كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

مذكورا في نسق الخطاب بصريح اللفظ دون التعريض وبالإفصاح دون الكناية فإنه يبعد أن يكون مراده بالكناية المذكورة بقوله سرا هو والذي قد أفصح به في المخاطبة وكذلك تأويل من تأوله على الزنا فيه بعد لأن المواعدة بالزنا محظورة في العدة وغيرها إذ كان تحريم الله الزنا تحريما مبهما مطلقا غير مقيد بشرط ولا مخصوص بوقت فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة تخصيصه حظر المواعدة بالزنا بكونها في العدة وليس يمتنع أن يكون الجميع مرادا لاحتمال اللفظ له بعد أن لا يخرج منه تأويل ابن عباس الذي ذكرناه وقوله تعالى علم الله أنكم ستذكرونهن يعني إن الله علم أنكم ستذكرونهن بالتزويج لرغبتكم فيهن ولخوفكم أن يسبقكم إليهن غيركم وأباح لهم التوصل إلى المراد من ذلك بالتعريض دون الإفصاح وهذا يدل على ما اعتبره أصحابنا في جواز التوصل إلى استباحة الأشياء من الوجوه المباحة وإن كانت محظورة من وجوه أخر ونحوه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

حين أتاه بلال بتمر جيد فقال أكل تمر خيبر هكذا فقال لا إنما نأخذ الصاع
بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا تفعلوا ولكن بيعوا تمركم بعرض ثم اشتروا به هذا التمر فأرشدهم إلى التوصل إلى أخذ التمر الجيد ولهذا الباب موضع غير هذا سنذكره إن شاء الله وقوله تعالى علم الله أنكم ستذكرونهن كقوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم وأباح لهم الأكل والجماع في ليالي رمضان علمنا أنه لو لم يبح لهم لكان فيهم من يواقع المحظور عنه فخفف عنهم رحمة منه بهم وكذلك قوله تعالى علم الله أنكم ستذكرونهن هو على هذا المعنى قوله عز و جل ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله قيل فيه أن أصل العقدة في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل وعقدت العقد تشبيها له بعقد الحبل في التوثق وقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح معناه ولا تعقدوه ولا تعزموا عليه أن تعقدوه في العدة وليس المعنى أن لا تعزموا بالضمير على إيقاع العقد بعد انقضاء العدة لأنه قد أباح إضمار عقد بعد انقضاء العدة بقوله ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم والإكنان في النفس هو الإضمار فيها فعلمنا أن المراد بقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح إنما تضمن النهي عن إيقاع العقد في العدة وعن العزيمة عليه فيها وقوله تعالى حتى يبلغ الكتاب أجله يعني به انقضاء العدة وذلك في مفهوم الخطاب غير محتاج إلى بيان ألا ترى أن فريعة بنت مالك حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم -
أجابها

بأن قال لا حتى يبلغ الكتاب أجله فعقلت من مفهوم خطابه انقضاء العدة ولم يحتج إلى بيان من غيره ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحا وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد وقد اختلف السلف ومن بعدهم في حكم من تزوج امرأة في عدتها من غيره فروى ابن المبارك قال حدثنا أشعث عن الشعبي عن مسروق قال بلغ عمر أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال لا ينكحها أبدا وجعل الصداق في بيت المال وفشا ذلك بين الناس فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال رحم الله أمير المؤمنين ما بال الصداق وبيت المال إنهما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة قيل فما تقول أنت فيها قال لها الصداق بما استحل من فرجها ويفرق بينهما ولا جلد عليهما وتكمل عدتها من الأول ثم تكمل العدة من الآخر ثم يكون خاطبا فبلغ ذلك عمر فقال يا أيها الناس ردوا الجهالات إلى السنة وروى ابن أبي زائدة عن أشعث مثله وقال فيه فرجع عمر إلى قول علي قال أبو بكر قد اتفق علي وعمر على قول واحد لما روي أن عمر رجع إلى قول علي واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر يفرق بينهما ولها مهر مثلها فإذا انقضت عدتها من الأول تزوجها الآخر إن شاء وهو قول الثوري والشافعي وقال مالك والأوزاعي والليث بن سعد لا تحل له أبدا قال مالك والليث ولا بملك اليمين قال أبو بكر لا خلاف بين من ذكرنا قوله من الفقهاء أن رجلا لو زنى بامرأة جاز له أن يتزوجها والزنا أعظم من النكاح في العدة فإذا كان الزنا لا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالوطء بشبهة أحرى أن لا يرحمها عليه وكذلك من تزوج أمة على حرة أو جمع بين أختين ودخل بهما لم تحرم عليه تحريما مؤبدا فكذلك الوطء عن عقد كان في العدة لا يخلو من أن يكون وطأ بشبهة أو زنا وأيهما كان فالتحريم غير واقع به فإن قيل قد يوجب الزنا والوطء بالشبهة تحريما مؤبدا عندكم كالذي يطأ أم امرأته أو ابنتها فتحرم عليه تحريما مؤبدا قيل له ليس هذا مما نحن فيه بسبيل لأن كلامنا إنما هو في وطء يوجب تحريم الموطوءة نفسها فأما وطء يوجب تحريم غيرها فإن ذلك حكم كل وطء عندنا زنا كان أو وطء بشبهة أو مباحا وأنت لم تجد في الأصول وطأ يوجب تحريم الموطوءة فكان قولك خارجا عن الأصول وعن أقاويل السلف أيضا لأن عمر قد رجع إلى قول علي في هذه المسألة وأما ما روي عن عمر أنه جعل المهر في بيت المال

فإنه ذهب إلى أنه مهر حصل لها من وجه محظور فسبيله أن يتصدق به فلذلك جعله في بيت المال ثم رجع فيه إلى قول علي رضي الله عنه ومذهب عمر في جعل مهرها لبيت المال إذ قد حصل لها ذلك من وجه محظور يشبه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الشاة المأخوذة بغير إذن مالكها قدمت إليه مشوية فلم يكد يسيغها حين أراد الأكل منها فقال إن هذه تخبرني أنها أخذت بغير حق فأخبروه بذلك فقال أطعموها الأسارى ووجه ذلك عندنا إنما صارت لهم بضمان القيمة فأمرهم بالصدقة بها لأنها حصلت لهم من وجه محظور ولم يكونوا قد أدوا القيمة إلى أصحابها وقد روي عن سليمان بن يسار أن مهرها لبيت المال وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم والزهري الصداق لها على ما روي عن علي وفي اتفاق عمر وعلي على أن لا حد عليهما دلالة على أن النكاح في العدة لا يوجب الحد مع العلم بالتحريم لأن المرأة كانت عالمة بكونها في العدة ولذلك جلدها عمر وجعل مهرها في بيت المال وما خالفهما في ذلك أحد من الصحابة فصار ذلك أصلا في أن كل وطء عن عقد فاسد أنه لا يوجب الحد سواء كانا عالمين بالتحري أو غير عالمين به وهذا يشهد لأبي حنيفة فيمن وطئ ذات محرم منه بنكاح أنه لا حد عليه وقد اختلف الفقهاء في العدة إذا وجبت من رجلين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك في رواية ابن القاسم عنه والثوري والأوزاعي إذا وجبت عليها العدة من رجلين فإن عدة واحدة تكون لهما جميعا سواء كانت العدة بالحمل أو بالحيض أو بالشهور وهو قول إبراهيم النخعي وقال الحسن بن صالح والليث والشافعي تعتد لكل واحد عدة مستقبلة والذي يدل على صحة القول الأول قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء يقتضي كون عدتها ثلاثة قروء إذا طلقها زوجها ووطئها رجل بشبهة لأنها مطلقة قد وجبت عليها عدة ولو أوجبنا عليها أكثر من ثلاثة قروء كنا زائدين في الآية ما ليس فيها إذ لم تفرق بين من وطئت بشبهة من المطلقات وبين غيرها ويدل عليه أيضا قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ولم يفرق بين مطلقة قد وطئها أجنبي بشبهة وبين من لم توطأ فاقتضى ذلك أن تكون عدتها ثلاثة أشهر في الوجهين جميعا ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ولم يفرق بين من عليها عدة من رجل أو رجلين ويدل عليه أيضا قوله تعالى يسئلونك عن الأهلة قل هي

مواقيت للناس والحج لأن العدة إنما هي بمضي الأوقات والأهلة والشهور وقد جعلها الله وقتا لجميع الناس فوجب أن تكون الشهور والأهلة وقتا لكل واحد منهما لعموم الآية ويدل عليه اتفاق الجميع على أن الأول لا يجوز له عقد النكاح عليها قبل انقضاء عدتها منه فعلمنا أنها في عدة من الثاني لأن العدة منه لا تمنع من تزويجها فإن قيل منع من ذلك لأن العدة منه نتلوها عدة من غيرها قيل له فقد يجوز أن يتزوجها ثم يموت هو قبل بلوغها مواضع الاعتداد من الثاني فلا تلزمها عدة من الثاني فلو لم تكن في هذه الحال معتدة منه لما منع العقد عليها لأن عدة تجب في المستقبل لا ترفع عقدا ماضيا ويدل عليه أن الحيض إنما هو استبراء للرحم من الحبل فإذا طلقها الأول ووطئها الثاني بشبهة قبل أن تحيض ثم حاضت ثلاث حيض فقد حصل الإستبراء ويستحيل أن يكون استبراء من حمل الأول غير استبراء من حمل الثاني فوجب أن تنقضي به العدة منهما جميعا ويدل عليه أن من طلق امرأته وأبانها ثم وطئها في العدة بشبهة أن عليها عدتين عدة من الوطء وتعتد بما بقي من العدة الأولى من العدتين ولا فرق بين أن تكون العدة من رجلين أو رجل واحد فإن قيل إن هذا حق واجب لرجل واحد والأول واجب لرجلين قيل له لا فرق بين الرجل الواحد والرجلين لأن الحقين إذا وجبا لرجل واحد فواجب إيفاؤهما إياه جميعا كوجوبهما لرجلين في لزوم توفيتهما إياهما ألا ترى أنه لا فرق بين الرجلين والرجل الواحد في آجال الديون ومواقيت الحج والإجارات ومدد الإيلاء في أن مضي الوقت الواحد يصير كل واحد منهما مستوفيا لحقه فتكون ا لشهور التي لهذا هي بعينها للآخر وقد روى أبو الزناد عن سليمان بن يسار عن عمر في التي تزوجت في العدة أنه أمرها أن تعتد منهما وظاهر ذلك يقتضي أن تكون عدة واحدة منهما فإن قيل روى الزهري عن سليمان بن يسار عن عمر أنه قال تعتد بقية عدتها من الأول ثم تعتد من الآخر قيل له ليس فيه أنها تعتد من الآخر عدة مستقبلة فوجب أن يحمل معناه على بقية العدة ليوافق أبي الزناد والله أعلم
باب

متعة المطلقة
قال الله عز و جل لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن تقديره مالم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ألا ترى أنه عطف

عليه قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم فلو كان الأول بمعنى مالم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لما عطف عليها المفروض لها فدل ذلك على أن معناه مالم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة وقد تكون أو بمعنى الواو قال الله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا معناه ولا كفورا وقال تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط والمعنى وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى ومسافرون وقال تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون معناه ويزيدون فهذا موجود في اللغة وهي النفي أظهر في دخولها عليه أنها بمعنى الواو منه ما قدمنا من قوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا معناه ولا كفورا لدخولها على النفي وقال تعالى حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم أو في هذه المواضع بمعنى الواو فوجب على هذا أن يكون قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة لما دخلت على النفي أن تكون بمعنى الواو فيكون شرط وجوب المتعة المعنيين جميعا من عدم المسيس والتسمية جميعا بعد الطلاق وهذه الآية تدل على أن للرجل أن يطلق امرأته قبل الدخول بها في الحيض وأنها ليست كالمدخول بها لإطلاقه إباحة الطلاق من غير تفصيل منه بحال الطهر دون الحيض وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب المتعة فروي عن علي أنه قال لكل مطلقة متعة وعن الزهري مثله وقال ابن عمر لكل مطلقة متعة إلا التي تطلق وقد فرض لها صداق ولم تمس فحسبها نصف ما فرض لها وروي عن القاسم بن محمد مثله وقال شريح وإبراهيم والحسن تخير التي تطلق قبل الدخول ولم يفرض على المتعة وقال شريح وقد سألوه في متاع فقال لا نأبى أن نكون من المتقين فقال إني محتاج فقال لا نأبى أن نكون من المحسنين وقد روي عن الحسن وأبي العالية لكل مطلقة متاع وسئل سعيد بن جبير عن المتعة على الناس كلهم فقال لا على المتقين وروى ابن أبي الزناد عن أبيه في كتاب البغية وكانوا لا يرون المتاع للمطلقة واجبا ولكأنها تخصيص من الله وفضل وروى عطاء عن ابن عباس قال إذا فرض الرجل وطلق قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع وقال محمد بن علي المتعة التي لم يفرض لها والتي قد فرض لها ليس لها متعة وذكر محمد بن إسحاق عن نافع قال كان ابن عمر لا يرى للمطلقة متعة واجبة إلا للتي أنكحت بالعوض ثم يطلقها قبل أن

يدخل بها وروى معمر عن الزهري قال متعتان إحداهما يقضي بها السلطان والأخرى حق على المتقين من طلق قبل أن يفرض ولم يدخل أخذ المتعة لأنه لا صداق عليه ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض فالمتعة حق عليه وعن مجاهد نحو ذلك فهذا قول السلف فيها وأما فقهاء الأمصار فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وزفر قالوا المتعة واجبة للتي طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا وإن دخل بها فإنه يمتعها ولا يجبر عليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح والأوزاعي إلا أن الأوزاعي زعم أن أحد الزوجين إذا كان مملوكا لم تجب المتعة وإن طلقها قبل الدخول ولم يسم لها مهرا وقال بن أبي ليلى وأبو الزناد المتعة ليست واجبة إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل ولا يجبر عليها ولم يفرقا بين المدخول بها وبين غير المدخول بها وبين من سمي لها وبين من لم يسم لها وقال مالك والليث لا يجبر أحد على المتعة سمي لها أو لم يسم لها دخل بها أو لم يدخل وإنما هي مما ينبغي أن يفعله ولا يجبر عليها قال مالك وليس للملاعنة متعة على حال من الحالات وقال الشافعي المتعة واجبة لكل مطلقة ولكل زوجة إذا كان الفراق من قبله أو يتم به إلا التي سمي لها وطلق قبل الدخول قال أبو بكر نبدأ بالكلام في إيجاب المتعة ثم نعقبه بالكلام على من أوجبها لكل مطلقة والدليل على وجوبها قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين وقال تعالى في آية أخرى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا وقال في آية أخرى وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين فقد حوت هذه الآيات الدلالة على وجوب المتعة من وجوه أحدها قوله تعالى فمتعوهن لأنه أمر والأمر يقتضي الوجوب حتى تقوم الدلالة على الندب والثاني قوله تعالى متاعا بالمعروف حقا على المحسنين تأكيد لإيجابه إذ جعلها من شرط الإحسان وعلى كل أحد أن يكون من المحسنين وكذلك قوله تعالى حقا على المتقين قد دل قوله حقا عليه على الوجوب وقوله تعالى حقا على المتقين تأكيدا لإيجابها وكذلك قوله تعالى فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا قد دل على الوجوب من حيث هو أمر وقوله تعالى وللمطلقات متاع

بالمعروف يقتضي الوجوب أيضا لأنه جعلها لهم وما كان للإنسان فهو ملكه له المطالبة به كقولك هذه الدار لزيد فإن قيل لما خص المتقين والمحسنين بالذكر في إيجاب المتعة عليهم دل على أنها غير واجبة وأنها ندب لأن الواجبات لا يختلف فيها المتقون والمحسنون وغيرهم قيل له إنما ذكر المتقين والمحسنين تأكيدا لوجوبها وليس تخصيصهم بالذكر نفيا على غيرهم كما قال تعالى هدى للمتقين وهو هدى للناس كافة وقوله تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس فلم يكن قوله تعالى هدى للمتقين موجبا لأن لا يكون هدى لغيرهم كذلك قوله تعالى حقا على المتقين وحقا على المحسنين غير ناف أن يكون حقا على غيرهم وأيضا فإنا نوجبها على المتقين والمحسنين بالآية ونوجبها على غيرهم بقوله تعالى فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا وذلك عام في الجميع بالإتفاق لأن كل من أوجبها من فقهاء الأمصار على المحسنين والمتقين أوجبها على غيرهم ويلزم هذا السائل أن لا يجعلها ندبا ايضا لأن ما كان ندبا لا يختلف فيه المتقون وغيرهم فإذا جاز تخصيص المتقين والمحسنين بالذكر في المندوب إليه من المتعة وهم وغيرهم فيه سواء فكذلك جائز تخصيص المحسنين والمتقين بالذكر في الإيجاب ويكونون هم وغيرهم فيه سواء فإن قيل لما لم يخصص المتقين والمحسنين في سائر الديون من الصداق وسائر عقود المداينات عند إيجابهم عليهم وخصهم بذلك عند ذكر المتعة دل على أنها ليست بواجبة قيل له إذا كان لفظ الإيجاب موجودا في الجميع فالواجب علينا الحكم بمقتضى اللفظ ثم تخصيصه بعض من أوجب عليه الحق بذكر التقوى والإحسان إنما هو على وجه التأكيد ووجوه التأكيد مختلفة فمنها ما يكون ذكر بتقييد التقوى والإحسان ومنها ما يكون بتخصيص لفظ الأداء نحو قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وقوله تعالى فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ومنها ما يكون بالأمر بالإشهاد عليه والرهن به فكيف يستدل بلفظ التأكيد على نفي الإيجاب وأيضا فإنا وجدنا عقد النكاح لا يخلو من إيجاب البدل إن كان مسمى فالمسمى وإن لم يكن فيه تسمية فمهر المثل ثم كانت حاله إذا كان فيه تسمية أن البضع لا يخلو من استحقاق البدل له مع ورود الطلاق قبل الدخول وفارق النكاح بهذا المعنى سائر العقود لأن عود المبيع إلى ملك البائع يوجب سقوط الثمن كله وسقوط حق الزوج عن بضعها بالطلاق قبل الدخول لا يخرجه من استحقاق بدل ما هو نصف المسمى فوجب

أن يكون ذلك حكمه إذا لم تكن فيه تسمية والمعنى الجامع بينها ورود الطلاق قبل الدخول وأيضا فإن مهر المثل مستحق بالعقد والمتعة هي بعض مهر المثل فتجب كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول فإن قيل مهر المثل دراهم ودنانير والمتعة إنما هي أثواب قيل له المتعة أيضا عندنا دراهم ودنانير لو أعطاها لم يجبر على غيرها وهذا الذي ذكرناه من أنها بعض مهر المثل يسوغ على مذهب محمد لأنه يقول إذا رهنها بمهر المثل رهنا ثم طلقها قبل الدخول كان رهنا بالمتعة محبوسا بها إن هلك هلك بها وأبو يوسف فإنه لا يجعله رهنا بالمتعة فإن هلك هلك بغير شيء والمتعة واجبة باقية عليه فهذا يدل على أنه لم يرها بعض مهر المثل ولكنه أوجبها بمقتضى ظاهر ا لقرآن وبالإستدلال وبالأصول على أن البضع لا يخلو من بدل مع ورود الطلاق قبل الدخول وأنه لا فرق بين وجود التسمية في العقد وبين عدمها إذ غير جائز حصول ملك البضع له بغير بدل فوجوب مهر المثل بالعقد عند عدم التسمية كوجوب المسمى فيه فوجب أن يستوي فيه حكمهما في وجوب بدل البضع عند ورود الطلاق قبل الدخول وأن تكون المتعة قائمة مقام بعض مهر المثل وإن لم تكن بعضه كما تقوم القيم مقام المستهلكات وقد قال إبراهيم في المطلقة قبل الدخول وقد سمي لها أن لها نصف الصداق هو متعتها فكانت المتعة اسما لما يستحق بعد الطلاق قبل الدخول ويكون بدلا من البضع فإن قيل إذا قامت مقام بعض مهر المثل فهو عوض من المهر والمهر لا يجب له عوض قبل الطلاق فكذلك بعده قيل له لم نقل إنه لم بدل منه وإن قام مقامه كما لا نقول أن قيم المستهلكات أبدال لها بل كأنها هي حين قامت مقامها ألا ترى أن المشتري لا يجوز له أخذ بدل المبيع قبل القبض ببيع ولا غيره ولو كان استهلكه مستهلك كان له أخذ القيمة منه لأنها تقوم مقامه كأنها هو لا على معنى العوض فكذلك المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع كما يجب نصف المسمى بدلا من البضع مع الطلاق فإن قيل لو كانت المتعة تقوم مقام بعض مهر المثل بدلا من البضع لوجب اعتبارها بالمرأة كما يعتبر مهر المثل بحالها دون حال الزوج فلما أوجب الله تعالى اعتبار المتعة بحال الرجل في قوله تعالى ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره دل على أنها ليست بدلا من البضع وإذا لم تكن بدلا من البضع لم يجز أن تكن بدلا من الطلاق لأن البضع يحصل لها بالطلاق فلا يجوز أن تستحق بدل ما يحصل لها وهذا يدل على أنها

ليست بدلا عن شيء وإذا كان كذلك علمنا أنها ليست بواجبة قيل له أما قولك في اعتبار حاله دون حالها فليس كذلك عندنا وأصحابنا المتأخرون مختلفون فيه فكان شيخنا أبو الحسن رحمه الله يقول يعتبر فيها حال المرأة أيضا وليس فيه خلاف الآية لأنا نستعمل حكم الآية مع ذلك في اعتبار حال الزوج ومنهم من يقول يعتبر حاله دون حالها ومن قال بهذا يلزمه سؤال هذا السائل أيضا لأنه يقول إن مهر المثل إنما وجب اعتباره بها في الحال التي يحصل البضع للزوج إما بالدخول وإما بالموت القائم مقام الدخول في استحقاق كمال المهر فكان بمنزلة قيم المتلفات في اعتبارها بأنفسها وأما المتعة فإنها لا تجب عندنا إلا في حال سقوط حقه من بضعها لسبب من قبله قبل الدخول أو ما يقوم مقامه فلم يجب اعتبار حال المرأة إذ البضع غير حاصل للزوج بل حصل لها بسبب من قبله من غير ثبوت حكم الدخول فلذلك اعتبر حاله دونها وأيضا لو سلمنا لك أنها ليست بدلا عن شيء لم يمنع ذلك وجوبها لأن النفقة ليست بدلا عن شيء بدلالة أن بدل البضع هو المهر وقد ملكه بعقد النكاح والدخول والاستمتاع إنما هو تصرف في ملكه وتصرف ا لإنسان في ملكه لا يوجب عليه بدلا ولم يمنع ذلك وجوبها ولذلك تلزمه نفقة أبيه وابنه الصغير بنص الكتاب والإنفاق ليس بدلا عن شيء ولم يمنع ذلك وجوبها والزكوات والكفارات ليست بدلا عن شيء وهن واجبات فالمستدل بكونها غير بدل عن شيء على نفي إيجابها مغفل وأيضا فاعتبارها بالرجل وبالمرأة إنما هو كلام في تقديرها والكلام في التقدير ليس يتعلق بالإيجاب ولا بنفيه وأيضا لو لم تكن واجبة لم تكن مقدرة بحال الرجل فلم اقال تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره دل على ا لوجوب إذ ما ليس بواجب غير معتبر بحال الرجل إذ له أن يفعل ما شاء منه في حال اليسار والإعسار فلما قدرها بحال الرجل ولم يطلقها فيخير الرجل فيها دل على وجوبها وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة وقال هذا القائل أيضا لما قال تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره اقتضى ذلك أن لا تلزم المقتر الذي لا يملك شيئا وإذا لم تلزمه لم تلزم الموسر ومن ألزمها المقتر فقد خرج من ظاهر الكتاب لأن من لا مال له لم تقتض الآية إيجابها عليه إذ لا مال له فيعتبر قدره فغير جائز أن نجعلها دينا عليه وأن لا يكون مخاطبا بها قال أبو بكر هذا الذي ذكره هذا القائل إغفال منه لمعنى الآية لأن الله تعالى لم يقل على الموسع على قد ماله

وعلى المقتر على قدر ماله وإنما قال تعالى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره وللمقتر قدر يعتبر به وهو ثبوته في ذمته حتى يجد فيسلمه كما قال الله تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف فأوجبها عليه بالمعروف ولو كان معسرا لا يقدر على شيء لم يخرج عن حكم الآية لأن له ذمة تثبت فيها النفقة بالمعروف حتى إذا وجدها أعطاها كذلك المقتر في حكم المتعة وكسائر الحقوق التي تثبت في الذمة وتكون الذمة كالأعيان ألا ترى أن شراء المعسر بمال في ذمته جائز وقامت الذمة مقام العين في باب ثبوت البدل فيها فكذلك ذمة الزوج المقتر ذمة صحيحة يصح إثبات المتعة فيها كما تثبت فيها النفقات وسائر الديون قال أبو بكر في هذه الآية دلالة على جواز النكاح بغير تسمية مهر لأن الله تعالى حكم بصحة الطلاق فيه مع عدم التسمية والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح وقد تضمنت الدلالة على أن شرطه أن لا صداق لها لا يفسد النكاح لأنها لما لم يفرق بين من سكت عن التسمية وبين من شرط أن لا صداق فهي على ا لأمرين جميعا وزعم مالك أنه إذا شرط أن لا مهر لها فالنكاح فاسد فإن دخل بها صح النكاح ولها مهر مثلها وقد قضت الآية بجواز النكاح وشرطه أن لا مهر لها ليس بأكثر من ترك التسمية فإذا كان عدم التسمية لا يقدح في العقد فكذلك شرطه أن لا مهر لها وإنما قال أصحابنا أنها غير واجبة للمدخول بها لأنا قد بينا أن المتعة بدل من البضع وغير جائز أن تستحق بدلين فلما كانت مستحقة بعد الدخول المسمى أو مهر المثل لم يجز أن تستحق معه المتعة ولا خلاف أيضا بين فقهاء الأمصار أن المطلقة قبل الدخول لا تستحقها على وجه الوجوب إذا وجب لها نصف المهر فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنها لم تستحقه مع وجوب بعض المهر فأن لا تستحقه مع وجوب جميعه أولى والثاني أن المعنى فيه أنها قد استحقت شيئا من المهر وذلك موجود في المدخول بها فإن قيل لما وجبت المتعة حين لم يجب شيء من المهر وجب أن يكون وجوبها عند استحقاق المهر أولى قيل فينبغي أن تستحقها إذا وجب نصف المهر لوجوبها عند عدم شيء منه وأيضا فإنما استحقها عند فقد شيء من المهر لعلة أن البضع لا يخلو من بدل قيل الطلاق وبعده فلما لم يجب المهر وجبت المتعة ولما استحقت بدلا آخر لم يجز أن تستحقها فإن قيل قال الله تعالى وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين وذلك عام في سائرهن إلا ما خصه الدليل قيل له هو كذلك إلا أن المتاع اسم لجميع ما ينتفع به قال الله تعالى

وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم وقال تعالى متاع قليل ثم مأواهم جهنم وقال تعالى إنما هذه الحياة الدنيا متاع وقال الأفوه الأودي ... إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار ... فالمتعة والمتاع اسم يقع على جميع ما ينتفع به ونحن فمتى أوجبنا للمطلقات شيئا مما ينفع به من مهر أو نفقة فقد قضينا عهدة الآية فمتعة التي لم يدخل بها نصف المهر المسمى والتي لم يسم لها على قدر حال الرجل والمرأة وللمدخول بها تارة المسمى وتارة المثل إذا لم يكن مسمى وذلك كله متعة وليس بواجب إذا أوجبنا لها ضربا من المتعة أن توجب لها سائر ضروبها لأن قوله تعالى وللمطلقات متاع إنما يقتضي أدنى ما يقع عليه الاسم فإن قيل قوله تعالى وللمطلقات متاع يقتضي إيجابه بالطلاق ولا يقع على ما استحقته قبله من المهر قيل له ليس كذلك لأنه جائز أن تقول وللمطلقات المهور التي كانت واجبة لهن قبل الطلاق فليس في ذكر وجوبه بعد الطلاق ما ينفي وجوبه قبله إذ لو كان كذلك لما جاز ذكر وجوبه في الحالين مع ذكر الطلاق فيكون فائدة وجوبه بعد الطلاق إعلامنا أن مع الطلاق يجب المتاع إذ كان جائزا أن يظن ظان أن الطلاق يسقط ما وجب فأبان عن إيجابه بعده كهو قبله وأيضا إن كان المراد متاعا وجب بالطلاق فهو على ثلاثة أنحاء إما نفقة العدة للمدخول بها أو المتعة أو نصف المسمى لغير المدخول بها وذلك متعلق بالطلاق لأن النفقة تسمى متاعا على ما بينا كما قال تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فسمى النفقة والسكنى الواجبتين لها متاعا ومما يدل على أن المتعة غير واجبة مع المهر اتفاق الجميع على أنه ليس لها المطالبة بها قبل الطلاق فلو كانت المتعة تجب مع المهر بعد الطلاق لوجبت قبل الطلاق إذ كانت بدلا من البضع وليست بدلا من الطلاق فكان يكون حكمها حكم المهر وفي ذلك دليل على امتناع وجوب المتعة والمهر فإن قيل فأنتم توجبونها بعد الطلاق لمن لم يسم لها ولم يدخل بها ولا توجبونها قبله ولم يكن انتفاء وجوبها قبل الطلاق دليلا على انتفاء وجوبها بعده وكذلك قلنا في المدخول بها قيل له إن المتعة بعض مهر المثل إذ قام مقام بعضه وقد كانت المطالبة لها واجبة بالمهر قبل الطلاق فلذلك صحت ببعضه بعده وأنت فلست تجعل المتعة بعض المهر فلم يخل إيجابها من أن تكون بدلا من البضع أو من الطلاق فإن كانت بدلا من البضع مع

مهر المثل فواجب أن تستحقها قبل الطلاق وإن لم تكن بدلا من البضع استحال وجوبها عن الطلاق في حال حصول البضع لها والله تعالى أعلم
ذكر

تقدير المتعة الواجبة
قال الله تعالى ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف وإثبات المقدار على اعتبار حاله في الإعسار واليسار طريقه الاجتهاد وغالب الظن ويختلف ذلك في الأزمان أيضا لأن الله تعالى شرط في مقدارها شيئين أحدهما اعتبارها بيسار الرجل وإعساره والثاني أن يكون بالمعروف مع ذلك فوجب اعتبار المعنيين في ذلك وإذا كان كذلك وكان المعروف منهما موقوفا على عادات الناس فيها والعادات قد تختلف وتتغير وجب بذلك مراعاة العادات في الأزمان وذلك أصل في جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث إذ كان ذلك حكما مؤديا إلى اجتهاد رأينا وقد ذكرنا أن شيخنا أبا الحسن رحمه الله يقول يجب مع ذلك اعتبار حال المرأة وذكر ذلك أيضا علي بن موسى القمي في كتابه واحتج بأن الله تعالى علق الحكم في تقدير المتعة بشيئين حال الرجل بيساره وإعساره وأن يكون مع ذلك بالمعروف قال فلو اعتبرنا حال الرجل وحده عاريا من اعتبار حال المرأة لوجب أن يكون لو تزوج امرأتين أحدهما شريفة والأخرى دنية مولاة ثم طلقهما قبل الدخول ولم يسم لهما أن تكونا متساويتين في المتعة فتجب لهذه الدنية كما تجب لهذه الشريفة وهذا منكر في عادات الناس وأخلاقهم غير معروف قال ويفسد من وجه آخر قول من اعتبر حال الرجل وحده دونها وهو أنه لو كان رجلا موسرا عظيم الشأن فيتزوج امرأة دنية مهر مثلها دينار أنه لو دخل بها وجب لها مهر مثلها إذ لم يسم لها شيئا دينار واحد ولو طلقها قبل الدخول لزمته المتعة على قدر حاله وقد يكون ذلك أضعاف مهر مثلها فتستحق قبل الدخول بعد الطلاق أكثر مما تستحقه بعد الدخول وهذا خلف من القول لأن الله تعالى قد أوجب للمطلقة قبل الدخول نصف ما أوجبه لها بعد الدخول فإذا كان القول باعتبار حال دونها يؤدي إلى مخالفة معنى الكتاب ودلالته وإلى خلاف المعروف في العادات سقط ووجب اعتبار حالها معه ويفسد أيضا من وجه آخر وهو أنه لو تزوج رجلان موسران أختين فدخل أحدهما بامرأته كان لها مهر مثلها ألف درهم إذ لم يسم لها مهرا وطلق الآخر امرأته قبل الدخول من غير تسمية أن تكون المتعة لها على قدر

