كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

ليس في ملكه ولا له قيمتها لا أنه أوجب عليه أن يطلبها فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب فمن ليس بحضرته ماء ولا هو عالم به فهو غير واجد إذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجز لنا أن نزيد فيه فرض الطلب لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية وذلك غير جائز ويدل عليه أيضا قوله ص -

جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال النبي ص
- التراب طهور المسلم مالم يجد الماء وقال لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت فامسسه جلدك ويدل أيضا على أن الوجود لا يقتضي الطلب أنه قد يكون واجدا لما يحصل عنده من شيء من غير طلب منه من ماء أو غيره فيقال هذا واجد للرقبة إذا كانت عنده وإن لم يطلبها فإن قال قائل ما أنكرت أنه جائز أن يقال إنه واجد لما لم يطالبه ولا يقال إنه غير واجد إلا أن يكون قد طلبه قيل له إذا كان الوجود لا يقتضي الطلب وليس ذلك شرطه فنفى الوجود مثله لأنه ضده فما جاز إطلاقه عليه جاز على عدمه ألا ترى أنه يصح أن يقال هو غير واجد لألف دينار وإن لم يتقدم منه طلب ولو ضاع منه مال جاز أن يقال إنه لم يجده وإن لم يكن منه طلب كما يقال هو واجده وإن لم يطلبه فالوجود ونفيه سواء في أن كل واحد منهما لا يتعلق إطلاق الاسم فيه بالطلب وقد قال الله تعالى وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين فأطلق الوجود في النفي كما أطلقه في الإثبات مع عدم الطلب فيهما فإن قيل لو كان مع رفيق له ماء فلم يطلبه لم يصح تيممه حتى يطلبه فيمنعه وهذا يدل على وجوب الطلب ويؤكده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعبدالله بن مسعود ليلة الجن هل معك ماء فطلبه قيل له أما طلبه من رفيقه فقد روي عن أبي حنيفة أن صلاته جائزة وإن لم يطلبه وأما على قول أبي يوسف ومحمد فإنه لا يجزيه حتى يطلبه فيمنعه وهذا عندنا إذا كان طامعا منه في بذله له وأنه إن لم يطمع في ذلك فليس عليه الطلب ونظيره إن يطمع في ماء موجود بالقرب أو يخبره به مخبر فلا يجوز تيممه لأن غالب الظن في مثله يقوم مقام اليقين كما لو غلب في ظنه أنه إن صار إلى النهر وهو بالقرب منه افترسه سبع أو اعترض له قاطع طريق جاز له أن يتيمم وإن غلب على ظنه السلامة لم يجز له التيمم فليس هذا من قول من يوجب الطلب في شيء وأما حديث عبدالله بن مسعود وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم - إياه الماء وأن النبي صلى الله عليه وسلم -
وجه عليا في طلب الماء فإن فعله ص
- ليس على الوجوب وهو عندنا مستحب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم -
وأيضا لا يخلو الذي

في المفازة وليس بحضرته ماء ولم يطمع فيه من أن يكون واجدا أو غير واجد فإن كان غير واجد جاز تيممه بقوله ولم تجدوا ماء فتيمموا وبقول النبي صلى الله عليه وسلم - التراب طهور المسلم ما لم يجد ماء فإن قيل إذا كان شرط جواز التيمم عدم الماء فواجب أن لا يجزي حتى يتيقن وجود شرطه كما أنه لما كان شرط جواز الصلاة حضور الوقت لم يجزه فعلها إلا بعد حصول اليقين بدخول الوقت قيل له الفصل بنيهما أن الأصل هو عدم الماء في مثل ذلك الموضع وذلك يقين عنده وإنما لا يعلم هل هو موجود في غيره وهل يكون موجودا إن طلب أم لا فليس عليه أن يزول عن اليقين الأول بما لا يعلمه ويشك فيه ووقت الصلاة أيضا كان غير موجود فغير جائز له فعلها بالشك حتى يتيقن وجوده فيهما سواء في هذا الوجه في باب البناء على اليقين الذي كان الأصل فإن قيل قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا فالغسل أبدا واجب وعليه التوصل إليه كيف أمكن فإذا كان قد يمكنه التوصل إليه بالطلب فذلك فرضه قيل له الذي قال فاغسلوا هو الذي قال فلم تجدوا ماء فتيمموا فوجوب الغسل مضمن بوجود الماء وجواز التيمم مضمن بعدمه وهو عادم له في الحال لا محالة وإنما يزعم المخالف أنه جائز أن يكون واجدا عند الطلب فغير جائز ترك ما حصل من شرط إباحة التيمم لما عسى يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون والذي قاله المخالف كان يلزم لو طمع في الماء وغلب على ظنه وجوده وأخبره به مخبر فأما مع فقد ذلك فقد حصل شرط الآية على الوجه الذي يبيح التيمم فغير جائز لأحد إسقاطه وإيجاب اعتبار معنى غيره وإنما قدر أصحابنا أقل من ميل من قبل لزوم استعماله إذا علم بموضعه وغلب في ظنه ولم يوجبوه ذلك في ميل فصاعدا اجتهادا ولأن الميل هو الحد الذي تقدر به المسافات ولا تقدر بأقل منه في العادة فاعتبروه في ذلك دون ما هو أقل منه كما قلنا في اعتبار أبي يوسف الكثير الفحش أنه شبر في شبر لأنه أقل المقادير التي تقدر بها المساحات ولا تقدر في العادة بأقل منه وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر من الماء على غلوتين أو ثلاث فيتيمم ويصلي ولا يميل إليه وعن سعيد بن المسيب في الراعي يكون بينه وبين الماء ميلان أو ثلاثة وتحضره الصلاة أنه يتيمم ويصلي وقال الحسن وابن سيرين لا يتيمم من رجا أن يقدر على الماء في الوقت واختلف فيمن وجد الماء وخاف ذهاب الوقت إن لم يتيمم فقال أصحابنا والثوري

