نبيا يا رسول الله كنا حديثي عهد بجاهلية وشرك والله تعالى يعلم من آباؤها فسكن غضبه ونزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وروى إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة أنها نزلت حين سئل الحج

أفي كل عام وعن أمامة نحو ذلك وروى عكرمة أنها نزلت في الرجل الذي قال من أبي وقال سعيد بن جبير في الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن البحيرة والسائبة وقال مقسم فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات قال أبو بكر ليس يمتنع تصحيح هذه الروايات كلها في سبب نزول الآية فيكون النبي صلى الله عليه وسلم - حين قال لا تسئلوني عن شيء إلا أجبتكم سأله عبدالله بن حذافة عن أبيه من هو لأنه قد كان يتكلم في نسبه وسأله كل واحد من الذين ذكر عنهم هذه المسائل على اختلافها فأنزل الله تعالى لا تسئلوا عن أشياء يعني عن مثلها لأنه لم يكن بهم حاجة إليها فأما عبدالله بن حذافة فقد كان نسبه من حذافة ثابتا بالفراش فلم يحتج إلى معرفة حقيقة كونه من ماء من هو منه ولأنه كان يأمن أن يكون من ماء غيره فيكشف عن أمر قد ستره الله تعالى ويهتك أمه ويشين نفسه بلا طائل ولا فائدة له فيه لأن نسبه حينئذ مع كونه من ماء غير ثابت من حذافة لأنه صاحب الفراش فلذلك قالت له لقد عققتني بسؤالك فقال لم تكسن نفسي إلا بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم -

بذلك فهذا من الأسئلة التي كان ضرر الجواب عنها عليه كان كثيرا لو صادف
غير الظاهر فكان منهيا عنه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صحفة أقمنا عليه كتاب الله وقال لهزال وكان أشار على ماعز بالإقرار بالزنا لو سترته بثوبك كان خيرا لك وكذلك الرجل الذي قال يا رسول الله أين أنا قد كان غنيا عن هذه المسألة والستر على نفسه في الدنيا فهتك ستره وقد كان الستر أولى به وكذلك المسألة عن الآيات مع ظهور ما ظهر من المعجزات منهي عنها غير سائغ لأحد لأن معجزات الأنبياء لا يجوز أن تكون تبعا لأهواء الكفار وشهواتهم فهذا النحو من المسائل مستقبحة مكروهة وأما سؤال الحج في كل عام فقد كان على سامع آية الحج الاكتفاء بموجب حكمها من إيجابها حجة واحدة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - إنها حجة واحدة ولو قلت نعم لوجبت فأخبر أنه لو قال نعم لوجبت بقوله دون الآية فلم يكن به حاجة إلى المسألة مع إمكان الاجتزاء بحكم الآية وأبعد هذه التأويلات قول من ذكر أنه سئل عن البحيرة والسائبة والوصيلة لأنه لا يخلو من أن يكون سؤاله عن معنى البحيرة ما هو أن عن جوازها وقد كانت البحيرة وما ذكر معها أسماء لأشياء معلومة عندهم في الجاهلية ولم يكونوا يحتاجون إلى المسألة عنها ولا يجوز أيضا أن يكون السؤال وقع عن إباحتها

وجوازها لأن ذلك كان كفرا يتقربون به إلى أوثانهم فمن اعتقد الإسلام فقد علم بطلانه وقد احتج بهذه الآية قوم في حظر المسألة عن أحكام الحوادث واحتجوا أيضا بما رواه الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن حراما فحرم من أجل مسئلته قال أبو بكر ليس في الآية دلالة على حظر المسألة عن أحكام الحوادث لأنه إنما قصد بها إلى النهي عن المسألة عن أشياء أخفاها الله تعالى عنهم واستأثر بعلمها وهم غير محتاجين إليها بل عليهم فيها ضرر إن أبديت لهم كحقائق الأنساب لأنه قال الولد للفراش فلما سأله عبدالله بن حذافة عن حقيقة خلقه من ماء من هو دون ما حكم الله تعالى به من نسبته إلى الفراش نهاه الله عن ذلك وكذلك الرجل الذي قال أين أنا لم يكن به حاجة إلى كشف عيبه في كونه من أهل النار وكسؤال آيات الأنبياء وفي فحوى الآية دلالة على أن الحظر تعلق بما وصفنا قوله تعالى قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين يعني الآية سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها وهذا تصديق تأويل مقسم فأما السؤال عن أحكام غير منصوصة فلم يدخل في حظر الآية والدليل عليه أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم - معه البدن لينحرها بمكة قال كيف أصنع بما عطب منها فقال انحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحتها وخل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك شيئا ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم - سؤاله وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم - إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فلم ينكره عليه وحديث يعلى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته فلم ينكره عليه وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد وروى شهر بن حوشب عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله إني أريد أن اسئلك عن أمر ويمنعني مكان هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء فقال ما هو قلت العمل الذي يدخلني الجنة قال قد سألت عظيما وإنه ليسير شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان فلم يمنعه السؤال ولم ينكره وذكر محمد بن سيرين عن الأحنف عن عمر قال تفقهوا قبل أن تسووا وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل

في الأحكام على هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا وإنما أنكر هذا قوم حشو جهال قد حملوا أشياء من الأخبار لا علم لهم بمعانيها وأحكامها فعجزوا عن الكلام فيها واستنباط فقهها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -

رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وهذه الطائفة
المنكرة لذلك كمن قال تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا وقوله تعالى إن تبد لكم تسؤكم معناه إن تظهر لكم وهذا يدل على أن مراده فيمن سأل مثل سؤال عبدالله بن حذافة والرجل الذي قال أين أنا لأن إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين لأنهم إنما يسئلون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها ثم قال الله تعالى وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم يعني في حال نزول الملك وتلاوته القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم -
إن الله يظهرها لكم وذلك مما يسؤكم ويضركم وقوله تعالى
عفا الله عنها يعني هذا الضرب من المسائل لم يؤاخذكم الله بها بالبحث عنها والكشف عن حقائقها والعفو في هذا الموضوع التسهيل والتوسعة في إباحة ترك السؤال عنها كما قال تعالى فتاب عليكم وعفا عنكم ومعناه سهل عليكم وقال ابن عباس الحلال ما أحل الله وما سكت عنه فهو عفو يعني تسهيل وتوسعة ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم -
عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق قوله تعالى
قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين قال ابن عباس قوم عيسى عليه السلام سألوا المائدة ثم كفروا بها وقال غيره قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها وقال السدي هذا حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم - أن يحول لهم الصفا ذهبا وقيل إن قوما سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سأل عبدالله بن حذافة ومن قال أين أنا فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيت والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيسمونها الوصيلة يقولون وصلت اثنتين ليس بينهما ذكر فكانوا يذبحونها لطواغيتهم والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود فإذا بلغ ذلك يقال حمى ظهره فيترك فيسمونه الحامي وقال أهل اللغة البحيرة الناقة التي تشق أذنها يقال بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا والناقة مبحورة وبحيرة إذا شققتها واسعا ومنه البحر لسعته قال وكان

أهل الجاهلية يحرمو البحيرة وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولم تطرد عن ماء ولم تمنع عن مرعى وإذا لقيها المعيى لم يركبها

قال
والسائبة المخلاة وهي المسيبة وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية وكان الرجل إذا عتق عبدا فقال هو سائبة لم يكن بينهما عقل ولا ولاء ولا ميراث فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوها وقال بعضهم كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم وإذا ولدت ذكرا أو أنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم وقالوا الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يحتمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى وإخبار الله تعالى بأن ما اعتقده أهل الجاهلية في البحيرة والسائبة وما ذكر في الآية يدل على بطلان عتق السائبة على ما يذهب إليه القائلون بأن من أعتق عبده سائبة فلا ولاء له منه وولاؤه جماعة المسلمين أن لأهل الجاهلية قد كانوا يعتقدون ذلك فأبطله الله تعالى بقوله ولا سائبة وقول النبي صلى الله عليه وسلم - الولاء لمن أعتق يؤكد ذلك أيضا ونبينه
باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال أبو بكر أكد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أخبار متواترة عنه فيه وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه وإن كان قد تعرض أحوال من التقية يسع معها السكوت فمما ذكره الله تعالى حاكيا عن لقمان يا بني أقم الصلوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور يعني والله اعلم واصبر على ما ساءك من المكروه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما حكى الله تعالى لنا ذلك عن عبده لنقتدي به وننتهي إليه وقال تعالى فيما مدح به سالف الصالحين من الصحابة التائبون العابدون إلى قوله الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وقال تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء وهناد بن السري قالا حدثنا أبو معاوية

عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أبو إسحاق عن ابن جرير عن جرير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا اصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله وربما ظن من لا فقه له أن ذلك منسوخ أو مقصور الحكم على حال دون حال وتأول فيه قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وليس التأويل على ما يظن هذا الظان لو تجردت هذه الآية عن قرينه وذلك لأنه قال عليكم أنفسكم احفظوها لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ومن الإهتداء اتباع أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا فلا دلالة فيها إذا على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد روي عن السلف في تأويل الآية أحاديث مختلفة الظاهر وهي متفقة في المعنى فمنها ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال سمعت أبا بكر على المنبر يقول يا أيها الناس إني أراكم تأولون هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه فأخبر ابو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنه لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال يعني من أهل الكتاب وقال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال من اليهود والنصارى ومن ضل من غيرهم فكأنهما ذهبا إلى أن هؤلاء قد أقروا بالجزية على كفرهم فلا يضرنا

كفرهم لأنا أعطيناهم العهد على أن نخليهم وما يعتقدون ولا يجوز لنا نقض عهدهم بإجبارهم على الإسلام فهذا لا يضرنا الإمساك عنه وأما ما لا يجوز الإقرار عليه من المعاصي والفسوق والظلم والجور فهذا على كل المسلمين تغييره والإنكار على فاعله على ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد الذي قدمنا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال حدثنا بن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثنا أبو أمية الشعباني قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فيه كقبض علىالجمر للعامل فيها مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وهذه دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة وفرض النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذكر كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقية ولتعذر تغييره وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان قال الله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد روي فيه وجه آخر وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو مسهر عن عباد الخواص قال حدثني يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن أبا الدرداء وكعبا كانا جالسين بالجابية فأتاهما آت فقال لقد رأيت اليوم أمرا كان حقا على من يراه أن يغيره فقال رجل إن الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال كعب إن هذا لا يقول شيئا ذب عن محارم الله تعالى كما تذب عن عائلتك حتى يأتي تأويلها فانتبه لها أبو الدرداء فقال متى يأتي تأويلها فقال إذا هدمت كنيسة دمشق وبني

مكانها مسجد فلذلك من تأويلها وإذا رأيت الكاسيات العاريات فلذلك من تأويلها وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها فلذلك من تأويلها قال أبو مسهر وكان هدم الكنيسة بعهد الوليد بن عبدالملك أدخلها في مسجد دمشق وزاد في سعته بها وهذا أيضا على معنى الحديث الأول في الاقتصار على إنكار المنكر بالقلب دون اليد واللسان للتقية والخوف على النفس ولعمري أن ايام عبدالملك والحجاج والوليد وأضرابهم كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول واليد لتعذر ذلك والخوف على النفس وقد حكي أن الحجاج لما مات قال الحسن اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإنه أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله عز و جل برجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل ثم قال الحسن هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط وقال عبدالملك بن عمير خرج الحجاج يوم الجمعة بالهاجرة فما زال يعبر مرة عن أهل الشام يمدحهم ومرة عن أهل العراق يذمهم حتى لم نر من الشمس إلا حمرة على شرف المسجد ثم أمر المؤذن فأذن فصلى بنا الجمعة ثم أذن فصلى بنا العصر ثم أذن فصلى بنا المغرب فجمع بين الصلوات يومئذ فهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان وقد كان فقهاء التابعين وقراؤهم خرجوا عليه مع ابن الأشعث إنكارا منهم لكفره وظلمه وجوره فجرت بينهم تلك الحروب المشهورة وقتل منهم من قتل ووطئهم بأهل الشام حتى لم يبقى أحد ينكر عليه شيئا يأتيه إلا بقلبه وقد روى ابن مسعود في ذلك ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبدالله بن مسعود أنه ذكر عنده هذه الآية عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال لم يجيء تأويلها بعد إن القرآن أنزل حين أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن وكان منه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم -

ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي ص
- بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب من الجنة والنار قال فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض

فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا اختلف القلوب والأهواء ولبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرأ ونفسه عند ذلك جاء تأويل هذه الآية قال أبو بكر يعني عبدالله بقوله لم يجئ تأويلها بعد إن الناس في عصره كانوا ممكنين من تغيير المنكر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجار فلم يكن أحد منهم معذورا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان ثم إذا جاء حال التقية وترك القبول وغلبت الفجار سوغ السكوت في تلك الحال مع الإنكار بالقلب وقد يسع السكوت أيضا في الحال التي قد علم فاعل المنكر أنه يفعل محظورا ولا يمكن الإنكار باليد ويغلب في الظن بأنه لا يقبل إذا قتل فحينئذ يسع السكوت وقد روي نحوه عن ابن مسعود في تأويل الآية وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم قال أخبرنا يونس عن الحسن عن ابن مسعود في هذه الآية عليكم أنفسكم قال قولوها ما قبلت منكم فإذا أردت عليكم فعليكم أنفسكم فأخبر ابن مسعود أنه في سعة من السكوت إذا ردت ولم تقبل وذلك إذا لم يمكنه تغييره بيده لأنه لا يجوز أن يتوهم عن ابن مسعود إباحته ترك النهي عن المنكر مع إمكان تغييره حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن عبدالله بن عبدالرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمكم الله بعقاب من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم قال أبو عبيدة وحدثنا حجاج عن حمزة الزيات عن أبي سفيان عن أبي نضرة قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين قال وما هما قال لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر قال لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك قال أبو عبيد وحدثنا محمد بن يزيد عن جويبر عن الضحاك قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى كتبهما الله عز و جل قال أبو عبيد أخبروني عن سفيان بن عيينة قال حدثت ابن شبرمة بحديث ابن عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة لم يفر فقال أما أنا فأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما أو ينهاهما وذهب ابن عباس في ذلك إلى قوله تعالى فإن يكن منكم مائة

صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين وجائز أن يكون ذلك أصلا فيما يلزم من تغيير المنكر وقال مكحول في قوله تعالى عليكم أنفسكم إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك حينئذ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت والله الموفق
باب

الشهادة على الوصية في السفر
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم قد اختلف في معنى الشهادة 5053 ههنا قال قائلون هي الشهادة على الوصية في السفر وأجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر وروى الشعبي عن أبي موسى أن رجلا مسلما توفي بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فأحلفهما أبو موسى بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى أبو موسى شهادتهما وقال هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال آخرون معنى شهادة بينكم حضور الوصيين من قولك شهدته إذا حضرته وقال آخرون إنما الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما وهو قول مجاهد فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التي تثبت بها عند الحكام وأن هذا حكم ثابت غير منسوخ وروي مثله عن شريح هو قول الثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبي أو آخران من غيركم من غير ملتكم وروي عن الحسن والزهري من غير قبيلتكم فأما تأويل من تأولها على اليمين دون الشهادة التي تقام عند الحكام فقول مرغوب عنه وإن كانت اليمين قد تسمى شهادة في نحو قوله تعالى فشهادة أحدكم أربع شهادات بالله لأن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة المتعارفة كقوله تعالى وأقيموا الشهادة لله واستشهدوا شهيدين من رجالكم ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا وأشهدوا ذوي عدل منكم كل ذلك قد عقل به الشهادات على الحقوق لا الأيمان وكذلك قوله تعالى شهادة بينكم المفهوم فيه الشهادة المتعارفة ويدل عليه قوله تعالى إذا حضر أحدكم الموت ويبعد أن يكون المراد أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت لأن حال الموت ليس حالا للأيمان ثم زاد بذلك بيانا بقوله اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم يعني والله أعلم إن

لم توجد ذوا عدل منكم ولا يختلف في حكم اليمين وجود ذوي العدل وعدمهم وقوله تعالى ولا نكتم شهادة الله يدل على ذلك أيضا لأن اليمين موجودة ظاهرة غير مكتوبة ثم ذكر يمين الورثة بعد اختلاف الوصيين على مال الميت وإنما الشهادة التي هي اليمين هي المذكورة في قوله تعالى يعني به الشهادة على الوصية إذ غير جائز أن يقول أن يأتوا باليمين على وجهها الوصية في السفر على وجهها وقوله تعالى أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم يدل أيضا على أن الأول شهادة لأنه ذكر الشهادة واليمين كل واحدة بحقيقة لفظها فأما تأويل من تأول قوله أو آخران من غيركم من غير قبيلتكم فلا معنى له والآية تدل على خلافه لأن الخطاب توجه إليهم بلفظ الإيمان من غير ذكر للقبيلة في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ثم قال أو آخران من غيركم يعني من غير المؤمنين ولم يجر للقبيلة ذكر حتى ترجع إليه الكناية ومعلوم أن الكناية إنما ترجع إما إلى الظهر مذكور في الخطاب أو معلوم بدلالة الحال فما لم تكن هنا دلالة على الحال ترجع الكناية إليها يثبت أنها راجعة إلى من تقدم ذكره في الخطاب من المؤمنين وصح أن المراد من غير المؤمنين فاقتضت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر وقد روي في تأويل الآية عن عبدالله بن مسعود وأبي موسى وشريح وعكرمة وقتادة وجوه مختلفة وأشبهها بمعنى الآية ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبدالملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم قال فنزلت فيهم يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم - بديا لأن الورثة اتهموهما بأخذه ثم لما ادعيا أنهما اشتريا الجام من الميت استحلف الورثة وجعل القول قولهم في أنه لم يبع وأخذوا الجام ويشبه أن يكون ما قال أبو موسى في قبول شهادة الذميين على وصية المسلم في السفر وأن ذلك لم يكن منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى الآن هو هذه القصة التي في حديث ابن عباس

وقد روى عكرمة في قصة تميم الداري نحو رواية ابن عباس واختلف في بقاء حكم جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفرفقال أبو موسى وشريح هي ثابتة وقول ابن عباس ومن قال أو آخران من غيركم أنه من غير المسلمين يدل على أنهم تأولوا الآية على جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر ولا يحفظ عنهم بقاء هذا الحكم أو نسخه وروي عن زيد بن أسلم في قوله تعالى شهادة بينكم قال كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام وذلك في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بالمدينة فكان الناس يتوارثون بالمدينة بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت
الفرائض وعمل المسلمون بها وروي عن إبراهيم النخعي قال هي منسوخة نسختها وأشهدوا ذوى عدل منكم وروى ضمرة بن جندب وعطية بن قيس قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها قال جبير بن نفير عن عائشة قالت المائدة من آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فاستحرموه وروى أبو إسحاق عن أبي ميسرة قال في المائدة ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ وقال الحسن لم ينسخ من المائدة شيء فهؤلاء ذهبوا إلى أنه ليس في الآية شيء منسوخ والذي يقتضيه ظاهر الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر سواء كان في الوصية بيع أو إقرار بدين أو وصية بشيء أو هبة أو صدقة هذا كله يشتمل عليه اسم الوصية إذا عقده في مرضه وعلى أن الله تعالى أجاز شهادتهما عليه الوصية لم يخصص بها الوصية دون غيرها وحين الوصية قد يكون إقرار بدين او بمال عين وغيره لم تفرق الآية بين شيء منه ثم قد روى أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن وإن كان قوم قد ذكروا أن المائدة من آخر ما نزل وليس يمتنع أن يريدوا بقولهم من آخر ما نزل من آخر سورة نزلت في الجملة لا على أن كل آية منها من آخر ما نزل وإن كان كذلك فآية الدين لا محالة ناسخة لجواز شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر لقوله إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى إلى قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وهم المسلمون لا محالة لأن الخطاب توجه إليهم باسم الأيمان ولم يخصص بها حال الوصية دون غيرها فهي عامة في الجميع ثم قال ممن ترضون من الشهداء وليس الكفار بمرضيين في الشهادة على المسلمين فتضمنت آية الدين

نسخ شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر وفي الحضر أو في الوصية وغيرها فانتظمت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم ومن حيث دلت على جوازها على وصية المسلم في السفر فهي دالة أيضا على وصية الذمي ثم نسخ فيها جوازها على وصية المسلم بآية الدين وبقي حكمها على الذمي في السفر وغيره إذ كانت حالة السفر والحضر سواء في حكم الشهادات وعلى جواز شهادة الوصيين على وصية الميت لأن في التفسير أن الميت أوصى إليهما وأنهما شهدا على وصيته ودلت على أن القول قول الوصي فيما في يده للميت مع يمينه لأنهما على ذلك استحلفا ودلت على أن دعواهما شرى شيء من الميت غير مقبولة إلا ببينة وأن القول قول الورثة إن الميت لم يبع ذلك منهما مع أيمانهم قوله تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني والله أعلم أقرب أن لا يكتموا ولا يبدلوا أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم يعني إذا حلفا ما غيرا ولا كتما ثم عثر على شيء من مال الميت عندهما أن تجعل أيمان الورثة أولى من أيمانهم بديا أنهما ما غيرا ولا كتما على ما روى عن ابن عباس في قصة تميم الداري وعدي بن بداء وقوله تعالى تحبسونهما من بعد الصلاة فإنه روي عن ابن سيرين وقتادة فاستحلفا بعد العصر وإنما استحلفا بعد العصر تغليظا لليمين في الوقت المعظم كما قال تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى قيل صلاة العصر وقد روي عن أبي موسى أنه استحلف بعد العصر في هذه القصة وقد روي تغليظ اليمين بالاستحلاف في البقعة المعظمة وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار ولو على سواك أخضر فأخبر أن اليمين الفاجرة عند المنبر أعظم مأثما وكذلك سائر المواضع الموسومة للعبادات ولتعظيم الله تعالى وذكره فيها تكون المعاصي فيها أعظم إثما ألا ترى أن شرب الخمر والزنا في المسجد الحرام وفي الكعبة أعظم مأثما منه في غيره وليست اليمين عند المنبر وفي المسجد في الدعاوي بواجبة وإنما ذلك على وجه الترهيب وتخويف العقاب وحكى عن الشافعي أنه يستحلف بالمدينة عند المنبر واحتج له بعض أصحابه بحديث جابر الذي ذكرنا وبحديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال للحضرمي لك يمينه قال إنه رجل فاجر لا يبالي قال ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف فلما أدبر ليحلف قال من حلف على مال ليأكله ظلما لقي الله وهو عنه معرض وبحديث أشعث بن قيس وفيه فانطلق ليحلف