حال الرجل وجائز أن يكون ذلك ضعاف مهر أختها فيكون ما تأخذه المدخول بها أقل مما تأخذه المطلقة وقيمة البضعين واحدة وهما متساويتان في المهر فيكون الدخول مدخلا عليها ضررا ونقصانا في البدن وهذا منكر غير معروف فهذه الوجوه كلها تدل على اعتبار حال المرأة معه وقال أصحابنا أنه إذا طلقها قبل الدخول ولم يسم لها وكانت متعتها أكثر من نصف مهر مثلها أنها لا تجاوز بها نصف مهر مثلها فيكون لها الأقل من نصف مهر مثلها ومن المتعة لأن الله تعالى لم يجعل المسمى لها أكثر من نصف التسمية مع الطلاق قبل الدخول فغير جائز أن يعطيها عند عدم التسمية أكثر من النصف مهر المثل ولما كان المسمى مع ذلك أكثر من مهر المثل فلم تستحق بعد الطلاق أكثر من النصف ففي مهر المثل أولى ولم يقدر أصحابنا لها مقدارا معلوما لا يتجاوز به ولا يقصر عنه وقالوا هي على قدر المعتاد المتعارف في كل وقت وقد ذكر عنهم ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار والإزار هو الذي تستتر به بين الناس عند الخروج وقد ذكر عن السلف في مقدارها أقاويل مختلفة على حسب ما غلب في رأي كل واحد منهم فروى إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس قال أعلى المتعة الخادم ثم دون ذلك النفقة ثم دون ذلك الكسوة وروى أياس بن معاوية عن أبي مجلز قال قلت لابن عمر أخبرني على قدري فأني موسر أكسو كذا أكسو كذا فحسبت ذلك فوجدته قيمته ثلاثين درهما وروى عمرو عن الحسن قال ليس في المتعة شيء بوقت على قدر الميسرة وكان حماد يقول يمتعها بنصف مهر مثلها وقال عطاء أوسع المتعة درع وخمار وملحفة وقال الشعبي كسوتها في بيتها درع وخمار وملحفة وجلبابة وروى يونس عن الحسن قال كان منهم من يمتع بالخادم والنفقة ومنهم من يمتع بالكسوة والنفقة ومن كان دون ذلك فثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة ومن كان دون ذلك متع بثوب واحد وروى عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب قال أفضل المتعة خمارا وأوضعها ثوب وروى الحجاج عن أبي إسحاق أنه سأل عبدالله بن مغفل عنها فقال لها المتعة على قدر ماله وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد آرائهم ولم ينكر بعضهم على بعض ما صار إليه من مخالفته فيه فدل على أنها عندهم موضوعة على ما يؤديه إليه اجتهاده وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة في النصوص قوله عز و جل وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف

ما فرضتم قيل إن أصل الفرض الحز في القداح علامة لها تميز بينها والفرضة العلامة في قسم الماء على خشب أو جص أو حجارة يعرف بها كل ذي حق نصيبه من الشرب وقد سمي الشط الذي ترفأ فيه السفن فرضة لحصول الأثر فيه بالنزول إلى السفن والصعود منها ثم صار اسم الفرض في الشرع واقعا على المقدار وعلى ما كان في أعلى مراتب الإيجاب من الواجبات وقوله تعالى إن الذي فرض عليك القرآن معناه أنزل وأوجب عليك أحكامه وتبليغه وقوله تعالى عند ذكر المواريث فريضة من الله ينتظم الأمرين من معنى الإيجاب لمقادير الأنصباء التي بينها لذوي الميراث وقوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة المراد بالفرض ههنا تقدير المهر وتسميته في العقد ومنه فرائض الإبل وهي المقادير الواجبة فيها على اعتبار أعدادها وأسنانها فسمى التقدير فرضا تشبيها له بالحز الواقع في القداح التي تتميز به من غيرها وكذلك سبيل ما كان مقدارا من الأشياء فقد حصل التمييز به بينه وبين غيره والدليل على أن المراد بقوله تعالى وقد فرضتم لهن فريضة تسمية المقدار في العقد أنه قدم ذكر المطلقة التي لم يسم لها بقوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ثم عقبه بذكر من فرض لها وطلقت بعد الدخول فلما كان الأول على نفي التسمية كان الثاني على إثباتها فأوجب الله لها نصف المفروض بنص التنزيل وقد اختلف فيمن سمي لها بعد العقد ثم طلقت قبل الدخول فقال أبو حنيفة لها مهر مثلها وهو قول محمد وكان أبو يوسف يقول لها نصف الفرض ثم رجع إلى قولهما وقال مالك والشافعي لها نصف الفرض والدليل على أن لها مهر مثلها أن موجب هذا العقد مهر المثل وقد اقتضى وجوب مهر المثل بالعقد وجوب المتعة بالطلاق قبل الدخول فلما تراضيا على تسمية لم ينتف موجب العقد من المتعة والدليل على ذلك أن هذا الفرض لم يكن مسمى في العقد كما لم يكن مهر المثل مسمى فيه وإن كان واجبا به فلما كان ورود الطلاق قبل الدخول مسقطا لمهر المثل بعد وجوبه إذ لم يكن مسمى في العقد وجب أن يكون كذلك حكم المفروض بعده إذ لم يكن مسمى فيه فإن قيل مهر المثل لم يوجبه العقد وإنما وجب بالدخول قيل له هذا غلط لأنه غير جائز استباحة البضع بغير بدل والدليل على ذلك أنه لو شرط في العقد أنه لا مهر لها لوجب لها المهر فلما كان المهر بدلا من استباحة البضع ولم يجز نفيه بالشرط وجب أن يكون

من حيث استباح البضع أن يلزمه المهر ويدل على ذلك أن الدخول بعد صحة العقد إنما هو تصرف فيما قد ملكه وتصرف الإنسان في ملكه لا يلزمه بدلا ألا ترى أن تصرف المشتري في السلعة لا يوجب عليه بدلا بالتصرف فدل ذلك على استحقاقهما لمهر المثل بالعقد ويدل على ذلك أيضا اتفاق الجميع على أن لها أن تمنع نفسها بمهر المثل ولو لم تكن قد استحقته بالعقد كيف كان يجوز لها أن تمنع نفسها بما لم يجب بعد ويدل على ذلك أيضا أن لها المطالبة به ولو خاصمته إلى القاضي لقضى به لها والقاضي لا يبتدئ إيجاب مهر لم تستحقه كما يبتدئ إيجاب سائر الديون إذا لم تكن مستحقة وذلك كله دليل على أن التي لم يفرض لها مهر قد استحقت مهر المثل بالعقد وملكته على الزوج حسب ملكها للمسمى لو كانت في العقد تسمية فإن قيل لو كان مهر المثل واجبا بالعقد لما سقط كله بالطلاق قبل الدخول كما لا يسقط جميع المسمى قيل له لم يسقط كله لأن المتعة بعضه على ما قدمنا وهي بإزاء نصف المسمى لمن طلقت قبل الدخول وزعم إسماعيل بن إسحاق أن المهر لا يجب بالعقد وإن استباح الزوج البضع قال لأن الزوج بإزاء الزوجة كالثمن بإزاء المبيع فإن كان كما قال فواجب أن لا يلزمه المهر بالدخول لأن الوطء كان مستحقا لها على الزوج كما استحق هو التسليم عليها إذ ما استباحه كل واحد منهما بإزاء ما استباحه الآخر فمن أين صار الزوج مخصوصا بإيجاب المهر إذا دخل بها وينبغي أن لا يكون لها أن تحبس نفسها بالمهر إذا لم تستحق ذلك بالعقد وواجب أيضا أن لا تصح تسمية المهر لأنه قد صح من جهته بما عقد عليه كما صح من جهتها فلا يلزمه المهر كما لا يلزمها له شيء وواجب على هذا أن لا يقوم البضع عليها بالدخول وبالوطء بالشبهة وأن لا يصح أخذ البدل منها لسقوط حقه عن بعضها وهذا كله مع ما عقلت الأمة من أن الزوج يجب عليه المهر بدلا من استباحة البضع يدل على سقوط قول هذا القائل وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث سهل بن سعد الساعدي حين قال للرجل الذي خطب إليه المرأة التي وهبت نفسها منه قد ملكتها بما معك من القرآن يدل على أن الزوج في معنى الملك لبضعها ومن الدليل على أن الفرض الواقع بعد العقد يسقطه الطلاق قبل الدخول أن الفرض إنما أقيم مقام مهر المثل لأنه غير جائز إيجابه مع مهر المثل ولما كان كذلك وجب أن يسقطه الطلاق قبل الدخول كما يسقط مهر المثل ومن جهة أخرى أن الفرض إنما ألحق بالعقد ولم يكن موجودا فيه فمن حيث بطل العقد بطل

ما ألحق به فإن قيل فالمسمى في العقد ثبوته كان بالعقد ولا يبطل ببطلانه قيل له قد كان أبو الحسن رحمه الله يقول إن المسمى قد بطل وإنما يجب نصف المهر حسب وجوب المتعة وكذلك قال إبراهيم النخعي هذا متعتها ومن الناس من يحتج بهذه الآية في أن المهر قد يكون أقل من عشرة دراهم لأن الله تعالى قال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم فإذا سمى درهمين في العقد وجب بقضية الآية أن لا تستحق بعد الطلاق أكثر من درهم وهذا لا يدل عندنا على ما قالوا وذلك لأن تسمية الدرهمين عندنا تسمية العشرة لأن العشرة لا تتبعض في العقد وتسمية لبعضها تسمية لجميعها كما أن الطلاق لما لم يتبعض كان إيقاعه لنصف تطليقة إيقاعا لجميعها والذي قد فرض أقل من عشرة قد فرض العشرة عندنا فيجب نصفها بعد الطلاق وأيضا فإن الذي اقتضته الاية وجوب نصف المفروض ونحن نوجب نصف المفروض ثم نوجب الزيادة إلى تمام خمسة دراهم بدلالة أخرى والله أعلم
ذكر

اختلاف أهل العلم في الطلاق بعد الخلوة
قال أبو بكر تنازع أهل العلم في معنى قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم واختلفوا في المسيس المراد بالآية فروي عن علي وابن عمر وزيد بن ثابت إذا أغلق بابا وأرخى سترا ثم طلقها فلها جميع المهر وروى سفيان الثوري عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال لها الصداق كاملا وهو قول علي بن الحسين وإبراهيم في آخرين من التابعين وروى فراس عن الشعبي عن ابن مسعود قال لها نصف الصداق وإن قعد بين رجليها والشعبي عن ابن مسعود مرسل وروي عن شريح مثل قول ابن مسعود وروى سفيان الثوري عن عمر عن عطاء عن ابن عباس إذا فرض الرجل قبل أن يمس فليس لها إلا المتاع فمن الناس من ظن أن قوله في هذا كقول عبدالله بن مسعود وليس كذلك لأن قوله فرض يعني أنه لم يسم لها مهرا وقوله قبل أن يمس يريد قبل الخلوة لأنه قد تأوله على الخلوة في حديث طاوس عنه فأوجب لها المتعة قبل الخلوة واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق وطئ أو لم يطأ وهي أن لا يكون أحدهما محرما أو مريضا أو لم تكن حائضا أو صائمة في رمضان أو رتقاء فإنه إن كان

كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها والعدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدة وقال سفيان الثوري لها المهر كاملا إذا خلا بها ولم يدخل بها إذا جاء ذلك من قبله وإن كانت رتقاء فلها نصف المهر وقال مالك إذا خلا بها وقبلها وكشفها إن كان ذلك قريبا فلا أرى لها إلا نصف المهر وإن تطاول ذلك فلها المهر إلا أن تضع له ما شاءت وقال الأوزاعي إذا تزوج امرأة فدخل بها عند أهلها قبلها ولمسها ثم طلقها ولم يجامعها أو أرخى عليها سترا أو أغلق بابا فقد تم الصداق وقال الحسن بن صالح إذا خلا بها فلها نصف المهر إذ لم يدخل بها وإن ادعت الدخول بعد الخلوة فالقول قولها بعد الخلوة وقال الليث إذا أرخى عليا سترا فقد وجب الصداق وقال الشافعي إذا خلا بها ولم يجامعها حتى طلق فلها نصف المهر ولا عدة عليها قال أبو بكر مما يحتج به في ذلك من طريق الكتاب قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فأوجب إيفاء الجميع فلا يجوز إسقاط شيء منه إلا بدليل ويدل عليه قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض فيه وجهان من الدلالة على ما ذكرنا أحدهما قوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا والثاني وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وقال الفراء الإفضاء الخلوة دخل بها أو لم يدخل هو حجة في اللغة وقد أخبر أن الإفضاء اسم للخلوة فمنع الله تعالى أن يأخذ منه شيئا بعد الخلوة وقد دل على أن المراد هو الخلوة الصحيحة التي لا تكون ممنوعا فيها من الإستمتاع لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض وهو الموضع الذي لا بناء فيه ولا حاجز يمنع من إدراك ما فيه فأفاد بذلك استحقاق المهر بالخلوة على وصف وهي التي لا حائل بينها ولا مانع من التسليم والاستمتاع إذ كان لفظ الإفضاء يقتضيه ويدل عليه أيضا قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف وقوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة يعني مهورهن وظاهره يقتضي وجوب الإيتاء في جميع الأحوال إلا ما قام دليله قال أبو بكر ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال أخبرنا معلى بن منصور قال حدثنا ابن لهيعة قال حدثنا أبو الأسود عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم

يدخل وهو عندنا اتفاق الصدر الأول لأن حديث فراس عن الشعبي عن عبدالله بن مسعود لا يثبته كثير من الناس من طريق فراس وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف عن زرارة بن أوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابا وأرخى سترا فقد وجب الهر ووجبت العدة فأخبر أنه قضاء الخلفاء الراشدين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ ومن طريق النظر أن المعقود عليه من جهتها لا يخلو إما أن يكون الوطء أو التسليم فلما اتفق الجميع على جواز نكاح المجبوب مع عدم الوطء دل ذلك على أن صحة العقد غير متعلقة بالوطء إذ لو كان كذلك لوجب أن لا يصح العقد عند عدم الوطء ألا ترى أنه لما تعلقت صحته بصحة التسليم كان من لا يصح منها التسليم من ذوات المحارم لم يصح عليها العقد وإذا كانت صحة العقد متعلقة بصحة التسليم من جهتها فواجب أن تستحق كمال المهر بعد صحة التسليم بحصول ما تعلقت به صحة العقد له وأيضا فإن المستحق من قبلها هو التسليم ووقوع الوطء إنما هو من قبل الزوج فعجزه وامتناعه لا يمنع من صحة استحقاق المهر ولذلك قال عمر رضي الله عنه في المخلو بها لها المهر كاملا ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم وأيضا لو استأجر دار أو خلى بينها وبينه استحق الأجر لوجود التسليم كذلك الخلوة في النكاح وإنما قالوا إنها إذا كانت محرمة أو حائضا أو مريضة إن ذلك لا تستحق به كمال المهر من قبل أن هناك تسليما آخر صحيحا تستحق به كمال المهر إذ ليس ذلك تسليما صحيحا ولما لم يوجد التسليم المستحق بعقد النكاح لم تستحق كمال المهر واحتج من أبى ذلك بظاهر قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم وقال تعالى في آية أخرى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فعلق استحقاق كمال المهر ووجوب العدة بوجود المسيس وهو الوطء إذ كان معلوما أنه لم يرد به وجود المس باليد والجواب عن ذلك أن قوله تعالى من قبل أن تمسوهن قد اختلف الصحابة فيه على ما وصفنا فتأوله علي وعمر وابن عباس وزيد وابن عمر على الخلوة فليس يخلو هؤلاء من أن يكونوا تأولوها من طريق اللغة أو من جهة أنه اسم له في الشرع إذ غير جائز تأويل اللفظ على ما ليس باسم له في الشرع ولا في اللغة فإن كان ذلك عندهم

اسما له من طريق اللغة فهم حجة فيها لأنهم أعلم باللغة ممن جاء بعدهم وإن كان من طريق الشرع فأسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا وإذا صار ذلك اسما لها صار تقدير الآية وإن طلقتموهن من قبل الخلوة فنصف ما فرضتم وأيضا لما اتفقوا على أنه لم يرد به حقيقة المس باليد وتأوله بعضهم على الجماع وبعضهم على الخلوة ومتى كان اسما للجماع كان كناية عنه وجائز أن يكون حكمه كذلك وإذا أريد به الخلوة سقط اعتبار ظاهر اللفظ لاتفاق الجميع على أنه لم يرد حقيقة معناه وهو المس باليد ووجب طلب الدليل على الحكم من غيره وما ذكرناه من الدلالة يقتضي أن مراد الآية هو الخلوة دون الجماع فأقل أحواله أن لا يخص به ما ذكرنا من ظاهر الآي والسنة وأيضا لو اعتبرنا حقيقة اللفظ اقتضى ذلك أن يكون لو خلا بها ومسها بيده أن تستحق كمال المهر لوجود حقيقة المس وإذا لم يخل بها ومسها بيده خصصناه بالإجماع وأيضا لو كان المراد الجماع فليس يمتنع أن يقوم مقامه ما هو مثله وفي حكمه من صحة التسليم كما قال تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا وما قام مقامه من الفرقة فحكمه حكمه في إباحتها للزوج الأول وقد حكي عن الشافعي في المجبوب إذاجامع امرأته أن عليه كمال المهر إن طلق من غير وطء فعلمنا أن الحكم غير متعلق بوجود الوطء وإنما هو متعلق بصحة التسليم فإن قيل لو كان التسليم قائما مقام الوطء لوجب أن يحلها للزوج الأول كما يحلها الوطء قيل له هذا غلط لأن التسليم إنما هو علة لاستحقاق كمال المهر وليس بعلة لإحلالها للزوج الأول ألا ترى أن الزوج لو مات عنها قبل الدخول استحقت كمال المهر وكان الموت بمنزلة الدخول ولا يحلها ذلك للزوج الأول قوله تعالى إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح قوله تعالى إلا أن يعفون المراد به الزوجات لأنه لو أراد الأزواج لقال إلا أن يعفوا ولا خلاف في ذلك وقد روي أيضا عن ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف ويكون عفوها أن تترك بقية الصداق وهو النصف الذي جعله الله لها بعد الطلاق بقوله تعالى فنصف ما فرضتم فإن قيل قد يكون الصداق عرضا بعينه وعقارا لا يصح فيه العفو قيل له ليس معنى العفو في هذا الموضع أن تقول قد عفوت وإنما العفو هو التسهيل أو الترك والمعنى فيه أن تتركه له على الوجه الجائز في عقود التمليكات فكان تقدير الآية أن تملكه إياه وتتركه له تمليكا بغير عوض تأخذه منه فإن قال قائل في هذا دلالة على جواز

هبة المشاع فيما يقسم لإباحة الله تعالى لها تمليك نصف الفريضة إياه بعدالطلاق ولم يفرق بين ماكان منها عينا أو دينا ولا بين ما يحتمل القسمة أو لا يحتملها فوجب بقضية الآية جواز هبة المشاع فيقال له ليس الأمر كما ظننت لأنه ليس المعنى في العفو أن تقول قد عفوت إذ لا خلاف أن رجلا لو قال لرجل قد عفوت لك عن داري هذه أو قد أبرأتك من داري هذه أن ذلك لا يوجب تمليكا ولا يصح به عقد هبة وإذا كان كذلك وما نص عليه في الآية من العفو غير موجب لجواز عقود التمليكات به علم أن المراد به تمليكها على الوجه الذي تجوز عليه عقود الهبات والتمليكات إذ كان اللفظ الذي به يصح التمليك غير مذكور فصار حكمه موقوفا على الدلالة فما جاز في الأصول جاز في ذلك ومالم يجز في الأصول من عقود الهبات لم يجز في هذا ومع هذا فإن كان هذا السائل عن ذلك من أصحاب الشافعي فإنه يلزمه أن يجيز الهبة غير مقبوضة لأن الله سبحانه لم يفرق بين المهر المقبوض وغير المقبوض فإذا عفت وقد قبضت فواجب أن يجوز من غير تسليمه إلى الزوج وإذا لم يجز ذلك وكان محمولا على شروط الهبات كذلك في المشاع وإن كان من أصحاب مالك واحتج به في جوازها في المشاع وقبل القبض كان الكلام على ما قدمناه وأما قوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح فإن السلف قد اختلفوا فيه فقال علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب وقتادة ونافع هو الزوج وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري وابن شبرمة والأوزاعي والشافعي قالوا عفوه أن يتم لها كمال المهر بعد الطلاق قبل الدخول قالوا وقوله تعالى إلا أن يعفون البكر والثيب وقد روي عن ابن عباس في ذلك روايتان إحداهما ما رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال هو الزوج وروى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال رضي الله بالعفو وأمر به وإن عفت فكما عفت وإن ضنت وعفى وليها جاز وإن أبت وقال علقمة والحسن وإبراهيم وعطاء وعكرمة وأبو الزناد هو الولي وقال مالك بن أنس إذا طلقها قبل الدخول وهي بكر جاز عفو أبيها عن نصف الصداق وقوله تعالى إلا أن يعفون اللاتي قد دخل بهن قال ولا يجوز لأحد أن يعفو عن شيء من الصداق إلا الأب وحده لا وصي ولا غيره وقال الليث لأبي البكر أن يضع من صداقها عند عقدة

النكاح ويجوز ذلك عليها وبعد عقدة النكاح ليس له أن يضع شيئا من صداقها ولا يجوز أيضا عفوه عن شيء من صداقها بعد الطلاق قبل الدخول ويجوز له مبارأة زوجها وهي كارهة إذا كان ذلك نظرا من أبيها لها فكما لم يجز للأب أن يضع شيئا من صداقها بعد النكاح كذلك لا يعفو عن نصف صداقها بعد ذلك وذكر ابن وهب عن مالك أن مبارأته عليها جائزة قال أبو بكر قوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح متشابه لاحتماله الوجهين اللذين تأولهما السلف عليهما فوجب رده إلى المحكم وهو قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال تعالى في آية أخرى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا وقال تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله فهذه الآيات محكمة لا احتمال فيها لغير المعنى الذي اقتضته فوجب رد الآية المتشابهة وهي قوله تعالىأو يعفو الذي بيده عقدة النكاح إليها لأمر الله تعالى الناس برد المتشابه إلى المحكم وذم متبعي المتشابه من غير حمله على معنى المحكم بقوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وأيضا لما كان اللفظ محتملا للمعاني وجب حمله على موافقة الأصول ولا خلاف أنه غير جائز للأب هبة شيء من مالها للزوج ولا لغيره فكذلك المهر لأنه مالها وقوله من حمله على الولي خارج عن الأصول لأن أحدا لا يستحق الولاية على غيره في هبة مالها فلما كان قول القائلين بذلك مخالفا للأصول خارجا عنها وجب حمل معنى الآية على موافقتها إذ ليس ذلك أصلا بنفسه لاحتماله للمعاني وما ليس بأصل في نفسه فالواجب رده إلى غيره من الأصول واعتباره بها وأيضا فلو كان المعنيان جميعا في حيز الاحتمال ووجد نظائرهما في الأصول لكان في مقتضى اللفظ ما يوجب أن يكون الزوج أولى بظاهر اللفظ من الولي وذلك لأن قوله تعالى أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح لا يجوز أن يتناول الولي بحال لا حقيقة ولا مجازا لأن قوله تعالى الذي بيده عقدة النكاح يقتضي أن تكون العقدة موجودة وهي في يد من هي في يده فأما عقدة غير موجودة فغير جائز إطلاق اللفظ عليها بأنها في يد أحد فلما لم تكن هناك عقدة موجودة في يد الولي قبل العقد ولا بعده وقد كانت العقدة في يد الزوج قبل الطلاق فقد تناوله اللفظ بحال فوجب أن يكون حمله على الزوج أولى منه على الولي فإن قيل إنما حكم

الله بذلك بعد الطلاق وليست عقدة النكاح بيد الزوج بعد الطلاق قيل له يحتمل اللفظ بأن يريد الذي كان بيده عقدة النكاح والولي لم يكن بيده عقدة النكاح ولا هي في يده في الحال فكان الزوج أولى بمعنى الآية من الولي ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة ولا تنسوا الفضل بينكم فندبه إلى الفضل وقال تعالى وأن تعفوا أقرب للتقوى وليس في هبة مال الغيرأفضال منه على غيره والمرأة لم يكن منها أفضال وفي تجويز عفو الولي إسقاط معنى الفضل المذكور في الآية وجعله تعالى بعد العفو أقرب للتقوى ولا تقوى له في هبة مال غيره وذلك الغير لم يقصد إلى العفو فلا يستحق به سمة التقوى وأيضا فلا خلاف أن الزوج مندوب إلى ذلك وعفوه وتكميل المهر لها جائز منه فوجب أن يكون مرادا بها وإذا كان الزوج مرادا انتفى أن يكون الولي مرادا بها لأن السلف تأولوه على أحد معنيين إما الزوج وإما الولي وإذ قد دللنا على أن الزوج مراد وجب أن تمتنع إرادة الولي فإن قال قائل على ما قدمنا فيما تضمنته الآية من الندب إلى الفضل وإلى ما يقرب من التقوى وإن كان ذلك خطابا مخصوصا به المالك دون من يهب مال الغير ليس يمتنع في الأصول أن تلحق هذه التسمية للولي وإن فعل ذلك في مال من يلي عليه والدليل على ذلك أنه يستحق الثواب بإخراج صدقة الفطر عن الصغير من مال الصغير وكذلك الأضحية والختان قيل أغفلت موضع الحجاج مما قدمناه وذلك أنا قلنا هو غير مستحق للثواب والفضل بالتبرع بمال الغير فعارضتنا بمن وجب عليه حق في ماله فأخرجه عنه وليه وهو الأب ونحن نجيز للوصي ولغير الوصي أن يخرج عنه هذه الحقوق ولا نجيز عفوهم عنه فكيف تكون الأضحية وصدقة الفطر والحقوق الواجبة بمنزلة التبرع وإخراج مالا يلزم من ملكها وزعم بعض من احتج لمالك أنه لو أراد الزوج لقال إلا أن يعفون أو يعفو الزوج لما قد تقدم من ذكر الزوجين فيكون الكلام راجعا إليهما جميعا فلما عدل عن ذلك إلى ذكر من لا يعرف إلا بالصفة علم أنه لم يرد الزوج قال أبو بكر وهذا الكلام فارغ لا معنى تحته لأن الله تعالى يذكر إيجاب الأحكام تارة بالنصوص وتارة بالدلالة على المعنى المراد من غير نص عليه وتارة بلفظ يحتمل للمعاني وهو في بعضها أظهر وبه أولى وتارة بلفظ مشترك يتناول معاني مختلفة يحتاج في الوصول إلى المراد بالاستدلال عليه من غيره وقد وجد ذلك كله في القرآن وقوله لو أراد الزوج

لقال أو يعفو حتى يرجع الكلام إلى الزوج دون غيره ولما عدل عنه إلى لفظ محتمل خلف من القول لا معنى له ويقال له لو أراد الولي لقال الولي ولم يورد لفظا يشترك فيه الولي وغيره وقال هذا القائل أن العافي هو التارك لحقه وهي إذا تركت النصف الواجب لها فهي عافية وكذلك الولي فإن الزوج إذا أعطاها شيئا غير واجب لها لا يقال له عاف وإنما هو واهب وهذا أيضا كلام ضعيف لأن الذي تأولوه على الزوج قالوا إن عفوه هو إتمام الصداق لها وهم الصحابة والتابعون وهم أعلم بمعاني اللغة وما تحتمله من هذا القائل وايضا فإن العفو في هذا الموضع ليس هو قوله قد عفوت وإنما المعنى فيه تكميل المهر من قبل الزوج أو تمليك المرأة النصف الباقي بعد الطلاق إياه ألا ترى أن المهر لو كان عبدا بعينه لكان حكم الآية مستعملا فيه والندب المذكور فيها قائما فيه ويكون عفو المرأة أن تملكه النصف الباقي لها بعد الطلاق لا بأن تقول قد عفوت ولكن على الوجه الذي يجوز فيه عقود التمليكات فكذلك العفو من قبل الزوج ليس هو أن يقول قد عفوت لكن بتمليك مبتدأ على حسب ما تجوز التمليكات وكذلك لو كانت المرأة قد قبضت المهر واستهلكته كان عفو الزوج في هذه الحالة إبراءاها من الواجب عليها ولو كان المهر دينا في ذمة الزوج كان عفوها إبراءه من الباقي فكل عفو أضيف إلى المرأة فمثله يضاف إلى الزوج ويقال فما تقول في عفو الولي على أي صفة هو فإنا نجعل عفو الزوج على مثلها فالاشتغال بمثل ذلك لا يجدي نفعا لأن ذلك كلام في لفظ العفو والعدول عنه وهو مع ذلك منتقض على قائله إلا أني ذكرته إبانة عن اختلال قول المخالفين ولجأهم إلى تزويق الكلام بما لا دلالة فيه وقوله تعالى إلا أن يعفون يدل على بطلان قول من يقول إن البكر إذا عفت عن نصف الصداق بعد الطلاق إنه لا يجوز وهو قول مالك لأن الله تعالى لم يفرق بين البكر والثيب في قوله تعالى إلا أن يعفون ولما كان قوله وابتداء خطابه حين قال تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم عاما في الأبكار والثيب وجب أن يكون ما عطف عليه من قوله تعالى إلا أن يعفون عاما في الفريقين منهما وتخصيص الثيب بجواز العفو دون البكر لا دلالة عليه وقوله تعالى فنصف ما فرضتم يوجب أن يكون إذا تزوجها على ألف درهم ودفعها إليها ثم طلقها قبل الدخول وقد اشترت بها متاعا أن يكون لها نصف الألف وتضمن

للزوج النصف وقال مالك يأخذ الزوج نصف المتاع الذي اشترته والله تعالى إنما جعل له نصف المفروض وكذلك المرأة فكيف يجوز أن يؤخذ منها مالم يكن مفروضا ولا هو قيمة له وهو أيضا خلاف الأصول لأن رجلا لو اشترى عبدا بألف درهم وقبض البائع ألف واشترى بها متاعا ثم وجد المشتري بالعبد عيبا فرد لم يكن له على المتاع الذي اشتراه البائع سبيل وكان المتاع كله للبائع وعليه أن يرد على المشتري ألفا مثلها فالنكاح مثله لا فرق بينهما إذ لم يقع عقد النكاح على المتاع كما لم يقع عقد البيع عليه وإنما وقع على الألف والله تعالى أعلم
باب

الصلاة الوسطى وذكر الكلام في الصلاة
قال الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فيه أمر بفعل الصلاة وتأكيد وجوبها بذكر المحافظة وهي الصلوات الخمس المكتوبات المعهودات في اليوم والليلة وذلك لدخول الألف واللام عليها إشارة بها إلى معهود وقد انتظم ذلك القيام بها واستيفاء فروضها وحفظ حدودها وفعلها في مواقيتها وترك التقصير فيها إذ كان الأمر بالمحافظة يقتضي ذلك كله وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر مع ذكره سائر الصلوات وذلك يدل على معنيين إما أن تكون أفضل الصلوات وأولاها بالمحافظة عليها فلذلك أفردها بالذكر عن الجملة وإما أن تكون المحافظة عليها أشد من المحافظة على غيرها وقد روي في ذلك روايات مختلفة يدل بعضها على الوجه الأول وبعضها على الوجه الثاني فمنها ما روي عن زيد بن ثابت أنه قال هي الظهر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالهجير ولا يكون وراءه إلا الصف أو الصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وفي بعض ألفاظ الحديث فكانت أثقل الصلوات على الصحابة فأنزل الله تعالى ذلك قال زيد بن ثابت وإنما سماها وسطى لأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين وروي عن ابن عمر وابن عباس أن الصلاة الوسطى صلاة العصر وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها صلاة الفجر وقد روي عن عائشة وحفصة وأم كلثوم أن في مصحفهن حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وروي عن البراء بن عازب قال نزلت حافظوا على الصلوات وصلاة العصر وقرأتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم نسخها الله تعالى فأنزل حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فأخبر البراء أن ما في مصحف

هؤلاء من ذكر صلاة العصر منسوخ وقد روى عاصم عن زر عن علي قال قاتلنا الأحزاب فشغلونا عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم - اللهم املأ قلوب الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى نارا قال علي كنا نرى أنها صلاة الفجر وروى عكرمة وسعيد بن جبير ومقسم عن ابن عباس مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنها صلاة العصر وكذلك روى سمرة بن جندب عن رسول الله ص
- وروي عن علي من قوله أنها صلاة العصر وكذلك عن أبي بن كعب وعن قبيصة بن ذؤيب المغرب وقيل إنما سميت صلاة العصر الوسطى لأنها بين صلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وقيل إن أول الصلوات وجوبا كانت الفجر وآخرها العشاء الآخرة فكانت العصر هي الوسطى في الوجوب ومن قال إن الوسطى الظهر يقول لأنها وسطى صلاة النهار بين الفجر والعصر ومن قال الصبح فقد قال ابن عباس لأنها تصلى في سواد من الليل وبياض من النهار فجعلها وسطى في الوقت ومن الناس من يستدل بقوله تعالى والصلاة الوسطى على نفي وجوب الوتر لأنها لو كانت واجبة لما كان لها وسطى لأنها تكون حينئذ ستا فيقال له إن كانت الوسطى العصر فوجهه ما قيل أنها وسطى في الإيجاب وإن كانت الظهر فلأنها بين صلاتي النهار الفجر والعصر فلا دلالة على نفي وجوب الوتر التي هي من صلاة الليل وأيضا فإنها وسطى الصلوات المكتوبات وليس الوتر من المكتوبات وإن كانت واجبة لأنه ليس كل واجب فرضا إذا كان الفرض هو أعلى في مراتب الوجوب وأيضا فإن فرض الوتر زيادة وردت بعد فرض المكتوبات لقوله ص - إن الله زادكم إلى صلاتكم صلاة وهي الوتر وإنما سميت وسطى قبل وجوب الوتر وأما قوله عز و جل وقوموا لله قانتين فإنه قد قيل في معنى القنوت في أصل اللغة أنه الدوام على الشيء وروي عن السلف فيه أقاويل روي عن ابن عباس والحسن وعطاء والشعبي وقوموا لله قانتين مطيعين وقال نافع عن ابن عمر قال القنوت طول القيام وقرأ أمن هو قانت آناء الليل وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الصلاة طول القنوت يعني القيام وقال مجاهد القنوت السكوت والقنوت الطاعة ولما كان أصل القنوت الدوام على الشيء جاز أن يسمى مديم الطاعة قانتا وكذلك من أطال القيام والقراءة والدعاء في الصلاة أو أطال الخشوع والسكوت كل هؤلاء فاعلو القنوت وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قنت شهرا يدعو فيه