والأوزاعي والشافعي من وجد الماء من مسافر أو مقيم وهو في مصر وهو في آخر الوقت فخاف إن توضأ أن يفوته الوقت لم يجزه إلا الوضوء وقال مالك يجزيه التيمم إذا خاف فوات الوقت وقال الليث بن سعد إذا خاف فوات الوقت إن توضأ يصلي بتيمم ثم أعاد بالوضوء بعد الوقت والأصل فيه قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فأوجب استعمال الماء في حال وجوده ونقله عنه إلى التراب عند عدمه فغير جائز نقله إليه مع وجوده لأنه خلاف الآية وحين أمره الله تعالى بغسل هذه الأعضاء لم يقيده بشرط بقاء الوقت وإدراك فعل الصلاة فيه فهو مطلق في الوقت وبعده وقال الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فمنعه من فعل الصلاة إذا كان جنبا إلا بعد تقديم الغسل ولم يذكر فيه بقاء الوقت ولا غيره ويدل عليه من جهة السنة قوله ص - لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك فمتى كان واجدا فعليه استعمال الماء سواء خاف فوت الوقت أو لم يخف لعموم قوله فاغسلوا ولقوله ص - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فمتى كان وجدا للماء فليس التراب طهورا له فلا تجزيه صلاته ومن جهة النظر أن فرض الطهارة آكد من فرض الوقت بدلالة أنه لا تجز صلاة بغير طهارة وهي جائزة مع فوات الوقت فإن قيل إذا خاف فوت الوقت صلى بتيمم ليدرك فضيلة الوقت قيل له كيف يكون مدركا لفضيلة الوقت وهو غير مصل لأنه صلى بغير طهارة فإن قيل التيمم طهور قيل له إنما هو طهور مع عدم الماء كما قال الله تعالى وكما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم - وأما مع وجوده فليس بطهور فالواجب عليك أن تدل أو لا على أنه طهور مع وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر حتى تبني عليه بعد ذلك مذهبك في أنه مدرك لفضيلة الوقت فإن قال قائل المسافر إنما أبيح له التيمم ليدرك الوقت لا لأجل عدم الماء قيل له لو كان كذلك لما جاز له التيمم في أول الوقت في حال عدم الماء لأنه غير خائف فوت الوقت وفي اتفاق الجميع على جواز تيممه في أول الوقت دلالة على أن شرط جواز التيمم ليس هو لأجل فوت الوقت فإن قال لو كان شرط التيمم عدم الماء لما جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن يتيمم مع وجود الماء قيل له إنما قلنا بجوازه لأن الوجود هو إمكان استعماله بلا ضرر ولا مشقة لأن الله قد ذكر المريض والمسافر فعدم الماء على الإطلاق شرط وخوف الضرر

باستعماله أيضا شطر وأنت لم تلجأ في اعتبارك الوقت لا إلى آية ولا إلى أثر بل الكتاب والأثر يقضيان بطلان قولك فإن قيل لما جازت الصلاة في حال الخوف مع الاختلاف والمشي إلى غير القبلة وراكبا لأجل إدراك الوقت دل على وجوب اعتبار الوقت في جوازها بالتيمم إذا خاف فوته قيل له إنما أبيحت صلاة الخائف على هذه الوجوه لأجل الخوف لا للوقت ولا لغيره والخوف موجود والدليل على ذلك جواز صلاة الخوف في أول الوقت مع غلبة الظن بانصراف العدو قبل خروج الوقت فدل على أنها إنما أبيحت للخوف لا ليدرك الوقت والتيمم إنما أبيح له لعدم الماء فنظير صلاة الخوف من التيمم أن يكون الماء معدوما فيجوز له التيمم فأما حال وجود الماء فهو يمنزلة زوال الخوف فلا يجوز له فعل الصلاة إلا على هيئتها في حال الأمن وإنما جعل صلاة الخوف بمنزلة الإفطار للمسافر وبمنزلة المسح على الخفين في أنها رخصة مخصوصة بحال لا لخوف فوات الوقت وأيضا فإنه إن فات وقته باشتغاله بالوضوء فإنه يصير إلى وقت آخر لها لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فأخبر أن وقت الذكر مع فواتها وقت لها كما كان الوقت الذي كان قبله وقتا لها فإذا كان وقت الصلاة باقيا مع فواتها عن الوقت الأول لم يجز لنا ترك الطهارة بالماء لخوف فواتها من وقت إلى وقت وقد وافقنا مالك على وجوب الترتيب بين الفائتة وبين صلاة الوقت وأن الفائتة أخص بالوقت من التي هي في وقتها حتى أنه لو بدأ بصلاة الوقت قبلها لم يجزه فلو كان خوف فوت الوقت مبيحا له التيمم لوجب أن يباح له التيمم بعد الفوات أيضا لأن كل وقت يأتي بعد الفوات هو وقت لها لا يسعه تأخيرها عنه فيلزم مالكا أن يجيز لمن فاتته صلاة أن يصليها بتيمم في أي وقت كان لأن اشتغاله بالوضوء يوجب تأخيرها عن الوقت المأمور بفعلها فيه والمنهي عن تأخيرها عنه ولما اتفق الجميع على أنه غير جائز له فعلها بالتيمم مع خوف فوات وقتها الذي هو مأمور بفعلها فيه إذا اشتغل باستعمال الماء صح أن الوقت لا تأثير له في ترك الطهارة بالماء إلى التيمم وأما قول الليث بن سعد أنه يتيمم ويصلي في الوقت ثم يتوضأ ويعيد بعد الوقت فلا معنى له لأنه معلوم أنه لا يعتد بتلك الصلاة فلا معنى لأمره بها وتأخير الفرض الذي عليه تقديمه واختلف فيمن حبس في موضع قذر لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف فقال ابو حنيفة ومحمد زفر

