كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

يوسف قال إذا كان اللعان بولد فرق بينهما فقال قد ألزمته أمه وأخرجته من نسب الأب قال أبو الحسن ولم أجد ذكر نفي الحاكم الولد بالقول فيما قرأته إلا في رواية حيان بن بشر قال أبو الحسن وهو الوجه عندي وروى الحسن بن زياد في سياق روايته عن أبي حنيفة قال لا يضره أن يلاعن بينهما وهما قائمان أو جالسان فيقول الرجل أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا يقبل بوجهه عليها فيواجهها في ذلك كله وتواجهه أيضا هي وروي عن زفر مثل ذلك في المواجهة وقال مالك فيما ذكره ابن القاسم عنه أنه يحلف أربع شهادات بالله يقول أشهد بالله أني رأيتها تزني والخامسة لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين وتقول هي أشهد بالله ما رآني أزني فتقول ذلك أربع مرات والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقال الليث يشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين وقال الشافعي يقول أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة يقول ذلك أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله ويقول إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله فإن رآه يريد أن يمضي أمره يضع يده على فيه ويقول إن قولك علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين موجبه إن كنت كاذبا فإن أبى تركه فيقول لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتى فلانة من الزنا فإن قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا كان أو اثنين وقال مع كل شهادة إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا بفلان وفلان وإن نفى ولدها قال مع كل شهادة أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وإن هذا الولد ولد زنا ما هو مني فإذا قال هذا فقد فرغ من الإلتعان قال أبو بكر قوله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين يقتضي ظاهره جواز الاقتصار عليه في شهادات اللعان إلا أنه لما كان معلوما من دلالة الحال أن التلاعن واقع على قذفه إياها بالزنا علمنا أن المراد فشهادة أحدهما بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وكذلك شهادة المرأة واقعة في نفي ما رماها به وكذلك اللعن والغضب والصدق والكذب راجع إلى إخبار الزوج عنها بالزنا فدل على أن المراد بالآية وقوع الإلتعان والشهادات على ما وقع به رمي الزوج فاكتفى بدلالة

الحال على المراد عن قوله فيما رميتها به من الزنا واقتصر على قوله إني لمن الصادقين وهذا نحو قوله تعالى والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات والمراد والحافظات فروجهن والذاكرات الله ولكنه حذف لدلالة الحال عليه وفي حديث عبدالله بن مسعود وابن عباس في قصة المتلاعنين عند النبي صلى الله عليه وسلم - فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ولم يذكرا فيما رماها به من الزنا وأما قول مالك إنه يشهد أربع شهادات بالله إنه رآها تزني فمخالف لظاهر لفظ الكتاب والسنة لأن في الكتاب فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين وكذلك لاعن النبي صلى الله عليه وسلم - بين الزوجين وأما قول الشافعي إنه يذكرها باسمها ونسبها ويشير إليها بعينها فلا معنى له لأن الإشارة تغني عن ذكر الاسم فذكر الاسم والنسب لغو في هذا الموضع ألا ترى أن الشهود لو شهدوا على رجل بحق وهو حاضر كانت شهادتهم أنا نشهد إن لهذا الرجل على هذا الرجل ألف درهم ولا يحتاجون إلى اسمه ونسبه
في نفي الولد

قال
أبو حنيفة إذا ولدت المرأة فنفي ولدها حين يولد أو بعده بيوم أو بيومين لاعن وانتفى الولد وإن لم ينفه حين يولد حتى مضت سنة أو سنتان ثم نفاه لاعن ولزمه الولد ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا ووقت أبو يوسف ومحمد مقدار النفاس أربعين ليلة وقال أبو يوسف إن كان غائبا فقدم فله أن ينفيه فيما بينه وبين مقدار النفاس منذ قدم ما كان في الحولين فإن قدم بعد دخروجه من الحولين لم ينتف أبدا وقال هشام سألت محمدا عن أم ولد لرجل جاءت بولد ولمولى شاهد فلم يدعه ولم ينكره فقال إذا مضى أربعون يوما من يوم ولدته فإنه يلزمه وهي بمنزلة الحرة قال قلت فإن كان المولى غائبا فقدم وقد أتت له سنون فقال محمد إن كان الابن نسب إليه حتى عرف به فإنه يلزمه وقال محمد وإن لم ينسب إليه وقال هذا لم أعلم بولادته فإن سكت أربعين يوما من يوم قدم لزمه الولد وقال مالك إذا رأى الحمل فلم ينفه حين وضعته لم ينتف بعد ذلك وإن نفاه حرة كانت أو أمة فإن انتفى منه حين ولدته وقد رآها حاملا فلم ينتف منه فإنه يجلد الحد لأنها حرة مسلمة فصار قاذفا لها وإن كان غائبا عن الحمل وقدم ثم ولدته فله أن ينفيه وقال الليث فيمن أقر بحمل امرأته ثم قال بعد ذلك رأيتها تزني لاعن في رؤية ويلزمه الحمل وقال

الشافعي إذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم إمكانا بينا فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه كالشفعة وقال في القديم إن لم ينفه في يوم أو يومين لم يكن له أن ينفيه قال أبو بكر ليس في كتاب الله عز و جل ذكر نفي الولد إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - نفي الولد باللعان إذا قذفها بنفي الولد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود دقال حدثنا عبدالله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بالمرأة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال جاء هلال بن أمية من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا وذكر الحديث إلى آخر ذكر اللعان قال ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وقضى أن لا يدعي ولدها لأب قال أبو بكر وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا نفى ولدها أنه يلاعن ويلزم الولد أمه وينتفي نسبه من أبيه إلا أنهم اختلفوا في وقت نفي الولد على ما ذكرنا وفي خبر ابن عمر الذي ذكرنا في أن رجلا انتفى من ولدها فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وألحق الولد بالأم دليل على أن نفي ولد زوجته من قذف لها لولا ذلك لما لاعن بينهما إذ كان اللعان لا يجب إلا بالقذف وأما توقيت نفي الولد فإن طريقه الاجتهاد وغالب الظن فإذا مضت مدة قد كان يمكنه فيها نفي الولد وكان منه قبول للتهنئة أو ظهر منه ما يدل على أنه غير ناف له لم يكن له بعد ذلك أن ينفيه عند أبي حنيفة وتحديد الوقت ليس عليه دلالة فلم يثبت واعتبر ما ذكرنا من ظهور الرضا بالولد ونحوه فإن قيل لما لم يكن سكوته في سائر الحقوق رضا بإسقاطها كان كذلك نفي الولد قيل له قد اتفق الجميع على أن السكوت في ذلك إذا مضت مدة من الزمان بمنزلة الرضا بالقول إلا أنهم اختلفوا فيها وأكثر من وقت فيها أربعين يوما وذلك لا دليل عليه وليس اعتبار هذه المدة بأولى من اعتبار ما هو أقل منها وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الأربعين هي مدة أكثر النفاس وحال النفاس هي حال الولادة فما دامت على حال الولادة قبل نفيه وهذا ليس بشيء لأن نفي الولد لا تعلق له بالنفاس وأما قول مالك أنه إذا رآها حاملا فلم ينتف منه ثم نفاه بعد الولادة فإنه يجلد الحد فإنه قول واه لا وجه له من وجوه أحدها أن الحمل غير متيقن فيعتبر نفيه والثاني أنه ليس بآكد ممن ولدت امرأته ولم يعلم بالحمل فعلم به وسكت زمانا يلزمه الولد وإن نفاه بعد ذلك

لاعن ولم ينتف نسب الولد منه إذ لم تكن صحة اللعان متعلقة بنفي الولد ولم يكن منه إكذاب لنفسه بعد النفي فكيف يجوز أن يجلد وأيضا قوله تعالى والذين يرمون أزواجهم الآية فأوجب اللعان بعموم الآية على سائر الأزواج فلا يخص منه شيء إلا بدليل ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه من ذلك على وجوب الحد وسقوط اللعان
باب

الرجل يطلق امرأته طلاقا بائنا ثم يقذفها
قال أصحابنا فيمن طلق امرأته ثلاثا ثم قذفها فعليه الحد وكذلك إن ولدت ولدا قبل انقضاء عدتها فنفى ولدها فعليه الحد والولد ولده وقال ابن وهب عن مالك إذا بانت منه ثم أنكر حملها لاعنها إن كان حملها يشبه أن يكون منه وإن قذفها بعد الطلاق الثلاث وهي حامل مقر بحملها ثم زعم أنه رآها تزني قبل أن يقاذفها حد ولم يلاعن وإن أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثا لاعنها وقال الليث إذا أنكر حملها بعد البينونة لاعن ولو قذفها بالزنا بعد أن بانت منه وذكر أنه رأى عليها رجلا قبل فراقه إياها جلد الحد ولم يلاعن وقال ابن شبرمة إذا ادعت المرأة حملا في عدتها وأنكر الذي يعتد منه لاعنها وإن كانت في غير عدة جلد وألحق به الولد وقال الشافعي وإن كانت امرأة مغلوبة على عقلها فنفى زوجها ولدها التعن ووقعت الفرقة وانتفى الولد وإن ماتت المرأة قبل اللعان فطالب أبوها وأمها زوجها كان عليه أن يلتعن وإن ماتت ثم قذفها حد ولا لعان إلا أن ينفي به ولدا أو حملا فيلتعن وروى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال يحد وقال ابن عمر يلاعن وروى الشيباني عن الشعبي قال إن طلقها طلاقا بائنا فادعت حملا فانتفى منه يلاعنها إنما فر من اللعان وروى أشعث عن الحسن مثله ولم يذكر الفرار وإن لم تكن حاملا جلد وقال إبراهيم النخعي وعطاء والزهري إذا قذفها بعدما بانت منه جلد الحد قال عطاء والولد ولده قال أبو بكر قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة وكان ذلك حكما عاما في قاذف الزوجات والأجنبيات على ما بينا فيما سلف ثم نسخ منه قاذف الزوجات بقوله تعالى والذين يرمون أزواجهم والبائنة ليست بزوجة فعلى الذي كان زوجها الحد إذا قذفها بظاهر قوله والذين يرمون المحصنات ومن أوجب اللعان بعد البينونة وارتفاع الزوجية فقد نسخ من هذه الآية ما لم يرد توقيف بنسخه وغير جائز نسخ

القرآن إلا بتوقيف يوجب العلم ومن جهة أخرى أنه لا مدخل للقياس في إثبات اللعان إذ كان اللعان حدا على ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لم يختلفوا أنه لو قذفها بغير ولد أن عليه الحد ولا لعان فثبت أنه غير داخل في الآية ولا مراد إذ ليس في الآية نفي الولد وإنما فيها ذكر القذف ونفي الولد مأخوذ من السنة ولم ترد السنة بإيجاب اللعان لنفي الولد البينونة فإن قيل إنما يلاعن بينهما لنفي الولد لأن ذلك حق للزوج ولا ينتفي منه إلا باللعان قياسا على حال بقاء الزوجية قيل له هذا استعمال القياس في نسخ حكم الآية وهو قوله والذين يرمون المحصنات فلا يجوز نسخ الآية بالقياس وأيضا لو جاز إيجاب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية لجاز إيجابه لزوال الحد عن الزوج بعد ارتفاع الزوجية فلما كان لو قذفها بغير ولد حد ولم يجب اللعان ليزول الحد لعدم الزوجية كذلك لا يجب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية فإن قيل قال الله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء وقال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فحكم تعالى بطلاق النساء ولم يمنع ذلك عندك من طلاقها بعد البينونة ما دامت في العدة فما أنكرت مثله في اللعان قيل له هذا سؤال ساقط من وجوه أحدها أن الله تعالى حين حكم بوقوع الطلاق على نساء المطلق لم ينف بذلك وقوعه على من ليست من نسائه بل ما عدا نسائه فحكمه موقوف على الدليل في وقوع طلاقه أو نفيه وقد قامت الدلالة على وقوعه في العدة وأما اللعان فإنه مخصوص بالزوجات ولأن من عدا الزوجات فالواجب فيهن الحد بقوله والذين يرمون المحصنات فكان موجب هذه الآية نافيا للعان ومن أوجبه وأسقط حكم الآية فقد نسخها بغير توقيف وذلك باطل ولذلك نفيناه إلا مع بقاء الوجية وأيضا فإن الله تعالى من حيث حكم بطلاق النساء فقد حكم بطلاقهن بعد البينونة بقوله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ثم عطف عليه قوله فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فحكم بوقوع الطلاق بعد الفدية لأن الفاء للتعقيب وليس معك آية ولا سنة في إيجاب اللعان بعد البينونة وأيضا فجائز إثبات الطلاق من طريق المقاييس بعد البينونة ولا يجوز إثبات اللعان بعد البينونة من طريق القياس لأنه حد لا مدخل للقياس في إثباته وأيضا فإن اللعان يوجب البينونة ولا يصح إثباتها بعد وقوع البينونة فلا معنى لإيجاب لعان

لا يتعلق به بينونة إذ كان موضوع اللعان لقطع الفراش وإيجاب البينونة فإذا لم يتعلق به ذلك فلا حكم له فجرى اللعان عندنا في هذا الوجه مجرى الكنايات الموضوعة للبينونة فلا يقع بها طلاق بعد ارتفاع الزوجية مثل قوله أنت خلية وبائن وبتة ونحوها فلما لم يجز أن يلحقها حكم هذه الكنايات بعد البينونة وجب أن يكون ذلك حكم اللعان في انتفاء حكمه بعد وقوع الفرقة وارتفاع الزوجية وليس كذلك حكم صريح الطلاق إذ ليس شطره ارتفاع البينونة ألا ترى أن الطلاق تثبت معه الرجعة في العدة ولو طلق الثانية بعد الأولى في العدة لم يكن في الثانية تأثير في بينونة ولا تحريم وإنما أوجب نقصان العدد فلذلك جاز أن يلحقها الطلاق في العدة بعد البينونة لنقصان العدد لا لإيجاب تحريم ولا لبينونة وأيضا فليس يجوز أن يكون وقوع الطلاق أصلا لوجوب اللعان لأن الصغيرة والمجنونة يلحقهما الطلاق ولا لعان بينهما وبين أزواجهما واختلف أهل العلم فيمن قذف امرأته ثم طلقها ثلاثا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا أبانت منه بعد القذف بطلاق أو غيره فلا حد عليه ولا لعان وهو قول الثوري وقال الأوزاعي والليث والشافعي يلاعن وقال الحسن بن صالح إذا قذفها وهي حامل ثم ولدت ولدا قبل أن يلاعنها فماتت لزمه الولد وضرب الحد وإن لاعن الزوج ولم تلتعن المرأة حتى تموت ضرب الحد وتوارثا وإن طلقها وهي حامل وقد قذفها فوضعت حملها قبل أن يلاعنها لم يلاعن وضرب الحد قال أبو بكر قد بينا امتناع وجوب اللعان بعد البينونة ثم لا يخلو إذا لم يجب اللعان من أن لا يجب الحد على ما قال أصحابنا أو أن يجب الحد على ما قال الحسن بن صالح وغير جائز إيجاب الحد إذا لم يكن من الزوج إكذاب لنفسه وأينا سقط اللعان عنه من طريق الحكم وصار بمنزلتها لو صدقته على القذف لما سقط اللعان من جهة الحكم لا بإكذاب من الزوج لنفسه لم يجب الحد فإن قيل لو قذفها وهي أجنبية ثم تزوجها لم تنتقل إلى اللعان كذلك إذا قذفها وهي زوجته ثم بانت لم يبطل اللعان قيل حال النكاح قد يجب فيها اللعان وقد يجب فيه الحد ألا ترى أنه لو أكذب نفسه وجب الحد في حال النكاح وغير حال النكاح لا يجب فيه اللعان بحال واختلف أهل العلم في الرجل ينفي حمل امرأته فقال أبو حنيفة إذا قال ليس هذا الحمل مني لم يكن قاذفا لها فإن ولدت بعد يوم لم يلاعن حتى ينفيه بعد الولادة وهو قول زفر وقال أبو يوسف ومحمد إن جاءت به بعد هذا

القول لأقل من ستة أشهر لاعن وقد روي عن أبي يوسف أن يلاعنها قبل الولادة وقال مالك والشافعي يلاعن بالحمل وذكر عنه الربيع أنه يلاعن حتى تلد وإنما يوجبه أبو حنيفة اللعان بنفي الحمل لأن الحمل غير متيقن وجائز أن يكون ريحا أو داء وإذا كان كذلك لم يجز أن نجعله قذفا لأن القذف لا يثبت بالإحتمال ألا نرى أن التعريض المحتمل للقذف ولغيره لا يجوز إيجاب اللعان ولا الحد به فلما كان محتملا أن يكون ما نفاه ولدا واحتمل غيره لم يجز أن يوجب اللعان به قبل الوضع ثم إذا وضعت لأقل من ستة أشهر تيقنا أنه كان حملا في وقت النفي لم يجب اللعان أيضا لأنه يوجب أن يكون القذف معلقا على شرط والقذف لا يجوز أن يعلق على شرط ألا ترى أنه لو قال لها إذا ولدت فأنت زانية لم يكن قاذفا لها بالولادة واحتج من لاعن بالحمل بما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - لاعن بالحمل وإنما أصل هذا الحديث ما رواه عيسى بن يونس وجرير جميعا عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن رجلا قال أرأيتم إن وجد رجلا مع امرأته رجلا فإن هو قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت عن غيظ فأنزلت آية اللعان فابتلي به فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فلاعن امرأته فلم يذكر في هذا الحديث الحمل ولا أنه لاعن بالحمل وروى ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن ابن عباس أن رجلا جاء وقال وجدت مع امرأتي رجلا ثم لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بينهما وقال إن جاءت به كذا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي قال أنبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم - بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم - البينة أو حد في ظهرك وذكر الحديث إلى قوله أبصروها فإن جاءت به كذا فهو لشريك بن سحماء وكذلك رواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس فذكر في هذه الأخبار أنه قذفها وأبو حنيفة يوجب اللعان بالقذف وإن كانت حاملا وإنما لا يوجبه إذا نفى الحمل من غير قذف فإن قيل قال الله تعالى وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن وقد ترد الجارية بعيب الحمل إذا قال النساء هي حبلى وقال النبي صلى الله عليه وسلم - في دية شبه العمد منها أربعون خلفة في بطونها أولادها قيل له أما نفقة الحامل فلا تجب لأجل الحمل وإنما وجبت للعدة فما لم تنقض عدتها فنفقتها واجبة ألا ترى أن غير الحامل نفقتها واجبة وإنما ذكر الحمل

لأن وضعه تنقضي به العدة وتنقطع به النفقة وأما الرد بالعيب فإنه جائز كونه مع الشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة والحد لا يجوز إثباته بالشبهة فلذلك اختلفا وكذلك من يوجب في الدية أربعين خلقة في بطونها أولادها فإنه يوجبها على غالب الظن ومثله لا يجوز إيجاب الحد به وهذا كما يحكم بظاهر وجود الدم أنه حيضة ولا يجوز القطع به حتى يتم ثلاثة أيام وكذلك من كان ظاهر أمرها الحبل لا تكون رؤيتها الدم حيضا فإن تبين بعد أنها لم تكن حاملا كان ذلك الدم حيضا وقوله ص - في قصة هلال بن أمية إن جاءت به على صفة كيت وكيت فهو لشريك بن سحماء فإنه فيما أضافه إلى هلال محمول على حقيقة إثبات النسب منه وهذا يدل على أنه لم ينف الولد منه بلعانه إياها في حال حملها وقوله فهو لشريك بن سحماء لا يجوز أن يكون مراده إلحاق النسب به وإنما أراد أنه من مائه في غالب الرأي لأن الزاني لا يلحق به النسب لقوله ص - الولد للفراش وللعاهر الحجر فإن قيل في حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في امرأة هلال بن أمية حين لاعن بينهما أن لا يدعي ولدها لأب قيل له هذا إنما ذكره عباد بن منصور عن عكرمة وهو ضعيف واه لا يشك أهل العلم بالحديث أن في حديث عباد بن منصور هذا أشياء ليست من كلام النبي صلى الله عليه وسلم - مدرجة فيه ولم يذكر ذلك غير عباد بن منصور ويدل على أنه غير جائز نفي النسب ولا إثبات للقذف بالشبهة حديث أبي هريرة قال إن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال إن امرأتي ولدت غلاما أسود وإني أنكرته فقال له هل لك من إبل قال نعم قال ما ألوانها قال حمر قال هل فيها من أورق قال نعم قال فأنى ترى ذلك جاءها قال عرق نزعها قال فلعل هذا عرق نزعه فلم يرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم - نفيه عنه لبعد شبهه منه ويدل أيضا على أنه لا يجوز نفي النسب بالشبهة
فصل وقال أصحابنا إذا نفى نسب ولد زوجته فعليه اللعان وقال الشافعي لا يجب اللعان حتى يقول إنها جاءت به من الزنا قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امراته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وانتفى من ولدها ففرق رسول الله ص
- بينهما وألحق الولد بالمرأة فأخبر أنه لاعن بينهما لنفيه الولد فثبت أن نفي ولدها قذف يوجب اللعان

أربعة

شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها
قال أصحابنا شهادتهم جائزة ويقام الحد على المرأة وقال مالك والشافعي يلاعن الزوج ويحد الثلاثة وروي نحو قولهما عن الحسن والشعبي وروي عن ابن عباس إن الزوج يلاعن ويحد الثلاثة قال أبو بكر قال الله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا جميعا أجنبيين وقال والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة فإذا قذف الأجنبي امرأة وجاء بأربعة أحدهم الزوج اقتضى الظاهر جواز شهادتهم وسقوط الحد عن القاذف وإيجابه عليها وأيضا لا خلاف أن شهادة الزوج جائزة على امرأته في سائر الحقوق وفي القصاص وفي سائر الحدود من السرقة والقذف والشرب فكذلك يجب أن تكون في الزنا فإن قيل الزوج يجب عليه اللعان إذا قذف امرأته فلا يجوز أن يكون شاهدا قيل له إذا جاء مجيء الشهود مع ثلاثة غيره فليس بقذف ولا لعان عليه وإنما يجب اللعان عليه إذا قذفها ثم لم يأت بأربعة شهداء كالأجنبي إذا قذف وجب عليه الحد إلا أن يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا ولو جاء مع ثلاثة فشهدوا بالزنا لم يكن قاذفا وكان شاهدا فكذلك الزوج
في
إباء أحد الزوجين اللعان
قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد أيهما نكل عن اللعان حبس حتى يلاعن وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي أيهما نكل حد إن نكل الرجل حد للقذف وإن نكلت هي حدت للزنا وروى معاذ بن معاذ عن أشعث عن الحسن في الرجل يلاعن وتأبى المرأة قال تحبس وعن مكحول والضحاك والشعبي إذا لاعن وأبت أن تلاعن رجمت قال أبو بكر قال الله تعالى واللاتي يأتين بالفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وقال ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ائتني بأربعة شهداء وإلا
فحد في ظهرك ورد النبي صلى الله عليه وسلم - ماعزا والغامدية كل واحد منهما حتى أقر أربع مرات بالزنا ثم رجمهما فثبت أنه لا يجوز إيجاب الحد عليها بترك اللعان لأنه ليس ببينة ولا إقرار وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى

ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس فنفى وجوب القتل إلا بما ذكر والنكول عن اللعان خارج عن ذلك فلا يجب رجمها وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن لأن أحدا لم يفرق بينهما فإن قيل امرئ مسلم إنما يتناول الرجل دون المرأة قيل له ليس كذلك لأنه لا خلاف أن المرأة مرادة بذلك وإن هذا الحكم عام فيهما جميعا وأيضا فإن ذلك للجنس كقوله إن امرؤ هلك ليس له ولد وقوله يوم يفر المرء من أخيه وأيضا لا خلاف أن الدم لا يستحق بالنكول في سائر الدعاوى وكذلك سائر الحدود فكان في اللعان أولى أن لا يستحق فإن قيل لما قال تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وهو يعني حد الزنا ثم قال ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله فعرفه بالألف واللام علمنا أن المراد هو العذاب المذكور في قوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين قيل له ليست هذه قصة واحدة ولا حكما واحدا حتى يلزمه فيه ما قلت لأن أول السورة إنما هي في بيان حكم الزانيين ثم حكم القاذف وقد كان ذلك حكما ثابتا في قاذف الزوجات والأجنبيات جاريا على عمومه إلى أن نسخ عن قاذف الزوجات باللعان وليس في ذكره العذاب وهو يريد به حد الزنا في موضع ثم ذكر العذاب بالألف واللام في غيره ما يوجبه أن العذاب المذكور في لعان الزوجين هو المذكور في الزانيين إذ ليس يختص العذاب بالحد دون غيره وقد قال الله تعالى إلا أن يسجن أو عذاب أليم ولم يرد به الحد وقال لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ولم يرد الحد وقال ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا ولم يرد به الحد وقال عبيد بن الأبرص ... والمرء ما عاش في تكذيب ... طول الحياة له تعذيب ...
وقال النبي صلى الله عليه وسلم - السفر قطعة من العذاب فإذا كان اسم العذاب لا يختص بنوع من الإيلام دون غير ومعلوم أنه لم يرد به جميع سائر ضروب العذاب عليه لم يخل اللفظ من أحد معنيين إما أن يريد به الجنس فيكون على أدنى ما يسمى عذابا أي ضرب منه كان أو مجملا مفتقرا إلى البيان إذ غير جائز أن يكون المراد معهودا لأن المعهود هو ما تقدم ذكره في الخطاب فيرجع الكلام إليه إذ كان معناه متقررا عند المخاطبين وأن المراد عوده إليه فلما لم يكن في ذكر قذف الزوج وإيجاب اللعان ما يوجب استحقاق الحد على المرأة لم يجز أن يكون هو المراد بالعذاب وإذا كان ذلك كذلك وكانت الأيمان قد تكون حقا للمدعي

حتى يحبس من أجل النكول عنها وهي القسامة متى نكلوا عن الأيمان فيها حبسوا كذلك حبس الناكل عن اللعان أولى من إيجاب الحد عليه لأنه ليس في الأصول إيجاب الحد بالنكول وفيها إيجاب الحبس به وأيضا فإن النكول ينقسم إلى أحد معنيين إما بدل لما استحلف عليه وإما قائم مقام الإقرار وبدل الحدود لا يصح وما قام مقام الغير لا يجوز إيجاب الحد به كالشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي وشهادة النساء مع الرجال وأيضا فإن النكول لما لم يكن صريح الإقرار لم يجز إثبات الحد به كالتعريض وكاللفظ المحتمل للزنا ولغيره فلا يجب به الحد على المقر ولا على القاذف فإن قيل في حديث ابن عباس وغيره في قصة هلال بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما لاعن بينهما وعظ المرأة وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكذلك الرجل ومعلوم أنه أراد بعذاب الدنيا حد الزنا أو القذف قيل له هذا غلط لأنه لا يخلو من أن يكون مراده بعذاب الدنيا الحبس أو الحد إذا أقر فإن كان المراد الحبس فهو عند النكول وإن أراد الحد فهو عند إقرارها بما يوجب الحد وإكذاب الزوج لنفسه فلا دلالة له فيه على أن النكول يوجب الحد دون الحبس فإن قيل إنما يجب عليها الحد بالنكول وأيمان الزوج وكذلك يجب عليه بنكوله وأيمان المرأة قيل له النكول والأيمان لا يجوز أن يستحق به الحد ألا ترى أن من ادعى على رجل قذفا أنه لا يستحلف ولا يستحق المدعي الحد بنكول المدعى عليه ولا بيمينه وكذلك سائر الحدود ولا يستحلف فيها ولا يحكم فيها بالنكول ولا يرد اليمين
باب تصادق الزوجين أن الولد ليس منه

قال
أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي لا ينفى الولد منه إلا باللعان وقال أصحابنا تصديقها إياه بأن ولدها من الزنا يبطل اللعان فلا ينتفي النسب منه أبدا وقال مالك والليث إذا تصادق الزوجان على أنها ولدته وأنه ليس منه لم يلزمه الولد وتحد المرأة وذكر ابن القاسم عن مالك قال لو شهد أربعة على امرأة انها زنت منذ أربعة أشهر وهي حامل وقد غاب زوجها منذ أربعة أشهر فأخرها الإمام حتى وضعت ثم رجمها فقدم زوجها بعد ما رجمت فانتفى من ولده وقال قد كنت استبرأتها فإنه يلتعن وينتفي به الولد عن نفسه ولا ينفيه ههنا إلا اللعان قال أبو بكر قال النبي صلى الله عليه وسلم -
الولد للفراش وللعاهر الحجر وظاهره يقتضي أن لا ينتفي أبدا عن صاحب
الفراش غير أنه لما وردت السنة في إلحاق

الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان واستعمل ذلك فقهاء الأمصار سلمنا بذلك وما عدا ذلك مما لم ترد به سنة فهو لازم للزوج بظاهر قوله الولد للفراش وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى قال حدثنا محمد بن عبدالله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي بن أبي طالب عن رباح قال زوجني أهل أمة لهم رومية فوقعت عليها فولدت لي غلاما أسود مثلي فسميته عبدالله ثم طبن لها غلام من أهلي رومي يقال له يوحنه فراطنها بلسانه فولدت غلاما كأنه وزغة من الوزغات فقلت لها ما هذا فقالت هذا ليوحنه فرفعنا إلى عثمان قال فسألهما فاعترفا فقال لهما أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إن رسول الله ص
- قضى إن الولد للفراش فجلدها وجلده وكانا مملوكين
باب
الفرقة باللعان
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم وقال مالك وزفر بن الهذيل والليث إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق بينهما الحاكم وعن الثوري والأوزاعي لا تقع الفرقة بلعان الزوج وحده وقال عثمان البتي لا أرى ملاعنة الزوج امرأته تنقص شيئا وأحب إلي أن يطلق وقال الشافعي إذا أكمل الزوج الشهادة والإلتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا التعنت أو لم تلتعن قال أبو بكر أما قول عثمان البتي في أنه لا يفرق بينهما فإنه قول تفرد به ولا نعلم أحدا قال به غيره وكذلك قول الشافعي في إيقاعه الفرقة بلعان الزوج خارج عن أقاويل سائر الفقهاء وليس له فيه سلف والدليل على أن فرقة اللعان لا تقع إلا بتفريق الحاكم ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف
يفعل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فاذهب فأت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فلما فرغنا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثا
فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم - قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين وفي هذا الخبر دلالة على أن اللعان لم يوجب الفرقة لقوله كذبت عليها إن أمسكتها وذلك لأن

فيه إخبارا منه بأنه ممسك لها بعد اللعان على ما كان عليه من النكاح إذ لو كانت الفرقة قد وقعت قبل ذلك لاستحال قوله كذبت عليها إن أمسكتها وهو غير ممسك لها فلما أخبر بعد اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم -

إنه ممسك لها ولم ينكره النبي ص
- دل ذلك على أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان إذ غير جائز أن يقار النبي صلى الله عليه وسلم - أحدا على الكذب ولا على استباحة نكاح قد بطل فثبت أن الفرقة لم تقع بنفس اللعان ويدل عليه أيضا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن إبراهيم بن ملحان قال حدثنا ايحيى بن عبدالله بن بكير قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب أن ابن شهاب كتب يذكر عن سهل بن سعد أنه أخبره أن عويمرا قال يا رسول الله أرأيت إن وجدت عند أهلي رجلا أأقتله قال ائت بامرأتك فإنه قد نزل فيكما فجاء بها فلاعنها ثم قال إني قد افتريت عليها إن لم أفارقها فأخبر في هذا الحديث إنه لم يكن فارقها باللعان وأمره النبي صلى الله عليه وسلم - ولما طلقها ثلاثا بعد اللعان ولم ينكره ص - دل ذلك على أن الطلاق قد وقع موقعه وعلى قول الشافعي إنها قد بانت منه بلعان الزوج ولا يلحقها طلاقه بعد البينونة فقد خالف الخبر من هذا الوجه أيضا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبدالله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذا الخبر أعني قصة عويمر قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وكان ما صنع عند النبي ص
- قال سهل حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا فأخبر
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم - أنفذ طلاق العجلاني بعد اللعان ويدل عليه أيضا قول ابن شهاب فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولو كانت الفرقة واقعة باللعان لاستحال التفريق بعدها ويدل عليه أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد ووهب بن بيان وغيرهما قالوا حدثنا سفيان عن الزهري عن سهل بن سعد قال مسدد قال شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأنا ابن خمس عشرة سنة ففرق رسول الله ص
- بينهما حين تلاعنا فقال الرجل كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فأخبر في هذا الحديث ايضا أن النبي صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما بعد اللعان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عمر رجل قذف امرأته قال فرق رسول

الله ص - بين أخوي بني العجلان فقال والله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب يرددها ثلاث مرات فأبيا ففرق بينهما فنص في هذا الحديث أيضا على أنه فرق بينهما بعد اللعان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينهما وألحق الولد بالمرأة وهذا أيضا فيه نص على أن التفريق كان بفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأيضا لو كانت الفرقة واقعة بلعان الزوج لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما وقع بها من التحريم وتعلق بها من الأحكام فلما لم يخبر عليه السلام بوقوع الفرقة بلعان الزوج ثبت أنها لم تقع وأيضا قول الشافعي خلاف الآية لأن الله تعالى قال والذين يرمون أزواجهم ثم قال فشهادة أحدهم ثم قال ويدرؤ عنها العذاب وهو يعني الزوجة فلو وقعت الفرقة بلعان الزوج للاعنت وهي أجنبية وذلك خلاف ظاهر الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين وأيضا لا خلاف أن الزوج إذا قذف امرأته بغير ولد بعد البينونة أو قذفها ثم أبانها أنه لا يلاعن فلما لم يجز أن يلاعن وهو أجنبي كذلك لا يجوز أن يلاعن وهي أجنبية لأن اللعان في هذه الحال إنما هو لقطع الفراش ولا فراش بعد البينونة فامتنع لعانها وهي غير زوجة فإن قيل في الأخبار التي فيها ذكر تفريق النبي صلى الله عليه وسلم -
بين المتلاعنين إنما معناه إن الفرقة وقعت باللعان فأخبر النبي ص
- أنها لا تحل له بقوله لا سبيل عليها قيل له هذا صرف الكلام عن حقيقته ومعناه لأن قوله لا تحل لك لا سبيل لك عليها إن لم تقع به فرقة فليس بتفريق من النبي صلى الله عليه وسلم -
بينهما وإنما هو إخبار بالحكم والمخبر بالحكم لا يكون مفرقا بينهما فإن
قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا وذلك إخبار منه بوقوع الفرقة لأن النكاح لو كان باقيا إلى أن يفرق لكانا مجتمعين قيل له هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم - وإنما روي عن عمر وعلي قال يفرق بينهما ولا يجتمعان فإنما مراده أنهما إذا فرق بينهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن فينبغي أن تثبت الفرقة حتى يحكم بأنهما لا يجتمعان ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم - كان معناه ما وصفنا وأيضا يضم إليه ما قدمنا من الأخبار الدالة على بقاء النكاح بعد اللعان وأن الفرقة إنما تقع بتفريق الحاكم فإذا جمعنا بينهما وبين الخبر تضمن أن يكون معناه المتلاعنان لا يجتمعان بعد التفريق ويدل على ما ذكرنا أن اللعان شهادة لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم فأشبه

الشهادة التي لا يثبت حكمها إلا عند الحاكم فواجب على هذا أن لا تقع موجبة للفرقة إلا بحكم الحاكم فإن قيل الأيمان على الدعاوي لا يثبت بها حكم إلا عند الحاكم ومتى استحلف الحاكم رجلا برئ من الخصومة ولا يحتاج إلى استئناف حكم آخر في براءته منها وهذا يوجب انتقاض اعتلالك بما ذكرت قيل له هذا لا يلزم على ما ذكرنا وذلك لأنا قلنا اللعان شهادة تتعلق صحتها بالحاكم كالشهادات على الحقوق وليست الأيمان على الحقوق شهادات بذلك على هذا أن اللعان لا يصح إلا بلفظ الشهادات كالشهادات على الحقوق وليس كذلك الإستحلاف على الدعاوى وأيضا فإن اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ببينته فلما لم يجز أن يستحق المدعي ما ادعاه إلا بحكم الحاكم وجب حكمه في استحقاق المرأة نفسها باللعان وأما الإستحلاف على الحقوق فإنه لا يستحق به شيء وإنما تقطع الخصومة في الحال ويبقى المدعى عليه على ما كان عليه من براءة الذمة فكانت فرقة اللعان بالشهادات على الحقوق أشبه منها بالإستحلاف عليها وأيضا لما كان اللعان سببا للفرقة متعلقا بحكم الحاكم أشبه تأجيل العنين في كونه سببا للفرقة في تعلقه بحكم الحاكم فلما لم تقع الفرقة بعد التأجيل بمضي المدة دون تفريق الحاكم وجب مثله في فرقة اللعان لما وصفنا وأيضا لما لم يكن اللعان كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها وجب أن لا تقع به الفرقة كسائر الألفاظ التي ليست كناية عن الفرقة ولا تصريحا بها فإن قيل الإيلاء ليس بكناية عن الطلاق ولا صريح وقد أوقعت به الفرقة عند مضي المدة قيل له إن الإيلاء يصح أن يكون كناية عن الطلاق إلا أنه أضعف من سائر الكنايات فلا تقع الفرقة فيه بنفس الإيلاء إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو ترك الجماع في المدة ألا ترى أن قوله والله لا أقربك قد يدل على التحريم إذ كان التحريم يمنع القرب وأما اللعان فليس يصح أن يكون دالا على التحريم بحال لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه فلا يوجب ذلك تحريما ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها بالزنا لم يوجب ذلك تحريما وإن كان كاذبا والمرأة صادقة فذلك أبعد فثبت بذلك أنه لا دلالة فيه على التحريم قال فلذلك لم يجز وقوع الفرقة دون إحداث تفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم وأيضا أنه لما لم يصح ابتداء اللعان إلا بحكم الحاكم كان كذلك ما تعلق به من الفرقة ولما صح ابتداء الإيلاء من غير حاكم لم يحتج في وقوع الفرقة إلى حكم الحاكم فإن قيل لما اتفقنا على أنهما لو تراضيا

على البقاء في النكاح لم يخليا وذلك وفرق بينهما دل ذلك على أن اللعان قد أوجب الفرقة فواجب أن تقع الفرقة فيه بنفس اللعان دون سبب آخر غيره قيل له هذا منتقض على أصل الشافعي لأنه يزعم أن ارتداد المرأة لا يوجب الفرقة إلا بحدوث سبب آخر وهو مضي ثلاث حيض فإذا مضت ثلاثة حيض وقعت الفرقة ولو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا وذلك ولم توجب الردة بنفسها الفرقة دون حدوث معنى آخر وعندنا لو تزوجت امرأة زوجا غير كفء وطالب الأولياء بالفرقة لم يعمل تراضى الزوجين في تبقية النكاح ولم يوجب ذلك وقوع الفرقة بخصومة الأولياء حتى يفرق الحاكم فهذا الإستدلال فاسد على أصل الجميع وأيضا فإنك لم ترده إلى أصل وإنما حصلت على دعوى عارية من البرهان وأيضا جائز عندنا البقاء على النكاح بعد اللعان لأنه لو أكذب نفسه قبل الفرقة لجلد الحد ولم يفرق بينهما فإن قيل هو مثل الطلاق الثلاث والرضاع ونحوهما من الأسباب الموجبة للفرقة بأنفسها لا يحتاج في صحة وقوعها إلى حكم الحاكم واللعان ليس بسبب موجب للفرقة بنفسه لأنه لو كان كذلك وجب أن تقع به الفرقة إذا تلاعنا عند غير الحاكم وأيضا ليس كل سبب يتعلق به فسخ يوجبه بنفسه من الأسباب ما يوجب ذلك بنفسه ومنها مالا يوجبه إلا بحدوث معنى آخر ألا ترى أن بيع نصيب من الدار يوجب الشفعة للشريك ولا ينتقل إليه بنفس الطلب والخصومة دون أن يحكم بها الحاكم وكذلك الرد بالعيب بعد القبض وخيار الصغير إذا بلغ ونحو ذلك هذه كلها أسباب يتعلق بها فسخ العقود ثم لا يقع الفسخ بوجودها حسب دون حكم الحاكم به فهو على من يوجب الفرقة باللعان دون تفريق الحاكم وأما عثمان البتي فإنه ذهب في قوله إن اللعان لا يوجب الفرقة بحال لأن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة ولو تلاعنا في بيتهما لم يوجب فرقة فكذلك عند الحاكم ولأن اللعان في الأزواج قائم مقام الحد على قاذف الأجنبيات ولو حد الزوج في قذفه إياها بأن أكذب نفسه أو كان عبدا لم يوجب ذلك فرقة وكذلك إذا لاعن وذهب في تفريق النبي صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين أن ذلك إنما كان في قصة العجلاني وكان طلقها ثلاثا بعد اللعان فلذلك فرق بينهما وروى ابن شهاب أن سهل بن سعد قال فطلقها العجلاني ثلاث تطليقات بعد فراغهما من اللعان فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحديث ابن عمر أيضا إنما هو في قصة العجلاني قال أبو بكر في

حديث سهل بن سعد أنه

قال
فحضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني قصة العجلاني فمضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا فأخبر سهل وهو راوي هذه القصة أن السنة مضت بالتفريق وإن لم يطلق الزوج وفي حديث ابن عباس في قصة هلال بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فرق بينهما قال أبو بكر وهلال لم يطلق امرأته فثبت أن التفريق بينهما بعد اللعان واجب وأيضا في حديث ابن عمر وغيره في قصة العجلاني أن النبي صلى الله عليه وسلم -
فرق بينهما وجائز أن يكون النبي ص
- فرق بينهما ثم طلقها هو ثلاثا فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفيه أنه قال لا سبيل لك عليها
باب نكاح الملاعن للملاعنة
قال أبو حنيفة ومحمد إذا أكذب الملاعن نفسه وجلد الحد أو جلد حد القذف في غير ذلك وصارت المرأة بحال لا يجب بينهما وبين زوجها إذا قذفها لعان فله أن يتزوجها وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي وسعيد بن جبير وقال أبو يوسف والشافعي لا يجتمعان أبدا وروي عن علي وعمر وابن مسعود مثل ذلك وهذا محمول عندنا على أنهما لا يجتمعان ما داما على حال التلاعن وروي عن سعيد بن جبير أن فرقة اللعان لا تبينها منه وأنه إذا أكذب نفسه في العدة ردت إليه امرأته وهو قول شاذ لم يقل به أحد غيره وقد مضت السنة ببطلانه حين فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المتلاعنين والفرقة لا تكون إلا مع البينونة ويحتج للقول الأول بعموم الآي المبيحة لعقود المناكحات نحو قوله وأحل لكم ما وراء ذلكم وقوله فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقوله فانكحوا الأيامى منكم ومن جهة النظر أنا قد بينا أن هذه الفرقة متعلقة بحكم الحاكم وكل فرقة تعلقت بحكم الحاكم فإنها لا توجب تحريما مؤبدا والدليل على ذلك أن سائر الفرق التي تتعلق بحكم الحاكم لا يوجب تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين وخيار الصغيرين وفرقة الإيلاء عند مخالفنا وكذلك سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم في الأصول هذه سبيلها فإن قيل سائر الفرق التي ذكرت لا يمنع التزويج في الحال وإن تعلقت بحكم الحاكم وهذه الفرقة تحظر تزويجها في الحال عند الجميع فكما جاز أن يفارق سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم من هذا الوجه جاز أن يخالفها في إيجابها التحريم مؤبدا قبل له من الفرق المتعلقة بحكم الحاكم ما يمنع التزويج في الحال ولا توجب مع ذلك تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين

إذا لم تكن نفي من طلاقها إلا واحدة قد أوجبت تحريما حاظرا لعقد النكاح في الحال ولم توجب مع ذلك تحريما مؤبدا وكذلك الزوج الذمي إذا أبى الإسلام وقد أسلمت امرأته فقرق الحاكم بينهما منع ذلك من نكاحها بعد الفرقة ولا توجب تحريما مؤبدا فلم يجب من حيث حظرنا تزويجها بعد الفرقة أن توجب به تحريما مؤبدا وأيضا لو كان اللعان يوجب تحريما مؤبدا لوجب أن يوجبه إذا تلاعنا عند غير الحاكم لأنا وجدنا سائر الأسباب الموجبة للتحريم المؤبد فإنها توجبه بوجودها غير مفتقرة فيه إلى حاكم مثل عقد النكاح الموجب لتحريم الأم والوطء الموجب للتحريم والرضاع والنسب كل هذه الأسباب لما تعلق بها تحريم مؤبد لم تفتقر إلى كونها عند الحاكم فلما لم يتعلق تحريم اللعان إلا بحكم الحاكم وهو أن يتلاعنا بأمره بحضرته ثبت أنه لا يوجب تحريما مؤبدا وأيضا لو أكذب نفسه قبل الفرقة بعد اللعان لجلد الحد ولم يفرق بينهما وأبو يوسف لا يخالفنا في ذلك لزوال حال التلاعن وبطلان حكمه بالحد الواقع به وجب مثله بعد الفرقة لزوال المعنى الذي من أجله وجبت الفرقة وهو حكم اللعان فإن قيل لو كان كذلك لوجب أنه إذا أكذب نفسه بعد الفرقة وجلد الحد أن يعود النكاح وتبطل الفرقة لزوال المعنى الموجب لها كما لا يفرق بينهما إذا أكذب نفسه بعد اللعان قبل الفرقة قيل له لا يجب ذلك لأنا إنما جعلنا زوال حكم اللعان علة لارتفاع التحريم الذي تعلق به لا لبقاء النكاح ولا لعود النكاح فعلى أي وجه بطل لم يعد إلا بعقد مستقبل إلا أن الفرقة قد تعلق بها تحريم غير البينونة وذلك التحريم إنما يرتفع بارتفاع حكم اللعان كما أن الطلاق الثلاث توجب البينونة وتوجب أيضا مع ذلك تحريما لا يزول إلا بزوج ثان يدخل بها فإذا دخل بها الزوج الثاني ارتفع التحريم الذي أوجبه الطلاق الثلاث ولم يعد نكاح الزوج الأول إلا بعد فراق الزوج الثاني وانقضاء العدة وإيقاع عقد مستقبل ودليل آخر وهو أن التحريم الواقع بالفرقة لما كان متعلقا بحكم اللعان وجب أن يرتفع بزوال حكمه والدليل على ارتفاع حكم اللعان إذا أكذب نفسه وجلد الحد أنه معلوم ان اللعان حد على ما بينا فيما سلف بمنزلة الجلد في قاذف الأجنبيات وممتنع أن يجتمع عليه حدان في قذف واحد فإيقاع الجلد لذلك القذف مخرج للعان من أن يكون حدا ومزيل لحكمه في إيجاب التحريم لزوال السبب الموجب له فإن قيل فهذا الذي ذكرت يبطل حكم اللعان لامتناع

اجتماع الحدين عليه بقذف واحد فواجب إذا جلد الزوج حدا في قذفه لغيرها أن لا يبطل حكم اللعان فيما بينهما فلا يتزوج بها قيل له إذا صار محدودا في قذفه فقد خرج من أن يكون من أهل اللعان ألا ترى أنه لو قذف امرأة له أخرى لم يلاعن وكان عليه الحد عندنا فالعلة التي ذكرنا في إكذابه نفسه فيما لاعن عليه امرأته وإن كانت غير موجودة في هذه فجائز قياسها عليها بمعنى آخر وهو خروجه من أن يكون من أهل اللعان فإن احتجوا بما روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد في قصة المتلاعنين قال الزهري فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وبما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبدالله الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذه القصة قال فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فأنفذه رسول الله ص
- وكان ما صنع النبي صلى الله عليه وسلم -
قال سهل حضرت هذا عند رسول الله ص
- فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا وبحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا سبيل لك عليها فإنها لو كانت تحل له بحال لبين كما بين الله تعالى حكم المطلقة ثلاثا في إباحتها بعد زوج غيره قيل له أما حديث الزهري الأول فإنه قول الزهري وقوله مضت السنة ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - سنها ولا أنه حكم بها وأما قول سهل بن سعد فمضت السنة من بعد في المتلاعنين أنهما لا يجتمعان أبدا ليس فيه أيضا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم -
مضت بذلك والسنة قد تكون من النبي ص
- وقد تكون من غيره فلا حجة في هذا وأيضا فإنه قال في المتلاعنين وهذا يصفه حكم يتعلق به وهو بقاؤهما على حكم التلاعن وكونهما من أهل اللعان فمتى زالت الصفة بخروجهما من أن يكونا من أهل اللعان زال الحكم كقوله تعالى ما على المحسنين من سبيل وقوله لا ينال عهدي الظالمين ونحو ذلك من الأحكام المعلقة بالصفات ومتى زالت الصفة زال الحكم فإن قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المتلاعنان لا يجتمعان أبدا قيل له ما نعلم أحدا روى ذلك بهذا اللفظ وإنما روي ما ذكرنا في حديث سهل بن سعد وهو أصل الحديث فإن صح هذا اللفظ فإنما أخذه الراوي من حديث سهل وظن أن هذه العبارة مبينة عما في حديث سهل ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يفد نفي النكاح بعد زوال حكم اللعان على النحو الذي بينا وأما قوله لا سبيل لك عليها فإنه يفيد تحريم النكاح وإنما هو إخبار بوقوع

الفرقة لأنه لا يصح إطلاق القول بأه لا سبيل لأحد على الأجنبيات ولا يفيد ذلك تحريم العقد فإن قيل قوله لا سبيل لك عليها ينفي جواز العقد إذ كان جوازه يوجب أن يكون له عليها سبيل قيل له ليس كذلك لأنا قد نقول لا سبيل لك على الأجنبية ولا نريد به أنه لا يجوز له تزويجها فيصير لك عليها سبيل بالتزويج وإنما نريد أنه لا يملك بضعها في الحال فإذا تزوجها فإنما صار له عليها سبيل برضاها وعقدها ألا ترى أن قوله ما على المحسنين من سبيل لم يمنع أن يصير عليهم سبيل في العقود المقتضية لإثبات الحقوق والسبيل عليه برضاه فكذلك قوله لا سبيل لك عليها إنما أفاد أنه لا سبيل لك عليها إلا برضاها
فصل قال أبو بكر واتفق أهل العلم أن الولد قد ينفى من الزوج باللعان وقد ذكرنا حديث ابن عمر وابن عباس في إلحاق الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وحكي عن بعض من شذ أنه للزوج ولا ينتفي نسبه باللعان واحتج بقوله ص
- الولد للفراش والذي قال الولد للفراش هو الذي حكم بقطع النسب من الزوج باللعان وليست الأخبار المروية في ذلك بدون ما روي في أن الولد للفراش فثبت أن معنى قوله الولد للفراش أنه لم ينتف باللعان وأيضا فلما بطل ما كان أهل الجاهلية عليه من استلحاق النسب بالزنا كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة بن خالد قال حدثني يونس بن يزيد قال قال محمد بن مسلم بن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها وجها إن أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع الرجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها ونكاح

رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتقطه ودعاه ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله النبي محمدا ص -

هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا نكاح أهل الإسلام اليوم فمعنى قوله ص
- الولد للفراش أن الأنساب قد كانت تلحق بالنطف في الجاهلية بغير فراش فألحقها النبي صلى الله عليه وسلم -
بالفراش وكذلك ما روي في قصة زمعة حين قال النبي ص
- الولد للفراش وللعاهر الحجر فلم يلحقه بالزاني وقال هو للفراش إخبارا منه أنه لا ولد للزاني ورده إلى عبد إذ كان ابن أمة أبيه ثم قال لسودة احتجبي منه إذ كان سببها بالمدعى له لأنه في ظاهره من ماء أخي سعد وهذا يدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ولو كان قضى بالنسب لما أمرها بالإحتجاب بل كان أمرها بصلته ونهاها عن الإحتجاب عنه كما نهى عائشة عن الإحتجاب عن عمها من الرضاعة وهو أفلح أخو أبي القعيس ويدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ما رواه سفيان الثوري وجرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبدالله بن الزبير قال كانت لزمعة جارية تبطنها وكانت تظن برجل آخر فمات زمعة وهي حبلى فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي يظن بها فذكرته سودة لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أما الميراث له وأما أنت فاحتجبي منه فإنه ليس لك بأخ فصرح في هذا الخبر بنفي نسبه من زمعة وإعطاء الميراث بإقرار عبد أنه أخوه وقد روي هذا الحديث على غير هذا الوجه وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن منصور ومسدد بن مسرهد قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ابن أمة زمعة فقال سعد أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابنه وقال عبد بن زمعة أخي ابن أمة أبي ولد على فراش أبي فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - شبها بينا بعتبة فقال الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة زاد مسدد فقال هو أخوك يا عبد قال أبو بكر الصحيح ما رواه سعيد بن منصور والزيادة التي زادها مسدد ما نعلم أحدا وافقه عليها وقد روي في بعض الالفاظ أنه قال هو لك يا عبد ولا يدل ذلك على أنه أثبت النسب لأنه جائز أن يريد به إثبات اليد له إذ كان من يستحق يدا في شيء جاز أن يضاف إليه فيقال هو له وقد قال عبدالله بن رواحة

لليهود حين خرص عليهم تمر خيبر إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي ولم يرد به الملك ومعلوم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يرد بقوله هو لك يا عبد إثبات الملك فادعى خصمنا أنه أراد إثبات النسب وذلك لا يوجب إضافته إليه في الحقيقة على هذا الوجه لأن قوله هو لك إضافة الملك والأخ ليس بملك فإذ لم يرد به الحقيقة فليس حمله على إثبات النسب بأولى من حمله على إثبات اليد ويحتمل لو صحت الرواية أنه قال هو أخوك أن يريد به أخوة الدين وأنه ليس بعبد لإقراره بأنه حر ويحتمل أن يكون أصل الحديث ما ذكر بعض الرواة أنه قال هو لك وظن الراوي أن معناه أنه أخوه في النسب فحمله على المعنى عنده في خبر سفيان وجرير الذي يرويه عبدالله بن الزبير أنه قال ليس لك بأخ وهذا لا احتمال فيه فوجب حمل خبر الزهري الذي روينا على الوجوه التي ذكرنا قال أبو بكر وقوله الولد للفراش قد اقتضى معنيين أحدهما إثبات النسب لصاحب الفراش والثاني أن من لا فراش له فلا نسب له لأن قوله الولد اسم للجنس وكذلك قوله الفراش للجنس لدخول الألف واللام عليه فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر فكأنه قال لا ولد إلا للفراش وفيما حكم الله تعالى به من آية اللعان دلالة على أن الزنا والقذف ليسا بكفر من فاعلهما لأنهما لو كانا كفرا لوجب أن يكون أحد الزوجين مرتدا لأنه إن كان الزوج كاذبا في قذفها فواجب أن يكون كافرا وإن كان صادقا فواجب أن تكون المرأة كافرة بزناها وكان يجب أن تبين منه امرأته قبل اللعان فلما حكم الله تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونتها منه قبل اللعان ثبت أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودل على بطلان مذهب الخوارج في قولهم إن ذلك كفر وتدل الآية أيضا على أن القاذف مستحق للعن من الله تعالى إذا كان في قذفه كاذبا وأن الزنا يستحق به الغضب من الله لولا ذلك لما جاز أن يأمرهما الله بذلك إذ غير جائز أن يأمرا بأن يدعوا على أنفسهما بما لا يستحقانه ألا ترى أنه لا يجوز أن يدعو على نفسه بأن يظلمه الله ويعاقبه بما لا يستحقه وقوله تعالى إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم نزلت في الذين قذفوا عائشة رضي الله عنها فأخبر الله أن ذلك كذب والإفك هو الكذب ونال النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وجماعة من المسلمين غم شديد وأذى وحزن فصبروا على ذلك فكان ذلك خيرا لهم ولم يكن صبرهم واغتمامهم بذلك شرا لهم بل كان خيرا لهم لما نالوا به من الثواب ولما لحقهم أيضا من

السرور ببيان الله براءة عائشة وطهارتها ولما عرفوا من الحكم في القاذف وقوله تعالى لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم يعني والله أعلم عقاب ما اكتسب من الإثم على قدر ما اكتسبه وقوله تعالى والذي تولى كبره روي أنه عبدالله بن أبي بن سلول وكان منافقا وكبره هو عظمه وإن عظم ما كان فيه لأنهم كانوا يجتمعون عنده وبرأيه وأمره كانوا يشيعون ذلك ويظهرونه وكان هو يقصد بذلك أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وأذى أبي بكر والطعن عليهما قوله تعالى لولا
إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين هو أمر المؤمنين بأن يظنوا خيرا بمن كان ظاهره العدالة وبراءة الساحة وأن لا يقضوا عليهم بالظن وذلك لأن الذين قذفوا عائشة لم يخبروا عن معاينة وإنما قذفوها تظننا وحسبانا لما رأوها متخلفة عن الجيش قد ركبت جمل صفوان بن المعطل يقوده وهذا يدل على أن الواجب لمن كان ظاهره العدالة أن يظن به خيرا ولا يقوم مستبشرا وهو يوجب أن يكون أمور المسلمين في عقودهم وأفعالهم وسائر تصرفهم محمولة على الصحة والجواز وأنه غير جائز حملها على الفساد وعلى ما لا يجوز فعله بالظن والحسبان ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد مع امرأة أجنبية رجلا فاعترفا بالتزويج أنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما وزعم مالك بن أنس أنه يحدهما إن لم يقيما بينة على النكاح ومن ذلك أيضا ما قال أصحابنا فيمن باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين أنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بحسن الظن بالمؤمنين وحمل أمورهم على ما يجوز فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما كذلك إذا باعه سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم إنا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف فنحمل أمرهما على أنهما تعاقدا عقدا جائزا ولا نحمله على الفساد وما لا يجوز وهذا يدل أيضا على صحة قول أبي حنيفة في أن المسلمين عدول مالم تظهر منهم ريبة لأنا إذا كنا مأمورين بحسن الظن بالمسلمين وتكذيب من قذفهم على جهة الظن والتخمين بما يسقط العدالة فقد أمرنا بموالاتهم والحكم لهم بالعدالة بظاهر حالهم وذلك يوجب التزكية وقبول الشهادة ما لم تظهر منهم ريبة توجب التوقف عنها أو ردها وقال تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئا وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله ظن
المؤمنون والمؤمنات بأنفسهن خيرا فإنه يحتمل معنيين أحدهما أن يظن بعضهم ببعض خيرا كقوله فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم والمعنى

فليسلم بعضكم على بعض وكقوله لا تقتلوا أنفسكم يعني لا يقتل بعضكم بعضا والثاني أنه جعل المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه قد جرى على جميعهم كما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبدالله أحمد بن دوست قال حدثنا جعفر بن حميد قال حدثنا الوليد بن أبي ثور قال حدثنا عبدالملك بن عمير عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم كمثل الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسهر والحمى وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال حدثنا محمد بن عبدالملك بن زنجويه قال حدثنا عبدالله بن ناصح قال حدثنا أبو مسلم عبدالله بن سعيد عن مالك بن مغول عن أبي بردة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - المؤمنون للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضا قوله تعالى لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون قد أبانت هذه الآية عن معنيين أحدهما أن الحد واجب على القاذف مالم يأت بأربعة شهداء والثاني أنه لا يقبل في إثبات الزنا أقل من أربعة شهداء وقوله فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون قال أبو بكر قد حوى ذلك معنيين أحدهما أنهم متى لم يقيموا أربعة من الشهداء فهم محكومون بكذبهم عند الله في إيجاب الحد عليهم فيكون معناه فأولئك في حكم الله هم الكاذبون فيقتضي ذلك الأمر بالحكم بكذبهم فإن كان جائزا أن يكونوا صادقين في المغيب عند الله وذلك جائز سائغ كما قد تعبدنا بأن نحكم لمن ظهر منه عمل الخيرات وتجنب السيئات بالعدالة وإن كان جائزا أن يكون فاسقا في المغيب عند الله تعالى والوجه الثاني أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها وفي قذفتها فأخبر بقوله فأولئك عند الله هم الكاذبون بمغيب خبرهم وأنه كذب في الحقيقة لم يرجعوا فيه إلى صحة فمن جور صدق هؤلاء فهو راد لخبر الله قوله تعالى إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم قرئ تلقونه بالتشديد قال مجاهد يرويه بعضهم عن بعض ليشيعه وعن عائشة تلقونه ومن ولق الكذب وهو الإستمرار عليه ومنه ولق فلان في السير إذا استمر عليه فذمهم تعالى على الإقدام على القول بما لا علم لهم به وذلك قوله تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وهو نحو قوله ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فأخبر أن ذلك

وإن كان يقينا في ظنهم وحسبانهم فهو عظيم الإثم عنده ليرتدعوا عن مثله عند علمهم بموقع المأثم فيه ثم قال ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم تعليما لنا بما نقوله عند سماع مثله فيمن كان ظاهر حاله العدالة وبراءة الساحة قوله تعالى سبحانك هذا بهتان عظيم أي تنزيها لك من أن نغضبك بسماع مثل هذا القول في تصديق قائله وهو كذب وبهتان في ظاهر الحكم وقوله تعالى يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا فإنه تعالى يعظنا ويزجرنا بهذه الزواجر وعقاب الدنيا بالحد مع ما نستحق من عقاب الآخرة لئلا نعود إلى مثل هذا الفعل أبدا إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين لرسوله قوله تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أبان الله بهذه الآية وجوب حسن الإعتقاد في المؤمنين ومحبة الخير والصلاح لهم فأخبر فيها بوعيد من أحب إظهار الفاحشة والقذف والقول القبيح للمؤمنين وجعل ذلك من الكبائر التي يستحق عليها العقاب وذلك يدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف الجوارح والقول عما يضر بهم وروى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المؤمن من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وقال ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال حدثنا سهل بن عثمان قال حدثنا زياد بن عبدالله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا هدبة قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير قوله تعالى ولا
يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى روي عن ابن عباس وعائشة أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويتيمين كانا في حجره ينفق عليهما أحدهما مسطح بن أثاثة وكان ممن خاض في أمر عائشة فلما نزلت براءتها حلف أبو بكر أن لا ينفعهما بنفع أبدا فلما نزلت هذه الآية عاد له وقال بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي والله لا أنزعها عنهما أبدا وكان مسطح ابن خالة أبي بكر مسكينا ومهاجرا من مكة إلى المدينة من البدريين وفي هذا دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها إنه ينبغي