على حي من أحياء العرب والمراد به أطال قيام الدعاء وقد روى الحارث عن شبل عن أبي عمرو الشيباني قال كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فنزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت فاقتضى ذلك النهي عن الكلام في
الصلاة وقال عبدالله بن مسعود كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فيرد علينا قبل أن نأتي أرض الحبشة فلمارجعت سلمت عليه فلم يرد علي فذكرت ذلك له فقال إن الله يحدث من أمره ما يشاء وأنه قضى أن لا تتكلموا في الصلاة وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم - فرد عليه بالإشارة فلما سلم قال كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك وروى إبراهيم الهجري عن ابن عياض عن أبي هريرة قال كانوا يتكلمون في الصلاة فنزل فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن ففي هذه الأخبار حظر الكلام في الصلاة ولم تختلف الرواة أن الكلام كان مباحا في الصلاة إلى أن حظره واتفق الفقهاء على حظره إلا أن مالكا قال يجوز فيها لإصلاح الصلاة وقال الشافعي كلام السهو لا يفسدها ولم يفرق أصحابنا بين شيء منه وأفسدوا الصلاة بوجوده فيها على وجه السهو وقع أو لإصلاح الصلاة والدليل عليه أن الآية التي تلونا من قوله تعالى وقوموا لله قانتين ورواية من روى أنها نزلت في حظر الكلام في الصلاة مع احتماله له لو لم ترد الرواية بسبب نزولها ليس فيها فرق بين الكلام الواقع على وجه السهو والعمد وبينه إذا قصد به إصلاح الصلاة أو لم يقصد وكذلك سائر الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في حظره فيها لم يفرق فيها بين ما قصد به إصلاح الصلاة وبين غيره ولا بين السهو والعمد منه فهي عامة في الجميع فإن قيل النهي عن الكلام في الصلاة مقصور مقصور على العامد دون الناسي لاستحالة نهي الناسي قيل له حكم النهي قد يجوز أن يتعلق على الناسي كهو على العامد وإنما يختلفان في المأثم واستحقاق الوعيد فأما في الأحكام التي هي فساد الصلاة وإيجاب قضائها فلا يختلفان ألا ترى أن الناسي بالأكل والحدث والجماع في الصلاة في حكم العامد فيما يتعلق عليه من أحكام هذه الأفعال من إيجاب القضاء وإفساد الصلاة وإن كانا مختلفين في حكم المأثم واستحقاق الوعيد وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان حكم النهي فيما يقتضيه من إيجاب القضاء معلقا بالناسي كهو بالعامد لا فرق

بينهما فيه وإن اختلفا في حكم المأثم والوعيد فقد دلت هذه الأخبار على فساد قول من فرق بين ما قصد به الإصلاح للصلاة وبين مالم يقصد به إصلاحها وعلى فساد قول من فرق بين الناسي والعامد ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -

في حديث معاوية بن الحكم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيه شيء من كلام الناس
وحقيقته الخبر فهو محمول على حقيقته فاقتضى ذلك إخبارا من النبي صلى الله عليه وسلم - بأن الصلاة لا يصلح فيها كلام الناس فلو بقي مصليا بعد الكلام لكان قد صلح الكلام فيها من وجه فثبت بذلك أن ما وقع فيه كلام الناس فليس بصلاة ليكون مخبره خبرا موجودا في سائر ما أخبر به من وجه آخر أن ضد الصلاح هو الفساد وهو يقتضيه في مقابلته فإذا لم يصلح فيها ذلك فهي فاسدة إذا وقع الكلام فيها ولو لم يكن كذلك لكان قد صلح الكلام فيها من غير إفساد وذلك خلاف مقتضى الخبر واحتج الفريقان جميعا من مخالفينا الذين حكينا من قولهما بحديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين وروي من طرق قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها إحداهما على الآخر يعرف في وجهه الغضب قال وخرج سرعان الناس فقالوا أقصرت الصلاة وفي الناس أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يسميه ذا اليدين فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة فقال له لم أنس ولم تقصر الصلاة فقال بل نسيت فأقبل على القوم فقال أصدق ذو اليدين قالوا نعم فجاء فصلى بنا الركعتين الباقيتين وسلم وسجد سجدتي السهو قالوا فأخبر أبو هريرة بما كان منه ومنهم من الكلام ولم يمتنع من البناء وقد كان أبو هريرة متأخر الإسلام وروى يحيى بن سعيد القطان قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال أتينا أبا هريرة فقلنا حدثنا فقال صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ثلاث سنين وقد روي عنه أنه قدم المدينة والنبي ص
- بخيبر فخرج خلفه وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم -
خيبر قالوا فإذا كانت هذه القصة بعد إسلام أبي هريرة ومعلوم أن نسخ
الكلام كان بمكة لأن عبدالله بن مسعود لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أرض الحبشة كان الكلام في الصلاة محظورا لأنه سلم عليه فلم يرد عليه وأخبره بنسخ الكلام في الصلاة فثبت بذلك أن ما في حديث ذي اليدين كان بعد حظر الكلام في الصلاة وقال أصحاب مالك إنما لم تفسد به الصلاة لأنه كان لإصلاحها وقال الشافعي لأنه وقع ناسيا

فيقال لهم لو كان حديث ذي اليدين بعد نسخ الكلام لكان مبيحا للكلام فيها ناسخا لحظره المتقدم له لأنه لم يخبرهم أن جواز ذلك مخصوص بحال دون حال وقد روى سفيان بن عيينة عن أبي حازم عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من نابه في صلاته شيء فليقل سبحان الله إنما التصفيق للنساء والتسبيح للرجال وروى سفيان عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال التسبيح للرجال والتصفيق للنساء فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لمن نابه شيء في صلاته من الكلام وأمر بالتسبيح فلما لم يكن من القول
تسبيح في قصة ذي اليدين ولا أنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم - تركه دل ذلك على أن قصة ذي اليدين كانت قبل أن يعلمهم التسبيح إذ غير جائز أن يكون قد علمهم التسبيح ثم يخالفونه إلى غيره ولو كانوا خالفوا ما أمروا به من التسبيح في مثل هذه الحال لظهر فيه النكير عليهم في تركهم التسبيح المأمور به إلى الكلام المحظور وفي هذا دليل على أن قصة ذي اليدين كانت على على أحد وجهين إما قبل حظر الكلام ثم حظر الكلام في الصلاة وإما أن تكون بعد حظر الكللام بديا منه ثم أبيح الكلام ثم حظر بقوله التسبيح للرجال والتصفيق للنساء وقد كان نسخ الكلام بالمدينة بعد الهجرة ويدل عليه ما روى معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - الظهر أو العصر وذكر الحديث قال الزهري فكان هذا قبل بدر ثم استحكمت الأمور بعده وقال زيد بن أرقم كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت وقال أبو سعيد الخدري سلم رجل على النبي صلى الله عليه وسلم - فرد عليه إشارة وقال كنا نرد السلام في الصلاة فنهينا عن ذلك وأبو سعيد الخدري من أصاغر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
ويدل على صغر سنه ما روى هشام عن أبيه عن عائشة قالت وما علم أبي سعيد
الخدري وأنس بن مالك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنما كانا غلامين صغيرين وكان قدوم عبدالله بن مسعود على النبي صلى الله عليه وسلم - من الحبشة إنما كان بالمدينة وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبدالرحمن وعروة بن الزبير أن عبدالله بن مسعود ومن كان معه بالحبشة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وقد روى أهل السير أن عبدالله بن مسعود لما قتل أبا جهل يوم بدر بعد ما أثخنه ابنا عفراء وإذا كان كذلك فقد أخبر عبدالله بن مسعود بحظر الكلام في الصلاة عند قدومه من الحبشة وكان ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم -
يريد الخروج إلى بدر وروى عبدالله بن وهب

عن عبدالله بن العمري عن نافع عن ابن عمر أنه ذكر له حديث ذي اليدين فقال كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين ثبت بذلك أن ما رواه أبو هريرة كان قبل إسلامه لأن إسلامه كان عام خيبر فثبت أن أبا هريرة لم يشهد تلك القصة وإن حدث بها كما قال البراء ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

سمعناه ولكن سمعنا وحدثنا أصحابنا وروى حماد بن سلمة عن حميد عن أنس قال
والله ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولكن كان يحدث بعضنا بعضا ولا يتهم بعضنا بعضا وقد روى ابن جريج قال أخبرني عمرو عن يحيى بن جعدة أنه أخبره عن عبدالرحمن بن عبدالقاري أنه سمع أبا هريرة يقول لا ورب هذا البيت ما أنا قلت من أدرك الصبح وهو جنب فليفطر ولكن محمد قاله ورب هذا البيت ثم لما أخبر برواية عائشة وأم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبا من غير احتلام ثم يصوم يومه ذلك قال لا علم لي بهذا إنما أخبرني به الفضل بن العباس فليس في روايته بحديث ذي اليدين ما يدل على مشاهدته فإن قيل فقد روي في بعض أخباره أنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - قيل له يحتمل أن يكون مراده أنه صلى بالمسلمين وهو منهم كما روى مسعر بن كدام عن عبدالملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف فأنتم اليوم بنو عبدالله ونحن بنو عبدالله إنما يعني أنه قال ذلك لقومه فإن قيل لو كان حظر الكلام في الصلاة متقدما لبدر لما شهده زيد بن أرقم لأنه كان صغير السن وكان يتيما في حجر عبدالله بن رواحة حين خرج إلى مؤتة ومثله لا يدرك قصة كانت قبل بدر قيل له إن كان زيد بن أرقم قد شهد إباحة الكلام في الصلاة فإنه جائز أن يكون قد أبيح بعد الحظر وجائز أن يكون أبو هريرة أيضا قد شهد إباحة الكلام في الصلاة بعد حظره ثم حظر بعد ذلك إلا أن أخباره عن قصة ذي اليدين لا محالة لم يكن عن مشاهدة لأنه أسلم بعدها وجائز أن يكون زيد بن أرقم أخبرعن حال المسلمين في كلامهم في الصلاة إلى نزول قوله تعالى وقوموا لله قانتين ويكون معنى قوله كنا نتكلم في الصلاة أخبارا عن المسلمين وهو منهم كما قال النزال بن سبرة قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكما قال الحسن خطبنا ابن عباس بالبصرة وهو لم يكن بها يومئذ إنما طرئ عليها بعده ومما يدل على أن قصة ذي اليدين كانت في حال إباحة الكلام أن فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم -
استند إلىجذع في المسجد وأن سرعان الناس خرجوا فقالوا أقصرت الصلاة وأن
النبي ص

أقبل على القوم فسألهم فقالوا صدق وبعض هذا الكلام كان عمدا وبعضه كان لغير إصلاح الصلاة فدل على أنها كانت في حال إباحة الكلام وجملة الأمر في ذلك إن كان في حال إباحة الكلام بديا قبل حظره فلا حجة للمخالف فيه وإن كان بعد حظر الكلام فليس يمتنع أن يكون أبيح بعد الحظر ثم حظر فكان آخر أمره الحظر ونسخ به ما في حديث أبي هريرة وقد بينا أن قوله التسبيح للرجال والتصفيق للنساء كان بعد حديث أبي هريرة إذ لو كان متقدما لأنكر عليه ترك المأمور به من التسبيح ولكان القوم لا يخالفونه إلى الكلام مع علمهم بحظر الكلام والأمر بالتسبيح وفي ذلك دليل على أن الأمر بالتسبيح ناسخ لحظر الكلام متأخر عنه فوجب أن يكون ما في حديث أبي هريرة مختلفا في استعماله فوجب أن تقضي عليه الأخبار الواردة في الحظر لأن من أصلنا أنه متى ورد خبران أحدهما خاص والآخر عام واتفقوا على استعمال العام واختلفوا في استعمال الخاص كان الخبر المتفق على استعماله قاضيا على المختلف فيه فإن قيل قد فرقتم بين حدث الساهي والعامد فهلا فرقتم بين سهو الكلام وعمده قيل له هذا سؤال فارغ لا يستحق الجواب إلا أن يتبين وجه الدلالة في إحدى المسألتين على الأخرى ومع ذلك فإنه لا فرق عندنا بين حدث الساهي والعامد في إفساد الصلاة بعد أن يكون من فعله وإنما الفرق بين ما كان من فعله أو سبقه من غير فعله فأما لو سهى فحك قرحة وخرج منها دم أو تقيأ فسدت صلاته وإن كان ساهيا فإن قيل فقد فرقتم بين سلام الساهي والعامد وهو كلام في الصلاة فكذلك سائر الكلام فيها قيل له إنما السلام ضرب من الذكر مسنون به الخروج من الصلاة فإذا قصد إليه عامدا فسدت به الصلاة كما يخرج به منها في آخر وإذا كان ساهيا فهو ذكر من الأذكار لا يخرج به من الصلاة وإنما كان ذكر لأنه سلام على الملائكة وعلى حضرة من المصلين وهو لو قال السلام على ملائكة الله وجبريل وميكال أو على نبي الله لا تفسد صلاته فلما كان ضربا من الأذكار لم يخرج به من الصلاة إلا أن يكون عامدا له ويدل على هذا أنه موجود مثله في الصلاة لا يفسدها وهو قوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وإذا كان مثله قد يوجد في الصلاة ذكرا مسنونا لم يكن مفسدا لها إذا وقع منه ناسيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس وما أبيح في الصلاة من
الكلام فليس بداخل فيه

فلا تفسد به الصلاة ولم يتناوله الخبر وإنما أفسدنا به الصلاة إذا تعمد لا من حيث كان من كلام الناس المحظور في الصلاة ولكن من جهة أنه مسنون للخروج من الصلاة فإذا عمد له فقد قصد الوجه المسنون له فقطع صلاته وأيضا لما كان من شرط الصلاة الشرعية ترك الكلام فيها ومتى تعمد الكلام لم تكن صلاة عند الجميع إذا لم يقصد به إلى إصلاحها وجب أن يكون وجود الكلام فيها مخرجا لها من أن تكون صلاة شرعية كالطهارة لما كانت من شرطها لم يختلف حكمها في ترك الطهارة سهوا أو عمدا وكذلك ترك القراءة والركوع والسجود وسائر فروضها لا يختلف حكم السهو والعمد فيها لأن الصلاة لما كانت اسما شرعيا وكان صحة هذا الاسم لها متعلقة بشرائطه متى عدمت زال الاسم وكان من شروطها ترك الكلام وجب أن يكون وجوده فيها يسلبها اسم الصلاة الشرعية ولم يكن فاعلا للصلاة فلم نجزه فإن ألزمونا على ذلك الصيام وما شرط فيه من ترك الأكل وتعلق الاسم الشرعي به ثم اختلف فيه حكم السهو والعمد فإنا نقول إن القياس فيهما سواء ولذلك قال أصحابنا لولا الأثر لوجب أن لا يختلف فيه حكم الأكل سهوا أو عمدا وإذا سلموا القياس فقد استمرت العلة وصحت قوله عز و جل فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية ذكر الله تعالى في أول الخطاب الأمر بالصلاة والمحافظة عليها وذلك يدل على لزوم استيفاء فروضها والقيام بحدودها لاقتضاء ذكر المحافظة لها وأكد الصلاة الوسطى بإفرادها بالذكر لما بينا فيما سلف من فائدة ذكر التأكيد لها ثم عطف عليه قوله تعالى وقوموا لله قانتين فاشتمل ذلك على لزوم السكوت والخشوع فيها وترك المشي والعمل فيها وذلك في حال الأمن والطمأنينة ثم عطف عليه حال الخوف وأمر بفعلها على الأحوال كلها ولم يرخص في تركها لأجل الخوف فقال تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا قوله فرجالا جمع راجل لأنك تقول راجل ورجال كتاجر وتجار وصاحب وصحاب وقائم وقيام وأمر بفعلها في حال الخوف راجلا ولم يعذب في تركها كما أمر المريض بفعلها على الحال التي يمكنه فعلها من قيام وقعود وعلى جنب وأمره بفعل الصلاة راكبا في حال الخوف إباحة لفعلها بالإيماء لأن الراكب إنما يصلي بالإيماء لا يفعل فيها قياما ولا ركوعا ولا سجودا وقد روي عن ابن عمر في صلاة الخوف قال فإن كان خوفا أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع

لا أرى ابن عمر وقال ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - والمذكور في هذه الآية إنما هو الخوف دون القتال فإذا خاف وقد حصره العدو جازله فعلها كذلك ولما أباح له فعلها راكبا لأجل الخوف لم يفرق بين مستقبل القبلة من الركبان وبين من ترك استقبالها تضمنت الدلالة على جواز فعلها من غير استقبالها لأن الله تعالى أمر بفعلها على كل حال ولم يفرق بين من أمكنه استقبالها وبين من لم يمكنه فدل على أن من لا يمكنه استقبالها فجائز له فعلها على الحال التي يقدر عليها ويدل من جهة أخرى على ذلك وهو أن القيام والركوع والسجود من فروض الصلاة وقد أباح تركها حين أمره بفعلها راكبا فترك القبلة أحرى بالجواز إذا كان فعل الركوع والسجود آكد من القبلة فإذا جاز الركوع والسجود فترك القبلة أحرى بالجواز فإن قيل على ما ذكرناه من أن الله لم يبح ترك الصلاة في حال الخوف وأمر بها على الحال التي يمكن فعلها قد كان النبي صلى الله عليه وسلم - ترك أربع صلوات يوم الخندق حتى كان هوى الليل ثم قضاهن على الترتيب وفي ذلك دليل على جواز ترك الصلاة في حال الخوف قيل له إن الذي اقتضته هذه الآية الأمر بالصلاة في حال الخوف بعد تقديم تأكيد فروضها لأنه عطف على قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ثم زادها تأكيدا بقوله تعالى وقوموا لله قانتين فأمر فيها بالدوام على الخشوع والسكون والقيام وحظر فيها التنقل من حال إلا إلى حال هي الصلاة من الركوع والسجود ولو اقتصر على ذلك لكان جائزا أن يظن ظان أن شرط جواز الصلاة فعلها على هذه الأوصاف فبين حكم هذه الصلوات المكتوبات في حال الخوف فقال تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فأمر بفعلها في هذه الحال ولم يعذر أحدا من المكلفين في تركها ولم يذكر حال القتال إذ ليس جميع أحوال الخوف هي أحوال القتال لأن حضور العدو يوجب الخوف وإن لم يكن قتال قائم فإنما أمر بفعلها في هذه الحال ولم يذكر حال القتال والنبي صلى الله عليه وسلم -

إنما لم يصل يوم الخندق لأنه كان مشغولا بالقتال والاشتغال بالقتال يمنع
الصلاة ولذلك قال ص - ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى وكذلك يقول أصحابنا أن الاشتغال بالقتال يفسدها فإن قيل ما أنكرت من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - إنما لم يصل يوم الخندق لأنه لم يكن نزلت صلاة الخوف قيل له قد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي جميعا أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق وقد صلى النبي

ص - فيها صلاة الخوف فدل ذلك على أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف إنما كان للقتال لأنه يمنع صحتها وينافيها ويستدل بهذه الآية من يقول إن الخائف تجوز له الصلاة وهو ماش وإن كان طالبا لقوله تعالى فإن خفتم فرجالا أوركبانا وليس هذا كذلك لأنه ليس في الآية ذكر المشي ومع ذلك فالطالب غير خائف لأنه إن انصرف لم يخف والله سبحانه إنما أباح ذلك للخائف وإذا كان مطلوبا فجائز له أن يصلي راكبا وماشيا إذا خاف وأما قوله فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم مالم تكونوا تعلمون لما ذكر الله تعالى حال الخوف وأمر بالصلاة على الوجه الممكن من راجل وراكب ثم عطف عليه حال الأمن بقوله تعالى فإذا أمنتم فاذكروا الله دل ذلك على أن المراد ما تقدم بيانه في حال الخوف وهو الصلاة فاقتضى ذلك إيجاب الذكر في الصلاة وهو نظير قوله تعالى فاذكروا الله قياما وقعودا ونظيره أيضا قوله تعالى وذكر اسم ربه فصلى وقوله تعالى وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا فتضمنت هذه المخاطبة من عند قوله تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى الأمر بفعل الصلاة واستيفاء فروضها وشروطها وحفظ حدودها وقوله تعالى وقوموا لله قانتين تضمن إيجاب القيام فيها ولما كان القنوت اسما يقع على الطاعة اقتضى أن يكون جميع أفعال الصلاة طاعة وأن لا يتخللها غيرها لأن القنوت هو الدوام على الشيء فأفاد ذلك النهي عن الكلام فيها وعن المشي وعن الإضطجاع وعن الأكل والشرب وكل فعل ليس بطاعة لما تضمنوا اللفظ من الأمر بالدوام على الطاعات التي هي من أفعال الصلاة والنهي عن قطعها بالاشتغال بغيرها لما فيه من ترك القنوت الذي هو الدوام عليها واقتضىأيضا الدوام على الخشوع والسكون لأن اللفظ ينطوي عليه ويقتضيه فانتظم هذا اللفظ مع قلة حروفه جميع أفعال الصلاة وأذكارها ومفروضها ومسنونها واقتضى النهي عن كل فعل ليس بطاعة فيها والله الموفق والمعين
باب الفرار من الطاعون

قال
الله تعالى ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم قال ابن عباس كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم الله وروي عن الحسن أيضا أنهم

فروا من الطاعون وقال عكرمة فروا من القتال وهذا يدل على أن الله تعالى كره فرارهم من الطاعون وهو نظير قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وقوله تعالى قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم وقوله تعالى قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وقوله تعالى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وإذا كانت الآجال موقتة محصورة لا يقع فيها تقديم ولا تأخير عما قدرها الله عليه فالفرار من الطاعون عدول عن مقتضى ذلك وكذلك الطيرة والزجر والإيمان بالنجوم كل ذلك فرارا من قدر الله عز و جل الذي لا محيص لأحد عنه وقد روي عن عمرو بن جاب رالحضرمي عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف والصابر فيه كالصابر في الزحف روى
يحيى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيئ فهي في الفرس والمرأة والدار وإذا سمعتم بالطاعون بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليه وإذا كان وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا عنه وروي عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله في الطاعون وروى الزهري عن عبدالحميد بن عبدالرحمن عن عبدالله بن الحارث بن عبدالله بن نوفل عن ابن عباس أن عمر خرج إلى الشام حتى إذا بسرغ لقيه التجار فقالوا الأرض سقيمة فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه فعزم على الرجوع فقال له أبو عبيدة أفرارا من قدر الله فقال له عمر لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة نفر من قدر الله إلى قدر الله أرأيت لو كان لك إبل فهبطت بها واديا له عدوتان أحدهما خصيبة والأخرى جديبة ألست إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجديبة رعيتها بقدر الله فجاء عبدالرحمن بن عوف فقال عندي من هذا علم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه فحمد الله عمر وانصرف ففي هذه الأخبار النهي عن الخروج عن الطاعون فرارا منه والنهي عن الهبوط عليه أيضا فإن قال قائل إذا كانت الآجال مقدرة محصورة لا تتقدم ولا تتأخر عن وقتها فما وجه نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن دخول أرض بها الطاعون وهو قد منع الخروج منها بديا لأجله ولا فرق بين دخولها وبين البقاء فيها قيل له إنما وجه النهي أنه إذا دخلها وبها الطاعون فجائز أن تدركه منيته وأجله بها فيقول قائل لو لم يدخلها ما مات فإنما نهاه

عن دخولها لئلا يقال هذا وهو كقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم فكره النبي صلى الله عليه وسلم - أن يدخلها فعسى يموت فيها بأجله فيقول قوم من الجهال لو لم يدخلها لم يمت وقد أصاب بعض الشعراء في هذا المعنى حين قال ... يقولون لي لو كان بالرمل لم تمت ... بثينة والأنباء يكذب قيلها ... ولو أنني استودعتها الشمس لاهتدت ... إليها بالمنايا عينها ودليلها ... وعلى هذا المعنى الذي قدمنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يوردن ذو عاهة على مصح مع قوله لا عدوى ولا طيرة لئلا يقال إذا أصاب الصحيح عاهة بعد إيراد ذي عاهة عليه إنما أعداه ما ورد عليه وقيل له يا رسول الله إن النقبة تكون بمشفر البعير فتجرب لها الإبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم - فما أعدى الأول وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير استفتح مصرا فقيل له إن هنا طاعونا فدخلها وقال ما جئنا إلا للطعن والطاعون وقد روي أن أبا بكر لما جهز الجيوش إلى الشام شيعهم ودعا لهم وقال اللهم أفهم بالطعن والطاعون فاختلف أهل العلم في معنى ذلك فقال قائلون لما رآهم على حال الاستقامة والبصائر الصحيحة والحرص على جهاد الكفار خشي عليهم الفتنة وكانت بلاد الشام بلاد الطاعون مشهور ذلك بها أحب أن يكون موتهم على الحال التي خرجوا عليها قبل أن يفتتنوا بالدنيا وزهرتها وقال آخرون قد كان النبي صلى الله عليه وسلم - قال فناء أمتي بالطعن والطاعون يعني عظم الصحابة وأخبر أن الله سيفتح البلاد بمن هذه صفته فرجا أبو بكر أن يكون هؤلاء الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم - وأخبر عن حالهم ولذلك لم يجب أبو عبيدة الخروج من الشام وقال معاذ لما وقع الطاعون بالشام وهو بها قال اللهم اقسم لنا حظا منه ولما طعن في كفه أخذ يقبلها ويقول ما يسرني بها كذا وكذا وقال لئن كنت صغيرا فرب صغير يبارك الله فيه أو كلمة نحوها يتمنى الطاعون ليكون من أهل الصفة التي وصف النبي صلى الله عليه وسلم - بها أمته الذين يفتح الله بهم البلاد ويظهر بهم الإسلام وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول من أنكر عذاب القبر وزعم أنه من القول بالتناسخ لأن الله أخبر أنه أمات هؤلاء القوم ثم أحياهم فكذلك يحييهم في القبر ويعذبهم إذا استحقوا ذلك وقوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن

الله سميع عليم هو أمر بالقتال في سبيل الله وهو مجمل إذ ليس فيه بيان السبيل المأمور بالقتال فيه وقد بينه في مواضع غيره وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى وقوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة إنما هو تأكيد لاستحقاق الثواب به إذ لا يكون قرضا إلا والعوض مستحق به وجهلت اليهود ذلك أو تجاهلت لما نزلت هذه الآية فقالوا إن الله يستقرض منا فنحن أغنياء وهو فقير إلينا فأنزل الله تعالى لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وعرف المسلمون معناه ووثقوا بثواب الله ووعده وبادروا إلى الصدقات فروي أنه لما نزلت هذه الآية جاء أبو الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله ألا ترى ربنا يستقرض منا مما أعطانا لأنفسنا وإن لي أرضين إحداهما بالعالية والأخرى بالسافلة وإني قد جعلت خيرهما صدقة
وقوله تعالى إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا الآية يدل على أن الإمامة ليست وارثة لإنكار الله تعالى عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة ولا الملك وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب ودل ذلك أيضا على أنه لا حظ للنسب مع العلم وفضائل النفس وأنها مقدمة عليه لأن الله أخبر أنه اختاره عليهم لعلمه وقوته وإن كانوا أشرف منه نسبا وذكره للجسم ههنا عبارة عن فضل قوته لأن في العادة من كان أعظم جسما فهو أكثر قوة ولم يرد بذلك عظم الجسم بلا قوة لأن ذلك لا حظ له في القتال بل هو وبال على صاحبه إذا لم يكن ذا قوة فاضلة قوله عز و جل فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف يدل على أن الشرب من النهر إنما هو الكرع فيه ووضع الشفة عليه لأنه قد كان حظر الشرب وحظر الطعم منه إلا لمن اغترف غرفة بيده وهذا يدل علىصحة قول أبي حنيفة فيمن قال إن شربت من الفرات فعبدي حر أنه على أن يكرع فيه وإن اغترف منه أو شرب بإناء لم يحنث لأن الله قد كان حظر عليهم الشرب من النهر وحظر مع ذلك أن يطعم منه واستثنى من الطعم الاغتراف فحظر الشرب باق على ما كان عليه فدل على أن الاغتراف ليس بشرب منه قوله تعالى لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي روي عن الضحاك والسدي وسليمان بن موسى إنه منسوخ بقوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وقوله تعالى فاقتلوا المشركين وروي عن الحسن وقتادة أنها خاصة في أهل

الكتاب الذين يقرون على الجزية دون مشركي العرب لأنهم لا يقرون على الجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وقيل إنها نزلت في بعض أبناء الأنصار كانوا يهودا فأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام وروى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقيل فيه أي لا تقولوا لمن أسلم بعد حرب أنه أسلم مكرها لأنه إذا رضي وصح إسلامه فليس بمكره قال أبو بكر لا إكراه في الدين أمر في صورة الخبر وجائز نزول ذلك قبل الأمر بقتال المشركين فكان في سائر الكفار كقوله تعالى إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وكقوله تعالى إدفع بالتي هي أحسن السيئة وقوله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن وقوله تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما فكان القتال محظورا في أول الإسلام إلى أن قامت عليهم الحجة بصحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - فلما عاندوه بعد البيان أمر المسلمون بقتالهم فنسخ ذلك عن مشركي العرب بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وسائر الآي الموجبة لقتال أهل الشرك وبقي حكمه على أهل الكتاب إذا أذعنوا بأداء الجزية ودخلوا في حكم أهل الإسلام وفي ذمتهم ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يقبل من المشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وجائز أن يكون حكم هذه الآية ثابتا في الحال على أهل الكفر لأنه ما من مشرك إلا وهو لو تهود أو تنصر لم يجبر على الإسلام وأقررناه على دينه بالجزية وإذا كان ذلك حكما ثابتا في سائر من انتحل دين أهل الكتاب ففيه دلالة على بطلان قول الشافعي حين قال من تهود من المجوس أو النصارى أجبرته على الرجوع إلى دينه أو إلى الإسلام والآية دالة على بطلان هذا القول لأن فيها الأمر بأن لا نكره أحدا على الدين وذلك عموم يمكن استعماله في جميع الكفار على الوجه الذي ذكرنا فإن قال قائل فمشركو العرب الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقتالهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف قد كانوا مكرهين على الدين ومعلوم أن من دخل في الدين مكرها فليس بمسلم فما وجه إكراههم عليه قيل له إنما أ كرهوا على إظهار الإسلام لا على المتقاده لأن الاعتقاد لا يصح منا الإكراه عليه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم اموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فأخبر ص -

أن القتال إنما كان على إظهار الإسلام وأما الاعتقادات فكانت موكولة إلى
الله تعالى ولم يقتصر بهم النبي صلى الله عليه وسلم - على القتال

دون أن أقام عليهم الحجة والبرهان في صحة نبوته فكانت الدلائل منصوبة للإعتقاد وإظهار الإسلام معا لأن تلك الدلائل من حيث ألزمتهم اعتقاد الإسلام فقد اقتضت منه الإظهاره والقتال لإظهار الإسلام وكان في ذلك أعظم المصالح منها أنه إذا أظهر الإسلام وإن كان غير معتقد له فإن مجالسته للمسلمين وسماعه القرآن ومشاهدته لدلائل الرسول ص - مع ترادفها عليه تدعوه إلى الإسلام وتوضح عنده فساد اعتقاده ومنها أن يعلم الله أن في نسلهم من يوقن ويعتقد التوحيد فلم يجز أن يقتلوا مع العلم بأنه سيكون في أولادهم من يعتقد الإيمان وقال أصحابنا فيمن أكره من أهل الذمة على الإيمان أنه يكون مسلما في الظاهر ولا يترك والرجوع إلى دينه إلا أنه لا يقتل إن رجع إلى دينه ويجبر على الإسلام من غير قتل لأن الإكراه لا يزيل عنه حكم الإسلام وإذا أسلم وإن كان دخوله فيه مكرها دالا على أنه غير معتقد له لما وصفنا من أسلام من أسلم من المشركين بقتال النبي صلى الله عليه وسلم - وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - إظهار الإسلام عند القتال إسلاما في الحكم فكذلك المكره على الإسلام من أهل الذمة واجب أن يكون مسلما في الحكم ولكنهم لم يقتلوا المشبهة ولا نعلم خلافا أن أسيرا من أهل الحرب لو قدم ليقتل فأسلم أنه يكون مسلما ولم يكن إسلامه خوفا من القتل مزيلا عنه حكم الإسلام فكذلك الذمي فإن قال قائل قوله تعالى لا إكراه في الدين يحظر إكراه الذمي على الإسلام وإذا كان الإكراه على هذا الوجه محظورا وجب أن لا يكون مسلما في الحكم وأن لا يتعلق عليه حكمه ولا يكون حكم الذمي في هذا حكم الحربي لأن الحربي يجوز أن يكره على الإسلام لإبائه الدخول في الذمة ومن دخل في الذمة لم يجز إكراهه على الإسلام قيل له إذا ثبت أن الإسلام لا يختلف حكمه في الإكراه والطوع لمن يجوز إجباره عليه أشبه في هذا الوجه العتق والطلاق وسائر ما لا يختلف فيه حكم جده وهزله ثم لا يختلف بعد ذلك أن يكون الإكراه مأمورا به أو مباحا كما لا يختلف حكم العتق والطلاق في ذلك لأن رجلا لو أكره رجلا على طلاق أو عتاق ثبت حكمهما عليه وإن كان المكره ظالما في إكراهه منهيا عنه وكونه منهيا عنه لا يبطل حكم العتق والطلاق عندنا كذلك ما وصفنا من أمر الإكراه على الإسلام
قوله عز و جل ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك الآية قال أبو بكر