لا يصلي حتى يقدر على الماء إذا كان في المصر وهو قول الثوري والأوزاعي وقال أبو يوسف والشافعي يصلي ويعيد والحجة لأبي حنيفة ومن قال بقوله قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يقبل الله صلاة بغير طهور ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلى بغير طهور فلا يكون ذلك صلاة فلا معنى لأمرنا إياه بأن نفعل ما ليس بصلاة لأجل أن عليه فرض الصلاة وقد قال أبو يوسف إنه يصلي بالإيماء ثم يعيد فلم يعتد به وأمره بالإعادة فلو كانت هذه صلاة لما كان مأمورا بالإعادة ألا ترى أنه من لم يقدر على الركوع والسجود صلى بالإيماء ولا يؤمر بالإعادة فإن قيل قد يأمره إذا كان محبوسا في بيت نظيف أن يتيمم ويعيد ووجوب الإعادة لم يسقط عنه فعلها بالتيمم قيل له قد روى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يتيمم ولا يصلي حتى يخرج فهذا مستمر على هذا الأصل وذكر في الأصل أنه يتيمم ويصلي ويعيد ولم يذكر خلافا وجائز أن يكون هذا قول أبي يوسف وحده فإن كان قولهم جميعا فوجه هذه الرواية على قول أبي حنيفة إن الصلاة بالتيمم قد تكون صلاة صحيحة بحال وهو حال عدم الماء أو خوف الضرورة فلما كان عادما للماء في هذه الحال جاز له التيمم وكان القياس أن يكون كالمسافر إذا كان الماء منه قريبا وخاف السبع أو اللصوص فيجوز له التيمم ولا يعيد فهذا هو القياس إلا أنه ترك القياس وأمره بالإعادة وفرق بين حال السفر والحضر لأن الماء موجود في الحضر وإنما وقع المنع بفعل آدمي وفعل الآدمي في مثله لا يسقط الفرض ألا ترى أنه لو منعه رجل مكرها من فعل الصلاة أصلا أو من فعلها بركوع وسجود وصلى بالإيماء أنه يعيد ولو كان المنع من فعل الله تعالى بإغماء ونحوه سقط عنه الفرض ولو كان مريضا سقط عنه فعل الركوع إلى الإيماء فاختلف حكم المنع إذا كان بفعل الله أو بفعل الآدمي فكذلك حال الحضر لما كانت حال وجود الماء لم يسقط فرض استعماله بمنع الآدمي منه فأمره بالتيمم وإعادتها بالماء وعلى الرواية الأولى لم يأمره بفعلها لأنه لا يعتد بها فلا معنى للأمر بها فإن قيل فأنت تأمر المحرم الذي لا شعر على رأسه وأراد الإحلال أن يمر الموسى على رأسه متشبها بالحالقين وإن لم يحلق فهلا أمرت المحبوس الذي لا يقدر عل الماء والتراب أن يصلي متشبها بالمصلين وإن لم يكن مصليا وكما تأمر الأخرس بتحريك

لسانه بالتلبية استحبابا وإن لم يكن ملبيا قيل له الفصل بينهما أن أفعال المناسك قد ينوب عنه الغير فيها في حال فيصير حكم فعله كفعله فجاز أن ينوب عن الحلق إمرار الموسى على رأسه كما يفعله الغير عنه فيجزي وكذلك تلبية الغير قد تنوب عند أبي حنيفة في حال الإغماء فلذلك استحب له تحريك لسانه بها وإن لم يكن ملبيا إذا كان أخرس وأما الصلاة فلا ينوب عنه فيها غيره ولا يجوز أن يفعل ما ليس بصلاة متشابها بالمصلين فيصير هذا الفعل وتركه سواء لا معنى له فلذلك لم يستحبه فإن احتجوا بما روي في قصة قلادة عائشة حين صلت وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بغير وضوء ولا تيمم قيل له إن آية التيمم لم تكن نزلت وقت ما صلوا ولم يكن التيمم واجبا وأيضا فإنهم لم يؤمروا بالإعادة فينبغي أن يدل على أن لا إعادة على من صلى بغير وضوء ولا تيمم إذا لم يجدهما فلما قال مخالفونا إنه يعيد علمنا أن حكم من ذكر مخالف لأولئك وأيضا فإن أولئك كانوا واجدين للتراب غير واجدين للماء وأنت لا تقول ذلك فيمن كان في مثل حالهم واختلف في جواز التيمم قبل دخول الوقت فقال أصحابنا جائز قبل دخول وقت الصلاة لمن لا يجد الماء ويصلي به الفرض إذا دخل الوقت وقال مالك بن أنس والشافعي لا يجوز إلا بعد دخوله ودليلنا قوله أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء ولم يفرق فيه بين حاله قبل دخول الوقت أو بعده وأيضا قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقد دللنا في أول الكتاب أن معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون ثم عطف عليه التيمم وأباحه في الحال التي أمر فيها بالوضوء لو كان واجدا للماء وأيضا لما قال تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وأمر بتقديم الطهارة لها في غير هذه الآية وكانت الطهارة شيئين الماء عند وجوده والتراب عند عدمه اقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت ليصلي في أوله على شرط الآية ويدل عليه قوله ص - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء وقوله لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ولم يفرق بينه قبل الوقت أو بعده وإنما علق جوازه بعدم الماء لا بالوقت فإن قيل على استدلالنا بقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط أن ذلك معطوف على قوله إذا قمتم إلى الصلاة وهو مضمر فيه فكان تقديره إذا قمتم إلى الصلاة

وجاء أحد منكم من الغائط وذلك يكون بعد دخول الوقت قيل له هذا غلط من قبل أن قوله إذا قمتم معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فهذه جملة مكتفية بنفسها في إيجاب الوضوء للحدث ثم استأنف حكم عادم الماء فقال وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فتيمموا وهذه أيضا جملة مفيدة مستقلة بنفسها غير مفتقرة إلى تضمينها بغيرها وما كان هذا وصفه من الكلام ففي تضمينه بغيره تخصيص له وذلك غير جائز إلا بدلالة فوجب أن يكون شرط المجيء من الغائط في إباحة التيمم مقرا على بابه وأن لا يضمن بغيره وأيضا فإن حكم كل جواب علق بشرط أن يرجع إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم إلا بدلالة والذي يلي ذلك هو شرط المجيء من الغائط وأيضا كما جاز الوضوء قبل الوقت وجب أن يجوز التيمم كذلك لأنه طهارة لم يوجد بعدها حدث فإن قيل المستحاضة لا تصلي بوضوء فعلته قبل الوقت قيل له يجوز ذلك عندنا لأنها لو توضأت قبل الزوال كان لها أن تصلي به إلى خروج وقت الظهر وأما إذا توضأت في وقت الظهر فإنها لا تصلي به في وقت العصر للسيلان الموجود بعد الطهارة والوقت كان رخصة لها في فعل الصلاة مع الحدث فلما ارتفعت الرخصة بخروجه وجب الوضوء للحدث المتقدم واختلف في فعل صلاتي فرض بتيمم واحد فقال يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات مالم يحدث أو يجد الماء وهو مذهب الثوري والحسن بن صالح والليث بن سعد وهو مذهب إبراهيم وحماد والحسن وقال مالك لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد ولا يصلي الفرض بتيمم النافلة ويصلي النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض وقال شريك بن عبدالله يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد والدليل على صحة قولنا قوله ص - التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فجعل التراب طهورا مالم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة وقوله ولو إلى عشر حجج على وجه التأكيد وليس المراد حقيقة الوقت وهو كقوله تعالى إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ليس المراد به توقيت العدد المذكور وإنما المراد تأكيد نفي الغفران فإن قيل لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم كذلك فعل الصلاة قيل له لأن بطلانه بالحدث كان معلوما عند المخاطبين فلم يحتج إلى ذكره وإنما ذكر مالم يكن معلوما عندهم وأكده ببقائه إلى وجود الماء وأيضا فإن المعنى المبيح للصلاة