له أن يأتي الذي هو خير وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ومن الناس من يقول إنه يأتي الذي هو خير وذلك كفارته وقد روي أيضا في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم - ويحتج من يقول ذلك بظاهر هذه الآية وإن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة وليس فيما ذكروا دلالة على سقوط الكفارة لأن الله قد بين إيجاب الكفارة في قوله ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته وقوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وذلك عموم فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره وقال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وقد علمنا أن الحنث كان خيرا من تركه وأمره الله تعالى بضرب لا يبلغ منها ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته فإن معناه تكفير الذنب لا الكفارة المذكورة في الكتاب وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة الله فأمره النبي صلى الله عليه وسلم - بالحنث والتوبة وأخبر أن ذلك يكفر ذنبه الذي اقترفه بالحلف قوله تعالى الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك قالوا الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال وروي عن ابن عباس أيضا انه قال الخبيثات من السيآت للخبيثين من الرجال وهو قريب من الأول وهو نحو قوله قل كل يعمل على شاكلته وقيل الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال على نحو قوله الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين وأن ذلك منسوخ بما ثبت في موضعه
باب

الاستئذان
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها روي عن ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم وقتادة قالوا الإستيناس الاستئذان فيكون معناه حتى تستأنسوا بالإذن وروى شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذا الحرف حتى تستأذنوا وقال غلط الكاتب وروى القاسم بن نافع عن مجاهد حتى تستأنسوا قال هو التنحنح والتنخع وفي نسق التلاوة ما دل

على إنه أراد الاستئذان وهو قوله وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم الاستيناس قد يكون للحديث كقوله تعالى ولا مستأنسين لحديث وكا روي عن عمر في حديثه الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

انفرد في مشربة له حين هجر نساءه فاستأذنت عليه فقال الإذن قد سمع كلامك
ثم أذن له فذكر أشياء وفيه قال فقلت استأنس يا رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال نعم وإنما أراد به الاستيناس للحديث وذلك كان بعد الدخول والاستيناس المذكور في قوله حتى تستأنسوا لا يجوز أن يكون المراد به الحديث لأنه لا يصل إلى الحديث إلا بعد الإذن وإنما المراد الاستئذان للدخول وإنما سمي الاستئذان استيناسا لأنهم إذا استأذنوا أو سلموا أنس أهل البيوت بذلك ولو دخلوا عليهم بغير إذن لاستوحشوا وشق عليهم وأمر مع الاستئذان بالسلام إذ هو من سنة المسلمين التي أمروا بها ولأن السلام أمان منه لهم وهو تحية أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغنة حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يوسف بن يعقوب قال حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا صفوان بن عيسى قال حدثنا الحارث بن عبدالرحمن بن أبي رباب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لما خلق الله آدم فنفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله فحمد الله بإذن الله فقال له ربه رحمك ربك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة وملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم فقال سلام عليكم ورحمة الله ثم رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن إسحاق بن راطية قال حدثنا إبراهيم بن سعيد قال حدثنا يحيى بن نصر بن حاجب قال حدثنا هلال بن حماد عن ذادان عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حق المسلم على المسلم ست يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه وينصح له بالغيب ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي قال حدثنا أبو غسان النهدي قال حدثنا زهير قال حدثنا الأعمش عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا محمد بن معلى قال حدثنا زياد بن خيثمة عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال

إن سركم أن يخرج الغل من صدوركم فافشوا السلام بينكم
باب

في عدد الاستئذان وكيفيته
روى دهيم بن قران عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن عثمان عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الاستئذان ثلاث فالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون وروى يونس بن عبيد عن الوليد بن مسلم عن جندب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبدة قال أخبرنا سفيان عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعا فقلنا له ما أفزعك قال أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت فقال ما منعك أن تأتيني قلت قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع قال لتأتين على هذا بالبينة قال فقال أبو سعيد لا يقوم معك إلا أصغر القوم قال فقام أبو سعيد معه فشهد له وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى إني لم أتهمك ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - شديد وفي بعضها ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر إنما لم يقبل عمر خبره حتى استفاض عنده لأن أمر الاستئذان مما بالناس إليه حاجة عامة فاستنكر أن تكون سنة الاستئذان ثلاثا مع عموم الحاجة إليها ثم لا ينقلها إلا الأفراد وهذا أصل في أن ما بالناس إليه حاجة عامة لا يقبل فيه إلا خبر الاستفاضة وحدنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد قال وقف رجل على باب النبي صلى الله عليه وسلم - يستأذن فقام مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم - هكذا عنك أو هكذا فإنما جعل الاستئذان من النظر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن بشار قال حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبدالله بن صفوان أخبره عن كلدة أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم -
بأعلى مكة فدخلت ولم أسلم فقال ارجع فقل السلام عليكم وذاك بعدما أسلم
صفوان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو بكر

ابن أبي شيبة قال حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم -

وهو في بيت فقال ألج فقال النبي ص
- لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقال له قل السلام عليكم أأدخل فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم - فدخل وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن فضل الحراني في آخرين قالوا حدثنا بقية قال حدثنا محمد بن عبدالرحمن عن عبدالله بن بسر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قوم لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم وذلك أن الدور لم تكن يومئذ عليها ستور قال أبو بكر ظاهر قوله لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا يقتضي جواز الدخول بعد الآستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن ولذلك قال مجاهد الإستئناس التنحنح والتنخع فكأنه إنما أراد أن يعلمهم بدخوله وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول بغير إذن إلا أنه معلوم أنه قد أريد به الإذن في الدخول فحذفه لعلم المخاطبين بالمراد وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن حبيب وهشام عن محمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال رسول الرجل إلى الرجل إذنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حسين بن معاذ قال حدثنا عبدالأعلى قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إذا دعي أحدكم مع الطعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن فدل هذا الخبر على معنيين أحدهما أن الإذن محذوف من قوله حتى تستأنسوا وهو مراد به والثاني أن الدعاء إذن إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذان ثان وهو يدل أيضا على أن من قد جرت العادة بإباحة الدخول أنه غير محتاج إلى الإستئذان فإن قيل قد روى أبو نعيم عن عمر بن زر عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول والله إني كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع إني كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل فمر بي عمر ففعلت مثل ذلك فمر ولم يفعل فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي ثم قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال الحق بي ومضى واتبعته فدخل واستأذنت فأذن لي فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال من أين هذا قالوا أهدى

لك فلان أو فلانة قال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال الحق أهل الصفة فادعهم لي قال وأهل الصفة أضياف أهل الإسلام لا يلوون على أهل ولا مال إذا أتته صدقة بعث بها إليهم لم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها فساءني ذلك فقلت وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أرجو أن أصيب من هذا شربة أتقوى بها فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا جاؤا فأمرني فكنت أنا أعطيهم فما عسى أن يبلغ مني هذا اللبن فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا حتى استأذنوا فأذن لهم فأخذوا مجالسهم من البيت فقال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال خذ فأعطهم فأخذت القدح فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح فأعطيه آخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده ونظر إلي فتبسم وقال يا أبا هر قلت لبيك يا رسول الله قال بقيت أنا وأنت قلت صدقت يا رسول الله قال فاقعد واشرب فشربت فما ذال يقول اشرب فأشرب حتى قلت والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال فأرني فأعطيته القدح فحمد الله وشرب الفضل قال فقد استأذن أهل الصفة وقد جاؤا مع الرسول ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وهذا مخالف لحديث أبي هريرة عن النبي ص
- أن رسول الرجل إلى الرجل إذنه قيل له ليسا مختلفين لأن قوله ص - إباحة للدخول مع الرسول وليس فيه كراهية الإستئذان بل هو مخير حينئذ وإذا لم يكن مع الرسول وجب حينئذ الإستئذان والذي يدل على أن الإذن مشروط في قوله حتى تستأنسوا قوله في نسق التلاوة فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم فحظر الدخول إلا بالإذن فدل على أن الإذن مشروط في إباحة الدخول في الآية الأولى وأيضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخبار التي قدمناها إنما جعل الإستئذان من أجل النظر فدل على أنه لا يجوز النظر في دار أحد إلا بإذنه وقد روي في ذلك ضروب من التغليظ وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا حماد عن عبيدالله بن أبي بكر عن أنس بن مالك أن رجلا اطلع من بعض حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمشقص أو بمشاقص قال فكأني أنظر إلى رسول الله يختله ليطعنه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن قال حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير عن الوليد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا دخل البصر

فلا إذن وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن سهيل عن أبيه قال حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه قال أبو بكر والفقهاء على خلاف ظاهره لأنهم يقولون أنه ضامن من إذا فعل ذلك وهذا من أحاديث أبي هريرة التي ترد لمخالفتها الأصول مثل ما روي أو ولد الزنا شر الثثة وأن ولد الزنا لا يدخل الجنة ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ومن غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ هذه كلها أخبار شاذة قد اتفق الفقهاء على خلاف ظواهرها وزعم الشافعي أن من اطلع في دار غيره ففقأ عينه وهو هدر وذهب إلى ظاهر هذا الخبر ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامنا وكان عليه القصاص إن كان عامدا والأرش إن كان مخطئا ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الإطلاع الدخول وظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الإتفاق فإن صح الحديث فمعناه عندنا فيمن اطلع في دار قوم ناظرا إلى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت عنه في حال الممانعة فهذا هدر وكذلك من دخل دار قوم أو أراد دخولها فمانعوه فذهبت عينه أو شيء من أعضائه فهو هدر ولا يختلف فيه حكم الداخل والمطلع فيها من غير دخول فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم تقع فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته بظاهر قوله تعالى العين بالعين إلى قوله والجروح قصاص قوله تعالى فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم قد تضمن ذلك معنيين أحدهما أنه لا ندخل بيوتا غيرنا إلا بإذنه والثاني إنه إذا أذن لنا جاز الدخول واقتضى ذلك جواز قبول الإذن ممن أذن صبيا كان أو امرأة أو عبدا أو ذميا إذ لم تفرق الآية بين شيء من ذلك وهذا أصل في قبول أخبار المعاملات من هؤلاء وأنه لا تعتبر فيها العدالة ولا تستوفي فيها صفات الشهادة ولذلك قبلوا أخبار هؤلاء في الهدايا والوكالات ونحوهما
باب

في الإستئذان على المحارم
روى شعب عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد قال سأل رجل حذيفة أأستأذن على أختي قال إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوءك وروي عن ابن عيينة عن عمرو عن عطاء قال سألت ابن عباس أأستأذن على أختي قال نعم قال قلت إنها معي في البيت وأنا أنفق عليها

قال استأذن عليها وروى سفيان عن مخارق عن طارق قال قال رجل لابن مسعود أأستأذن على أمي قال نعم وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم - قال أأستأذن على أمي قال نعم أتحب أن تراها عريانة وقال عمرو عن عطاء سألت ابن عباس أأستأذن على أختي وأنا أنفق عليها قال نعم أتحب أن تراها عريانة إن الله يقول يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم فلم يؤمر هؤلاء بالإستئذان إلا في العورات الثلاث ثم قال وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ولم يفرق بين من كان منه أجنبيا أو ذا رحم محرم إلا أن أمر ذوي المحارم أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوهما من الأعضاء وقوله تعالى وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم بعد قوله فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم يدل على أن للرجل أن ينهى من لا يجوز له دخول داره عن الوقوف على باب داره أو القعود عليه لقوله تعالى وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ويمتنع أن يكون المراد بذلك حظر الدخول إلا بعد الإذن لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرحا به في الآية فواجب أن يكون لقوله وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا فائدة مجددة وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره فواجب عليه التنحي عنه لئلا يتأذى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجهم وفيما ينصرف عليه أموره في داره مما لا يجب أن يطلع عليه غيره قوله تعالى ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم 6 قال محمد بن الحنفية هي بيوت الخانات التي تكون في الطرق وبيوت الأسواق وعن الضحاك وقال الحسن وإبراهيم النخعي كانوا يأتون حوانيت السوق لا يستأذنون وقال مجاهد كانت بيوتا يضعون فيها أمتعتهم فأمروا أن يدخلوها بغير إذن وروي عنه أيضا أنه قال هي البيوت التي تنزلها السفر وروي عن أبي عبيد المحاربي قال رأيت عليا رضي الله عنه أصابته السماء وهو في السوق فاستظل بخيمة فارسي فجعل الفارسي يدفعه عن خيمته وعلي يقول إنما أستظل من المطر فجعل الفارسي يدفعه ثم أخبر الفارسي أنه علي فضرب بصدره وقال عكرمة بيوتا غير مسكونة هي البيوت الخربة لكم فيها حاجة وقال ابن جريج عن عطاء فيها متاع لكم الخلاء والبول وجائز أن يكون المراد جميع ذلك إذ كان الإستئذان في البيوت المسكونة لئلا يهجم على مالا يجب من العورة ولأن العادة قد جرت في مثله

بإطلاق الدخول فصار المعتاد المعارف كالمنطوق به والدليل على أن معنى إطلاق ذلك لجريان العادة في الإذن أن أصحابها لو منعوا الناس من دخول هذه البيوت كان لهم ذلك ولم يكن لأحد أن يدخلها بغير إذن ونظير ذلك فيا جرت العادة بإباحته وقام ذلك مقام الإذن فيه ما يطرحه الناس من النوى وقمامات البيوت والخرق في الطرق أن لكل أحد أن يأخذ ذلك وينتفع به وهو أيضا يدل على صحة اعتبار أصحابنا هذا المعنى في سائر ما يكون في معناه مما قد جرت العادة به وتعارفوه أنه بمنزلة النطق كنحو قولهم فيما يلحقونه برأس المال من طعام الرقيق وكسوتهم وفي حمولة المتاع أنه يلحقه برأس المال ويبيعه مرابحة فيقول قام علي بكذا وما لم تجر العادة به لا يلحقه برأس المال فقامت العادة في ذلك مقام النطق وفي نحوه قول محمد فيمن أسلم إلى خياط أو قصار ثوبا ليخيطه ويقصره ولم يشرط له أجرا أن الأجر قد وجب له إذا كان قد نصب نفسه لذلك وقامت العادة في مثله مقام النطق في أنه فعله على وجه الإجارة وقد روى سفيان عن عبدالله بن دينار قال كان ابن عمر يستأذن في حوانيت السوق قذكر ذلك لعكرمة فقال ومن يطيق ما كان ابن عمر يطيق وليس في فعله ذلك دلالة على أنه رأى دخولها بغير إذن محظورا ولكنه احتاط لنفسه وذلك مباح لكل أحد
باب

ما يجب من غض البصر عن المحرمات
قال الله تعالى قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم قال أبو بكر معقول من ظاهره أنه أمر بغض البصر عما حرم علينا النظر إليه فحذف ذكر ذلك اكتفاء بعلم المخاطبين بالمراد وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن أبي الطفيل عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا علي إن لك كنزا في الجنة وإنك ذو وفر منها فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الثانية وروى الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ابن آدم لك أول نظرة وإياك والثانية وروى أبو زرعة عن جرير أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري قال أبو بكر إنما أراد ص
- بقوله لك النظرة الأولى إذا لم تكن عن قصد فأما إذا كانت عن قصد فهي والثانية سواء وهو على ما سأل عنه جرير من نظرة الفجاءة وهو مثل قوله إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا وقوله وقل للمؤمنات

يغضضن من أبصارهن هو على معنى ما نهي الرجال عنه من النظر إلى ما حرم عليه النظر إليه وقوله تعالى ويحفظوا فروجهم وقوله ويحفظن فروجهن فإنه روي عن أبي العالية أنه قال كل آية في القرآن يحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن من الزنا إلا التي في النور يحفظوا فروجهم ويحفظن فرجهن أن لا ينظر إليها أحد قال ابو بكر هذا تخصيص بلا دلالة والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم عليه من الزنا واللمس والنظر وكذلك سائر الآي المذكورة في هذا الموضع في حفظ الفروج هي على جميع ذلك ما لم تقم الدلالة على أن المراد بعض ذلك دون بعض وعسى أن يكون أبو العالية ذهب في إيجاب التخصيص في النظر لما تقدم من الأمر بغض البصر وما ذكره لا يوجب ذلك لأنه لا يمتنع أن يكون مأمورا بغض البصر وحفظ الفرج من النظر ومن الزنا وغيره من الأمور المحظورة وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فلا محالة إن اللمس والوطء مرادان بالآية إذ هما أغلظ من النظر فلو نص الله على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء واللمس كما أن قوله فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما قد اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب قوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء في قوله إلا ما ظهر منها قال ما كان في الوجه والكف الخضاب والكحل وعن ابن عمر مثله وكذلك عن أنس وروي عن ابن عباس أيضا أنها الكف والوجه والخاتم وقالت عائشة الزينة الظاهرة القلب والفتخة وقال أبو عبيدة الفتخة الخاتم وقال الحسن وجهها وما ظهر من ثيابها وقال سعيد بن المسيب وجهها مما ظهر منها وروى أبو الأحوص عن عبدالله قال الزينة زينتان زينة باطنة لا يراها إلا الزوج الإكليل والسوار والخاتم وأما الظاهرة فالثياب وقال إبراهيم الزينة الظاهرة الثياب قال أبو بكر قوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إنما أراد به الأجنبيين دون الزوج وذوي المحارم لأنه قد بين في نسق التلاوة حكم ذوي المحارم في ذلك وقال أصحابنا المراد الوجه والكفان لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف فإذ قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة النظر إلى الوجه والكفين ويدل على أن الوجه والكفين من المرأة ليسا بعورة أيضا أنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين فلو كانا عورة لكان عليها سترهما كما عليها ستر ما هو عورة وإذا كان

ذلك جاز للأجنبي أن ينظر من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة فإن كان يشتهيها إذا نظر إليها جاز أن ينظر لعذر مثل أن يريد تزويجها أو الشهادة عليها أو حاكم يريد أن يسمع إقرارها ويدل على أنه لا يجوز له النظر إلى الوجه لشهوة قوله ص -

لعلي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس لك الآخرة وسأل جرير رسول
الله ص - عن نظرة الفجاءة فقال اصرف بصرك ولم يفرق بين الوجه وغيره فدل على انه أراد النظرة بشهوة وإنما قال لك الأولى لأنها ضرورة وليس لك الآخرة لأنها اختيار وإنما أباحوا النظر إلى الوجه والكفين وإن خاف أن يشتهي لما ذكرنا من الأعذار للآثار الواردة في ذلك منها ما روى أبو هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -
انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا يعني الصغر وروى جابر عن النبي ص
- إذا خطب أحدكم فقدر على أن يرى منها ما يعجبه ويدعوه إليها فليفعل وروى موسى بن عبدالله بن يزيد عن أبي حميد وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم -
قال قال رسول الله ص
- إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وروى سليمان بن أبي حثمة عن محمد بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
مثله وروى عاصم الأحول عن بكير بن عبدالله عن المغيرة بن شعبة قال خطبنا
امرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم - نظرت إليها فقلت لا فقال انظر فإنه لأجدر أن يؤدم بينكما فهذا كله يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفيها بشهوة إذا أراد أن يتزوجها ويدل عليه أيضا قوله لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن ويدل على أن النظر إلى وجهها بشهوة محظور قوله ص - العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه وقول ابن مسعود في أن ما ظهر منها هو الثياب لا معنى له لأنه معلوم أنه ذكر الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة ألا ترى أن سائر ما تتزين به من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن هي لابستها فعلمنا أن المراد موضع الزينة كما قال في نسق التلاوة بعد هذا ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن والمراد موضع الزينة فتأويلها على الثياب لا معنى له إذ كان ما يرى الثياب عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها قوله تعالى وليضربن بخمرهن على جيوبهن روت صفية بنت شيبة عن عائشة أنها قالت نعم النساء نساء الأنصار لم يكن

يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين وأن يسئلن عنه لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجوز مناطقهن فشققنه فاختمرن به قال أبو بكر قد قيل إنه أراد حيب الدروع لأن النساء كن يلبسن الدروع ولها جيب مثل جيب الدراعة فتكون المرأة مكشوفة الصدر والنحر إذا لبستها فأمرهن الله بستر ذلك الموضع بقوله وليضربن بخمرهن على جيوبهن وفي ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليهما منها قوله تعالى ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن الآية قال أبو بكر ظاهره يقتضي إباحة إبداء الزينة للزوج ولمن ذكر معه من الآباء وغيرهم ومعلوم أن المراد موضع الزينة وهو الوجه واليد والذراع لأن فيها السوار والقلب والعضد وهو موضع الدملج والنحر والصدر موضع القلادة والساق موضع الخلخال فاقتضى ذلك إباحة النظر للمذكورين في الآية إلى هذه المواضع وهي مواضع الزينة الباطنة لأنه خص في أول الآية إباحة الزينة الظاهرة للأجنبيين وأباح للزوج وذوي المحارم النظر إلى الزينة الباطنة وروي عن ابن مسعود والزبير القرط والقلادة والسوار والخلخال وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم أو أبناء بعولتهن قال ينظر إلى ما فوق الذراع من الأذن والرأس قال أبو بكر لا معنى لتخصيص الأذن والرأس بذلك إذ لم يخصص الله شيئا من مواضع الزينة دون شيء وقد سوى في ذلك بين الزوج وبين من ذكر معه فاقتضى عمومه إباحة النظر إلى مواضع الزينة لهؤلاء المذكورين كما اقتضى إباحتها للزوج ولما ذكر الله تعالى مع الآباء ذوي المحارم الذين يحرم عليهم نكاحهن تحريما مؤبدا دل ذلك على أن من كان في التحريم بمثابتهم فحكمه حكمهم مثل زواج الإبنة وأم المرأة والمحرمات من الرضاع ونحوهن وروي عن سعيد بن جبير أنه سئل عن الرجل ينظر إلى شعر أجنبية فكرهه وقال ليس في الآية قال أبو بكر أنه وإن لم يكن في الآية فهو في معنى ما ذكر فيها من الوجه الذي ذكرنا وهذا الذي ذكر من تحريم النظر في هذه الآية إلا ما خص منه إنما هو مقصور على الحرائر دون الإماء وذلك لأن الإماء لسائر الأجنبيين بمنزلة الحرائر لذوي محارمهن فيما يحل النظر إليه فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وذراعها وساقها وصدرها وثديها كما يجوز لذوي المحرم النظر إلى ذات محرمه لأنه لا خلاف أن للأجنبي النظر إلى شعر الأمة وروي أن عمر كان يضرب الإماء ويقول اكشفن رؤسكن ولا تتشبهن بالحرائر

فدل على أنهن بمنزلة ذوات المحارم ولا خلاف أيضا أنه يجوز للأمة أن تسافر بغير محرم فكان سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر حين جاز لهم السفر بهن ألا ترى إلى قوله ص - لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج فلما جاز للأمة أن تسافر بغير محرم علمنا أنها بمنزلة الحرة لذوي محرمها فيما يستباح النظر إليه منها وقوله لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج دال على اختصاص ذي المحرم باستباحة النظر منها إلى كل ما لا يحل للأجنبي وهو ما وصفنا بديا وروى منذر الثوري أن محمد بن الحنفية كان يمشط أمه وروى أبو البختري أن الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمشط وعن ابن الزبير مثله في ذات محرم منه وروي عن إبراهيم أنه لا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وأخته وخالته وعمته وكره الساقين قال أبو بكر لا فرق بينهما في مقتضى الآية وروى هشام عن الحسن في المرأة تضع خمارها عند أخيها قال والله مالها ذلك وروى سفيان عن ليث عن طاوس أنه كره أن ينظر إلى شعر ابنته وأخته وروى جرير عن مغيرة عن الشعبي أنه كره أن يسدد الرجل النظر إلى شعر ابنته وأخته قال أبو بكر وهذا عندنا محمول على الحال التي يخاف فيها أن تشتهى لأنه لو حمل على الحال التي يأمن فيها الشهوة لكان خلاف الآية والسنة ولكان ذو محرمها والأجنبيون سواء والآية أيضا مخصوصة في نظر الرجال دون النساء لأن المرأة يجوز لها أن تنظر من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر من الرجل وهو السرة فما فوقها وما تحت الركبة والمحظور عليهن من بعضهن لبعض ما تحت السرة إلى الركبة وقوله تعالى أو نسائهن روي أنه أراد نساء المؤمنات وقوله أو ما ملكت أيمانهن تأوله ابن عباس وأم سلمة وعائشة أن للعبد أن ينظر إلى شعر مولاته قالت عائشة وإلى شعر غير مولاته روي أنها كانت تمتشط والعبد ينظر إليها وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن المسيب أن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو مذهب أصحابنا إلا أن يكون ذا محرم وتأولوا قوله أو ما ملكت أيمانهن على الإماء لأن العبد والحر في التحريم سواء فهي وإن لم يجز لها أن تتزوجه وهو عبدها فإن ذلك تحريم عارض كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعر أختها وكمن عنده أربع

نسوة سائر النساء محرمات عليه في الحال ولا يجوز له أن يستبيح النظر إلى شعورهن فلما لم يكن تحريمها على عبدها في الحال تحريما مؤبدا كان العبد بمنزلة سائر الأجنبيين وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم والعبد ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن تسافر بها وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي فإن قيل هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع قيل له ليس كذلك لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله أو نسائهن وأراد بهن الحرائر المسلمات فجاز أن يظن ظان أن الإماء لا يجوز لهن النظر إلى شعر مولاتهن وإلى ما يجوز للحرة النظر إليه منها فأبان تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء وإنما خص نساءهن بالذكر في هذا الموضع لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال بقوله ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن إلى أخر ما ذكر فكان جائزا أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم فأبان تعالى إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كن ذوات محارم أو غير ذوات محارم ثم عطف على ذلك الإماء بقوله أو ما ملكت أيمانهن لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله أو نسائهن يقتضي الحرائر دون الإماء كما كان قوله وأنكحوا الأيامى منكم على الحرائر دون المماليك وقوله شهيدين من رجالكم الأحرار لإضافتهم إلينا كذلك قوله أو نسائهن على الحرائر ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر وقوله تعالى أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد قالوا الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له في النساء وقال عكرمة هو العنين وقال مجاهد وطاوس وعطاء والحسن هو الأبله وقال بعضهم هو الأحمق الذي لا أرب له في النساء وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة قالت فدخل رسول الله ص
- ذات يوم وهو ينعت امرأة فقال لا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكن فحجبوه وروى هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
دخل عليها وعنده مخنث فأقبل على أخي أم سلمة فقال يا عبد الله لو فتح
الله لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان

فقال لا أرى هذا يعرف ما ههنا لا يدخل عليكم فأباح النبي صلى الله عليه وسلم -

دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة فلم علم أنه يعرف أحوال
النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه وقوله تعالى أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء
قال
مجاهد هم الذين لا يدرون ما هن من الصغر وقال قتادة الذين لم يبلغوا الحلم منكم قال أبو بكر قول مجاهد أظهر لأن معنى أنهم لم يظهروا على عورات النساء إنهم لا يميزون بين عورات النساء والرجال لصغرهم وقلة معرفتهم بذلك وقد أمر الله تعالى الطفل الذي قد عرف عورات النساء بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم وأراد به الذي عرف ذلك واطلع على عورات النساء والذي لا يؤمر بالاستئذان أصغر من ذلك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع فلم يأمر بالتفرقة قبل العشر وأمر بها في العشر لأنه قد عرف ذلك في الأكثر الأعم ولا يعرفه قبل ذلك في الأغلب وقوله تعالى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن روى أبو الأحوص عن عبدالله قال هو الخلخال وكذلك قال مجاهد إنما نهيت أن تضرب برجلها ليسمع صوت الخلخال وذلك قوله ليعلم ما يخفين من زينتهن قال أبو بكر قد عقل من معنى اللفظ النهي عن إبداء الزينة وإظهارها لورود النص في النهي عن سماع صوتها إذ كان إظهار الزينة أولى بالنهي مما يعلم به الزينة فإذا لم يجز بأخفى الوجهين لم يجز بأظهرهما وهذا يدل على صحة القول بالقياس على المعاني التي قد علق الأحكام بها وقد تكون تلك المعاني تارة جلية بدلالة فحوى الخطاب عليها وتارة خفية يحتاج إلى الإستدلال عليها بأصول أخر سواها وفيه دلالة على أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها ولذلك كره أصحابنا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك وهو يدل أيضا على حظر النظر إلى وجهها للشهوة إذ كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة
باب الترغيب في النكاح
قال الله عز و جل وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم الآية قال

أبو بكر ظاهره يقتضي الإيجاب إلا أنه قد قامت الدلالة من إجماع السلف وفقهاء الأمصار على أنه لم يرد بها الإيجاب وإنما هو استحباب ولو كان ذلك واجبا لورد النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم -

ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة إليه فلما وجدنا عصر النبي ص
- وسائر الأعصار بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء فلم ينكروا ترك تزويجهم ثبت أنه لم يرد الإيجاب ويدل على أنه لم يرد الإيجاب أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه ولا تزويجها بغير أمرها وأيضا مما يدل على أنه على الندب اتفاق الجميع على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى فدل على أنه مندوب في الجميع ولكن دلالة الاية واضحة في وقوع العقد الموقوف إذ لم يخصص بذلك الأولياء دون غيرهم وكل أحد من الناس مندوب إلى تزويج الأيامى المحتاجين إلى النكاح فإن تقدم من المعقود عليهم أمر فهو نافذ وكذلك إن كانوا ممن يجوز عقدهم عليهم مثل المجنون والصغير فهو نافذ أيضا وإن لم يكن لهم ولاية ولا أمر فعقدهم موقوف على إجازة من يملك ذلك العقد فقد اقتضت الآية جواز النكاح على إجازة من يملكها فإن قيل هذا يدل على أن عقد النكاح إنما يليه الأولياء دون النساء وإن عقودهن على أنفسهن غير جائزة قيل له كذلك لأن الآية لم تخص الأولياء بهذا الأمر دون غيرهم وعمومه يقتضي ترغيب سائر الناس في العقد على الأيامى ألا ترى أن اسم الأيامى ينتظم الرجال والنساء وهو في الرجال لم يرد به الأولياء دون غيرهم كذلك في النساء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أخبار كثيرة في الترغيب في النكاح منها ما رواه ابن عجلان عن المقبري عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثلاثة حق على الله عونهم المجاهد في سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف وروى إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء وقال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وعن شداد بن أوس أنه قال لأهله زوجوني فإن النبي صلى الله عليه وسلم - أوصاني أن لا ألقى الله أعزب وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خلاد عن سفيان عن عبدالرحمن بن زياد عن عبدالله بن يزيد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر
قال حدثنا