إن إيتاء الله الملك للكافر إنما هو من جهة كثرة المال واتساع الحال وهذا جائز أن ينعم الله على الكافرين به في الدنيا ولا يختلف حكم الكافر والمؤمن في ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا فهذا الضرب من الملك جائز أن يؤتيه الله الكافر وأما الملك الذي هو تمليك الأمر والنهي وتدبير أمور الناس فإن هذا لا يجوز أن يعطيه الله أهل الكفر والضلال لأن أوامر الله تعالى وزواجره إنما هي استصلاح للخلق فغير جائز استصلاحهم بمن هو على الفساد مجانب للصلاح ولأنه لا يجوز أن يأتمن أهل الكفر والضلال على أوامره ونواهيه وأمور دينه كما قال تعالى في آية أخرى لا ينال عهدي الظالمين وكانت محاجة الملك الكافر لإبراهيم عليه السلام وهو النمروذ بن كنعان أنه دعاه إلى اتباعه وحاجه بأنه ملك يقدر على الضرر والنفع فقال إبراهيم عليه السلام فإن ربي الذي يحيي ويميت وأنت لا تقدر على ذلك فعدل عن موضع احتجاج إبراهيم عليه السلام إلى معارضته بالإشراك في العبارة دون حقيقة المعنى لأن إبراهيم عليه السلام حاجه بأن أعلمه أن ربه هو الذي يخلق الحياة والموت على سبيل الأختراع فجاء الكافر برجلين فقتل أحدهما وقال قد أمته وخلى الآخر وقال قد أحييته على سبيل مجاز الكلام لا على الحقيقة لأنه كان عالما بأنه غير قادر على اختراع الحياة والموت فلما قرر عليه الحاجة وعجز الكافر عن بمعارضه بأكثر مما أورد زاده حجاجا لا يمكنه مع معارضته ولا إيراد شبهة يموه بها على الحاضرين وقد كان الكافر عالما بأن ما ذكره ليس بمعاضة لكنه أراد المتويه على أغمار أصحابه كما قال فرعون حين آمنت السحرة عند إلقاء موسى عليه السلام العصا وتلقفها جميع ما لقوا من الحبال والعصي وعلموا أن ذلك ليس بسحر وأنه من فعل الله فأراد فرعون التمويع عليهم فقال إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها يعني تواطأتم عليه مع موسى قبل هذا الوقت حتى إذا اجتمعتم أظهرتم العجز عن معارضته والإيمان به وكان ذلك مما موه به على أصحابه وكذلك الكافر الذي حاج إبراهيم عليه السلام ولم يدعه إبراهيم عليه السلام وما رام حتى أتاه بما لم يمكنه دفعه بحال ولا معارضة فقال فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فانقطع وبهت ولم يمكنه أن يلجأ إلى معاضة أو شبهة وفي حجاج إبراهيم عليه السلام بهذا اللطف دليل وأوضح برهان لمن عرف معناه وذلك أن القوم الذين

بعث فيهم إبراهيم عليه السلام كانوا صابئين عبدة أوثان على أسماء الكواكب السبعة وقد حكى الله عنهم في غير هذا الموضع أنهم كانوا يعبدون الأوثان ولم يكونوا يقرون بالله تعالى وكانوا يزعمون حوادث العالم كلها في حركات الكواكب السبعة وأعظمها عندهم الشمس ويسمونها وسائر الكواكب آلهة والشمس عندهم هو الإله الأعظم الذي ليس فوقه إله وكانوا لا يعترفون بالباري جل وعز وهم لا يختلفون وسائر من يعرف مسير الكواكب أن لها ولسائر الكواكب حركتين متضادتين إحداهما من المغرب إلى المشرق وهي حركتها التي تختص بها لنفسها والأخرى تحريك الفلك لها من المشرق إلى المغرب وبهذه الحركة تدور علينا كل يوم وليلة دورة وهذا أمر مقرر عند من يعرف مسيرها فقال له إبراهيم عليه السلام إنك تعترف أن الشمس التي تعبدها وتسميها إلها لها حركة قسر ليس هي حركة نفسها بل هي بتحريك غيرها لها يحركها من المشرق إلى المغرب والذي أدعوك إلى عبادته هو فاعل هذه الحركة في الشمس ولو كانت إلها لما كانت مقسورة ولا مجبرة فلم يمكنه عند ذلك دفع هذا الحجاج بشبهة ولا معارضة إلا قوله حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين وهاتان الحركتان المتضادتان للشمس ولسائر الكواكب لا توجدان لها في حال واحدة لاستحالة وجود ذلك في جسم واحد في وقت واحد ولكنها لا بد من أن تتخلل إحداهما سكون فتوجد الحركة الأخرى في وقت لا توجد فيه الأولى قال أبو بكر فإن قيل كيف ساغ لإبراهيم عليه السلام الانتقال عن الحجاج الأول إلى غيره قيل له لم ينتقل عنه بل كان ثابتا عليه وإنما أردفه بحجاج آخر كما أقام الله الدلائل على توحيده من عدة وجوه وكل ما في السموات والأرض دلائل عليه وأيد نبيه ص - بضروب من المعجزات كل واحدة منها لو انفردت لكانت كافية مغنية وقد حاجهم إبراهيم عليه السلام بغير ذلك من الحجاج في قوله تعالى وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي روى في التفسير أنه أراد تقرير قومه على صحة استدلاله وبطلان قولهم فقال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين وكان ذلك في ليلة يجتمعون فيها في هياكلهم وعند أصنامهم عيدا لهم فقررهم ليلا على أمر الكواكب عند ظهوره وأفوله وحركته وانتقاله وأنه لا يجوز أن يكون مثله إلها لما ظهرت فيه من آيات الحدث ثم كذلك في القمر ثم لما أصبح قررهم على مثله في

الشمس حتى قامت الحجة عليهم ثم كسر أصنامهم وكان من أمره ما حكاه الله عنه وهذه الآية تدل على صحة المحاجة في الدين واستعمال حجج العقول والاستدلال بدلائل الله تعالى على توحيده وصفاته الحسنى وتدل على أن المحجوج المنقطع يلزمه اتباع الحجة وترك ما هو عليه من المذهب الذي لا حجة له فيه وتدل على بطلان قول من لا يرى الحجاج في إثبات الدين لأنه لو كان كذلك لما حاجه إبراهيم عليه السلام وتدل على أن المحجوج عليه أن ينظر فيما ألزم من الحجاج فإذا لم يجد منه مخرجا صار إلى ما يلزمه وتدل على أن الحق سبيله أن لا يقبل بحجته إذ لا فرق بين الحق والباطل إلا بظهور حجة الحق ودحض حجة الباطل وإلا فلولا الحجة التي بان بها الحق من الباطل لكانت الدعوى موجودة في الجميع فكان لا فرق بينه وبين الباطل وتدل على أن الله تعالى لا يشبهه شيء وأن طريق معرفته ما نصب من الدلائل على توحيده لأن أنبياء الله عليهم السلام إنما حاجوا الكفار بمثل ذلك ولم يصفوا الله تعالى بصفة توجب التشبيه وإنما وصفوه بأفعاله واستدلوا بها عليه قوله عز و جل قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام قول هذا القائل لم يكن كذبا وقد أماته الله مائة عام لأنه أخبر عما عنده فكأنه قال عندي أني لبثت يوما أو بعض يوم ونظيره أيضا ما حكاه الله تعالى عن أصحاب الكهف قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم وقد كانوا لبثوا ثلاثمائة وتسع سنين ولم يكونوا كاذبين فيما أخبروا عما عندهم كأنهم قالوا عندنا في ظنوننا إنما لبثنا يوما أو بعض يوم ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم -

حين صلى ركعتين وسلم في إحدى صلاة العشاء فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة
أم نسيت فقال لم تقصر ولم أنس وكان ص - صادقا لأنه أخبر عما عنده في ظنه وكان عنده أنه قد أتمها فهذا كلام سائغ جائز غير ملوم عليه قائله إذا أخبر عن اعتقاده وظنه لا عن حقيقة مخبره ولذلك عفا الله عن الحالف بلغو اليمين وهو فيما روى قول الرجل لمن سأله هل كان كذا وكذا فيقول على ما عنده لا والله أو يقول بلى والله وإن اتفق مخبره خلافه لأنه إنما أخبر عن عقيدته وضميره والله الموفق
باب
الامتنان بالصدقة
قال الله تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى الآية وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق

ماله رئاء الناس وقال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وقال تعالى وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون أخبر الله تعالى في هذه الآيات أن الصدقات إذا لم تكن خالصة لله عارية من من وأذى فليست بصدقة لأن إبطالها هو إحباط ثوابها فيكون فيها بمنزلة من لم يتصدق وكذلك سائر ما يكون سبيله وقوعه على وجه القربة إلى الله تعالى فغير جائز أن يشوبه رياء ولا وجه غير القربة فإن ذلك يبطله كما قال تعالى ولا تبطلوا أعمالكم وقال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فما لم يخلص لله تعالى من القرب فغير مثاب عليه فاعله ونظيره أيضا قوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب ومن أجل ذلك قال أصحابنا لا يجوز الاستيجار على الحج وفعل الصلاة وتعليم القرآن وسائر الأفعال التي شرطها أن تفعل على وجه القربة لأن أخذ الأجر عليها يخرجها عن أن تكون قربة لدلائل هذه الآيات ونظائرها وروى عمرو عن الحسن في قوله تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى قال هو المتصدق يمن بها فنهاه الله عن ذلك وقال ليحمد الله إذ هداه للصدقة وعن الحسن في قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم قال يثبتون أين يضعون أموالهم وعن الشعبي قال تصديقا ويقينا من أنفسهم وقال قتادة ثقة من أنفسهم والمن في الصدقة أن يقول المتصدق قد أحسنت إلى فلان ونعشته وأغنيته فذلك ينغصها على المتصدق بها عليه والأذى قوله أنت أبدا فقير وقد بليت بك وأراحني الله منك ونظيره من القول الذي فيه تعبير له بالفقر فقال تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى يعني والله أعلم ردا جميلا ومغفرة قيل فيها ستر الخلة على السائر وقيل العفو عمن ظلمه خير من صدقة يتبعها أذى لأنه يستحق المأثم بالمن والأذى ورد السائل بقول جميل فيه السلامة من المعصية فأخبر الله تعالى أن ترك الصدقة برد جميل خير من صدقة يتبعها أذى وامتنان وهو نظير قوله تعالى وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا والله تعالى الموفق

باب

المكاسية
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض فيه إباحة المكاسب وأخبار أن فيها طيبا والمكاسب وجهان أحدهما إبدال الأموال وأرباحها والثاني إبدال المنافع وقد نص الله تعالى على إباحتها في مواضع من كتابه نحو قوله تعالى وأحل الله البيع وقوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله وقال تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعني والله أعلم من يتجر ويكري ويحتج مع ذلك وقال تعالى في إبدال المنافع فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقال شعيب عليه السلام إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من استأجر أجيرا فليعلمه أجره وقال ص
- لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه وقد روى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه وقد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم أنه من التجارات منهم الحسن ومجاهد وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال لأن قوله تعالى ما كسبتم ينتظمها وإن كان غير مكتف بنفسه في المقدار الواجب فيها فهو عموم في أصناف الأموال مجمل في المقدار الواجب فيها فهو مفتقر إلى البيان ولما ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم - بذكر مقادير الواجبات فيه صح الاحتجاج بعمومها في كل مال اختلفنا في إيجاب الحق فيه نحو أموال التجارة ويحتج بظاهر الآية على من ينفي إيجاب الزكاة في العروض ويحتج فيه أيضا في إيجاب صدقة الخيل وفي كل ما ختلف فيه من الأموال وذلك لأن قوله تعالى أنفقوا المراد به الصدقة والدليل عليه قوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون يعني تتصدقون ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة ومن أهل العلم من قال إن هذا في صدقة التطوع لأن الفرض إذا أخرج عنه الرديء كان الفضل باقيا في ذمته حتى يؤدى وهذا عندنا يوجب صرف اللفظ عن الوجوب إلى النفل من وجوه أحدها أن قوله أنفقوا أمر والأمر عندنا على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب وقوله ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون لا دلالة فيه على أنه ندب إذ لا يختص

النهي عن إخراج الردي بالنفل دون الفرض وأن يجب عليه إخراج فضل ما بين الردي إلى الجيد لأنه لا ذكر له في الآية وإنما يعلم ذلك بدلالة أخرى فلا يعترض ذلك على مقتضى الآية في إيجاب الصدقة ومع ذلك لو دلت الدلالة من الآية على أنه ليس عليه إخراج غير الرديء الذي أخرجه لم يوجب ذلك صرف حكم الآية عن الإيجاب إلى الندب لأنه جائز أن يبتدىء الخطاب بالإيجاب ثم يعطف عليه بحكم مخصوص في بعض ما اقتضاه عمومه ولا يوجب ذلك الاقتصار بحكم ابتداء الخطاب على الخصوص وصرفه عن العموم ولذلك نظائر كثيرة قد بيناها في مواضع وقوله تعالى ومما أخرجنا لكم من الأرض عموم في إيجابه الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها ويحتج به لأبي حنيفة رضي الله عنه في إيجابه العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها مما تقصد الأرض بزراعتها ومما يدل من فحوى الآية على أن المراد بها الصدقات الواجبة قوله تعالى في نسق التلاوة ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه وهذا إنما هو في الديون إذا اقتضاها صاحبها لا يتسامح بالرديء عن الجيد إلا على إغماض وتساهل فدل ذلك على أن المراد الصدقة الواجبة والله أعلم إذا ردها إلى الإغماض في اقتضاء الدين ولو كان تطوعا لم يكن فيها إغماض إذا له أن يتصدق بالقليل والكثير وله أن لا يتصدق وفي ذلك دليل على أن المراد الصدقة الواجبة وأما قوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون روى الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن نوعين من التمر الجعرور ولون الحبيق قال وكان ناس يخرجون شر ثمارهم في الصدقة فنزلت ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون وروي عن البراء بن عازب مثل ذلك قال في قوله تعالى ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه لو أن أحدكم أهدى إليه مثل ما أعطي لما أخذه إلا على إغماض وحياء وقال عبيدة إنما ذلك في الزكاة والدرهم الزائف أحب إلى من الثمرة وعن ابن معقل في هذه الآية قال ليس في أموالهم خبيث ولكنه الدرهم القسي والزيف ولستم بآخذيه قال لو كان لك على رجل حق لم تأخذ الدرهم القسي والزيف ولم تأخذ من ا لثمر إلا الجيد إلا أن تغمضوا فيه يجوزا فيه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو هذا وهو ما كتبه في كتاب الصدقة وقال فيه ولا تؤخذ هرمة ولا ذات عوار رواه الزهري عن سالم عن أبيه وقد قيل عن ابن عباس في قوله

تعالى إلا أن تغمضوا فيه إلا أن تحطوا من الثمن وعن الحسن وقتادة مثله وقال البراء ابن عازب إلا أن تتساهلوا فيه وقيل لستم بآخذيه إلا بوكس فكيف تعطونه في الصدقة هذه الوجوه كلها محتملة وجائز أن يكون جميعها مراد الله تعالى بأنهم لا يقبلونه في الهدية إلا بإغماض ولا يقبضونه من الجيد إلا بتساهل ومسامحة ولا يبيعون بمثله إلا بحبط ووكس وقد اختلف أصحابنا فيمن أدى من المكيل والموزون دون الواجب في الصفة فأدى عن الجيد رديا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف لا يجب عليه أداء الفضل وقال محمد عليه أن يؤدي الفضل الذي بينهما وقالوا جميعا في الغنم والبقر وجميع الصدقات مما لا يكال ولا يوزن أن عليه أدار الفضل فيجوز أن يحتج لمحمد بهذه الآية وقوله تعالى ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون والمراد به الرديء منه وقوله تعالى ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه ولصاحب الحق أن لا يغمض فيه ولا يتساهل ويطالب بحقه من الجودة فهذا يدل على أن عليه أداء الفضل حتى لا يقع في إغماض لأن الحق في ذلك لله تعالى وقد نفى الإغماض في الصدقة بنهيه عن عطاء الردي فيها وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فإنهما قالا كل مالا يجوز التفاضل فيه فإن الجيد والردي حكمهما سواء في حظر التفاضل بينهما وإن قيمته من جنسه لا يكون إلا بمثله ألا ترى أنه لو اقتضى دينا على أنه جيد فأنفقه ثم علم أنه كان رديا أنه لا يرجع على الغريم بشيء وأن ما بينهما من الفضل لا يغرمه وإنما يقول أبو يوسف فيه أنه يغرم مثل ما قبض من الغريم ويرجع بدينه وغير ممكن مثله في الصدقة لأن الفقير لا يغرم شيئا فلو غرمه لم تكن له مطالبة المتصدق برد الجيد عليه فلذلك لم يلزمه إعطاء الفضل وإنما نهى الله تعالى المتصدق عن قصد الردي بالإخراج وقد وجب إخراج الجيد فإنهم يقولون إنه منهي عنه ولكن لما كان حكم ما أعطي حكم الديد فيما وصفنا أجزأ عنه وأما ما يجوز فيه التفاضل فإنه مأمور بإخراج الفضل فيه لأنه جائز أن تكون قيمته من جنسه أكثر منه ويباع بعضه ببعض متفاضلا وأما محمد فإنه لم يجز إخراج الردي من الجيد إلا بمقدار قيمته منه فأوجب عليه إخراج الفضل إذ ليس بين العبد وبين سيده ربا وفي هذه الآية دلالة على جواز اقتضاء الردي عن الجيد في سائر الديون لأن الله تعالى أجاز الإغماض في الديون بقوله تعالى إلا أن تغمضوا فيه ولم يفرق بين شيء منه فدل ذلك على معان منها جواز اقتضاء الزيوف التي أقلها غش وأكثرها

فضة عن الجياد في رأس مال السلم وثمن الصرف اللذين لا يجوز أن يأخذ عنهما غيرهما ودل على أن حكم الردي في ذلك حكم الجيد وهذا يدل أيضا على جواز بيع الفضة الجيدة بالردية وزنا بوزن لأن ما جاز اقتضاء بعضه عن بعض جاز بيعه به ويدل على أن قول النبي صلى الله عليه وسلم - الذهب بالذهب مثلا بمثل إنما أراد المماثلة في الوزن لافي الصفة وكذلك سائر ما ذكره معه ويدل على جواز اقتضاء الجيد عن الردي برضا الغريم كما جاز اقتضاء الردي عن الجيد إذ لم يكن لاختلافهما في الصفة حكم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - خيركم أحسنكم قضاء قال جابر بن عبدالله قضاني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وزادني وروي عن ابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي قالوا لا بأس إذا أقرضه دراهم سودا أن يقبضه بيضا إذا لم يشرط ذلك عليه وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أنه كان يكره إذا أقرض دراهم أن يأخذ خيرا منها وهذا ليس فيه دلالة على أنه كرهه إذا رضي المستقرض وإنما لا يجوز له أن يأخذ خيرا منها إذا لم يرض صاحبه قوله تعالى الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء قد قيل إن الفحشاء تقع على وجوه والمراد بها في هذا الموضع البخل والعرب تسمي البخيل فاحشا والبخل فحشا وفحشا قال الشاعر ... أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ...
يعني مال البخيل وفي هذه الآية ذم البخيل والبخل قوله عز و جل إن تبدوا الصدقات فنعما هي الآية روي عن ابن عباس أنه قال هذا في صدقة التطوع فأما في الفريضة فإظهارها أفضل لئلا تلحقه تهمة وعن الحسن ويزيد بن أبي حبيب وقتادة الإخفاء في جميع الصدقات أفضل وقد مدح الله تعالى على إظهار الصدقة كما مدح على اخفائها في قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم وجائز أن يكون قوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم في صدقة التطوع على ما روي عن ابن عباس وجائز أن يكون في جميع الصدقات الموكول أداؤها إلى أربابها من نفل أو فرض دون ما كان منها أخذه إلى الإمام إلا أن عموم اللفظ يقتضي جميعها لأن الألف واللام هنا للجنس فهي شاملة لجميعها وهذا يدل على أن جميع الصدقات مصروفة إلى الفقراء وأنها انما تستحق بالفقر لا غير وأن ما ذكر الله تعالى من أصناف من تصرف إليهم الصدقة في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين إنما

يستحق منهم من يأخذها صدقة بالفقر دون غيره وإنما ذكر الأصناف لما يعمهم من أسباب الفقر دون من لا يأخذها صدقة من المؤلفة قلوبهم والعاملين عليها فإنهم لا يأخذونها صدقة وإنما تحصل في يد الإمام صدقة للفقراء ثم يصرف إلى المؤلفة قلوبهم والعاملين ما يعطون على أنه ليس بصدقة لكن عوضا من العمل ولدفع أذيتهم عن أهل الإسلام أو ليستمالوا به إلى الإيمان ومن المخالفين من يحتج بذلك في جواز إعطاء جميع الصدقات للفقراء دون الإمام وأنهم إذا أعطوا الفقراء صدقة المواشي سقط حق الإمام في الأخذ لقوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وذلك عام في سائرها لأن الصدقة ههنا اسم للجنس وليس في هذا عندنا دلالة على ما ذكروا لأن أكثر ما فيه أنه خير للمعطى فليس فيه سقوط حق الإمام في الأخذ وليس كونها خيرا له نافيا لثبوت حق الإمام في الأخذ إذ لا يمتنع أن يكون خيرا لهم ويأخذها الإمام فيتضاعف الخير بأخذها ثانيا وقد قدمنا قول من يقول إن هذا في صدقة التطوع ومن أهل العلم من يقول إن الإجماع قد حصل على أن إظهار صدقة الفرض أولى من إخفائها كما قالوا في الصلوات المفروضة ولذلك أمروا بالاجتماع عليها في الجماعات بأذان وإقامة وليصلوها ظاهرين فكذلك سائر الفروض لئلا يقيم نفسه مقام تهمة في ترك أداء الزكاة وفعل الصلاة قالوا فهذا يوجب أن يكون قوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم في التطوع خاصة لأن ستر الطاعات النوافل أفضل من إظهارها لأنه أبعد من الرياء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه

قال
سبعة يظلهم الله في ظل عرشه أحدهم رجل تصدق بصدقة لم تعلم شماله ما تصدقت به يمينه وهذا إنما هو في التطوع دون الفرض ويدل على أن المراد صدقة التطوع أنه لا خلاف أن العامل إذا جاء قبل أن تؤدى صدقة المواشي فطالبه بأدائها أن الفرض عليه أداؤها إليه فصار إظهار أدائها في هذه الحال فرضا وفي ذلك دليل على أن المراد بقوله تعالى وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء صدقة التطوع والله تعالى أعلم بالصواب
باب إعطاء المشرك من الصدقة
قال الله تعالى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم قال أبو بكر ما تقدم في هذا الخطاب وما جاء في نسقه يدل على أن قوله تعالى

ليس عليك هداهم إنما معناه في الصدقة عليهم لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى إن تبدوا الصدقات فنعما هي ثم عطف عليه قوله تعالى ليس عليك هداهم ثم عقب ذلك بقوله تعالى وما تنفقوا من خير فلأنفسكم فدل ما تقدم من الخطاب في ذلك وتأخر عنه من ذكر الصدقة أن المراد إباحة الصدقة عليهم وإن لم يكونوا على دين الإسلام وقد روى ذلك عن جماعة من السلف روي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا تصدقوا إلا على أهل دينكم فأنزل الله ليس عليك هداهم فقال ص
- تصدقوا على أهل الأديان وروى الحجاج عن سالم المكي عن ابن الحنفية قال كره الناس أن يتصدقوا على المشركين فأنزل الله ليس عليك هداهم فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة قال أبو بكر لا ندري هذا من كلام من هو أعني قوله فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة وجائز أن يريد به من غير الزكاة وصدقات المواشي دون كفارات الأيمان ونحوها وأيضا قوله فتصدق الناس عليهم من غير الفريضة لا يوجب تخصيص الآية لأن فعلهم لا يقتضي الوجوب ومع ذلك فهم مخيرون بين أن يتصدقوا عليهم وبين أن لا يتصدقوا وروى الأعمش عن جعفر بن أياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان ناس لهم أنساب وقرابة من قريظة والنضير فكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم على الإسلام فنزلت ليس عليك هداهم إلى آخر الآية وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أمه أسماء قالت أتتني أمي في عهد قريش راغبة وهي مشركة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم - أصلها قال نعم قال أبو بكر ونظير هذه الآية في دلالتها على ما دلت عليه قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فروي عن الحسن قال هم الأسراء من أهل الشرك وروي عن سعيد بن جبير وعطاء قال هم أهل القبلة وغيرهم قال أبو بكر الأول أظهر لأن الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا ونظيرها أيضا قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إلى آخر القصة فأباح برهم وإن كانوا مشركين إذا لم يكونوا أهل حرب لنا والصدقات من البر فاقتضى جواز دفع الصدقات إليهم وظواهر هذه الآي توجب جواز دفع سائرها إليهم إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد خص منها الزكوات وصدقات المواشي وكل ما كان أخذه من الصدقات إلى الإمام بقوله أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم وقال لمعاذ أعلمهم

إن الله فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد على فقرائهم فكانت الصدقات التي أخذها إلى الإمام مخصوصة من هذه الجملة فلذلك قال أبو حنيفة كل صدقة ليس أخذها إلى الإمام فجائز إعطاؤها أهل الذمة وما كان أخذها إلى الإمام لا يعطى أهل الذمة فيجيز إعطاء الكفارات والنذور وصدقة الفطر أهل الذمة فإن قيل فزكاة المال ليس اخذها إلى الإمام ولا يجوز أن تعطى أهل الذمة قيل أخذها في الأصل إلى الإمام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - يأخذها وكذلك أبو بكر وعمر فلما كان عثمان قال للناس إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل أرباب الأموال وكلاء له في أدائها ولم يسقط في ذلك حق الإمام في أخذها وقال أبو يوسف كل صدقة واجبة فغير جائز دفعها إلى الكفار قياسا على الزكاة قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض الآية يعني والله أعلم النفقة المذكورة بديا والمراد بها الصدقة وروي عن مجاهد والسدي المراد فقراء المهاجرين وقوله تعالى أحصروا في سبيل الله قيل إنهم منعوا أنفسهم التصرف في التجارة خوف العدو من الكفار روي ذلك عن قتادة لأن الإحصار منع النفس عن التصرف لمرض أو حاجة أو مخافة فإذا منعه العدو قيل أحصره وقوله تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يعني والله أعلم الجاهل بحالهم وهذا يدل على أن ظاهر هيئتهم وبزتهم يشبه حال الأغنياء ولولا ذلك لما ظنهم الجاهل أغنياء لأن ما يظهر من دلالة الفقر شيئان أحدهما بذاذة الهيئة ورثاثة الحال والآخر المسألة على أنه فقير فليس يكاد يحسبهم الجاهل أغنياء إلا لما يظهر له من حسن البزة الدالة على الغنى في الظاهر وفي هذه الآية دلالة على أن من له ثياب الكسوة ذات قيمة كثيرة لا تمنعه إعطاء الزكاة لأن الله تعالى قد أمرنا بإعطاء الزكاة من ظاهر حاله مشبه لأحوال الأغنياء ويدل على أن الصحيح الجسم جائز أن يعطى من الزكاة لأن الله تعالى أمر بإعطاء هؤلاء القوم وكانوا من المهاجرين الذين كانوا يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم - المشركين ولم يكونوا مرضى ولا عميانا وقوله عز و جل تعرفهم بيسماهم فإن السيما العلامة قال مجاهد المراد به هنا التخشع وقال السدي والربيع بن أنس هو علامة الفقر وقال الله تعالى سيماهم في وجوههم من أثر السجود يعني علامتهم فجائز أن تكون العلامة المذكورة في قوله تعالى تعرفهم بسيماهم ما يظهر في وجه الإنسان من كسوف

البال وسوء الحال وإن كانت بزتهم وثيابهم وظاهر هيئتهم حسنة جميلة وجائز أن يكون الله تعالى قد جعل لنبيه علما يستدل به إذا رآهم عليه على فقرهم وإن كنا لا نعرف ذلك مهم إلا بظهور المسألة منهم أو بما يظهر من بذاذة هيئتهم وهذا يدل على أن لما يظهر ذلك عليه وقد اعتبر أصحابنا ذلك في الميت في دار الإسلام أو في دار الحرب إذا لم يعرف أمره قبل ذلك في إسلام أو كفر أنه ينظر إلى سيماه فإن كانت عليه سيما أهل الكفر من شد زنار أو عدم ختان وترك الشعر على حسب ما يفعله رهبان النصارى حكم له بحكم الكفار ولم يدفن في مقابر المسلمين ولم يصل عليه وإن كان عليه سيما أهل الإسلام حكم له بحكم المسلمين في الصلاة والدفن وإن لم يظهر عليه شيء ن ذلك فإن كان في مصر من الأمصار التي للمسلمين فهو مسلم وإن كان في دار الحرب فمحكوم له بحكم الكفر فجعلوا اعتبار سيماه بنفسه أولى منه بموضعه الموجود فيه فإذا عدمنا السيما حكمنا له بحكم أهل الموضع وكذلك اعتبروا في اللقيط ونظيره أيضا قوله تعالى إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فاعتبر العلامة ومن نحوه قوله تعالى ولتعرفنهم في لحن القول وأخوة يوسف عليه السلام لطخوا قميصه بدم وجعلوه علامة لصدقهم قال الله تعالى وجاؤا على قميصه بدم كذب وقوله تعالى لا يسألون الناس إلحافا يعني والله أعلم إلحاحا وإدامة للمسألة لأن إلحاف المسألة هو الاستقصاء فيها وإدامتها وهذا يدل على كراهة الإلحاف في المسألة فإن قيل فإنما قال الله عز و جل لا يسألون الناس إلحافا فنفى عنهم الإلحاف في المسألة ولم ينف عنهم المسألة رأسا قيل له في فحوى الآية ومضمون المخاطبة ما يدل على نفي المسألة رأسا وهو قوله تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف فلو كانوا أظهروا المسألة وإن لم تكن إلحافا لما حسبهم أغنياء وكذلك قوله تعالى من التعفف لأن التعفف هو القناعة وترك المسألة فدل ذلك على وصفهم بترك المسألة أصلا ويدل على أن التعفف هو ترك المسألة قول النبي صلى الله عليه وسلم - من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله وإذا ثبت بما ذكرنا من دلالة الآي أن ثياب الكسوة لا تمنع الزكاة وإن كانت سرية وجب أن يكون كذلك حكم المسكن والأثاث والفرس والخادم لعموم الحاجة إليه فإذا كانت الحاجة إلى هذه الأشياء حاجة ماسة فهو غير غني بها لأن الغنى هو ما فضل

عن مقدار الحاجة واختلف الفقهاء في مقدار ما يصير به غنيا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا فضل عن مسكنه وكسوته وأثاثه وخادمه وفرسه ما يساوي مائتي درهم لم تحل له الزكاة وإن كان أقل من مائتي درهم حلت له الزكاة وقال مالك في رواية ابن القاسم يعطي من الزكاة من له أربعون درهما وروى غيره عن مالك أنه لا يعطي من له أربعون درهما وقال الثوري والحسن بن صالح لا يأخذ الزكاة من له خمسون درهما وقال عبدالله بن الحسن من لا يكون عنده ما يقوته أو يكفيه سنة فإنه يعطى من الصدقة وقال الشافعي يعطى الرجل على قدر حاجته حتى يخرجه ذلك من حد الفقر إلى الغنى كان ذلك تجب فيه الزكاة أو لا تجب ولا أجد في ذلك حدا ذكره المزني والربيع وحكى عنه أنها لا تحل للقوي المكتسب وإن كان فقيرا والدليل على صحة ما ذكرنا من اعتبار مائتي درهم فاضلا عما يحتاج إليه ما روى عبدالحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول من استغنى أغناه الله ومن استعفف أعفه الله ومن سأل الناس وله عدل خمس أواق سأل إلحافا فدل ذكره لهذا المقدار أنه هو الذي يخرج به من حد الفقر إلى الغنى ويوجب تحريم المسألة ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم ثم قال في مائتي درهم خمسة دارهم وليس فيما دونها شيء فجعل حد الغني مائتي درهم فوجب اعتبارها دون غيرها ودل أيضا على أن الذي لا يملك هذا القدر يعطى من الزكاة لأنه ص - جعل الناس صنفين أغنياء وفقراء فجعل الغني من ملك هذا المقدار وأمر بأخذ الزكاة منه وجعل الفقير الذي يرد عليه هو الذي لا يملك هذا القدر وقد روى أبو كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم قلت يا رسول الله ما ظهر غناه قال أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم وقد روى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وسمعته يقول لرجل من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا والأوقية يومئذ أربعون درهما وروى محمد بن عبدالرحمن بن زيد عن أبيه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة قيل يا رسول الله وما غناه قال خمسون درهما أو حسابها من الذهب وهذه واردة في