بالتيمم بديا كان عدم الماء وهو قائم بعد فعل الصلاة فينبغي أن يبقى تيممه ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء إذ كان المعنى فيهما واحدا وهو عدم الماء وأيضا لما كان المسح على الخفين بدلا من الغسل كما أن التيمم بدل منه ثم جاز عند الجميع فعل صلاتين بمسح واحد جاز فعلهما أيضا بتيمم واحد وأيضا فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن تكون طهارته باقية أو زائلة فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلا لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة وإن كانت باقية فجائز أن يصلي بها فرضا آخر فإن قيل قد خفف أمر النفل عن الفرض جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة قيل له أنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى إذا قمتم لا يقتضي التكرار في اللغة وقد بيناه فيما سلف ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء فكذلك في التيمم وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله فجعل التيمم بدلا منه فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعد ما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم فإن قيل التيمم لا يرفع الحدث فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده قيل له ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في

الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث فإن قيل هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها قيل له قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت فهو قياس فاسد منتقض وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوءها والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث فإذا خرج الوقت توضأت لحدث وجد بعد طهارتها ولم يوجد في المتيمم حدث بعد تيممه فطهارته باقية واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته وتوضأ واستقبل وقال مالك والشافعي يمضي فيها وتجزيه وروي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أنه إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لم يلزمه الوضوء وصلى بتيممه وهو قول شاذ مخالف للسنة والإجماع والدليل على صحة قولنا قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء ثم نقله إلى التراب عند عدمه فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية وعلى أن حقيقة اللفظ تقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة فغير جائز أن يكون دخوله فيها مانعا من لزوم استعماله وأيضا لا يختلفون أن حكم الآية في فرض الغسل عند وجود الماء قائم عليه بعد دخوله في الصلاة لأنه لو أفسد صلاته قبل إتمامها لزمه استعمال الماء بالآية فثبت بذلك أن دخوله في الصلاة لم يسقط عنه فرض الغسل والخطاب بحكم الآية فوجب عليه بحكم الآية استعماله لبقاء فرض استعماله عليه وأيضا لا يخلو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة من أن يكون المراد به حال وجود الصلاة بعد فعل جزء منها وإرادة القيام إليها محدثا وجعل ذلك شرطا للزوم استعماله فقد وجد فعليه استعماله ولا يسقط عنه ذلك بالتيمم والدخول فيها مع وجود سبب تكليفه إذ كان المسقط لفرضه هو عدم الماء فمتى وجد فقد عاد شرط لزومه فلزمته الطهارة به ويدل عليه أيضا قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإذا كان جنبا ودخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لزمه بقوله لا تقربوا الصلاة إلى قوله حتى تغتسلوا فإن قيل في نسق الخطاب وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فلم

تجدوا ماء فتيمموا قيل له هما مستعملان جميعا كل واحد على شريطته فالتيمم عند عدم الماء والغسل عند وجوده وغير جائز إسقاط الغسل عند وجوده إذ كان الظاهر يوجبه ولم تفرق الآية بين حاله بعد الدخول في الصلاة أو قبله ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فجعله طهورا بشريطة عدم الماء فإذا وجد الماء خرج من أن يكون طهارة ولم يفرق بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها فإذا بطلت طهارته برؤيته الماء لم يجز أن يمضي فيها وأيضا فقال ص - الماء طهور المسلم وقال ص - إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك وفي بعض الألفاظ وأمسسه بشرتك ودلالته على وصفنا من وجهين أحدهما ما ذكرنا من قوله التراب طهور المسلم مالم يجد الماء فأخبر بالحال التي يكون التراب فيها طهورا وهو أن لا يجد الماء ولم يفرق بين حاله قبل الدخول في الصلاة وبعده فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم - خص كونه طهورا بهذه الحال دون غيرها فمتى صلى به والماء موجود فهو مصل بغير طهور والثاني قوله ص - فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ولم يفرق بينه قبل الدخول وبعده فهو على الحالين يلزمه استعماله متى وجده بظاهر قوله ويدل عليه اتفاق الجميع على أن وجود الماء بعد التيمم قبل الدخول يمنع الابتداء فوجب أن يمنع البناء كما أن الحدث لما منع ابتداء الصلاة منع البناء عليها إذ كان من شرط صحتها جميعا الطهارة وأيضا فإن كونه في الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة لأنه لو أحدث فيها لزمته الطهارة وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شروط الصلاة مثل وجود الثوب للعريان وعتق الأمة في لزومها تغطية الرأس وخروج وقت المسح فوجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من لزوم الطهارة بالماء عند وجوده وأيضا لما لم يجز التحريمة بالتيمم مع وجود الماء لأنه يكون فاعلا لجزء من الصلاة بالتيمم مع وجود الماء وكان هذا المعنى موجودا بعد الدخول وجب أن يمنع المضي فيها فإن قيل لو أحدث جاز البناء عندك إذا توضأ ولا تجوز التحريمة بعد الحدث قيل له لا فرق بينهما لأنه لو فعل جزأ من الصلاة بعد الحدث قبل الطهارة بطلت صلاته وإنما نجيز له البناء إذا توضأ وأنت تجيزه قبل الطهارة بالماء فإن قيل إنما اختلف حال الصلاة وقبلها في التيمم لسقوط فرض الطلب عنه بدخوله في الصلاة لأن كونه فيها ينافي فرض الطلب وأما قبل الدخول فيها ففرض الطلب قائم عليه فلذلك لزمته الطهارة إذا وجده قبل الدخول قيل له أما قولك في لزوم فرض الطلب