فقالوا قوله من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة يدل على أن الأيمان قد كانت تكون عنده قال أبو بكر وليس فيه دلالة على أن ذلك مسنون وإنما قال ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يجلس هناك فلذلك كان يقع الاستحلاف عند المنبر واليمين عند المنبر أعظم مأثما إذا كانت كاذبة لحرمة الموضع فلا دلالة على أنه ينبغي أن تكون عند المنبر والشافعي لا يستحلف في الشيء التافه عند المنبر وقد ذكر في الحديث ولو على سواك أخضر فقد خالف الخبر على أصله وأما قوله انطلق ليحلف وأنه لما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما قال فإنه لا دلالة فيه على أنه ذهب إلى الموضع وإنما المراد بذلك العزيمة والتصميم عليه قال تعالى ثم أدبر واستكبر لم يرد به الذهاب إلى الموضع وإنما أراد التولي عن الحق والإصرار عليه وما روي عن الصحابة في الحلف عند المنبر وبين الركن والمقام فإنما كان ذلك لأنه كان ينفق الحكومة هناك ولا ينكر أن تكون اليمين هناك أغلظ ولكنه ليس بواجب لقوله ص - اليمين على المدعي عليه ولم يخصصها بمكان ولكن الحاكم إن رأى تغليظ اليمين باستحلافه عند المنبر إن كان بالمدينة وفي المسجد الحرام إن كان بمكة جاز له ذلك كما أمر الله باستحلاف هذين الوصيين بعد صلاة العصر لأن كثيرا من الكفار يعظمونه ووقت غروب الشمس
فصل قد تضمنت هذه الآية الدلالة على جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وذلك لأنها قد اقتضت جواز شهاداتهم على المسلمين وهي على أهل الذمة أجوز فقد دلت الآية على جواز شهادتهم على أهل الذمة في الوصية في السفر ولما نسخ منها جوازها على المسلمين بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم بقي بذلك جواز شهادة أهل الذمة عليهم ونسخ بذلك قوله أو آخران من غيركم وبقي حكم دلالتها في جوازها على أهل الذمة في الوصية في السفر وإذا كان حكمها باقيا في جوازها على أهل الذمة في يجيزها على أهل الذمة في الوصية في السفر ومنع جوازها على المسلمين اقتضى جوازها عليهم في سائر الحقوق لأن كل من شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض في ذلك أجازها على أهل الذمة في سائر الحقوق قإن قال قائل فإن ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي يجيزون شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر على ما روي عن أبي موسى وشريح ولا يجيزونها على الذمي

في سائر الحقوق قيل له قد بينا أنها منسوخة على المسلمين باقية على أهل الذمة في سائر الحقوق وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم قول أصحابنا وعثمان البتي والثوري وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والحسن وصالح والليث تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ولا تجوز على ملة غيرها وقال مالك والشافعي لا تجوز الملل بقوله تعالى أو آخران من غيركم يعني غير المؤمنين المبدوء وما ذكرنا من دلالة الآية يقتضي تساوي شهادات أهل من اختلافهما من العظم والضياء من أن يقضى له بالحدوث لوجود دلالات الحدث بذكرهم ولم تفرق بين الملل ومن حيث اقتضت جواز شهادة أهل الملل على وصية المسلم في السفر وهي دالة على جواز شهادتهم على الكفار في ذلك مع اختلاف مللهم ومما يوجب جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض من جهة السنة ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فذكروا أن رجلا وامرأة منهم زنيا فأمر النبي ص
- برجمهما وروى الأعمش عن عبدالله بن مرة عن البراء بن عازب قال مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يهودي محمم فقال ما شأن هذا فقالوا زنى فرجمه رسول الله ص
- وروى جابر عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم -
جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا فقال النبي ص
- ائتوني بأربعة منكم يشهدون فشهد أربعة منهم فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم - وعن الشعبي قال تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض وعن شريح وعمر بن عبدالعزيز والزهري مثله وقال ابن وهب خالف مالك معلميه في رد شهادة النصارى بعضهم على بعض وكان ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة يجيزونها وقال ابن أبي عمران من أصحابنا سمعت يحيى بن أكثم يقول جمعت هذا الباب فما وجد عن أحد من المتقدمين رد شهادة النصارى بعضهم على بعض إلا من ربيعة فإني وجدت عنه ردها ووجدت عنه إجازتها قال أبو بكر قد ذكرنا حكم الآية على الوجوه التي رويت فيها عن السلف وما نسخ منها وما هو منها ثابت الحكم فلنذكر الآية على سياقها مع بيان حكمها على ما اقتضاه ترتيبها على السبب الذي نزلت فيه فنقول وبالله التوفيق أن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم يعتوره معنيان أحدهما شهادة بينكم شهادة اثنين ذوى عدل منكم فحذف ذكر الشهادة الثانية لعلم المخاطبين بالمراد ويحتمل عليكم شهادة بينكم فهو أمر بإشهاد اثنين ذوي عدل كقوله تعالى في الدين واستشهدوا شهيدين من رجالكم فأفاد الأمر بإشهاد شاهدين عدلين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين على وصية

المسلم في السفر وكان نزولها على السبب الذي تقدم من ذكره من رواية ابن عباس في قصة تميم الداري وعدي بن بداء فذكر بعض السبب في الآية ثم قال إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فجعل شرط قبول شهادة الذميين على الوصية أن تكون في حال السفر وقوله حين الوصية قد تضمن أن يكون الشاهدان هما الوصيين لأن الموصى أوصى إلى ذميين ثم جاءا فشهدا بوصية فضمن ذلك جواز شهادة الوصيين على وصية الميت ثم قال فأصابتكم مصيبة الموت يعني قصة الموت الموصى قال تحبسونهما من بعد الصلاة يعني لما اتهمهما الورثة في حبس شيء من مال الميت وأخذه على ما رواه عكرمة في قصة تميم الداري وعلى ما قاله أبو موسى في استحلافه الذميين ما خانا ولا كذبا فصار مدعى عليهما فلذلك استحلفا لا من حيث كانا شاهدين ويدل عليه قوله تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله يعني فيما أوصى به الميت وأشهدهما عليه ثم قال تعالى فإن عثرا على أنهما استحقا إثما يعني ظهور شيء من مال الميت في أيديهما بعد ذلك وهو جام الفضة الذي ظهر في أيديهما من مال الميت فزعما أنهما كانا اشتريا من مال الميت ثم قال تعالى فآخران يقومان مقامهما يعني في اليمين لأنهما صارا في هذه الحال مدعيين للشرى فصارت اليمين على الورثة وعلى أنه لم يكن للميت إلا وارثان فكانا مدعى عليهما فلذلك استحلفا ألا ترى أنه قال من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما يعني إن هذه اليمين أولى من اليمين التي حلف بها الوصيان أنهما ما خانا ولا بدلا لأن الوصيين صارا في هذه الحال مدعيين وصار الوارثان مدعى عليهما وقد كان برئا في الظاهر بديا بيمينهما فمضت شهادتهما على الوصية فلما ظهر في أيديهما شيء من مال الميت صارت أيمان الوارثين أولى وقد اختلف في تأويل قوله تعالى الأوليان فروي عن سعيد بن جبير قال معنى الأوليان بالميت يعني الورثة وقيل الأوليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادعى الورثة عليهما الخيانة وأخذ شيء من تركة الميت فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيمانا وقال بعضهم الشهادة على الوصية كالشهادة على الحقوق لقوله تعالى شهادة بينكم لا محالة أريد بها شهادات الحقوق لقوله إثنان ذوى عدل منكم

أو آخران من غيركم وقوله بعد ذلك فيقسمان بالله غير اليمين ثم قال فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا يعني بها اليمين لأن هذه أيمان الوارثين وقوله أحق من شهادتهما يحتمل من يمينهما ويحتمل من شهادتهما لأن الوصيين قد كان منهما شهادة ويمين وصارت يمين الوارث أحق من شهادة الوصيين ويمينهما لأن شهادتهما لأنفسهما غير جائزة ويميناهما لم توجب تصحيح دعواهما في شراء ما ادعيا شراءه من الميت ثم قال تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني والله أعلم بالشهادة على الوصية وأن لا يخونوا ولا يغيروا يعني أن ما حكم الله تعالى به من ذلك من الإيمان وإيجابها تارة على الشهود فيما ادعى عليهما من الخيانة وتارة على الورثة فيما ادعى الشهود من شرى شيء من مال الميت وأنهم متى علموا ذلك أتوا بالشهادة على وصية الميت على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ولا يقتصروا على أيمانهم ولا يبرئهما ذلك من أن يستحق عليهم ما كتموه وادعوا شراه إذا حلف الورثة على ذلك والله أعلم
سورة

الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
باب
النهي عن مجالسة الظالمين
قال الله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية فأمر الله نبيه بالإعراض عن الذين يخوضون في آيات الله وهي القرآن بالتكذيب وإظهار الاستخفاف إعراضا يقتضي الإنكار عليهم وإظهار الكراهة لما يكون منهم إلى أن يتركوا ذلك ويخوضوا في حديث غيره وهذا يدل على أن علينا ترك مجالسة الملحدين وسائر الكفار عند إظهارهم الكفر والشرك وما لا يجوز على الله تعالى إذا لم يمكننا إنكاره وكنا في تقية من تغييره باليد أو اللسان لأن علينا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم -
فيما أمره الله به إلا أن تقوم الدلالة على أنه مخصوص بشيء منه قوله
تعالى وإما ينسينك الشيطان المراد إن أنساك الشيطان ببعض الشغل فقعدت معهم وأنت ناس للنهي فلا شيء عليك في تلك الحال ثم قال تعالى فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين يعني بعد ما تذكر نهي الله تعالى لا تقعد مع الظالمين وذلك عموم في النهي عن مجالسة سائر الظالمين من أهل الشرك

وأهل الملة لوقوع الاسم عليهم جميعا وذلك إذا كان في تقية من تغييره بيده أو بلسانه بعد قيام الحجة على الظالمين بقبح ماهم عليه فغير جائز لأحد مجالستهم مع ترك النكير سواء كانوا مظهرين في تلك الحال للظلم والقبائح أو غير مظهرين له لأن النهي عام عن مجالسة الظالمين لأن في مجالستهم مختارا مع ترك النكير دلالة على الرضا بفعلهم ونظيره قوله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل الآيات وقد تقدم ذكر ما روى فيه وقوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار قوله تعالى وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت قال قتادة هي منسوخة بقوله تعالى اقتلوا المشركين وقال مجاهد ليست بمنسوخة لكنه على جهة التهدد كقوله تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وقوله تبسل قال الفراء ترتهن وقال الحسن ومجاهد والسدي تسلم وقال قتادة تحبس وقال ابن عباس تفضح وقيل أصله الارتهان وقيل التحريم ويقال أسد باسل لأن فريسته مرتهنة به لا تفلت منه وهذا بسل عليك أي حرام عليك لأنه مما يرتهن به ويقال أعطى الراقي بسلته أي أجرته لأن العمل مرتهن بالأجرة والمستبسل المستسلم لأنه بمنزلة المرتهن بما أسلم فيه قوله تعالى فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي قيل فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه قال ذلك في أول حال نظره واستدلاله على ما سبق إلى وهمه وغلب في ظنه لأن قومه قد كانوا يعبدون الأوثان على أسماء الكواكب فيقولون هذا صنم زحل وصنم الشمس وصنم المشتري ونحو ذلك والثاني أنه قال قبل بلوغه وقبل إكمال الله تعالى عقله الذي به يصح التكليف فقال ذلك وقد خطرت بقلبه الأمور وحركته الخواطر والدواعي على الكفر فيما شاهده من الحوادث الدالة على توحيد الله تعالى وروي في الخبر أن أمه كانت ولدته في مغار خوفا من نمرود لأنه كان يقتل الأطفال المولودين في ذلك الزمان فلما خرج من المغار قال هذا القول حين شاهد الكواكب والثالث أنه قال ذلك على وجه الأنكار على قومه وحذف الألف وأراد أهذا ربي قال الشاعر ... كذبتك عينك أم رأيت بواسد ... غلس الظام من الرباب خيالا ...
ومعناه أكذبتك وقال آخر ... رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجود هم هم

معناه أهم هم ومعنى قوله لا أحب الآفلين إخبار بأنه ليس برب ولو كان ربا لأحببته وعظمته تعظيم الرب وهذا الاستدلال الذي سلك إبراهيم طريقه من أصح ما يكون من الاستدلال وأوضحه وذلك أنه لما رأى الكوكب في علوه وضيائه قرر نفسه على ما ينقسم إليه حكمه من كونه ربا خالقا أو مخلوقا مربوبا فلما رآه طالعا آفلا ومتحركا زائلا قضى بأنه محدث لمقارنته لدلالات الحدث وأنه ليس برب لأنه علم أن المحدث غير قادر على إحداث الأجسام وأن ذلك مستحيل فيه كما استحال ذلك منه إذ كان محدثا فحكم بمساواته له في جهة الحدوث وامتناع كونه خالقا ربا ثم لما طلع القمر فوجهه من العظم والإشراق وانبساظ النور على خلاف الكواكب قرر أيضا نفسه على حكمه فقال هذا ربي فلما رعاه وتأمل حاله وجده في معناه في باب مقارنته للحوادث من الطلوع والأفول والانتقال والزوال حكم له بحكمه وإن كان أكبر وأضوأ منه ولم يمنعه ما شاهد من اختلافهما من العظم والضياء من أن يقضى له بالحدوث لوجود دلالات الحدث فيه ثم لما أصبح رأى الشمس طالعة في عظمها وإشراقها وتكامل ضيائها قال ما ذكر اسم الله عليه فلا بأكلوه وما لم يذكر اسم الله فكلوه فقال الله هذا ربي لأنها بخلاف الكواكب والقمر في هذه الأوصاف ثم لما رآها آفلة منتقلة حكم لها بالحدوث أيضا وأنها في حكم الكواكب والقمر لشمول دلالة الحدث للجميع وفيما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام وقوله عقيب ذلك وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه أوضح دلالة على وجوب الاستدلال على التوحيد وعلى بطلان قول الحشو القائلين بالتقليد لأنه لو جاز لأحد أن يكتفي بالتقليد لكان أولاهم به إبراهيم عليه السلام فلما استدل إبراهيم على توحيد الله واحتج به على قومه ثبت بذلك أن علينا مثله وقد قال في نسق التلاوة عند ذكره إياه مع سائر الأنبياء أولئك الذين هدى الله بهداهم اقتده فأمرنا الله تعالى بالاقتداء به في الاستدلال على التوحيد والاحتجاج به على الكفار ومن حيث دلت أحوال هذه الكواكب على أنها مخلوقة غير خالقة ومربوبة غير رب فهي دالة أيضا على أن من كان في مثل حالها في الانتقال والزوال والمجيء والذهاب لا يجوز أن يكون ربا خالقا وأنه يكون مربوبا فدل على أن الله تعالى لا يجوز عليه الانتقال ولا الزوال ولا المجيء ولا الذهاب لقضية استدلال إبراهيم عليه السلام بأن من كان بهذه الصفة فهو محدث وثبت بذلك أن من عبد ما هذه صفته فهو غير عالم بالله

تعالى وأنه بمنزلة من عبد كوكبا أو بعض الأشياء المخلوقة وفيه الدلالة على أن معرفة الله تعالى تجب بكمال العقل قبل إرسال الرسل لإن إبراهيم عليه السلام استدل عليها قبل أن يسمع بحجج الأنبياء عليهم السلام قوله تعالى وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه يعني والله أعلم ما ذكر من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس وأن من كان في مثل حالها من مقارنة الحوادث له لا يكون إلها ولما قرر ذلك عندهم قال أي الفريقين أحق بالأمن أمن يعبد إلها واحدا أحق أم من يعبد آلهة شتى قالوا من يعبد ألها واحدا فأقروا على أنفسهم فصاروا محجوجين وقيل أنهم لما قالوا له أما تخاف أن تخبلك آلهتنا قال لهم أما تخافون أن تخبلكم بجمعكم الصغير مع الكبير في العبادة فأبطل ذلك حجاجهم عليه من حيث رجع عليهم ما أرادوا إلزامه إياه فألزمهم مثله على أصلهم وأبطل قولهم بقوله قوله تعالى أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده أمر لنا بالاقتداء بمن ذكر من الأنبياء في الاستدلال على توحيد الله تعالى على نحو ما ذكرنا من استدلال إبراهيم عليه السلام ويحتج بعمومه في لزوم شرائع من كان قبلنا من الأنبياء بأنه لم يخصص بذلك الاستدلال على التوحيد من الشرائع السمعية وهو على الجميع وقد بينا ذلك في أصول الفقه قوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار يقال إن الإدراك أصله اللحوق نحو قولك أدرك زمان المنصور وأدرك أبا حنيفة وأدرك الطعام أي لحق حال النضج وأدرك الزرع والثمرة وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال وإدراك البصر للشيء لحوقه له برؤيته إياه لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل أدركت ببصري شخصا معناه رأيته ببصري ولا يجوز أن يكون الإدراك إلإحاطة لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركا له فقوله تعالى لا تدركه الأبصار معناه لا تراه الأبصار وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار كقوله تعالى لا تأخذه سنة ولا نوم وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص فغير جائز إثبات نقيضه بحال كما لو بطل استحقاق الصفة بلا تأخذه سنة ولا نوم لم يبطل إلا إلى صفة نقص فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال إذ كان فيه إثبات صفة نقص ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة لأن النظر محتمل لمعان منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الاعتراض

عليه بلا مسوغ للتأويل فيه والأخبار والمروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة قوله تعالى ولو شاء الله ما أشركوا معناه لو شاء الله أن يكونوا على ضد الشرك من الإيمان قسرا ما أشركوا لأن المشيئة إنما تتعلق بالفعل أن يكون لا بأن لا يكون فمتعلق المشيئة محذوف وإنما المراد بهذه المشيئة الحال التي تنافي الشرك قسرا بالانقطاع عن الشرك عجزا ومنعا وإلجاء فهذه الحال لا يشأها الله تعالى لأن المنع من المعصية بهذه الوجوه منع من الطاعة وإبطال للثواب والعقاب في الآخرة قوله تعالى ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم قال السدي لا تسبوا الأصنام فيسبوا من أمركم بما أنتم عليه من عيبها وقيل لا تسبوا الأصنام فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سببتم من يعبدون وفي ذلك دليل على أن المحق عليه أن يكف عن سب السفهاء الذين يتسرعون إلى سبه على وجه المقابلة له لأنه بمنزلة البعث على المعصية قوله تعالى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين ظاهره أمر ومعناه الإباحة كقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض هذا إذا أراد بأكله التلذذ فهو إباحة يحتمل الترغيب في اعتقاد صحة الإذن فيه في أكله للاستعانة به على طاعة الله تعالى فيكون أكله في هذه الحال مأجورا ومن الناس من يقول إن كنتم بآياته مؤمنين يدل على حظر أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لاقتضائه مخالفة المشركين في أكل ما لم يذكر اسم الله عليه وقوله مما ذكر اسم الله عليه عموم في سائر الأذكار ويحتج به على جواز أكل ذبح الغاصب للشاة المغصوبة وفي الذبح بسكين مغصوبة أن المالك للشاة أكلها لقوله تعالى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إذ كان ذلك مما قد ذكر اسم الله عليه قوله تعالى وذروا ظاهر الإثم وباطنه قال الضحاك كان أهل الجاهلية يرون إعلان الزنا إثما والاستسرار به غير إثم فقال الله تعالى وذروا ظاهر الإثم وباطنه وهو عموم سائر ما يسمى بهذا الاسم أن عليه تركه سرا وعلانية فهو يوجب تحريم الخمر أيضا لقوله تعالى يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ويجوز أن يكون ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح وباطنه ما يفعله بقلبه من الاعتقادات والفصول ونحوها مما حظر عليه فعله منها قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله

عليه وإنه لفسق فيه نهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه وقد اختلف في ذلك فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح إن ترك المسلم التسمية عمدا لم يؤكل وإن تركها ناسيا أكل وقال الشافعي يؤكل في الوجهين وذكر مثله عن الأوزاعي وقد اختلف أيضا في تارك التسمية ناسيا فروي عن علي وابن عباس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وابن شهاب وطاوس قالوا لا بأس بأكل ما ذبح ونسى التسمية عليه وقال علي إنما هي على الملة وقال ابن عباس المسلم ذكر الله في قلبه وقال كما لا ينفع الاسم في الشرك لا يضر النسيان في الملة وقال عطاء المسلم تسمية اسم الله تعالى المسلم هو اسم من أسماء الله تعالى والمؤمن هو اسم من أسمائه والمؤمن تسمية الذابح وروى أبو خالد الأصم عن ابن عجلان عن نافع أن غلاما لابن عمر قال له يا عبدالله قل بسم الله قال قد قلت قال قل بسم الله قال قد قلت قال قل بسم الله قال قد قلت قال فذبح فلم يأكل منه وقال ابن سيرين إذا ترك التسمية ناسيا لم يؤكل وروى يونس بن عبيد عن مولى لقريش عن أبيه أنه أتى على غلام لابن عمر قائما عند قصاب ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها فأمره ابن عمر أن يقوم عنده فإذا جاء إنسان يشتري قال ابن عمر يقول إن هذه لم يذكها فلا تشتر وروى شعبة عن حماد عن ابراهيم في الرجل يذبح فينسى أن يسمي قال أحب إلي أن لا يأكل وظاهر الآية موجب لتحريم ما ترك اسم الله عليه ناسيا كان ذلك أو عامدا إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على أن النسيان غير مراد به فأما من أباح أكله مع ترك التسمية عمدا فقوله مخالف للآية غير مستعمل لحكمها بحال هذا مع مخالفته للآثار المروية في إيجاب التسمية على الصيد والذبيحة فإن قيل إن المراد بالنهي الذبائح التي ذبحها المشركون ويدل عليه ما روى شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال قال المشركون أما ما قتل ربكم فمات فلا تأكلونه وأما ما قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلونه فأوحى الله تعالى إلى نبيه ص - ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه قال الميتة ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم فإذا كانت الآية في الميتة وفي ذبائح المشركين فهي مقصودة الحكم ولم يدخل فيها ذبائح المسلمين قيل له نزول الآية على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه بل الحكم للعموم إذا كان أعم من السبب فلو كان المراد ذبائح المشركين لذكرها ولم يقتصر على ذكر ترك التسمية وقد علمنا أن المشركين وإن سموا