كراهة المسألة ولا دلالة فيها على تحريم الصدقة عليه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -

يستحب ترك المسألة لمن يملك ما يغديه ويعشيه إذ كان هناك من فقراء
المسلمين وأهل الصفة من لا يقدر على غداء ولا عشاء فاختار النبي صلى الله عليه وسلم - لمن يملك هذا القدر الاقتصار على ما يملكه والتعفف بترك المسألة ليصل ذلك إلى من هو أحوج منه إليه لا على وجه التحريم ولما اتفق الجميع على أن سبيل استباحة الصدقة ليست سبيل الضرورة إلى الميتة إذ كانت الميتة لا تحل إلا عند الخوف على النفس والصدقة تحل بإجماع المسلمين لمن احتاج ولم يخف الموت إذا لم يكن عنده شيء فوجب أن يكون المبيح لها الفقر وأيضا لما كانت هذه الأخبار مختلفا في استعمال حكمها وهي في أنفسها مختلفة واتفق الجميع على استعمال الخبر الذي روينا في مائتي درهم وتحريم الصدقة معها وجب أن يكون ثابت الحكم وما عداه إما أن يكون على وجه الكراهة للمسألة أو منسوخة بخبرنا إن كان المراد بها تحريم الصدقة
باب
الربا
قال الله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس إلى قوله وأحل الله البيع وحرم الربا قال أبو بكر أصل الربا في اللغة هو الزيادة ومنه الرابية لزيادتها على ما حواليها من الأرض ومنه الربوة من الأرض وهي المرتفعة ومنه قولهم أربى فلان على فلان في القول أو الفعل إذا زاد عليه وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الإسم موضوعا لها في اللغة ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم - سمى النساء ربا في حديث أسامة بن زيد فقال إنما الربا في النسيئة وقال عمر بن الخطاب إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن يعني الحيوان وقال عمر أيضا إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وأن النبي صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالما بأسماء اللغة لأنه من أهلها ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء ربا وهو ربا في الشرع وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة فهو مفتقر إلى البيان ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع

بذلك وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم - كثيرا من مراد الله بالآية نصا وتوفيقا ومنه ما بينه دليلا فلم يخل مراد الله من أن يكون معلوما عند أهل العلم بالتوقيف والإستدلال والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض والدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلا من جنس واحد هذا كان المتعارف المشهور بينهم ولذلك

قال
الله تعالى وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربو عند الله فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض وقال تعالى لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا أخر من البياعات وسماها ربا فانتظم قوله تعالى وحرم الربا تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة واسم الربا في الشرع يعتوره معان أحدها الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية والثاني التفاضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون على قول أصحابنا ومالك بن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مقتاتا مدخرا والشافعي يعتبر الأكل مع الجنس فصار الجنس معتبرا عند الجميع فيما يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه على ما قدمنا والثالث النساء وهو على ضروب منها في الجنس الواحد من كل شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض نساء سواء كان من المكيل أو من الموزون أو من غيره فلا يدون عندنا بيع ثوب مروي بثوب مروي نساء لوجود الجنس ومنها وجود المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل وهو الكيل والوزن في غير الأثمان التي هي الدراهم والدنانير فلو باع حنطة بجص نساء لم يجز لوجود الكيل ولو باع حديدا بصفر نساء لم يجز لوجود الوزن والله تعالى الموفق
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان
قال عمر رضي الله عنه إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا فعلم أنه قال ذلك توقيفا فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء والتفاضل على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء والدليل على ذلك قول النبي ص

الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا وذكر التمر والملح والذهب والفضة فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون ربا وقال ص - في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبدالرحمن بن عباس إنما الربا في النسيئة وفي بعض الألفاظ لا ربا إلا في النسيئة فثبت أن اسم ا لربا في الشرع يقع على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى وقد كان ابن عباس يقول لا ربا إلا في النسيئة ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم - بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله قال جابر بن زيد رجع ابن عباس عن قوله في الصرف وعن قوله في المتعة وإنما معنى حديث أسامة النساء في الجنسين كما روي في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد وذكر الأصناف الستة ثم قال بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد وفي بعض الأخبار وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا ومن الربا المراد بالآية شرى ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن ةإسحاق عن أبيه عن أبي العالية قال كنت عند عائشة فقالت لها امرأة إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمان مائة درهم وأنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة فقالت بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب فقالت يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي فقالت فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله فدلت تلاوتها الآية الربا عند قولها أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي إن ذلك كان عندها من الربا وهذه التسمية طريقها التوقيف وقد روى ابن المبارك عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال سألته عن رجل إلي باع طعاما من رجل أجل فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه فقال هو ربا ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول إذ لا خلاف أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائز فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا وقد روي النهي عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم والشعبي وقال الحسن وابن سيرين في آخرين إن باعه بنقد جاز أن يشتريه فإن كان باعه بنسيئة لم

يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل وروي عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز ولم يذكر فيه قبض الثمن وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن فدل قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة فلا يسمى به إلا من طريق الشرع وأسماء الشرع توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم - والله أعلم بالصواب
ومن أبواب الربا الدين بالدين

وقد
روى موسى بن عبيدة عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الكالئ بالكالئ وفي بعض الألفاظ عن الدين بالدين وهما سواء وقال في حديث أسامة بن زيد إنما الربا في النسيئة إلا أنه في ا لعقد عن الدين بالدين وأنه معفو عنه بمقدار المجلس لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة وهما دين بدين إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائز وهما دينان وإن افترقا قبل التقابض بطل
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه
الرجل
يكون عليه ألف درهم دين مؤجل فيصالحه منه على خمس مائة حالة فلا يجوز وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال سألت ابن عمر يكون لي على الرجل الدين إلى أجل فأقول عجل لي وأضع عنك فقال هو ربا وروي عن زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي لا بأس بذلك والذي يدل على بطلان ذلك شيئان أحدهما تسمية ابن عمر إياه ربا وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف والثاني أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل فأبطله الله تعالى وحرمه وقال وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم وقال تعالى وذروا ما بقي من الربا حظر أن يؤخذ للأجل عوض فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحط بحذاء الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له أجلني وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز لأن المائة

عوض من الأجل كذلك الحط في معنى الزيادة إذ جعله عوضا من الأجل وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك نصف درهم أن الشرط الثاني باطل فإن خاطه غدا فله أجر مثله لأنه جعل الحط بحذاء الأجل والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه لأنه بمنزلة بيع الأجل على النحو الذي بيناه ومن أجاز من السلف إذا قال عجل لي وأضع عنك فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ويعجب الآخر الباقي بغير شرط وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم -

في الأصناف الستة وإن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله ص
- وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد وقوله إنما الربا في النسيئة وإن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله إنما الربا في النسيئة وقوله إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد وتسمية عمر إياه ربا وشرى ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا وشرط التعجيل مع الحط وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - من جهات كثيرة وهو عندنا في حيز التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم يجب اعتباره في غيره واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما سلف من هذا الباب وإن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة وقد قال قوم هم شذوذ عندنا لا يعدون خلافا أن حكم تحريم التفاضل مقصور على الأصناف التي ورد فيها التوقيف دون تحريم غيرها ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل والوزن دلائل من الأثر والنظر وقد ذكرناها في مواضع ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون وبالكيل في المكيل فدل ذلك على أن الاعتبار في التحريم الكيل والوزن مضموما إلى الجنس ومما يحتج به المخالف من الآية على اعتبار الأكل قوله عز و جل الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وقوله تعالى لا تأكلوا الربا فأطلق اسم الربا على المأكول قالوا فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول وهذا عندنا لا يدل

على ما قالوا من وجوه أحدها ما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى البيان فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله والثاني أن أكثر ما فيه إثبات الربا في مأكول وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا ونحن قد أثبتنا الربا في كثير من المأكولات وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة الآية ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف والاتفاق على تحريك بيع ألف بألف ومائة كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان في المال وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة وجب أن لا يصح الأجل في القرض كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة إذ كان نقصان الأجل كنقصان الوزن وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن وتارة من جهة نقصان الأجل وجب أن يكون القرض كذلك فإن قال قائل ليس القرض في ذلك كالبيع لأنه يجوز له مفارقته في القرض قبل قبض البدل ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف قيل له إنما يكون الأجل نقصانا إذا كان مشروطا فأما إذا لم يكن مشروطا فإن ترك القبض لا يوجب نقصا في أحد المالين وإنما بطل البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن الآخر ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان والصنف الواحد في وجوب التقابض في المجلس أعني الذهب بالفضة مع جواز التفاضل فيهما فعلمنا أن الموجب لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب للنقصان في غير المقبوض ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم ولم يقبض ثمنه سنين جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة ولو كان باعه بألف إلى شهر ثم حل الأجل لم يكن للمشتري بيعه مرابحة بألف حالة حتى يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل فدل ذلك على أن الأجل المشروط في العقد يوجب نقصا في الثمن ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم فإذا كان كذلك فالتشبيه بين القرض والبيع من الوجه الذي ذكرنا صحيح لا يعترض عليه هذا السؤال ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم - إنما الربا في النسيئة ولم يفرق بين البيع والقرض فهو على الجميع ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا لا يصح إلا مقبوضا أشبه الهبة فلا يصح فيه التأجيل كما لا يصح في الهبة وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم - التأجيل فيها بقوله من أعمر عمري فهي له ولورثته من بعبده فأبطل التأجيل المشروط في الملك وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها وعاريتها قرضها لأنها تمليك المنافع إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها ولذلك قال أصحابنا إذا

أعاره دراهم فإن ذلك قرض ولذلك لم يجيزوا استيجار الدراهم لأنها قرض فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض ومما يدل على أن قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - تدرون أي الصدقة خير قالوا الله ورسوله أعلم قال خير الصدقة المنحة أن تمنح أخاك الدراهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة والمنحة هي العارية فجعل قرض الدراهم عاريتها ألا ترى إلى

قوله
في حديث آخر والمنحة مردودة فلما لم يصح التأجيل في العارية لم يصح في القرض وأجاز الشافعي التأجيل في القرض وبالله التوفيق ومنه الإعانة
باب البيع
قوله عز و جل وأحل الله البيع عموم في إباحة سائر البياعات لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيحاب وقبول عن تراض منهما وهذا هو حقيقة البيع في مفهوم اللسان ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد به الخصوص لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات نحو بيع مالم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات وإنما خصت منها بدلائل إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف لقوله تعالى وأحل الله البيع والبيع اسم للإيجاب والقبول وليست حقيقته وقوع الملك به للعاقد ألا ترى أن البيع المعقود على شرط خيار المتبايعين لم يوجب ملكا وهو بيع والوكيلان يتعاقدان البيع ولا يملكان وقوله تعالى وحرم الربا حكمه ما قدمناه من الإجمال والوقف على ورود البيان فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض وفي سياق الآية ما أوجب تخصيص ما هو ربا من البياعات من عموم قوله تعالى وأحل الله البيع وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملا أنه يوجب إجمال لفظ البيع وليس كذلك عندنا لأن مالا يسمى ربا من البياعات فحكم

العموم جار فيه وإنما يجب الوقوف فيما شككنا أنه ربا أو ليس بربا فأما ما تيقنا أنه ليس بربا فغير جائز الاعتراض عليه بآية تحريم الربا وقد بينا ذلك في أصول الفقه وأما قوله تعالى ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا حكاية عن المعتقدين لإباحته من الكفار فزعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا وبين سائر الأرباح المكتسبة بضروب البياعات وجهلوا ما وضع الله أمر الشريعة عليه من مصالح الدين والدنيا فذمهم الله على جهلهم وأخبر عن حالهم يوم القيامة وما يحل بهم من عقابه قوله تعالى وأحل الله البيع يحتج به في جواز بيع مالم يره المشتري ويحتج فيمن اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل بالافتراق قبل القبض وذلك لأنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع وحقوقه من القبض والتصرف والملك وما جرى مجرى ذلك فاقتضى ذلك بقاء هذه الأحكام مع ترك التقابض وهو كقوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم المراد تحريم الاستمتاع بهن ويحتج أيضا لذلك بقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم من وجهين أحدهما ما اقتضاه من إباحة الأكل قبل الافتراق وبعده من غير قبض والآخر إباحة أكله لمشتريه قبل قبض الآخر بعد الفرقة وأما قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله فالمعنى فيه أن من انزجر بعد النهي فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا ولم يرد به مالم يقبض لأنه قد ذكر في نسق التلاوة حظر ما لم يقبض منه وإبطاله بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فأبطل الله من الربا مالم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول التحريم ولم يتعقب بالفسخ ما كان منه مقبوضا بقوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وقد روي ذلك عن السدي وغيره من المفسرين وقال تعالى وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فأبطل منه ما بقي مما لم يقبض ولم يبطل المقبوض ثم قال تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم وهو تأكيد لإبطال مالم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ولا زيادة وروي عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة وقال جابر بعرفات إن كل ربا في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبدالمطلب فكان فعله ص - مواطئا لمعنى الآية في إبطال الله تعالى من الربا مالم يكن مقبوضا وإمضائه ما كان

مقبوضا وفيما روي في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم - ضروب من الأحكام أحدها أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه فهو كالموجود في حال وقوعه وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد لم يوجب فسخه وذلك نحو النصرانيين إذا تبايعا عبدا بخمر فالبيع جائز عندنا وإن أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل العقد وكذلك لو اشترى رجل مسلم صيدا ثم أحرم البائع أو المشتري بطل البيع لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل القبض كما أبطل الله تعالى من الربا مالم يقبض لأنه طرأ عليه ما يوجب تحريمه قبل القبض وإن كانت الخمر مقبوضة ثم اسلما أو أحرما لم يبطل البيع كما لم يبطل الله الربا المقبوض حين أنزل التحريم فهذا جائز في نظائره من المسائل ولا يلزم عليه أن يقتل العبد المبيع قبل القبض ولا يبطل البيع وللمشتري اتباع الجاني من قبل أنه لم يطرأ على العقد ما يوجب تحريم العقد لأن العقد باق على هيئته التي كان عليها والقيمة قائمة مقام المبيع وإنما يعتبر المبيع وللمشتري الخيار فحسب وفيها دلالة على أن هلاك المبيع في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد وهو قول أصحابنا والشافعي وقال مالك لا يبطل والثمن لازم للمشتي إذا لم يمنعه ودلالة الآية ظاهرة على أن قبض المبيع من تمام البيع وأن سقوط القبض يوجب بطلان العقد وذلك لأن الله تعالى لما أسقط قبض الربا أبطل العقد الذي عقداه وأمر بالاقتصار على رأس المال فدل ذلك على أن قبض المبيع من شرائط صحة العقد وأنه متى طرأ على العقد ما يسقطه أوجب ذلك بطلانه وفيها الدلالة على أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ وإن كانت معقودة على فساد لأنه معلوم أنه قد كان بين نزول الآية وبين خطبة النبي صلى الله عليه وسلم - بمكة ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا وقوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف يدل على ذلك أيضا لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الإسلام وقد قيل إن معنى قوله تعالى فله ما سلف من ذنوبه على معنى أن الله يغفرها له وليس هذا كذلك لأن الله تعالى قد قال وأمره إلى الله يعني فيما يستحقه من عقاب أو ثواب

فلم يعلمنا حكمه في الآخرة ومن جهة أخرى أنه لو ان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا فيكون على الأمرين جميعا لاحتماله لهما فيغفر الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل إسلامه وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد التقابض فيها لقوله تعالى فله ما سلف وأمره إلى الله قوله عز و جل يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله قال أبو بكر يحتمل ذلك معنيين أحدهما إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادوا له والثاني إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن اعتقدوا تحريمه وقد روي عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أربى أن الإمام يستتيبه فإن تاب وإلا قتله وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له لأنه لا خلاف بنين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه وقوله وتعالى فأذنوا بحرب من الله ورسوله لا يوجب إكفارهم لأن ذلك قد يطلق على ما دون الكفر من المعاصي قال زيد بن اسلم عن أبيه أن عمر رأى معاذا يبكي فقال ما يبكيك فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم وقال تعالى إنما جزاء الذين يحاربون ا لله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة وأن هذه السمة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها وإن كانت دون الكفر وقوله تعالى فأذنوا بحرب من الله ورسوله أخبار منه بعظم معصية وأنه يستحق بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافرا وكان ممتنعا على الإمام فإن لم يكن ممتنعا عاقبه الإمام بمقدار ما يستحقه من التعزير والردع وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها وإن كان ممتنعا حورب عليها هو ومتبعوه وقوتلوا حتى ينتهوا وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من المتسلطين الظلمة وآخذي الضرائب واجب على كل المسلمين قتالهم وقتلهم إذا كانوا

ممتنعين وهؤلاء أعظم جرما من آكلي ا لربا لانتهاكهم حرمة النهي وحرمة المسلمين جميعا وآكل الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في أخذ الربا ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمة لأنه أعطاه بطيبة نفسه وآخذوا الضرائب في معنى قطاع الطريق المنتهكين لحرمة نهي الله تعالى وحرمة المسلمين إذ كانوا يأخذونه جبرا وقهرا لا على تأويل ولا شبهة فجائز لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قتلهم وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين بهم يقومون على أخذ الأموال وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين أحدهما الكفر والآخر منع الزكاة وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها فانتظموا به معنيين أحدهما الامتناع من قبول أمر الله تعالى وذلك كفر والآخر الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام فكان قتاله إياهم للأمرين جميعا ولذلك قال لو منعوني عقالا وفي بعض الأخبار عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه فإنما قلنا أنهم كانوا كفارا ممتنعين من قبول فرض الزكاة لأن الصحابة سموهم أهل الردة وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا هذا وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم ولو لم يكونوا مرتدين لما سار فيهم هذه السيرة وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول ولا من بعدهم من المسلمين أعني في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل الردة فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر وإن كان ممتنعا بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غر مستحلين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل نجران وكانوا ذمة نصارى إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله وروى أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني أيوب الدمشقي قال حدثني سعدان بن يحيى عن عبدالله بن أبي حميد عن أبي مليح الهذلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صالح أهل نجران فكتب كتابا في آخره على أن لا تأكلوا الربا فمن أكل الربا فذمتي منه بريئة فقوله تعالى فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله عقيب قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا هو عائد عليهما جميعا من رد الأمر على حاله ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر

فمن رد الأمر قوتل على الردة ومن قبل الأمر وفعله محرما له قوتل على تركه إن كان ممتنعا ولا يكون مرتدا وإن لم يكن ممتنعا عزر بالحبس والضرب على ما يرى الإمام وقوله تعالى فأذنوا بحرب من الله ورسوله إعلام بأنهم إن لم يفعلوا ما أمروا به في هذه الآية فهم محاربون الله ورسوله وذلك أخبار منه بمقدار عظم الجرم وأنهم يستحقون به هذه السمة وهي أن يسموا محاربين الله ورسوله وهذه السمة يعتورها معنيان أحدهما الكفر إذا كان مستحلا والآخر الإقامة على أكل الربا مع اعتقاد التحريم على ما بينا ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم ويكون إيذانا لهم بالحرب حتى لا يؤتوا على غرة قبل العلم بها كقوله تعالى وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين فإذا حمل على هذا الوجه كان الخطاب بذلك متوجا إليهم إذا كانوا ذوي منعة وإذا حملناه على الوجه الأول دخل كل واحد من فاعلي ذلك في الخطاب وتناوله الحكم المذكور فيه فهو أولى قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فيه تأويلان أحدهما وإن كان ذو عسرة غريما لكم فنظرة إلى ميسرة والثاني على أن المكتفية باسمها على معنى وإن وقع ذو عسرة أو إن وجد ذو عسرة كقول الشاعر ... فدى لبني شيبان رحلي وناقتي ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ... معناه إذا وجد يوم كذلك وقد اختلف في معنى قوله وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فروي عن ابن عباس وشريح وإبراهيم أنه في الربا خاصة وكان شريح يحبس المعسر في غيره من الديون وروي عن إبراهيم والحسن والربيع بن خيثم والضحاك أنه في سائر الديون وروي عن ابن عباس رواية أخرى مثل ذلك وقال آخرون إن الذي في الآية إنظار المعسر في الربا وسائر الديون في حكمه قياسا عليه قال أبو بكر لما كان قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة محتملا أن يكون شاملا لسائر الديون على ما بينا من وجه الاحتمال ولتأويل من تأوله من السلف على ذلك إذ غير جائز أن يكونوا تأولوه على مالا احتمال فيه وجب حمله على العموم وأن لا يقتصر به على الربا إلا بدلالة لما فيه من تخصيص لفظ العموم من غير دلالة فإن قيل لما كان قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وكان متضمنا لما

قبله وجب أن يكون حكمه مقصورا عليه قيل هو كلام مكتف بنفسه لما في فحواه من الدلالة على معناه وذلك لأن ذكر الإعسار والإنظار قد دل على دين تجب المطالبة به والإنظار لا يكون إلا في حق قد ثبت وجوبه وصحت المطالبة به إما عاجلا وإما آجلا فإذا كان في مضمون اللفظ دلالة على دين يتعلق به في حكم الإنظار إذا كان ذو عسرة كان اللفظ مكتفيا بنفسه ووجب اعتباره على عمومه ولم يجب الاقتصار به على الربا دون غيره وزعم بعض الناس ممن نصر هذا القول الذي ذكرناه أن هذا لا يجوز أن يكون في الربا لأن الله تعالى قد أبطله فكيف يكون منظرا به قال فالواجب أن تكون ا لآية عامة في سائر الديون وهذا الحجاج ليس بشيء لأن الله تعالى إنما أبطل الربا وهو الزيادة المشروطة ولم يبطل رأس المال لأنه قال وذروا ما بقي من الربا والربا هو الزيادة ثم قال وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم ثم عقب ذلك بقوله وإن كان ذو عسرة يعني سائر الديون ورأس المال أحدها وإبطال ما بقي من الربا لم يبطل رأس المال بل هو دين عليه يجب أداؤه فإن قيل إذا كان الإنظار مأمورا به في رأس المال فهو وسائر الديون عليه سواء قيل له إنما كلامنا فيما شمله العموم من حكم الآية فإن كان ذلك في رأس مال الربا فلم يتناول غيره من طريق النص وإنما يتناوله من جهة العموم للمعنى فيحتاج حينئذ إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ورده إلى المذكور في الآية بمعنى يجمعهما وليس الكلام بينك وبين الخصم من جهة القياس وإنما اختلفتما في عموم الآية وخصوصها والكلام في القياس ورد غير المذكور إلى المذكور مسألة أخرى
وقوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدين على الدين وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه لأنه تعالى جعل اقتضاؤه ومطالبته من غير شرط رضى المطلوب وهذا يوجب أن من له على غيره دين فطالبه به فله أخذه منه شاء أم أبى وبهذا المعنى ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - حين قالت له هند إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف فأباح لها أخذ ما استحقته على أبي سفيان من النفقة من غير رضى أبي سفيان وفي الآية دلالة على أن الغريم متى امتنع من أداء الدين مع الإمكان كان ظالما ودلالتها على ذلك من وجهين أحدهما قوله تعالى وإن تبتم فلكم رؤس أموالكم فجعل له المطالبة

برأس المال وقد تضمن ذلك أمر الذي عليه الدين بقضائه وترك الامتناع من أدائه فإنه متى امتنع منه كان له ظالما ولاسم الظلم مستحقا وإذا كان كذلك استحق العقوبة وهي الحبس والوجه الآخر من الدلالة عليه قوله تعالى في نسق التلاوة لا تظلمون ولا تظلمون يعني والله أعلم لا تظلمون بأخذ الزيادة ولا تظلمون بالنقصان من رأس المال فدل ذلك على أنه متى امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالما له مستحقا للعقوبة واتفق الجميع على أنه لا يستحق العقوبة بالضرب فوجب أن يكون حبسا لاتفاق الجميع على أن ما عداه من العقوبات ساقط عنه في أحكام الدنيا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثل ما دلت عليه الآية وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال حدثنا عبدالله بن المبارك عن وبر بن أبي دليلة عن محمد بن ميمون عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لي الواجد يحل عرضه وعقوبته قال ابن المبارك يحل عرضه يغلظ له وعقوبته يحبس وروى ابن عمر وجابر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال مطل الغني ظلم وإذا أحيل أحدكم على ملئ فليحتل فجعل مطل الغني ظلما والظالم لا محالة مستحق العقوبة وهي الحبس لاتفاقهم على أنه لم يرد غيره وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا معاذ بن أسد قال أخبرنا النضر بن شميل قال أخبرنا هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه عن جده قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - بغريم لي فقال لي الزمه ثم قال يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك وهذا يدل على أن له حبس الغريم لأن الأسير يحبس فلما سماه أسيرا له دل على أن له حبسه وكذلك قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والمراد بالعقوبة هنا الحبس لأن أحدا لا يوجب غيره واختلف الفقهاء في الحال التي توجب الحبس فقال أصحابنا إذا ثبت عليه شيء من الديون من أي وجه ثبت فإنه يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسئل عنه فإن كان موسرا تركه في الحبس أبدا حتى يقضيه وإن كان معسرا أخلى سبيله وذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة أن المطلوب إذا قال إني معسر وأقام البينة على ذلك أو قال فسل عني فلا يسأل عنه أحدا وحبسه شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه إلا أن يكون معروفا بالعسر فلا يحبسه وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران قال كان متأخروا أصحابنا منهم محمد بن شجاع يقولون إن كل دين كان أصله من مال وقع في يدي المدين كأثمان البياعات والعروض ونحوها فإنه

يحبسه به وما لم يكن أصله من مال وقع في يده مثل المهر والجعل من الخلع والصلح من دم العمد والكفالة لم يحبسه به حتى يثبت وجوده وملاؤه وقال ابن أبي ليلى بحبسه في الديون إذا أخبر أن عنده مالا وقال مالك لا يحبس الحر ولا العبد في الدين ولا يستبرأ أمره فإن اتهم أنه قد خبأ مالا حبسه وإن لم يجد له شيئا لم يحبسه وخلاه وقال الحسن بن حي إذا كان موسرا حبس وإن كان معسرا لم يحبس وقال الشافعي إذا ثبت عليه دين بيع ما ظهر ودفع ولم يحبس فإن لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من ماله فإن ذكر عسره وقبلت منه البينة بقوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأحلفه مع ذلك بالله ومنع غرماءه من لزومه قال أبو بكر إنما قال أصحابنا إنه يحبسه في أول ما ثبت عند القاضي دينه لما دللنا عليه من الآية والأثر على كونه ظالما في الامتناع من قضاء ما ثبت عليه وإنه مستحق للعقوبة متى امتنع من أداء ما وجب عليه فالواجب بقاء العقوبة عليه حتى يثبت زوالها عنه بالإعسار فإن قيل إنما يكون ظالما إذا امتنع من أدائه مع الإمكان لأن الله تعالى لا يذمه على ما لم يقدره عليه ولم يمكنه منه ولذلك شرط النبي صلى الله عليه وسلم - الوجود في استحقاق العقوبة بقوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته وإذا كان شرط استحقاق العقوبة وجود المال الذي يمكنه أداؤه منه فغير جائز حبسه وعقوبته إلا بعد أن يثبت أنه واجد ممتنع من أداء ما وجب عليه وليس ثبوت الدين عليه علما لإمكان أدائه على الدوام إذ جائز أن يحدث الإعسار بعد ثبوت الدين قيل له أما لديون التي حصلت إبدالها في يده فقد علمنا يساره بأدائها يقينا ولم نعلم إعساره بها فوجب كونه باقيا على حكم اليسار والوجود حتى يثبت الإعسار وأما ما كان لزمه منها من غير بدل حصل في يده يمكنه أداؤه منه فإن دخوله في العقد الذي ألزمه ذلك اعتراف منه بلزوم أدائه وتوجه المطالبة عليه بقضائه ودعواه الإعسار به بمنزلة دعوى التأجيل للموسر فهو غير مصدق عليه ولذلك سوى أصحابنا بين الديون التي قد علم حصول إبدالها في يده وبين مالم تحصل في يده إذ كان دخوله في العقد الموجب عليه ذلك الدين اعترافا منه بلزوم الأداء وثبوت حق المطالبة للمطالب وذلك لأن كل متعاقدين دخلا في عقد فدخولهما فيه اعتراف منهما بلزوم موجب العقد من الحقوق وغير مصدق بعد العقد واحد منهما على نفي موجبه ومن أجل ذلك قلنا إن ذلك يقتضي اعترافا منهما بصحته إذ كان ذلك

مضمنا للزوم حقوقه وفي تصديقه على فساده نفي ما لزمه بظاهر العقد ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في أن مدعي الفساد منهما بعد وقوع العقد بينهما وصحته في الظاهر غير مصدق عليه وإن القول قول مدعي الصحة منهما وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا من أن من ألزم نفسه دينا بعقد عقده على نفسه أنه يلزمه أداؤه محكوم عليه بأنه موسر به وغير مصدق على الإعسار المسقط عنه المطالبة كما لا يصدق على التأجيل بعد ثبوته عليه حالا وإنما قال أصحابنا أنه يحبسه في أول ما يرفعه إلى القاضي إذا طلب ذلك الطالب ولا يسئل عنه من قبل أنه توجهت عليه المطالبة بأدائه ومحكوم له باليسار في قضائه فالواجب أن يستبرئ أمره بديا إذ جائز أن يكون له مال قد خبأه لا يقف عليه غيره فلا يوقف بذلك على إعساره فينبغي له أن يحبسه استظهارا لما عسى أن يكون عنده إذ كان في الأغلب أنه إن كان عنده شيء آخر أضجره الحبس وألجأه إلى إخراجه فإذا حبسه هذه المدة فقد استظهر في الغالب فحينئذ يسئل عنه لأنه جائز أن يكون هناك من يعلم يساره سرا فإذا ثبت عنده إعساره خلاه من الحبس وقد روي عن شريح أنه كان يحبس المعسر في غير الربا من الديون فقال له معسر قد حبسه قال الله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة فقال شريح إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها والله لا يأمرنا بشيء ثم يعذبنا عليه وقد قدمنا ذكر مذهب شريح في تأويل الآية وإن قوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة مقصور على الربا دون غيره وإن غيره من الديون لا يختلف في الحبس فيها الموسر والمعسر ويشتبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الإعسار على الحقيقة إذ جائز أن يظهر الإعسار وحقيقة أمره اليسار فاقتصر بحكم الإنظار على رأس مال الربا الذي نزل به القرآن وحمل ما عداه على موجب عقد المداينة من لزوم القضاء وتوجه المطالبة عليه بالأداء وقد بينا وجه فساد هذا القول بما قد دللنا عليه من مقتضى عموم اللفظ لسائر الديون ومع ذلك فلو كان نص التنزيل واردا في الربا دون غيره لكان سائر الديون بمنزلته قياسا عليه إذ لا فرق في حال اليسار بينهما في صحة لزوم المطالبة بهما ووجوب أدائهما فوجب أن لا يختلفا في حال الأداء في سقوط الحبس فيها دونه فأما قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها واحتجاج شريح به في حبس المطلوب فإن الآية إنما هي في ا لأعيان الموجودة في يده لغيره فعليه أداؤه وأما الديون