قبل الدخول فيها ففاسد على ما قدمناه فيما سلف ومع ذلك فلو سلمناه لك لانتقض على أصلك وذلك أن بقاء فرض الطلب ينافي صحة الدخول في الصلاة عندك فلا يخلو إذا طلب ولم يجد فتيمم أن يكون فرض الطلب قائما عليه أو ساقطا عنه فإذا كان فرض الطلب قائما عليه فواجب أن لا يصح دخوله إذ كان بقاء فرض الطلب ينافي صحة الصلاة ويمنع صحة التيمم أيضا على أصلك وإن كان فرض الطلب ساقطا عنه فالواجب على قضيتك أن لا يلزمه استعمال الماء إذا وجده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة كما حكي عن أبي سلمة بن عبدالرحمن فلما ألزمته استعمال الماء عند وجوده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة مع سقوط فرض الطلب ثبت أن سقوط فرض الطلب ليس بعلة لجاز ترك استعمال الماء عند وجوده وأيضا قد اتفقوا جميعا أن الصغيرة لو اعتدت شهرا ثم حاضت انتقلت عدتها إلى الحيض لأن الشهور بدل من الحيض وإنما تكون عدة عند عدمه كما أن التيمم طهور عند عدم الماء فلما اتفقوا على استواء حالهما قبل وجوب العدة وبعده في كون الحيض عدة عند وجوده وجب أن يستوي حكم وجود الماء بعد الدخول في الصلاة وقبله وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء لم يجز أن يبقى حكمه مع وجود المبدل عنه كسائر الأبدال لا يثبت حكمها مع وجود الأصل فإن قيل فلو أن متمتعا وجد الهدي بعد صوم الثلاثة أيام وبعد الإحلال جاز له أن يصوم السبعة مع وجود الأصل قيل له الثلاثة بدل من الهدي لأن بها يقع الإحلال وليست للسبعة بدلا من الهدي لأن الإحلال يكون قبل السبعة فإن قيل ليست حال الصلاة حال للطهارة فلا يلزمه استعمال الماء قيل له فينبغي أن لا يلزمه غسل الرجلين بخروج وقت المسح وهو في الصلاة وأن لا يلزم المستحاضة الوضوء بانقطاع الدم في الصلاة وأن لا تلزمها الطهارة لو أحدث فيها لهذه العلة فإن احتجوا بقوله ص - فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا قيل له لم يقل ذلك ابتداء بل بكلام متصل به وهو أنه قال إذا وجد أحدكم حركة في دبره فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال إن الشيطان يخيل إلى أحدكم أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال في بعض الألفاظ لا وضوء إلا من صوت أو ريح فأما ابتداء قول منه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فإن ذلك لم ينقل ولم يروه أحد وإذا كان كذلك فإنما هو في الشاك في الحدث فلم يصح نجعله في غيره ممن

لم يشك ووجد الماء وعلى أن قوله لا وضوء إلا من صوت أو ريح يقتضي ظاهره إيجاب الوضوء بوجود الماء لأن الحدث الذي عنه وجبت الطهارة باق لم يرتفع بالتيمم فإن قيل ما تقول لو تيمم ودخل في صلاة العيد أو صلاة الجنازة ثم وجد الماء قيل له ينتقض تيممه ولا يجوز له المضي عليها وتبطل صلاته إذا أمكنه استعمال الماء والدخول في الصلاة لا فرق بينهما وبين الصلاة المكتوبة وجواب آخر عما أورده من الخبر أنه مجمل لا يصح الإيجاب به لأنه مفهوم أنه لم يرد به كل صوت أو ريح يوجد في دار الدنيا وإنما أراد صوتا أو ريحا على صفة لا يدرى ما هو بنفس اللفظ فسبيله أن يكون موقوفا على دلالة فإن ادعوا فيه العموم كان دلالة لنا لأنه إذا سمع صوت الماء وجب عليه بظاهره إذ لم يفرق بين الأصوات

فصل
ويستدل بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين أحدهما قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وذلك عموم في جميع المائعات لأنه يسمى غاسلا بها إلا ما قام الدليل فيه ونبيذ التمر مما قد شمله العموم والثاني قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم - توضأ به بمكة قبل نزول آية التيمم وقبل أن نقل من الماء إلى بدل فدل ذلك على أنه بقي فيه حكم الماء الذي فيه لا على وجه البدل عن الماء إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة فيه مقصورة على الماء دون غيره وقد تكلمنا في هذه المسألة في مواضع من كتبنا وروى يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال الوضوء بالنبيذ الذي لا يسكر وضوء لمن لم يجد الماء وقال عكرمة النبيذ وضوء إذا لم تجد غيره وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال ركبت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - البحر ففنى ماؤهم فتوضؤا بالنبيذ وكرهوا ماء البحر وروى المبارك بن فضالة عن أنس أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ فهؤلاء الصحابة والتابعون قد روي عنهم جواز الوضوء بالنبيذ من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم وروي عن أبي حنيفة في الوضوء بنبيذ التمر ثلاث روايات إحداها وهي المشهورة أنه يتوضأ به ولا

يتيمم وهو قول زفر وروي عنه أنه يتوضأ به ويتيمم وهو قول محمد وروى نوح أن أبي حنيفة رجع عن الوضوء بالنبيذ وقال يتيمم ولا يتوضأ به وقال مالك والثوري وأبو يوسف والشافعي يتيمم ولا يتوضأ به وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه يتوضأ به ويتيمم وكذلك روي عنه المعلى وقال حميد بن عبدالرحمن الرؤاسي صاحب الحسن بن صالح يتوضأ بنبيذ التمر مع وجود الماء إن شاء وروي الوضوء بنبيذ التمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

عبدالله بن مسعود وأبو أمامة روى عن عبدالله من طرق عدة قد بيناها في
مواضع
باب صفة التيمم
قال
الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه فاختلف الفقهاء في صفته فقال أصحابنا التيمم ضربتان ضربة الوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فقالوا يضرب بيديه على الصعيد يحركهما فيقبل بهما ويدبر على الصعيد ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ثم يعيد إلى الصعيد كفه جميعا فيقبل بهما ويدبر ويرفعهما فينفضهما ثم يمسح بكل كف ظهر ذراعه الأخرى وباطنها إلى المرفقين واتفق مالك والثوري والليث والشافعي أنه ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وروي مثله عن مالك أيضا أنه يتيمم إلى المرفقين فإن تيمم إلى الكوعين لم يعد وقال الأوزاعي تجزي ضربة واحدة للوجه والكوعين وروي نحوه عن عطاء وقال الزهري يمسح يديه إلى الإبط وقال ابن ابي ليلى والحسن بن صالح يتيمم بضربتين يمسح بكل واحدة منها وجهه وذراعيه ومرفقيه وقال أبو جعفر الطحاوي لم نجد عن غيرهما أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه وذراعيه ومرفقيه والحجة لقول أصحابنا ما روى ابن عمر وابن عباس والأسلع عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في صفة التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين واختلفت
الرواية عن عمار فروى عنه عبدالرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم - ضربة واحدة للوجه ولليدين وروى عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم - ضربتين وهذا أولى لأنه زائد وخبر الزائد أولى وأيضا فكما أنه لا يجوز في الوضوء الاكتفاء بماء واحد لعضوين بل عليه تجديد الماء لكل عضو كذلك الحكم في التيمم لأنهما طهارتان