على ذبائحهم لم تؤكل مثل ذلك على أنه لم يرد ذبائح المشركين إذ كانت ذبائحهم غير مأكولة سموا الله عليها أو لم يسموا وقد نص الله تعالى على تحريم ذبائح المشركين في غير هذه الآية وهو قوله تعالى وما ذبح على النصب وأيضا فلو أراد ذبائح المشركين أو الميتة لكانت دلالة قائمة على فساد التذكية بترك التسمية إذ جعل ترك التسمية علما لكونه ميتة فدل ذلك على أن كل ما تركت التسمية عليه فهو ميتة وعلى أنه قد روي عن ابن عباس ما يدل على أن المراد التسمية دون ذبيحة الكافر وهو ما رواه إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم قال كانوا يقولون ما ذكر اسم الله عليه فلا تأكلوه وما لم يذكر اسم الله فكلوه فقال الله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن المجادلة منهم كانت تعالى ولا تاكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه لذلك لا على أنها نفس الذبح في ترك التسمية وأن الآية نزلت في إيجابها لا من طريق ذبائح المشركين ولا الميتة ويدل على أن ترك التسمية عامدا يفسد الذكاة
قوله تعالى يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين إلى قوله واذكروا اسم الله عليه ومعلوم أن ذلك أمر يقتضي الإيجاب وأنه غير واجب على الأكل فدل على أنه أراد به حال الاصطياد والسائلون قد كانوا مسلمين فلم يبح لهم الأكل إلا بشريطة التسمية ويدل عليه قوله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف يعني في حال النحر لأن الله تعالى قال فإذا وجبت جنوبها والفاء للتعقيب ويدل عليه من جهة السنة حديث عدي بن حاتم حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عن صيد الكلب فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل إذا أمسك عليك وإن وجدت معه كلبا آخر وقد قتله فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكره على غيره وقد كان عدي بن حاتم مسلما فأمره بالتسمية على إرسال الكلب ومنعه الأكل عند عدم التسمية بقوله فلا تأكله فإنما ذكرت الله على كلبك وقد اقتضت الآية النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه والنهي عن ترك التسمية أيضا ويدل على تأكيد النهي عن ذلك قوله تعالى وإنه لفسق وهو راجع إلى الأمرين من ترك التسمية ومن الأكل ويدل أيضا على ان المراد حال تركها عامدا إذا كان الناسي لا يجوز أن تلحقه سمة الفسق ويدل عليه ما روى عبدالعزيز الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الناس قالوا يا رسول الله

إن الأعراب يأتون باللحم فبتنا عندهم وهم حديثو عهد بكفر لا ندري ذكروا اسم الله عليه أم لا فقال سموا الله عليه وكلوا فلو لم تكن التسمية من شرط الذكاة لقال وما عليكم من ترك التسمية ولكنه قال كلوا لأن الأصل أن أمور المسلمين محمولة على الجواز والصحة فلا تحمل على الفساد وما لا يجوز إلا بدلالة فإن قيل لو كان المراد ترك المسلم التسمية لوجب أن يكون من استباح أكله فاسقا لقوله تعالى وإنه لفسق فلما اتفق الجميع على أن المسلم التارك للتسمية عامدا غير مستحق بسمة الفسق دل على أن المراد الميتة أو ذبائح المشركين قيل له ظاهر قوله وإنه لفسق عائد على الجميع من المسلمين وغيرهم وقيام الدلالة على خصوص بعضهم غير مانع بقاء حكم الآية في إيجاب التسمية على المسلم في الذبيحة وأيضا فإنا نقول من ترك التسمية عامدا مع اعتقاده لوجوبها هو فاسق وكذلك من أكل ما هذا سبيله مع الاعتقاد لأن ذلك من شرطها فقد لحقته سمة الفسق وأما من اعتقد أن ذلك في الميتة أو ذبائح أهل الشرك دون المسلمين فإنه لا يكون فاسقا لزواله عند حكم الآية بالتأويل فإن قال قائل لما كانت التسمية ذكرا ليس بواجب في استدامته ولا في انتهائه وجب أن لا يكون واجبا في ابتدائه ولو كان واجبا لاستوى فيه العامد والناسي قيل له أما القياس الذي ذكره فهو دعوى محض لم يرده على أصل فلا يستحق الجواب على أنه منتقض بالإيمان والشهادتين وكذلك في التلبية والاستيذان وما شاكل هذا لأن هذه إذا كانت ليست بواجبة في استدامتها وانتهائها ومع ذلك فهي واجبة في الابتداء وإنما قلنا إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة من قبل أن قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه خطاب للعامد دون الناسي ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة وإنه لفسق وليس ذلك صفة الناسي ولأن الناسي في حال نسيانه غير مكلف للتسمية وروى الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبدالله ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وإذا لم يكن مكلفا للتسمية فقد أوقع الذكاة على الوجه المأمور به فلا يفسده ترك التسمية وغير جائز إلزامه ذكاة أخرى لفوات ذلك منه وليس ذلك مثل نسيان تكبيرة الصلاة أو نسيان الطهارة ونحوها لأن الذي يلزمه بعد الذكر هو فرض آخر ولا يجوز أن يلزمه فرض آخر في الذكاة لفوات محلها فإن قيل لو كانت التسمية من شرائط الذكاة

لما أسقطها النسيان كترك قطع الأوداج وهذا السؤال للفريقين من أسقط التسمية رأسا ومن أوجبها في حال النسيان فأما من أسقطها فإنه يستدل علينا باتفاقنا على سقوطها في حال النسيان وشرائط الزكاة لا يسقطها النسيان كترك قطع الأوداج فدل على أن التسمية ليست بشرطها فيها ومن أوجبها في حال النسيان يشبهها بترك قطع الحلقوم والأوداج ناسيا أو عامدا أنه يمنع صحة الذكاة فأما من أسقط فرض التسمية رأسا فإن هذا السؤال لا يصح له لأنه يزعم أن ترك الكلام من فروض الصلاة وكذلك فعل الطهارة وهما جميعا من شروطها ثم فرق بين تارك الطهارة ناسيا وبين المتكلم في الصلاة ناسيا وكذلك النية شرط في صحة الصوم وترك الأكل أيضا شرط فيه صحته ولو ترك النية ناسيا لم يصح صومه ولو أكل ناسيا لم يفسد صومه فهذا سؤال ينتقض على أصل هذا السائل وأما من أوجبها في حال النسيان واستدل بقطع الأوداج فإنه لا يصح له ذلك أيضا لأن قطع الأوداج هو نفس الذبح الذي ينافى موته حتف أنفه وينفصل به من الميتة والتسمية مشروطة لذلك لا على أنها نفس الذبح بل هي مأمور بها عنده في الحال الذكر دون حال النسيان فلم يخرجه عدم التسمية على وجه السهو من وجود الذبح فلذلك اختلفا قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية الحرث الزرع والحرث الأرض التي تثار للزرع قال ابن عباس وقتادة عمد أناس من أهل الضلالة فجزؤا من حروثهم ومواشيهم جزأ لله تعالى وجزأ لشركائهم فكانوا إذا خالط شيء مما جزؤا لشركائهم ما جزؤا لله تعالى ردوه على شركائهم وكانوا إذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزؤا لله تعالى ووفروا ما جزؤا لشركائهم وقيل أنهم كانوا إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله تعالى ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى قال ذلك الحسن والسدي وقيل أنهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه للأوثان وإنما جعل الأوثان شركائهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها عليها فشاركوها في نعمهم قوله تعالى وقالوا هذه أنعام وحرث حجر قال الضحاك الحرث الزرع الذي جعلوه لأوثانهم وأما الأنعام التي ذكرها اولا فهو ما جعلوه لأوثانهم كما جعلوا الحرث للنفقة عليها في سدنتها وما ينوب من أمرها وقيل ما جعل منها قربانا للأوثان وأما الأنعام التي ذكرت ثانيا فإن الحسن ومجاهدا قالا هي السائبة والوصيلة والحامي وأما التي ذكرت ثالثا فإن

السدي وغيره قالوا هي التي إذا ولدوها أو ذبحوها أو ركبوها لم يذكروا اسم الله عليها وقال أبو وائل هي التي لا يحجون عليها وقوله تعالى حجر قال قتادة يعني حراما وأصله المنع قال الله تعالى ويقولون حجرا محجورا أي حراما محرما قوله تعالى وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا قال ابن عباس يعنون اللبن وقال سعيد عن قتادة ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا البحائر كانت للذكور دون النساء وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم قوله تعالى قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله قال قتادة يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تحريما من الشيطان في أموالهم وقال مجاهد والسدي ما في بطون هذه الأنعام يعني بها الأجنة وقال غيرهم أراد بها الألبان والأجنة جميعا والخالص هو الذي يكون على معنى واحد لا يشوبه شيء من غيره كالذهب الخالص ومنه إخلاص التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى وإنما أنث خالصة على المبالغة في الصفة كالعلامة والرواية وقيل على تأنيث المصدر نحو العاقبة والعافية ومنه بخالصة ذكرى الدار وقيل لتأنيث ما في بطونها من الأنعام ويقال فلان خالصة فلان وخلصانه وقوله تعالى وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء يعني أجنة الأنعام إذا كانت ميتة استوى ذكورهم وإناثهم فيها فأكلوها جميعا قال أبو بكر وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا أردت أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين قوله تعالى وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات إلى قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده قال ابن عباس والسدي معروشات ما عرش الناس من الكروم ونحوها وهو رفع بعض أغصانها على بعض وقيل أن تعريشه أن يحظر عليه بحائط وأصله الرفع ومنه خاوية على عروشها أي على أعاليها وما ارتفع منها والعرش السرير لارتفاعه ذكر الله تعالى الزرع والنخل والزيتون والرمان ثم قال كلوا من ثمرة إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده وهو عطف على جميع المذكور فاقتضى ذلك إيجاب الحق في سائر الزروع والثمار المذكورة على الآية وقد اختلف في المراد بقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده فروي عن ابن عباس وجابر بن زيد ومحمد بن الحنفية والحسن وسعيد بن المسيب وطاوس وزيد بن

أسلم وقتادة والضحاك أنه العشر ونصف العشر وروي عن ابن عباس رواية أخرى ومحمد بن الحنفية والسدي وإبراهيم نسخها العشر ونصف العشر وعن الحسن قال نسختها الزكاة وقال الضحاك نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن وروي عن ابن عمر ومجاهد أنها محكمة وأنه حق واجب عند الصرام غير الزكاة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن جداد الليل وعن صرام الليل قال سفيان بن عيينة هذا لأجل المساكين كي يحضروا قال مجاهد إذا حصدت طرحت للمساكين منه وكذلك إذا ظننت وإذا أكدست ويتركون يتبعون آثار الحصادين وإذا أخذت في كيله حثوت لهم منه وإذا علمت كيله عزلت زكاته وإذا أخذت في جدد النخل طرحت لهم منه وكذلك إذا أخذت في كيله وإذا علمت كيله عزلت زكاته وما روي عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وإبراهيم أن قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده منسوخ بالعشر ونصف العشر يبين أن مذهبهم تجويز نسخ القرآن بالسنة وقد اختلف الفقهاء فيما يجب فيه العشر من وجهين أحدهما في الصنف الموجب فيه والآخر في مقدارة
ذكر

الخلاف في الموجب فيه
قال أبو حنيفة وزفر في جميع ما تخرجه الأرض العشر إلا الحطب والقصب والحشيش وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية وقال مالك الحبوب التي تجب فيها الزكاة الحنطة والشعير والسلت والذرة والدخن والأرز والحمص والعدس والجلبان واللوبياء وما أشبه ذلك من الحبوب وفي الزيتون وقال ابن أبي ليلى والثوري ليس في شيء من الزرع زكاة إلا التمر والزبيب والحنطة والشعير وهو قول الحسن بن صالح وقال الشافعي إنما تجب فيما ييبس ويقتات ويدخر مأكولا ولا شيء في الزيتون لأنه إدام وقد روى عن علي بن أبي طالب وعمر ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنه ليس في الخضر صدقة وروي عن ابن عباس أنه كان يأخذ من دساتج الكراث العشر بالبصرة قال أبو بكر قد تقدم ذكر اختلاف السلف في معنى قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده وفي بقاء حكمه أو نسخه والكلام بين السلف في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها هل المراد زكاة الزرع والثمار وهو العشر ونصف العشر أو حق آخر غيره وهل هو منسوخ أو غير منسوخ فالدليل على أنه غير منسوخ اتفاق الأمة

على وجوب الحق في كثير من الحبوب والثمار وهو العشر ونصف العشر ومتى وجدنا حكما قد استعملته الأمة ولفظ الكتاب ينتظمه ويصح أن يكون عبارة عنه فواجب أن يحكم أن الاتفاق إنما صدر عن الكتاب وأن ما اتفقوا عليه هو الحكم المراد بالآية وغير جائز إثباته حقا غيره ثم إثبات نسخه بقوله ص -

فيما سقت السماء العشر إذ جائز أن يكون ذلك الحق هو العشر الذي بينه
النبي صلى الله عليه وسلم - فيكون قوله فيما سقت السماء العشر بيانا للمراد بقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده كما أن قوله في مائتي درهم خمسة دراهم بيان لقوله تعالى وآتوا الزكاة وقوله وأنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وغير جائز أن يكون قوله وآتوا حقه يوم حصاده منسوخا بالعشر ونصف العشر لأن النسخ إنما يقع بما لايصح اجتماعهما فأما ما يصح اجتماعهما معا فغير جائز وقوع النسخ به ألا ترى أنه يصح أن يقول وآتوا حقه يوم حصاده وهو العشر فلما كان ذلك كذلك لم يجز أن يكون منسوخا به وأما من جعل هذا الحق ثابت الحكم غير منسوخ وزعم أنه حق آخر غير العشر يجب عند الحصاد وعند الدياس وعند الكيل فإنه لا يخلو قوله هذا من أحد معنيين إما أن يكون مراده عنده الوجوب أو الندب فإن كان ندبا عنده لم يسغ له ذلك إلا بإقامة الدلالة عليه إذ غير جائز صرف الأمر عن الإيجاب إلى الندب إلا بدلالة وإن رآه واجبا فلو كان كما زعم لوجب أن يرد النقل به متواترا لعموم الحاجة إليه ولكان لا أقل من أن يكون نقله في نقل وجوب العشر ونصف العشر فلما لم يعرف ذلك عامة السلف والفقهاء علمنا أنه غير مراد فثبت أن هذا الحق هو العشر ونصف العشر الذي بينه ص - فإن قيل الزكاة لا تخرج يوم الحصاد وإنما تخرج بعد التنقية فدل على أنه لم يرد به الزكاة قيل له الحصاد اسم للقطع فمتى قطعه فعليه إخراج عشر ما صار في يده ومع ذلك فالخضر كلها إنما يخرج الحق منها يوم الحصاد غير منتظر به شيء غيره وقيل إن قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده لم يجعل اليوم ظرفا للإيتاء المأمور به وإنما هو ظرف لحقه كأنه قال وآتوا الحق الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية قال أبو بكر ولما ثبت بما ذكرنا أن المراد بقوله وآتوا حقه يوم حصاده هو العشر دل على وجوب العشر في جميع ما تخرجه الأرض إلا ما خصه الدليل لأن الله تعالى قد ذكر الزرع بلفظ عموم ينتظم لسائر أصنافه وذكر

النخل والزيتون والرمان ثم عقبه بقوله وآتوا حقه يوم حصاده وهو عائد إلى جميع المذكور فمن ادعى خصوص شيء منه لم يسلم له ذلك إلا بدليل فوجب بذلك إيجاب الحق في الخضر وغيرها وفي الزيتون والرمان فإن قيل إنما أوجب الله تعالى هذا الحق فيما ذكر يوم حصاده وذلك لا يكون إلا بعد استحكامه ومصيره إلى حال تبقى ثمرته فأما ما أخذ منه قبل بلوغ وقت الحصاد من الفواكه الرطبة فلم يتناوله اللفظ ومع ذلك فإن الزيتون والرمان لا يحصدان فلم يدخلا في عموم اللفظ قيل له الحصاد اسم للقطع والاستيصال قال الله تعالى حتى جعلناهم حصيدا خامدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة ترون أو باش قريش احصدوهم حصدا فيوم حصاده هو يوم قطعه فذلك قد يكون في الخضر وفي كل ما يقطع من الثمار عن شجرة سواء كان بالغا او أخضر رطبا وأيضا قد أوجب الآية العشر في ثمر النخل عند جميع الفقهاء بقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده فدل على أن المراد يوم قطعه لشمول اسم الحصاد لقطع ثمر النخل وفائدة ذكر الحصاد ههنا ان الحق غير واجب إخراجه بنفس خروجه وبلوغه حتى يحصل في يد صاحبه فحينئذ يلزمه إخراجه وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق قد يلزمه بخروجه قبل قطعه وأخذه فأفاد بذلك أن عليه زكاة ما حصل في يده دون ما تلف منه ولم يحصل منه في يده ويدل على وجوب العشر في جميع الخارج قوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وذلك عموم في جميع الخارج فإن قيل النفقة لا تعقل منها الصدقة قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن النفقة لا يعقل منها غير الصدقة وبهذا ورد الكتاب قال الله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وقال تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم وقال تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية الآية وغير ذلك من الآي الموجبة لما ذكرنا وأيضا فإن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم أمر وهو يقتضي الوجوب وليس ههنا نفقة واجبة غير الزكاة والعشر إذ النفقة على عياله واجبة وأيضا فإن النفقة على نفسه وأولاده معقولة غير مفتقرة إلى الأمر فلا معنى لحمل الآية عليه فإن قيل المراد صدقة التطوع قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن الأمر على الوجوب فلا يصرف إلى الندب إلا بدليل والثاني قوله تعالى ولستم بآخذيه إلا أن

تغمضوا فيه قد دل على الوجوب لأن الإغماض إنما يكون في اقتضاء الدين الواجب فأما ما ليس بواجب فكل ما أخذه منه فهو فضل وربح فلا إغماض فيه ومن جهة السنة حديث معاذ وابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بالساقية فنصف العشر وهذا خبر قد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه فهو في حيز التواتر وعمومه يوجب الحق في جميع أصناف الخارج فإن احتجوا بحديث يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو كامل الجحدري قال حدثنا الحارث بن شهاب عن عطاء بن السائب عن موسى بن طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ليس في الخضراوات صدقة قيل له قد قال يعقوب بن شيبة إن هذا حديث منكر وكان يحيى بن معين يقول حديث الحارث بن شهاب ضعيف قال يحيى وقد روى عبدالسلام بن حرب هذا الحديث عن عطاء بن السائب عن موسى بن طلحة مرسلا وعبدالسلام ثقة وإنما أصل حديث موسى ابن طلحة ما رواه يعقوب بن شيبة قال حدثنا جعفر بن عون قال حدثنا عمرو بن عثمان ابن موهب عن موسى بن طلحة أن بعض الأمراء بعث إليه في صدقة أرضه فقال ليس عليها صدقة وإنما هي أرض خضر ورطاب إن معاذا إنما أمر أن يأخذ من النخل والحنطة والشعير والعنب فهذا أصل حديث موسى بن طلحة وهو تأويل لحديث معاذ أنه أمر بالأخذ من الأصناف التي ذكر وليس في ذلك لو ثبت دلالة على نفي الحق عما سواها لأنه يجوز أن يكون معاذا إنما استعمل على هذه الأصناف دون غيرها وأيضا فلو استقام سند موسى ابن طلحة وصحت طريقته لم يجز الاعتراض به على خبر معاذ في العشر ونصف العشر لأنه خبر تلقاه الناس بالقبول واستعملوه وهم مختلفون في استعمال حديث موسى بن طلحة ومتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - خبران فاتفق الفقهاء على استعمال أحدهما واختلفوا في استعمال الآخر كان المتفق على استعماله قاضيا على المختلف فيه منهما خاصا كان ذلك أو عاما فوجب أن يكون قوله فيما سقت السماء العشر قاضيا على خبر موسى بن طلحة ليس في الخضراوات صدقة وأيضا يمكن استعمال هذا الخبر فيما يمر به على العشر على ما يقول أبو حنيفة لأنه لا يأخذ منه العشر ويكون خبر معاذ فيما سقت السماء العشر مستعملا في الجميع ومن جهة النظر أن الأرض بقصد طلب نمائها بزراعتها الخضراوات كما يطلب نماؤها بزراعتها الحب فوجب أن يكون فيها العشر كالحبوب ولا يلزم عليه الحطب

والقصب والحشيش لأن ذلك ينبت في العادة إذا صادفه الماء من غير زراعة وليس يكاد يقصد بها الأرض فلذلك لم يجب فيها شيء ولا خلاف في نفي وجوب الحق عن هذه الأشياء وقد اختلف فيما يأكله رب النخل من التمر فقال أبو حنيفة وزفر ومالك والثوري يحسب عليه ما أكله صاحب الأرض وقال أبو يوسف إذا أكل صاحب الأرض وأطعم جاره وصديقه أخذ منه عشر ما بقي من ثلاثمائة الصاع التي تجب فيها الزكاة ولا يؤخذ منه مما أكل أو أطعم ولو أكل الثلاثمائة صاع وأطعمها لم يكن عليه عشر فإن بقي منها قليل أو كثير فعليه عشر ما بقي أو نصف العشر وقال الليث في زكاة الحبوب يبدأ بها قبل النفقة وما أكل من فريك هو وأهله فإنه لا يحتسب عليه بمنزلة الرطب الذي يترك لأهل الحائط ما يأكله هو وأهله لا يخرص عليه وقال الشافعي يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله لا يخرصه عليه ومن أكل من نخله وهو رطب لم يحتسب عليه قال أبو بكر قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده يقتضي وجوب الحق في جميع المأخوذ ولم يخصص الله تعالى ما أكله هو وأهله فهو على الجميع فإن قيل إنما أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد فلا يجب الحق فيما أخذ منه قبل الحصاد قيل له الحصاد اسم للقطع فكلما قطع منه شيئا لزمه إخراج عشره وأيضا فليس في قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده دليل على نفي الوجوب عما أخذ قبل الحصاد لأنه جائز أن يريد وآتوا حق الجميع يوم حصاده المأكول منه والباقي واحتج من لم يحتسب بالمأكول بما روى شعبة عن حبيب بن عبدالرحمن قال سمعت عبدالرحمن بن مسعود يقول جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا فحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم -

إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فالربع وهذا يحتمل أن
يكون معناه ما روى سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم - بعث أبا حثمة خارصا فجاءه رجل فقال يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد على فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن ابن عمك يزعم أنك قد زدت عليه فقال يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعم المساكين وما يصيب الريح فقال قد زادك ابن عمك وأنصفك والعرايا هي الصدقة فإنما أمر بذلك الثلث صدقة ويدل عليه حديث جرير بن حازم عن قيس بن مسعود عن مكحول الشامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية فجمع بين العرية والوصية فدل على أنه أراد الصدقة وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال

ليس في العرايا صدقة فلم يوجب فيها صدقة لأن العارية نفسها صدقة وإنما فائدة الخبر أن ما تصدق به صاحب العشر يحتسب له ولا تجب فيها صدقة ولا يضمنها
ذكر

الخلاف في اعتبار ما يجب فيه الحق
فقال أبو حنيفة وزفر يجب العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره إلا ما قدمنا ذكره وقال أبو يوسف ومحمد ومالك وابن أبي ليلى والليث والشافعي لا يجب حتى يبلغ ما يجب فيه الحق خمسة أوسق وذلك إذا كان ما يجب فيه الحق مكيلا فإن لم يكن مكيلا فإن أبا يوسف اعتبر أن يكون فيه خمس أوسق من أدنى الأشياء التي تدخل في الوسق مما يجب فيه العشر إلا في العسل فإنه روي عنه يكون فيه خمسة أوسق من أدنى الأشياء أن دهقانة نهر الملك اسلمت فكتب عمر أن يؤخذ منه الخراج إن اختارت أرضها أنه اعتبر عشرة أرطال وروي أنه اعتبر عشر قرب وروي أنه اعتبر قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل في الوسق وأما محمد فإنه ينظر إلى أعلى ما يقدر به ذلك الشيء فيعتبر منه أن يبلغ خمسة أمثاله وذلك نحو الزعفران فإن أعلى مقاديره منا فيعتبر بلوغه خمسة أمناء لأن ما زاد على المن فإنه يضاعف أو ينسب إليه فيقال منوان وثلاثة ونصف من وربع من ويعتبر في القطن خمسة أحمال لأن الحمل أعلى مقاديره وما زاد فتضعيف له وفي العسل خمسة أفراق لأن الفرق أعلى ما يقدر به ويحتج لأبي حنيفة في ذلك بقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده وذلك عائد إلى جميع المذكور فهو عموم فيه وإن كان مجملا في المقدار الواجب لأن قوله حقه مجمل مفتقر إلى البيان وقد ورد البيان في مقدار الواجب وهو العشر أو نصف العشر ويحتج فيه بقوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وذلك عام في جميع الخارج ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - فيما سقت السماء والعشر ولم يفصل بين القليل والكثير ومن جهة النظر اتفاق الجميع على سقوط اعتبار الحول فيه فوجب أن يسقط اعتبار المقدار كالركاز والغنائم واحتج معتبروا المقدار بما روى محمد بن مسلم الطائفي قال أخبرنا عمرو ابن دينار عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا صدقة في شيء من الزرع أو الكرم أو النخل حتى يبلغ خمسة أوسق وروى ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله قال ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ورواه أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر موقوفا عليه وروى ابن المبارك عن معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
مثله والجواب عن هذا لأبي حنيفة من وجوه أحدها

أنه إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - خبران أحدهما عام والآخر خاص واتفق الفقهاء على استعمال أحدهما واختلف في استعمال الآخر فالمتفق على استعماله قاض على المختلف فيه فلما كان خبر العشر متفقا على استعماله واختلفوا في خبر المقدار كان استعمال خبر العشر على عمومه أولى وكان قاضيا على المختلف فيه فإما أن يكون الآخر منسوخا أو يكون تأويله محمولا على معنى لا ينافي شيئا من خبر العشر وأيضا فإن قوله فيما سقت السماء العشر عام في إيجابه في الموسوق وغيره وخبر الخمسة أوسق خاص في الموسوق دون غيره فغير جائز أن يكون بيانا لمقدار ما يجب فيه العشر لأن حكم البيان أن يكون شاملا لجميع ما اقتضى البيان فلما كان خبر الأوساق مقصورا على ذكر مقدار الوسق دون غيره وكان خبر العشر عموما في الموسق وغيره علمنا أنه لم يرد مورد البيان لمقدار ما يجب فيه العشر وأيضا فإن ذلك يقتضي أن يكون ما يوسق يعتبر في إيجاب الحق بلوغ مقداره خمسة أوسق وما ليس بموسوق يجب في قليله وكثيره ولقوله عليه السلام فيما سقت السماء العشر وفقد ما يوجب تخصيص مقدار مالا يدخل في الأوساق وهذا قول مطروح والقائل به ساقط مرزول لاتفاق السلف والخلف على خلافه وليس ذلك كقوله ص - في الرقة ربع العشر وقوله ليس فيما دون خمس أواق زكاة وذلك لأنه لا شيء من الرقة إلا وهو داخل في الوزن والأواقي مذكورة للوزن فجاز أن يكون بيانا لمقدار جميع الرقة المذكورة في الخبر الآخر وأيضا فقد ذكرنا أن لله حقوقا واجبة في المال غير الزكاة ثم نسخت بالزكاة كما روي عن ي جعفر محمد بن علي والضحاك قالا نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فجائز أن يكون هذا التقدير معتبرا في الحقوق التي كانت واجبة فنسخت نحو قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ونحو ما روي عن مجاهد إذا حصدت طرحت للمساكين وإذا كدست وإذا نقيت وإذا علمت كيله عزلت زكاته وهذه الحقوق غير واجبة اليوم فجائز أن يكون ما روي من تقدير الخمسة الأوسق كان معتبرا في تلك الحقوق وإذا احتمل ذلك لم يجز تخصيص الآية والأثر المتفق على نقله به وأيضا فقد روي ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة فجائز أن يريد به زكاة التجارة بأن يكون سأل سائل عن أقل من خمسة أوسق طعام أو تمر للتجارة فأخبر أن لا زكاة فيه لقصور قيمته عن النصاب في ذلك الوقت فنقل الراوي كلام النبي صلى الله عليه وسلم -

وترك ذكر السبب

كما يوجد ذلك في كثير من الأخبار
ذكر

الخلاف في اجتماع العشر والخراج
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يجتمعان وقال مالك والثوري والحسن بن صالح وشريك والشافعي إذا كانت أرض خراج فعليه العشر في الخارج والخراج في الأرض والدليل على أنهما لا يجتمعان أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد وضع على الأرض الخراج ولم يأخذ العشر من الخارج وذلك بمشاورة الصحابة وبموافقتهم إياه عليه فصار ذلك إجماعا من السلف وعليه مضى الخلف ولو جاز اجتماعهما لجمعهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بالناضح نصف العشر وذلك إخبار بجميع الواجب في كل واحد منهما فلو فلو وجب الخراج معه لكان ذلك بعض الواجب لأن الخراج قد يكون الثلث أو الربع وقد يكون قفيزا ودرهما وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم - قدر العشر إلى النصف لأجل المؤنة التي لزمت صاحبها فلو لزم الخراج في الأرض لزم سقوط نصف العشر الباقي للزوم مؤنة الخراج ولكان يجب أن يختلف حكم ما تغلظ فيه المؤنة وما تخلف فيه كما خالف النبي صلى الله عليه وسلم -
بين ما سقته السماء وبين ما سقي بالناضح لأجل المؤنة ويدل عليه حديث سهيل
بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال منعت العراق قفيزها ودرهمها ومعناه ستمنع ولو كان العشر واجبا لاستحال أن يكون الخراج ممنوعا منه والعشر غير ممنوع لأن من منع الخراج كان للعشر أمنع وفي تركه ذكر العشر دلالة على أن لا عشر في أرض الخراد وروى أن رفيلا أسلم فقال له علي إن أقمت على أرضك أخذنا منك الخراج ولو وروى ايضا لأنها عندنا مملوكة لأهلها والكلام فيها في غير هذا الموضع وقوله إن الخراج كان العشر واجبا مع ذلك لا خبرا بوجوبه ولم يخالفهما في ذلك أحد من الصحابة وأيضا لما كان العشر والخراج حقين لله تعالى لم يجز اجتماعهما عليه في وقت واحد والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع وجوب زكاة السائمة وزكاة التجارة فإن قيل إن الخراج بمنزلة الأجرة والعشر صدقة فكما جاز اجتماع أجر الأرض والعشر في الخارج كذلك يجوز اجتماع الخراج والعشر وذلك لأن أرض الخراج مبقاة على حكم الفيء وإنما أبيح لزارعها الانتفاع بها بالخراج وهو أجرة الأرض فلا يمنع ذلك وجوب العشر مع الخراج قيل

له هذا غلط من وجوه أحدها أن عند أبي حنيفة لا يجتمع العشر والأجرة على المستأجر ومتى لزمته الأجرة سقط عنه العشر فكان العشر على رب الأرض الآخذ للأجرة فهذا الإلزام ساقط عنه وقول القائل إن أرض الخراج غير مملوكة لأهلها وأنها مبقاة على حكم الفيء خطأ لأنها عندنا مملوكة لأهلها والكلام فيها في غير هذا الموضع وقوله إن الخراج أجرة خطأ أيضا من وجوه أحدها أنه لا خلاف أنه لا يجوز استيجار النخل والشجر ومعلوم أن أجرة خطأ أسضا من وجوه الخراج يؤدى عنهما فثبت أنه ليس بأجرة وأيضا فإن الأجارة لا تصح إلا على مدة معلومة ولم يعتقد أحد من الأئمة على أرباب أراضي الخراج مدة معلومة وأيضا فإن كانت أرض الخراج وأهلها مقرون على حكم الفيء فغير جائز أن يؤخذ منهم جزية رؤسهم لأن العبد لا جزية عليه ومما يدل على انتفاء اجتماع الخراج والعشر تنافي سببهما وذلك لأن الخراج سببه الكفر لأنه يوضع موضع الجزية وسائر أموال الفيء والعشر سببه الإسلام فلما تنافى مسبباهما تنافى مسبباهما قوله تعالى ومن الأنعام حمولة وفرشا روي عن ابن عباس رواية والحسن وابن مسعود رواية أخرى ومجاهد قالوا الحمولة كبار الإبل والفرش الصغار وقال قتادة والربيع بن أنس والضحاك والسدي والحسن رواية الحمولة ما حمل من الإبل والفرش الغنم وروي عن ابن عباس رواية أخرى قال الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير والفرش الغنم فأدخل في الأنعام الحافر على الاتباع لأن اسم الأنعام لا يقع على الحافر وكان قول السلف في الفرش أحد معنيين إما صغار الإبل وإما الغنم وقال بعض أهل العلم أراد بالفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها التي يفترشونها ويجلسون عليها ولولا قول السلف على ما ذكرنا لكان هذا الظاهر يستدل به على جواز الانتفاع بأصواف الأنعام وأوبارها في سائر الأحوال سواء أخذت منها بعد الموت أو في حال الحياة ويستدل به أيضا على جواز الانتفاع بجلودها بعد الموت لاقتضاء العموم له إلا أنهم قد اتفقوا أنه لا ينتفع بالجلود قبل الدباغ فهو مخصوص وحكم الآية ثابت في الانتفاع بها بعد الدباغ وقوله تعالى ومن الأنعام حمولة وفرشا فيه إضمار وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا قوله تعالى ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين إلى الظالمين قولة ثمانية أزواج بدل من قوله حمولة وفرشا لدخوله في الإنشاء كأنه قال أنشأ ثمانية أزواج فكل واحد من

الأصناف الأربعة من ذكورها وإناثها يسمى زوجا ويقال للإثنين زوج أيضا كما يقال للواحد خصم وللإثنين خصم فأخبر الله تعالى أنه أحل لعبادة هذه الأزواج الثمانية وأن المشركين حرموا منها ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما جعلوه لشركائهم على ما بينه قبل ذلك بغير حجة ولا برهان ليضلوا الناس بغير علم فقال نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ثم قال أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا لأن طريق العلم إما المشاهدة أو الدليل الذي يشترك العقلاء في إدراك الحق به فبان بعجزهم عن إقامة الدلالة من أحد هذين الوجهين بطلان قولهم في تحريم ما حرموا من ذلك قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية روي عن طاوس أن أهل الجاهلية كانوا يستحلون أشياء ويحرمون أشياء فقال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما مما تستحلون إلا أن يكون ميتة الآية وسياقة المخاطبة تدل على ما قال طاوس وذلك لأن الله قد قدم ذكر ما كانوا يحرمون من الأنعام وذمهم على تحريم ما أحله وعنفهم وأبان به عن جهلهم لأنهم حرموا بغير حجة ثم عطف قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما يعني مما تحرمونه إلا ما ذكر وإذا كان ذلك تقدير الآية لم يجز الاستدلال بها على إباحة ما خرج عن الآية فإن قيل قد ذكر في أول المائة تحريم المنخنقة والموقوذة وما ذكر معها وهي خارجة عن هذه الآية قيل له في ذلك جوابان أحدهما أن المنخنقة وما ذكر معها قد دخلت في الميتة وإنما ذكر الله تعالى تحريم الميتة في قوله حرمت عليكم الميتة ثم فسر وجوهها والأسباب الموجبة لكونها ميتة فقد اشتمل اسم الميتة على المنخنقة ونظائرها والثاني أن سورة الأنعام مكية وجائز أن لا يكون قد حرم في ذلك الوقت إلا ما قد ذكر في هذه الآية والمائدة مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن وفي هذه الآية دليل على أن او إذا دخلت على النفي ثبت كل واحد مما دخلت عليه على حيالها وأنها لا تقتضي تخييرا لأن قوله تعالى إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير قد أوجب تحريم كل واحد من ذلك على حياله وقد احتج كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكورة في هذه الآية بها فمنها لحوم الحمر الأهلية وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم -

نهى عن لحوم الحمر الأهلية قال قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري
عندنا عن النبي ص

ولكن أبى ذلك البحر يعني عبدالله بن عباس وقرأ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية وروى حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة أنها كانت لا ترى بلحوم السباع والدم الذي يكون في أعلى العروق بأسا وقرأت هذه الآية قل لا أجد قيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية فأما لحوم الحمر الأهلية فإن أصحابنا ومالكا والثوري والشافعي ينهون عنه وروي عن ابن عباس ما ذكرنا من إباحته وتابعه على ذلك قوم وقد وردت أخبار مستفيضة في النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية منها حديث الزهري عن الحسن وعبدالله ابني محمد بن الحنيفة عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الحمر الإنسية وعن متعة النساء يوم خيبر وقد روى ابن وهب عن يحيى بن عبدالله بن سالم عن عبدالرحمن ابن الحارث المخزومي عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأنسية وهذا يدل على أنه لما سمع عليا يروي النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

رجع عما كان يذهب إليه من الإباحة وروى أبو حنيفة وعبدالله عن نافع عن
ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية ورواه حماد بن زيد عن عمرو ابن دينار عن محمد بن علي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم -
نهى عن لحوم الحمر الأهلية وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب
سمعه منه قال أصبنا حمرا يوم خيبر فطبخناها فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن اكفئوا القدور وروى النهي عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ابن أبي أوفى وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة وأبو ثعلبة الخشني في آخرين في
بعضها ابتداء نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم - وبعضها ذكر قصة خيبر والسبب الذي من أجله نهى عنها فقال قائلون إنما نهي عنها لأنها كانت نهبة انتهبوها وقال آخرون لأنه قيل له إن الحمر قد قلت وقال أخرون لأنها كانت جلالة فتأول من أباحها نهى النبي صلى الله عليه وسلم -
على أحد هذه الوجوه ومن حظرها أبطل هذه التأويلات بأشياء أحدها ما رواه
جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يحل الحمار الأهلي منهم المقدام بن معدى كرب وأبو ثعلبة الخشني وغيرهما والثاني ما رواه سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم -
خيبر أصابوا حمرا فطبخوها منها فنادى منادي رسول الله ص
- ألا إن الله ورسوله

ينهاكم عنها فإنها نجس فاكفئوا القدور وروى عبدالوهاب الثقفي عن أيوب بإسناد مثله قال فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - مناديا فنادى أن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس قال فأكفئت القدور وإنها لتفور وهذا يبطل تأويل من تأول النهي على النهبة وتأويل من تأوله على خوف فناء الحمر الأهلية بالذبح لأنه أخبر أنها نجس وذلك يقتضي تحريم عينها لا لسبب غيرها ويدل عليه أنه أمر بالقدور فأكفئت ولو كان النهي لأجل ما ذكروا لأمر بأن يطعم المساكين كما أمر بذلك في الشاة المذبوحة بغير أمر أصحابها بأن يطعم الأسرى وفي حديث أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - عما يحرم عليه فقال لا تأكل الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع فهذا أيضا يبطل سائر التأويلات التي ذكرناها عن مبيحيها وقد روى عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر لأنها كانت تأكل العذرة فإن صح هذا التأويل للنهي الذي كان منه يوم خيبر فإن خبر أبي ثعلبة وغيره في سؤالهم عنها في غير يوم خيبر يوجب إيهام تحريمها لا لعلة غير أعيانها وقد روي في حديث يروى عن عبدالرحمن بن مغفل عن رجال من مزينة فقال بعضهم غالب بن الأبجر وقال بعضهم الحر بن غالب أنه قال يا رسول الله إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم فيه أهلي غير حمرات لي قال فأطعم أهلك من سمين مالك فإنما كرهت لكم جوال القرية فاحتج من أباح الحمر الأهلية بهذا الخبر وهذا الخبر يدل على النهي عنها لأنه قال كرهت لكم جوال القرية والحمر الأهلية كلها جوال القرى والأباحة عندنا في هذا الحديث إنما انصرفت إلى الحمر الوحشية وقد اختلف في الحمار الوحشي إذا دجن فقال أصحابنا والحسن بن صالح والشافعي في الحمار الوحشي إذا دجن وألف أنه جائز أكله وقال ابن القاسم عن مالك إذا دجن وصار يعمل على الأهلي فإنه لا يؤكل وقد اتفقوا على أن الوحش الأهلي لا يخرجه عن حكم جنسه في تحريم الأكل كذلك ما أنس من الوحش قال أبو بكر وقد اختلف في ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد لا يحل أكل ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد لا يحل اكل ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وقال مالك لا يؤكل سباع الوحش ولا الهر الوحشي ولا الأهلي ولا الثعلب ولا الضبع ولا شيء من السباع ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقبان والنسور وغيرها ما أكل الجيف منها وما لا يأكل وقال

الأوزاعي الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم وقال الليث لا بأس بأكل الهر وأكره الضبع وقال الشافعي لا يؤكل ذو ناب من السباع التي تعدو على الناس الأسد والنمر والذئب ويؤكل الضبع والثعلب ولا يؤكل النسر والبازي ونحوه لأنها تعدو على طيور الناس وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد قال حدثنا عمران بن جبير أن عكرمة سئل عن الغراب قال دجاجة سمينة وسئل عن الضبع فقال نعجة سمينة
قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن ميمون بن مهران عن ابن عياض قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير ورواه علي بن أبي طالب والمقدام بن معد يكرب وأبو هريرة وغيرهما فهذه آثار مستفيضة في تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير والثعلب والهر والنسر والرخم داخلة في ذلك فلا معنى لاستثناء شيء منها إلا بدليل يوجب تخصيصه وليس في قبولها ما يوجب نسخ قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه لأنه إنما فيه إخبار بأنه لم يكن المحرم غير المذكور وأن ما عداه كان باقيا على أصل الإباحة وكذلك الأخبار الواردة في لحوم الحمر الأهلية هذا حكمها ومع ذلك فإن هذه الآية خاصة باتفاق أهل العلم على تحريم أشياء كثيرة غير مذكورة في الآية فجاز قبول أخبار الآحاد في تخصيصها وكره أصحابنا الغراب الأبقع لأنه يأكل الجيف ولم يكرهوا الغراب الزرعي لما روى قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال خمس فواسق يقتلهن المحرم في الحل والحرم وذكر أحدها الغراب الأبقع فخص الأبقع بذلك لأنه يأكل الجيف فصار أصلا في كراهة أشباهه مما يأكل الجيف قوله عليه السلام خمس يقتلهن المحرم يدل على تحريم أكل هذه الخمس وأنها لا تكون إلا مقتولة غير مذكاة ولو كانت مما يؤكل لأمر بذبحها وذكاتها لئلا تحرم بالقتل فإن قيل بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا يحيى بن مسلم قال حدثني إسماعيل

ابن أمية عن أبي الزبير قال سألت جابر أهل يؤكل الضبع قال نعم قلت أصيد هي قال نعم قلت أسمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم -

قال نعم قيل له ما روي عن النبي ص
- من نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير قاض على ذلك لاتفاق الفقهاء على استعماله اختلافهم في استعمال ذلك واختلف في أكل الضب فكرهه أصحابنا وقال مالك والشافعي لا بأس به والدليل على صحة قولنا ما روى الأعمش عن زيد بن وهب الجهني عن عبدالرحمن بن حسنة قال نزلنا ارضا كثيرة الضباب فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها فإن القدور لتغلي بها فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال ما هذا فقلنا ضباب أصبناها فقال إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب الأرض وإني أخشى أن تكون هذه فاكفئوها وهذا يقتضي حظره لأنه لو كان مباح الأكل لما أمر بإكفاء القدور لأنه ص - نهى عن إضاعة المال وحدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عون الطائي أن الحكم بن نافع حدثهم قال حدثنا ابن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبدالرحمن بن شبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
نهى عن أكل لحم الضب وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عائشة أنه
أهدى لها ضب فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم - تأكلين فهذه الأخبار توجب النهي عن أكل الضب وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يأكل من الضب وأكل على مائدة رسول الله ص
- ولو كان حراما ما أكل على مائدته وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إنما ترك أكله تقذرا وفي بعض الأخبار أنه قال لم يكن بأرض قومي فأجدني
أعافه وأن خالد بن الوليد أكله بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم - فلم ينهه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عمر بن سهل قال يحدثنا إسحاق بن الربيع عن الحسن قال قال عمر إن هذه الضباب طعام عامة هذه الرعاء وإن الله ليمنع غير واحد ولو كان عندي منها شيء لأكلته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يحرمه ولكنه قدره وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عمر بن سهل قال حدثنا بحر عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري قال إن كان أحدنا لتهدى إليه الضبة المكنونة أحب إليه من الدجاجة السمينة فاحتج مبيحوه بهذه الأخبار وفيها دلالة على حظره لأن فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم - تركه تقذرا وأنه قذره وما قذره النبي صلى الله عليه وسلم -
فهو نجس ولا يكون نجسا إلا وهو