المضمونة في ذمته فإنما المطالبة بها معلقة بإمكان أدائها فمن كان معسرا فإن الله لم يكلفه إلا ما في إمكانه قال الله تعالى لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا فإذا لم يكن مكلفا لأدائها لم يجز أن يحبس بها فإن قيل إن الدين من الأمانات لقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وإنما يريد به الدين المذكور في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه قيل له إن كان الدين مرادا بقوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فإن الأمر بذلك توجه إليه على شريطة الإمكان لما وصفنا من أن الله تعالى لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه ولا يتسع لفعله وهو محكوم له من ظاهر إعساره أنه غير قادر على أدائه ولم يكن شريح ولا أحد من السلف يخفى عليهم إن الله لا يكلف أحدا مالا يقدر عليه بل كانوا عالمين بذلك ولكنه ذهب عندي والله أعلم إلى أنه لم يتيقن وجود ذلك ويجوز أن يكون قادرا على أدائه مع ظهور إعساره فلذلك حبسه
واختلفوا أهل العلم في الحاكم إذا ثبت عنده إعساره وأطلقه من الحبس هل يحول بين الطالب وبين لزومه فقال أصحابنا للطالب أن يلزمه وذكر ابن رستم عن محمد قال والملزوم في الدين لا يمنع من دخول منزله للغذاء والغائط والبول فإن أعطاه الذي يلزمه الغذاء وموضع الخلاء فله أن يمنعه من إتيان منزله وقال غيرهم منهم مالك والشافعي ليس له أن يلزمه وقال الليث بن سعد يؤاجر الحر المعسر فيقضي دينه من أجرته ولا نعلم أحدا قال بمثل قوله إلا الزهري فإن الليث بن سعد روى عن الزهري قال يؤاجر المعسر بما عليه من الدين حتى يقضي عنه والذي يدل على أن ظهور الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة والاقتضاء حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - اشترى من أعرابي بعيرا إلى أجل فلما حل الأجل جاءه يتقاضاه فقال جئتنا وما عندنا شيء ولكن أقم حتى تأتي الصدقة فجعل الأعرابي يقول واغدراه فهم به عمر فقال ص - دعه فإن لصاحب الحق مقالا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ليس عنده شيء ولم يمنعه الاقتضاء وقال إن لصاحب الحق مقالا فدل ذلك على أن الإعسار بالدين غير مانع اقتضاءه ولزومه به وقوله أقم حتى تأتي الصدقة يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما اشترى البعير للصدقة لا لنفسه لأنه لو كان اشتراه لنفسه لم يكن ليقضيه من إبل الصدقة لأنه لم يكن تحل له الصدقة فهذا يدل على أن

من اشترى لغيره يلزمه ثمن ما اشترى وإن حقوق العقد متعلقة به دون المشتري له لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يمنعه اقتضاءه ومطالبته به وهو في معنى الحديث الذي رواه أبو رافع أن
النبي صلى الله عليه وسلم - استسلف بكرا ثم قضاه من إبل الصدقة لأن السلف كان دينا على مال الصدقة وروي في خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لصاحب الحق اليد واللسان رواه محمد بن الحسن وقال في اليد اللزوم وفي اللسان الاقتضاء وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا محمد بن إسحاق قال حدثنا امحمد بن يحيى قال حدثنا إبراهيم بن حمزة قال حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا لزم غريما له بعشرة دنانير فقال له والله ما عندي شيء أقضيكه اليوم قال والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل يتحمل عنك قال والله ما عندي قضاء ولا أجد من يحتمل عني قال فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن هذا لزمني فاستنظرته شهرا واحدا فأبى حتى أقضيه وآتيه بحميل فقلت والله ما أجد حميلا ولا عندي قضاء اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هل تنظره شهرا واحدا قال لا قال أنا أحمل بها فتحمل بها رسول الله ص
- فذهب الرجل فأتاه بقدر ما وعده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من أين أصبت هذا الذهب قال من معدن قال اذهب فلا حاجة لنا فيها ليس فيها
خير فقضى عنه رسول الله وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم يمنعه من لزومه مع حلفه بالله ما عنده قضاء وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال حدثنا عبدالله بن علي بن الجارود قال حدثنا إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة قال حدثنا ابن أبي عبيدة قال حدثنا أبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم - يتقاضاه تمرا كان عليه وشدد عليه الأعرابي حتى قال له أحرج عليك إلا قضيتني فانتهره الصحابة فقالوا له ويحك أتدري من تكلم فقال لهم إني طالب حق فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم - هلا مع صاحب الحق كنتم ثم أرسل إلى خولة بنت قيس فقال لها إن كان عندك تمر فاقرضينا حتى يأتينا تمر فنقضيك فقالت نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه فقال أوفيتنا أوفى الله لك فقال أولئك خيار الناس أنها لا قدست أمة لا يؤخذ للضعيف منها حقه غير متعتع فلم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم - ما يقضيه ولم ينكر على الأعرابي مطالبته واقتضاءه بذلك بل أنكر على الصحابة انتهارهم إياه وقال هلا مع صاحب الحق كنتم وهذا يوجب أن لا يكون منظرا بنفس الإعسار دون أن ينظره الطالب ويدل عليه

أيضا ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن العباس المؤدب قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا عبدالوارث عن محمد بن جحادة عن ابن بريدة عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من أنظر معسرا فله صدقة ومن أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة فقلت يا رسول الله سمعتك تقول من أنظر معسرا فله صدقة ثم سمعتك تقول له بكل يوم صدقة قال من أنظر معسرا قبل أن يحل الدين فله صدقة ومن أنظره إذا حل الدين فله بكل يوم صدقة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن علي بن عبدالملك بن السراج قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله الهروي قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا سعيد بن حجنة الأسدي قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت أنه سمع أبا اليسر يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أنظر معسرا أو وضع له أظله الله يوم لا ظل إلا ظله فقوله في الحديث الأول من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة يوجب أن لا يكون منظرا بنفس الإعسار دن إنظار الطالب إياه لأنه لو كان منظرا بغير إنظاره لما صح القول بأن من أنظر معسرا فله بكل يوم صدقة إذ غير جائز أن يستحق الثواب إلا على فعله فأما من قد صار منظرا بغير فعله فإنه يستحيل أن يستحق الثواب بالإنظار وحديث أبي اليسر يدل على ذلك أيضا من وجهين أحدهما ما أخبر عنه من استحقاق الثواب بإنظاره والثاني أنه جعل الإنظار بمنزلة الحط ومعلوم أن الحط لا يقع إلا بفعله فكذلك الإنظار وهذا كله يدل على أن قوله تعالى فنظرة إلى ميسرة ينصرف على أحد وجهين إما أن يكون وقوع الإنظار هو تخليته من الحبس وترك عقوبته إذ كان غير مستحق لها لأن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما جعل مطل الغني ظلما فإذا ثبت إعساره فهو غير ظالم بترك القضاء فأمر الله بإنظاره من الحبس فلا يوجب ذلك ترك لزومه أو أن يكون المراد الندب والإرشاد إلى إنظاره بترك لزومه ومطالبته فلا يكون منظرا إلا بنظرة الطالب بدلالة الأخبار التي أوردناها فإن قال قائل اللوزم بمنزلة الحبس لا فرق بينهما لأنه في الحالين ممنوع من التصرف قيل له ليس كذلك لأن اللزوم لا يمنعه التصرف فإنما معناه أن يكون معه من قبل الطالب من يراعي أمره في كسبه وما يستفيده فيترك له مقدار القوت ويأخذ الباقي قضاء من دينه وليس في ذلك إيجاب حبس ولا عقوبة وروى مروان بن معاوية قال حدثنا أبو مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الله يقول لعبد

من عباده ما عملت قال ما عملت لك كثير عمل أرجوك به من صلاة ولا صوم غير أنك كنت أعطيتني فضلا من مال فكنت أخالط الناس فأيسر على الموسر وأنظر المعسر فقال الله عز و جل نحن أحق بذلك منك تجاوزوا عن عبدي فغفر له فقال ابن مسعود هكذا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهذا الحديث أيضا يدل على مثل ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من أن الإنظار لا يقع بنفس الإعسار لأنه جمع بين إنظار المعسر والتيسير على الموسر وذلك كله مندوب إليه غير واجب واحتج من حال بينه وبين لزومه إذا أعسر وجعله منظرا بنفس الإعسار بما رواه الليث بن سعد عن بكير عن عياض بن عبدالله عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال ص -

تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله ص
- خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك فاحتج القائل بما وصفنا بقوله ص - ليس لكم إلا ذلك وإن ذلك يقتضي نفي اللزوم فيقال له معلوم أنه لم يرد سقوط ديونهم لأنه لا خلاف أنه متى وجد كان الغرماء أحق بما فضل عن قوته وإذا لم ينف بذلك بقاء حقوقهم في ذمته فكذلك لا يمنع بقاء لزومهم له ليستوفوا ديونهم مما يكسبه فاضلا عن قوته وهذا هو معنى اللزوم لأنا لا نختلف في ثبوت حقوقهم فيما يكسبه في المستقبل فقد اقتضى ذلك ثبوت حق اللزوم لهم ولم ينتف ذلك بقوله ص - ليس لكم إلا ذلك كما لم ينتف بقاء حقوقهم فيما يستفيده وقول النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخبار التي ذكرنا من إنظار المعسر وما ذكر من ترغيب الطالب في إنظاره يدل على جواز التأجيل في الديون الحالة الواجبة عن الغصوب والبيوع وزعم الشافعي أنه إذا كان حالا في الأصل لا يصح التأجيل به وذلك خلاف الآثار التي قدمنا لأنها قد اقتضت جواز تأجليه وبين ذلك حديث ابن بريدة فيمن أجل قبل أن يحل أو بعد ما حل وقد تقدم سنده وجدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن الشعبي عن سمعان عن سمرة بن جندب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال ههنا أحد من بني فلان فلم يجبه أحد ثم قال ههنا أحد من بني فلان فلم يجبه أحد ثم قال ههنا أحد من بني فلان فقام رجل فقال أنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين إني لم أنوه بكم إلا خيرا إن
صاحبكم مأسور بدينه فلقد رأيته أدى عنه حتى

ما أحد يطالبه بشيء وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني سليمان بن داود المهري النهدي قال حدثنا وهب قال حدثني سعيد بن أبي أيوب أنه سمع أبا عبدالله القرشي يقول سمعت أبا بردة بن أبي موسى الأشعري يقول عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه عبد بعد الكبائر التي نهاه الله عنها أن يموت رجل وعليه دين لا يدع له قضاء وفي هذين الحديثين دليل على أن المطالبة واللزوم لا يسقطان عن المعسر كما لم تسقط عنه المطالبة بالموت وإن لم يدع له وفاء فإن قيل لا يخلوا هذا الرجل المدين إذا مات مفلسا من أن يكون مفرطا في قضاء دينه أو غير مفرط فإن كان مفرطا فإنما هو مطالب عند الله بتفريطه كسائر الذنوب التي لم يتب منها وإن كان غير مفرط فالله تعالى لا يؤاخذه به لأن الله لا يؤاخذ أحدا إلا بذنبه قيل له إنما ذلك فيمن فرط في قضاء دينه ثم لم يتب من تفريطه حتى مات مفلسا فيكون مؤاخذا به وهذا حكم المعسر بدين الآدمي لأنا لا نعلم توبته من تفريطه فواجب أن يكون مطالبا فيه في الدنيا كما كان مؤاخذا به عند الله تعالى فإن قيل فينبغي أن تفرقوا بين المفرط في قضاء دينه المصر على تفريطه وبين من لم يفرط أصلا أو فرط ثم تاب من تفريطه فتوجبون له لزوم من فرط ولم يتب ولا تجعلون له ذلك فيمن لم يفرط أو فرط ثم تاب قيل له لو وقفنا على حقيقة توبته من تفريطه أو علمنا أنه لم يكن مفرطا في قضائه لخالفنا بين حكمه وحكم من ظهر تفريطه في باب اللوزم كما اختلف حكمهما عند الله تعالى ولكنا لا نعلم أنه غير مفرط في الحقيقة لجواز أن يكون له مال مخبوء وقد أظهر الإعسار وكذلك المظهر لتوبته من تفريطه مع ظهور عسرته جائز أن يكون موسرا بأداء دينه ولا تكون لما أظهره حقيقة وإذا كان كذلك فحكم اللزوم والمطالبة قائم عليه كما تثبت عليه المطالبة لله تعالى بعد موته وحديث أبي قتادة أيضا يدل على ذلك وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يصلي على رجل مات وعليه دين فأتي بميت فقال أعليه دين فقالوا نعم ديناران فقال صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة الأنصاري هما علي يا رسول الله قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فلما فتح الله على رسول الله ص
- قال أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته فلو لم تكن

المطالبة قائمة عليه إذا مات مفلسا كان لا يترك الصلاة عليه إذا مات مفلسا لأنه كان يكون بمنزلة من لا دين عليه وفي هذا دليل على أن الإعسار لا يسقط عنه اللزوم والمطالبة وقد روى إسماعيل بن المهاجر عن عبدالملك بن عمير قال كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل بغريمه قال هات بينة على مال أحبسه فإن قال فإني إذا ألزمه قال وما منعك من لزومه وأما قول الزهري والليث بن سعد في إجازتهما الحد واستيفاء الدين من أجرته فخلاف الآية والآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أما الآية فقوله تعالى وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ولم يقل فليؤاجر
بما عليه وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء منها إجارته وإنما فيها أو تركه وحديث أبي سعيد الخدري ليس لكم إلا ذلك حين لم يجدوا له غير ما أخذوا
قوله عز و جل وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون يعني والله أعلم أن التصدق بالدين الذي على المعسر خير من إنظاهر به وهذا يدل على أن الصدقة أفضل من القرض لأن القرض إنما هو دفع المال وتأخير استرجاعه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال قرض مرتين كصدقة مرة وروى علقمة عن عبدالله عن النبي ص
- قال السلف يجري مجرى شطر الصدقة وروي عن عبدالله بن مسعود من قوله وعن ابن عباس مثله وعن إبراهيم وقتادة في قوله وأن تصدقوا خير لكم قالا برأس المال ولما سمى الله الإبراء من الدين صدقة اقتضى ظاهره جوازه عن الزكاة لأنه سمى الزكاة صدقة وهي على ذي عسرة فلو خلينا والظاهر كان واجبا جوازه عن سائر أمواله التي فيها الزكاة من عين ودين وغيره إلا أن أصحابنا قالوا إنما سقط زكاة المبرأ منه دون غيره لأن الدين إنما هو حق ليس بعين والحقوق لا تجري مجرى الزكاة مثل سكنى الدار وخدمة العبد ونحوها وتسميته إياه بالصدقة لا توجب جوازه عن الزكاة في سائر الأحوال ألا ترى أن الله تعال قد سمى البراءة من القصاص صدقة في قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس إلى قوله فمن تصدق به فهو كفارة له والمراد به العفو عن القصاص ولا نعلم خلافا بين أهل العلم أن العفو عن القصاص غير مجزئ في الكفارة وقال تعالى حاكيا عن أخوة يوسف وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا وهم لم يسألوه أن يتصدق عليهم بماله وإنما سألوه أن يبيعهم ولا يمنعهم الكيل لأنهم كانوا منعوا بديا ألا ترى أنهم

قالوا فأوف لنا الكيل وهو ما اشتروه ببضاعتهم فإذا كان وقوع اسم الصدقة عليه لم يوجب جوازه عن الزكاة لم يكن إطلاق اسم الصدقة على الدين علة لجوازه عن الزكاة والله تعالى أعلم
باب

عقود المداينات
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه قال أبو بكر ذهب قوم إلى أن الكتاب والإشهاد على الديون الآجلة قد كانا واجبين بقوله تعالى فاكتبوه إلى قوله فاستشهدوا شهيدين من رجالكم ثم نسخ الوجوب بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته روي ذلك عن ابي سعيد الخدري والشعبي والحسن وقال آخرون هي محكمة لم ينسخ منها شيء وروى عاصم الأحول وداود بن أبي هند عن عكرمة قال قال ابن عباس لا والله إن آية الدين محكمة وما فيها نسخ وقد روى شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ورجل له على رجل دين ولم يشهد عليه به قال أبو بكر وقد روي هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وروى جويبر عن الضحاك إن ذهب حقه لم يؤجر وإن دعا عليه لم يجب لأنه ترك حق الله وأمره وقال سعيد بن جبير وأشهدوا إذا تبايعتم يعني وأشهدوا على حقوقكم إذا كان فيها أجل أو لم يكن فيها أجل فأشهد على حقك على كل حال وقال ابن جريج سئل عطاء أيشهد الرجل على أن بايع بنصف درهم قال نعم هو تأويل قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وروى مغيرة عن إبراهيم قال يشهد لو على دستجة بقل وقد روي عن الحسن والشعبي إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد لقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وروى ليث عن مجاهد أن ابن عمر كان إذا باع أشهد ولم يكتب وهذا يدل على أنه رآه ندبا لأنه لو كان واجبا لكانت الكتابة مع الإشهاد لأنهما مأمور بهما في الآية قال أبو بكر لا يخلو قوله تعالى فاكتبوه إلى قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم من أن يكون موجبا للكتابة والإشهاد على الديون الآجلة في حال نزولها وكان هذا حكما مستقرا ثابتا إلى أن ورد نسخ إيجابه بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته

وأن يكون نزول الجميع معا فإن كان كذلك فغير جائز أن يكون المراد بالكتابة والإشهاد الإيجاب لامتناع ورود الناسخ والمنسوخ معا في شيء واحد إذ غير جائز نسخ الحكم قبل استقراره ولما لم يثبت عندنا تاريخ نزول هذين الحكمين من قوله تعالى وأشهدوا إذا تبايعتم وقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وجب الحكم بورودهما معا فلم يرد الأمر بالكتاب والإشهاد إلا مقرونا بقوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته فثبت بذلك أن الأمر بالكتابة والإشهاد ندب غير واجب وما روي عن ابن عباس من أن آية الدين محكمة لم ينسخ منه شيء لا دلالة فيه على أنه رأى الإشهاد واجبا لأنه جائز أن يريد أن الجميع ورد معا فكان في نسق التلاوة ما أوجب أن يكون الإشهاد ندبا وهو قوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا وما روي عن ابن عمر إنه كان يشهد وعن إبراهيم وعطاء أنه يشهد على القليل كله عندنا أنهم رأوه ندبا لا إيجابا وما روي عن أبي موسى ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم أحدهم من له على رجل دين ولم يشهد فلا دلالة على أنه رآه واجبا ألا ترى أنه ذكر معه من له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ولا خلاف أنه ليس بواجب على من له امرأة سيئة الخلق أن يطلقها وإنما هذا القول منه على أن فاعل ذلك تارك للاحتياط والتوصل إلى ما جعل الله تعالى له فيه المخرج والخلاص ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه الآية ندب وإرشاد إلى مالنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا وإن شيئا منه غير واجب وقد نقلت الأمة خلف عن سلف عقود المداينات والأشرية والبياعات في أمصارهم من غير إشهاد مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم ولو كان الإشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به وفي ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا لو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا ولأنكرت على فاعله ترك الإشهاد فلما لم ينقل عنهم الإشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب والإشهاد في الديون والبياعات غير واجبين وقوله تعالى فاكتبوه مخاطبة لمن جرى ذكره في أول الآية وهو يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين فإنما أمر بذلك للمتداينين فإن قيل ما وجه قوله تعالى بدين والتداين لا يكون إلا بدين قيل له

لأن قوله تعالى تداينتم لفظ مشترك يحتمل أن يكون من الدين الذي هو الجزاء كقوله تعالى مالك يوم الدين يعني يوم الجزاء فيكون بمعنى تجازيتم فأزال الإشتراك عن اللفظ بقوله تعالى بدين وقصره على المعاملة بالدين وجائز أن يكون على جهة التأكيد وتمكين المعنى في النفس وقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ينتظم سائر عقود المداينات التي يصح فيها الآجال ولا دلالة فيه على جواز التأجيل في سائر الديون لأن الآية ليس فيها بيان جواز التأجيل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا كان دينا مؤجلا ثم يحتاج أن يعلم بدلالة أخرى جواز التأجيل في الدين وامتناعه ألا ترى أنها لم تقتض جواز دخول الأجل على الدين بالدين حتى يكونا جميعا مؤجلين وهو بمنزلة قوله من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم لا دلالة فيه على جواز السلم في سائر المكيلات والموزونات بالآجال المعلومة وإنما ينبغي أن يثبت جوازه في المكيل والموزون المعلوم الجنس والنوع والصفة بدلالة أخرى وإذا ثبت أنه مما يجوز السلم فيه احتجنا بعد ذلك إلى أن نسلم فيه إلى أجل معلوم وكما تدل الآية على جواز عقود المداينات ولم يصح الاستدلال بعمومهما في إجازة سائر عقود المداينات لأن الآية إنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صحت المداينة كذلك لا تدل على جواز شرط الأجل في سائر الديون وإنما فيها الأمر بالإشهاد إذا صح الدين والتأجيل فيه وقد احتج بعضهم في جواز التأجيل في القرض بهذه الآية إذ لا تفرق بين القرض وسائر عقود المداينات وقد علمنا أن القرض مما شمله الاسم وليس ذلك عندنا كما ذكر لأنه لا دلالة فيها على جواز كل دين ولا على جواز التأجيل في جميعها وإنما فيها الأمر بالإشهاد على دين قد ثبت فيه التأجيل لاستحالة أن يكون المراد به الإشهاد على مالم يثبت من الديون ولا من الآجال فوجب أن يكون مراده إذا تداينتم بدين قد ثبت فيه التأجيل فاكتبوه فالمستدل به على جواز تأجيل القرض مغفل في استدلاله ومما يدل على أن القرض لم يدخل فيه أن قوله تعالى إذا تداينتم بدين قد اقتضى عقد المداينة وليس القرض بعقد مداينة إذ لا يصير دينا بالعقد دون القبض فوجب أن يكون القرض خارجا منه قال أبو بكر وقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قد اشتمل على كل دين ثابت مؤجل سواء كان بدله عينا أو دينا فمن اشترى دارا أو عبدا بألف درهم إلى أجل كان

مأمورا بالكتاب والإشهاد بمقتضى الآية وقد دلت الآية على أنها مقصورة في دين مؤجل في أحد البدلين لا فيهما جميعا لأنه تعالى قال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ولم يقل بدينين فإنما أثبت الأجل في أحد البدلين فغير جائز وجود الأجل في البدلين جميعا وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن الدين بالدين وأما إذا كانا دينين بالعقد فهذا جائز في السلم وفي الصرف إلا أن ذلك مقصور على المجلس ولا يمتنع أن يكون السلم مرادا بالآية لأن التأجيل في أحد البدلين وهو السلم وقد أمر الله تعالى بالإشهاد على عقد مداينة موجب لدين مؤجل وقد روى قتادة عن أبي حسان عن ابن عباس قال أشهد أن السلم المؤجل في كتاب الله وأنزل فيه أطول آية في كتاب الله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه فأخبر ابن عباس أن السلم المؤجل مما انطوى تحت عموم الآية وعلى هذا كل دين ثابت مؤجل فهو مراد بالآية سواء كان من إبدال المنافع أو الأعيان نحو الأجرة المؤجلة في عقود الإجارات والمهر إذا كان مؤجلا وكذلك الخلع والصلح من دم العمد والكتابة المؤجلة لأن هذه ديون مؤجلة ثابتة بعقد مداينة وقد بينا أن الآية إنما اقتضت هذا الحكم في أحد البدلين إذا كان مؤجلا لا فيهما لأنه قال إذا تداينتم بدين إلى أجل فكل عقد انتظمه الآية فهو العقد الذي ثبت به دين مؤجل ولم تفرق بين أن يكون ذلك الدين بدلا من منافع أو أعيان فوجب أن يكون جميع المندوب إليه من الكتاب والإشهاد مرادا بها هذه العقود كلها وأن ما يكون ما ذكر من عدد الشهود وأوصاف الشهادة معتبرا في سائرها إذ ليس في اللفظ تخصيص شيء منه دون غيره فيوجب ذلك جواز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح إذا كان المهر دينا مؤجلا وفي الخلع والإجارة والصلح من دم العمد وسائر ما كان هذا وصفه وغير جائز الاقتصار بهذه الأحكام على بعض الديون المؤجلة دون بعض مع شمول الآية لجميعها وقوله تعالى إلى أجل مسمى يعني معلوما وقد روي ذلك عن جماعة من السلف وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم وقوله تعالى وليكتب بينكم كاتب بالعدل فيه أمر لمن تولى كتابة الوثائق بين الناس أن يكتبها بالعدل بينهم والكتاب وإن لم يكن حتما فإن سبيله إذا كتب أن يكتب على حد العدل والاحتياط والتوثق من الأمور التي من أجلها يكتب الكتاب بأن يكون شرطا صحيحا جائزا على ما توجبه الشريعة

وتقضينه وعليه التحرز من العبارات المحتملة للمعاني وتجنب الألفاظ المشتركة وتحري تحقيق المعاني بألفاظ مبينة خارجة عن حد الشركة والاحتمال والتحرز من خلاف الفقهاء ما أمكن حتى يحصل للمداينين معنى الوثيقة والاحتياط المأمور بهما في الآية ولذلك قال تعالى عقيب الأمر بالكتاب ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله يعني والله أعلم ما بينه من أحكام العقود الصحيحة والمداينات الثابتة الجائزة لكي يحصل لكل وحد من المتداينين ما قصد من تصحيح عقد المداينة ولأن الكاتب بذلك إذا كان جاهلا بالحكم لا يأمن أن يكتب ما يفسد عليهما ما قصداه ويبطل ما تعاقداه والكتاب وإن لم يكن حتما وكان ندبا وإرشادا إلى الأحوط فإنه متى كتب فواجب أن يكون على هذه الشريطة كما قال عز و جل إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فانتظم ذلك صلاة الفرض والنفل غير واجب عليه ولكنه متى قصد فعلها وهو محدث فعليه أن لا يفعلها إلا بشرائطها من الطهارة وسائر أركانها وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم - من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم والسلم ليس بواجب ولكنه متى أراد أن يسلم مفعليه استيفاء الشرائط فكذلك كتاب الدين والإشهاد ليس بواجبين ولكنه متى كتب فعلى الكاتب أن يكتبه على الوجه الذي أمره الله تعالى به وأن يستوفي فيه شروط صحته ليحصل المعنى المقصود بكتابته وقد اختلف السلف في لزوم الكاتب الكتابة فروي عن الشعبي أنه قال هو واجب على الكفاية كالجهاد ونحوه وقال السدي واجب على الكاتب في حال فراغه وقال عطاء ومجاهد هو واجب وقال الضحاك نسختها ولا يضار كاتب ولا شهيد قال أبو بكر قد بينا أن الكتاب غير واجب في الأصل على المتداينين فكيف يكون واجبا على الأجنبي الذي لا حكم له في هذا لعقد ولا سبب له فيه وعسى أن يكون من رآه واجبا إلى أن الأصل واجب فكذلك على من يحسن الكتابة أن يقوم بها لمن يجب ذلك عليه والأصل وإن لم يكن واجبا عندنا فإن المتداينين متى قصدا إلى ما ندبهما إليه من الإستيثاق بالكتاب ولم يكونا عالمين بذلك فإنه فرض على من علم ذلك أن يبينه لهما وليس عليه أن يكتبه ولكن يبينه حتى يكتباه أو يكتبه لهما أجير أو متبرع بإملاء من يعلمه كما لو أراد إنسان أن يصوم صوما تطوعا أو يصلي صلاة تعرف أحكامهما كان على العالم بذلك إذا سئل أن يبينه لسائله وإن لم تكن هذه الصلاة والصوم فرضا لأن على العلماء بيان النوافل

والمندوب إليه إذا سألوا عنها كما أن عليهم بيان الفروض وقد كان على النبي صلى الله عليه وسلم - بيان النوافل والمندوب إليه كما أن عليه بيان الفروض قال الله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وقال تعالى لتبين للناس ما نزل إليهم وفيما أنزل الله على نبيه أحكام النوافل فكان عليه بيانها لأمته كبيان ا لفروض وقد نقلت الأمة عن نبيها ص - بيان المندوب إليه كما نقلت عنه بيان الفروض وإذا كان كذلك فعلى من علم علما من فرض أو نفل ثم سئل عنه أن يبينه لسائله وقال الله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار فعلى هذا الوجه يلزم من عرف الوثائق والشروط بيانها لسائلها على حسب ما يلزمه بيان سائر علوم الدين والشريعة وهذا فرض لازم للناس على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين فأما أن يلزمه أن يتولى الكتابة بيده فهذا ما لا أعلم أحدا يقوله اللهم إلا أن لا يوجد من يكتبه فغير ممتنع أن يقول قائل عليه كتبه ولو كان كتب الكتاب فرضا على الكاتب لما كان الإستيجار يجوز عليه لأن الإستيجار على فعل الفروض باطل لا يصح فلما لم يختلف الفقهاء في جواز أخذ الأجرة على كتب كتاب الوثيقة دل ذلك على أن كتبه ليس بفرض لا على الكفاية ولا على التعيين قوله تعالى ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله نهي للكاتب أن يكتب على خلاف العدل الذي أمر الله به وهذا النهي على الوجوب إذا كان المراد به كتبه على خلاف ما توجبه أحكام الشرع كما تقول لا تصل النفل على غير طهارة ولا غير مستور العورة ليس ذلك أمرا بالصلاة النافلة ولا نهيا عن فعلها مطلقا وإنما هو نهي عن فعلها على غير شرائطها المشروطة لها وكذلك قوله تعالى ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب هو نهي عن كتبه على خلاف الجائز منه إذ ليست الكتابة في الأصل واجبة عليه ألا ترى أن قول القائل لا تاب أن تصلي النافة بطهارة وستر العورة ليس فيه إيجاب منه للنافلة فكذلك ما وصفنا وقوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فيه إثبات إقرار الذي عليه الحق وإجازة ما أقربه وإلزامه إياه لأنه لولا جواز إقراره إذا أقر ولم يكن إملاء الذي عليه الحق بأولى من إملاء غيره من الناس فقد تضمن ذلك جواز إقرار كل مقر بحق عليه وقوله عز و جل وليتق الله

ربه ولا يبخس منه شيئا يدل على أن كل من أقر بشيء لغيره فالقول قوله فيه لأن البخس هو النقص فلما وعظه الله تعالى في ترك البخس دل ذلك على أنه إذا بخس كان قوله مقبولا وهو نظير قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لما وعظهن في الكتمان دل على أن المرجع فيه إلى قولهن وكقوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه قد دل ذلك أنهم متى كتموها كان القول قولهم فيها وكذلك وعظه الذي عليه الحق في ترك البخس دليل على أن المرجع إلى قوله فيما عليه وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم - بمثل ما دل عليه الكتاب وهو قوله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فجعل القول من ادعى عليه دون المدعي وأوجب عليه اليمين وهو معنى قوله تعالى ولا يبخس منه شيئا في إيجاب الرجوع إلى قوله واحتج بعضهم بهذه الآية على أن القول قول المطلوب في الأجل لأن الله رد الإملاء إليه ووعظه في البخس وهو النقصان ويستحيل وعظ المطلوب في بخس الأجل ونقصانه وهو لو أسقط الأجل كله بعد ثبوته لبطل كما لا يوعظ الطالب في نقصان ماله إذ لو أبرأه من جميعه لصحت براءته فلما كان ذلك كذلك علمنا أن المراد بالبخس في مقدار الديون لا في الأجل فليس إذا في الآية دليل على أن القول قول المطلوب في الأجل فإن قيل إثبات الأجل في المال يوجب نقصانه فلما كان القول قول المطلوب في نقصان المال ومقداره وجب أن يكون القول قوله في الأجل لما فيه من بخس المال ونقصانه إذ قد تضمنت الآية تصديقه في بخسه والجنس تارة يكون بنقصان المقدار وتارة بنقصان الصفة من أجل رداءة في المقربه قيل له لما قال تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا اقتضى ذلك النهي عن بخس الحق نفسه فكان تقديره ولا يخنس من الدين شيئا ومدعي الأجل غير باخس من الدين ولا ناقص له إذ كان بخس الدين هو نقصان مقداره وليس الأجل هو الدين ولا بعضه وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآية على تصديقه على دعوى الأجل ويدلك على أن الأجل ليس من الدين إن الدين قد يحل ويبطل الأجل ويكون هو ذلك الدين وقد يسقط الأجل ويعجل الدين فيكون الذي عجل هو الدين الذي كان مؤجلا وإذا كان ذلك كذلك ثم قال تعالى ولا يبخس منه شيئا يعني من الدين شيئا لم يتناول ذلك

الأجل ولم يدل عليه ومن جهة أخرى أن الأجل إنما يوجب نقصا فيه من طريق الحكم لأن المقبوض بعد الأجل وقبله إذا كان على صفة واحدة فقد علمت أنه لا تأثير له في نقصان المقبوض وإنما يقال أنه نقص فيه من طريق الحكم على المجاز لا على الحقيقة وقد تناولت الآية البخس الذي هو حقيقة وهو نقصان المقدار ونقصانه في نفسه من ردائة أو غبن أو غيرها نحو إقراره بالدرهم السود والحنطة الردية فإن ذلك كله بخس من جهة الحقيقة لاختلاف صفات المقبوض عنه فلم يجز أن يتناول بعض الأجل الذي ليس بحقيقة فيه بل هو مجاز لأن اللفظ متى أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه وفي هذه الآية دلالة على أن القول قول الطالب في الأجل لأنه ابتدأ الخطاب بقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم اقتضى ذلك الإشهاد على المتداينين جميعا إذا كان المال مؤجلا فلو كان القول قول المطلوب في الأجل لما احتيج إلى الإشهاد به على الطالب وفي وجوب الإشهاد على الطالب بالتأجيل دلالة على أن القول قوله وأن المطلوب غير مصدق عليه إذ لو كان مصدقا فيه لما بقي للإشهاد على الطالب موضع ولا معنى فإن قال قائل إنما حكم الإشهاد مقصور على المطلوب دون الطالب قيل له هذا خلاف مقتضى الآية لأنه قال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ثم عطف عليه قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم فخاطب المتداينين جميعا وأمرهما بالاستشهاد فلو جاز لقائل أن يقول إن المطلوب مخصوص به لجاز الآخر أن يقول هو مقصور على الطالب دون المطلوب فلما لم يصح ذلك وجب بظاهر الآية أن يكون الإشهاد عليهما جميعا وأن يكونا مندوبين إليه وإذا ثبت ذلك لم يكن للإشهاد على الطالب بالدين المؤجل حكم لأنه مقبول القول في نفيه دل ذلك على أن المرجع إلى قوله في الأجل وإنما جعل الله الإملاء إلى المطلوب إذا أحسن ذلك وإن كان لو أملى غيره وأقر المطلوب به جاز لأنه أثبت في الإقرار وأذكر للشهود متى أرادوا أن يتذكروا الشهادة وكان الإملاء سببا للاستذكار كما أمر باستشهاد امرأتين لتذكر إحداهما الأخرى والله تعالى أعلم
باب