وإن كانت إحداهما مسحا والأخرى غسلا ألا ترى أنه يحتاج إلى تجديد الماء لكل رجل في المسح على الخفين وإن لم يكن غسلا وإنما قلنا إن التيمم إلى المرفقين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وحديث الأسلع ذكرا فيه جميعا أن التيمم إلى المرفقين واختلف عن عمار فيما
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صفة التيمم فروى الشعبي عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أوفوا التيمم إلى المرفقين وروى غيره عن سعيد بن عبدالرحمن عن أبيه
عن عمار قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم - عن التيمم فأمرني بضربة واحدة للوجه والكفين ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن زر عن ابن عبدالرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار وقال فيهما ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه إلى المرفقين وروى سلمة عن أبي مالك عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار أنه تمعك في التراب في الجنابة فذكره للنبي ص - فقال له إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن عمار أنهم مسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالصعيد ضربة واحدة للوجه وضربة لليدين إلى المناكب والآباط فلما اختلفت أحاديث عمار هذا الاختلاف واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم ومع ذلك لم يعزه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وإنما حكى فعل نفسه لم يثبت التيمم إلى المناكب وإن كان له وجه في الاحتمال وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه على وجه المبالغة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم - إنكم الغر المحجلون من آثار الوضوء فمن أراد أن يطول غرته فليفعل فقال أبو هريرة إني أحب أن أطيل غرتي ثم بقي من أخبار عمار مما عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم - الوجه والكفان ونصف الذراع إلى المرفقين فكانت رواية من روى إلى المرفقين أولى لوجوه أحدها أنه زائد على روايات الآخرين وخبر الزائد أولى والثاني أن الآية تقتضي اليدين إلى المنكبين لدخولهما تحت الاسم فلا يخرج شيء منه إلا بدليل وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين فبقي حكمه إلى المرفقين والثالث أن في حديث ابن عمرو الأسلع التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهما في روايتهما وقول الزهري يمسح يديه إلى الإبط قول شاذ ومع ذلك لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأما قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه ويديه فخلاف

ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في سائر الأخبار التي ذكر فيها صفة التيمم لأن الذي روي في بعضها ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فلم يجعل ما للوجه لليدين وما لليدين للوجه وفي بعضها ضربة واحدة لهما فقولهما خارج عن حكم الخبرين جميعا وهو مع ذلك خلاف الأصول لأن التيمم مسح فليس تكراره بمسنون كالمسح على الخفين ومسح الرأس ولو كان التكرار مسنونا فيه لكان ثلاثا كالأعضاء المغسولة وإنما

قال
أصحابنا في صفة التيمم أنه يضع يديه على الصعيد يقبل بهما ويدبر ليتخلل أصابعه ويصيب جميعها وإنما قالوا ينفضهما لما روى الأعمش عن سفيان عن أبي موسى أن عمارا قال وذكر قصة التيمم فقال إنه ص - قال إنما يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بيده على الأرض وفي حديث عن عبدالرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ضرب بيده إلى الأرض ثم نفخهما وفي حديث الأسلع أنه نفضهما في كل مرة والنفخ والنفض جميعا إنما هو لإزالة التراب عن يده وهذا يدل علىأنه ليس المقصد فيه وصول التراب إلى وجهه ولا حصوله فيه لأنه لو كان المقصد حصول التراب في العضو لما نقضه
باب ما يتيمم به
قال الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا اختلف الفقهاء فيما يجوز به التيمم فقال أبو حنيفة يجزي التيمم بكل ما كان من الأرض التراب والرمل والحجارة والزرنيخ والنورة والطين الأحمر والمرداسنج وما أشبهه وهو قول محمد وزفر وكذلك يجزي بالكحل والآجر المدقوق في قولهما رواه محمد ورواه أيضا الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وإن تيمم ببورق أو رماد أو ملح أو نحوه لم يجز عندهم وكذلك الذهب والفضة في قولهم وقال أبو يوسف لا يجزي إلا أن يكون ترابا أو رملا وإن ضرب يده على صخرة أو حائط لا صعيد عليها أجزأه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف لا يجزيه وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن تيمم بأرض لا صعيد عليها لم يجزه وهو بمنزلة الحائط وهو قوله

الآخر وقال الثوري يجوز بالزرنيخ والنورة ونحوهما وكل ما كان من تراب الأرض ولا يتيمم بالآجر وقال مالك يتيمم بالحصا والجبل وكذلك حكى عنه أصحابه في الزرنيخ والنورة ونحوهما قال وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى الأرض أجزأه وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا وروى أشهب عن مالك أنه لا يتيمم بالثلج وقال الشافعي يتيمم بالتراب مما تعلق باليد قال أبو بكر لما قال الله فتيمموا صعيدا طيبا وكان الصعيد اسما للأرض اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض وأخبرنا أبو عمر غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي قال الصعيد الأرض والصعيد التراب والصعيد القبر والصعيد الطريق فكل ما كان من الأرض فهو صعيد فيجوز التيمم به بظاهر الآية فإن قيل إنما أباح التيمم بالصعيد الطيب والأرض الطيبة هي التي تنبت والجص والزرنيخ لا ينبت شيئا فليس إذا بطيب قال الله تعالى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه قيل له إيجاب التيمم بالصعيد الطاهر دون النجس وأما قوله والبلد الطيب كلوا من طيبات ما رزقناكم فأفاد بذلك ابن عباس ومجاهد وابراهيم رواية والشعبي رواية هو كفارة فإنما يريد به ما ليس بسبخة لأنه قال والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ولا خلاف في جواز التيمم بالسبخة التي لا تخرج مثل ما يخرج غيرها فعلمنا أنه لم يرد بالطيب ما ذكرت وقد روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال الطيب الصعيد الجرز أو قال الأرض الجرز وقال ابن جريج قال قلت لعطاء فتيمموا صعيدا طيبا قال أطيب ماحولك ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما إخباره أن الأرض طهور فكل ما كان من الأرض فهو طهور بمقتضى الخبر والآخر أن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا وسائر ما ذكر هو من الأرض وهي مسجد فيجوز التيمم به بحق العموم وروى عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن أعرابيا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إنا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النفساء والحائض والجنب فقال ص - عليكم بأرضكم فأفاد بذلك جوازه بكل ما كان من الأرض ولما ذكرنا من عموم الآية والخبر أجزنا التيمم بالحجر والحائط لأنه من الأرض لأنها تشتمل على أنواع مختلفة ولا يخرجها اختلاف أنواعها من كون جميعها صعيدا وقال تعالى فتصبح صعيدا زلقا