سعيد بن منصور قال حدثنا سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عبيد بن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح قال إبراهيم بن ميسرة ولا أقول لك إلا ما قال عمر لأبي الزوائد ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور فإن قيل قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم عمومه يقتضي تزويج الأب ابنته البكر الكبيرة ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج البنت الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها بغير رضاها لعموم الآية قيل له معلوم أن قوله وأنكحوا الأيامى منكم لا يختص بالنساء دون الرجال لأن الرجل يقال له أيم والمرأة يقال لها أيمة وهو اسم للمرأة التي لا زوج لها والرجل الذي لا امرأة له قال الشاعر ... فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم ...
وقال آخر ... ذريني على أيم منكم وناكح ...
وقال عمر بن الخطاب ما رأيت مثل من يجلس أيما بعد هذه الآية وأنكحوا الأيامى منكم التمسوا الغنا في الباه فلما كان هذا الاسم شاملا للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء أيضا وأيضا قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم - باستئمار البكر بقوله البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر وذلك على الوجوب فلا يجوز تزويجها إلا بإذنها وأيضا فإن حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها وإنما أراد به البكر لأن البكر هي التي يكون سكوتها رضا وحديث ابن عباس في فتاة بكر زوجها أبوها بغير أمرها فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال النبي ص
- أجيزي ما صنع أبوك وقد بينا هذه المسألة فيما سلف قوله تعالى والصالحين من عبادكم وإمائكم فيه دلالة على أن للمولى أن يزوج عبده وأمته بغير رضاهما وأيضا لا خلاف أنه غير جائز للعبد والأمة أن يتزوجا بغير إذن وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر فثبت أن العبد والأمة لا يملكان ذلك فوجب أن يملك المولى منهما ذلك كسائر العقود التي لا يملكانها ويملكها المولى عليهما وقوله تعالى إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله خبر والمخبر الله تعالى ولا محالة على ما يخبر به فلا يخلو ذلك من أحد وجهين إما أن يكون خاصا في بعض المذكورين دون بعض إذ قد وجدنا من

يتزوج ولا يستغني بالمال وإما أن يكون المراد بالغنى العفاف فإن كان المراد خاصا فهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون أو يكون عاما فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والإستغناء به عن تعديه إلى المحظور فلا دلالة فيه إذا على أن العبد يملك وقد بينا مسألة ملك العبد في سورة النحل
باب

المكاتبة
قال الله تعالى والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا روي عن عطاء قال ما أراه إلا واجبا وهو قول عمرو بن دينار وروي عن عمر أنه أمر أنسا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى فرفع عليه الدرة وضربه وقال فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وحلف عليه ليكاتبنه وقال الضحاك إن كان للمملوك مال فعزيمة على مولاه أن يكاتبه وروى الحجاج عن عطاء قال إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب إنما هو تعليم وكذلك قوله الشعبي قال أبو بكر هذا ترغيب عند عامة أهل العلم وليس بإيجاب وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وما روي عن عمر في قصة سيرين يدل على ذلك أيضا لأنها لو كانت واجبة لحكم بها عمر عليه ولم يكن يحتاج أن يحلف على أنس لمكاتبته ولم يكن أنس أيضا يمتنع من شيء واجب عليه فإن قيل لو لم يكن يراها واجبة لما رفع عليه الدرة ولم يضربه قيل لأن عمر رضي الله عنه كان كالوالد المشفق للرعية فكان يأمرهم بما لهم فيه الحظ في الدين وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة ويدل على أنها ليست على الوجوب أنه موكول إلى غالب ظن المولى أن فيهم خيرا فلما كان المرجع فيه للمولى لم يلزمه الإجبار عليه وقوله إن علمتم فيهم خيرا روى عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم - فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا إن علمتم لهم حرفة ولا تدعوهم كلا على الناس وذكر ابن جريج عن عطاء إن علمتم فيهم خيرا قال ما نراه إلا المال ثم تلا قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا قال الخير المال فيما نرى قال وبلغني عن ابن عباس يعني بالخير المال وروى ابن سيرين عن عبيدة إن علمتم فيهم خيرا قال إذا صلى وعن إبراهيم وفاء وصدقا وقال مجاهد مالا وقال الحسن صلاحا في الدين قال أبو بكر الأظهر أنه أراد الصلاح فينتظم ذلك الوفاء والصدق وأداء الأمانة لأن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في

الدين ولو أراد المال لقال إن علمتم لهم خيرا لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال وأيضا فإن العبد لا مال له فلا يجوز أن يتأول عليه وما روي عن عبيدة إذا صلى فلا معنى له لأنه جائز مكاتبة اليهودي والنصراني بالآية وإن لم تكن لهم صلاة وقوله تعالى وآتوهم من مال الله الذي آتاكم اختلف أهل العلم في المكاتب هل يستحق على مولاه أن يضع عنه شيئا من كتابته فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري إن وضع عنه شيئا فهو حسن مندوب إليه وإن لم يفعل لم يجبر عليه وقال الشافعي هو على الوجوب وروي عن ابن سيرين في قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال كان يعجبهم أن تدعو له طائفة من مكاتبته قال أبو بكر ظاهر قوله كان يعجبهم أنه أراد به الصحابة وكذلك قول إبراهيم كانوا يكرهون وكانوا يقولون الظاهر من قول التابعي إذا قال ذلك أنه أراد به الصحابة فقول ابن سيرين يدل على أن ذلك كان عند الصحابة على الندب لا على الإيجاب لأنه لا يجوز أن يقال في الإيجاب كان يعجبهم وروى يونس عن الحسن وإبراهيم وآتوهم من مال الله الذي آتاكم قال حث عليه مولاه وغيره وروى مسلم بن أبي مريم عن غلام عثمان بن عفان قال كاتبني عثمان ولم يحط عني شيئا قال أبو بكر ويحتمل أن يريد بقوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ما ذكره في آية الصدقات من قوله وفي الرقاب وقد روى أن رجلا قال للنبي ص - علمني عملا يدخلني الجنة قال أعتق النسمة وفك الرقبة قال أليسا واحدا قال عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها وهذا يدل على أن قوله وفي الرقاب قد اقتضى إعطاء المكاتب فاحتمل أن يكون قوله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم دفع الصدقات الواجبات وأفاد بذلك جواز دفع الصدقة إلى المكاتب وإن كان مولاه غنيا ويدل عليه أنه أمر بإعطائه من مال الله وما أطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب وهذا يدل على أنه أراد مالا هو ملك لمن أمر بإيتائه وإن سبيله الصدقة وذلك الصدقات الواجبة في الأموال ويدل عليه قوله من مال الله الذي آتاكم وهو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح وعلى قول من يوجب حط بعض الكتابة ينبغي أن يسقط بعد عقد الكتابة وذلك خلاف موجب الآية من وجوه أحدها أنه إذا سقط لم يحصل مالا لله قد آتاه المولى

والثاني أن ما أتاه فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه وما سقط عقيب العقد لا يمكنه التصرف فيه ولم يحصل له عليه بل لا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه وأيضا لو كان الإيتاء واجبا لكان وجوبه متعلقا بالعقد فيكون العقد هو الموجب له وهو المسقط وذلك مستحيل لأنه إذا كان العقد يوجبه وهو بعينه مسقط استحال وجوبه لتنافي الإيجاب والإسقاط فإن قيل ليس يمتنع ذلك في الأصول لأن الرجل إذا زوج أمته من عبده يجب عليه المهر بالعقد ثم يسقط في الثاني قيل له ليس كذلك لأنه ليس الموجب له هو المسقط له إذا كان الذي يوجبه هو العقد والذي يسقطه هو حصول ملكه للمولى في الثاني فالموجب له غير المسقط وكذلك من اشترى أباه فعتق عليه فالموجب للملك هو الشرى والموجب للعتاق حصول الملك مع النسب ولم يكن الموجب له هو المسقط وقد حكى عن الشافعي أن الكتابة ليست بواجبة وأن يضع عنه بعد الكتابة واجب أقل ما يقع عليه اسم شيء ولو مات المولى قبل أن يضع عنه وضع الحاكم عنه أقل ما يقع عليه اسم شيء قال أبو بكر فلو كان الحط واجبا لما احتاج أن يضع عنه بل يسقط القدر المستحق كمن له على إنسان دين ثم صار للمدين عليه مثله أنه يصير قصاصا ولو كان كذلك لحصلت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحط مجهول فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء وذلك غير جائز وجملة ذلك أن الإيتاء لو كان فرضا لسقط ثم لا يخلو من أن يكون ذلك القدر معلوما أو مجهولا فإن كان معلوما فالواجب أن تكون الكتابة بما بقي فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف درهم والكتابة أربعة آلاف درهم وذلك فاسد من وجهين أحدهما أنه لا يصح الإشهاد على الكتابة بأربعة آلاف درهم ومع ذلك فلا معنى لذكر شيء لا يثبت وأيضا فإنه يعتق بأقل مما شرط وهذا فاسد لأن أداء جميعها مشروط فلا يعتق بأداء بعضها وأيضا فإن الشافعي قال المكاتب عبد ما بقي عليه درهم فالواجب إذا أن لا يسقط شيء ولو كان الإيتاء مستحقا لسقط وإن كان الإيتاء مجهولا فالواجب أن يسقط ذلك القدر فتبقى الكتابة على مال مجهول فإن قيل روى عطاء السائب عن أبي عبدالرحمن أنه كاتب غلاما له فترك له ربع مكاتبته وقال إن عليا كان يأمرنا بذلك ويقول هو قول الله وآتوهم من مال الله الذي آتاكم وروي عن مجاهد أنه قال تعطيه ربعا من جميع مكاتبته تعجله من مالك قيل له هذا يدل على أنهم لم يروا ذلك

واجبا وأنه على وجه الندب لأنه لو كان واجبا عندهم لسقط بعد عقد الكتابة هذا القدر إذ كان المكاتب مستحقا له ولم يكن المولى يحتاج إلى أن يعطيه شيئا فإن قيل قد يجوز أن يجب عليه مال الكتابة مؤجلا ويستحق هو على المولى أن يعطيه من ماله مقدار الربع فلا يصير قصاصا بل يستحق على المولى تعجيله فيكون مال الكتابة إلى أجله كمن له على رجل دين مؤجل فيصير للمدين على الطالب دين حال فلا يصير قصاصا له قيل له إن الله تعالى لم يفرق بين الكتابة الحالة والمؤجلة وكذلك من روى عنه من السلف الحط لم يفرقوا بين الحالة والمؤجلة ولم يفرق أيضا بين أن يحل مال الكتابة المؤجل وبين أن لا يحل فيما ذكروا من الحط والإيتاء فعلمنا أنه لم يرد به الإيجاب إذ لم يجعله قصاصا إذا كانت حالة أو كانت مؤجلة فحلت وأوجب الإيتاء في الحالين والإيتاء هو الإعطاء وما يصير قصاصا لا يطلق فيه الإعطاء ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما روى يونس والليث عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت جاءتني بريرة فقالت يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت لها عائشة ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي فعلت فأبوا وقالوا إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون ولاؤك لنا فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال لا يمنعك منها ابتاعي واعتقي فإنما الولاء لمن اعتق وذكر الحديث وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحوه فلما لم تكن قضت من كتابتها شيئا وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها كلها وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم - النكير عليها ولم يقل أنها تستحق أن يحط عنها بعض كتابتها أو أن يعطيها المولى شيئا من ماله ثبت أن الحط من الكتابة على الندب لا على الإيجاب لأنه لو كان واجبا لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم - ولقال لها ولم تدفعي إليهم مالا يجب لهم عليها ويدل عليه أيضا ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة أن جويرية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقالت إني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس أولا بن عم له فكاتبته فجئت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أستعينه على كتابتي فقال فهل لك في خير من ذلك فقالت وما هو يا رسول الله فقال أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت نعم قد فعلت ففي هذا الحديث أنه بذل لجويرية أداء جميع كتابتها عنها إلى مولاها ولو كان الحط واجبا لكان الذي يقصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بالأداء

عنها باقي كتابتها وقد روى عن عمر وعثمان والزبير ومن قدمنا قولهم من السلف أنهم لم يكونوا يرون الحط واجبا ولا يروى عن نظرائهم خلافه وما روي عن علي فيه فقد بينا أنه يدل على أنه رآه ندبا لا إيجابا ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر

قال
حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني عبدالصمد قال حدثنا همام قال حدثنا عباس الجريري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه بقدره وفي ذلك دلالة على أنه غير مستحق والله أعلم
باب الكتابة الحالة
قال الله تعالى قكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا فاقتضى ذلك جوازها حالة ومؤجلة لإطلاقه ذلك من غير شرط الأجل والاسم يتناولها في حال التعجيل والتأجيل كالبيع والإجارة وسائر العقود فواجب جوازها حالة لعموم اللفظ وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد تجوز الكتابة الحالة فإن إداها حين طلبها المولى منه وإلا رد في الرق وقال ابن القاسم عن مالك في رجل قال كاتبوا عبدي على ألف ولم يضرب لها أجلا أنها تنجم على المكاتب على قدر ما يرى من كتابة مثله وقدر قوته قال فالكتابة عند الناس منجمة ولا تكون حالة إن أبى ذلك السيد وقال الليث إنما جعل التنجيم على المكاتب رفقا بالمكاتب ولم يجعل ذلك رفقا بالسيد وقال المزني عن الشافعي لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين قال أبو بكر قد ذكرنا دلالة الآية على جوازها حالة وأيضا لما كان مال الكتابة بدلا عن الرقبة كان بمنزلة أثمان الأعيان المبيعة فتجوز عاجلة وآجلة وأيضا لا يختلفون في جواز العتق على مال حال فوجب أن تكون الكتابة مثله لأنه يدل على العتق في الحالين إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل فوجب أن لا يختلف حكمهما في جوازهما على بدل عاجل فإن قيل العبد لا يملك فيحتاج بعد الكتابة إلى مدة يمكنه الكسب فيها فوجب أن لا تجوز إلا مؤجلة إذ كانت تقتضي الأداء ومتى امتنع الأداء لم تصح الكتابة قيل له هذا غلط لأن عقد الكتابة يوجب ثبوت المال في ذمته للمولى ويصير بها المكاتب في يد نفسه ويملك اكتسابه وتصرفه وهو بمنزلة سائر الديون الثابتة في الذمم التي يجوز العقد

عليها ولو كانت هذه علة صحيحة لوجب أن لا يجوز العتق على مال حال لأنه لم يكن مالكا لشيء قبل العقد وإن جاز ذلك لأنه يملك في المستقبل بعد العتق فكذلك المكاتب يملك إكسابه بعقد الكتابة ولوجب أيضا أن لا يجوز شرى الفقير لابنه بثمن حال لأنه لا يملك شيئا وأن يعتق عليه إذا ملكه فلا يقدر على الأداء فإن قلت إنه يملك أن يستقرض قلنا في المكاتب مثله
باب

الكتابة من غير ذكر الحرية
قال
أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك بن أنس إذا كاتبه على ألف درهم ولم يقل إن أديت فأنت حر فهو جائز ويعتق بالأداء وقال المزني عن الشافعي إذا كاتبه على مائة دينار إلى عشر سنين كذا كذا نجما فهو جائز ولا يعتق حتى يقول في الكتابة إذا أديت هذا فأنت حر ويقول بعد ذلك إن قولي قد كاتبتك كان معقودا على أنك إذا أديت فأنت حر قال أبو بكر قوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا يقتضي جوازها من غير شرط الحرية ويتضمن الحرية لأن الله تعالى لم يقل فكاتبوهم على شرط الحرية فدل على أن اللفظ يتضمنها كلفظ الخلع في تضمنه للطلاق ولفظ البيع فيما يتضمن من التمليك والإجارة فيما يقتضيه من تمليك المنافع والنكاح في اقتضائه تمليك منافع البضع ويدل عليه أيضا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواقي فهو رقيق فأجاز الكتابة مطلقة على هذا الوجه من غير شرط حرية فيها وإذا صحت الكتابة مطلقة من غير شرط حرية وجب أن يعتق بالأداء لأن صحة الكتابة تقتضي وقوع العتق بالأداء
باب المكاتب متى يعتق
قال أبو بكر حكى أبو جعفر الطحاوي عن بعض أهل العلم أنه حكى عن ابن عباس أن المكاتب يعتق بعقد الكتابة وتكون الكتابة دينا عليه قال أبو جعفر لم نجد لذلك إسنادا ولم يقل به أحد نعلمه قال وقد روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال يؤدي المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي عليه دية عبد ورواه أيضا يحيى ابن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس وقال ابن عمر وزيد ين ثابث وعائشة وأم سلمة

وإحدى الروايتين عن عمر أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وروي عن عمر أنه إذا أدى النصف فهو غريم ولا رق عليه وقال ابن مسعود إذا أدى ثلثا أو ربعا فهو غريم وهو قول شريح وروى إبراهيم عن عبدالله أنه إذا أدى قيمة رقبته فهو غريم قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا أبو بدر قال حدثنا سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم ومن جهة النظر أن الأداء لما كان مشروطا في العتق وجب أن لا يعتق إلا بأداء الجميع كالعتق المعلق على شرط لا يقع إلا بوجود كمال الشرط ألا ترى أنه إذا قال إذا كلمت فلانا وفلانا فأنت حر أن العتق لا يقع إلا بكلامهما ويدل عليه أنه لما كان مال الكتابة بدلا من العتق لم يخل ذلك من أحد وجهين إما أن يوقع العتق بنفس العقد وذلك خلاف السنة والنظر على ما بينا أو أن يوقعه بعد الأداء فيكون بمنزلة البياعات التي لا يستحق تسليمها إلا بأداء جميع الثمن فثبت حين لم يقع بالعقد أنه لا يقع إلا بأداء الجميع واختلفوا في المكاتب إذا مات وترك وفاء فقال علي ابن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن الزبير تؤدى كتابته بعد موته ويعتق وهو قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف ومحمد وابن أبي ليلى وابن شبرمة وعثمان البتي والثوري والحسن ابن صالح وقالوا إن فضل شيء فهو ميراث لورثته فإن لم يترك وفاء وترك ولدا وافى كتابته سعوا فيما على أبيهم من النجوم وقال مالك والليث إن ترك ولدا قد دخلوا في كتابته سعوا فيها على النجوم وعتق المكاتب وولده وإن لم يترك من دخل في كتابته فقد مات عبدا لا تؤدى كتابته من ماله وجميع ماله للمولى وقال الشافعي إذا مات وقد بقي عليه درهم فقد مات عبدا لا يلحقه عتق بعد ذلك وروي عن ابن عمر أن جميع ماله لسيده ولا تؤدى منه كتابته قال أبو بكر لا تخلوا الكتابة من أن تكون في معنى الأيمان المعقودة على شروط يبطلها موت المولى أو العبد أيهما كان مثل أن يقول إن دخلت الدار فأنت حر ثم يموت المولى أو العبد فيبطل اليمين ولا يعتق بالشرط أو أن تكون في معنى عقود البياعات التي لا تبطلها الشروط فلما كان موت المولى لا يبطل الكتابة ويعتق بالأداء إلى الورثة وجب أن لا يبطله موت العبد أيضا ما دام الأداء ممكنا وهو أن يترك وفاء فتؤدى كتابته من ماله ويحكم بعتقه قبل الموت بلا فصل فإن قيل لا يصح

عتق الميت وقد علمنا أنه مات عبدا لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم قيل له إذا مات وترك وفاء فحكمه موقوف مراعى فإن أديت كتابته حكمنا بأنه كان حرا قبل الموت بلا فصل كما أن الميت لا يصح منه إيقاع عتق بعد الموت ثم إذا مات المولى فأدى المكاتب الكتابة حكمنا بعتق موقع من جهة الميت ويكون الولاء له وليس يمتنع في الأصول نظائر ذلك من كون الشيء مراعى على معنى متى وجد حكم بوقوعه بحال متقدمة مثل من جرح رجلا فيكون حكم جراحته مراعى فلو مات الجارح ثم مات المجروح من الجراحة حكمنا بأنه كان قاتلا يوم الجراحة مع استحالة وقوع القتل منه بعد موته وكما أن رجلا لو حفر بئرا في طريق المسلمين ثم مات فوقعت فيها دابة لحقه ضمانها وصار بمنزلة جنايته قبل الموت من بعض الوجوه فلو كان ترك عبدا فأعتقه الوارث ثم وقعت فيها دابة ضمن الوارث قيمة العبد وحكمنا في باب الضمان بأن الجناية كانت موجودة يوم الموت ولو أن رجلا مات وترك حملا فوضعته لأقل من سنتين بيوم ورثه وإن كان معلوما أنه كان نطفة وقت موته ولم يكن ولدا ثم قد حكمنا له بحكم الولد حين وضعته ولو أن رجلا مات وترك ابنين وألف درهم وعليه دين ألف درهم أنهما لا يرثانه فإن مات أحد الابنين عن ابن ثم أبرأ الغريم من الدين أخذ ابن الميت منها حصته ميراثا عن أبيه ومعلوم أن الابن لم يكن مالكا له يوم الموت ولكنه جعل في حكم المالك لتقدم سببه كذلك المكاتب يحكم بعتقه عند الأداء قبل الموت بلا فصل ألا ترى أن المقتول خطأ لا تجب ديته إلا بعد الموت وهو لا يملك بعد الموت شيئا فجعلت الدية في حكم ما هو مالكه في باب كونها ميراثا لورثته وأنه يقضي منها دينه وتنفذ منها وصاياه قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا روى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال كان عبدالله بن أبي يقول لجاريته اذهبي فابغينا شيئا فأنزل الله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء الآية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ومن يكرههن الآية قال لهن غفور رحيم قال أبو بكر أخبر تعالى أن المكرهة على الزنا مغفور لها ما فعلته على وجه الأكراه كما بين تعالى في آية أخرى أن الإكراه على الكفر يزيل حكمه إذا أظهره المكره عليه بلسانه وإنما قال إن أردن تحصنا لو أرادت الزنا ولم ترد التحصن ثم فعلته على ما ظهر من الإكراه وهي مريدة له كانت آثمة بهذه الإرادة وكان حكم الإكراه زائلا عنها في

الباطن وإن كان ثابتا في الظاهر وكذلك من أكره على الكفر وهو يأباه في الظاهر إلا أنه فعله مريدا له لا على وجه الأكراه كان كافرا وكذلك قال أصحابنا فيمن أكره على أن يقول الله ثالث ثلاثة على أن يشتم النبي صلى الله عليه وسلم -

فخطر بباله أن يقوله على وجه الحكاية عن الكفار أو أن يعتقد شتم محمد آخر
غير النبي صلى الله عليه وسلم - فلم يصرف قصده ونيته إلى ذلك واعتقد أن يقوله على الوجه الذي أكره عليه كان كافرا قوله تعالى الله نور السموات والأرض روي عن ابن عباس في إحدى الروايتين وعن أنس هادى أهل السموات والأرض وعن ابن عباس أيضا وأبي العالية والحسن منور السموات والأرض بنجومها وشمسها وقمرها وقوله تعالى مثل نوره قال أبي بن كعب والضحاك الضمير عائد على المؤمن في قوله نوره بمعنى مثل النور الذي في قلبه بهداية الله تعالى وقال ابن عباس عائد على اسم الله بمعنى مثل نور الله الذي هدى به المؤمن وعن ابن عباس أيضا مثل نوره وهو طاعته وقال ابن عباس وابن جريج المشكاة الكوة التي لا منفذ لها وقيل إن المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة وهو مثل الكوة وعن أبي بن كعب قال هو مثل ضربه الله تعالى لقلب المؤمن فالمشكاة صدره والمصباح القرآن والزجاجة قلبه قال فهو بين أربع خلال إن أعطى شكر وإن ابتلي صبر وإن حكم عدل وإن قال صدق وقال نور على نور فهو ينقلب على خمسة أنوار فكلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة وقيل نور على نور أي نور الهدى إلى توحيده على نور الهدى بالقرآن الذي أتى به من عنده وقال زيد بن أسلم نور على نور يضيء بعضه بعضا قوله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها الآية قيل إن معناه إن المصابيح المقدم ذكرها في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو وقيل توقد في بيوت أذن الله أن ترفع وقال ابن عباس هذه البيوت هي المساجد وكذلك قال الحسن ومجاهد وقال مجاهد أن ترفع أن تعظم بذكره لأنها مواضع الصلوات والذكر وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى فقال إنها لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص ثم قرأ في بيوت أذن الله أن ترفع قال أبو بكر يجوز أن يكون المراد الأمرين جميعا من رفعها بالبناء ومن تعظيمها جميعا لأنها مبنية لذكر الله والصلاة وهذا

يدل على أنه يجب تنزيهها من العقود فيها لأمور الدنيا مثل البيع والشراء وعمل الصناعات ولغو الحديث الذي لا فائدة فيه والسفه وما جرى مجرى ذلك وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وبيعكم وشراكم وإقامة حدودكم وجمروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر وقوله تعالى يسبح له فيها بالغدو والآصال قال ابن عباس والضحاك يصلى له فيها بالغداة والعشي وقال ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة وقوله تعالى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله روي عن الحسن في هذه الآية والله لقد كانوا يتبايعون في الأسواق فإذا حضر حق من حقوق الله بدأوا بحق الله حتى يقضوه ثم عادوا إلى تجارتهم وعن عطاء قال شهود الصلاة المكتوبة وقال مجاهد عن ذكر الله قال عن مواقيت الصلاة ورأى ابن مسعود أقواما يتجرون فلما حضرت الصلاة قاموا إليها قال هذا من الذين قال الله تعالى فيهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وقوله تعالى ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض فإن التسبيح هو التنزيه لله تعالى عما لا يجوز عليه من الصفات فجميع ما خلقه الله منزه له من جهة الدلالة عليه والعقلاء المطيعون ينزهونه من جهة الاعتقاد والوصف له بما يليق به وتنزيهه عما لا يجوز عليه وقوله تعالى كل قد علم صلاته وتسبيحه يعني صلاة من يصلي منهم فالله يعلمها وقال مجاهد الصلاة للإنسان والتسبيح لكل شيء وقوله تعالى وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء قيل إن من الأولى لابتداء الغاية لأن ابتداء الإنزال من السماء والثانية للتبعيض لأن البرد بعض الجبال التي في السماء والثالثة لتبيين الجنس إذ كان جنس تلك الجبال جنس البرد وقوله تعالى والله خلق كل دابة من ماء قيل إن أصل الخلق من ماء ثم قلب إلى النار فخلق منه الجن ثم إلى الريح فخلقت الملائكة منها ثم إلى الطين فخلق آدم منه وذكر الذي يمشي على رجلين والذي يمشي على أربع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنه كالذي يمشي على أربع في رأي العين فترك ذكره لأن العبرة تكفي بذكر الأربع
باب

لزوم الإجابة لمن دعي إلى الحاكم
قال الله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وهذا يدل على أن من ادعى على غيره حقا ودعاه إلى الحاكم فعليه إجابته والمصير معه إليه لأن قوله

تعالى وإذا دعوا إلى الله معناه إلى حكم الله ويدل على أن من أتى الحاكم فادعى على غيره حقا أن على الحاكم أن يعد به ويحضره ويحول بينه وبين تصرفه وإشغاله وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا عبدالله بن شبيب قال حدثنا أبو بكر ابن شيبة قال حدثنا فليح قال حدثني محمد بن جعفر عن يحبى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن الأغر الجهني قال جئت أستعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -

على رجل لي عليه شطر تمر فقال رسول الله ص
- لأبي بكر اذهب معه فخذله حقه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا رجاء الحافظ قال حدثنا شاهين قال حدثنا روح بن عطاء عن أبيه عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال حدثنا عبدالرحمن بن صالح قال حدثنا يحيى عن أبي الأشهب عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من دعي إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد ابن بشر أخو خطاب قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا حاتم عن عبدالله بن محمد بن سجل عن أبيه عن أبي حدرد قال كان ليهودي على أربعة دراهم فاستعدى على رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها فقال أعطه حقه قلت والذي بعثك بالحق نبيا ما أصبحت أقدر عليها قال أعطه حقه فأعدت عليه فقال أعطه حقه فخرجت معه السوق فكانت على رأسي عمامة وعلى بردة متزر بها فاتزرت بالعمامة وقال اشتر البرد فاشتراه بأربعة دراهم فهذه الأخبار مواطئة لما دلت عليه الآية وقوله تعالى إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا تأكيد لما تقدم ذكره من وجوب الإجابة إلى الحكم إذا دعوا إليه وجعل ذلك من صفات المؤمنين ودل على أن من دعي إلى ذلك فعليه الإجابة بالقول بديا بأن يقول سمعنا وأطعنا ثم يصير معه إلى الحاكم وقوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة روي عن مجاهد قال هذه طاعة معروفة منكم بالقول لا بالاعتقاد بخير عن كذبهم فيما أقسموا عليه وقيل إن المعنى طاعة وقول معروف أمثل من هذا القسم وقوله تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض فيه الدلالة على صحة نبوة النبي -
لأنه قصر ذلك على قوم بأعيانهم بقوله الذين آمنوا

منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض فوجد مخبره على ما أخبر به فيهم وفيه الدلالة على صحة إمامة الخلفاء الأربعة لأن الله استخلفهم في الأرض ومكن لهم كما جاء الوعد ولا يدخل فيهم معاوية لأنه لم يكن مؤمنا في ذلك الوقت
باب

استئذان المماليك والصبيان
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم الاية وروي ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر وسفيان عن أبي حصين عن أبي عبدالرحمن ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قالا هو في النساء خاصة وفي الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار قال أبو بكر أنكر بعضهم هذا التأويل قال لأن النساء لا يطلق فيهن الذين إذا انفردن وإنما يقال اللاتي كما قال تعالى واللائي يئسن من المحيض قال أبو بكر هذا يجوز إذا عبر بلفظ المماليك كما أن النساء إذا عبر عنهن بالأشخاص وكذلك جائز أن تذكر الإناث إذا عبرت عنهن بلفظ المماليك دون النساء ودون الإماء لأن التذكير والتأنيث يتبعان اللفظ كما تقول ثلاث ملاحف فإذا عبرت بالأزر ذكرت فقلت ثلاثة أزر فالظاهر أن المراد الذكور والإناث من المماليك وليس العبيد لأن العبيد مأمورين بالاستئذان في كل وقت ما يوجب الاقتصار بالأمر في العورات الثلاث على الإماء دونهم إذ كانوا مأمورين به حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن السرح والصباح بن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه قال أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال سمعته يقول لم يأمر بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمر وعن عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا يا ابن عباس كيف ترى هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات الآية إلى قوله عليم حكيم قال ابن عباس إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر وكان الناس ليس لبيوتهم ستر ولا حجاب فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل على الرجل وأهله فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات فجاءهم

الله بالستور والخير فلم أر أحد يعمل بذلك بعد قال أبو بكر وفي بعض ألفاظ حديث ابن عباس هذا وهو حديث سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو فلما أتى الله بالخير واتخذوا الستور والحجاب رأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به فأخبر ابن عباس أن الأمر بالاستئذان في هذه الآية كان متعلقا بسبب فلما زال السبب زال الحكم وهذا يدل على أنه لم ير الآية منسوخة وإن مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم وقال الشعبي أيضا إنها ليست بمنسوخة وهذا نحو ما فرض الله تعالى من الميراث بالموالاة بقوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكانوا يتوارثون بذلك فلما أوجب التوارث بالنسب جعل ذوي الأنساب أولى من مولى الموالاة ومتى فقد النسب عاد ميراث المعاقدة والولاء وقال جابر بن زيد في قوله ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم أبناءهم الذين عقلوا ولم يبلغوا الحلم من الغلمان والجواري يستأذنون على آبائهم قبل صلاة الفجر وحين يقيلون ويخلون وبعد صلاة العشاء وهي العتمة فإذا بلغوا الحلم استأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم إخوانهم إذا كانوا رجالا ونساء لا يدخلون على آبائهم الا بإذن ساعة يدخلون أي ساعة كانت وروي ابن جريج عن مجاهد ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم قال عبيدكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات قال من أحراركم وروي عن عطاء مثله وأنكر بعضهم هذا التأويل لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته فكيف يجمع إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين قال فالأظهر أن يكون المراد العبيد الصغار والإماء وصغارنا الذين لم يبلغوا الحلم وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم وقال سعيد ابن جبير والشعبي هذا مما تهاون به الناس وما نسخت وقال أبو قلابة ليس بواجب وهو كقوله تعالىوأشهدوا إذا تبايعتم وقال القاسم بن محمد يستأذن عند كل عورة ثم هو طواف بعدها يعني أنه يستأذن عند أوقات الخلوة والتفضل في الثياب وطرحها وهو طواف بعدها لأنها أوقات الستر ولا يستطيع الخادم والغلام والصبي الامتناع من الدخول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - في الهرة أنها من الطوافين عليكم والطوافات يعني أنه لا يستطاع الامتناع منها وروي أن رجلا قال لعمر استأذن على أمي قال نعم وكذلك قال ابن عباس وابن مسعود