الحجر على السفيه
قال الله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو

فليملل وليه بالعدل قد احتج كل فريق من موجبي الحجر على السفيه ومن مبطليه بهذه الآية فاحتج مثبتوا الحجر للسفيه بقوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل فأجاز لولي السفيه الإملاء عنه واحتج مبطلو الحجر بما في مضمون الآية من جواز مداينة السفيه بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا فأجاز مداينة السفيه وحكم بصحة إقراره في مداينته وإنما خالف بينه وبين غيره في إملاء الكتاب لقصور فهمه عن استيفاء ماله وعليه مما يقتضيه شرط الوثيقة وقالوا إن قوله تعالى فليملل وليه بالعدل إنما المراد به ولي الدين وقد روي ذلك عن جماعة من السلف قالوا وغير جائز أن يكون المراد به ولي السفيه على معنى الحجر عليه وإقراره بالدين عليه لأن إقرار ولي المحجور عليه غير جائز عليه عند أحد فعلمنا أن المراد ولي الدين فأمر بإملاءالكتاب حتى يقر به المطلوب الذي عليه الدين قال أبو بكر اختلف السلف في السفيه المراد بالآية فقال قائلون منهم هو الصبي وروي ذلك عن الحسن في قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم قال الصبي والمرأة وقال مجاهد النساء وقال الشعبي لا تعطى الجارية مالها وإن قرأت القرآن والتوراة وهذا محمول على التي لا تقوم بحفظ المال لأنه لا خلاف أنها إذا كانت ضابطة لأمرها حافظة لمالها دفع إليها إذا كانت بالغا قد دخل بها زوجها وقد روي عن عمر أنه قال لا تجوز لامرأة مملكة عطية حتى تحيل في بيت زوجها حولا أو تلد بطنا وروي عن الحسن مثله وقال أبو الشعثاء لا تجوز لامرأة عطية حتى تلد أو يؤنس رشدها وعن إبراهيم مثله وهذا كله محمول على أنه لم يؤنس رشدها لأنه لا خلاف أن هذا ليس بحد في استحقاق دفع المال إليها لأنها لو أحالت حولا في بيت زوجها وولدت بطونا وهي غير مؤنسة للرشد ولا ضابطة لأمرها لم يدفع إليها مالها فعلمنا أنهم إنما ارادوا ذلك فيمن لم يؤنس رشدها وقد ذكر الله تعالى السفه في مواضع منها ما أراد به السفه في الدين وهو الجهل به في قوله تعالى ألا إنهم هم السفهاء وقوله تعالى سيقول السفهاء من الناس فهذا هو السفه في الدين وهو الجهل والخفة وقال تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم فمن الناس من تأوله على أموالهم كما قال تعالى ولا تقتلوا أنفسكم يعني لا يقتل بعضكم بعضا وقال تعالى فاقتلوا أنفسكم والمعنى

ليقتل بعضكم بعضا وهذا الذي ذكره هذا القائل عدول عن حقيقة اللفظ وظاهره بغير دلالة لأن قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم يشتمل على فريقين من الناس كل واحد منهما مميز في اللفظ من الآخر وأحد الفريقين هم المخاطبون بقوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم والفريق الآخر السفهاء المذكورون معهم فلما قال تعالى أموالكم وجب أن ينصرف ذلك إلى أموال المخاطبين دون السفهاء وغير جائز أن يكون المراد السفهاء لأن السفهاء لم يتوجه الخطاب إليهم بشيء وإنما توجه إلى العقلاء المخاطبين وليس ذلك كقوله تعالى فاقتلوا أنفسكم وقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم لأن القاتلين والمقتولين قد انتظمهم خطاب واحد لم يتميز أحد الفريقين من الآخر في حكم المخاطبة فلذلك جاز أن يكون المراد فليقتل بعضكم بعضا وقد قيل إن أصل السفه الخفة ومن ذلك قول الشاعر ... مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم ... يعني استخفتها الرياح وقال آخر ... نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنحمل الدهر مع الحامل ... أي تخف أحلامنا ويسمى الجاهل سفيها لأنه خفيف العقل ناقصه فمعنى الجهل شامل لجميع من أطلق اسم السفيه والسفيه في أمر الدين هو الجاهل فيه والسفيه في المال هو الجاهل لحفظه وتدبيره والنساء والصبيان أطلق عليهم اسم السفهاء لجهلهم ونقصان تمييزهم والسفيه في رأيه الجاهل فيه والبذيء اللسان يسمى سفيها لأنه لا يكاد يتفق إلا في جهال الناس ومن كان خفيف العقل منهم وإذا كان اسم السفيه ينتظم هذه الوجوه رجعنا إلى مقتضى لفظ الآية في قوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها فاحتمل أن يريد به الجهل بإملاء الشرط وإن كان عاقلا مميزا غير مبذر ولا مفسد وأجاز لولي الحق أن يمليه حتى يقر به السفيه الذي عليه الحق ويكون ذلك أولى بمعنى الآية لأن الذي عليه الحق هو المذكور في أول الآية بالمداينة ولو كان محجورا عليه لما جازت مداينته ومن جهة أخرى أن ولي المحجور عليه لا يجوز إقراره عليه بالدين وإنما يجوز على قول من يرى الحجر أن يتصرف عليه القاضي ببيع أو شرى فأما وليه فلا نعلم أحدا يجيز تصرف أوليائه عليه ولا إقرارهم وفي ذلك دليل على أنه لم يرد ولي السفيه وإنما أراد ولي الدين

وقد روي ذلك عن الربيع بن أنس وقاله الفراء أيضا وأما قوله أو ضعيفا فقد قيل فيه الضعيف في عقله أو الصبي المأذون له لأن ابتداء الآية قد اقتضى أن يكون الذي عليه الحق جائز المداينة والتصرف فأجاز تصرف هؤلاء كلهم فلما بلغ إلى حال إملاء الكتاب والإشهاد ذكر من لا يكمل لذلك إما لجهل بالشروط أو لضعف عقل لا يحسن معه الإملاء وإن لم يوجب نقصان عقله حجرا عليه وإما لصغر أو لخوف وكبر سن لأن قوله تعالى أو ضعيفا محتمل للأمرين جميعا وينتظمهما وذكر معهما من لا يستطيع أن يمل هو إما لمرض أو كبر سن انفلت لسانه عن الإملاء أو لخرس ذلك كله محتمل وجائز أن تكون هذه الوجوه مرادة لله تعالى لاحتمال اللفظ لها وليس في شيء منها دلالة على أن السفيه يستحق الحجر وأيضا فلو

كان
بعض من يلحقه اسم السفيه يستحق الحجر لم يصح الاستدلال بهذه الآية في إثبات الحجر وذلك لأنه قد ثبت أن السفيه لفظ مشترك ينطوي تحته معان مختلفة منها ما ذكرنا من السفه في الدين وذلك لا يستحق به الحجر لأن الكفار والمنافقين سفهاء وهم غير مستحقين للحجر في أموالهم ومنها السفه الذي هو البذاء والتسرع إلى سوء اللفظ وقد يكون السفيه بهذا الضرب من السفه مصلحا لماله غير مفسده ولا مبذره وقال تعالى إلا من سفه نفسه قال أبو عبيدة يريد أهلكها وأوبقها وروي عن عبدالله بن عمر حين قال للنبي ص - إني أحب أن يكون رأسي دهينا وقميصي غسيلا وشراك نعلي جديدا أفمن الكبر هو يا رسول الله قال لا إنما الكبر من سفه الحق وغمص الناس وهذا يشبه أن يريد من جهل الحق لأن الجهل يسمى سفها والله تعالى أعلم
ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في الحجر على ا لسفيه
كان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرى الحجر على الحر البالغ العاقل لا لسفه ولا لتبذير ولا لدين وإفلاس وإن حجر عليه القاضي ثم أقر بدين أو تصرف في ماله ببيع أو هبة أو غيرهما جاز تصرفه وإن لم يؤنس منه رشد فكان فاسدا ويحال بينه وبين ماله ومع ذلك إن أقر به لإنسان أو باعه جاز ما صنع من ذلك وإنما يمنع من ماله مالم يبلغ خمسة وعشرين سنة فإذا بلغها دفع إليه ماله وإن لم يؤنس منه رشد وقول عبيدالله بن الحسن في الحجر كقول أبي حنيفة وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال لا يحجر على حر وروى ابن

عون عن محمد بن سيرين قال لا يحجر على حر إنما يحجر على العبد وعن الحسن البصري مثل ذلك وقال أبو يوسف إذا كان سفيها حجرت عليه وإذا فلسته وحبسته حجرت عليه ولم أجز بيعه ولا شراءه ولا إقراره بدين إلا ببينة تشهد به عليه أنه كان قبل الحجر وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران عن ابن سماعة عن محمد في الحجر بمثل قول أبي يوسف فيه ويزيد عليه أنه إذا صار في الحال التي يستحق معها الحجر صار محجورا عليه حجر القاضي عليه مع ذلك أو لم يحجر وكان أبو يوسف يقول لا يكون محجورا عليه بحدوث هذه الأحوال فيه حتى يحجر القاضي عليه فيكون بذلك محجورا عليه وقال محمد إذا بلغ ولم يؤنس منه رشد لم يدفع إليه ماله ولم يجز بيعه ولا هبته وكان بمنزلة من لم يبلغ فما باع أو اشترى نظر الحاكم فيه فإن رأى إجازته أجازه وهو مالم يؤنس منه رشد بمنزلة الصبي الذي لم يبلغ إلا أنه يجوز لوصي الأب أن يشتري ويبيع على الذي لم يبلغ ولا يجوز أن يبيع ويشتري على الذي بلغ إلا بأمر الحاكم وذكر ابن عبدالحكم وابن القاسم عن مالك قال ومن أراد الحجر على موليه فليحجر عليه عند السلطان حتى يوقفه للناس ويسمع منه في مجلسه ويشهد على ذلك ويرد بعد ذلك ما بويع وما أدان به السفيه فلا يلحقه ذلك إذا صلحت حاله وهو مخالف للعبد وإن مات المولى عليه وقد أدان فلا يقضي عنه وهو في موته بمنزلته في حياته إلا أن يوصي بذلك في ثلاثة فيكون ذلك له وإذا بلغ الولد فله أن يخرج عن أبيه وإن كان أبوه شيخا ضعيفا إلا أن يكون الإبن مولى عليه أو سفيها أو ضعيفا في عقله فلا يكون له ذلك وقال الفريابي عن الثوري في قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم قال العقل والحفظ لماله وكان يقوله إذا اجتمع فيه خصلتان إذا بلغ الحلم وكان حافظا لماله لا يخدع عنه وحكى المزني عن الشافعي في مختصره قال وإنما أمر الله بدفع أموال اليتامى بأمرين لم يدفع إلا بهما وهما البلوغ والرشد والرشد الصلاح في الدين بكون الشهادة جائزة مع إصلاح المال والمرأة إذا أونس منها الرشد دفع إليها مالها تزوجت أو لم تتزوج كالغلام نكح أو لم ينكح لأن الله تعالى سوى بينهما ولم يذكر تزويجا وإذا حجر عليه الإمام في سفهه وإفساده ماله أشهد على ذلك فمن بايعه بعد الحجر فهو المتلف لماله ومتى أطلق عنه الحجر ثم عاد إلى حال الحجر حجر عليه ومتى رجع إلى حال الإطلاق

أطلق عنه قال أبو بكر قد بينا ما احتج به كل فريق من مبطلي الحجر ومن مثبتيه من دلالة آية الدين وقد بينا أن الأظهر من دلالتها بطلان الحجر وجواز التصرف واحتج مثبتوا الحجر بما روى هشام بن عروة عن أبيه أن عبدالله بن جعفر أتى الزبير فقال إني ابتعت بيعا ثم أن عليا يريد أن يحجر علي فقال الزبير فإني شريكك في البيع فأتى على عثمان فسأله أن يحجر على عبدالله بن جعفر فقال الزبير أنا شريكه في هذا البيع فقال عثمان كيف أحجر على رجل شريكه الزبير قالوا فهذا يدل على أنهم جميعا وقد رأوا الحجر جائزا ومشاركة الزبير ليدفع الحجر عنه وكان ذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف ظهر من غيرهم عليهم قال أبو بكر لا دلالة في ذلك على أن الزبير رأى الحجر وإنما يدل ذلك على تسويغه لعثمان الحجر وليس فيه ما يدل على موافقته إياه فيه وذلك لأن هذا حكم سائر المسائل المختلف فيها من مسائل الاجتهاد وأيضا فإن الحجر على وجهين أحدهما الحجر في منع التصرف والإقرار والآخر في المنع من المال وجائز أن يكون الحجر الذي رآه عثمان وعلي هو المنع من ماله لأنه جائز أن يكون سن عبدالله بن جعفر في ذلك ا لوقت خمسا وعشرين سنة وأبو حنيفة يرى أن لا يدفع إليه ماله قبل بلوغ هذه السن إذا لم يؤنس منه رشد وهذا عبدالله بن جعفر هو من الصحابة وقد أبى الحجر فكيف يدعي فيه اتفاق الصحابة ويحتجون أيضا بما روى الزهري عن عروة عن عائشة أنه بلغها أن ابن الزبير بلغه أنها باعت بعض رباعها فقال لتنتهين وإلا حجرت عليها فبلغها ذلك فقالت لله علي أن لا أكلمه أبدا قالوا فهذا يدل على أن ابن الزبير وعائشة قد رأيا الحجر إلا أنها أنكرت عليه أن تكون هي من أهل الحجر فلولا ذلك لبينت أن الحجر لا يجوز ولردت عليه قوله قال أبو بكر قد ظهر النكير منها في الحجر وهذا يدل على أنها لم تر الحجر جائزا لولا ذلك لما أنكرته إن كان ذلك شيئا يسوغ فيه الاجتهاد وما ظهر منها من النكير يدل على أنها كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر فإن قيل إنما لم تسوغ الاجتهاد في الحجر عليها فأما في الحجر مطلقا فلا ولو كانت لا تسوغ الاجتهاد في جواز الحجر لقالت إن الحجر غير جائز فتكتفي بذلك في إنكارها الحجر عليها قيل له قد أنكرت الحجر على الإطلاق بقولها لله علي أن لا أكلمه أبدا ودعواك أنها أنكرت الحجر عليها خاصة دون إنكارها لأصل الحجر لا دلالة معها ومما يدل على بطلان الحجر ما حدثنا به

محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم -

أنه يخدع في البيع فقال النبي ص
- إذا بايعت فقل لا خلابة فكان الرجل إذا بايع يقول لا خلابة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبدالله الأرزي وإبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي قالا حدثنا عبدالوهاب قال محمد عبدالوهاب بن عطاء قال أخبرني سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
كان يبتاع وفي عقدته ضعف فأتى به أهله نبي الله ص
- فقالوا يا نبي الله أحجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم -
فنهاه عن البيع فقال يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع فقال رسول الله ص
- إن كنت غير تارك البيع فقال هاوها ولا خلابة فذكر في الحديث الأول أنه كان يخدع في البيع فلم يمنع من التصرف ولم يحجر عليه ولو كان الحجر واجبا لما تركه النبي صلى الله عليه وسلم -
والبيع وهو مستحق المنع منه فإن قال قائل فقد قال له النبي ص
- إذا بايعت فقل لا خلابة فإنما أجاز له البيع على شريطة استيفاء البدل من غير مغابنة قيل له فليرض القائلون بالحجر منا على ما رضيه النبي صلى الله عليه وسلم - لهذا السفيه الذي كان يخدع في البيع وليس أحد من الفقهاء يشترط ذلك على السفهاء لا من القائلين بالحجر ولا من نفاته لأن من يرى الحجر يقول يحجر عليه الحاكم ويمنعه من التصرف ولا يرون إطلاق التصرف له مع التقدمة إليه بأن يقول عند البيع لا خلابة ومبطلوا الحجر يجيزون تصرفه على سائر الأحوال فقد ثبت بدلالة هذا الخبر بطلان الحجر على السفيه بعد أن يكون عاقلا وأيضا فإن جازت الثقة به في ضبط هذا الشرط وذكره عند سائر المبايعات فقد تجوز الثقة به في ضبط عقود المبايعات ونفي المغابنات عنها واللفظ الذي في هذا الخبر من قوله إذا بايعت فقل لا خلابة يستقيم على مذهب محمد فإنه يقول إن السفيه إذا بلغ فرفع أمره إلى الحاكم أجاز من عقوده مالم تكن فيه مغابنة وضرر فأما سائر من يرى الحجر فإنه لا يعتبر ذلك قال أبو بكر ويجوز أن يقال إن مذهب محمد أيضا مخالف للأثر لأن محمدا لا يجيز بيع المحجور عليه إلا أن يرفع إلى القاضي فيجيزه فجعله بيعا موقوفا كبيع أجنبي لو باع عليه بغير أمره والنبي صلى الله عليه وسلم - لم يجعل بيع الرجل الذي قال له إذا بايعت فقل لا خلابة موقوفا بل جعله جائزا نافذا إذا قال لا خلابة فصار مذهب مثبتي الحجر مخالفا لهذا الأثر وأما حديث أنس فإنه يحتج به الفريقان جميعا فأما مثبتو

الحجر فإنهم يحتجون بأن أهله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا نبي الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف فلم ينكره عليهم بل نهاه عن البيع ولما قال لا أصبر عن البيع قال إذا بايعت فقل لا خلابة فأطلق له البيع على شريطة نفي التغابن فيه وأما مبطلوه فإنهم يستدلون بأنه لما قال إني لا أصبر عن البيع أطلق له النبي صلى الله عليه وسلم - التصرف وقال له إذا بعت فقل لا خلابة فلو كان الحجر واجبا لما كان قوله لا أصبر عن البيع مزيلا للحجر عنه لأن أحدا من موجبي الحجر لا يرفع الحجر عنه لفقد صبره عن البيع وكما أن الصبي والمجنون المستحقين للحجر عند الجميع لو قالا لا نصبر عن البيع لم يكن هذا القول منهما مزيلا للحجر عنهما ولما قيل لهما إذا بايعتما فقولا لا خلابة وفي إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم -

له التصرف على الشريطة التي ذكرها دلالة على ان الحجر غير واجب وأن نهي
النبي صلى الله عليه وسلم - له بديا عن البيع وقوله فقل لا خلابة على وجه النظر له والإحتياط لماله كما تقول لمن يريد التجارة في البحر أو في طريق مخوف لا تغرر بمالك واحفظه وما جرى مجرى ذلك وليس هذا بحجر وإنما هو مشورة وحسن نظر ومما يدل على بطلان الحجر أنهم لا يختلفون أن السفيه يجوز إقراره بما يوجب الحد والقصاص وذلك مما تسقطه الشبهة فوجب أن يكون إقراره بحقوق الآدميين التي لا تسقطها الشبهة أولى فإن قال قائل المريض جائز الإقرار بما يوجب الحد والقصاص ولا يجوز إقراره ولا هبته إذا كان عليه دين يحيط بماله فليس جواز الإقرار بالحد والقصاص أصلا للإقرار بالمال والتصرف فيه قيل له إن إقرار المريض عندنا بجميع ذلك جائز وإنما نبطله إذا اتصل بمرضه الموت لأن تصرفه مراعى معتبر بالموت فإذا مات صار تصرفه واقعا في حق الغير الذي هو أولى منه به وهم الغرماء والورثة فأما تصرفه في الحال فهو جائز مالم يطرأ الموت ألا ترى أنا لا نفسخ هبته ولا نوجب السعاية على من أعتقه من عبيده حتى يحدث الموت فإقراره بالحد والقصاص والمال غير متفرقين في حال الحياة
ومما يحتج به مثبتو الحجر قوله ولا تبذر تبذيرا وقوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك الآية فإذا كان التبذير مذموما منهيا عنه وجب على الإمام المنع منه وذلك بأن يحجر عليه ويمنعه التصرف في ماله وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم -
عن إضاعة المال يقتضي منعه عن إضاعته بالحجر عليه وهذا لا دلالة فيه على
الحجر لأنا نقول إن التبذير محظور

وينهى فاعله عنه وليس في النهي عن التبذير ما يوجب الحجر لأنه إنما ينبغي أن يمنعه التبذير فأما أن يمنعه من التصرف في ماله ويبطل بياعاته وإقراره وسائر وجوه تصرفه فإن هذا الموضع هو الذي فيه الخلاف بيننا وبين خصومنا وليس في الآية ما يوجب المنع من شيء منه وذلك لأن الإقرار نفسه ليس من التبذير في شيء لأنه لو كان مبذرا لوجب منع سائر المقرين من إقرارهم وكذلك البيع بالمحاباة لا تبذير فيه لأنه لو كان مبذرا لوجب أن ينهى عنه سائر الناس وكذلك الهبة والصدقة وإذا كان كذلك فالذي تقتضيه الآية النهي عن التبذير وذم فاعله فكيف يجوز الاستدلال بها على الحجر في العقود التي لا تبذير فيها وقد يصح الاستدلال لمحمد لأنه يجيز من عقوده مالا محاباة فيه ولا إتلاف لماله إلا أن الذي في الآية إنما هو ذم المبذرين والنهي عن التبذير ومن ينفي الحجر يقول إن التبذير مذموم منهي عن فعله فأما الحجر ومنع التصرف فليس في الاية إيجابه ألا ترى أن الإنسان منهي عن التغرير بماله في البحر وفي الطريق المخوفة ولا يمنعه الحاكم منه على وجه الحجر عليه ولو أن إنسانا ترك نخله وشجره وزرعه لا يسقيها وترك عقاره ودوره لا يعمرها لم يكن للإمام أن يجبره على الإنفاق عليها لئلا يتلف ماله كذلك لا يحجر عليه في عقوده التي يخاف فيها توى ماله وكذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم - عن إضاعة المال لا دلالة فيه على الحجر كما بيناه في التبذير ومما يدل على بطلان الحجر وجواز تصرف المحجور عليه أن العاقل البالغ إذا ظهر منه سفه وتبذير فإن الفقهاء الذي تقدم ذكر أقاويلهم من موجبي الحجر ما خلا محمد بن الحسن يقول إذا حجر عليه القاضي بطل من عقوده وإقراره ما كان بعد الحجر وإذا كان جائز التصرف قبل حجر القاضي فمعنى الحجر حينئذ أني قد أبطلت ما يعقده أو ما يقر به في المستقبل وهذا لا يصح لأن فيه فسخ عقد لم يوجد بعد بمنزلة من قال لرجل كل بيع بعتنيه وعقد عاقدتنيه فقد فسخته أو كل خيار بشريطة لي في البيع فقد أبطلته أو نقول امرأة كل أمر تجعله إلي في المستقبل فقد أبطلته فهذا باطل لا يجوز فسخ العقود الموجودة في المستقبل ومما يلزم أبا يوسف ومحمد في هذا أنهما يجيزان تزويجه بعد الحجر بمهر المثل وفي ذلك إبطال الحجر لأنه إن كان الحجر واجبا لئلا يتلف ماله فإنه قد يصل إلى إتلافه بالتزويج وذلك بأن يتزوج امرأة بمقدار مهر مثلها ثم يطلقها قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ثم لا يزال يفعل ذلك حتى يتلف ماله فليس

إذا في هذا الحجر احتراز من إتلاف المال وأما اشتراط الشافعي في إيناس الرشد واستحقاق دفع المال جواز الشهادة فإنه قول لم يسبقه إليه أحد ويجب على هذا أن لا يجيز إقرارات الفساق عند الحكام على أنفسهم وأن لا يجيز بيوعهم ولا أشريتهم وينبغي للشهود أن لا يشهدوا على بيع من لم تثبت عدالته وأن لا يقبل القاضي من مدع دعواه حتى تثبت عدالته ولا يقبل عليه دعوى المدعى عليه حتى يصح عنده جواز شهادته إذ لا يجوز عنده إقرار من ليس على صفة العدالة وجواز الشهادة ولا عقوده وهو محجور عليه وهذا خلاف الإجماع ولم يزل الناس منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم -

إلى يومنا هذا يتخاصمون في الحقوق فلم يقل النبي ص
- ولا أحد من السلف لا أقبل دعاويكم ولا أسأل أحدا عن دعوى غيره إلا بعد ثبوت عدالته وقد قال الحضرمي الذي خاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه رجل فاجر بحضرته ولم يبطل النبي ص
- خصومته ولا سأل عن حاله وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال الحضرمي يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي
هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم - للحضرمي ألك بينة قال لا قال فلك يمينه فقال يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حالف ليس يتورع من شيء فقال ليس لك منه إلا ذلك فلو كان الفجور يوجب الحجر لسأل ص - عن حاله أو لأبطل خصومته لإقرار الخصم بأنه محجور عليه غير جائز الخصومة ولا خلاف بين الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف في الأملاك ونفاذ العقود والإقرارات والكفر أعظم الفسوق وهو غير موجب للحجر فكيف يوجبه الفسق الذي هو دونه وهذا ما لا خلاف فيه بين الفقهاء أن المسلمين والكفار سواء في جواز التصرف والأملاك ونفاذ العقود
باب الشهود
قوله
عز و جل واستشهدوا شهيدين من رجالكم قال أبو بكر لما كان ابتداء الخطاب للمؤمنين في قوله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل ثم عطف عليه قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم دل ذلك على معنيين أحدهما أن يكون من صفة الشهود لأن الخطاب توجه إليهم بصفة الإيمان ولما قال في نسق الخطاب من رجالكم

كان كقوله من رجال المؤمنين فاقتضى ذاك كون الإيمان شرطا في الشهادة على المسلمين والمعنى الآخر الحرية وذلك لما في فحوى الخطاب من الدلالة من وجهين أحدهما قوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وذلك في الأحرار دون العبيد والدليل عليه أن العبد لا يملك عقود المداينات وإذا أقر بشيء لم يجز إقراره إلا بإذن مولاه والخطاب إنما توجه إلى من يملك ذلك على الإطلاق من غير إذن الغير فدل ذلك على أن من شرط هذه الشهادة الحرية والمعنى الآخر من دلالة الخطاب قوله تعالى من رجالكم فظاهر هذا اللفظ يقتضي الأحرار كقوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم يعني الأحرار ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى والصالحين من عبادكم وإمائكم فلم يدخل العبيد في قوله تعالى منكم وفي ذلك دليل على أن من شرط هذه الشهادة الإسلام والحرية جميعا وأن شهادة العبد غير جائزة لأن أوامر الله تعالى على الوجوب وقد أمر باستشهاد الأحرار فلا يجوز غيرهم وقد روى عن مجاهد في قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم قال الأحرار فإن قيل إن ما ذكرت إنما يدل على أن العبد غير داخل في الآية ولا دلالة فيها على بطلان شهادته قيل له لما ثبت بفحوى خطاب الآية أن المراد بها الأحرار كان قوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم أمرا مقتضيا للإيجاب وكان بمنزلة قوله تعالى واستشهدوا رجلين من الأحرار فغير جائز لأحد إسقاط شرط الحرية لأنه لو جاز ذلك لجاز إسقاط العدد وفي ذلك دليل على أن الآية قد تضمنت بطلان شهادة العبيد واختلف أهل العلم في شهادة العبيد فروى قتادة عن الحسن عن علي قال شهادة الصبي على الصبي والعبد على العبد جائزة وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا عبدالرحمن بن همام قال سمعت قتادة يحدث أن عليا رضي الله عنه كان يستثبت الصبيان في الشهادة وهذا يوهن الحديث الأول وروى حفص بن غياث عن المختار بن فلفل عن أنس قال ما أعلم أحدا رد شهادة العبد وقال عثمان البتي تجوز شهادة العبد لغير سيده وذكر أن ابن شبرمة كان يراها جائزة يأثر ذلك عن شريح وكان ابن أبي ليلى لا يقبل شهادة العبيد وظهرت الخوارج على الكوفة

وهو يتولى القضاء بها فأمروه بقبول شهادة العبيد وبأشياء ذكروها له من آرائهم كان على خلافها فأجابهم إلى امتثالها فأقروه على القضاء فلما كان في الليل ركب راحلته ولحق بمكة ولما جاءت الدولة الهاشمية ردوه إلى ما كان عليه من القضاء على أهل الكوفة وقال الزهري عن سعيد بن المسيب قال قضى عثمان بن عفان أن شهادة المملوك جائزة بعد العتق إذا لم تكن ردت قبل ذلك وروى شعبة عن المغيرة قال كان إبراهيم يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه وروى شعبة أيضا عن يونس عن الحسن مثله وروى عن الحسن أنها لا تجوز وروي عن حفص عن حجاج عن عطاء عن ابن عباس قال لا تجوز شهادة العبد وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة في إحدى الروايتين ومالك والحسن بن صالح والشافعي لا تقبل شهادة العبيد في شيء قال أبو بكر وقد قدمنا ذكر الدلالة من الآية على أن الشهادة المذكورة فيها مخصوصة بالأحرار دون العبيد ومما يدل من الآية على نفي شهادة العبد قوله تعالى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا فقال بعضهم إذا دعي فليشهد وقال بعضهم إذا كان قد أشهد وقال بعضهم هو واجب في الحالين والعبد ممنوع من الإجابة لحق المولى وخدمته وهو لا يملك الإجابة فدل أنه غير مأمور بالشهادة ألا ترى أنه ليس له أن يشتغل عن خدمة مولاه بقراءة الكتاب وإملائه والشهادة ولما لم يدخل في خطاب الحج والجمعة لحق المولى فكذلك الشهادة إذ كانت الشهادة غير متعينة على الشهداء وإنما هي فرض كفاية وفرض الجمعة والحج يتعين على كل أحد في نفسه فلما لم يلزمه فرض الحج والجمعة مع الإمكان لحق المولى فهو أولى أن لا يكون من أهل الشهادة لحق المولى ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى وأقيموا الشهادة لله وقال أيضا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله إلى قوله تعالى ولا تتبعوا الهوى أن تعدلوا فجعل الحاكم شاهدا لله كما جعل سائر الشهود شهداء لله بقوله تعالى وأقيموا الشهادة لله فلما لم يجز أن يكون العبد حاكما لم يجز أن يكون شاهدا إذ كان كل واحد من الحاكم والشاهد به ينفذ الحكم ويثبت ومما يدل على بطلان شهادة العبد قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به نفي القدرة لأن الرق والحرية لا تختلف بهما القدرة فدل على أن مراده نفي حكم أقواله وعقوده وتصرفه وملكه ألا ترى أنه جعل ذلك مثل للأصنام التي كانت تعبدها العرب على وجه المبالغة

في نفي الملك والتصرف وبطلان أحكام أقواله فيما يتعلق بحقوق العباد وقد روي عن ابن عباس أنه استدل بهذه الآية على ا العبد لا يملك الطلاق ولولا احتمال اللفظ لذلك لما تأوله ابن عباس عليه فدل ذلك على أن شهادة العبد كلا شهادة كعقده وإقراره وسائر تصرفاته التي هي من جهة القول فلما كانت شهادة العبد قوله وجب أن ينتفي وجوب حكمه بظاهر الآية ومما يدل على بطلان شهادة العبيدأن الشهادة فرض على الكفاية كالجهاد فلما لم يكن العبد من أهل الخطاب بالجهاد ولو حصره وقاتل لم يسهم له وجب أن لا يكون من أهل الخطاب بالشهادة ومتى شهد لم تقبل شهادته ولم يكن له حكم الشهود كما لم يثبت له حكم وإن شهد القتال في استحقاق السهم ويدل عليه أنه لو كان من أهل الشهادة لوجب أن لو شهد بها فحكم بشهادته ثم رجع عنها أنه يلزمه غرم ما شهد به لأن ذلك من حكم الشهادة كما أن نفاذ الحكم بها إذا أنفذها الحاكم من حكمها فلما لم يجز أن يلزمه الغرم بالرجوع علمنا أنه ليس من أهلها وإن الحكم بشهادته غير جائز وأيضا فإنا وجدنا ميراث الأنثى على النصف من ميراث الذكر وجعلت شهادة امرأتين بشهادة رجل فكانت شهادة المرأة نصف شهادة الرجل وميراثها نصف ميراثه فوجب أن يكون العبد من حيث لم يكن من أهل الميراث رأسا أن لا يكون من أهل الشهادة لأنا وجدنا لنقصان الميراث تأثيرا في نقصان الشهادة فوجب أن يكون نفي الميراث موجبا لنفي الشهادة وما روي عن علي بن أبي طالب في جواز شهادة العبد فإنه لا يصح من طريق النقل ولو صح كان مخصوصا في العبد إذا شهد على العبد ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن العبد والحر سواء فيما تجوز الشهادة فيه فإن قيل لما كان خبر العبد مقبولا إذا رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن رقه مانعا من قبول خبره كذلك لا يمنع من قبول شهادته قيل له ليس الخبر أصلا للشهادة فلا يجوز اعتبارها به ألا ترى أن خبر الواحد مقبول في الأحكام ولا تجوز شهادة الواحد فيها وأنه يقبل فيه فلان عن فلان ولا يقبل في الشهادة إلا على جهة الشهادة على الشهادة وأنه يجوز قبول خبره إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ولا تجوز شهادة الشاهد إلا أن يأتي بلفظ الشهادة والسماع والمعاينة لما يشهد به فإن الرجل والمرأة متساويان في الأخبار مختلفان في الشهادة لأن شهادة امرأتين بشهادة رجل وخبر الرجل والمرأة سواء فلا يجوز الإستدلال بقبول خبر العبد على قبول شهادته قال أبو بكر قال محمد بن الحسن لو أن