محرم الأكل ولو ثبت الإباحة بهذه الأخبار لعارضتها أخبار الحظر ومتى ورد الخبران في شيء وأحدهما مبيح والآخر حاظر فخبر الحظر أولى وذلك لأن الحظر وارد لا محالة بعد الإباحة لأن الأصل كانت الإباحة والحظر طارىء عليها ولم يثبت ورود الإباحة على الحظر فحكم الحظر ثابت لا محالة واختلف في هوام الأرض فكره أصحابنا أكل هوام الأرض اليربوع والقنفذ والفأر والعقارب وجميع هوام الأرض وقال ابن أبي ليلى لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت وهو قول مالك والأوزاعي إلا أنه لم يشترط منه الذكاة وقال الليث لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه وقال ابن القاسم عن مالك لا بأس بأكل الضفدع قال ابن القاسم وقياس قول مالك أنه لا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها لأنه قال موته في الماء لا يفسده وقال الشافعي كل ما كانت العرب تستقذره فهو من الخبائث فالذئب والأسد والغراب والحية والحدأة والعقرب والفأرة لأنها تقصد بالأذى فهي محرمة من الخبائث وكانت تأكل الضبع والثعلب لأنهما لا يعدوان على الناس بأنيابهما فهما حلال قال بكر قال الله تعالى ويحرم عليهم الخبائث قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا إبراهيم بن خالد أبو ثور قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن عيسى بن نميلة عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر إن كان قال رسول الله ص
- هذا فهو كما قال فسماه النبي صلى الله عليه وسلم -
خبيثة من الخبائث فشمله حكم التحريم بقوله تعالى
ويحرم عليهم الخبائث والقنفذ من حشرات الأرض فكل ما كان من حشراتها فهو محرم قياسا على القنفذ وروى عبدالله بن وهب قال أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبدالرحمن قال ذكر طبيب الدواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وذكر الضفدع يكون في الدواء فنهى النبي ص
- عن قتله وهذا يدل على تحريمه لأنه نهاه أن يقتله فيجعله في الدواء ولو جاز الانتفاع به لما كان منهيا عن قتله للانتفاع به وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار مستفيضة رواها ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة وغيرهم أنه قال يقتل المحرم في الحل والحرم الحدأة والغراب والفأرة والعقرب وفي بعض الأخبار والحية ففي أمره يقتلهن

دلالة على تحريم أكلهن لأنها لو كانت مما تؤكل لأمر بالتوصل إلى ذكاتها فيما تتأتى فيه الذكاة منها فلما أمر بقتلها والقتل إنما يكون لا على وجه الذكاة ثبت أنها غير مأكولة ولما ثبت ذلك في الغراب والحدأة كان سائر ما يأكل الجيف مثلها ودل على أن ما كان من حشرات الأرض فهو محرم كالعقرب والحية وكذلك اليربوع لأنه جنس من الفأر وأما قول الشافعي في اعتباره ما كانت العرب تستقذره وإن ما كان كذلك فهو من الخبائث فلا معنى له من وجوه أحدها أن نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير قاض بتحريم جميعه وغير جائز أن يزيد فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما قد تناوله العموم ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الشافعي وإنما جعل كونه ذا ناب من السباع وذا مخلب من الطير علما للتحريم فلا يجوز الاعتراض عليه بما لم تثبت به الدلالة ومن جهة أخرى أن خطاب الله تعالى للناس بتحريم الخبائث عليهم لم يختص بالعرب دون العجم بل الناس كلهم من كان منهم من أهل التكليف داخلون في الخطاب فاعتبار ما يستقذره العرب دون غيرهم قول لا دليل عليه خارج عن مقتضى الآية ومع ذلك فليس يخلو من أن يعتبر ما كانت العرب يستقذره جميعهم أو بعضهم فإن كان اعتبر الجميع فإن جميع العرب لم يكن يستقذر الحيات والعقارب ولا الأسد والذئاب والفأر وسائر ما ذكر بل عامة الأعراب تستطيب أكل هذه الأشياء فلا يجوز أن يكون المراد ما كان جميع العرب يستقذره وإن أراد ما كان بعض العرب يستقذره فهو فاسد من وجهين أحدهما أن الخطاب إذا كان لجميع العرب فكيف يجوز اعتبار بعضهم عن بعض والثاني أنه لما صار البعض المستقذر كذلك كان أولى بالاعتبار من البعض الذي يستطيبه فهذا قول منتقض من جميع وجوهه وزعم أنه أباح الضبع والثعلب لأن العرب كانت تأكله وقد كانت العزاب تأكل الرغراب والحدأة والأسد لم يكن منهم لم يمتنع من أكل ذلك وأما اعتباره ما يعدو على الناس فإن أراد به يعدو على الناس في سائر الأحوال فإن ذلك لا يوجد في الحدأة والحية والغراب وقد حرمها وإن أراد به العدو عليهم في حال إذا لم يكن جائعا والجمل الهائج قد يعدو على الإنسان وكذلك الثور في بعض الأحوال ولم يعتبر ذلك هو ولا غيره في هذه الأشياء في تحريم الأكل وإباحته والكلب والسنور لا يعدوان على الناس وهما محرمان وقد اختلف في لحوم الإبل الجلالة

فكرهها أصحابنا والشافعي إذا لم يكن يأكل غير العذرة وقال مالك والليث لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبن الجلالة قال أبو بكر فكل من خالف في هذه المسائل التي ذكرنا من ابتدائنا لأحكام قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه وأباح أكل ما ذهب أصحابنا فيه إلى حظره فإنهم يحتجون فيه بقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما الآية وقد بينا أن ذلك خرج على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم قبل هذه الاية مما كانوا يحرمونه من الأنعام ولو لم يكن نزوله على السبب الذي ذكرنا وكان خبرا مبتدأ لم يمتنع بذلك قبول أخبار الآحاد في تحريم أشياء لم تنتظمها الآية ولا استعمال القياس في حظر كثير منه لأن ما فيه الأخبار بأنه لم يكن المحرم من طريق الشرع إلا المذكور في الآية وقد علمنا أن هذه الأشياء قد كانت مباحة قبل ورود السمع وقد كان قبول أخبار الآحاد جائزا واستعمال القياس سائغا في تحريم ما هذا وصفه وكذلك إخبار الله بأنه لم يحرم بالشرع إلا المذكور في الآية غير مانع تحريم غيره من طريق خبر الواحد والقياس وقوله تعالى على طاعم يطعمه يدل على أن المحرم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها فلم يتناول الجلد المدبوغ ولا القرن والعظم والظلف والريش ونحوها ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -

في شاة ميمونة إنها حرم أكلها وفي بعض الألفاظ إنما حرم لحمها وقوله
تعالى أو دما مسفوحا يدل على أن المحرم من الدم ما كان مسفوحا وأن ما يبقى في العروق من أجزاء الدم غير محرم وكذلك روى عن عائشة وغيرها في الدم الذي في المذبح أو في أعلى القدر أنه ليس بمحرم لأنه ليس بمسفوح وهذا يدل على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس إذ ليس بمسفوح فإن قيل قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه وإن كان إخبارا بأنه ليس المحرم في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم -
من المأكولات على المذكور في الآية فإنه قد نسخ به كثيرا من المحظورات
على ألسنة الأنبياء المتقدمين فلا يكون سبيله سبيل بقاء الشيء على

حكم الإباحة الأصلية بل يكون في حكم ما قد نص على إباحته شرعا فلا يجوز الاعتراض عليه بخبر الواحد ولا بالقياس والدليل على أنه قد نسخ بذلك كثيرا من المحظورات على لسان غيره من الأنبياء قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما وشحومهما مباحة لنا وكذلك كثير من الحيوانات ذوات الأظفار قيل له ما ذكرت لا يخرج ما عدا المذكور في الآية من أن يكون في حكم المباح على الأصل وذلك لأن ما حرم على أولئك من ذلك وأبيح لنا لم يصر شريعة لنبينا ص - وبين النبي أن حكم ذلك التحريم إنما كان موقتا إلى هذا الوقت وإن مضي الوقت أعاده إلى ما كان عليه من حكم الإباحة فلا فرق بينه في هذا الوجه وبين ما لم يحظر قط وأيضا فلو سلمنا لك ما ادعيت كان ما ذكرنا من قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيما وصفنا سائغا لأن ذلك مخصوص بالاتفاق أعني قوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه لاتفاق الجميع من الفقهاء على تحريم أشياء غير مذكورة في الآية كالخمر ولحم القردة والنجاسات وغيرها فلما ثبت خصوصه بالاتفاق ساغ قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيه قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ومجاهد هو كل ما ليس بمفتوح الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط وقال بعض أهل العلم يدخل في جميع أنواع السباع والكلاب والسنانير وسائر ما يصطاد بظفره من الطير قال أبو بكر قد ثبت تحريم الله تعالى ذلك على لسان بعض الأنبياء فحكم ذلك التحريم عندنا ثابت بأن يكون شريعة لنبينا ص -

إلا أن يثبت نسخه ولم يثبت نسخ تحريم الكلاب والسباع ونحوها فوجب أن تكون
محرمة بتحريم الله بديا وكونه شريعة لنبينا ص - وقوله تعالى حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما يستدل به من أحنث الحالف أن لا يأكل شحما فأكل من شحم الطير لاستثناء الله ما على ظهورهما من جملة التحريم وهو قول أبي يوسف ومحمد وعند أبي حنيفة ما على الظهر إنما يسمى لحما سمينا في العادة ولا يتناوله اسم الشحم على الإطلاق وتسمية الله إياه شحما لا توجب دخوله في اليمين إذ لم يكن الاسم له متعارفا ألا ترى أن الله تعالى قد سمى السمك لحما والشمس سراجا ولا يدخل في اليمين والحوايا روى عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والسدي

أنها المباعر وقال غيرهم هي بنات اللبن ويقال إنها الأمعاء التي عليها الشحم وأما قوله تعالى أو ما اختلط بعظم فإنه روي عن السدى وابن جريج أنه شحم الجنب والإلية لأنهما على عظم وهذا يدل أيضا ما ذكرنا من أن دخول أو على النفي يقتضي نفي كل واحد مما دخل عليه على حياله لأن قوله تعالى إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم تحريم للجميع ونظيره قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا نهى عن طاعة كل واحد منهما وكذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لا أكلم فلانا أو فلانا أنه أيهما كلم حنث لأنه نفى كلام كل واحد منهما على حدة قوله تعالى سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا إلى قوله كذلك كذب الذين من قبلهم فيه أكذب للمشركين بقولهم لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا لأنه قال تعالى كذلك كذب الذين من قبلهم ومن كذب بالحق فهو كاذب في تكذيبه فأخبر تعالى عن كذب الكفار بقولهم لو شاء الله ما أشركنا ولو كان الله قد شاء الشرك لما كانوا كاذبين في قولهم لو شاء الله ما أشركنا وفيه بيان أن الله تعالى لا يشاء الشرك وقد أكد ذلك أيضا بقوله إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون يعني تكذبون فثبت أن الله تعالى غير شاء لشركهم وأنه قد شاء منهم الإيمان اختيارا ولو شاء الله الإيمان منهم قسرا لكان عليه قادرا ولكنهم كانوا لا يستحقون به الثواب والمدح وقد دلت العقول على مثل ما نص الله عليه في القرآن إن مريد الشرك والقبائح سفيه كما أن الآمر به سفيه وذلك لأن الإرادة للشرك استدعاء إليه كما أن الأمر به استدعاء إليه فكل ما شاء الله من العباد فقد دعاهم إليه ورغبهم فيه ولذلك كان طاعة كما أن كل ما أمر الله به فقد دعاهم إليه ويكون طاعة منهم إذا فعلوه وليس كذلك العلم بالشرك لأن العلم بالشيء لا يوجب أن يكون العالم به مستدعيا إليه ولا أن يكون المعلوم من فعل غيره طاعة إذا لم يرده فإن قيل إنما أنكر الله المشركين باحتجاجهم لشركهم بأن الله تعالى قد شاءه وليس ذلك بحجة ولو كان مراده تكذيبهم في قولهم لقال كذلك كذب الذين من قبلهم بالتخفيف قيل له لو كان الله قد شاء الكفر منهم لكان احتجاجهم صحيحا ولكان فعلهم طاعة لله فلما أبطل الله احتجاجهم بذلك علم أنه إنما كان كذلك لأن الله تعالى لم يشأ وأيضا فقد أكذبهم الله تعالى في هذا القول من وجهين أحدهما أنه أخبر بتكذيبهم بالحق والمكذب بالحق لا يكون إلا كاذبا والثاني قوله وإن

أنتم إلا تخرصون يعني تكذبون قوله تعالى قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا الآية يعني أبطل لعجزهم عن إقامة الدلالة إلا أن الله حرم هذا إذ لم يمكنهم إثبات ما ادعوه من جهة عقل ولا سمع وما لم يثبت من أحد هذين الوجهين وليس بمحسوس مشاهد فطريق العلم به منسد والحكم ببطلانه واجب فإن قيل فلم دعوا للشهادة حتى إذا شهدوا لم تقبل منهم قيل لأنهم لم يشهدوا على هذا الوجه الذي يرجع من قولهم فيه إلى ثقة وقيل إنهم كلفوا شهداء من غيرهم ممن تثبت بشهادته صحة ونهي عن اتباع الأهواء المضلة واعتقاد المذاهب بالهوى يكون من وجوه أحدها هوى من سيق إليه وقد يكون لشبهة حلت في نفسه مع زواجر عقله عنها ومنها هوى ترك الاستقصاء للمشقة ومنها هوى ما جرت به عادته لألفة له وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم من إملاق كانت العرب تدفن أولادها أحياء البنات منهن خوف الإملاق وهو الإفلاس ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم -

أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك وأن تقتل ولدك خشية أن تأكل معك
وأن تزني بحليلة جارك وهي المؤدة التب ذكرها الله تعالى في قوله وإذا المؤدة سئلت بأي ذنب قتلت فناهم الله عن ذلك مع ذكر السبب الذي كانوا من أجله يقتلونهم وأخبر أنه رازقهم ورازق أولادهم قوله تعالى ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال ابن عباس ما ظهر منها نكاح حلائل الأبناء والجمع بين الأختين ونحو ذلك وما بطن الزنا وقوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق قال أبو بكر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ولما أراد أبو بكر قتال ما نعي الزكاة قالوا له إن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فقال أبو بكر هذا من حقها لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لقاتلتهم عليه وقال النبي ص
- لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس وهذا عندنا ممن يستحق القتل ويتقرر عليه حكمه وقد يجب قتل غير هؤلاء على وجه الدفع مثل قتل الخوارج ومن قصد قتل رجل وأخذ ماله فيجوز قتله على جهة المنع من ذلك لأنه لو كف عن ذلك لم يستحق القتل قوله

تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إنما خص اليتيم بالذكر فيما أمرنا به من ذلك لعجزه عن الانتصار لنفسه ومنع غيره عن ماله ولما كانت الأطماع تقوى في أخذ ماله أكد النهي عن أخذ ماله بتخصيصه بالذكر وقوله تعالى إلا بالتي هي أحسن يدل على أن من له ولاية على اليتيم يجوز له دفع مال اليتيم مضاربة وأن يعمل به هو مضاربة فيستحق ربحه إذا رأى ذلك أحسن وأن يبضع ويستأجر من يتصرف ويتجر في ماله وأن يشتري ماله من نفسه إذا كان خيرا لليتيم وهو أن يكون ما يعطى اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه منه وأجاز أبو حنيفة شراه مال اليتيم لنفسه إذا كان خيرا لليتيم بهذه الآية وقال تعالى حتى يبلغ أشده ولم يشرط البلوغ فدل على أنه بعد البلوغ يجوز أن يحفظ عليه ماله إذا لم يكن مأنوس الرشد ولا يدفعه إليه ويدل على أنه إذا بلغ أشده لا يجوز له أن يفوت ماله سواء آنس منه الرشد أو لم يؤنس رشده بعد أن يكون عاقلا لأنه جعل بلوغ الأشد نهاية لإباحة قرب ماله ويدل على أن الوصي لا يجوز له أن يأكل من مال اليتيم فقيرا كان أو غنيا ولا يستقرض منه لأن ذلك ليس بأحسن ولا خيرا لليتيم وجعل أبو حنيفة بلوغ الأشد خمسا وعشرين سنة فإذا بلغها دفع إليه ماله مالم يكن معتوها وذلك لأن طريق ذلك اجتهاد الرأي وغالب الظن فكان عنده أن هذا السن متى بلغها كان بالغا أشده وقد اختلف في بلوغ الأشد فقال عامر بن ربيعة وزيد بن أسلم هو بلوغ الحلم وقال السدي هو ثلاثون سنة وقيل ثماني عشرة سنة وجعله أبو حنيفة خمسا وعشرين سنة على النحو الذي ذكرنا وقيل إن الأشد واحدها شد وهو قوة الشباب عند ارتفاعه وأصله من شد النهار وهو قوة الضياء عند ارتفاعه قال الشاعر ... تطيف به شد النهار ظعينة ... طويلة انقاء اليدين سحوق ...
قوله تعالى وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها فيه أمر بإيفاء الحقوق على الكمال ولما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل علمنا أنه لم يكلفنا ذلك وإنما كلفنا الاجتهاد في التحري دون حقيقة الكيل والوزن وهذا أصل في جواز الاجتهاد في الأحكام وأن كل مجتهد مصيب وإن كانت الحقيقة المطلوبة بالاجتهاد واحدة لأنا قد علمنا أن للمقدار المطلوب من الكيل حقيقة معلومة عند الله تعالى قد أمرنا بتحريها والاجتهاد فيها ولم يكلفنا إصابتها إذا لم يجعل لنا دليلا عليها فكان كل

ما أدانا إليه اجتهادنا من ذلك فهو الحكم الذي تعبدنا به وقد يجوز أن يكون ذلك قاصرا عن تلك الحقيقة أو زائدا عليها ولكنه لما لم يجعل لنا سبيلا إليها أسقط حكمها عنا ويدلك على أن تلك الحقيقة المطلوبة غير مدركة يقينا أنه قد يكال أو يوزن ثم يعاد عليه الكيل أو الوزن فيزيد أو ينقص لا سيما فيما كثر مقداره ولذلك قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا وسعها في هذا الموضوع يعني أنه ليس عليه أكثر مما يتحراه باجتهاده وقد استدل عيسى بن أبان بأمر الكيل والوزن على حكم المجتهدين في الأحكام وشبهه به قوله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى قد انتظم ذلك تحري الصدق وعدل القول في الشهادات والأخبار والحكم بين الناس والتسوية بين القريب والبعيد فيه وهو نظير قوله تعالى كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا وقد بينا حكم ذلك فيما تقدم في موضعه وقد انتظم قوله وإذا قلتم فاعدلوا مصالح الدنيا والآخرة لأن من تحرى صدق القول في العدل فهو بتحري العدل في الفعل أحرى ومن كان بهذه الصفة فقد حاز خير الدنيا والآخرة نسئل الله التوفيق لذلك قوله تعالى وبعهد الله أوفوا عهد يشتمل على أوامره وزواجره كقوله تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم وقد يتناول المنذور وما يوجبه العبد على نفسه من القرب ألا ترى إلى قوله وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها قوله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية فإن المراد بالصراط الشريعة التي تعبد الله بها عباده والصراط هو الطريق وإنما قيل للشرع الطريق لأنه يؤدي إلى الثواب في الجنة فهو طريق إليها وإلى النعيم وأما سبيل الشيطان فطريق إلى النار أعاذنا الله منها وإنما جاز الأمر باتباع الشرع بما يشتمل عليه من الوجوب والنفل والمباح كما جاز الأمر باتباعه مع ما فيه من التحليل والتحريم وذلك اتباعه إنما هو اعتقاد صحته على ترتيبه من قبح المحظور ووجوب الفرض والرغبة في النفل واستباحة المباح والعمل بكل شيء من ذلك على حسب مقتضى الشرع له من إيجاب أو نفل أو إباحة قوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن قيل في قوله ثم إن معناه ثم قل آتينا موسى الكتاب تماما لأنه عطف على قوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم وقيل معناه وآتينا موسى الكتاب كقوله ثم الله شهيد