فصل قوله تعالى والذين لم يبلغوا الحلم منكم يدل على بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة إذا لم يحتلم قبل ذلك لأن الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد بلغ الحلم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - من جهات كثيرة رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي حتى يحتلم ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها وأما حديث ابن عمر أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم - يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجز وعرض عليه يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه فإنه مضطرب لأن الخندق كان في سنة خمس وأحد في سنة ثلاث فكيف يكون بينهما سنة ثم مع ذلك فإن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويجاز غير البالغ لقوته على القتال وطاقته لحمل السلاح كما أجاز رافع بن خديج ورد سمرة بن جندب فلما قيل له إنه يصرعه أمرهما فتصارعا فصرعه سمرة فأجازه ولم يسأله عن سنه وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يسأل ابن عمر عن مبلغ سنه في الأول ولا في الثاني وإنما اعتبر حاله في
قوته وضعفه فاعتبار السن لأن النبي صلى الله عليه وسلم - أجازه في وقت ورده في وقت ساقط وقد اتفق الفقهاء على ان الاحتلام بلوغ واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها وفي الجارية سبع عشرة سنة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي في الغلام والجارية خمس عشرة سنة وذهبوا فيه إلى حديث ابن عمر وقد بينا أنه لا دلالة فيه على أنها حد البلوغ ويدل عليه أنه لم يسأله عن الاحتلام ولا عن السن ولما ثبت بما وصفنا أن الخمس عشرة ليست ببلوغ وظاهر قوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أيضا أن تكون الخمس عشرة بلوغا على الحد الذي بينا صار طريق إثبات حد البلوغ بعد ذلك الاجتهاد لأنه حد بين الصغر والكبر الذين قد عرفنا طريقهما وهو واسطة بينهما فكان طريقه الاجتهاد وليس يتوجه على القائل بما وصفنا سؤال كالمجتهد في تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لا توقيف في مقاديرها ومهور الأمثال ونحوها فإن قيل فلا بد من أن يكون اعتباره لهذا المقدار دون غيره لضرب من الترجيح على غيره يوجب تغليب ذلك في رأيه دون ما عداه من المقادير قيل له قد علمنا أن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان طريقه العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه وقد وجدنا من بلغ في اثنتي عشرة سنة وقد بينا

أن الزيادة على المعتاد من الخمس عشرة جائزة كالنقصان عنه فجعل أبو حنيفة الزيادة على المعتاد كالنقصان عنه وهي ثلاث سنين كما أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما جعل المعتاد من حيض النساء ستا أو سبعا بقوله لحمنة بنت جحش تحيضين في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر اقتضى ذلك أن يكون العادة ستا ونصفا لأنه جعل السابع مشكوكا فيه بقوله ستا أو سبعا ثم قد ثبت عندنا أن النقصان عن المعتاد ثلاث ونصف لإن أقل الحيض عندنا ثلاث وأكثره عشرة فكانت الزيادة على المعتاد بإزاء النقصان منه وجب أن يكون كذلك اعتبار الزيادة على المعتاد فيما وصفنا وقد حكي عن أبي حنيفة تسع عشرة سنة للغلام وهو محمول على استكمال ثماني عشرة والدخول في التاسع عشرة واختلف في الإثبات هل يكون بلوغا فلم يجعله أصحابنا بلوغا والشافعي يجعله بلوغا وظاهر قوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم ينفي أن يكون الإثبات بلوغا ذا لم يحتلم كما نفى كون خمس عشرة بلوغا وكذلك قوله ص - وعن الصبي حتى يحتلم وهذا خبر منقول من طريق الاستفاضة قد استعمله السلف والخلف في رفع حكم القلم عن المجنون والنائم والصبي واحتج من جعله بلوغا بحديث عبدالملك بن عمير عن عطية القرظي أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل من أنبت من بني قريظة واستحيى من لم ينبت قال فنظروا إلي فلم أكن أنبت فاستبقاني وهذا حديث لا يجوز إثبات الشرع بمثله إذ كان عطية هذا مجهولا لا يعرف إلا من هذا الخبر لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ إلا بالإحتلام ومع ذلك فهو مختلف الألفاظ ففي بعضها أنه أمر بقتل من جرت عليه المواسي وفي بعضها من أخضر أزره ومعلوم أن لا يبلغ هذه الحال إلا وقد تقدم بلوغه ولا يكون قد جرت عليه المواسي إلا وهو رجل كبير فجعل الإنبات وجرى المواسي عليه كناية عن بلوغ القدر الذي ذكرنا في السن وهي ثماني عشرة وأكثر وروي عن عقبة بن عامر وأبي بصرة الغفاري أنهما قسما في الغنيمة لمن نبت وهذا لا دلالة فيه على أنهما رأيا الإنبات بلوغا لإن القسمة جائزة للصبيان على وجه الرضخ وقد روي عن قوم من السلف شيء في اعتبار طول الإنسان ولم يأخذ به أحد من الفقهاء وروى محمد بن سيرين عن أنس قال أتى أبو بكر بغلام قد سرق فأمره فشبر فنقص أنملة فخلى عنه وروى قتادة عن خلاس عن علي قال إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه وإذا استعانه رجل بغير إذن أهله لم يبلغ خمسة أشبار

فهو ضامن وروى ابن جريج عن ابن أبي مليكة أن ابن الزبير أتى بوصيف لعمر بن أبي ربيعة قد سرق فقطعه ثم حدث أن عمر كتب إليه في غلام من أهل العراق فكتب إليه أن أشبره فشبره فنقص أنملة فسمى نميلة قال أبو بكر وهذه أقاويل شاذة بأسانيد ضعيفة تبعد أن تكون من أقاويل السلف إذ الطول والقصر لا يدلان على بلوغ ولا نفيه لأنه قد يكون قصيرا وله عشرون سنة وقد يكون طويلا ولم يبلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم وقوله والذين لم يبلغوا الحلم منكم / يدل على أن من لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح وإن لم يكن من أهل التكليف على جهة التعليم كما أمرهم الله تعالى بالاستئذان في هذه الأوقات وقد روى عن عبدالملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إذا بلغ الغلام سبع سنين فمروه بالصلاة وإذا بلغ عشرا فاضربوه عليها وروى
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وفرقوا بينهم في المضاجع وعن ابن مسعود قال حافظوا على أبنائكم في الصلاة وروى نافع عن ابن عمر قال يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه من شماله وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال كان علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا فيقال له يصلون الصلاة لغير وقتها فيقول هذا خير من أن يتناهوا عنها وروى هشام بن عروة إنه كان يأمر بنيه بالصلاة إذا عقلوها وبالصوم إذا طاقوه وروى أبو إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات حتى يحتلم قال أبو بكر إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه وكذلك يجنب شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات لأنه لو لم يؤمر بذلك في الصغر وخلى وسائر شهواته وما يؤثره ويختاره يصعب عليه بعد البلوغ الإقلاع عنه وقال الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا روي في التفسير أدبوهم وعلموهم وكما ينهى عن اعتقاد الكفر والشرك وإظهاره وإن لم يكن مكلفا كذلك حكم الشرائع وقوله تعالى وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم الآية يعني أن الأطفال إذا بلغوا الحلم فعليهم الاستئذان في سائر الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم وهم المذكورون في قوله تعالىلا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها وفيه

دلالة على أن الاحتلام بلوغ وقوله ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض يعني بعد هذه العورات الثلاث جائز للإماء والذين لم يبلغوا الحلم أن يدخلوا بغير استئذان إذ كانت الأوقات الثلاث هي حال التكشف والخلوة وما بعدها حال الستر والتأهب لدخول هؤلاء الذين يشق عليهم الاستئذان في كل وقت لكثرة دخولهم وخروجهم وهو معنى طوافون عليكم بعضكم على بعض
في

اسم صلاة العشاء
قوله تعالى ومن بعد صلاة العشاء روي عن عبدالرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تغلبكم الأعراب على اسم صلاتكم فإن الله تعالى قال ومن بعد صلاة العشاء وإن الأعراب يسمونها العتمة وإنما العتمة عتمة الإبل للحلاب وقوله تعالى والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الآية قال ابن مسعود ومجاهد والقواعد اللاتي لا يرجون نكاحا هن اللاتي لا يردنه وثيابهن جلابيبهن وقال إبراهيم وابن جبير الرداء وقال الحسن الجلباب والمنطق وعن جابر بن زيد يضعن الخمار والرداء قال أبو بكر لا خلاف في أن شعر العجوز عورة لا يجوز للإجنبي النظر إليه كشعر الشابة وأنها إن صلت مكشوفة الرأس كانت كالشابة في فساد صلاتها فغير جائز أن يكون المراد وضع الخمار بحضرة الأجنبي فإن قيل إنما أباح الله تعالى لها بهذه الآية أن تضع خمارها في الخلوة بحيث لا يراها أحد قيل له فإذا لا معنى لتخصيص القواعد بذلك إذ كان للشابة أن تفعل ذلك في خلوة وفي ذلك دليل على أنه إنما أباح للعجوز وضع ردائها بين يدي الرجال بعد أن تكون مغطاة الرأس وأباح لها بذلك كشف وجهها ويدها لأنها لا تشتهي وقال تعالى وأن يستعففن خير لهن فأباح له وضع الجلباب وأخبر أن الاستعفاف بأن لا تضع ثيابها أيضا بين يدي الرجال خير لها وقوله تعالى ليس على الأعمى حرج الآية قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله وسبب نزوله فحدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال حدثنا جعفر بن محمد ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج قال لما نزلت ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال المسلمون إن الله تعالى قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل

وإن الطعام من أفضل أموالنا ولا يحل لأحد أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله تعالى ليس على الأعمى حرج الآية فهذا أحد التأويلات وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال كان رجال زمنى وعميان وعرجان وأولو حاجة يستتبعهم رجال إلى بيوتهم فإن لم يجدوا لهم طعاما ذهبوا إلى بيوت آبائهم ومن معهم فكره المستتبعون ذلك فنزلت لا جناح عليكم الآية وأحل لهم الطعام حيث وجدوه من ذلك فهذا تأويل ثان وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن مهدي عن ابن المبارك عن معمر قال قلت للزهري ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا ههنا فقال أخبرني عبيد الله بن عبدالله بن عتبة أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم في بيوتهم ودفعوا إليهم المفاتيح وقالوا قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون لا ندخلها وهم غيب فنزلت هذه الآية رخصة لهم فهذا تأويل ثالث وروي فيه تأويل رابع وهو ما روى سفيان عن قيس بن مسلم عن مقسم قال كانوا يمتنعون أن يأكلوا مع الأعمى والمريض والأعرج لأنه لا ينال ما ينال الصحيح فنزلت هذه الآية وقد أنكر بعض أهل العلم هذا التأويل لأنه لم يقل ليس عليكم حرج في مؤاكلة الأعمى وإنما أزال الحرج عن الأعمى ومن ذكر معه في الأكل فهذا في الأعمى إذا أكل من مال غيره على أحد الوجوه المذكورة عن السلف وإن كان تأويل مقسم محتملا على بعد في الكلام وتأويل ابن عباس ظاهره لأن قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم 6 ولم يكن هذا تجارة وامتنعوا من الأكل فأنزل الله إباحة ذلك وأما تأويل مجاهد فهو سائغ من وجهين أحدهما أنه قد كانت العادة عندهم بذل الطعام لأقربائهم ومن معهم فكان جريان العادة به كالنطق به فأباح الله للأعمى ومن ذكر معه إذا استتبعوا أن يأكلوا من بيوت من اتبعوهم وبيوت آبائهم والثاني أن ذلك فيمن كان به ضرورة إلى الطعام وقد كانت الضيافة واجبة في ذلك الزمان لأمثالهم فكان ذلك القدر مستحقا من مالهم لهؤلاء فلذلك أبيح لهم أن يأكلوا منه مقدار الحاجة بغير إذن وقال قتادة إن أكلت من بيت صديقك بغير إذنه فلا بأس لقوله أو صديقكم وروي أن أعرابيا دخل على الحسن فرأى سفرة معلقة فأخذها وجعل يأكل منها فبكى

الحسن فقيل له ما يبكيك فقال ذكرت بما صنع هذا إخوانا لي مضوا يعني أنهم كانوا ينبسطون في مثل ذلك ولا يستأذنون وهذا أيضا على ما كانت العادة قد جرت به منهم في مثله وقوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم يعني والله أعلم من البيوت التي هم سكانها وهم عيال غيرهم فيها مثل أهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله فيأكل من بيته ونسبها إليهم لأنهم سكانها وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب المنزل لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباحة للرجل أن يأكل من مال نفسه إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال غيره وقال الله أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقرباء ذوي المحارم بجريان العادة ببذل الطعام لأمثالهم وفقد التمانع في أمثاله ولم يذكر الأكل في بيوت الأولاد لأن قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم قد أفاده لأن مال الرجل منسوب إلى أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم - أنت ومالك لأبيك وقال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم فاكتفى بذكر بيوت أنفسكم عن ذكر بيوت الأولاد إذ كانت منسوبة إلى الآباء وقوله تعالى أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أو ما ملكتم مفاتحه قال هو الرجل يؤكل الرجل بصنعته يرخص له أن يأكل من ذلك الطعام والثمر ويشرب من ذلك اللبن وعن عكرمة في قوله أو ما ملكتم مفاتحه قال إذا ملك المفتاح فهو جائز ولا بأس أن يطعم الشيء اليسير وروى سعيد عن قتادة في قوله ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج قال كان الرجل لا يضيف أحدا ولا يأكل من بيت غيره تأثما من ذلك وكان أول من رخص الله له في ذلك ثم رخص للناس عامة فقال ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أو ما ملكتم مفاتحه مما عندك يا ابن آدم أو صديقكم ولو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان ذلك حلالا قال أبو بكر وهذا أيضا مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت زوجها بالكسرة ونحوها من غير استئذانها إياه لأنه متعارف أنهم لا يمنعون من مثله كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما ويتصدقان باليسير مما في أيديهما فيجوز بغير إذن المولى وقوله أوصديقكم

روى الأعمش عن نافع عن ابن عمر قال لقد رأيتني وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم وروى عبدالله الرصافي عن محمد بن علي قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يرى أحدهم أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه وروى إسحاق بن كثير قال حدثنا الرصافي قال كنا عند أبي جعفر يوما فقال هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه فيأخذ ماله قلنا لا قال ما أنتم بإخوان قال أبو بكر قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا يقطع لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها من غير إذنهم فلا يكون ماله محرزا منهم فإن قيل فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه لأن في الآية إباحة الأكل من طعامه قيل له من أراد سرقة ماله لا يكون صديقا له وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بقوله لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وبقوله ص - لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه قال أبو بكر ليس في ذلك ما يوجب نسخه لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها وقوله لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم في سائر الناس غيرهم وكذلك قوله ص - لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيبة من نفسه وقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا روى سعيد عن قتادة قال كان هذا الحي من كنانة بني خزيمة يرى أحدهم أنه محرم عليه أن لا يأكل وحده في الجاهلية حتى أن الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا وروى الوليد بن مسلم قال حدثنا وحشي بن حرب عن أبيه عن جده وحشي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالوا إنا نأكل ولا نشبع قال فلعلكم تفترقون قالوا نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه وقال ابن عباس جميعا أو أشتاتا المعنى يأكل مع الفقير في بيته وقال ابو صالح كان إذا نزل بهم ضيف تحرجوا أن يأكلوا إلا معه وقيل إن الرجل كان يخاف إن أكل مع غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على الطعام قال أبو بكر هذا تأويل محتمل وقد دل على هذا المعنى قوله ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فأباح لهم أن يخلطوا طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعا ونحوه قوله فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فكان الورق لهم جميعا والطعام بينهم فاستجازوا أكله فكذلك قوله ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا يجوز أن يكون

مراده أن يأكلوا جميعا طعاما بينهم وهي المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار وقوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية روى معمر عن الحسن فسلموا على أنفسكم يسلم بعضكم على بعض كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم وروى معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقال نافع عن ابن عمر أنه كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد قال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا كان فيه أحد قال السلام عليكم وإذا دخل المسجد قال بسم الله السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال الزهري فسلموا على أنفسكم إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه كان يأمر بذلك حدثنا أن الملائكة ترد عليه قال أبو بكر لما كان اللفظ محتملا لسائر الوجوه تأوله السلف عليها وجب أن يكون الجميع مرادا بعموم اللفظ وقوله تعالى تحية من عند الله مباركة طيبة يعني إن السلام تحية من الله لأن الله أمر به وهي مباركة طيبة لأنه دعاء بالسلام فيبقى أثره ومنفعته وفيه الدلالة على أن قوله وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها قد أريد به السلام وقوله تعالى وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه قال الحسن وسعيد بن جبير في الجهاد وقال عطاء في كل أمر جامع وقال مكحول في الجمعة والقتال وقال الزهري الجمعة وقال قتادة كل أمر هو طاعة لله قال أبو بكر هو في جميع ذلك لعموم اللفظ وقال سعيد عن قتادة إذا كانوا معه على أمر جامع الآية قال كان الله أنزل قبل ذلك في سورة براءة عفا الله عنك لم أذنت لهم فرخص له في هذه السورة فأذن لمن شئت منهم فنسخت هذه الآية التي في سورة براءة وقد قيل إنه لا معنى للإستئذان للمحدث في الجمعة لأنه لا وجه لمقامه ولا يجوز للإمام منعه فلا معنى للإستئذان فيه وإنما هو فيما يحتاج الإمام فيه إلى معونتهم في القتال أو الرأي وقوله تعالى لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا روي عن ابن عباس قال يعني احذروا إذا أسخطتموه دعاءه عليكم فإن دعاءه مجاب ليس كدعاء غيره وقال مجاهد وقتادة ادعوه بالخضوع والتعظيم نحو يا رسول الله يا نبي الله ولا تقولوا يا محمد كما يقول بعضكم لبعض قال أبو بكر هو على الأمرين جميعا لاحتمال اللفظ لهما وقوله تعالى قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا يعني به المنافقين الذين كانوا

ينصرفون عن أمر جامع من غير استئذان يلوذ بعضهم ببعض ويستتر به لئلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم - منصرفا قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم معناه فليحذر الذين يخالفون أمره ودخل عليه حرف الجر لجواز ذلك في اللغة كقوله فبما نقضهم ميثاقهم معناه فبما نقضهم ميثاقهم والهاء في أمره يحتمل أن يكون ضميرا للنبي ص - ويحتمل أن يكون ضميرا لله تعالى والأظهر أنها لله لأنه يليه وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها وفيه دلالة على أن أوامر الله على الوجوب لأنه ألزم للوم والعقاب يخالفه الأمر وذلك يكون على وجهين أحدهما أن لا يقبله فيخالفه بالرد له والثاني أن لا يفعل المأمور به وإن كان مقرا بوجوبه عليه ومعتقدا للزومه فهو على الأمرين جميعا ومن قصره على أحد الوجهين دون الآخر خصه بغير دلالة ومن الناس من يحتج به في أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم -

على الوجوب وذلك أنه جعل الضمير في أمره للنبي ص
- وفعله يسمى أمره كما قال تعالى وما أمر فرعون برشيد يعني أفعاله وأقواله وهذا ليس كذلك عندنا لأن اسم الله تعالى فيه بعد اسم النبي صلى الله عليه وسلم -
في قوله قد
يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا وهو الذي تليه الكناية فينبغي أن يكون راجعا إليه دون غيره آخر سورة النور
ومن
سورة الفرقان
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل وأنزلنا من السماء ماء طهورا الطهور على وجه المبالغة في الوصف له بالطهارة وتطهير غيره فهو طاهر مطهر كما يقال رجل ضروب وقتول أي يضرب ويقتل وهو مبالغة في الوصف له بذلك والوضوء يسمى طهورا لأنه طهر من الحدث المانع من الصلاة وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يقبل الله صلاة بغير طهور أي بما يطهر وقال النبي ص
- جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فسماه طهورا من حيث استباح به الصلاة وقام مقام الماء فيه وقد اختلف في حكم الماء على ثلاثة أنحاء أحدها إذا خالط الماء غيره من الأشياء الطاهرة والثاني إذا خالطته نجاسة والثالث الماء المستعمل فقال أصحابنا إذا لم تخالطه نجاسة ولم يغلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء لأجل الغلبة ولم يستعمل لطهارة البدن فالوضوء به جائز فإن غلب عليه غيره حتى يزيل عنه اسم الماء مثل المرق وماء الباقلاء والخل ونحوه فإن الوضوء به غير جائز وما طبخ بالماء ليكون أنقى له نحو الأشنان والصابون فالوضوء به

جائز إلا أن يكون مثل السويق المخلوط فلا يجزي وكذلك إن وقع فيه زعفران أو شيء مما يصبغ بصبغه وغير لونه فالوضوء به جائز لأجل غلبة الماء وقال مالك لا يتوضأ بالماء الذي يبل فيه الخبز وقال الحسن بن صالح إذا توضأ بزردج أو نشاسبتح أو بخل أجزأه وكذلك كل شيء غير لونه وقال الشافعي إذا بل فيه خبزا وغير ذلك مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق حتى يضاف إلى ما خالطه وخرج منه فلا يجوز التطهر به وكذلك الماء الذي غلب عليه الزعفران أو الأشنان وكثير من أصحابه يشرط فيه أن يكون بعض الغسل بغير الماء قال أبو بكر الأصل فيه قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق إلى قوله فلم تجدوا ماء فيه الدلالة من وجهين على قولنا أحدهما أن قوله فاغسلوا عموم في سائر المائعات بجواز إطلاق اسم الغسل فيها والثاني قوله تعالى فلم تجدوا ماء ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا فيه ماء وإن خالطه غيره وإنما أباح الله تعالى التيمم عند عدم كل جزء من ماء لأن قوله ماء اسم منكر يتناول كل جزء منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وظاهره يقتضي جواز الطهارة به وإن
خالطه غيره لإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك فيه وأباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطهما شيء من لعابهما وأيضا لا خلاف في جواز الوضوء بماء المد والسيل مع تغير لونه بمخالطة الطين له وما يكون في الصحارى من الحشيش والنبات ومن أجل مخالطة ذلك له يرى متغيرا إلى السواد تارة وإلى الحمرة والصفرة أخرى فصار ذلك أصلا في جميع ما خالطه الماء إذا لم يغلب عليه فيسلبه اسم الماء فإن قيل إذا كان الماء المنفرد عن غيره لو استعمله للطهارة ولم يكفه ثم اختلط به غيره فكفاه بالذي خالطه نحو ماء الورد والزعفران فقد حصل بعض وضوئه بما لا تجوز الطهارة به مما لو أفرده لم يطهر فلا فرق بين اختلاطه بالماء وبين إفراده بالغسل قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن ما خالطه من هذه الأشياء الطاهرة التي يجوز استعماله لغير الطهارة إذا كان قليلا سقط حكمه وكان الحكم لما غلب ألا ترى أن اللبن الذي خالطه ماء يسير لا يزول عنه اسم اللبن وأن من شرب من حب قد وقعت فيه قطرة من خمر لا يقال له شارب خمر ولم يجب عليه الحد لأن ذلك الجزء قد صار مستهلكا فيه فسقط حكمه كذلك الماء إذا كان هو الغالب والجزء الذي خالطه إذا كان يسيرا سقط حكمه ومن جهة أخرى أنه إن كانت العلة ما ذكرت فينبغي أن يجوز

إذا كان الماء الذي استعمله لو انفرد عما خالطه كان كافيا لطهارته إذ لا فرق بين انفراد الماء في الاستعمال وبين اختلاطه بما لا يوجب تنجيسه فإذا كان لو استعمل الماء منفردا عما خالطه من اللبن وماء الورد ونحوه وكان طهورا وجب أن يكون ذلك حكمه إذا خالطه غيره لأن مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون مستعملا للماء المفروض به الطهارة فهذا الذي ذكرته يدل على بطلان قولك وهدم أصلك وأيضا فينبغي أن تجيزه إذ أكثر غسل أعضائه بذلك الماء لأنه قد استعمل من الماء في أعضاء الوضوء ما لو انفرد نفسه كان كافيا فإن قيل قال الله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا فجعل الماء المنزل من السماء طهورا فإذا خالطه غيره فليس هو المنزل من السماء بعينه فلا يكون طهورا قيل له مخالطة غيره له لا تخرجه من أن يكون الماء هو المنزل من السماء ألا ترى أن اختلاف الطين بماء السيل لم يخرجه من أن يكون الماء الذي فيه هو المنزل بعينه وإن لم يكن وقت نزوله من السماء مخالطا للطين وكذلك ماء البحر لم ينزل من السماء على هذه الهيئة والوضوء به جائز لأن الغالب عليه هو الماء المنزل من السماء فهو إذا مع اختلاط غيره به متطهر بالماء الذي أنزله الله من السماء وسماه طهورا فإن قيل فيجب على هذا جواز الوضوء بالماء الذي خالطته نجاسة يسيرة لأنه لم يخرج بمخالطة النجاسة إياه من أن يكون هذا الماء هو المنزل من السماء قيل له الماء المخالط للنجاسة هو باق بحاله لم يصر نجس العين فلو لم يكن هناك إلا مخالطة غيره له لما منعنا الوضوء به ولكنا منعنا الطهارة به مع كونه ماء منزلا من السماء من قبل أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة واستعمال النجاسة محظور فإنما منعنا استعمال النجاسة وليس بمحظور علينا استعمال الأشياء الطاهرة وإن خالطت الماء فإذا حصل معه استعمال الماء للطهارة جاز كمن توضأ بماء القراح ثم مسح وجهه بماء الورد أو بماء الزعفران فلا يبطل ذلك طهارته وقد أجاز الشافعي الوضوء بما ألقي فيه كافور وعنبر وهو يوجد منه ريحه وبما خالطه ورد يسير وإن وقع مثله من النجاسة في أقل من قلتين لم يجز استعماله فليس قياس النجاسة قياس الأشياء الطاهرة إذا خالطت الماء فإن قيل يلزمك أن تجيز الوضوء بالماء الذي يخالطه ما يغلب عليه شيء من الأشياء الطاهرة إذا كان الماء لو انفرد كفاء لوضوئه لأنه لو انفرد جاز ولأنه هو المنزل من السماء في حال المخالطة وإن غلب عليه غيره حتى سلبه إطلاق اسم الماء قيل له لا يجب ذلك من قبل أن

غلبة غيره عليه ينقله إلى حكمه ويسقط حكم القليل معه بدلالة أن قطرة من خمر لو وقعت في حق ماء فشرب منه إنسان لم يقل إنه شارب خمر ولا يجب عليه الحد ولو أن خمرا صب فيها ماء فمزجت به فكان الخمر هو الغالب لإطلاق الناس عليه أنه شارب خمر وكان حكمه في وجوب الحد عليه حكم شاربها صرفا غير ممزوجة وأما ماء الورد وماء الزعفران وعصارة الريحان والشجر فلم يمنع الوضوء به من أجل مخالطة غيره ولكن لأنه ليس بالماء المفروض به الطهارة ولا يتناوله الاسم إلا بتقييد كما سمى الله تعالى المني ماء بقوله ألم نخلقكم من ماء مهين وقال والله خلق كل دابة من ماء وليس هو من الماء المفروض به الطهارة في شيء وأما مذهب الحسن بن صالح في إجازته الوضوء بالخل ونحوه فإنه يلزمه إجازته بالمرق وبعصير العنب لو خالطه شيء يسير من ماء ولو جاز ذلك لجاز الوضوء بسائر المائعات من الأدهان وغيرها وهذا خلاف الإجماع ولو جاز ذلك لجاز التيمم بالدقيق والأشنان قياسا على التراب
فصل وأما الماء الذي خالطته نجاسة فإن مذهب أصحابنا فيه إن كل ما تيقنا فيه جزء من النجاسة أو غلب في الظن ذلك لم يجز استعماله ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والماء الراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في جهة تغليب الظن في بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر وليس هذا كلاما في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله ولذلك قالوا لا يجوز استعمال الماء الذي في الناحية التي فيها النجاسة وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في الماء الذي حلته نجاسة فروي عن حذيفة أنه سئل عن غدير يطرح فيه الميتة والحيض فقال توضؤا فإن الماء لا يخبث وقال ابن عباس في الجنب يدخل الحمام إن الماء لا يجنب وقال أبو هريرة رواية في الماء ترده السباع والكلاب فقال الماء لا يتنجس وقال ابن المسيب أنزل الله الماء طهورا لا ينجسه شيء وقال الحسن والزهري في البول في الماء لا ينجس ما لم يغيره بريح أو لون أو طعم وقال عطاء وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى الماء لا ينجسه شيء وكذلك روي عن القاسم وسالم وأبي العالية وهو قول ربيعة وقال أبو هريرة روايةلا يخبث

أربعين دلوا شيء وهو قول سعيد بن جبير في رواية وقال عبدالله بن عمر إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء وروي عن ابن عباس أنه قال الحوض لا يغتسل فيه جنب إلا أن يكون فيه أربعون غربا وهو قول محمد بن كعب القرظي وقال مسروق والنخعي وابن سيرين إذا كان الماء كرا لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير رواية الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال وقال مجاهد إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء وقال عبيد بن عمير لو أن قطرة من مسكر قطرت في قربة من الماء لحرم ذلك الماء على أهله وقال مالك والأوزاعي لا يفسد الماء بالنجاسة إلا أن يتغير طعمه أو ريحه وقد ذكر عن مالك مسائل في موت الدجاجة في البئر أنها تنزف إلا أن تغلبهم ويعيد الصلاة من توضأ به ما دام في الوقت وهذا عنده استحباب وكذلك يقول أصحابه أن كل موضع يقول فيه مالك أنه يعيد في الوقت هو استحباب ليس بإيجاب وقال في الحوض إذا اغتسل فيه جنب أفسده وهذا ايضا عنده استحباب ترك استعماله وإن توضأ به أجزأه وكره الليث للجنب أن يغتسل في البئر وقال الحسن بن صالح لا بأس أن يغتسل الجنب في الماء الراكد الكثير القائم في النهر والسبخة وكره الوضوء بالماء بالفلاة إذا كان أقل من قدر الكر وروي نحوه عن علقمة وابن سيرين والكر عندهم ثلاثة آلاف رطل ومائتا رطل وقال الشافعي إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه وإن كان أقل يتنجس بوقوع النجاسة اليسيرة والذي يحتج به لقول أصحابنا قوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث والنجاسات لا محالة من الخبائث وقال إنما حرم عليكم الميتة والدم وقال في الخمر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ومر النبي صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما كان لا يستبرئ من البول والآخر كان يمشي بالنميمة فحرم الله هذه الأشياء تحريما مبهما ولم يفرق بين حال انفرادها واختلاطها بالماء فوجب تحريم استعمال كل ما تيقنا فيه جزءا من النجاسة ويكون جهة الحظر من طريق النجاسة أولى من جهة الإباحة من طريق الماء المباح في الأصل لأنه متى اجتمع في شيء جهة الحظر وجهة الإباحة فجهة الحظر أولى ألا ترى أن الجارية بين رجلين لو كان لأحدهما فيها مائة جزء وللآخر جزء واحد إن جهة الحظر فيها أولى من جهة الإباحة وأنه غير جائز لواحد منهما وطؤها فإن قيل لم غلبت جهة الحظر في النجاسة على جهة الإيجاب في استعمال الماء الذي قد حلته نجاسة إذا لم تجد