حاكما حكم بشهادة عبد ثم رفع إلي أبطلت حكمه لأن ذلك مما أجمع الفقهاء على بطلانه وقد اختلف الفقهاء في شهادة الصبيان فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا تجوز شهادة الصبيان في شيء وهو قول ابن شبرمة والثوري والشافعي وقال ابن أبي ليلى تجوز شهادة بعضهم على بعض وقال مالك تجوز شهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح ولا تجوز على غيرهم وإنما تجوز بينهم في الجراح وحدها قبل أن يتفرقوا ويجيئوا ويعلموا فإن افترقوا فلا شهادة لهم إلا أن يكونوا قد أشهدوا على شهادتهم قبل أن يتفرقوا وإنما تجوز شهادة الأحرار الذكور منهم ولا تجوز شهادة الجواري من الصبيان والأحرار قال أبو بكر روي عن ابن عباس وعثمان وابن الزبير إبطال شهادة الصبيان وروي عن علي إبطال شهادة بعضهم على بعض وعن عطاء مثله وروى عبدالله بن حبيب بن أبي ثابت قال قيل للشعبي إن إياس بن معاوية لا يرى بشهادة الصبيان بأسا فقال الشعبي حدثني مسروق إنه كان عند علي كرم الله وجهه إذا جاءه خمسة غلمة فقالوا كنا ستة نتغاط في الماء فغرق منا غلام فشهد الثلاثة على الإثنين أنهما غرقاه وشهد الإثنان أن الثلاثة غرقوه فجعل على الإثنين ثلاثة أخماس الدية وعلى الثلاثة خمسي الدية إلا أن عبدالله بن حبيب غير مقبول الحديث عند أهل العلم ومع ذلك فإن معنى الحديث مستحيل لا يصدق مثله عن علي رضي الله عنه لأن أولياء الغريق إن ادعوا على أحد الفريقين فقد أكذبوهم في شهادتهم على غيرهم وإن ادعوا عليهم كلهم فهم يكذبون الفريقين جميعا فهذا غير ثابت عن علي كرم الله وجهه ومما يدل على بطلان شهادة الصبيان قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى وذلك خطاب للرجال البالغين لأن الصبيان لا يملكون عقود المداينات وكذلك قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق لم يدخل فيه الصبي لأن إقراره لا يجوز وكذلك قوله وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا لا يصح أن يكون خطابا للصبي لأنه ليس من أهل التكليف فيلحقه الوعيد ثم قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وليس الصبيان من رجالنا ولما كان ابتداء الخطاب بذكر البالغين كان قوله من رجالكم عائدا عليهم ثم قوله ممن ترضون من الشهداء يمنع أيضا جواز شهادة الصبي وكذلك قوله ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا هو نهي وللصبي أن يأبى من إقامة الشهادة وليس للمدعي إحضاره لها ثم قوله ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم

قلبه غير جائز أن يكون خطابا للصغار فلا يلحقهم المأثم بكتمانها ولما لم يجز أن يلحقه ضمان بالرجوع دل على أنه ليس من أهل الشهادة لأن كل من صحت شهادته لزمه الضمان عند الرجوع وأما إجازة شهادتهم في الجراح خاصة وقبل أن يتفرقوا ويجيئوا فإنه تحكم بلا دلالة وتفرقة بين من لا فرق فيه في أثر ولا نظر لأن في الأصول أن كل من جازت شهادته في الجراح فهي جائزة في غيرها وأما اعتبار حالهم قبل أن يتفرقوا وفيجيئوا فإنه لا معنى له لأنه جائز أن يكون هؤلاء الشهود هم الجناة ويكون الذي حملهم على الشهادة الخوف من أن يؤخذوا به وهذا معلوم من عادة الصبيان إذا كان منهم جناية أحالته بها على غيره خوفا من أن يؤخذ بها وأيضا لما شرط الله في الشهادة العدالة وأوعد شاهد الزور ما أوعده به ومنع من قبول شهادة الفساق ومن لا يزع عن الكذب احتياطا لأمر الشهادة فكيف تجوز شهادته من هو غير مأخوذ بكذبه وليس له حاجز يحجزه عن الكذب ولا حياء يردعه ولا مروءة تمنعه وقد يضرب الناس المثل بكذب الصبيان فيقولون هذا أكذب من صبي فكيف يجوز قبول شهادة من هذا حاله فإن كان إنما اعتبر حالهم قبل تفرقهم وقبل أن يعلمهم غيرهم لأنه لا يتعمد الكذب دون تلقين غيره فليس ذلك كما ظن لأنهم يتعمدون الكذب من غير مانع يمنعهم وهم يعرفون الكذب كما يعرفون الصدق إذا كانوا قد بلغوا الحد الذي يقومون بمعنى الشهادة والعبارة عما شهدوا وقد يتعمدون الكذب لأسباب عارضة منها خوفهم من أن تنسب إليهم الجناية أو قصدا للمشهود عليه بالمكروه ومعان غير ذلك معلومة من أحوالهم فليس لأحد أن يحكم لهم بصدق الشهادة قبل أن يتفرقوا كما لا يحكم لهم بذلك بعد التفرق وعلى أنه لو كان كذلك وكان العلم حاصلا بأنهم لا يكذبون ولا يتعمدون لشهادة الزور فينبغي أن تقبل شهادة الإناث كما تقبل شهادة الذكور وتقبل شهادة الواحد كما تقبل شهادة الجماعة فإذا اعتبر العدد في ذلك وما يجب اعتباره في الشهادة من اختصاصها في الجراح بالذكور دون الإناث فواجب أن يستوفى لها سائر شروطها من البلوغ والعدالة ومن حيث أجازوا شهادة بعضهم على بعض فواجب إجازتها على الرجال لأن شهادة بعضهم على بعض ليست بآكد منها على الرجال إذ هم في حكم المسلمين عند قائل هذا القول والله الموفق واختلف في شهادة الأعمى فقال أبو حنيفة ومحمد لا تجوز شهادة الأعمى بحال وروي نحوه عن علي بن أبي طالب رضي الله

عنه وروى عمرو بن عبيد عن الحسن قال لا تجوز شهادة الأعمى بحال وروي عن أشعث مثله إلا أنه قال إلا أن تكون في شي رآه قبل أن يذهب بصره وروى ابن لهيعة عن أبي طعمة عن سعيد بن جبير قال لا تجوز شهادة الأعمى وحدثنا عبدالرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثني حجاج بن جبير بن حازم عن قتادة قال شهد أعمى عند إياس بن معاوية على شهادة فقال له إياس لا نرد شهادتك إلا أن لا تكون عدلا ولكنك أعمى لا تبصر قال فلم يقبلها وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى والشافعي إذا علمه قبل العمى جازت وما علمه في حال العمى لم تجز وقال شريح والشعبي شهادة الأعمى جائزة وقال مالك والليث بن سعد شهادة الأعمى جائزة وإن علمه في حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه وإن شهد على زنا أو حد القذف لم تقبل شهادته والدليل على بطلان شهادة الأعمى ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن محمد بن ميمون البلخي الحافظ قال حدثنا يحيى بن موسى يعرف بخت قال حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول قال حدثنا عبدالله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاوس عن ابن عباس قال سئل ص - عن الشهادة فقال ترى هذه الشمس فاشهد وإلا فدع فجعل من شرط صحة الشهادة معاينة الشاهد لما شهد به والأعمى لا يعاين المشهود عليه فلا تجوز شهادته ومن جهة أخرى أن الأعمى يشهد بالاستدلال فلا تصح شهادته ألا ترى أن الصوت قد يشبه الصوت وإن المتكلم قد يحاكي صوت غيره ونغمته حتى لا يغادر منها شيئا ولا يشك سامعه إذا كان بينه وبينه حجاب أنه المحكي صوته فغير جائز قبول شهادته على الصوت إذ لا يرجع منه إلى يقين وإنما يبنى أمره على غالب الظن وأيضا فإن الشاهد مأخوذ عليه بأن يأتي بلفظ الشهادة ولو عبر بلفظ غير لفظ الشهادة بأن يقول أعلم أو أتيقن لم تقبل شهادته فعلمت أنها حين كانت مخصوصة بهذا اللفظ وهذا اللفظ يقتضي مشاهدة المشهود به ومعاينته فلم تجز شهادة من خرج من هذا الحد وشهد عن غير معاينة فإن قال قائل يجوز للأعمى إقدامه على وطء امرأته إذا عرف صوتها فعلمنا أنه يقين ليس بشك إذ غير جائز لأحد الإقدام على الوطء بالشك قيل له يجوز له الإقدام على وطء امرأته بغالب الظن بأن زفت إليه امرأة وقيل له هذه امرأتك وهو لا يعرفها يحل له وطؤها

وكذلك جائز له قبول هدية جارية بقول الرسول ويجوز له الإقدام على وطئها ولو أخبره مخبر عن زيد بإقرار أو بيع أو قذف لما جاز له إقامة الشهادة على المخبر عنه لأن سبيل الشهادة اليقين والمشاهدة وسائر الأشياء التي ذكرت يجوز فيها استعمال غالب الظن وقبول قول الواحد فليس ذلك إذا أصلا للشهادة وأما إذا استشهد وهو بصير ثم عمي فإنما لم نقبله من قبل أنا قد علمنا أن حال تحمل الشهادة أضعف من حال الأداء والدليل عليه أنه غير جائز أن يتحمل الشهادة وهو كافر أو عبد أو صبي ثم يؤديها وهو حر مسلم بالغ تقبل شهادته ولو أداها وهو صبي أو عبد أو كافر لم تجز فعلمنا أن حال الأداء أولى بالتأكيد من حال التحمل فإذا لم يصح تحمل الأعمى للشهادة وكان العمى مانعا من صحة التحمل وجب أن يمنع صحة الأداء وأيضا لو استشهده وبينه وبينه حائل لما صحت شهادته وكذلك لو أداها وبينهما حائل لم تجز شهادته والعمى حائل بينه وبين المشهود عليه فوجب أن لا تجوز وفرق أبو يوسف بينهما بأن قال يصح أن يتحمل الشهادة بمعاينته ثم يشهد عليه وهو غائب أو ميت فلا يمنع ذلك جوازها فكذلك عمى الشاهد بمنزلة موت المشهود عليه أو غيبته فلا يمنع قبول شهادته والجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أنه إنما يجب اعتبار الشاهد في نفسه فإن كان من أهل الشهادة قبلناها وإن لم يكن من أهل الشهادة لم نقبلها والأعمى قد خرج من أن يكون من أهل الشهادة بعماه فلا اعتبار بغيره وأما الغائب والميت فإن شهادة الشاهد عليهما صحيحة إذ لم يعترض فيه ما يخرجه من أن يكون من أهل الشهادة وغيبة المشهود عليه وموته لا تؤثر في شهادة الشاهد فلذلك جازت شهادته والوجه الآخر أنا لا نجيز الشهادة على الميت والغائب إلا أن يحضر عنه خصم فتقع الشهادة عليه فيقوم حضوره مقام حضور الغائب والميت والأعمى في معنى من يشهد على غير خصم حاضر فلاتصح شهادته فإن احتجوا بقوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى قوله تعالى فاستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله تعالى ممن ترضون من الشهداء والأعمى قد يكون مرضيا وهو من رجالنا الأحرار فظاهر ذلك يقتضي قبول شهادته قيل له ظاهر الآية يدل على أن الأعمى غير مقبول الشهادة لأنه قال واستشهدوا والأعمى لا يصح استشهاده لأن الاستشهاد هو إحضار المشهود عليه ومعاينته إياه وهو غير معاين ولا مشاهد لمن يحضره لأن العمى حائل بينه وبين ذلك كحائط لو كان بينهما فيمنعه ذلك من مشاهدته ولما كانت الشهادة إنما هي مأخوذة

من مشاهدة المشهود عليه ومعاينته على الحال التي تقتضي الشهادة إثبات الحق عليه وكان ذلك معدوما في الأعمى وجب أن تبطل شهادته فهذه الآية لأن تكون دليلا على بطلان شهادته أولى من أن تدل على إجازتها وقال زفر لا تجوز شهادة الأعمى إذا شهد بها قبل العمى أو بعده إلا في النسب أن يشهد أن فلانا ابن فلان قال أبو بكر يشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى أن النسب قد تصح الشهادة عليه بالخبر المستفيض وإن لم يشاهده الشاهد فلذلك جائز إذا تواتر عند الأعمى الخبر بأن فلانا ابن فلان أن يشهد به عند الحاكم وتكون شهادته مقبولة ويستدل على صحة ذلك بأن الأعمى والبصير سواء فيما ثبت حكمه عن الرسول ص - من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين من طريق المعاينة وإنما يسمع أخبارهم فكذلك جائز أن يثبت عنده علم صحة النسب من طريق التواتر وإن لم يشاهد المخبرين فتجوز إقامة الشهادة به وتكون شهادته مقبولة فيه إذ ليس شرط هذه الشهادة معاينة المشهود به واختلف في شهادة البدوي على القروي فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والأوزاعي والشافعي هي جائزة إذا كان عدلا وروي نحوه عن الزهري وروى ابن وهب عن مالك قال لا تجوز شهادة بدوي على قروي إلا في الجراح وقال ابن القاسم عنه لا تجوز شهادة بدوي على قروي في الحضر إلا في وصية القروي في السفر أو في بيع فتجوز إذا كانوا عدولا قال أبو بكر جميع ما ذكرنا من دلائل الآية على قبول شهادة الأحرار البالغين يوجب التسوية بين شهادة القروي والبدوي لأن الخطاب توجه إليهم بذكر الإيمان بقوله يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين وهؤلاء من جملة المؤمنين ثم قال تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم يعني من رجال المؤمنين الأحرار وهذه صفة هؤلاء ثم قال ممن ترضون من الشهداء وإذا كانوا عدولا فهم مرضيون وقال في آية أخرى في شأن الرجعة والفراق واستشهدوا ذوي عدل منكم وهذه الصفة شاملة للجميع إذا كانوا عدولا وفي تخصيص القروي بها دون البدوي ترك العموم بغير دلالة ولم يختلفوا أنهم مرادون بقوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وبقوله ممن ترضون من الشهداء لأنهم يجيزون شهادة البدوي على بدوي مثله على شرط الآية وإذا كانوا مرادين بالآية فقد اقتضت جواز شهادتهم على القروي من حيث اقتضت جواز شهادة بعضهم على بعض ومن حيث اقتضت جواز شهادة القروي على البدوي

فإن احتجوا بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا نافع بن يزيد بن الهادي عن محمد بن عمرو عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية فإن مثل هذا الخبر لا يجوز الإعتراض به على ظاهر القرآن مع أنه ليس فيه ذكر الفرق بين الجراح وبين غيرها ولا بين أن يكون القروي في السفر أو في الحضر فقد خالف المحتج به ما اقتضاه عمومه وقد روى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال شهد أعرابي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - في رؤية الهلال فأمر بلالا ينادي في الناس فليصوموا غدا فقبل شهادته وأمر الناس بالصيام وجائز أن يكون حديث أبي هريرة في أعرابي شهد شهادة عند النبي صلى الله عليه وسلم -

وعلم النبي ص
- خلافها مما يبطل شهادته فأخبر به فنقله الراوي من غير ذكر السبب وجائز أن يكون قاله في الوقت الذي كان الشرك والنفاق غالبين على الأعراب كما قال عز و جل ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر فإنما منع قبول شهادة من هذه صفته من الأعراب وقد وصف الله قوما آخرين من الأعراب بعد هذه الصفة ومدحهم بقوله ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول الآية فمن كانت هذه صفته فهو مرضي عند الله وعند المسلمين مقبول الشهادة ولا يخلو البدوي من أن يكون غير مقبول الشهادة على القروي إما لطعن في دينه أو جهل منه بأحكام الشهادات وما يجوز أداؤها منها مما لا يجوز فإن كان لطعن في دينه فإن هذا غير مختلف في بطلان شهادته ولا يختلف فيه حكم البدوي والقروي وإن كان لجهل منه بأحكام الشهادات فواجب أن لا تقبل شهادته على بدوي مثله وأن لا تقبل شهادته في الجراح ولا على القروي في السفر كما لا تقبل شهادة القروي إذا كان بهذه الصفة ويلزمه أن يقبل شهادة البدوي إذا كان عدلا عالما بأحكام الشهادة على القروي وعلى غيره لزوال المعنى الذي من أجله امتنع من قبول شهادته وأن لا يجعل لزوم سمة البدو إياه والنسبة إليه علة لرد شهادته كما لا تجعل نسبة القروي إلى القرية علة لجواز شهادته إذا كان مجانبا للصفات المشروطة لجواز الشهادة قوله عز و جل فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فقال أبو بكر أوجب بديا استشهاد شهيدين وهما الشاهدان لأن الشهيد والشاهد واحد كما أن

عليم وعالم واحد وقادر وقدير واحد ثم عطف عليه قوله فإن لم يكونا رجلين يعني إن لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان فلا يخلو قوله فإن لم يكونا رجلين من أن يريد به فإن لم يوجد رجلان فرجل وامرأتان كقوله فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا وكقوله فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ثم قال فمن لم يجد فصيام شهرين إلى قوله تعالى فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا وما جرى مجرى ذلك في الأبدال التي أقيمت مقام أصل الفرض عند عدمه أو أن يكون مراده فإن لم يكن الشهيدان رجلين فالشهيدان رجل وامرأتان فأفادنا إثبات هذا الاسم للرجل والمرأتين حتى يعتبر عمومه في جواز شهادتهما مع الرجل في سائر الحقوق إلا ما قام دليله فلما اتفق المسلمون على جواز شهادة رجل وامرأتين مقام رجلين عند عدم الرجلين فثبت الوجه الثاني وهو أنه أراد تسيمة الرجل والمرأتين شهيدين فيكون ذلك اسما شرعيا يجب اعتباره فيما أمرنا فيه باستشهاد شهيدين إلا موضعا قام الدليل عليه فيصح الاستدلال بعمومه في قول النبي صلى الله عليه وسلم -

لا نكاح إلا بولي وشاهدين وإثبات النكاح والحكم بشهادة رجل وامرأتين إذ
قد لحقهم اسم شهدين وقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم - النكاح بشهادة شاهدين وقد اختلف أهل العلم في شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إلا في الحدود ولا في القصاص وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن عبادة قال حدثنا شعبة عن الحجاج بن أرطاة عن عطاء بن أبي رباح أن عمر أجاز شهادة رجل وامرأتين في نكاح وروى جرير بن حازم عن الزبير بن الخريت عن أبي لبيد أن عمر أجاز شهادة النساء في طلاق وروى إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن علي رضي الله عنه قال تجوز شهادة النساء في العقد وروى حجاج عن عطاء أن ابن عمر كان يجيز شهادة النساء مع الرجل في النكاح وروى عن عطاء أنه كان يجيز شهادة النساء في الطلاق وروي عن عون عن الشعبي عن شريح أنه أجاز شهادة رجل وامرأتين في عتق وهو قول الشعبي في الطلاق وروي عن الحسن والضحاك قالا لا تجوز شهادتهن إلا في الدين والولد وقال مالك لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص ولا في الطلاق ولا في النكاح ولا في الأنساب ولا في

الولاء ولا الإحصان وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق وقال الثوري تجوز شهادتهن في كل شيء إلا الحدود وروي عنه أنها لا تجوز في القصاص أيضا وقال الحسن بن حي لا تجوز شهادتهن في الحدود وقال الأوزاعي لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح وقال الليث تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق ولا تجوز في النكاح لا الطلاق ولا الحدود ولا قتل العمد الذي يقاد منه وقال الشافعي لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال ولا يجوز في الوصية إلا الرجل وتجوز في الوصية بالمال قال أبو بكر ظاهر هذه الآية يقتضي جواز شهادتهن مع الرجل في سائر عقود المداينات وهي كل عقد واقع على دين سواء كان بدله مالا أو بضعا أو منفع أو دم عمد لأنه عقد فيه دين إذ المعلوم أنه ليس مراد الآية في قوله تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى أن يكون المعقود عليهما من البدلين دينين لامتناع جواز ذلك إلى أجل مسمى فثبت أن المراد وجود دين عن بدل أي دين كان فاقتضى ذلك جواز شهادة النساء مع الرجل على عقد نكاح فيه مهر مؤجل إذا كان ذلك عقد مداينة وكذلك الصلح من دم العمد والخلع على مال والإجارات فمن ادعى خروج شيء من هذه العقود من ظاهر الآية لم يسلم له ذلك إلا بدلالة إذ كان العموم مقتضيا لجوازها في الجميع ويدل على جواز شهادة النساء في غير الأموال ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن القاسم الجوهري قال حدثنا محمد بن إبراهيم أخو أبي معمر قال حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم - أجاز شهادة القابلة والولادة ليست بمال وأجاز شهادتها عليها فدل ذلك على أن شهادة النساء ليست مخصوصة بالأموال ولا خلاف في جواز شهادة النساء على الولادة وإنما الاختلاف في العدد وأيضا لما ثبت أن اسم الشهيدين واقع في الشرع على الرجل والمرأتين وقد ثبت أن اسم البينة يتناول الشهيدين وجب بعموم قوله البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه القضاء بشهادة الرجل والمرأتين في كل دعوى إذ قد شملهم اسم البينة ألا ترى أنها بينة في الأموال فلما وقع عليها الاسم وجب بحق العموم قبولها لكل مدع إلا أن تقوم الدلالة على تخصيص شيء منه وإنما خصصنا الحدود والقصاص لما روى الزهري قال مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم - والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في القصاص وأيضا لما اتفق الجميع على

قبول شهادتهن مع الرجل في الديون وجب قبولها في كل حق لا تسقطه الشبهة إذا كان الدين حقا لا يسقط بالشبهة ومما يدل على جوازها في غير الأموال من الآية إن الله تعالى قد أجازها في الأجل بقوله إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ثم قال فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان فأجاز شهادتها مع الرجل على الأجل وليس بمال كما أجازها في المال فإن قيل الأجل لا يجب إلا في المال قيل له هذا خطأ لأن الأجل قد يجب في الكفالة بالنفس وفي منافع الأحرار التي ليست بمال وقد يؤجله الحاكم في إقامة البينة على الدم وعلى دعوى العفو منه بمقدار ما يمكن التقدم إليه فقولك إن الأجل لا يجب إلا في المال خطأ ومع ذلك فالبضع لا يستحق إلا بمال ولا يقع النكاح إلا بمال فينبغي أن تجيز فيه شهادة النساء قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء قال أبو بكر لما كانت معرفة ديانات النساس وأماناتهم وعدالتهم إنما هي من طريق الظاهر دون الحقيقة إذا لا يعلم ضمائرهم ولا خبايا أمورهم غير الله تعالى ثم قال الله تعالى فيما أمرنا باعتباره من أمر الشهود ممن ترضون من الشهداء دل ذلك على أن أمر تعديل الشهود موكولا إلى اجتهاد رأينا وما يغلب في ظنوننا من عدالتهم وصلاح طرائقهم وجائز أن يغلب في ظن بعض الناس عدالة شاهد وأمانته فيكون عنه رضى ويغلب في ظن غيره أنه ليس يرضى فقوله ممن ترضون من الشهداء مبني على غالب الظن وأكثر الرأي والذي بني عليه أمر الشهادة أشياء ثلاثة أحدها العدالة والآخر نفي التهمة وإن كان عدلا والثالث التيقظ والحفظ وقلة الغفلة أما العدالة فأصلها الإيمان واجتناب الكبائر ومراعاة حقوق الله عز و جل في الواجبات والمسنونات وصدق اللهجة والأمانة وأن لا يكون محدودا في قذف وأما نفي التهمة فأن لا يكون المشهود له والدا ولا ولدا أو زوجا وزوجة وأن لا يكون قد شهد بهذه الشهادة فردت لتهمة فشهادة هؤلاء غير مقبولة لمن ذكرنا وإن كانوا عدولا مرضين وأما التيقظ والحفظ وقلة الغفلة فأن لا يكون غفولا غير مجرب للأمور فإن مثله ربما لقن الشيء فتلقنه وربما جوز عليه التزوير فشهد به قال ابن رستم عن محمد بن الحسن في رجل أعجمي صوام قوام مغفل يخشى عليه أن يلقن فيأخذ به قال هذا أشر من الفاسق في شهادته وحدثنا عبدالرحمن بن سيما المحبر قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا أسود بن عامر قال حدثنا ابن هلال عن أشعث الحداني قال قال

رجل للحسن يا أبا سعيد إن أياسا رد شهادتي فقام معه إليه فقال يا ملكعان لم رددت شهادته أو ما بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال من استقبل قبلتنا وأكل من ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فقال أيها الشيخ أما سمعت الله يقول ممن ترضون من الشهداء وإن صاحبك هذا ليس برضاه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالوهاب قال حدثنا السري بن عاصم بإسناد ذكره أنه شهد عند أياس بن معاوية رجل من أصحاب الحسن فرد شهادته فبلغ الحسن وقال قوموا بنا إليه قال فجاء إلى إياس فقال يا لكع ترد شهادة رجل مسلم فقال نعم قال الله تعالى ممن ترضون من الشهداء وليس هو ممن أرضى قال فسكت الحسن فقال خصم الشيخ فمن شرط الرضا للشهادة أن يكون الشاهد متيقظا حافظا لما يسمعه متقنا لما يؤديه وقد ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في صفة العدل أشياء منها أنه قال من سلم من الفواحش التي تجب فيها الحدود وما يشبه ما تجب فيه من العظائم وكان يؤدي الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار قبلنا شهادته لأنه لا يسلم عبد من ذنب وإن كانت ذنوبه أكثر من أخلاق البر رددنا شهادته ولا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج يقامر عليها ولا من يلعب بالحمام ويطيرها وكذلك من يكثر الحلف بالكذب لا تجوز شهادته قال وإذا ترك الرجل الصلوات الخمس في الجماعة استخفافا بذلك أو مجانة أو فسقا فلا تجوز شهادته وإن تركها على تأويل وكان عدلا فيما سوى ذلك قبلت شهادته قال وإن داوم على ترك ركعتي الفجر لم تقبل شهادته وإن كان معروفا بالكذب الفاحش لم أقبل شهادته وإن كان لا يعرف بذلك وربما ابتلي بشيء منه والخير فيه أكثر من الشر قبلت شهادته ليس يسلم أحد من الذنوب قال وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وابن أبي ليلى شهادة أهل الأهواء جائزة إذا كانوا عدولا إلا صنفا من الرافضة يقال لهم الخطابية فإنه بلغني أن بعضهم يصدق بعضا فيما يدعي إذا حلف له ويشهد بعضهم لبعض فلذلك أبطلت شهادتهم وقال أبو يوسف أيما رجل أظهر شتيمة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - لم أقبل شهادته لأن رجلا لو كان شتاما للناس والجيران لم أقبل شهادته فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

أعظم حرمة وقال أبو يوسف ألا ترى أن أصحاب رسول الله ص
- قد اختلفوا واقتتلوا وشهادة الفريقين جائزة لأنهم اقتتلوا على تأويل فكذلك أهل الأهواء من المتأولين قال أبو يوسف ومن سألت عنه فقالوا إنا نتهمه بشتم أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإني لا أقبل هذا حتى يقولوا سمعناه يشتم قال فإن قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته والفرق بينهما إن الذين قالوا نتهمه بالشتم قد أثبتوا له الصلاح وقالوا نتهمه بالشتم فلا يقبل هذا إلا بسماع والذين قالوا نتهمه بالفسق والفجور ونظن ذلك به ولم نره فإني أقبل ذلك ولا أجيز شهادته أثبتوا له صلاحا وعدالة وذكر ابن رستم عن محمد أنه قال لا أقبل شهادة الخوارج إذ كانوا قد خرجوا يقاتلون المسلمين وإن شهدوا قال قلت ولم لا تجيز شهادتهم وأنت تجيز شهادة الحرورية قال لأنهم لا يستحلون أموالنا مالم يخرجوا فإذا خرجوا استحلوا أموالنا فتجوز شهادتهم مالم يخرجوا وحدثنا أبو بكر مكرم بن أحمد قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال سمعت محمد بن سماعة يقول سمعت أبا يوسف يقول سمعت أبا حنيفة يقول لا يجب على الحاكم أن يقبل شهادة بخيل فإن البخيل يحمله شدة بخله على التقصي فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن ومن كان كذلك لم يكن عدلا سمعت حماد بن أبي سليمان يقول سمعت إبراهيم يقول قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أيها الناس كونوا وسطا لا تكونوا بخلاء ولا سفلة فإن البخيل والسفلة الذين إن كان عليهم حق لم يؤدوه وإن كان لهم حق استقصوه قال وقال ما من طباع المؤمن التقصي ما استقصى كريم قط قال الله تعالى عرف بعضه وأعرض عن بعض وحدثنا مكرم بن أحمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن المغلس قال سمعت الحماني يقول سمعت ابن المبارك يقول سمعت أبا حنيفة يقول من كان معه بخيل لم تجز شهادته يحمله البخل على التقصي فمن شدة تقصيه يخاف الغبن فيأخذ فوق حقه مخافة الغبن فلا يكون هذا عدلا وقد روي نظير ذلك عن أياس بن معاوية ذكر ابن لهيعة عن أبي الأسود محمد بن عبدالرحمن قال قلت لأياس بن معاوية أخبرت أنك لا تجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء ولا التجار الذين يركبون البحر قال أجل أما الذين يركبون إلى الهند حتى يغرروا بدينهم ويكثروا عدوهم من أجل طمع الدنيا فعرفت أن هؤلاء لو أعطي أحدهما درهمين في شهادة لم يتحرج بعد تغريره بدينه وأما الذين يتجرون في قرى فارس فإنهم يطعمونهم الربا وهم يعلمون فأبيت أن أجيز شهادة آكل الربا وأما الأشراف فإن الشريف بالعراق إذا نابت أحدا منهم نائبة أتى إلى سيد قومه فيشهد له ويشفع فكنت أرسلت إلى عبد الأعلى بن عبدالله بن عامر أن لا يأتيني

بشهادة وقد روي عن السلف رد شهادة قوم ظهر منهم أمور لا يقطع فيها بفسق فاعليها إلا أنها تدل على سخف أو مجون فرأوا رد شهادة أمثالهم منه ما حدثنا عبد الرحمن بن سيما قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثنا محمود بن خداش قال حدثنا زيد بن الحباب قال أخبرني داود بن حاتم البصري أن بلال بن أبي بردة وكان على البصرة كان لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حماد بن محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا يحيى بن سليمان عن ابن جريج أن رجلا كان من أهل مكة شهد عند عمر بن عبدالعزيز وكان ينتف عنفقته ويحفي لحيته وحول شاربيه فقال ما اسمك قال فلان قال بل اسمك ناتف ورد شهادته وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن سعد قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثنا عبدالرحمن بن محمد عن الجعد بن ذكوان قال دعا رجل شاهدا له عند شريح اسمه ربيعة فقال يا ربيعة يا ربيعة فلم يجب فقال يا ربيعة الكويفر فأجاب فقال له قم وقال لصاحبه هات غيره وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثني أبي قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال الأقلف لا تجوز شهادته وروى حماد بن أبي سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة لا تجوز شهادة أصحاب الحمر يعني النخاسين وروي عن شريح أنه كان لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام وروى مسعر أن رجلا شهد عند شريح وهو ضيق كم القبا فرد شهادته وقال كيف يتوضأ وهو على هذه الحال وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا جرير بن حازم عن الأعمش عن تميم بن سلمة قال شهد رجل عند شريح فقال أشهد بشهادة الله فقال شهدت بشهادة الله لا أجيز لك اليوم شهادة قال أبو بكر لما رآه تكلف من ذلك ما ليس عليه لم يره أهلا لقبول شهادته فهذه الأمور التي ذكرناها عن هؤلاء السلف من رد الشهادة من أجلها غير مقطوع فيها بفسق فاعليها ولا سقوط العدالة وإنما دلهم ظاهرها على سخف من هذه حاله فردوا شهادتهم من أجلها لأن كلا منهم تحري موافقة ظاهر قوله تعالى ممن ترضون من الشهداء على حسب ما أداه إليه اجتهاده فمن غلب في ظنه سخف من الشاهد أو مجونه أو استهانته بأمر الدين أسقط شهادته قال محمد في كتاب آداب القاضي من ظهرت منه مجانة لم أقبل شهادته قال ولا تجوز شهادة المخنث

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19