ومعناه والله شهيد وكقوله ثم كان من الذين آمنوا ومعناه وكان من الذين آمنوا ويحتمل أن يكون صلة الكلام ويكون معناه ثم بعد ما ذكرت لكم أخبرتكم أنا آتينا موسى الكتاب ونحوه من الكلام قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا هو أمر باتباع الكتاب على حسب ما تضمنه من فرض أو نفل أو إباحة واعتقاد كل منه على مقتضاه والبركة ثبوت الخير ونموه وتبارك الله صفة ثبات لا أول له ولا آخر هذا تعظيم لا يستحقه إلا الله تعالى وحده لا شريك له قوله تعالى أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن جريج أراد بهما اليهود والنصارى وفي ذلك دليل على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى وأن المجوس ليسوا أهل كتاب لأنهم لو كانوا أهل كتاب لكانوا ثلاث طوائف وقد أخبر الله تعالى أنهم طائفتان فإن قيل إنما حكى الله ذلك عن المشركين قيل له هذا احتجاج عليهم بأنه أنزل الكتاب عليكم لئلا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن وأبطل أن يحتجوا بأن الكتاب إنما أنزل على طائفتين من قبلنا ولم ينزل علينا قوله تعالى هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك قيل في قوله تعالى أو يأتي ربك أو يأتي أمر ربك بالعذاب ذكر ذلك عن الحسن وحذف كما حذف في قوله إن الذين يؤذون الله ومعناه أولياء الله وقيل أو يأتي ربك بجلائل آياته وقيل تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم أو يأتي ربك أمر ربك يوم القيامة أو يأتي بعض آيات ربك طلوع الشمس من مغربها وروي ذلك عن مجاهد وقتادة والسدي قوله تعالى إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا قال مجاهد هم اليهود لأنهم كانوا يمالئون عبدة الأوثان على المسلمين وقال قتادة اليهود والنصارى لأن بعض النصارى يكفر بعضا وكذلك اليهود وقل أبو هريرة أهل الضلال من هذه الأمة فهو تحذير من تفرق الكلمة ودعاء إلى الاجتماع والألفة على الدين وقال الحسن هم جميع المشركين لأنهم كلهم بهذه الصفة وأما دينهم فقد قيل الذي أمرهم الله به وجعله دينا لهم وقيل الدين الذي هم عليه لإكفار بعضهم لبعض لجهالة فيه وشيع الفرق الذين يمالىء بعضهم بعضا على أمر واحد مع اختلافهم في غيره وقيل أصله الظهور من قولهم شاع الخير إذا ظهر وقيل أصله الاتباع من قولك شايعه على المراد إذا اتبعه وقوله لست

منهم في شيء المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة وليس كذلك بعضهم على بعض لأنهم يجتمعون في معنى من الباطل وإن افترقوا في غيره فليس منهم في شيء لأنه بريء من جميعه قوله تعالى من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها الحسنة اسم للأعلى في الحسن لأن الهاء دخلت للمبالغة فتدخل الفروض والنوافل ولا يدخل المباح وإن كان حسنا لأن المباح لا يستحق عليه حمد ولا ثواب ولذلك رغب الله في الحسنة وكانت طاعة وكذلك الإحسان يستحق عليه الحمد فأما الحسن فإنه يدخل فيه المباح لأن كل مباح حسن ولكنه لا ثواب فيه فإذا دخلت عليه الهاء صارت اسما لا على الحسن وهي الطاعات قوله تعالى فله عشر أمثالها معناه في النعيم واللذة ولم يرد به أمثالها في عظم المنزلة وذلك لأن منزلة التعظيم لا يجوز أن يبلغها إلا بالطاعة وهذه المضاعفة إنما هي بفضل الله غير مستحق عليها كما قال تعالى ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وغير جائز أن تساوي منزلة التفضيل منزلة الثواب في التعظيم لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يبتدئهم بها في الجنة من غير عمل ولجاز أن يساوي بين المنعم بأعطم النعم وبين من لم ينعم قوله تعالى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا قوله دينا قيما يعني مستقيما ووصفه بأنه ملة إبراهيم والحنيف المخلص لعبادة الله تعالى يروى ذلك عن الحسن وقيل أصله الميل من قولهم رجل أحنف إذا كان مائل القدم بإقبال كل واحدة منهما على الأخرى خلقة لا من عارض فسمى المائل إلى الإسلام حنيفا لأنه لا رجوع معه وقيل أصله الاستقامة وإنما جاء أحنف للمائل القدم على التفاؤل كما قيل للديغ سليم وفي ذلك دليل على أن ما لم ينسخ من ملة إبراهيم عليه السلام فقد صارت شريعة لنبينا ص -

لإخباره بأن دينه ملة إبراهيم قوله تعالى
قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين قال سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي نسكي ديني في الحج والعمرة وقال الحسن نسكي ديني وقال غيرهم عبادتي إلا أن الأغلب عليه هو الذبح الذي يتقرب به إلى الله تعالى وقولهم فلان ناسك معناه عابد لله وقد روى عبدالله بن أبي رافع عن علي قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة قال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين إلى قوله من المسلمين وروى أبو سعيد

الخدري وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان إذا افتتح الصلاة ورفع يديه وقال سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك
وتعالى جدك ولا إله غيرك والأول كان يقوله عند قبل أن ينزل فسبح بحمد ربك حين تقوم فلما نزل ذلك وأمر بالتسبيح عند القيام إلى الصلاة ترك الأول وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يجمع بينهما لأنهما قد روي جميعا قوله تعالى إن صلاتي يجوز أن يريد بها صلاة العيد ونسكي الأضحية لأنها تسمى نسكا وكذلك كل ذبيحة على وجه القربة إلى الله تعالى فهي نسك قال الله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
النسك شاة وقال رسول الله ص
- في يوم النحر إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فسمى الصلاة والذبح جميعا نسكا ولما قرن النسك إلى الصلاة دل على أن المراد صلاة العيد والأضحية وهذا يدل على وجوب الأضحية لقوله تعالى وبذلك أمرت والأمر يقتضي الوجوب قوله تعالى وأنا أول المسلمين قال الحسن وقتادة أول المسلمين من هذه الأمة قوله عز و جل ولا تكسب كل نفس إلا عليها يحتج به في امتناع جواز تصرف أحد على غيره إلا ما قامت دلالته لإخبار الله تعالى أن أحكام أفعال كل نفس متعلقة بها دون غيرها فيحتج بعمومه في امتناع جواز تزويج البكر الكبيرة بغير إذنها وفي بطلان الحجر على امتناع جواز بيع أملاكه عليه وفي جواز تصرف البالغ العاقل على نفسه وإن كان سفيها لإخبار الله تعالى باكتساب كل نفس على نفسه وفي نظائر ذلك من المسائل وقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر اخرى إخبار بأن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره وأنه لا يعذب الأبناء بذنب الآباء وقد احتجت عائشة في رد قول من تأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه فقالت قال الله تعالى
ولاتزر وازرة وزر أخرى وإنما مر النبي صلى الله عليه وسلم -
بيهودي يبكى عليه فقال إنه ليعذب وهم يبكون عليه وقد بينا وجه ذلك في غير
هذا الموضع وقيل أن أصله الوزر والملجأ من قوله كلا لا وزر ولكنه جرى في الأغلب على الإثم وشبه بمن التجأ إلى غير ملجأ ويقال وزر يزر ووزر يوزر ووزر يوزر فهو موزور وكله بمعنى الإثم والوزير بمعنى الملجأ لأن الملك يلجأ إليه في الأمور والله أعلم بالصواب

سورة

الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى فلا يكن في صدرك حرج منه مخرجه مخرج النهي ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج وروي عن الحسن في الحرج أنه الضيق وذلك أصله ومعناه فلا يضيق صدرك خوفا أن لا تقوم بحقه فإنما عليك الإنذار به وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي الحرج هنا الشك يعني لا تشك في لزوم الإنذار به وقيل معناه لا يضيق صدرك بتكذيبهم إياك كقوله تعالى لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث اسفا قوله تعالى اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم هو أن يكون تصرفه مقصورا على مراد أمره وهو نظير الائتمام وهو أن يأتم به في اتباع مراده وفي فعله غير خارج عن تدبيره فإن قيل هل يكون فاعل المباح متبعا لأمر الله عز و جل قيل له قد يكون متبعا إذا قصد به اتباع أمره في اعتقاد إباحته وإن لم يكن وقوع الفعل مرادا منه وأما فاعل الواجب فإنه قد يكون الاتباع في وجهين أحدهما اعتقاد وجوبه والثاني إيقاع فعله على الوجه المأمور به فلما ضارع المباح الواجب في الاعتقاد إذ كان على كل واحد منهما وجوب الاعتقاد بحكم الشيء على ترتيبه ونظامه في إباحة أو إيجاب جاز أن يشتمل قوله اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم على المباح الواجب وقوله اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم دليل على وجوب اتباع القرآن في كل حال وأنه غير جائز الاعتراض على حكمه بأخبار الآحاد لأن الأمر باتباعه قد ثبت بنص التنزيل وقبول خبر الواحد غير ثابت بنص التنزيل فغير جائز تركه لأن لزوم اتباع القرآن قد ثبت من طريق يوجب العلم وخبر الواحد يوجب العمل فلا يجوز تركه ولا الاعتراض به عليه وهذا يدل على صحة قول أصحابنا في أن قول من خالف القرآن في أخبار الآحاد غير مقبول وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ما جاءكم مني فاعرضوه على كتاب الله فما وافق كتاب الله فهو عني وما خالف كتاب الله فليس عني فهذا عندنا فيما كان وروده من طريق الآحاد فأما ما ثبت من طريق التواتر فجائز تخصيص القرآن به وكذلك نسخه قوله ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فما تيقنا أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قاله فإنه في إيجاب الحكم بمنزلة القرآن فجاز تخصيص بعضه ببعض وكذلك نسخه
قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا

لآدم روي عن الحسن خلقناكم ثم صورناكم يعني به آدم لأنه قال ثم قلنا للملائكة وإنما قال ذلك بعد خلق آدم وتصويره وذلك كقوله تعالى وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور أي ميثاق آبائكم ورفعنا فوقهم الطور نحو قوله تعالى فلم تقتلون أنبياء الله من قبل بذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم - لم يقتلوا الأنبياء وقيل ثم راجع إلى صلة المخاطبة كأنه قال ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة وحكى عن الأخفش ثم ههنا بمعنى الواو وذكر الزجاج أن ذلك خطأ عند النحويين قال أبو بكر ونظيره قوله تعالى ثم الله شهيد على ما تفعلون ومعناه والله شهيد قوله تعالى ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب بنفس وروده غير محتاج إلى قرينة في إيجاب لأنه علق الذم بتركه الأمر المطلق وقيل في قوله تعالى أن لا تسجد أن لا ههنا صلة مؤكدة وقيل إن معناه ما دعاك إلى أن لا تسجد وما أحوجك وقيل في السجود لآدم وجهان أحدهما التكرمة لأن الله قد امتن به على عباده وذكره بالنعمة فيه والثاني أنه كان قبلة لهم كالكعبة قوله تعالى فبما أغويتني قيل فيه خيبتني كقول الشاعر ... ومن يغو لا يعدم من الغي لائما ...
يعني من يحب وحكى لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال يقال غوى الرجل يغوى غيا إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه ومنه قوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى أي فسد عليه عيشه في الجنة قال ويقال غوى الفصيل إذا لم يرو من لبن أمه وقيل في أغويتني أي حكمت بغوايتي كقولك أضللتني أي حكمت بضلالتي وقيل أغويتني أي أهلكتني فهذه الوجوه الثلاث محتملة في إبليس وقوله تعالى وعصى آدم ربه فغوى ويحتمل فساد أمره في الجنة وهو يرجع إلى معنى الخيبة ولا يحتمل هلاك ولا الحكم بالغواية التي هي ضلال لأن أنبياء الله لا يجوز ذلك عليهم قوله تعالى ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم روي عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة والحكم والسدي من بين أيديهم ومن خلفهم من قبل دنياهم وآخرتهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم وقال مجاهد من حيث يبصرون ومن حيث لا يبصرون وقيل من كل جهة يمكن الاحتيال عليهم ولم يقل من فوقهم قال ابن عباس لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم ولم يقل من تحت أرجلهم لأن الإتيان منه ممتنع إذا أريد به

الحقيقة قوله تعالى ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين قرن قربهما الشجرة إلا أنه معلوم شرط الذكر فيه وتعمد الأكل مع العلم به لأنه لا يؤاخذ بالنسيان والخطأ فيما لم يقم عليه دليل قاطع ولم يكن أكلهما للشجرة معصية كبيرة بل كانت صغيرة من وجهين أحدهما أنهما نسيا الوعيد وظنا أنه نهي استحباب لا إيجاب ولهذا قال فنسي ولم نجد له عزما والثاني أنه أشير لهما إلى شجرة بعينها وظنا المراد العين وكان المراد الجنس كقوله ص -

حين أخذ ذهبا وحريرا فقال هذان مهلكا أمتي وإنما أراد الجنس لا العين دون
غيرها قوله تعالى يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس تقوى هذا خطاب عام لسائر المكلفين من الآدميين كما كان قوله تعالى يا أيها الناس اتقوا ربكم خطابا لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم -
ومن جاء بعده من المكلفين من أهل سائر الأعصار إلا أنا لمن كان غير موجود
على شرط الوجود وبلوغ كمال العقل وقوله تعالى قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وقوله تعالى وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة يدل على فرض ستر العورة لإخباره أنه أنزل علينا لباسا لنواري سوآتنا به وإنما قال أنزلنا لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوان وأصوافها وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء وقيل إنه وصفه بالإنزال لأن البركات تنسب إلى أنها تأتي من السماء كما قال تعالى وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس لا وقوله ريشا قيل إنه الأثاث من متاع البيت نحو الفرش والدثار وقيل الريش ما فيه الجمال ومنه ريش الطائر وقوله ولباس التقوى قيل فيه إنه العمل الصالح عن ابن عباس وسماه لباسا لأنه يقي العقاب كما يقي اللباس من الثياب الحر والبرد وقال قتادة والسدي هو الإيمان وقال الحسن هو الحياء الذي يكسبهم التقوى وقال بعض أهل العلم هو لباس الصوف والخشن من التي تلبس للتواضع والنسك في العبادة وقد اتفقت الأمة على معنى ما دلت عليه الآية من لزوم فرض ستر العورة ووردت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم - منها حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله عورتنا ما نأتي منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك قلت يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا قال فإن الله احق أن يستحيا منه وروى أبو سعيد الخدري عنه عليه السلام أنه قال لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة وقد روي

عنه ص -

أنه قال ملعون من نظر إلى سوأة أخيه قال الله تعالى
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن يعني عن العورات إذ لا خلاف في جواز النظر إلى غير العورة قال الله تعالى يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة قيل في الفتنة أنها المحنة بالدعاء إلى المعصية من جهة الشهوة أو الشبهة والخطاب توجه إلى الإنسان بالنهي عن فتنة الشيطان وإنما معناه التحذير من فتنة الشيطان وإلزام التحرز منه وقوله تعالى كما أخرج أبويكم من الجنة فأضاف إخراجهما من الجنة إلى الشيطان فإنه أغواهما حتى فعلا ما استحقا به الإخراج منها كقوله تعالى حاكيا عن فرعون يذبح أبناءهم وإنما أمر به ولم يتوله بنفسه وعلى هذا المعنى أضاف نزع لباسهما إليه بقوله ينزع عنهما لباسهما وهذا يحتج به فيمن حلف لا يخيط قميصه أو لا يضرب عبده وهو ممن لا يتولى الضرب بنفسه أنه إن أمر به غيره ففعله حنث وكذلك إذا حلف لا يبني داره فأمر غيره فبناها وقيل في اللباس الذي كان عليهما أنه كان ثياب من ثياب الجنة وقال ابن عباس كان لباسهما الظفر وقال وهب بن منبه كان لباسهما نورا قوله تعالى وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد روي عن مجاهد والسدي توجهوا إلى قبلة كل مسجد في الصلاة على استقامة وقال الربيع بن أنس توجهوا بالإخلاص لله تعالى لا لوثن ولا غيره قال أبو بكر قد حوى ذلك معنيين أحدهما التوجه إلى القبلة المأمور بها على استقامة غير عادل عنها والثاني فعل الصلاة في المسجد وذلك يدل على وجوب فعل المكتوبات في جماعة لأن المساجد مبنية للجماعة وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أخبار في وعيد تارك الصلاة في جماعة وأخبار أخر في الترغيب فيها فمما روي
ما يقتضي النهي عن تركها قوله ص - من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له وقوله لابن أم مكتوم حين قال له إن منزلي شاسع فقال هل تسمع النداء فقال نعم فقال لا أجد لك عذرا وقوله لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم آمر بحطب فيحرق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم في أخبار نحوها ومما روي من الترغيب ان صلاة الجماعة تفضل عن صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة وأن الملائكة ليصلون على الذين يصلون في الصف المقدم وقوله بشر المشائين في ظلام الليل إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول هو عندي فرض على الكفاية كغسل الموتى ودفنهم والصلاة عليهم متى

قام بها بعضهم سقط عن الباقين قوله تعالى يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد قال أبو بكر هذه الآية تدل على فرض ستر العورة في الصلاة وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد هي فرض في الصلاة إن تركه مع الإمكان فسدت صلاته وهو قول الشافعي وقال مالك والليث الصلاة مجزية مع كشف العورة ويوجبان الإعادة في الوقت والإعادة في الوقت عندهما استحباب ودلالة هذه الآية على فرض ستر العورة في الصلاة من وجوه أحدها أنه لما قال خذوا زينتكم عند كل مسجد فعلق الأمر بالمسجد علمنا أن المراد الستر للصلاة لولا ذلك لم يكن لذكر المسجد فائدة فصار تقديرها خذوا زينتكم في الصلاة ولو كان المراد سترها عن الناس لما خص المسجد بالذكر إذ كان الناس في الأسواق أكثر منهم في المساجد فأفاد بذكر المسجد وجوبه في الصلاة إذ كانت المساجد مخصوصة بالصلاة وأيضا لما أوجبه في المسجد وجب بظاهر الآية فرض الستر في الصلاة إذا فعلها في المسجد وإذا وجب في الصلاة المفعولة في المسجد وجب في غيرها من الصلوات حيث فعلت لأن أحدا لم يفرق بينهما وأيضا فإن المسجد يجوز أن يكون عبارة عن السجود نفسه كما قال الله تعالى وأن المساجد لله والمراد السجود وإذا كان كذلك اقتضت الآية لزوم الستر عند السجود وإذا لزم ذلك في السجود لزم في سائر أفعال الصلاة إذا لم يفرق أحد بينهما روي عن ابن عباس وإبراهيم ومجاهد وطاوس والزهري أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة فأنزل الله تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد قال أبو بكر وقيل إنهم إنما كانوا يطوفون بالبيت عراة لأن الثياب قد دنستها المعاصي في زعمهم فيتجردون منها وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك تفاؤلا بالتعري من الذنوب وقال بعض من يحتج لمالك بن أنس أن هؤلاء السلف لما ذكروا سبب نزول الآية وهو طواف العريان وجب أن يكون حكمها مقصورا عليه وليس هذا عندنا كذلك لأن نزول الآية عندنا على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه لأن الحكم عندنا لعموم اللفظ لا للسبب وعلى أنه لو كان كما ذكر لا يمنع ذلك وجوبه في الصلاة لأنه إذا وجب الستر في الطواف فهو في الصلاة أوجب إذ لم يفرق أحد بينهما فإن قال قائل فينبغي أن لا يمنع ترك الستر صحة الصلاة كما لم يمنع صحة الطواف الذي فيه نزلت الآية وإن وقع ناقصا قيل له ظاهره يقتضي بطلان

الجميع عند عدم الستر ولكن الدلالة قد قامت على جواز الطواف مع النهي كما لا يجوز الإحرام مع الستر وإن كان منهيا عنه ولم تقم الدلالة على جواز الصلاة عريانا ولأن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الطهارة واستقبال القبلة وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده لأنه لو ترك الإحرام في الوقت ثم أحرم صح إحرامه وكذلك لو أحرم وهو مجامع لامرأته وقع إحرامه فصار الإحرام آكد في بقائه من الصلاة والطواف من موجبات الإحرام فوجب أن لا يفسده ترك الستر ولا يمنع وقوعه ويدل على أن حكم الآية غير مقصور على الطواف وأن المراد بها الصلاة قوله تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد والطواف مخصوص بمسجد واحد ولا يفعل في غيره فدل على أن مراده الصلاة التي تصح في كل مسجد ويدل عليه من جهة السنة حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا يصل أحدكم في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء وروى محمد بن سيرين
عن صفية بنت الحارث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار فنفى قبولها لمن بلغت الحيض فصلتها مكشوفة الرأس كما نفى قبولها مع عدم الطهارة بقوله ص - لا يقبل الله صلاة بغير طهور فثبت بذلك أن ستر العورة من فروضها وأيضا قد اتفق الجميع على أنه مأمور بستر العورة في الصلاة ولذلك يأمره مخالفنا بإعادتها في الوقت فإذا كان مأمورا بالستر ومنهيا عن تركه وجب أن يكون من فروض الصلاة من وجهين أحدهما أن هذا الحكم مأخوذ عن الآية وأن الآية قد أريد بها الستر في الصلاة والثاني أن النهي يقتضي فساد الفعل إلا أن تقوم الدلالة على الجواز فإن قال قائل لو كان الستر من فروض الصلاة لما جازت الصلاة مع عدمه عند الضرورة إلا ببدل يقوم مقامه مثل الطهارة فلما جازت صلاة العريان إذا لم يجد ثوبا من غير بدل عن الستر دل على أنه ليس من فرضه قيل له هذا سؤال ساقط لاتفاق الجميع على جواز صلاة الأمي والأخرس مع عدم القراءة من غير بدل عنها ولم يخرجها ذلك من أن يكون فرضا وزعم بعض من يحتج لمالك أنه لو كان الثوب من عمل الصلاة ومن فرضها لوجب على الإنسان أن ينوي بلبس الثوب أنه للصلاة كما ينوي بالإفتتاح أنه لتلك الصلاة وهذا كلام واه جدا فاسد العبارة مع ضعف المعنى وذلك لأن الثوب لا يكون من عمل الصلاة ولا من فروضها ولكن ستر العورة من شروطها التي