ماء غيره ومعلوم أن استعماله في هذه الحال واجب إذا لزمه فرض أداء الصلاة وإنما اجتمع ههنا جهة الحظر وجهة الإيجاب قيل له قولك أنه قد اجتمع فيه جهة الحظر وجهة الإيجاب خطأ لأنه إنما يجب استعمال الماء الذي لا نجاسة فيه فأما ما فيه نجاسة فلم يلزمه استعماله فإن قيل إنما يلزمه اجتناب النجاسة إذا كانت متجردة بنفسها فأما إذا كانت مخالطة للماء فليس عليه اجتنابها قيل له عموم ما ذكرنا من الآي والسنن قاض بلزوم اجتنابها في حالة الإنفراد والإختلاط ومن ادعى تخصيص شيء منه لم يجز له ذلك إلا بدلالة وأيضا فإذا كان واجدا لماء غيره لم تخالطه نجاسة فليس بواجب عليه استعمال الماء الذي فيه النجاسة وأكثر ما فيه عند مخالفنا جواز استعماله على وجه الإباحة وما ذكرناه من لزوم اجتناب النجاسة يوجب الحظر والإباحة والحظر متى اجتمعا فالحكم للحظر على ما بينا وإذا صح ذلك وكان واجدا لماء غيره وجب أن يكون ذلك حكمه إذا لم يجد غيره لوجهين أحدهما لزوم استعمال الآي الحاظرة لاستعمال النجاسات فثبت بذلك أن الحظر قد تناولها في حال اختلاطها به كهو في حال انفرادها والثاني أن أحدا لم يفرق بين حال وجود ماء غيره وبينه إذا لم يجد غيره فإذا صح لنا ذلك في حال وجود ماء غيره كانت الحال الأخرى مثله لاتفاق الجميع على امتناع الفصل بينهما ووجه آخر يوجب أن يكون لزوم اجتناب النجاسة أولى من وجوب استعمال الماء الذي هي فيه لعموم قوله فاغسلوا إذا لم يجد ماء غيره وهو أن تحريم استعمال النجاسة متعلق بعينها ألا ترى أنه ما من نجاسة إلا وعلينا اجتنابها وترك استعمالها إذا كانت منفردة والماء الذي لا نجد غيره لم يتعين فيه لزوم الاستعمال ألا ترى أنه لو أعطاه إنسان ماء غيره أو غصبه فتوضأ به كانت طهارته صحيحة فلما لم يتعين فرض طهارته بذلك وتعين على حظر استعمال النجاسة صار للزوم اجتناب النجاسة مزية على وجوب استعمال الماء الذي لا يجد غيره إذا كانت فيه النجاسة فوجب أن يكون العموم الموجب لاجتنابها أولى وأيضا لا نعلم خلافا بين الفقهاء في سائر المائعات إذا خالطه اليسير من النجاسة كاللبن والأدهان والخل ونحوه أن حكم اليسير في ذلك كحكم الكثير وأنه محظور عليه أكل ذلك وشربه والدلالة من هذا الأصل على ما ذكرناه من وجهين أحدهما لزوم اجتناب النجاسات بالعموم الذي قدمنا في حالي المخالطة والانفراد والآخر أن حكم الحظر وهو النجاسات كان أغلب من حكم الإباحة وهو الذي خالطه من الأشياء

الطاهرة ولا فرق في ذلك بين أن يكون الذي خالطه من ذلك ماء أو غيره إذ كان عموم الآي والسنن شاملة له وإذ كان المعنى وجود النجاسة فيه حظر استعماله ويدل على صحة قولنا من جهة السنة قوله ص - لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة وفي لفظ آخر ولا يغتسل فيه من جنابة ومعلوم أن البول القليل في الماء الكثير لا يغير طعمه ولا لونه ولا رائحته ومنع النبي صلى الله عليه وسلم - منه فإن قيل إنما منع البول القليل لأنه لو أبيح لكل أحد لكثر حتى يتغير طعمه أو لونه أو رائحته فيفسد قيل له ظاهر نهيه يقتضي أن يكون القليل منهيا عنه لنفسه لا لغيره وفي حمله على أنه ليس بمنهي عنه لنفسه وإنما منع لئلا يفسد لغيره إثبات معنى غير مذكور في اللفظ ولا دلالة عليه وإسقاط حكم المذكور في نفسه وعلى أنه متى حمل على ذلك زالت فائدته وسقط حكمه لعلمنا بأن ما غير من النجاسات طعم الماء أو لونه أو رائحته محظورا استعماله بغير هذا الخبر من النصوص والإجماع فيؤدي ذلك إلى إسقاط حكمه رأسا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة فمنع البائل
الإغتسال فيه بعد البول قبل أن يصير إلى حال التغير ويدل عليه قوله ص - إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلها الإناء فإنه لا يدري أين باتت يده فأمر بغسل اليد احتياطا من نجاسة أصابته من موضع الإستنجاء ومعلوم أن مثلها إذا حلت الماء لم يغيره ولولا أنها تفسده لما كان للأمر بالإحتياط منها معنى وحكم النبي صلى الله عليه وسلم - بنجاسة ولوغ الكلاب بقوله طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسل سبعا وهو لا يغيره فإن قيل قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى فلم تجدوا ماء وقوله تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا يدل من وجهين على جواز استعماله وإن كانت فيه نجاسة أحدهما عموم قوله تعالى حتى تغتسلوا أن ذلك يقتضي جوازه بماء حلته النجاسة وبما لم تحله والوجه الآخر قوله تعالى فلم تجدوا ماء ولا يمتنع أحد من إطلاق القول بأن هذا ماء إذا كانت فيه نجاسة يسيرة لم تغيره وهذا يعارض ما استدللتم به من عموم الآي والأخبار في حظر استعماله ماء خالطته نجاسة قيل له لو تعارض العمومان لكان ما ذكرنا أولى من تضمنه من الحظر والإباحة والحظر متى اجتمعا كان الحكم للحظر وعلى أن ما ذكرنا من حظر استعمال النجاسة قاض على ما ذكرت من العموم فوجب أن يكون الغسل مأمورا بماء لا نجاسة فيه ألا ترى أنه إذا غيرته كان محظورا وعموم إيجاب الحظر مستعمل فيه

دون عموم الأمر بالغسل وكما قضى حظره لاستعمال النجاسات على قوله لبنا سائغا للشاربين فإن كان ما حله منها يسيرا كذلك واجب أن يقضى على قوله تعالى فاغسلوا وقوله فلم تجدوا ماء واحتج من أباح ذلك بقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا وقوله وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وقوله ص - هو الطهور ماؤه والحل ميتته وصفه إياه بالتطهير يقتضي تطهير ما لاقاه فيقال له معنى قوله طهورا يعتوره معنيان أحدهما رفع الحدث وإباحة الصلاة به والآخر إزالة الأنجاس فأما نجاسة موجودة فيه لم تزلها عن نفسه فكيف يكون مطهرا لها وعلى هذا القول ينبغي أن يكون معنى قوله طهورا أنه يجعل النجاسة غير نجاسة وهذا محال لأن ما حله من أجزاء الدم والخمر وسائر الخبائث لا يخرج من أن يكون أنجاسا كما أنها إذا ظهرت فيه لم يخرج من أن يكون أعيانها نجسة ولم يكن لمجاورة الماء إياها حكم في تطهيرها فإن قيل إذا كان الماء غالبا فلم يظهر فيه فالحكم للماء كما لو وقعت فيه قطرة من لبن أو غيره من المائعات لم يزل عنه حكم الماء لوجود الغلبة ولأن تلك الأجزاء مغمورة مستهلكة فحكم النجاسة إذا حلت الماء حكم سائر المائعات إذا خالطته قيل له هذا خطأ لأن المائعات كلها لا يختلف حكما فيما تخالطها من الأشياء الطاهرة وإن الحكم للغالب منها دون المستهلكات المغمورة مما خالطها وقد اتفقنا على أن مخالطة النجاسة اليسيرة لسائر المائعات غير الماء تفسدها ولم يكن للغلبة معها حكم بل كان الحكم لها دون الغالب عليها من غيرها فكذلك الماء فإن كان الماء إنما يكون مطهرا للنجاسة لمجاورته لها فواجب أن يطهرها بالمجاورة وإن لم يكن غامرا لها وإن كان إنما يصير مطهرا لها من أجل غموره لها وغلبته عليها فقد يكون سائر المائعات إذا خالطتها نجاسة غامرة لها وغالبة عليها وكان الحكم مع ذلك للنجاسة دون ما غمرها ويدل على صحة قولنا ما اتفقوا عليه من تحريم استعماله عند ظهور النجاسة فيه فالمعنى أنه لا نصل إلى استعماله إلا باستعمال جزء من النجاسة وأيضا العلم بوجود النجاسة فيه كمشاهدتنا لها كما أن علمنا بوجودها في سائر المائعات كمشاهدتنا لها بظهورها وكالنجاسة في الثوب والبدن العلم بوجودها كمشاهدتها واحتج من خالف في ذلك بحديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم - سئل عن بئر بضاعة وهي تطرح فيه عذرة الناس ومحائض النساء ولحوم الكلاب فقال إن الماء طهور لا ينجسه شيء وبحديث أبي بصرة عن جابر وأبي سعيد الخدري قالا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في سفر فانتهينا إلى غدير فيه

جيفة فكففنا وكف الناس حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم -

فأخبرناه فقال استقوا فإن الماء لا ينجسه شيء فاستقينا وارتوينا وبما روي
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الماء طهور لا ينجسه شيء والجواب عن ذلك أنه قد حكي عن الواقدي أن بئر بضاعة كانت طريقا للماء إلى البساتين فهذا يدل على أنه كان جاريا حاملا لما يقع فيه من الأنجاس وينفله وجائز أن يكون سئل عنها بعد ما نظفت من الأخباث فأخبر بطهارتها بعد ا لنزح وأما قصة الغدير فجائز أن تكون الجيفة كانت في جانب منه فأباح ص - الوضوء من الجانب الآخر وهذا يدل على صحة قول أصحابنا في اعتبار الغدير وأما حديث ابن عباس فإن أصله ما رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - في جفنة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم -
ليتوضأ منها أو يغتسل فقالت له إني كنت جنبا فقال رسول الله ص
- إن الماء لا يجنب والمراد أن إدخال الجنب يده فيه لا ينجسه فجائز أن يكون الراوي سمع ذلك فنقل المعنى عنده اللفظ ويدل على أن معناه ما وصفنا أن من مذهب ابن عباس الحكم بتنجيس الماء بوقوع النجاسة فيه وإن لم تغيره وقد روى عطاء وابن سيرين أن زنجيا مات في بئر زمزم فأمر ابن عباس بنزحها وروى حماد عن إبراهيم عن ابن عباس قال إنما ينجس الحوض أن تقع فيه فتغتسل وأنت جنب فأما إذا أخذت بيدك تغتسل فلا بأس ولو صح أيضا هذا اللفظ احتمل أن يكون في قصة بئر بضاعة فحذف ذكر السبب ونقل لفظ النبي صلى الله عليه وسلم - وأيضا فإن قوله الماء طهور لا ينجسه شيء لا دلالة فيه على جواز استعماله وإنما كلامنا في جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه فليس يجوز الاعتراض به على موضع الخلاف لأنا نقول إن الماء طهور لا ينجسه شيء ومع ذلك لا يجوز استعماله إذا حلته نجاسة ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم - إن الماء إذا وقعت فيه نجاسة فاستعملوه حتى تحتج به لقولك فإن قيل هذا الذي ذكرت يؤدي إلى إبطال فائدته قيل له قد سقط استدلالك بالظاهر إذا وصرت إلى أن تستدل بغيره وهو أن حمله على غير مذهبك تخلية من الفائدة ونحن نبين أن فيه ضروبا من الفوائد غير ما ادعيت من جواز استعماله بعد حلول النجاسة فيه فنقول إنه أفاد الماء لا ينجس بمجاورته للنجاسة ولا يصير في حكم أعيان النجاسات واستفدنا به أن الثوب والبدن إذا أصابتهما نجاسة فأزيلت بموالاة صب الماء عليها أن الباقي من الماء الذي في الثوب ليس هو في حكم الماء الذي جاوره عين النجاسة فيلحقه حكمها لأنه إنما جاور ما ليس

بنجس في نفسه وإنما يلحقه حكم النجاسة بمجاورته لها ولولا قوله ص - لكان جائزا أن يظن ظان أن الماء المجاور للنجاسة قد صار في حكم عين النجاسة فينجس ما جاوره فلا يختلف حينئذ حكم الماء الثاني والثالث إلى العاشر وأكثر من ذلك في كون جميعه نجاسا فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم - هذا الظن وأفاد أن الماء الذي لحقه حكم النجاسة من جهة المجاورة لا يكون في معنى أعيان النجاسات وأفادنا أيضا أن البئر إذا ماتت يه فأرة فأخرجت أن حكم النجاسة إنما لحق ما جاور الفأرة دون ما جاور هذا الماء وإن الفأرة تجعله بمنزلة أعيان النجاسات فلذلك حكمنا بتطهير بعض ما بها فإن قيل لو كان الأمر على ما ذكرت لم يكن لقوله ص - الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه معنى لأن الماء المجاور للنجاسة ليس نجس في نفسه مع ظهور النجاسة فيه قيل له هذا أيضا معنى صحيح غير ما ادعيت واستفدنا به فائدة أخرى غير ما استفدناه بالخبر الذي اقتصر فيه على قوله الماء طهور لا ينجسه شيء عاريا من ذكر الاستثناء وذلك لأنه إخبار عن حال غلبة النجاسة وسقوط حكم الماء معها فيصير الجميع في حكم أعيان النجاسات وأفاد بذلك أن الحكم للغالب كما تقول في الماء إذا مازجه اللبن أو الخل أن الحكم للأغلب منهما وقد تكلمنا في هذه المسألة وفي مسئلة القلتين في مواضع فأغنى عن إعادته ههنا
فصل وأما الماء المستعمل فإن أصحابنا والشافعي لا يجيزون الوضوء به على اختلاف منهم في الماء المستعمل ما هو وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به على كراهة من مالك له والدليل على صحة القول الأول ما روى أبو عوانة عن داود بن عبدالله الأودي عن حميد بن عبدالرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

قال نهانا رسول الله ص
- أن يغتسل الرجل بفضل وضوء المرأة و تغتسل المرأة بفضل وضوء الرجل وليفترقا وفضل الطهور يتناول شيئين ما يسيل من أعضاء المغتسل والآخر ما يبقى في الإناء بعد الغسل وعمومه ينتظمهما فاقتضى ذلك النهي عن الوضوء بالماء المستعمل لأنه فضل طهور وأيضا قوله ص - لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من جنابة وروى بكير بن عبدالله بن الأشج عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال يا بني عبدالمطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس وعن عمر أنه
قال لأسلم حين أكل من تمر الصدقة أرأيت

لو توضأ إنسان بماء أكنت شاربه فدل تشبيه الصدقة حين حرمها عليهم بغسالة أيدي الناس أن غسالة أيدي الناس لا يجوز استعمالها ومن جهة النظر أن الماء إذا أزيل به الحدث مشبه للماء الذي أزيل به النجاسة من حيث استباح الصلاة بهما فلما لم تجز الطهارة بالماء الذي أزيل به النجاسة كذلك ما أزيل به الحدث ومن جهة أخرى وهي أن الاستعمال قد أكسبه إضافة سلبه بها إطلاق الاسم فصار بمنزلة الماء الذي امتنع فيه إطلاق اسم الماء بمخالطة غيره له والمستعمل أولى بذلك من جهة ما تعلق به من الحكم في زوال الحدث أوحصول قربة فإن قيل فلو استعمله للتبرد لم يمنع ذلك جواز استعماله للطهارة كذلك إذا استعمله للطهارة قيل له استعماله للتبرد لم يمنع إطلاق الاسم فيه إذ لم يتعلق به حكم فهو كاستعماله في غسل ثوب طاهر واحتج من أجاز ذلك بقوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا وقوله وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به قال فذلك يقتضي جواز الوضوء به من وجهين أحدهما أنه لما لم يكن نجسا ولم تجاوره نجاسة وجب بقاؤه على الحال الأولى والثاني أن قوله طهورا يقتضي جواز التطهير به مرة بعد أخرى فيقال له إن بقاءه على الحالة الأولى بعد الطهارة هو موضع الخلاف وما ذكرت من العموم فإنما هو فيما لم يستعمل فيبقى على إطلاقه فأما ما يتناوله الاسم مقيدا فلم يتناوله العموم وأما قولك أن كونه طهورا يقتضي جواز الطهارة به مرة بعد أخرى فليس كذلك لأن ذلك إنما يذكر على جهة المبالغة في الوصف له بالطهارة أو التطهير ولا دلالة فيه على التكرار كما يقال رجل ضروب بالسيف ويراد المبالغة في الوصف بالضرب وليس المقتضى فيه تكرار الفعل ويقال رجل أكول إذا كان يأكل كثيرا وإن كان أكله في مجلس واحد ولا يراد به تكرار الأكل وقد بينا ذلك في مواضع أيضا وقوله تعالى وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا يجوز أن يريد به الماء الذي خلق منه أصل الحيوان في قوله وجعلنا من الماء كل شيء حي وقوله والله خلق كل دابة من ماء ويجوز أن يريد به النطفة التي خلق منها ولد آدم وقوله فجعله نسبا وصهرا قال طاوس الرضاعة من الصهر وقال الضحاك رواية النسب الرضاع والصهر الختونة وقال الفراء النسب الذي لا يحل نكاحه والصهر النسب الذي يحل نكاحه كبنات العم وقيل إن النسب ما رجع إلى ولادة قريبة والصهر خلطة تشبه القرابة وقال الضحاك النسب

سبعة أصناف ذكروا في قوله حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله وبنات الأخت والصهر خمسة أصناف ذكروا في قوله وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم إلى قوله وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم قال أبو بكر والتعارف في الأصهار أنهم كل ذي رحم محرم من نساء من أضيف إليه ذلك ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى الأصهار فلان إنه لكل ذي رحم محرم لنساء فلان وهو المتعارف من مفهوم كلام الناس قال والأختان أزواج البنات وكل ذات محرم من المضاف إليه الختن وكل ذي رحم محرم من الأزواج أيضا وقد يستعمل الصهر في موضع الختن فيسمون الختن صهرا قال الشاعر ... سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن زميت ...

فأقام الصهر مقام الختن وهو محمول على المتعارف من ذلك قوله تعالى وهو
الذي جعل الليل والنهار خلفة الآية روى شمر بن عطية عن ابن سلمة قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال يا أمير المؤمنين فاتتني الصلاة فقال أبدل ما فاتك من ليلك في نهارك فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا وروى يونس عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد وعبدالله بن عتبة أنهما أخبرا عن عبدالرحمن بن عبدالقاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من نام عن جزئه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل وقال الحسن جعل الليل والنهار خلفة جعل أحدهما خلفة للآخر إن فات من النهار شيء أدركه بالليل وكذلك لو فات من الليل قال أبو بكر هذا في نحو قوله وأقم الصلاة لذكري وقوله ص - من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها وقد روي عن مجاهد في قوله خلفة أحدهما أسود والآخر أبيض وقيل يذهب أحدهما ويجيء الآخر وقوله تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد هونا قال بالوقار والسكينة وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما قال سدادا وعن الحسن أيضا يمشون على الأرض هونا حلماء لا يجهلون على أحاد وإن جهل عليهم حلموا قد براهم الخوف كأنهم القداح هذا نهارهم ينتشرون به في الناس والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما قال هذا ليلهم إذا دخل يراوحون بين أطرافهم فهم بينهم وبين ربهم وعن ابن عباس يمشون على الأرض هونا قال بالتواضع لا يتكبرون وقوله

تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا قال من أنفق درهما في معصية الله فهو مسرف ولم يقتروا البخل منع حق الله وكان بين ذلك قواما قال القصد والإنفاق في طاعة الله عز و جل وقال ابن سيرين السرف إنفاقه في غير حق وقوله تعالى والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية روى الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله قال جاء رجل فقال يا رسول الله أي الذنب أكبر قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قال ثم أي قال أن تزني بحليلة جارك قال فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه والذين لا يدعون مع الله إلها آخر إلى قوله أثاما قوله تعالى والذين لا يشهدون الزور عن أبي حنيفة الزور الغنا وعن ابن عباس في قوله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال يشتري المغنية وعن عبدالله بن مسعود مثله وعن مجاهد قال ومن الناس من يشتري لهو الحديث قال الغناء وكل لعب ولهو وروى ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان وصوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان وروى عبيدالله بن زحر عن بكر بن سوادة عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إن الله حرم علي الخمر والكوبة والغناء قال محمد بن الحنفية أيضا في قوله لا يشهدون الزور أن لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا قال أبو بكر يحتمل أن يريد به الغنا على ما تأولوه عليه ويحتمل أيضا القول بما لا علم للقائل به وهو على الأمرين لعموم اللفظ قوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراما قال سعيد بن جبير ومجاهد إذا أوذوا مروا كراما صفحوا وروى أبو مخزوم عن سنان إذا مروا باللغة مروا كراما قال إذا مروا بالرفث كنوا وقال الحسن اللغو كله المعاصي قال السدي هي مكية قال أبو بكر يعني أنه قبل الأمر بقتال المشركين وقوله تعالى إن عذابها كان غراما قيل لازما ملحا دائما ومنه الغريم لملازمته والحاجة وأنه لمغرم بالنساء أي ملازم لهن لا يصبر عنهن وقال الأعشى ... إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي ...

وقال بشر بن أبي حازم

يوم النساء ويوم الجفا ... ركانا عذابا وكان غراما ...
قال لنا أبو عمر غلام ثعلب أصل الغرم اللزوم في اللغة وذكر نحوا مما قدمنا ويسمى الدين غرما ومغرما لأنه يقتضي اللزوم والمطالبة فيقال للطالب الغريم لأن له اللزوم وللمطلوب غريم لأنه يثبت عليه اللزوم وعلى هذا قوله ص - لا يغلق الرهن لصاحبه غنمه وعليه غرمه يعني دينه الذي هو مرهون به وزعم الشافعي أن الغرم الهلاك قال أبو عمر وهذا خطأ في اللغة وروي عن الحسن أنه قال ليس غريم إلا مفارقا غريمه غير جهنم فإنها لا تفارق غريمها قوله تعالى قرة أعين قال الحسن قرة الأعين في الدنيا وهو أن يرى العبد من زوجته ومن أخيه طاعة الله تعالى وقال والله ما شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولده أو والده أو ولد ولده أو أخاه حميما مطيعا لله تعالى وعن سلمة بن كهيل أقربهم عينا أن يطيعوك وروى أبو أسامة عن الأحوص بن حكيم عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من رزق إيمانا وحسن خلق فذاك إمام المتقين وقال مجاهد والحسن واجعلنا للمتقين إماما نأتم بمن قبلنا حتى يأتم بنا من بعدنا وقوله تعالى قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم قال مجاهد ما يصنع بكم ربي وهو لا يحتاج إليكم لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته لتنتفعوا أنتم بذلك آخر سورة الفرقان
ومن سورة الشعراء
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى واجعل لي لسان صدق في الآخرين قال الثناء الحسن فاليهود تقر بنبوته وكذلك النصارى وأكثر الأمم وقيل اجعل من ولدي من يقوم بالحق ويدعو إليه وهو محمد ص - والمؤمنون به وقوله تعالى إلا من أتى الله بقلب سليم قيل إنما سأل سلامة القلب لأنه إذا سلم القلب سلم سائر الجوارح من الفساد إذ الفساد بالجوارح لا يكون إلا عن قصد فاسد بالقلب فإن اجتمع مع ذاك جهل فقد عدم السلامة من وجهين وروى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إني لأعلم مضغة إذا صلحت صلح البدن كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب وقوله تعالى وإنه لتنزيل رب العالمين إلى قوله وإنه لفي زبر الأولين أخبر عن القرآن بأنه تنزيل رب العالمين ثم أخبر أنه في زبر الأولين ومعلوم أنه لم يكن في زبر الأولين بهذه اللغة فهذا مما يحتج به في أن نقله

إلى لغة أخرى لا يخرجه من أن يكون قرآنا لإطلاق اللفظ بأنه في زبر الأولين مع كونه فيها بغير اللغة العربية وقوله تعالى والشعراء يتبعهم الغاوون روى سفيان عن سلمة بن كهيل عن مجاهد في قوله والشعراء يتبعهم الغاوون قال عصاة الجن وروى خصيف عن مجاهد والشعراء يتبعهم الغاوون قال الشاعران يتهاجيان فيكون لهذا أتباع ولهذا أتباع من الغواة فذم الله الشعراء الذين صفتهم ما ذكر وهم الذين في كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون وشبهه بالهائم على وجهه في كل واد يعن له لما يغلب عليه من الهوى غير مفكر في صحة ما يقول ولا فساده ولا في عاقبة أمره وقال ابن عباس وقتادة في كل واد يهيمون في كل لغوة يخوضون يمدحون ويذمون يعنون الأباطيل وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا ومعناه الشعر المذموم الذي ذم الله قائله في هذه الآية لأنه قد استثنى المؤمنين منهم بقوله إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لحسان اهجهم ومعك روح القدس وذلك موافق لقوله وانتصروا من بعد ما ظلموا كقوله تعالى ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل وقوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وروى أبي بن كعب وعبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن من الشعر لحكمة آخر سورة الشعر
ومن سورة القصص
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج من الناس من يحتج بذلك في جواز عقد النكاح على منافع الحر وليس فيه دلالة على ما ذكروا لأنه شرط منافعه لشعيب عليه السلام ولم يشرط لها مهرا فهو بمنزلة من تزوج امرأة بغير مهر مسمى وشرط لوليها منافع الزوج مدة معلومة فهذا إنما يدل على جواز عقد من غير تسمية مهر وشرطه للمولى ذلك يدل على أن عقد النكاح لا تفسده الشروط التي لا يوجبها العقد وجائز أن يكون قد كان النكاح جائزا في تلك الشريعة بغير بدل تستحقه المرأة فإن كان كذلك فهذا منسوخ بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم -

ويدل على أنه قد كان جائزا في تلك الشريعة أن يشرط للولي منفعة ويحتج به
في جواز الزيادة في العقود لقوله تعالى فإن

أتممت عشرا فمن عندك قال ابن عباس قضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما قوله تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه الآية قال مجاهد كان ناس من أهل الكتاب أسلموا فآذاهم المشركون فصفحوا عنهم يقولون سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين قال أبو بكر هذا سلام متاركة وليس بتحية وهو نحو قوله وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقوله واهجرني مليا وقال إبراهيم سلام عليك سأستغفر لك ربي ومن الناس من يظن أن هذا يجوز على جواز ابتداء الكافر بالسلام وليس كذلك لما وصفنا من أن السلام ينصرف على معنيين أحدهما المسالمة التي هي المتاركة والثاني التحية التي هي دعاء بالسلامة والأمن نحو تسليم المسلمين بعضهم على بعض وقوله ص - للمؤمن على المؤمن ست أحدهما أن يسلم عليه إذا لقيه وقوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها وقوله تحيتهم فيها سلام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الكفار لا تبدؤهم بالسلام وأنه إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم قوله فوكزه موسى فقضى عليه وقال تعالى وقتلت نفسا فأخبر أنه قتله بوكزه ثم قال رب إني ظلمت نفسي فقال بعضهم هذا يدل على أن القتل باللطمة عمد لولا ذلك لم يقل إني ظلمت نفسي على الإطلاق وهذا خطأ لأنه يجوز أن يقول ظلمت نفسي بإقدامي على الوكز من غير توقيف ولا دلالة فيه على أن القتل عمد إذ الظلم لا يختص بالقتل دون الظلم وكان صغيرة وقوله تعالى فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله يستدل به بعضهم على أن للزوج أن يسافر بامرأته وينقلها إلى بلد آخر ويفرق بينها وبين أبويها ولا دلالة فيه عندي على ذلك لأنه جائز أن يكون فعل برضاها آخر سورة القصص
ومن

سورة العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا روى أبو عبيدة عن عبدالله قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الصلوات لوقتهن قلت ثم مه قال الجهاد في سبيل الله قلت ثم مه قال بر الوالدين وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر والآية والخبر يدلان معا على انه لا
يجوز للرجل أن يقتل أباه وإن كان مشركا ونهى النبي صلى الله عليه وسلم - حنظلة بن أبي عامر عن قتل أبيه وكان مشركا ويدل على أنه

لا يقتص للولد من الوالد قوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر روى ابن مسعود وابن عباس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وقال ابن مسعود الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها قال أبو بكر يعني القيام بموجبات الصلاة من الإقبال عليها بالقلب والجوارح وإنما قيل تنهى عن الفحشاء والمنكر لأنها تشتمل على أفعال وأذكار لا يتخللها غيرها من أمور الدنيا وليس شيء من الفروض بهذه المنزلة فهي تنهى عن المنكر وتدعو إلى المعروف بمعنى أن ذلك مقتضاها وموجبها لمن قام بحقها وعن الحسن قال من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم -

قيل له إن فلانا يصلي بالليل ويسرق بالنهار فقال لعل صلاته تنهاه وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال حبب إلي من دنياكم ثلاث النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة وروي عن بعض السلف قال لم تكن الصلاة قرة عينه ولكنه كان إذا دخل الصلاة يرى فيها ما تقر عينه قوله تعالى ولذكر الله أكبر قال ابن عباس وابن مسعود وسلمان ومجاهد ذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته وروي عن سلمان أيضا وأم الدرداء وقتادة ذكر العبد لربه أفضل من جميع عمله وقال السدي ذكر الله في الصلاة أكبر من الصلاة وقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن قال قتادة هي منسوخة بقوله وقاتلوا المشركين ولا مجادلة أشد من السيف قال أبو بكر يعني أن ذلك كان قبل الأمر بالقتال وقوله تعالى إلا الذين ظلموا منهم يعني والله أعلم إلا الذين ظلموكم في جدالهم أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم وهو نحو قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم وقال مجاهد إلا الذين ظلموا منهم بمنع الجزية وقيل إلا الذين ظلموا منهم بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم آخر سورة العنكبوت
ومن
سورة الروم
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله روي عن ابن عباس ومجاهد في قوله وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس هو الرجل يهب الشيء يريد أن يثاب أفضل منه فذلك الذي لا يربو عند الله ولا يؤجر صاحبه فيه ولا إثم عليه وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله وعن سعيد بن جبير قال هو الرجل يعطي

ليثاب عليه وروى عبدالوهاب عن خالد عن عكرمة وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس قال الربا ربوان فربا حلال وربا حرام فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس به ما هو أفضل منه وروى زكريا عن الشعبي وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس قال كان الرجل يسافر مع الرجل فيخف له ويخدمه فيجعل له من ربح ماله ليجزيه بذلك وروى عبدالعزيز بن أبي رواد عن الضحاك وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس قال هو الربا الحلال يهدي ليثاب أفضل منه فذلك لا له ولا عليه ليس فيه أجر وليس عليه فيه إثم وروى منصور عن إبراهيم ولا تمنن تستكثر قال لا تعط لتزداد قال أبو بكر يجوز أن يكون ذلك خاصا للنبي ص - لأنه كان في أعلى مراتب مكارم الأخلاق كما حرم عليه الصدقة وقد روي عن الحسن في قوله تعالى ولا تمنن تستكثر لا تستكثر عملك فتمن به على ربك وقوله تعالى الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يعني أنه خلقكم ضعفاء حملا في بطون الأمهات ثم أطفالا لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضرا ثم جعلكم أقوياء ثم أعطاكم من الاستطاعة والعقل والدراية للتصرف في اختلاف المنافع ودفع المضار ثم جعلكم ضعفاء في حال الشيخوخة كقوله تعالى ومن نعمره ننكسه في الخلق وقوله ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا فيبقى مسلوب القوى والفهم كالصبي بل حاله دون حال الصبي لأن الصبي في زيادة من القوى والفهم من حين البلوغ وكمال حال الإنسانية وهذا يزداد على البقاء ضعفا وجهلا ولذلك سماه الله تعالى أرذل العمر وجعل الشيب قرينا للضعف بقوله ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة وهو كقوله تعالى حاكيا عن نبيه زكريا عليه السلام رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا آخر سورة الروم
ومن

سورة لقمان
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى حملته أمه وهنا على وهن قال الضحاك ضعفا على ضعف يعني ضعف الولد على ضعف الأم وقيل بل المعنى فيه شدة الجهد وفصاله في عامين يعني في انقضاء عامين وفي آية أخرى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فحصل بمجموع الآيتين أن أقل مدة

الحمل ستة أشهر وبه استدل ابن عباس على مدة أقل الحمل واتفق أهل العلم عليه وقوله تعالى يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك يعني والله أعلم اصبر على ما أصابك من الناس في الأمر بالمعروف وظاهره يقتضي وجوب الصبر وإن خاف على النفس إلا أن الله تعالى قد أباح إعطاء التقية في حال الخوف في آي غيرها قد بيناها وقد اقتضت الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى ولا تصعر خدك للناس قال ابن عباس ومجاهد معناه لا تعرض بوجهك عن الناس تكبرا وقال إبراهيم هو التشدق ومعناه يرجع إلى الأول لأن المتشدق في الكلام متكبر وقيل إن أصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤسها حتى يلوي وجوهها وأعناقها فيشبه بها الرجل الذي يلوي عنقه عن الناس قال الشاعر ... وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما ...
قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه إلى قوله وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا أبان تعالى بذلك أن أمره بالإحسان إلى الوالدين عام في الوالدين المسلمين والكفار لقوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وأكده بقوله وصاحبهما في الدنيا معروفا وفي ذلك دليل على أنه لا يستحق القود على أبيه وأنه لا يحد له إذا قذفه ولا يحبس له بدين عليه وأن عليه نفقتهما إذا احتاجا إليه إذ كان جميع ذلك من الصحبة بالمعروف وفعل ضده ينافي مصاحبتهما بالمعروف ولذلك قال اصحابنا إن الأب لا يحبس بدين ابنه وروي عن أبي يوسف أنه يحبسه إذا كان متمردا وقوله تعالى واتبع سبيل من أناب إلي يدل على صحة إجماع المسلمين لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم وهو مثل قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين وقوله تعالى ولا تمش في الأرض مرحا المرح البطر وإعجاب المرء بنفسه وازدراء الناس والإستهانة بهم فنهى الله عنه إذ لا يفعل ذلك إلا جاهل بنفسه وأحواله وابتداء أمره ومنتهاه قال الحسن أنى لابن آدم الكبر وقد خرج من سبيل البول مرتين وقوله تعالى إن الله لا يحب كل مختال فخور قال مجاهد هو المتكبر والفخور الذي يفتخر بنعم الله تعالى على الناس استصغارا لهم وذلك مذموم لأنه إنما يستحق عليه الشكر لله على نعمه لا التوصل بها إلى معاصيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

حين ذكر نعم الله أنه سيد ولد آدم ولا

فخر فأخبر أنه إنما ذكرها شكرا لا افتخارا على نحو قوله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث قوله تعالى واقصد في مشيك قال يزيد بن أبي حبيب هو السرعة قال أبو بكر يجوز أن يكون تأوله على ذلك لأن المختال في مشيته لا يسرع فيها فسرعة المشي تنافي الخيلاء والتكبر وقوله تعالى واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير فيه أمر بخفض الصوت لأنه أقرب إلى التواضع كقوله تعالى إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ورفع الصوت على وجه ابتهار الناس وإظهار الإستخفاف بهم مذموم فأبان عن قبح هذا الفعل وأنه لا فضيلة فيه لأن الحمير ترفع أصواتها وهو أنكر الأصوات قال مجاهد في قوله أنكر الأصوات أقبحها كما يقال هذا وجه منكر فذكر الله تعالى ذلك وأدب العباد تزهيدا لهم في رفع الصوت وقوله تعالى إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام مفهوم هذا الخطاب الإخبار بما يعلمه هو دون خلقه وأن أحدا لا يعلمه إلا بإعلامه إياه وفي ذلك دليل على أن حقيقة وجود الحمل غير معلومة عندنا وإن كانت قد يغلب على الظن وجوده وهذا يوجب أن يكون نافي حمل امرأته من نفسه غير قاذف لها وقد بينا ذلك فيما سلف قوله تعالى واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا يدل على أن أحدا لا يستحق عند الله فضيلة بشرف أبيه ولا بنسبه لأنه لم يخصص أحدا بذلك دون أحد وبذلك ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في قوله من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه وقال يا بني عبدالمطلب لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم فأقول إني لا أغني عنكم من الله شيئا وقوله لا يجزي والد عن ولده معناه لا يغني يقال جزيت عنك إذا أغنيت عنك آخر سورة لقمان
ومن سورة السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى تتجافى جنوبهم عن المضاجع حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل في قوله تتجافى جنوبهم عن المضاجع قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم - في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله

عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب من الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ جزاء بما كانوا يعملون ثم قال ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأسه الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال ألا أخبرك بملاك ذلك كله قلت بلى يا رسول الله فأخذ بلسانه فقال أكفف عليك هذا قلت يا رسول الله إنما لمؤاخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبدالرزاق عن معمر قال تلا قتادة فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين قال قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وروى أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله قال للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم تلا فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين وروي عن مجاهد وعطاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع قالا العشاء الآخرة وقال الحسن تتجافى جنوبهم عن المضاجع كانوا يتنفلون بين المغرب والعشاء وقال الضحاك في قوله يدعون ربهم خوفا وطمعا إنهم يذكرون الله بالدعاء والتعظيم وقال قتادة خوفا من عذاب الله وطمعا في رحمة الله مما رزقناهم ينفقون في طاعة الله آخر سورة السجدة
ومن

سورة الأحزاب
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه روي عن ابن عباس رواية إنه كان رجل من قريش يدعى ذا القلبين من دهائه وعن مجاهد وقتادة مثله وعن ابن عباس أيضا كان المنافقون يقولون لمحمد ص - قلبان فأكذبهم الله تعالى وقال الحسن كان رجل يقول لي نفس تأمرني ونفس تنهاني فأنزل الله فيه هذا وروي عن مجاهد أيضا أن رجلا من بني فهر قال في جوفي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد فكذبه الله عز و جل وذكر أبو جعفر الطحاوي أنه لم يرو في تفسيرها غير ما ذكرنا قال وحكى

الشافعي عن بعض أهل التفسير ممن لم يسمه في احتجاجه على محمد في نفي أن يكون الولد من رجلين أنه أريد بها ما جعل الله لرجل من أبوين في الإسلام قال أبو بكر اللفظ غير محتمل لما ذكر لأن القلب لا يعبر به عن الأب لا مجازا ولا حقيقة ولا ذلك اسم له في الشريعة فتأويل الآية على هذا المعنى خطأ من وجوه وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه رأى جارية مجحا فقال لمن هذه الجارية فقالوا لفلان فقال أيطؤها قالوا نعم قال لقد هممت أن ألعنه لعنة رجل يدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له أم كيف يسترقه وقد غذاه في سمعه وبصره فقوله قد غذاه في سمعه وبصره يدل على أن الولد يكون من ماء رجلين وقد روي عن علي وعمر إثبات نسب الولد من رجلين ولا يعرف عن غيرهما من الصحابة خلافه وقوله تعالى وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم قال أبو بكر كانوا يظاهرون من نسائهم فيقولون أنت علي كظهر أمي فأخبر الله تعالى أنها لا تصير بمنزلة أمه في التحريم وجعل هذا القول منكرا من القول وزورا بقوله تعالى وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وألزمه بذلك تحريما ترفعه الكفارة وأبطل ما أوجبه المظاهر من جعله إياها كالأم لأن تحريمها تحريما مؤبدا وقوله تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم قيل إنه نزل في زيد بن حارثة وكان النبي صلى الله عليه وسلم - قد تبناه فكان يقال له زيد بن محمد وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وغيرهما قال أبو بكر هذا يوجب نسخ السنة بالقرآن لأن الحكم الأول كان ثابتا بغير القرآن ونسخه بالقرآن وقوله تعالى ذلك قولكم بأفواهكم يعني أنه لا حكم له وإنما هو قول لا معنى له ولا حقيقة وقوله تعالى ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم فيه إباحة إطلاق اسم الأخوة وحظر إطلاق اسم الأبوة من غير جهة النسب ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لعبده هو أخي لم يعتق إذا قال لم أرد به الأخوة من النسب لأن ذلك يطلق في الدين ولو قال هو ابني عتق لأن إطلاقه ممنوع إلا من جهة النسب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم إنه غير أبيه فالجنة عليه حرام وقوله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به روى ابن أبي نجيح عن مجاهد وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به قال قيل هذا النهي في هذا أو في غيره ولكن ما تعمدت قلوبكم والعمد ما آثرته بعد البيان في النهي في هذا أو في غيره وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق

قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به قال قتادة لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه ليس عليك بأس وسمع عمر بن الخطاب رجلا وهو يقول اللهم اغفر لي خطاياي فقال استغفر الله في العمد فأما الخطأ فقد تجوز عنك قال يقول ما أخاف عليكم الخطأ ولكني أخاف عليكم العمد وما أخاف عليكم المقاتلة ولكني أخاف عليكم التكاثر وما أخاف عليكم أن تزدروا أعمالكم ولكني أخاف عليكم أن تستكثروها وقوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم قال أخبرني أبو سلمة عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلي وإن ترك مالا فهو لورثته وقيل في معنى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم أنه أحق بأن يختار ما دعا إليه من غيره ومما تدعوه إليه أنفسهم وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم - أحق أن يحكم في الإنسان بما لا يحكم به في نفسه لوجوب طاعته لأنها مقرونة بطاعة الله تعالى قال أبو بكر الخبر الذي قدمنا لا ينافي ما عقبناه به من المعنى ولا يوجب الاقتصار بمعناه على قضاء الدين المذكور فيه وذلك لأنه جائز أن يكون مراده إنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم في أن يختاروا ما أدعوهم إليه دون ما تدعوهم أنفسهم إليه وأولى بهم في الحكم عليهم ولزومهم اتباعه وطاعته ثم أخبر بعد ذلك بقضاء ديونهم وقوله تعالى وأزواجه أمهاتهم قيل فيه وجهان أحدهما أنهم كأمهاتهم في وجوب الإجلال والتعظيم والثاني تحريم نكاحهن وليس المراد أنهن كالأمهات في كل شيء لأنه لو كان كذلك لما جاز لأحد من الناس أن يتزوج بناتهن لأنهن يكن أخوات للناس وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم - بناته ولو كن أمهات في الحقيقة ورثن المؤمنين وقد روي في حرف عبدالله وهو أب لهم ولو صح ذلك كان معناه أنه كالأب لهم في الإشفاق عليهم وتحري مصالحهم كما قال تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم وقوله تعالى إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا روي عن محمد بن الحنفية أنها نزلت في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني وعن الحسن أن تصلوا أرحامكم وقال عطاء هو المؤمن والكافر بينهما قرابة إعطاؤه له

أيام حياته ووصيته له وحدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا قال إلا أن يكون لك ذو قرابة ليس على دينك فتوصي له بشيء هو وليك في النسب وليس وليك في الدين وقوله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة من الناس من يحتج به في وجوب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم - ولزوم التأسي به فيها ومخالفو هذه الفرقة يحتجون به أيضا في نفي إيجاب أفعاله فأما الأولون فإنهم ذهبوا إلى أن التأسي به هو الإقتداء به وذلك عموم في القول والفعل جميعا فلما قال تعالى لمن كان يرجو الله واليوم الآخر دل على أنه واجب إذ جعله شرطا للإيمان كقوله تعالى واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ونحوه من الألفاظ المقرونة إلى الإيمان فيدل على الوجوب واحتج الآخرون بأن قوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة يقتضي ظاهره الندب دون الإيجاب لقوله تعالى لكم مثل قول القائل لك أن تصلي ولك أن تتصدق لا دلالة فيه على الوجوب بل يدل ظاهره على أن له فعله وتركه وإنما كان يدل على الإيجاب لو قال عليكم التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو بكر والصحيح أنه لا دلالة فيه على الوجوب بل دلالته على الندب أظهر منها على الإيجاب لما ذكرنا ومع ذلك ورد بصيغة الأمر لما دل على الوجوب في أفعاله ص - لأن التأسي به هو أن نفعل مثل ما فعل ومتى خالفناه في اعتقاد الفعل أو في معناه لم يكن ذلك تأسيا به ألا ترى أنه إذا فعله على الندب وفعلناه على الوجوب كنا غير متأسين به وإذا فعل ص - فعلا لم يجز لنا أن نفعله على اعتقاد الوجوب فيه حتى نعلم أنه فعله على ذلك فإذا علمنا أنه فعله على الوجوب لزمنا فعله على ذلك الوجه لا من جهة هذه الآية إذ ليس فيها دلالة على الوجوب لكن من جهة ما أمرنا الله تعالى باتباعه في غير هذه الآية وقوله تعالى ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله قيل إنه وعدهم أنهم إذا لقوا المشركين ظفروا بهم واستعلوا عليهم كقوله تعالى ليظهره على الدين كله وقال قتادة الذي وعدهم في قوله أ م حسبتم أن تدخلوا الجنة ولم يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم الآية وقوله تعالى وما زادهم إلا إيمانا وتسليما إخبار عن صفتهم في حال المحنة وأنهم ازدادوا عندها يقينا وبصيرة وذلك صفة أهل البصائر في الإيمان بالله وقوله تعالى فمنهم من قضى نحبه قيل إن النحب النذر أي قضى نذره

الذي نذره فيما عاهد الله عليه وقال الحسن قضى نحبه مات على ما عاهد الله عليه ويقال إن النحب الموت والنحب المد في السير يوما وليلة وقال مجاهد قضى نحبه عهده قال أبو بكر لما كان النحب قد يجوز أن يكون المراد به العهد والنذر وقد مدحهم الله على الوفاء به بعينه دل ذلك على أن من نذر قربة فعليه الوفاء به بعينه دون كفارة اليمين وقوله تعالى وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم قيل في الصياصي أنها الحصون التي كانوا يمتنعون بها وأصل الصيصة قرن البقرة وبها تمتنع وتسمى بها شوكة الديك لأنه بها يمتنع فسميت الحصون صياصي على هذا المعنى وروي أن المراد بها بنو قريظة كانوا نقضوا العهد وعاونوا الأحزاب وقال الحسن هم بنو النضير وسائر الرواة على أنهم بنو قريظة وظاهر الآية يدل عليه لأنه قال تعالى فريقا تقتلون وتأسرون فريقا ولم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم -

بني النضير ولا أسرهم وإنما أجلاهم عن بلادهم وقوله تعالى وأورثكم
أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها يعني به أرض بني قريظة وعلى تأويل من تأوله على بني النضير فالمراد أرض بني النضير وقوله تعالى وأرضا لم تطؤها قال الحسن أرض فارس والروم وقال قتادة مكة وقال يزيد بن رومان خيبر قال أبو بكر من الناس من يحتج به في أن الأرضين العنوية التي يظهر عليها الإمام يملكها الغانمون ولا يجوز للإمام أن يقر أهلها عليها على أنها ملك لهم لقوله وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وظاهره يقتضي إيجاب الملك لهم ولادلالة فيه على ما ذكروا لأن ظاهره قوله وأورثكم لا يختص بإيجاب الملك دون الظهور والغلبة وثبوت اليد ومتى وجد أحد هذه الأشياء فقد صح معنى اللفظ قال الله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ولم يرد بذلك الملك وأيضا فلو صح أن المراد الملك كان ذلك في أرض بني قريظة في قوله وأورثكم أرضهم وأما قوله وأرضا لم تطؤها فإنه يقتضي أرضا واحدة لا جميع الأرضين فإن كان المراد خيبر فقد ملكها المسلمون وإن كان المراد أرض فارس والروم لقد ملك المسلمون بعض أرض فارس والروم فقد وجد مقتضى الآية ولا دلالة فيه على أن سبيلهم أن يملكوا جميعها إذ كان قوله وأرضا لم تطؤها لم يتناول إلا أرضا واحدة فلا دلالة فيه على قول المخالف وقوله تعالى

يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية حدثنا عبدالله بن محمد المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت لما نزلت وإن كنتن تردن الله ورسوله دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم - فبدأ بي فقال يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت قد علم الله تعالى إن أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقه قالت فقرأ علي يا أيها النبي قل لأزواجك الآية فقلت أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وروى غير الجرجاني عن عبدالرزاق قال معمر فأخبرني أيوب أن عائشة قالت يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني أختارك قال إنما بعثت معلما ولم أبعث متعنتا قال أبو بكر اختلف الناس في معنى تخيير الآية فقال قائلون وهم الحسن وقتادة إنما خيرهن بين الدنيا والآخرة لأنه قال إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها إلى قوله وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة وقال آخرون بل كان تخييرا للطلاق على شريطة أنهن إذا اخترن الدنيا وزينتها كن مختارات للطلاق لأنه تعالى قال إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا فجعل اختيارهن للدنيا اختيارا للطلاق ويستدلون عليه أيضا بما روى مسروق عن عائشة أنها سئلت عن الرجل يخير امرأته فقالت قد خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أفكان طلاقا وفي بعض الأخبار فاخترناه فلم يعده طلاقا قالوا ولم يثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم - خيرهن إلا الخيار المأمور به في الآية ويدل عليه ما قدمناه من حديث عروة عن عائشة أنها لما نزلت الآية قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم - إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت قد علم الله أن أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقه ثم تلا عليها الآية قالت إني أريد الله ورسوله والدار الآخرة فقالوا هذا الخبر أيضا قد حوى الدلالة من وجوه على أنه خيرهن بين الدنيا والآخرة وبين اختيارهن الطلاق أو البقاء على النكاح لأنه قال لها لا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك ومعلوم أن الاستئمار لا يقع في اختيار الدنيا على الآخرة فثبت أن الاستئمار إنما أريد به في الفرقة أو الطلاق أو النكاح وقولها إن أبوي لم يكونا يأمرانني بفراقه وقولها إني أريد الله ورسوله فهذه الوجوه كلها تدل على أن الآية قد اقتضت التخيير بين الطلاق والنكاح واحتج من قال لم يكن تخيير طلاق بقوله تعالى إن كنتن

تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا فإنما أمر الله نبيه ص - أن يطلقهن إذا اخترن الدنيا ولم يوجب ذلك وقوع طلاق باختيارهن كما يقول القائل لامرأته إن اخترت كذا طلقتك يريد به استئناف إيقاع بعد اختيارها لما ذكره قال أبو بكر قد اقتضت الآية لا محالة تخييرهن بين الفراق وبين النبي صلى الله عليه وسلم - لأن قوله وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة قد دل على إضمار اختيارهن فراق النبي صلى الله عليه وسلم -

في قوله إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها إذ كان النسق الآخر من
الاختيار هو اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - والدار الآخرة فثبت أن الاختيار الآخر إنما هو اختيار فراقه ويدل عليه قوله فتعالين أمتعكن والمتعة إنما هي بعد اختيارهن للطلاق وقوله وأسرحكن إنما المراد إخراجهن من بيوتهن بعد الطلاق كما قال تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن إلى قوله سراحا جميلا فذكر المتعة بعد الطلاق وأراد بالتسريح إخراجها من بيته وقد اختلف السلف فيمن خير امرأته فقال علي رضي الله عنه إن اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وذلك في رواية زادان عنه وروى أبو جعفر عن علي أنها إذا اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة وقال عمرو وعبدالله رضي الله عنهما في الخيار وأمرك بيدك إن اختارت نفسها فواحدة رجعية وإن اختارت زوجها فلا شيء وقال زيد بن ثابت في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فثلاث وقال في أمرك بيدك إن اختارت نفسها فواحدة رجعية واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة إذا أراد الزوج الطلاق ولا يكون ثلاثا وإن نوى وقالوا في أمرك بيدك مثل ذلك إلا أن ينوي ثلاثا فيكون ثلاثا وقال ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فواحدة يملك بها الرجعة وقال مالك في الخيار إنه ثلاث إذا اختارت نفسها وإن طلقت نفسها واحدة لم يقع شيء وقال في أمرك بيدك إذا قالت أردت واحدة فهي واحدة يملك الرجعة ولا يصدق في الخيار أنه أراد واحدة ولو قال اختاري تطليقة فطلقت نفسها فهي واحدة رجعية وقال الليث في الخيار إن اختارت زوجها فلا شيء وإن اختارت نفسها فهي بائنة وقال الشافعي في اختاري وأمرك بيدك ليس بطلاق إلا أن

يريد الزوج ولو أراد طلاقها فقالت قد اخترت نفسي فإن أرادت طلاقا فهو طلاق وإن لم ترده فليس بطلاق قال أبو بكر التخيير في نفسه ليس بطلاق لا صريح ولا كناية ولذلك قال أصحابنا إنه لا يكون ثلاثا وإن أرادهن ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم - خير نساءه فاخترنه فلم يكن ذلك طلاقا ولأن الخيار لا يختص بالطلاق دون غيره فلا دلالة فيه عليه وليس هو عندكم كقوله اعتدي أن يكون طلاقا إذا نوى لأن العدة من موجب الطلاق فالطلاق مدلول عليه باللفظ وإنما جعلوا الخيار طلاقا إذا اختارت نفسها بالاتفاق وبأنه معلوم أن تخيير النبي صلى الله عليه وسلم - نساءه لما كان بين الفراق والبقاء على النكاح إنهن لو اخترن أنفسهن لوقعت الفرقة لولا ذلك لم يكن للتخيير معنى وتشبيها له أيضا بسائر الخيارات التي تحدث في النكاح كخيار امرأة العنين والمجبوب فيقع به الطلاق إذا اختارت الفرقة ومن أجل ذلك لم يجعلوه ثلاثا لأن الخيارات الحادثة في الأصول لا تقع بها ثلاث
فصل قال أبو بكر ومن الناس من يحتج بهذه الآية في إيجاب الخيار وفي التفريق لامرأة العاجز عن النفقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

لما خير بين الدنيا والآخرة فاختار الفقر والآخرة أمر الله بتخير نسائه
فقال تعالى يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها الآية قال أبو بكر لا دلالة فيها على ما ذكروا وذلك لأن الله علق اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - لفراقهن بإرادتهن الحياة الدنيا وزينتها ومعلوم أن من أراد من نسائنا الحياة الدنيا وزينتها لم يوجب ذلك تفريقا بينها وبين زوجها فلما كان السبب الذي من أجله أوجب الله التخيير المذكور في الآية غير موجب للتخيير في نساء غيره فلا دلالة فيه على التفريق بين امرأة العاجز عن النفقة وبينه وأيضا فإن اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - للآخرة دون الدنيا وإيثاره للفقر دون الغنى لم يوجب أن يكون عاجزا عن نفقة نسائه لأن الفقير قد يقدر على نفقة نسائه مع كونه فقيرا ولم يدع أحد من الناس ولا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كان عاجزا عن نفقة نسائه بل كان يدخر لنسائه قوت سنة فالمستدل بهذه الآية
على ما ذكر مغفل لحكمها قوله تعالى يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين قيل في تضعيف عذابهن وجهان أحدهما أنه لما كانت نعم الله عليهن أكثر منها على غيرهن بكونهن أزواجا للنبي ص -
ونزول الوحي في بيوتهن وتشريفهن بذلك كان

كفرانها منهن أعظم وأجدر بعظم العقاب لأن النعمة كلما عظمت كان كفرانها أعظم فيما يستحق به من العقاب إذ كان استحقاق العقاب على حسب كفران النعمة ألا ترى أن من لطم أباه استحق من العقوبة أكثر مما يستحقه من لطم أجنبيا لعظم نعمة أبيه عليه وكفرانه لها بلطمته ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في نسق التلاوة واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة فدل على أن تضعيف العذاب عليهن بالمعصية لأجل عظم النعمة عليهن بتلاوة آيات الله في بيوتهن ومن أجل ذلك عظمت طاعاتهن أيضا بقوله ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين لأن الطاعة في استحقاق الثواب بها بإزاء المعصية في استحقاق العقاب بها والوجه الآخر أن في إتيانهن المعاصي أذى للنبي ص -

لما يلحق من العار والغم ومعلوم أن من آذى النبي ص
- فهو أعظم جرما ممن آذى غيره وقال تعالى إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ثم قال والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ولما عظم الله تعالى طاعات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -
وأوجب بها الأجر مرتين دل بذلك على أن أجر العامل العالم أفضل وثوابه
أعظم من العامل غير العالم وقوله تعالى واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة قد دل على ذلك قوله تعالى فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض قيل فيه أن لا تلين القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن من أهل الريبة وفيه الدلالة على أن ذلك حكم سائر النساء في نهيهن عن إلانة القول للرجال على وجه يوجب الطمع فيهن ويستدل به على رغبتهن فيهم والدلالة على أن الأحسن بالمرأة أن لا ترفع صوتها بحيث يسمعها الرجال وفيه الدلالة على أن المرأة منهية عن الأذان وكذلك قال أصحابنا وقال الله تعالى في آية أخرى ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن فإذا كانت منهية عن إسماع صوت خلخالها فكلامها إذا كانت شابة تخشى من قبلها الفتنة أولى بالنهي عنه وقوله تعالى وقرن في بيوتكن روى هشام عن محمد بن سيرين قال قيل لسودة بنت زمعة ألا تخرجين كما تخرج أخوتك قالت والله لقد حججت واعتمرت ثم أمرني الله أن أقر في بيتي فوالله لا أخرج فما خرجت حتى أخرجوا جنازتها وقيل إن معنى وقرن في بيوتكن كن أهل وقار وهدوء وسكينة يقال وقر فلان في منزله يقر وقورا إذا هدأ فيه واطمأن به وفيه الدلالة على أن النساء مأمورات بلزوم

البيوت منهيات عن الخروج وقوله تعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى روى ابن أبي نجيح عن مجاهد ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى قال كانت المرأة تتمشى بين أيدي القوم فذلك تبرج الجاهلية وقال سعيد عن قتادة ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى يعني إذا خرجتن من بيوتكن قال كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهاهن الله عن ذلك وقيل هو إظهار المحاسن للرجال وقيل في الجاهلية الأولى ما قبل الإسلام والجاهلية الثانية حال من عمل في الإسلام بعمل أولئك فهذه الأمور كلها مما أدب الله تعالى به نساء النبي صلى الله عليه وسلم -

صيانة لهن وسائر نساء المؤمنين مرادات بها وقوله تعالى إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت روي عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين وقال عكرمة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -
خاصة ومن قال بذلك يحتج بأن ابتداء الآية ونسقها في ذكر أزواج النبي ص
- ألا ترى إلى قوله واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وقال بعضهم في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - وفي ازواجه لاحتمال اللفظ للجميع وقوله تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم فيه الدلالة على أن أوامر الله وأوامر رسوله على الوجوب لأنه قد نفى بالآية أن تكون لنا الخيرة في ترك أوامر الله وأوامر الرسول ص - ولو لم يكن على الوجوب لكنا مخيرين بين الترك والفعل وقد نفت الآية التخيير وقوله تعالى ومن يعص الله ورسوله في نسق ذكر الأوامر يدل على ذلك أيضا وأن تارك الأمر عاص لله تعالى ولرسوله ص -
فقد انتظمت الآية الدلالة على وجوب أوامر الله وأوامر الرسول ص
- من وجهين أحدهما أنها نفت التخيير معهما والثاني أن تارك الأمر عاص لله ورسوله وقوله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه الآية روى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد قال قال لي علي بن الحسين ما كان الحسين يقول في قوله تعالى وتخفي في نفسك ما الله مبديه قال قلت كان يقول إنها كانت تعجبه وأنه قال لزيد اتق الله وأمسك عليك زوجك قال لا ولكن الله أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه فلما جاءه زيد يشكو منها قال له اتق الله وأمسك عليك زوجك قال الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وقيل إن زيدا قد كان يخاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
ودام الشر بينهما حتى ظن النبي ص
- أنهما لا يتفقان وأنه سيفارقها فأضمر النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه إن طلقها زيد تزوجها وهي زينب بنت جحش وكانت بنت عمة النبي ص

فأراد أن يضمها إليه صلة لرحمها وإشفاقا عليها فعاتبه الله على إضمار ذلك وإخفائه وقوله لزيد اتق الله أمسك عليك زوجك وأراد أن يكون باطنه وظاهره عند الناس سواء كما قال في قصة عبدالله بن سعد حين قيل له هلا أومأت إلينا بقتله فقال ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين وأيضا فإن ذلك لم يكن مما يجب إخفاؤه لأنه مباح جائز والله تعالى عالم به وهو أحق بأن يخشى من الناس وقد أباحه الله تعالى فالناس أولى بأن لا يخشوا في إظهاره وإعلانه وهذه القصة نزلت في زيد بن حارثة وكان ممن أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم النبي صلى الله عليه وسلم - عليه بالعتق ولذلك قيل للمعتق مولى نعمه وقوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم الآية قد حوت هذه الآية أحكاما أحدها الإبانة عن علة الحكم في إباحة ذلك للنبي ص - وإن ذلك قد اقتضى إباحته للمؤمنين فدل على إثبات القياس في الأحكام واعتبار المعاني في إيجابها والثاني أن النبوة من جهة التبني لا تمنع جواز النكاح والثالث أن الأمة مساوية للنبي ص -