لا تصح إلا به كالطهارة كما أن استقبال القبلة من شروطها ولا يحتاج الاستقبال إلى نية والطهارة من شروطها ولا تحتاج عندنا إلى نية والقيام في حال الإفتتاح من فروضها لمن قدر عليه ولا يحتاج إلى نية والقيام والقراءة والركوع والسجود بعد الإفتتاح من فروضها ولا يحتاج لشيء من ذلك إلى نية فإن قيل لأن نية الصلاة قد أغنت عن تجديد النية لهذه الأفعال قيل له وكذلك نية الصلاة قد أغنت عن تجديد نية للستر وقوله تعالى خذوا زينتكم عند كل مسجد يدل على أنه مندوب في حضور المسجد إلى أخذ ثوب نظيف مما يتزين به وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال ندب إلى ذلك في الجمع والأعياد كما أمر بالاغتسال للعيدين
والجمعة وأن يمس من طيب أهله وقوله تعالى وكلوا واشربوا ولا تسرفوا الآية ظاهره يوجب الأكل والشرب من غير إسراف وقد أريد به الإباحة في بعض الأحوال والإيجاب في بعضها فالحال التي يجب فيها الأكل والشرب هي الحال التي يخاف أن يلحقه ضرر بكون ترك الأكل والشرب يتلف نفسه أوبعض أعضائه أو يضعفه عن أداء الواجبات فواجب عليه في هذه الحال أن يأكل ما يزول معه خوف الضرر والحال التي هما مباحان فيها هي الحال التي لا يخاف ضررا فيها بتركها وظاهره يقتضي جواز أكل سائر المأكولات وشرب سائر الأشربة مما لا يحظره دليل بعد أن لا يكون مسرفا فيما يأتيه من ذلك لأنه أطلق الأكل والشرب على شريطة أن لا يكون مسرفا فيهما والإسراف هو مجاوزة حد الاستواء فتارة يكون بمجاوزة الحلال إلى الحرام وتارة يكون بمجاوزة الحد في الإنفاق فيكون ممن قال الله تعالى إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين والإسراف وضده من الإقتار مذمومان والإستواء هو التوسط ولذلك قيل دين الله بين المقصور والغالي قال الله تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما وقال لنبيه ص - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا وقد يكون الإسراف في الأكل أن يأكل فوق الشبع حتى يؤديه إلى الضرر فذلك محرم أيضا قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق روي عن الحسن وقتادة إن العرب كانت تحرم السوائب والبحائر فأنزل الله تعالى ذلك وقال السدي وكانوا يحرمون في الإحرام أكل السمن والأدهان فأنزل الله تعالى هذه الاية ردا لقولهم وفيه تأكيد لما قدم إباحته في قوله خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية

والطيبات من الرزق قيل فيه وجهان أحدهما ما استطابه الإنسان واستلذه من المأكول والمشروب وهو يقتضي إباحة سائر المأكول والمشروب إلا ما قامت دلالة تحريمه والثاني الحلال من الرزق قوله تعالى قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة يعني أن الله تعالى أباحها وهي خالصة يوم القيامة لهم من شوائب التنغيص والتكدير وقيل هي خالصة لهم دون المشركين وقوله تعالى قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق قال مجاهد الفواحش الزنا وهو الذي بطن والتعري في الطواف وهو الذي ظهر وقيل القبائح كلها فواحش أجمل ذكرها بديا ثم فصل وجوهها فذكر أن منها الإثم والبغي والإشراك بالله والبغي هو طلب الترأس على الناس بالقهر والإستطالة عليهم بغير حق وقوله والإثم مع وصفه الخمر والميسر بأن فيهما إثم وقوله تعالى يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير يقتضي تحريم الخمر والميسر أيضا قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية فيه الأمر بالإخفاء للدعاء قال الحسن في هذه الآية علمكم كيف تدعون ربكم وقال لعبد صالح رضي دعاءه إذ نادى ربه نداء خفيا وروى مبارك عن الحسن قال كانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع إلا همسا وروى أبو موسى الأشعري قال كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم -

فسمعهم يرفعون أصواتهم فقال يا أيها الناس إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا
وروى سعد بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي وروى بكر بن خنيس عن ضرار عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عمل البر كله نصف العبادة والدعاء نصف العبادة وروى سالم عن أبيه عن عمر
قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يديه في الدعاء لا يردهما حتى يمسح بهما وجهه قال أبو بكر في هذه الآية وما ذكرنا من الآثار دليل على أن إخفاء الدعاء أفضل من إظهاره لأن الخفية هي البر روي ذلك عن ابن عباس والحسن وفي ذلك دليل على أن إخفاء آمين بعد قراءة فاتحة الكتاب في الصلاة أفضل من إظهاره لأنه دعاء والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى قد أجيبت دعوتكما قال كان موسى يدعو وهارون يؤمن فسماهما الله داعيين وقال بعض أهل العلم إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه لا يشوبه رياء وأما التضرع فإنه قد قيل أنه الميل في الجهات يقال ضرع الرجل يضرع ضرعا إذا مال بأصبعيه يمينا وشمالا خوفا وذلا قال ومنه ضرع الشاة لأن اللبن يميل إليه

والمضارعة المشابهة لأنها تميل إلى شبه نحو المقاربة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه كان يدعو ويشير بالسبابة وقال ابن عباس لقد رؤي النيي ص
- عشية عرفة رافعا يديه يدعو حتى أنه ليرى ما تحت إبطيه وقال أنس رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
استسقى فمد يديه حتى رأيت بياض إبطيه وفيما روي عن النبي ص
- من رفع اليدين في الدعاء والإشارة بالسابة دليل على صحة تأويل من تأول التضرع على تحويل الإصبع يمينا وشمالا قوله تعالى وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة قال أبو بكر إنما قال تعالى فتم ميقات ربه أربعين ليلة لأنه لما قال ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر جاز أن يسبق إلى وهم بعض السامعين أنه كان عشرين ليلة ثم أتمها بعشر فصار ثلاثين ليلة فأزال هذا التوهم والتجوز وأخبر أنه أتم الثلاثين بعشر غيرها زيادة عليها قوله تعالى قال رب أرني أنظر إليك قيل إنه سأل الرؤية على جهة استخراج الجواب لقومه لما قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ويدل عليه قوله تعالى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا وقيل أنه سأله الرؤية التي هي علم الضرورة فبين الله تعالى له أن ذلك لا يكون في الدنيا فإن قيل فلم جاز أن يسئل الرؤية وهي غير جائزة على الله تعالى وهل يجوز على هذا أن يسئله مالا يجوز على الله تعالى من الظلم قيل له لأنه لا شبهة في فعله الظلم أنه صفة نقص وذم فلا يجوز سؤال مثله وكذلك ما فيه شبهة ولا يظهر حكمه إلا بالدلالة وهذا إن كان سأل الرؤية من غير تشبيه على ما روي عن الحسن والربيع بن أنس والسدي وإن كان إنما سأل الرؤية التي هي علم الضرورة أو استخراج الجواب لقومه فهذا السؤال ساقط وقيل إن توبة موسى إنما كانت من التقدم بالمسألة قبل الإذن فيها ويحتمل أن يكون ذكر التوبة على وجه التسبيح على ما جرت عادة المسلمين بمثله عند ظهور دلائل الآيات الداعية إلى التعظيم قوله تعالى فلما تجلى ربه للجبل فإن التجلي على وجهين ظهور بالرؤية أو الدلالة والرؤية مستحيلة في الله تعالى فهو ظهور آياته التي أحدثها لحاضري الجبل وقيل إنه أبرز من ملكوته للجبل ما يدكدك به لأن في حكمه تعالى أن الدنيا لا تقوم لما يبرز من الملكوت الذي في السماء كما روي أنه أبرز قدر الخنصر من العرش وقوله تعالى وأمر قومك يأخذوا بأحسنها قيل بأحسن ما كتب فيه وهو الفرائض والنوافل دون المباح الذي لا حمد فيه ولا ثواب وكذلك قوله فبشر عبادي

الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وقال بعض أهل العلم أحسنها الناسخ دون المنسوخ المنهي عنه وقد قيل إن هذا لا يجوز لأن فعل المنسوخ المنهي عنه قبيح فلا يقال الحسن أحسن من القبيح قوله تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض قيل معناه عن آياتي من العز والكرامة بالدلالة التي تكسب الرفعة في الدنيا والآخرة ويحتمل صرفهم عن الاعتراض على آياتي بالإبطال أو بالمنع من الإظهار للناس ولا يجوز أن يكون معناه سأصرف عن الإيمان بآياتي لأنه لا يجوز أن يأمر بالإيمان ثم يمنع منه إذ كان ذلك سفها وعبثا قوله تعالى أعجلتم أمر ربكم قد قيل إن العجلة التقدم بالشيء قبل وقته وسرعة عمله في أول أوقاته ولذلك صارت العجلة مذمومة وقد يكون تعجيل الشيء في وقته كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان يعجل الظهر في الشتاء ويبرد بها في الصيف وقوله تعالى وأخذ
برأس أخيه يجره إليه كان على وجه المعاتبة لا على وجه الإهانة ولأن مثل هذه الأفعال تختلف أحكامها بالعادة فلم تكن للعادة حينئذ فعله على وجه الإهانة وقيل إنه بمنزلة قبض الرجل منا عند غضبه على لحيته وعضه على شفته وإبهامه قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف قيل إن الأغلب في خلف بتسكين اللام أنه للذم وقال لبيد ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب ...
وقد جاء بالتسكين في المدح أيضا قال حسان ... لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لا ولنا في طاعة الله تابع ...
قوله تعالى يأخذون عرض هذا الأدنى قيل إن العرض ما يقل لبثه يقال عرض هذا الأمر فهو عارض خلاف اللازم قال تعالى هذا عارض ممطرنا يعني السحاب لقلة لبثه وروي في قوله عرض هذا الأدنى أن معناه الرشوة على الحكم قوله تعالى وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه قال مجاهد وقتادة والسدي أهل إصرار على الذنوب وقال الحسن معناه أنه لا يشبعهم شيء قوله تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم قيل إنه أخرج الذرية قرنا بعد قرن وأشهدهم على أنفسهم بما جعل في عقولهم وفطرهم من المنازعة لكي تقتضي الإقرار بالربوبية حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم ألست بربكم قالوا بلى وقيل إنه قال لهم ألست بربكم على لسان بعض

أنبيائه قوله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس هذه لام العاقبة كقوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ولم يكن غرضهم ذلك في التقاطه ولكنه لما كان ذلك عاقبة أمره أطلق ذلك فيهم ومنه قول الشاعر ... لدوا للموت وابنوا للخراب ...
وقال ايضا ... وأم سماك فلا تجزعي ... فللموت ما غذت الوالده ...
قوله تعالى أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء فيه حث على النظر والاستدلال والتفكر في خلق الله وصنعه وتدبيره فإنه يدل عليه وعلى حكمته ووجوده وعدله وأخبر أن في جميع ما خلقه دليلا عليه وداع إليه وحذرهم التفريط بترك النظر إلى وقت حلول الموت وفوات ما كان يمكنه الاستدلال به على معرفة الله تعالى وتوحيده وذلك قوله تعالى وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون قوله تعالى يسئلونك عن الساعة أيان مرسيها الآية قوله أيان مرسيها قال قتادة والسدي قيامها وأيان بمعنى متى وهو سؤال عن الزمان على وجهه الظرف للفعل فلم يخبرهم الله تعالى عن وقتها ليكون العباد على حذر منه فيكون ذلك أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية والمرسى مستقر الشيء الثقيل ومنه الجبال الراسيات يعني الثابتات ورسيت السفينة إذا ثبتت في مستقرها وأرساها غيرها أثبتها قال ابن عباس كان السائلون عن الساعة قوم من اليهود وقال الحسن وقتادة سألت عنها قريش قوله تعالى لا تأتيكم إلا بغتة قال قتادة غفلة وذلك أشدها وقوله تعالى ثقلت في السموات والأرض قال السدي وغيره ثقل علمها على أهل السموات والأرض فلم يطيقوه إدراكا له وقال الحسن عظم وصفها على أهل السموات والأرض من انتثار النجوم وتكوير السموات وتسيير الجبال وقال قتادة ثقلت على السموات فلا تطيقها لعظمها وقوله تعالى يسئلونك كأنك حفي عنها قال مجاهد والضحاك ومعمر كأنك عالم بها وعن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي يسئلونك عنها كأنك حفي بهم على التقديم والتأخير أي كأنك لطيف ببرك إياهم من قوله إنه كان بي حفيا ويقال إن أصل الحفا الإلحاح في الأمر يقال أحفى فلان فلانا إذا ألح في الطلب منه وأحفى

السؤال إذا ألح فيه ومنه أحفى الشارب إذا استأصله واستقصى في أخذه ومنه الحفا وهو أن يتسحج قدمه لإلحاح المشي بغير نعل والحفي اللطيف ببرك لإلحاحه بالبر لك وحفي عنها بمعنى عالم بها لإلحاحه بطلب علمها وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من يدعي العلم ببقاء مدة الدنيا ويستدل بما روي أن الدنيا سبعة آلاف سنة وأن الباقي منها من وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - خمس مائة سنة لأنه لو كان كذلك لكان وقت قيام الساعة معلوما وقد أخبر الله تعالى أن علمها عنده وأنه لا يجليها لوقتها إلا هو وأنها تأتي بغتة لم يتقدم لهم علم بها قبل كونها لأن ذلك معنى البغتة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار في بقاء مدة الدنيا وليس فيها تحديد للوقت مثل قوله بعثت والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى ونحو قوله فيما رواه شعبة وغيره عن علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

خطبة بعد العصر إلى مغيب الشمس قال إنه لم يبق من الدنيا فيما مضى إلا
كما بقي من هذه الشمس إلى أن تغيب وما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ونحوها من الأخبار ليس فيها تحديد وقت قيام الساعة وإنما فيه تقريب الوقت وقد روي في تأويل قوله تعالى فقد جاء أشراطها أن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - من أشراطها وقال الله تعالى قل إنما علمها عند ربي ثم قال قل إنما علمها عند الله فإنه قيل أنه أراد فالأول علم وقتها وبالآخر علم كنهها قوله تعالى هوالذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها قيل فيه جعل من كل نفس زوجها كأنه قال جعل من النفس زوجها ويريد به الجنس وأضمر ذلك وقيل من آدم وحواء قوله تعالى لئن آتيتنا صالحا قال الحسن غلاما سويا وقال ابن عباس بشرا سويا لأنهما يشفقان أن يكون بهيمة وقوله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما قال الحسن وقتادة الضمير في جعلا عائد إلى النفس وزوجه من ولد آدم لا إلى آدم وحواء وقال غيرهما راجع إلى الولد الصالح بمعنى أنه كان معا في بدنه وذلك صلاح في خلقه لا في دينه ورد الضمير إلى اثنين لأن حواء كانت تلد في بطن واحد ذكرا وأنثى قوله تعالى إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم عنى بالدعاء الأول تسميتهم الأصنام آلهة والدعاء الثاني طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم وذلك مأيوس منهم وقوله عباد أمثالكم قيل إنما سماها عبادا لأنها

مملوكة لله تعالى وقيل لأنهم توهموا أنها تضر وتنفع فأخبر أنه ليس يخرج بذلك عن حكم العباد المخلوقين وقال الحسن إن الذين يدعون هذه الأوثان مخلوقة أمثالكم قوله تعالى ألهم أرجل يمشون بها تقريع لهم على عبادتهم من هذه صفته إذ لا شبهة على أحد في الناس أن من اتبع من هذه صفته فو ألوم ممن عبد من له جارحة يمكن أن ينفع بها أو يضر وقيل إنه قدرهم أنهم أفضل منها لأن لهم جوارح يتصرفون بها والأصنام لا تصرف لها فكيف يعبدون من هم أفضل منه والعجب من أنفتهم من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم - مع ما أيده الله به من الآيات المعجزة والدلائل الباهرة لأنه بشر مثلهم ولم يأنفوا من عبادة حجر لا قدرة له ولا تصرف وهم أفضل منه في القدرة على النفع والضر والحياة والعلم قوله تعالى خذ العفو وأمر بالعرف روى هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن الزبير في قوله عز و جل خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين قال والله ما أنزل الله هذه الآية إلا في أخلاق الناس وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال أثقل شيء في ميزان المؤمن يوم القيامة الخلق الحسن وروى عطاء عن
ابن عمر أنه قال سئل رجل النبي صلى الله عليه وسلم - أي المؤمنين أفضل قال أحسنهم خلقا وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن عبدالله بن سعيد بن ابي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق
وروي عن الحسن ومجاهد قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم - بأن يقبل العفو من أخلاق الناس والعفو هو التسهيل والتيسير فالمعنى استعمال العفو وقبول ما سهل من أخلاق الناس وترك الاستقصاء عليهم في المعاملات وقبول العذر ونحوه وروى ابن عباس في قوله تعالى خذ العفو قال العفو من الأموال قبل أن ينزل فرض الزكاة وكذلك روي عن الضحاك والسدي وقيل إن أصل العفو الترك ومنه قوله تعالى فمن عفي له من أخيه شيء يعني ترك له والعفو عن الذنب ترك العقوبة عليه وقوله تعالى وأمر بالعرف قال قتادة وعروة العرف المعروف وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا سهل ابن بكار قال حدثنا عبدالسلام بن الخليل عن عبيد الهجيمي قال قال أبو جري جابر ابن سليم ركبت قعودي ثم انطلقت إلى مكة فطلبته فأنخت قعودي بباب المسجد فإذا هو

جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر فقلت السلام عليك يا رسول الله وقال وعليك السلام قلت إنا معشر أهل البادية قوم فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها قال أدن ثلاثا فدنوت فقال أعد علي فأعدت قال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سك بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى قال أبو جري فوالذي ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا والمعروف هو ما حسن في العقل فعله ولم يكن منكرا عند ذوي العقول الصحيحة قوله تعالى وأعرض عن الجاهلين أمر بترك مقابلة الجهالة والسفهاء على سفههم وصيانة النفس عنهم وهذا والله أعلم يشبه أن يكون قبل الأمر بالقتال لأن الفرض كان حينئذ على الرسول إبلاغهم وإقامة الحجة عليهم وهو مثل قوله فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا وأما بعد الأمر بالقتال فقد تقرر أمر المبطلين والمفسدين على وجوه معلومة من إنكار فعلهم تارة بالسيف وتارة بالسوط وتارة بالإهانة والحبس قوله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم قيل في نزغ الشيطان أنه الإغواء بالوسوسة وأكثر ما يكون عند الغضب وقيل إن أصله الإزعاج بالحركة إلى الشر ويقال هذه نزغة من الشيطان للخصلة الداعية إليه فلما علم الله تعالى نزغ الشيطان إيانا إلى الشر علمنا كيف الخلاص من كيده وشره بالفزع إليه والاستعاذة به من نزغ الشيطان وكيده وبين بالآية التي بعدها أنه متى لجأ العبد إلى الله واستعاذ من نزغ الشيطان حرسه منه وقوى بصيرته بقوله إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون قال ابن عباس الطيف هو النزغ وقال غيره الوسوسة وهما متقاربان وذلك يقتضي أنه متى استعاذ بالله من شر الشيطان أعاذه منه وازداد بصيرة في رد وسواسه والتباعد مما دعاه إليه ورآه إليه ورآه في أخس منزلة وأقبح صورة لما يعلم من سوء عاقبته إن وافقه وهون عنده دواعي شهوته قوله تعالى وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون قال الحسن وقتادة والسدي إخوان الشياطين في الضلال يمدهم الشيطان وقال مجاهد إخوان المشركين من الشيطان وسماهم إخوانا لاجتماعهم على الضلالة كالأخوة من النسب في التعاطف به وحنين بعضهم إلى

بعض لأجله كما سمى المؤمنين إخوانا بقوله تعالى إنما المؤمنون أخوة لتعاطفهم وتواصلهم بالدين فأخبر عن حال من استعاذ بالله من نزغ الشيطان ووساوسه في بصيرته ومعرفته بقبح ما يدعوه إليه وتباعد منه ومن دواعي شهواته برجوعه إلى الله وإلى ذكره وهذه الاستعاذة تجوز أن تكون بقوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وجائز أن تكون بالفكر في نعم الله تعالى عليه وفي أوامره ونواهيه وما يؤول به إليه الحال من دوام النعيم فيهون عنده دواعي هواه وحوادث شهواته ونزغات الشيطان بها ثم أخبر تعالى عن حال من أعرض عن ذكر الله والاستعاذة به فقال وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون فكلما تباعدوا عن الذكر مضوا مع وساوس الشيطان وغيه غير مقصرين عنه وهو نظير قوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا وقوله تعالى ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء وبالله التوفيق
باب

القراءة خلف الإمام
قال الله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون قال أبو بكر روي عن ابن عباس أنه قال إن نبي الله ص - قرأ في الصلاة وقرأ معه أصحابه فخلطوا عليه فنزل وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وروى ثابت بن عجلان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا قال المؤمن في سعة من الاستماع إليه إلا في صلاة مفروضة أو يوم جمعة أو فطر أو أضحى وروى المهاجر أبو مخلد عن أبي العالية قال كان نبي الله ص -
إذا صلى قرأ أصحابه أجمعون خلفه حتى نزلت وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا فسكت القوم وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروى الشعبي وعطاء قالا في الصلاة وروى إبراهيم بن أبي حرة عن مجاهد مثله وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم - سمع قراءة فتى من الأنصار وهو في الصلاة يقرأ فنزلت هذه الآية وروي عن سعيد بن المسيب أنه قرأ في الصلاة وروي عن مجاهد أنه في الصلاة والخطبة والخطبة لا معنى لها في هذا الموضع لأن موضع القرآن في الخطبة كغيره في وجوب الاستماع والإنصات وروي عن أبي هريرة أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية وهذا أيضا تأويل بعيد لا يلائم معنى الآية لأن الذي في الآية إنما هو أمر بالاستماع والإنصات لقراءة غيره لاستحالة أن يكون مأمورا بالاستماع

والإنصات لقراءة نفسه إلا أن يكون معنى الحديث إنهم كانوا يتكلمون خلف النبي صلى الله عليه وسلم - في الصلاة فنزلت الآية فإن كان كذلك فهو في معنى تأويل الآخرين له على ترك القراءة خلف الإمام فقد حصل من اتفاق الجميع أنه قد أريد ترك القراءة خلف الإمام والاستماع والإنصات لقراءته ولو لم يثبت عن السلف اتفاقهم على نزولها في وجوب ترك القراءة خلف الإمام لكانت الآية كافية في ظهور معناها وعموم لفظها ووضوح دلالتها على وجوب الاستماع والإنصات لقراءة الإمام وذلك لأن قوله تعالى وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها فإن قامت دلالة على جواز ترك الاستماع والإنصات في غيرها لم يبطل حكم دلالته في إيجابه ذلك فيها وكما دلت الآية على النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر به فهي دلالة على النهي فيما يخفى لأنه أوجب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن ولم يشترط فيه حال الجهر من الإخفاء فإذا جهر فعلينا الاستماع والإنصات وإذا أخفى فعلينا الإنصات بحكم اللفظ لعلمنا به قارئ للقرآن وقد اختلف الفقهاء في القراءة خلف الإمام فقال أصحابنا وابن سيرين وابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح لا يقرأ فيما جهر وقال الشافعي يقرأ فيما جهر وفيما أسر وقال مالك يقرأ فيما أسر ولا يقرأ فيما جهر وقال الشافعي يقرأ فيما جهر وفيما أسر في رواية المزني وفي البويطي أنه يقرأ فيما أسر بأم القرآن وسورة في الأوليين وأم القرآن في الآخرين وفيما جهر فيه الإمام لا يقرأ من خلفه إلا بأم القرآن قال البويطي وكذلك يقول الليث والأوزاعي قال أبو بكر قد بينا دلالة الآية على وجوب الإنصات عند قراءة الإمام في حال الجهر والإخفاء وقال أهل اللغة الإنصات الإمساك عن الكلام والسكوت لاستماع القراءة ولا يكون القارئ منصتا ولا ساكتا بحال وذلك لأن السكوت ضد الكلام وهو تسكين الآلة عن التحريك بالكلام الذي هو حروف مقطعة منظومة ضربا من النظام فهما يتضادان على المتكلم بآلة اللسان وتحريك الشفة ألا ترى أنه لا يقال ساكت متكلم كما لا يقال ساكن متحرك فمن سكت فهو غير متكلم ومن تكلم فهو غير ساكت فإن قال قائل قد يسمى مخفي القراءة ساكتا إذا لم تكن قراءته مسموعة كما روى عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كبر سكت بين التكبير والقراءة فقلت له بأبي أنت وأمي أرأيت

سكتاتك بين التكبير والقراءة أخبرني ما تقول قال أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب وذكر الحديث فسماه ساكتا وهو يدعوا خفيا فدل ذلك على أن السكوت إنما هو إخفاء القول وليس بتركه رأسا قيل له إنما سميناه ساكتا مجازا لأن من لا يسمعه يظنه ساكتا فلما أشبه الساكت في هذا الوجه سماه باسمه لقرب حاله من حال الساكت كما قال تعالى صم بكم عمي تشبيها بمن هذه حاله وكما قال في الأصنام وتراهم ينظرون إليك تشبيها لهم بمن ينظر وليس هو بناظر في الحقيقة فإن قيل لا يقرأه المأموم في حال قراءة الإمام وإنما يقرأ في حال سكوته وذلك لما روى الحسن عن سمرة بن جندب قال كان للنبي ص - سكتات في صلاته إحداهما قبل القراءة والأخرى بعدها فينبغي للإمام أن تكون له سكتة قبل القراءة ليقرأ الذين أدركوا أول الصلاة فاتحة الكتاب ثم ينصب لقراءة الإمام فإذا فرغ سكت سكتة أخرى ليقرأ من لم يدرك أول الصلاة فاتحة الكتاب قيل له أما حديث السكتتين فهو غير ثابت ولو ثبت لم يدل على ما ذكرت لأن السكتة الأولى إنما هي لذكر الاستفتاح والثانية إن ثبتت فلا دلالة فيها على أنها بمقدار ما يقرأ فاتحة الكتاب وإنما هي فصل بين القراءة وبين تكبير الركوع لئلا يظن من لا يعلم أن التكبير من القراءة إذا كان موصولا بها ولو كانت السكتتان كل واحدة منهما بمقدار قراءة فاتحة الكتاب لكان ذلك مستفيضا ونقله شائعا ظاهرا فلما لم ينقل ذلك من طريق الاستفاضة مع عموم الحاجة إليه إذ كانت مفعولة لأداء فرض القراءة من المأموم ثبت أنهما غير ثابتتين وأيضا فإن سبيل المأموم أن يتبع الإمام ولا يجوز أن يكون الإمام تابعا للمأموم فعلى قول هذا القائل يسكت الإمام بعد القراءة حتى يقرأ المأموم وهذا خلاف قوله ص - إنما جعل الإمام ليؤتم به ثم مع ذلك يكون الأمر على عكس ما أمر به ص - من قوله وإذا قرأ فأنصتوا فأمر المأموم بالإنصات للإمام وهو يأمر الإمام بالإنصات للمأموم ويجعله تابعا له وذلك خلف من القول ألا ترى أن الإمام لو قام في الثنتين من الظهر ساهيا لكان على المأموم اتباعه ولو قام المأموم ساهيا لم يكن على الإمام اتباعه ولو سها المأموم لم يسجد هو ولا إمامه للسهو ولو سها الإمام ولم يسه المأموم لكان على المأموم اتباعه فكيف يجوز أن يكون الإمام مأمورا بالقيام ساكتا ليقرأ المأموم وقد روي في النهي عن القراءة خلف الإمام آثار مستفيضة عن

النبي صلى الله عليه وسلم -

على أنحاء مختلفة فمنها حديث قتادة عن أبي غلاب يونس بن جبير عن حطان ابن
عبدالله عن ابن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إذا قرأ الإمام فأنصتوا وحديث ابن عجلان عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فأنصتوا فهذان الخبران يوجبان الإنصات عند قراءة الإمام وقوله إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا قرأ فأنصتوا إخبار منه أن من الائتمام بالإمام الإنصات لقراءته وهذا يدل على أنه غير جائز أن ينصت الإمام لقراءة المأموم لأنه لو كان مأمورا بالإنصات له فكان مأمورا بالائتمام به فيصير الإمام مأموما والمأموم إماما في حالة واحدة وهذا فاسد ومنها حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة رواه جماعة عن جابر وفي بعض الألفاظ إذا كان لك إمام فقراءته لك قراءة ومنها حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم - نهى عن القراءة خلف الإمام رواه الحجاج بن أرطاة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين وقد ذكرنا أسانيد هذه الأخبار في شرح مختصر الطحاوي ومنها حديث مالك عن أبي نعيم وهب ابن كيسان أنه سمع جابر بن عبدالله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج وفي بعضها لم يصل إلا وراء الإمام فأخبر أن ترك قراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام لا يوجب نقصانا في الصلاة ولو جاز أن يقرأ لكان تركها يوجب نقصا فيها كالمفرد وروى مالك عن ابن شهاب عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال هل قرأ معي أحد منكم آنفا قالوا نعم يا رسول الله قال إني أقول ما لي أنازع القرآن قال فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - هل قرأ معي أحد منكم دل ذلك على أن القارئ خلفه أخفى قراءته ولم يجهر بها لأنه لو كان جهر بها لما أقر أهل معي أحد منكم ثم قال إني أقول مالي أنازع القرآن وفي ذلك دليل على استواء حكم الصلاة التي يجهر فيها والتي تخافت لإخباره أن قراءة المأموم هي الموجبة لمنازعة القرآن وأما قوله فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله فلا حجة فيه لمن أجاز القراءة خلف الإمام فيما يسر فيه من قبل أن ذلك قول الراوي وتأويل منه وليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -
فرق بين حال الجهر والإخفاء ومنها حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق
عن أبي الأحوص عن عبدالله قال كنا نقرأ

خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال خلطتم علي القرآن وهذا أيضا يدل على التسوية بين حال الجهر والإخفاء إذ لم يذكر فرقا بينهما وروى الزهري عن عبدالرحمن بن هرمز عن ابن بحينة وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال هل قرأ معي أحد آنفا في الصلاة قالوا نعم قال فإني أقول مالي أنازع القرآن قال فانتهى الناس عن القراءة معه منذ قال ذلك فأخبر في هذا الحديث عن تركهم القراءة خلفه ولم يفرق بين الجهر والإخفاء فهذه الأخبار كلها يوجب النهي عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر فيه أو يسر ومما يدل على ذلك ما روي عن جلة الصحابة من النهي عن القراءة خلف الإمام وإظهار النكير على فاعله ولو كان ذلك شائعا لما خفي أمره على الصحابة لعموم الحاجة إليه ولكان من الشارع توقيف للجماعة عليه ولعرفوه كما عرفوا القراءة في الصلاة إذ كانت الحاجة إلى معرفة القراءة خلف الإمام كهي إلى القراءة في الصلاة للمنفرد أو الإمام فلما روي عن جلة الصحابة إنكار القراءة خلف الإمام ثبت أنها غير جائزة فممن نهى عن القراءة خلف الإمام علي وابن مسعود وسعد وجابر وابن عباس وأبو الدرداء وأبو سعيد وابن عمر وزيد بن ثابت وأنس روى عبدالرحمن بن أبي ليلى عن علي قال من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة وروى أبو إسحاق عن علقمة عن عبدالله عن زيد بن ثابت قال من قرأ خلف الإمام ملئ فوه ترابا وروى وكيع عن عمر بن محمد عن موسى بن سعد عن زيد ابن ثابت قال من قرأ خلف الإمام فلا صلاة له وقال أبو حمزة قلت لابن عباس أقرأ خلف الإمام قال لا وقال أبو سعيد يكفيك قراءة الإمام قال أنس القراءة خلف الإمام التسبيح يعني والله أعلم التسبيح في الركوع وذكر الاستفتاح وقال منصور عن إبراهيم ما سمعنا بالقراءة خلف الإمام حتى كان المختار الكذاب فاتهموه فقرؤا خلفه وقال سعد وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه جمرة واحتج موجبو القراءة خلف الإمام بحديث محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر فتعامى عليه القراءة فلما سلم قال أتقرؤن خلفي قالوا نعم يا رسول الله قال لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها وهذا حديث مضطرب السند مختلف في رفعه وذلك أنه رواه صدقة بن خالد عن زيد بن واقد عن مكحول عن نافع بن محمود بن ربيعة عن عبادة ونافع بن محمود هذا مجهول لا يعرف وقد

روى هذا الحديث ابن عون عن رجاء بن حيوة عن محمود بن الربيع موقوفا على عبادة لم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم -

وقد روى أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال صلى رسول الله ص
- ثم أقبل بوجهه فقال أتقرؤن والإمام يقرأ فسكتوا فسألهم ثلاثا فقالوا إنا لنفعل فقال لا تفعلوا فلم يذكر فيه استثناء فاتحة الكتاب وإنما أصل حديث عبادة ما رواه يونس عن ابن هشام قال أخبرني محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا صلاة لمن لم يقرأ القرآن فلما اضطرب حديث عبادة هذا الاضطراب في السند والرفع والمعارضة لم يجز الاعتراض به على ظاهر القرآن والآثار الصحاح النافية للقراءة خلف الأمام وأما قوله ص - لا صلاة إلا بأم القرآن والآثار الصحاح النافية للقراءة خلف الإمام وأما قوله ص - لا صلاة إلا بأم القرآن فليس فيه إيجاب قراءتها خلف الإمام لأن هذه صلاة بأم القرآن إذ كانت قراءة الإمام له قراءة وكذلك حديث العلاء ابن عبدالرحمن عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج غير تمام فقلت يا أبا هريرة إني أكون أحيانا خلف الإمام فغمز ذراعي وقال اقرأ يا فارسي في نفسك فلا حجة لهم فيه لأن أكثر ما فيه أنها خداج والخداج إنما هو النقصان ويدل على الجواز لوقوع اسم الصلاة عليها وأيضا فإنه في المنفرد ليجمع بينه وبين الآية والأخبار التي قدمناها في نفي القراءة خلف الإمام وأما قول أبي هريرة اقرأ بها في نفسك فإنه لم يعز ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وقوله لا تثبت به حجة ومما يدل على أن أخبارنا أولى اتفاق الجميع على استعمالها في النهي عن القراءة خلف الإمام في حال جهر الإمام وخبرهم مختلف فيه فكان ما اتفقوا على استعماله في حال أولى مما اختلف فيه فإن قيل نستعمل الأخبار كلها فيكون أخبار النهي فيما عدا فاتحة الكتاب وأخبار الأمر بالقراءة في فاتحة الكتاب قيل له هذا يبطل بما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - من قوله علمت أن بعضكم خالجنيها وقوله مالي أنازع القرآن والقرآن لا يختص بفاتحة الكتاب دون غيرها فعلمنا أنه أراد الجميع وقال في حديث وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج إلا وراء الإمام فنص على تركها خلف الإمام وذلك يبطل تأويلك وقولك باستعمال الأخبار بل أنت رادها غير مستعمل لها فإن قيل ما استدللت به من قول الصحابة لا دليل فيه لأنهم قد خالفهم نظراؤهم فمن ذلك ما رواه عبدالواحد بن زياد قال حدثنا سليمان الشيباني عن جواب

عن يزيد بن شريك قال قلت لعمر بن الخطاب أو سمعت رجلا قال له اقرأ خلف الإمام قال نعم قال قلت وإن قرأ قال وإن قرأ وروى شعبة عن أبي الفيض عن أبي شيبة قال معاذ إذا كنت تسمع قراءة الإمام فاقرأ بقل هو الله أحد ونحوها وإذا لم تسمع قراءته ففي نفسك وروى أشعث عن الحكم وحماد أن عليا كان يأمر بالقراءة خلف الإمام وروى ليث عن عطاء عن ابن عباس لا تدع أن تقرأ بفاتحة الكتاب جهر الإمام أو لم يجهر فإذا كان هؤلاء الصحابة قد روي عنهم القراءة خلف الإمام وروي عنهم تركها فكيف تثبت به حجة قيل له أما حديث عمر ومعاذ فمجهول السند لا تثبت بمثله حجة وحديث علي إنما هو عن الحكم وحماد ومخالفنا لا يقبل مثله لإرساله وحديث ابن عباس هذا رواه ليث بن أبي سليم وهو ضعيف وقد روى عنه أبو حمزة النهي ومع ذلك فلم يكن احتجاجنا من جهة قول الصحابة فحسب وإنما قلنا إن ما كان هذا سبيله من الفروض التي عمت الحاجة إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يخليهم من توقيف لهم على إيجابه فلما وجدناهم قائلين بالنهي علمنا أنه لم يكن منه توقيف للكافة عليه فثبت أنها غير واجبة ولا يصير قول من قال منهم بإيجابه قادحا فيما ذكرنا من قبل أن أكثر ما فيه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف عليه للكافة فذهب منهم ذاهبون إلى إيجاب قراءتها بتأويل أو قياس ومثل ذلك طريقه للكافة ونقل الأمة ويدل على نفي وجوبها اتفاق الجميع على أن مدرك الإمام في الركوع يتابعه مع ترك القراءة فلو كانت فرضا لما جاز تركها بحال كالطهارة وسائر أفعال الصلاة فإن قيل إنما جاز ذلك للضرورة وهو خوف فوات الركعة قيل له خوف فوات الركعة ليس بضرورة من وجوه أحدها أن فعل الصلاة خلف الإمام ليس بفرض لأنه لو صلاها منفردا أجزأه وإنما هو فضيلة فإذا خوف فواتها ليس بضرورة في تركها وأيضا فإنه لو كان محدثا لم يكن خوف فوات الجماعة مبيحا لترك الطهارة وكذلك لو أدركه في السجود لم تكن له ضرورة في جواز سقوط الركوع فلما جاز ترك القراءة في هذه الحال دون سائر الفروض دل على أنها ليست بفرض ويدل على أنها ليست بفرض اتفاق الجميع على أن من كان خلف الإمام في الصلاة التي يجهر فيها لا يقرأ السورة مع الفاتحة فلو كانت القراءة فرضا فكان من سننها قراءة السورة ويدل عليه أيضا اتفاق الجميع على أن المأموم لا يجهر بها في الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة ولو كانت فرضا لجهر بها كالإمام

وفي ذلك دليل على أنها ليست بفرض إذ كانت صلاة جماعة من الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة وكان ينبغي أن لا يختلف حكم الإمام والمأموم في الجهر والإخفاء لو كانت فرضا عليه كهي على الإمام قوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة قال أبو بكر الذكر على وجهين أحدهما الفكر في عظمة الله وجلاله ودلائل قدرته وآياته وهذا أفضل الأذكار إذ به يستحق الثواب على سائر الأذكار سواه وبه يتوصل إليه والذكر الآخر القول وقد يكون ذلك الذكر دعاء وقد يكون ثناء على الله تعالى ويكون قراءة للقرآن ويكون دعاء للناس إلى الله وجائز أن يكون المراد الذكرين جميعا من الفكر والقول فيكون قوله تعالى واذكر ربك في نفسك هو الفكر في دلائل الله وآياته وقوله تعالى ودون الجهر من القول فيه نص على الذكر باللسان وهذا الذكر يجوز أن يريد به قراءة القرآن وجائز أن يريد الدعاء فيكون الأفضل في الدعاء الإخفاء على نحو قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وإن أراد به قراءة القرآن كان في معنى قوله ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا وقيل إنما كان إخفاء الدعاء أفضل لأنه أبعد من الرياء وأقرب من الإخلاص وأجدر بالاستجابة إذ كانت هذه صفته وقيل إن ذلك خطاب للمستمع للقرآن لأنه معطوف على قوله وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وقيل إنه خطاب للنبي ص - والمعنى عام لسائر المكلفين كقوله عز و جل يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وقال قتادة الآصال العشيات
سورة

الأنفال
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو بكر رحمة الله عليه قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة وعطاء الأنفال الغنائم وروي عن ابن عباس رواية أخرى عن عطاء أن الأنفال ما يصل إلى المسلمين عن المشركين بغير قتال من دابة أو عبد أو متاع فذلك للنبي ص - يضعه حيث يشاء وروي عن مجاهد إن الأنفال الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس وقال الحسن كانت الأنفال من السرايا التي تتقدم أمام الجيش الأعظم والنفل في اللغة الزيادة على المستحق ومنه النافلة وهي التطوع وهو عندنا إنما يكون قبل إحراز الغنيمة فأما بعده فلا يجوز إلا من الخمس وذلك بأن يقول للسرية لكم الربع بعد الخمس أو الربع حيز من الجميع قبل

الخمس أو يقول من أصاب شيئا فهو له على وجه التحريض على القتال والتضرية على العدو أو يقول من قتل قتيلا فله سلبه وأما بعد إحراز الغنيمة فغير جائز أن ينفل من نصيب الجيش ويجوز له أن ينفل من الخمس وقد اختلف في سبب نزول الآية فروي عن سعد قال أصبت يوم بدر سيفا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم -

فقلت نفلنيه فقال ضعه من حيث أخذت فنزلت
يسئلونك عن الأنفال قال فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وقال اذهب وخذ سيفك وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
يسئلونك عن الأنفال قال الأنفال الغنائم التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
خاصة ليس لأحد فيها شيء ثم أنزل الله تعالى واعلموا
أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول الآية قال ابن جريج أخبرني بذلك سليمان عن مجاهد وروى عبادة بن الصامت وابن عباس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم -
نفل يوم بدر أنفالا مختلفة وقال من أخذ شيئا فهو له فاختلف الصحابة فقال
بعضهم نحو ما قلنا وقال آخرون نحن حمينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكنا ردأ لكم قال فلما اختلفنا وساءت أخلاقنا انتزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسوله فقسمه عن الخمس وكان في ذلك تقوى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وصلاح ذات البين لقوله تعالى
يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول قال عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ليرد قوي المسلمين على ضعيفهم وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم تحل الغنيمة لقوم سود الرؤس قبلكم كانت تنزل نار من السماء فتأكلها فلما كان يوم بدر أسرع الناس في الغنائم فأنزل الله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وقد ذكر في حديث عبادة وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال يوم بدر قبل القتال من أخذ شيئا فهو له ومن قتل قتيلا فله كذا ويقال
إن هذا غلط وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم - يوم حنين من قتل قتيلا فله سلبه وذلك لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤس غيركم وأن قوله تعالى يسئلونك
عن الأنفال نزلت بعد حيازة غنائم بدر فعملنا أن رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم - نفلهم ما أصابوا قبل القتال غلط إذ كانت إباحتها إنما كانت بعد القتال ومما يدل على غلطه أنه قال من أخذ شيئا فهو له ومن قتل قتيلا فله كذا ثم قسمها بينهم بالسواء وذلك لأنه غير جائز على النبي صلى الله عليه وسلم - خلف الوعد ولا استرجاع ما جعله الإنسان وأخذه منه وإعطاؤه غيره والصحيح

أنه لم يتقدم من النبي صلى الله عليه وسلم -

قول في الغنائم قبل القتال فلما فرغوا من القتال تنازعوا في الغنائم
فأنزل الله تعالى يسئلونك عن الأنفال فجعل أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
في أن يجعلها لما شاء فقسمها بينهم بالسواء ثم نسخ ذلك بقوله تعالى
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه على ما روي عن ابن عباس ومجاهد فجعل الخمس لأهله المسلمين في الكتاب والأربعة الأخماس للغانمين وبين النبي صلى الله عليه وسلم - سهم الفارس والراجل وبقي حكم النفل قبل إحراز الغنيمة بأن يقول من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب شيئا فهو له ومن الخمس وما شذ من المشركين من غير قتال فكل ذلك كان نفلا للنبي ص - يجعله لمن يشاء وإنما وقع النسخ في النفل بعد إحراز الغنيمة من الخمس ويدل على أن قسمة غنائم بدر إنما كانت على الوجه الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم -
قسمتها لا على قسمتها الآن أن النبي ص
- قسمها بينهم بالسواء ولم يخرج منها الخمس ولو كانت مقسومة قسمة الغنائم التي استقر عليها لاحكم لعزل الخمس لأهله ولفضل الفارس على الراجل وقد كان في الجيش فرسان أحدهما للنبي ص -
والآخر للمقداد فلما قسم الجميع بينهم بالسوية علمنا أن قوله تعالى قل
الأنفال لله والرسول قد اقتضى تفويض أمرها إليه ليعطيها من يرى ثم نسخ النفل بعد إحرازالغنيمة وبقي ما حكمه قبل إحرازها على جهة تحريض الجيش والتضرية على العدو وما لم يوجف عليه المسلمون وما لا يحتمل القسم ومن الخمس على ما شاء ويدل على أن غلط الرواية في أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر من أصاب شيئا فهو له وأنه نفل القاتل وغيره ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد بن السري عن أبي بكر عن عاصم عن مصعب بن سعد عن أبيه قال جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يوم بدر بسيف فقلت يا رسول الله إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو فهب لي هذا السيف فقال إن هذا السيف ليس لي ولا لك فذهبت وأنا أقول يعطاه اليوم من لم يبل بلاي فبينا أنا إذ جاءني الرسول فقال أجب فظننت أنه نزل في شيء بكلامي فجئت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم -
إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وإن الله قد جعله الله لي فهو لك
ثم قرأ يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه لم يكن له ولا لسعد قبل نزول سورة الأنفال وأخبر أنه لما جعله الله
له آثره به وفي ذلك دليل على فساد رواية من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم - نفلهم قبل القتال وقال من أخذ شيئا فهو له وقوله تعالى وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19