في الحكم إلا ما خصه الله تعالى به لأنه أخبر أنه أحل ذلك للنبي ص
- ليكون المؤمنون مساوين له قوله عز و جل هو الذي يصلي عليكم وملائكته فإن الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدعاء قال الأعشى ... عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا ...
وروى معمر عن الحسن في قوله تعالى هو
الذي يصلي عليكم وملائكته قال إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام هل يصلي ربك فكان ذلك كبر في صدره فسأله فأوحى الله إليه أن أخبرهم أني أصلي وإن صلاتي رحمتي سبقت غضبي فإن قيل من أصلكم إنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان وقد جاء في القرآن اشتمال لفظ الصلاة على معنى الرحمة والدعاء جميعا قيل له هذا يجوز عندنا في الألفاظ المجملة والصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان فلا يمتنع إرادة المعاني المختلفة فيما كان هذا سبيله قال قتادة في قوله وسبحوه بكرة وأصيلا صلاة الضحى وصلاة العصر وقوله تعالى وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا سمى النبي صلى الله عليه وسلم -
سراجا منيرا تشبيها له بالسراج الذي به يستنار الأشياء في الظلمة لأنه
بعث ص - وقد طبقت على الأرض ظلمة الشرك فكان كالسراج الذي يظهر في الظلمة وكما سمى القرآن نورا وهدى وروحا وسمى جبريل عليه السلام روحا لأن

الروح بها يحيى الحيوان وذلك كله مجاز واستعارة وتشبيه وقوله تعالى تحيتهم يوم يلقونه سلام قال قتادة تحية أهل الجنة السلام قال أبو بكر هو مثل قوله دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام
باب

الطلاق قبل النكاح
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا قال أبو بكر قد تنازع أهل العلم في دلالة هذه الاية في صحة إيقاع طلاق المرأة بشرط التزويج وهو أن يقول إن تزوجت امرأة فهي طالق فقال قائلون قد اقتضت الآية إلغاء هذا القول وإسقاط حكمه إذ كانت موجبة لصحة الطلاق بعد النكاح وهذا القائل مطلق قبل النكاح وقال آخرون دلالتها ظاهرة في صحة هذا القول من قائله ولزوم حكمه عند وجود النكاح لأنها حكمت بصحة وقوع الطلاق بعد النكاح ومن قال لأجنبية إذا تزوجتك فأنت طالق فهو مطلق بعد النكاح فوجب بظاهر الآية إيقاع طلاقه وإثبات حكم لفظه وهذا القول هو الصحيح وذلك لأنه لا يخلو العاقد لهذا القول من أن يكون مطلقا في حال العقد أو في حال الإضافة ووجود الشرط فلما اتفق الجميع على أن من قال لامرأته إذا بنت مني وصرت أجنبية فأنت طالق أنه موقع للطلاق في حال الإضافة لا في حال القول وأنه بمنزلة من أبان امرأته ثم قال لها أنت طالق فسقط حكم لفظه ولم يعتبر حال العقد مع وجود النكاح فيها صح أن الاعتبار بحال الإضافة دون حال العقد فإن القائل للأجنبية إذا تزوجتك فأنت طالق موقع للطلاق بعد الملك وقد اقتضت الآية إيقاع الطلاق لمن طلق بعد الملك وقد اختلف الفقهاء في ذلك على ضروب من الأقاويل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو قال كل مملوك أملكه فهو حر إن من تزوج تطلق ومن ملك من المماليك يعتق ولم يفرقوا بين من عم أو خص وقال ابن أبي ليلى إذا عم لم يقع وإن سمى شيئا بعينه أو جماعة إلى أجل وقع وكذلك قول مالك وذكر عن مالك أيضا أنه إذا ضرب لذلك أجلا يعلم أنه لا يبلغه فقال إن تزوجت امرأة إلى كذا وكذا سنة لم يلزمه شيء ثم قال مالك ولو قال كل عبد أشتريه فهو حر فلا شيء عليه وقال الثوري إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لزمه ما قال وهو

قول عثمان البتي وقال الأوزاعي فمن قال لامرأته كل جارية أتسرى بها عليك فهي حرة فتسرى عليها جارية فإنها تعتق وقال الحسن بن صالح إذا قال كل مملوك أملكه فهو حر فليس بشيء ولو قال أشتريه أو أرثه أو نحو ذلك عتق إذا ملك بذلك الوجه لأنه خص ولو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فليس بشيء ولو قال من بني فلان أو من أهل الكوفة أو آل كذا لزمه قال الحسن لا نعلم أحدا منذ وضعت الكوفة أفتى بغير هذا وقال الليث فيما خص أنه يلزمه في الطلاق والعتق وقال الشافعي لا يلزمه من ذلك شيء لا إذا خص ولا إذا عم وقد اختلف السلف أيضا في ذلك روي عن ياسين الزيات عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن عمر بن الخطاب قال في رجل قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال هو كما قال وروى مالك عن سعيد بن عمرو بن سليم الزرقي أنه سأل القاسم بن محمد عن رجل طلق امرأته قبل أن يتزوجها فقال القاسم إن رجلا خطب امرأة فقال هي علي كظهر أمي إن تزوجتها فأمره عمر بن الخطاب أن يتزوجها ولا يقربها حتى يكفر كفارة الظهار وروى الثوري عن محمد بن قيس عن إبراهيم عن الأسود أنه قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فتزوجها ناسيا فأتى ابن مسعود فذكر ذلك له فألزمه الطلاق وهو قول النخعي والشعبي ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز وقال الشعبي إذا سمى امرأة بعينها أو قال إن تزوجت من بني فلان فهو كما قال وإذا قال كل امرأة أتزوجها فليس بشيء وقال سعيد بن المسيب إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فليس بشيء وقال القاسم بن سالم وعمر بن عبدالعزيز هو جائز عليه وروي عن ابن عباس في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق إنه ليس بشيء وروي عن عائشة وجابر في آخرين من التابعين قالوا لا طلاق قبل نكاح ولا دلالة في هذا اللفظ على مخالفة قول أصحابنا لأن عندنا أن من قال إن تزوجت امرأة فهي طالق أنه مطلق بعد النكاح وما قدمنا من دلالة الآية على صحة قولنا كاف في الاحتجاج على المخالف وتصحيح المقالة ويدل عليه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود اقتضى ظاهره إلزام كل عاقد موجب عقده ومقتضاه فلما كان هذا القائل عاقدا على نفسه إيقاع طلاق بعد النكاح وجب أن يلزمه حكمه ويدل عليه قوله ص - المسلمون عند شروطهم أوجب ذلك أن كل من شرط على نفسه شرطا ألزم حكمه عند وجود شرطه ويدله عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على أن النذر لا يصح إلا في ملك وإن من قال إن رزقني الله ألف درهم فلله علي

أن أتصدق بمائة منها أنه ناذر في ملكه من حيث أضافه إليه وإن لم يكن مالكا في الحال فكذلك الطلاق والعتق إذا أضافهما إلى الملك كان مطلقا ومعتقا في الملك ويدل عليه أن من قال لجاريته إن ولدت ولدا فهو حر فحملت بعد ذلك وولدت أنه يعتق وإن لم يكن مالكا في حال القول لأن الولد مضاف إلى الأم التي هو مالكها كذلك إذا أضاف العتق إلى الملك فهو معتق في الملك وإن لم يكن له ملك موجود في الحال وأيضا قد اتفق الجميع على أنه إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها مع بقاء النكاح أنها تطلق ويكون يمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال أنت طالق ولو أبانها ثم دخلها كان بمنزلة ما لو قال لها في تلك الحال أنت طالق فلا تطلق فدل ذلك على أن الحالف يصير كالمتكلم بالجواب في ذلك الوقت فوجب أن يكون القائل كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج بمنزلة من تزوج ثم قال لها أنت طالق فإن قيل لو كان هذه صحيحا لوجب أنه لو حلف ثم جن فوجد شرط اليمين أن لا يحنث لأنه بمنزلة المتكلم بالجواب في ذلك الوقت قيل له لا يجب ذلك لأن المجنون لا قول له وقوله وسكوته بمنزلة فلما لم يصح قوله لم يصح إيقاعه ابتداء ولما كان قوله قبل الجنون صحيحا لزمه حكمه في حال الجنون ومع ذلك فإن المجنون قد يصح طلاق امرأته وعتق عبده لأنه لو كان مجنونا أو عنينا لفرق بينه وبينها وكان طلاقا ولو ورث أباه عتق عليه كالنائم لا يصح منه ابتداء الإيقاع ويلزمه حكمه بسبب يوجبه مثل أن يكون قد وكل بعتق عبده أو طلاق امرأته فطلق وهو نائم فإن قيل قد روي عن علي ومعاذ بن جبل وجابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا طلاق قبل نكاح قيل له أسانيدها مضطربة لا يصح من جهة النقل ولو صح من جهة النقل لم يدل على موضع الخلاف لأن من ذكرنا مطلق بعد النكاح وأيضا فإنه نفى بذلك إيقاع طلاق قبل النكاح ولم ينف العقد فلما كان قوله لا طلاق قبل نكاح حقيقته نفي الإيقاع والعقد على الطلاق ليس بطلاق لم يتناوله اللفظ من وجهين أحدهما أن إطلاق ذلك في العقد مجاز لا حقيقة لأن من عقد يمينا على طلاق لإيقاع أنه قد طلق مالم يقع وحكم اللفظ حمله على الحقيقة حتى تقوم دلالة المجاز والثاني أنهم لم يختلفوا أنه مستعمل في الحقيقة فغير جائز أن يراد به المجاز لأن لفظا واحدا لا يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز وقد روي عن الزهري في قوله ص - لا طلاق قبل نكاح إنما هو أن يذكر للرجل المرأة فيقال له تزوجها فيقول هي طالق البتة فهذا ليس

بشيء فأما من قال إن تزوجت فلانة فهي طالق البتة فإنما طلقها حين تزوجها وكذلك في الحرية وقد قيل فيه إنه إن أراد العقد فهو الرجل يقول لأجنبية إن دخلت الدار فأنت طالق ثم يتزوجها فتدخل الدار فلا تطلق وإن كان الدخول في حال النكاح قال أبو بكر لا فرق بين من خص أو عم لأنه إن كان إذا خص فهو مطلق في الملك وكذلك حكمه إذا عم وإن كان إذا عم غير مطلق في ملك فكذلك في حال الخصوص فإن قيل إذا عم فقد حرم جميع النساء عل نفسه كالمظاهر لما حرم امرأته تحريما مبهما لم يثبت حكمه قيل له هذا غلط من وجوه أحدها إن المظاهر إنما قصد تحريم امرأة بعينها ومن أصل المخالف أنه إذا عين وخص وقع طلاقه وإنما لا يوقعه إذا عم فواجب على أصله أن لا يقع طلاقه وإن خص كما لم تحرم المظاهر منها تحريما مبهما وأيضا فإن الله تعالى لم يبطل حكم ظهاره وتحريمه بل حرمها عليه بهذا القول وأثبت عليه حكم ظهاره وأيضا إن الحالف بطلاق من يتزوج من النساء غير محرم للنساء على نفسه لأنه لم يوجب بذلك تحريم النكاح وإنما أوجب طلاقا بعد صحة النكاح ووقع استباحة البضع وايضا فإنه إذا قال كل امرأة تزوجها فهي طالق متى ألزمناه ما عقد عليه من الطلاق لم يكن تحريم المرأة مبهما بل إنما تطلق واحدة ويجوز له أن يتزوجها ثانيا ولا يقع شيء فهذه الوجوه كلها تنبئ عن إغفال هذا السائل في سؤاله ذلك وأنه لا تعلق له بالمسألة قال أبو بكر ومن الناس من يقول إذا قال إن تزوجتها فهي طالق وإن اشتريته فهو حر انه لا يقع إلا أن يقول إذا صح نكاحي لك فأنت طالق بعد ذلك وإذا ملكتك بالشرى فأنت حر وذهب إلى أنه إذا جعل النكاح والشرى شرطا للطلاق والعتاق فسبيل ذلك البضع وملك الرقبة أن يقعا بعد العقد وهذه هي حال إيقاع الطلاق والعتق فيرد الملك والطلاق والعتاق معا فلا يقعان لأن الطلاق والعتاق لا يقعان إلا في ملك مستقر قبل ذلك قال أبو بكر وهذا لا معنى له لأن القائل إذا تزوجتك فأنت طالق وإذا اشتريتك فأنت حر معلوم من فحوى كلامه أنه أراد به إيقاع الطلاق بعد صحة النكاح وإيقاع العتاق بعد صحة الملك فيكون بمنزلة القائل إذا ملكتك بالنكاح أو ملكتك بالشرى فلما كان الملك بالنكاح والشرى في مضمون اللفظ صار ذلك كالنطق به فإن قيل لو كان ذلك كذلك لوجب أن يكون القائل إن اشتريت عبدا فامرأتي طالق فاشترى عبدا لغيره أن لا تطلق امرأته لأن في مضمون لفظه الملك كأنه قال إن ملكت بالشرى قيل له لا يجب ذلك لأن اللفظ

إنما الملك يتضمن فيما يوقع طلاقه أو عتقه فأما في غيرهما فهو محمول على حكم اللفظ من غير تضمين له بوقوع ملك ولا غيره وقوله تعالى من قبل أن تمسوهن قد بينا في سورة البقرة أن الخلوة مرادة بالمسيس وإن نفي العدة متعلق بنفي الخلوة والجماع جميعا وفيما قدمنا ما يغني عن الإعادة وقوله تعالى فمتعوهن إن كان من لم يسم لها مهرا فهو على الوجوب كقوله تعالى أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن وإن كان المراد المدخول بها فهو ندب غير واجب وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى فما لكم عليهن من عدة تعتدونها الآية قال التي نكحت ولم يبين لها ولم يفرض لها فليس لها صداق وليس عدة وقال قتادة عن سعيد هي منسوخة بقوله في البقرة فنصف ما فرضتم وقوله تعالى وسرحوهن بعد ذكر الطلاق قبل الدخول يشبه أن يكون المراد به إخراجها من بيته أو من حباله لأنه مذكور بعد الطلاق فالأظهر أن هذا التسريح ليس بطلاق ولكنه بيان أنه لا سبيل له عليها وأن عليه تخليتها من يده وحباله وبالله التوفيق
باب

ما أحل الله تعالى لرسوله من النساء
قال الله تعالى يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن الآية قال أبو بكر قد انتظمت الآية ضروب النكاح الذي أباحه الله تعالى لنبيه ص - فمنها قوله اللاتي آتيت أجورهن يعني من تزوج منهن بمهر مسمى وأعطاهن ومنها ما ملكت اليمين بقوله وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك مثل ريحانة وصفية وجويرية ثم أعتقهما وتزوجهما وذلك مما أفاء الله عليه من الغنيمة وذكر تعالى بعد ذلك ما أحل له من أقاربه فقال وبنات عمك وبنات عماتك ثم ذكر ما أحل له من النساء بغير مهر فقال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وأخبر أنه مخصوص بذلك دون أمته وأنه وأمته سواء فيمن تقدم ذكرهن وقوله تعالى اللاتي هاجرن معك قال أبو يوسف لا دلالة فيه على أن اللاتي لم يهاجرن كن محرمات عليه وهذا يدل على أنه لم يكن يرى أن المخصوص بالذكر يدل على أن ما عداه بخلافه وروى داود بن أبي هند عن محمد بن أبي موسى عن زياد عن أبي بن كعب قال قلت له أرأيت لو هلك نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أكان له أن ينكح قال وما

يمنعه أحل الله له ضروبا من النساء فكان يتزوج منهن ما شاء ثم تلا يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية وهذا يدل على أن تخصيص الله تعالى للمذكورات بالإباحة لم يوجب عليه حظر من سواهن عند أبي بن كعب لأنه أخبر أنهن لو هلكن لكان له أن يتزوج غيرهن وقد روي عن أم هانئ خلاف ذلك روى إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانئ قالت خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم - فاعتذرت إليه بعذر فأنزل الله إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله اللاتي هاجرن معك قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت مع الطلقاء فإن صح هذا الحديث فإن مذهب أم هانئ أن تخصيصه للمهاجرات منهن قد أوجب حظر من لم تهاجر ويحتمل أن تكون قد علمت حظرهن بغير دلالة الآية وإن الآية إنما فيها إباحة من هاجرت منهن ولم تعرض لمن لم تهاجر بحظر ولا إباحة إلا أنها قد علمت من جهة أخرى حظرهن قوله تعالى وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي الآية فيها نص على إباحة عقد النكاح بلفظ الهبة للنبي ص - واختلف أهل العلم في عقد النكاح بلفظ الهبة لغير النبي صلى الله عليه وسلم - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح يصح النكاح بلفظ الهبة ولها ما سمي لها وإن لم يسم شيئا فلها مهر مثلها وذكر ابن القاسم عن مالك قال الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم - وإن كانت هبته إياها ليست على نكاح وإنما وهبها له ليحصنها أو ليكفيها فلا أرى بذلك بأسا وقال الشافعي لا يصح النكاح بلفظ الهبة وقد تنازع أهل العلم حكم هذه الآية فقال قائلون كان عقد النكاح بلفظ الهبة مخصوصا به النبي صلى الله عليه وسلم -

لقوله تعالى في نسق التلاوة خالصة لك من دون المؤمنين وقال آخرون بل كان
النبي صلى الله عليه وسلم - وأمته في عقد النكاح بلفظ الهبة سواء وإنما خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم - كانت في جواز استباحة البضع بغير بدل وقد روي نحو ذلك عن مجاهد وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وهذ هو الصحيح لدلالة الآية والأصول عليه فأما دلالة الآية على ذلك فمن وجوه أحدها قوله وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين فلما أخبر في هذه الآية إن ذلك كان خالصا له دون المؤمنين مع إضافة لفظ الهبة إلى المرأة دل ذلك على أن ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم - من ذلك إنما هو استباحة البضع بغير بدل لأنه لو كان المراد اللفظ لما شاركه فيه غيره لأن ما كان مخصوصا به وخالصا له فغير جائز أن تقع بينه وبين

غيره فيه شركة حتى يساويه فيه إذ كانت مساواتهما في الشركة تزيل معنى الخلوص والتخصيص فلما أضاف لفظ الهبة إلى المرأة فقال وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي فأجاز العقد منها بلفظ الهبة علمنا أن التخصيص لم يقع في اللفظ وإنما كان في المهر فإن قيل قد شاركه في جواز تمليك البضع بغير بدل ولم يمنع ذلك خلوصها له فكذلك في لفظ العقد قيل له هذا غلط لأن الله أخبر أنها خالصة له وإنما جعل الخلوص فيما هو له وإسقاط المراة المهر في العقد ليس هو لها ولكنه عليها فلم يخرجه ذلك من أن يكون ما جعل له خالصا لم تشركه فيه المرأة ولا غيره والوجه الثاني من دلالة الآية قوله تعالى إن أراد النبي أن يستنكحها فسمى العقد بلفظ الهبة نكاحها فوجب أن يجوز لكل أحد لقوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وأيضا لما جاز هذا العقد للنبي ص - وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به وجب أن يجوز لنا فعل مثله إلا أن تقوم الدلالة على أنه كان مخصوصا باللفظ دون أمته وقد حصل له معنى الخلوص المذكور في الآية من جهة إسقاط المهر فوجب أن يكون ذلك مقصورا عليه وما عداه فغير محمول على حكمه إلا أن تقوم الدلالة على أنه مخصوص به ومما يدل على أن خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم - كانت في الصداق ما حدثنا عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا محمد بن بشر قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها كانت تعير النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت ألا تستحي أن تعرض نفسها بغير صداق فانزل الله تعالى ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء إلى قوله فلا جناح عليك قالت عائشة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم - إني أرى ربك يسارع في هواك ويدل على جوازه بلفظ الهبة ما حدثنا عن محمد بن علي بن زيد الصائغ قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن قال حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله جئت لأهب نفسي لك فنظر إليها فصعد البصر وصوبه ثم طأطأ رأسه فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله إن لم تك لك بها حاجة فزوجنيها وذكر الحديث إلى قوله فقال معي سورة كذا وسورة كذا فقال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك والهبة من ألفاظ التمليك فوجب أن يجوز بها عقد النكاح ولأنه إذا ثبت بلفظ التمليك بالسنة ثبت بلفظ الهبة إذ لم

يفرق أحد بينهما فإن قيل قد روي أنه قال قد زوجتك بما معك من القرآن قيل له يجوز أن يكون ذكر مرة التزويج ثم ذكر لفظ التمليك ليبين أنهما سواء في جواز عقد النكاح بهما وأيضا لما أشبه عقد النكاح عقود التمليكات في إطلاقه من غير ذكر الوقت وكان التوقيت يفسده وجب أن يجوز بلفظ التمليك والهبة كجواز سائر الأشياء المملوكة وهذا أصل في جواز سائر ألفاظ التمليك ولا يجوز بلفظ الإباحة لأن لذلك أصلا آخر يمنع جوازه وهو المتعة التي حرمها النبي صلى الله عليه وسلم - ومعنى المتعة إباحة التمتع بها فكل ما كان من ألفاظ الإباحة لم ينعقد به عقد النكاح قياسا على المتعة وكل ما كان من ألفاظ التمليك ينعقد به النكاح قياسا على سائر عقود التمليكات لشبهه بها من الوجوه التي ذكرنا وقد اختلف في المرأة التي وهبت نفسها للنبي ص - فروي عن ابن عباس رواية وعكرمة أنها ميمونة بنت الحارث وقال علي بن الحسن هي أم شريك الدوسية وعن الشعبي أنها امرأة من الأنصار وقيل إنها زينب بنت خزيمة الأنصارية قوله تعالى قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم قال قتادة فرض أن لا ينكح امرأة إلا بولي وشاهدين وصداق ولا ينكح الرجل إلا أربعا وقال مجاهد وسعيد بن جبير أربع قال أبو بكر وقوله وما ملكت أيمانهم يعني ما أباح لهم بملك اليمين كما أباحه للنبي ص -

وقوله لكيلا يكون عليك حرج يرجع والله أعلم إلى قوله إنا أحللنا لك
أزواجك وما ذكر بعده فيما أباحه للنبي ص - لئلا يضيق عليه لأن الحرج الضيق فأخبر تعالى بتوسعته على النبي صلى الله عليه وسلم - فيما أباحه له وعلى المؤمنين فيما أطلقه لهم قوله تعالى ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن منصور عن أبي رزين في قوله ترجي من تشاء منهن المرجات ميمونة وسودة وصفية وجويرية وأم حبيبة وكانت عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب سواء في القسم وكان النبي صلى الله عليه وسلم - يساوي بينهن وحدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري في قوله تعالى ترجي من تشاء منهن قال كان ذلك حين أنزل الله أن يخيرهن قال الزهري وما علمنا رسول الله أرجى منهن أحدا ولقد آواهن كلهن حتى مات ص -
قال معمر وقال قتادة جعله الله في حل أن يدع من شاء منهن ويؤوي إليه من
شاء يعني قسما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - قسم قال

معمر وأخبرنا من سمع الحسن يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم -

إذا خطب امرأة فليس لأحد أن يخطبها حتى يتزوجها رسول الله ص
- أو يدعها ففي ذلك نزلت ترجي من تشاء منهن قال أبو بكر وروى زكريا عن الشعبي ترجي من تشاء منهن قال نساء كن وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فأرجى بعضهن ودخل ببعض منهن أم شريك لم تتزوج بعده وقال مجاهد ترجي من تشاء منهن قال ترجيهن من غير طلاق ولا تأتيهن وروى عاصم الأحول عن معاذة العدوية عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يستأذننا في يوم إحدانا بعد ما أنزل ترجي من تشاء منهن فقالت لها معاذة فما كنت تقولين لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا استأذن قالت كنت أقول إن كان ذلك إلي لم أوثر على نفسي أحدا قال أبو
بكر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقسم بين نسائه ولم يذكر فيه تخصيص واحدة منهن بإخراجها من القسم حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة عن عبدالله بن يزيد الخطمي عن عائشة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقسم فيعدل ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك قال أبو داود يعني القلب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا عبدالرحمن يعني ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه قالت عائشة ابن أختي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندها وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يا رسول الله يومي لعائشة فقبل ذلك رسول الله ص
- منها قالت نقول في ذلك أنزل الله تعالى وفي أشباهها أراه قال وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا وروي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم - استأذن نساءه في مرضه أن يكون عند عائشة فأذن له وهذا يدل على أنه قد كان يقسم لجميعهن وهو أصح من حديث أبي رزين الذي ذكر فيه أنه أرجى جماعة من نسائه ثم لم يقسم لهن وظاهر الآية يقتضي تخير النبي صلى الله عليه وسلم - في إرجاء من شاء منهن وإيواء من شاء فليس يمتنع أن يختار إيواء الجميع إلا سودة فإنها رضيت بأن تجعل يومها لعائشة قوله تعالى ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك يعني والله أعلم في إيواء من أرجى منهن أباح له بذلك أن يعتزل من شاء منهن ويؤوي من شاء وأن يوؤي منهن من شاء بعد الاعتزال وقوله تعالى

ذلك أدنى أن تقر أعينهن يعني والله أعلم إذا علمن بعد الإرجاء أن لك أن تؤوي وترد إلى القسم وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم - وأنه كان مخيرا في القسم لمن شاء منهن وترك من شاء منهن قوله تعالى لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج روى ليث عن مجاهد قال يعني من بعدما سمي لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وعن مجاهد أيضا في قوله إلا ما ملكت يمينك قال لا بأس أن تتسرى اليهودية والنصرانية وروى سعيد عن قتادة لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج قال لما خيرهن فاخترن الله ورسوله قصره عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة وهو قول الحسن وروي غير ذلك وهو ما روى إسرائيل عن السدي عن عبدالله بن شداد لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج قال ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل قال وكان ينكح ما شاء بعد ما نزلت هذه الآية قال فنزلت هذه الآية وعنده تسع نسوة ثم تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث قال أبو بكر ظاهر الآية يفيد تحريم سائر النساء على النبي صلى الله عليه وسلم -

سوى من كن تحته وقت نزولها وقد روى ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن
عائشة قالت ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى حل له النساء قال أبو بكر وهذا يوجب أن تكون الآية منسوخة وليس في القرآن ما يوجب نسخها فهي إذا منسوخة بالسنة ويحتج به في جواز نسخ القرآن بالسنة فإن قيل قوله لا يحل لك النساء من بعد خبر والخبر لا يجوز النسخ في مخبره قيل له إنه وإن كان في صورة الخبر فهو نهي يجوز ورود النسخ عليه وهو بمنزلة ما لو قال لا تتزوج بعدهن النساء فيجوز نسخه قوله تعالى ولو أعجبك حسنهن يدل على جواز النظر إلى وجه المرأة الأجنبية إذ لا يعجبه حسنها إلا وقد نظر إليها
باب
ذكر حجاب النساء
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه حدثنا عبدالله بن محمد قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أبي عثمان واسمه الجعد بن دينار عن أنس قال لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم -
زينب أهدت إليه أم سليم حيسا في تور من حجارة فقال النبي ص
- اذهب فادع من

لقيت من المسلمين فدعوت له من لقيت فجعلوا يدخلون فيأكلون ويخرجون فوضع النبي صلى الله عليه وسلم - يده على الطعام فدعا فيه وقال فيه ما شاء الله أن يقول ولم أدع أحدا لقيته إلا دعوته فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا وبقي طائفة منهم فأطالوا عليه الحديث فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه إلى قوله وقلوبهن وروى بشر بن المفضل عن حميد الطويل عن أنس ذكر حديث بناء النبي صلى الله عليه وسلم - بزينب ووليمته فلما طعم القوم وكان مما يفعل إذا أصبح ليلة بنائه دنا من حجر أمهات المؤمنين فسلم عليهن وسلمن عليه ودعا لهن ودعون له فلما انصرف وأنا معه إلى بيته بصر برجلين قد جرى بينهما الحديث من ناحية البيت فانصرف عن بيته فلما رأى الرجلان انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن بيته وثبا خارجين فأخبر أنهما قد خرجا فرجع حتى دخل بيته فأرخى الستر بيني وبينه وأنزلت آية الحجاب وروى حماد بن زيد عن أسلم العلوي عن أنس قال لما نزلت آية الحجاب جئت لأدخل كما كنت أدخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وراءك يا أنس قال أبو بكر فانتظمت الآية أحكاما منها النهي عن دخول بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلا بإذن وإنهم إذا أذن لهم لا يقعدون انتظارا لبلوغ الطعام ونضجه وإذا أكلوا لا يقعدون للحديث وروي عن مجاهد غير ناظرين إناه قال متحينين حين نضجه ولا مستأنسين لحديث بعد أن يأكلوا وقال الضحاك غير ناظرين إناه قال نضجه قوله تعالى وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب قد تضمن حظر رؤية أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - وبين به أن ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن لأن نظر بعضهم إلى بعض ربما حدث عنه الميل والشهوة فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب قوله تعالى وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله يعني بما بين في هذه الآية من إيجاب الإستئذان وترك الإطالة للحديث عنده والحجاب بينهم وبين نسائه وهذا الحكم وإن نزل خاصا في النبي صلى الله عليه وسلم - وأزواجه فالمعنى عام فيه وفي غيره إذ كنا مأمورين باتباعه والإقتداء به إلا ما خصه الله به دون أمته وقد روى معمر عن قتادة أن رجلا قال لو قبض النبي صلى الله عليه وسلم -

لتزوجت عائشة فأنزل الله تعالى وما
كان لكم أن تؤذوا رسول الله قال أبو بكر ما ذكره قتادة هو أحد ما انتظمته الآية وروى عيسى بن يونس عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة أنه قال لامرأته إن سرك أن تكوني زوجتي في الجنة إن جمع الله بيننا فيها فلا تزوجي بعدي فإن

المرأة لآخر أزواجها ولذلك حرم الله على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

أن يتزوجن بعده وروى حميد الطويل عن أنس قال سألت أم حبيبة زوج النبي ص
- المرأة منا يكون لها زوجان فتموت فتدخل الجنة هي وزوجها لأيهما تكون قال يا أم حبيبة لأحسنهما خلقا كان معها في الدنيا فتكون زوجته في الجنة يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة قوله تعالى لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن الآية قال قتادة رخص لهؤلاء أن لا يجتنبن منهم قال أبو بكر ذوي المحارم منهن وذكر نساءهن والمعنى والله أعلم الحرائر ولا ما ملكت أيمانهن يعني الإماء لأن العبد والحر لا يختلفان فيما يباح لهم من النظر إلى النساء قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما الصلاة من الله هي الرحمة ومن العباد الدعاء وقد تقدم ذكره وروي عن أبي العالية إن الله وملائكته يصلون على النبي قال صلاة الله عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة عليه بالدعاء قال أبو بكر يعني والله أعلم إخبار الله الملائكة برحمته لنبيه ص - وتمام نعمه عليه فهو معنى قوله صلاته عند الملائكة وروي عن الحسن هو الذي يلي عليكم وملائكته إن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام هل يصلي ربك فكان ذلك كبر في صدره فأوحى الله إليه أن أخبرهم أني أصلي وإن صلاتي إن رحمتي سبقت غضبي وقوله يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه قد تضمن الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم - وظاهره يقتضي الوجوب وهو فرض عندنا فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدى فرضه وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم - متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه وزعم الشافعي أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم -
فرض في الصلاة وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم فيما نعلمه وهو
خلاف الآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لفرضها في الصلاة منها حديث ابن مسعود حين علمه التشهد فقال إذا فعلت هذا أو قلت هذا فقد تمت صلاتك فإن شئت أن تقوم فقم وقوله ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت وحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا رفع الرجل رأسه من آخر سجدة وقعد فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته
وحديث معاوية بن الحكم السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن ولم يذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم -
وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح مختصر الطحاوي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19