يعني الأرض الملساء التي لا شيء عليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

يحشر الناس عراة حفاة في صعيد واحد يعني الأرض المستوية التي ليس عليها
شيء كقوله تعالى فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا فلا فرق بين ما عليه منها تراب أو لا تراب عليه لوقوع الاسم عليه على الإطلاق فإن قيل إن الآجر وإن كان أصله من الأرض فقد انتقل عن طبع الأرض بالطبخ وحال عن حد التراب فهو كالماء المنتقل عن حاله بما يدخل عليه من الرياحين والأصباغ حتى يحول إلى جنس آخر ويزول عنه الاسم الأول وكالزجاج فلا يجوز الوضوء به قيل له إنما لم يجز الوضوء بالماء الذي ذكرت لغلبة غيره عليه حتى أزال عنه اسم الماء وأما الآجر فلا يخالطه ما يخرجه عن حد الأرض وإنما حدثت فيه صلابة بالإحراق فهو كالحجر فلا يمتنع ذلك التيمم به وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - ضرب يده على الحائط فتيمم به وروي أنه نفض يديه حين وضعهما على التراب وأنه نفخهما فعلمنا أن المقصد فيه وضع اليد على ما كان من الأرض على أنه يحصل في يده أو وجهه شيء منه ولو كان المقصد أن يحصل في يده منه شيء لأمر بحمل التراب على يده ومسح الوجه به كما أمر بأخذ الماء للغسل أو للمسح حتى يحصل في وجهه فلما لم يأمر بأخذ التراب ونفض النبي صلى الله عليه وسلم - يديه ونفخهما علمنا أنه ليس المقصد حصول التراب في وجهه فإن قيل قوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يقتضي حصول شيء منه في الأعضاء الممسوحة به قيل له إنما أفاد بذلك تأكيد وجوب النية فيه لأن من قد تكون لبدء الغاية كقولك خرجت من الكوفة وهذا كتاب من فلان إلى فلان فيكون معناه على هذا ليكن ابتداء الأخذ من الأرض حتى يتصل بالوجه واليد بلا فاصل يفصل بين الأخذ وبين المسح فينقطع حكم النية ويحتاج إلى تجديدها وهو كقولك توضأ من النهر يعني أن ابتداء أخذه من النهر إلى أن اتصل بأعضاء الوضوء من غير قطع ألا ترى أنه لو أخذه من النهر في إناء وتوضأ منه لم يقل إنه توضأ من النهر ويحتمل أن يكون قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يعني من بعضه وأفاد به أن أي بعض منه مسحتم به على جهة الإطلاق والتوسعة وأما الذهب والفضة واللؤلؤ ونحوها فلا يجوز التيمم لأنها ليست من طبع الأرض وإنما هي جواهر مودوعة فيها قال النبي صلى الله عليه وسلم -
حين سئل عن الركاز هو الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض
يوم

خلقت واللؤلؤ من الصدف والصدف من حيوان الماء وأما الرماد فهو من الخشب ونحوه ومع ذلك فليس هو من طبع الأرض ولا من جوهرها وأما الثلج والحشيش فهما كالدقيق والحبوب ونحوها فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست من الصعيد ولا يجوز نقل الأبدال إلى غيرها إلا بتوقيف فلما جعل الله الصعيد بدلا من الماء لم يجز لنا إثبات بدل منه إلا بتوقيف ولو جاز ذلك لجاز أن يضرب يده على ثوب لا غبار عليه فيتيمم به ولا جاز التيمم بالقطن والحبوب وقال النبي صلى الله عليه وسلم - جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا قال وترابها لنا طهور وقد اتفقوا على امتناع جوازه بالثلج والحشيش إذا وصل إلى الأرض فلو كان مما يجوز التيمم به لجاز مع وجود التراب لأن التيمم بالصعيد بدل فلا ينتقل إلى بدل غيره فإن قيل إذا لم يصل إلى الأرض فهو كالزرنيخ والنورة والمغرة إذا كان بينه وبين الأرض قيل له الزرنيخ ونحوه من الأرض ويجوز التيمم به مع وجود التراب وعدمه وليس هو مع ذلك حائلا بيننا وبين الأرض وإنما الأرض في الأغلب حائلة بيننا وبينه فكيف يشبهه بالثلج والحشيش وإن تيمم بغبار ثوب أو لبد وقد نفضه جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف وإنما جاز عند أبي حنيفة لأن الغبار الذي فيه من الأرض ولا يختلف حكمه في كونه في الثياب أو على الأرض كما أن الماء لا يختلف حكمه في كونه في إناء أو نهر أو ما عصر من ثوب مبلول وذهب أبو يوسف في ذلك كله إلى أن هذا لا يسمى ترابا على الإطلاق فلا يجوز التيمم به ومن أجل ذلك لم يجز التيمم بأرض لا تراب عليها وجعلها بمنزلة الحجر على أصله وروى قتادة عن نافع عن ابن عمر أن عمر صلى على مسح من ثلج أصابه وأرادوا أن يتيمموا فلم يجدوا ترابا فقال لينفض أحدكم ثوبه أو صفة سرجه فتيمم به وروى هشام بن حسان عن الحسن قال إذا لم يجد الماء ولم يصل إلى الأرض ضرب بيده على لبده وسرجه ثم يتيمم به قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه قال أبو بكر الذي يقتضيه الظاهر مسح البعض على ما بيناه في قوله تعالى وامسحوا برؤسكم وإن الباء تقتضي التبعيض إلا أن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل منه وأن عليه مسح الكثير وذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزه وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يجزيه إذا ترك اليسير منه وهذا

أولى بمذهبه لأن من أصله جواز التيمم بالحجارة التي لا غبار عليها وليس عليه تخليل أصابعه بالحجارة وهذا يدل على أن ترك اليسير منه لا يضره وقال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ولا خلاف في وجوب استيعاب البيت كله وغير جائز له ترك شيء منه قوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم قال أبو بكر لما كان الحرج الضيق ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات فيكون القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجا بظاهر هذه الآية وهو نظير قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى ولكن يريد ليطهركم يحتمل معنيين الطهارة من الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -

إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه
من يده إلى آخره كما قال تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا يحتمل التطهير من الذنوب ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة والنجاسة كقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا وقوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان فانتظم لطهارة الجنابة والطهارة من النجاسة وقوله تعالى وثيابك فطهر فلما احتمل المعنيين فالواجب حمله عليهما فيكون المراد حصول الطهارة على سقوط اعتبار الترتيب وإيجاب النية في الوضوء فإن قيل لما ذكر ذلك عقيب التيمم فينغبي أن يدل على سقوط اعتبار النية في التيمم كما دل على سقوطها في الوضوء قيل له لما كان التيمم يقتضي إحضار النية في فحواه ومقتضاه علمنا أنه لم يرد به إسقاط ما انتظمه واما الوضوء والغسل فلا يقتضيان النية فوجب اعتبار عمومه فيهما وعلى أن قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره فصح اعتبار عمومه في جميع ما انتظمه لفظ إلا ما قام دليل خصوصه
فصل قال ابو بكر قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية وما في ضمنها من الدلائل على المعاني وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وأنزل الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في

قوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فحثنا على التفكر فيه وحرضنا على الاستنباط والتدبر وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين ودل بما نزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها وإن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر وأنا ذاكرنا مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا والله تعالى نسأل التوفيق فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة ما احتمله اللفظ من إرادة القيام والثاني ما اقتضه حقيقة اللفظ من إيجاب الغسل بعد القيام والثالث ما احتمله من القيام من النوم لأن الآية على هذه الحال نزلت والرابع اقتضاؤها إيجاب الوضوء من النوم المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم والخامس احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة مالم يحدث والسادس احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الأحداث والسابع دلالتها على جواز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير ذلك واحتمالها لقول من أوجب الدلك والثامن إيجابها بظاهرها إجراء الماء على الأعضاء وإن مسحها غير جائز على ما بينا وبطلان قول من أجاز المسح في جميع الأعضاء والتاسع دلالتها على جواز الوضوء بغير نية والعاشر دلالتها على وجوب الاقتصار بالفرض على ما واجهنا من المتوضئ بقوله تعالى وجوهكم إذ كان الوجه ما واجهك وإن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء والحادي عشر دلالتها على أن تخليل

اللحية غير واجب إذ لم يكن باطنها من الوجه والثاني عشر دلالتها على نفي إيجاب التسمية في الوضوء والثالث عشر دلالتها على دخول المرافق في الغسل والرابع عشر احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة والخامس عشر دلالتها على جواز مسح بعض الرأس والسادس عشر احتمالها لوجوب مسح الجميع والسابع عشر احتمالها لجواز مسح البعض أي بعض كان منه والثامن عشر دلالتها على أنه غير جائز أن يكون المفروض ثلاث شعرات إذ غير جائز تكليفه مالا يمكن الاقتصار عليه والتاسع عشر احتمالها لوجوب غسل الرجلين والعشرون احتمالها لجواز المسح على قول موجبي استيعابها بالمسح والحادي والعشرون دلالتها على بطلان قول مجيزي مسح البعض بقوله إلى الكعبين والثاني والعشرون دلالتها على عدم إيجاب الجمع بين الغسل والمسح وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء والثالث والعشرون دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخفين ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين والرابع والعشرون دلالتها على جواز المسح علىالخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث لأنها من حيث دلت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلا ما قام دليله والخامس والعشرون دلالتها على قول من أجاز المسح على الجرموقين من حيث دلت على المسح على الخفين لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه وإن كان عليهما خفان والسادس والعشرون دلالتها على المسح على الجوربين وأنه يحتاج إلىدليل في أن المسح على الجوربين وأنه غير مراد والسابع والعشرون دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع جوازه على العمامة والخمار فإن قيل كان ذلك دليلا على بطلان المسح على العمامة فقوله وأرجلكم يدل على بطلان المسح على الخفين قيل له لما كان قوله وأرجلكم محتملا للمسح والغسل وأمكننا استعمالها لها استعملناهما في حالين وإن كان في أحدهما مجازا لئلا نسقط واحدا منهما ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله وامسحوا برؤسكم على المجاز فاستعملناه على حقيقته والثامن والعشرون دلالتها على جواز الوضوء مرة مرة وأن ما زاد فهو تطوع والتاسع والعشرون دلالتها على نفي فرض الاستنجاء وعلى جواز الصلاة مع تركه وعلى بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح والثلاثون دلالتها على بطلان قول من أوجب غسل اليد قبل إدخالهما الإناء وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يجزه

الوضوء والحادي والثلاثون دلالتها على ان مسح الأذنين ليس بفرض وبطلان قول من أجاز المسح عليهما دون الرأس والثاني والثلاثون دلالتها على جواز تفريق الوضوء بإباحة الصلاة بالغسل على أي وجه حصل والثالث والثلاثون دلالتها على بطلان قول موجبي الترتيب في الوضوء والرابع والثلاثون اقتضاؤها لإيجاب الغسل من الجنابة والخامس والثلاثون دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمي به اجتناب أشياء إذ كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضي ذلك اجتنابه وهو ما قد بين حكمه في غيرها والسادس والثلاثون دلالتها على استيعاب البدن كله بالغسل ووجوب المضمضة والاستنشاق فيه بقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا والسابع والثلاثون دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن الوضوء ليس بفرض فيه والثامن والثلاثون إيجاب التيمم للحدث عند عدم الماء والتاسع والثلاثون جوازه للمريض إذا خاف ضرر الماء والأربعون جواز التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد إذ كان المعنى في المرض مفهوما وهو أنه خوف الضرر والحادي والأربعون دلالتها على جواز التيمم للجنب إذ كان قوله تعالى أو لامستم النساء يحتمل الجماع والثاني والأربعون احتمالها أيجاب الوضوء من مس المرأة إذ كان قوله تعالى أو لامستم يحتمل الأمرين والثالث والأربعون دلالتها على أن من خاف العطش جاز له التيمم إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله وهو المريض والمجروح والرابع والأربعون دلالتها على أن الناسي للماء في رحله يجوز له التيمم إذ هو غير واجد للماء والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده والخامس والأربعون دلالتها على أن من معه ماء لا يكفيه لوضوئه فليس عليه استعماله لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء ثم قال تعالى فلم تجدوا ماء يعني ما يكفي لغسلها ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم فدل على أن هذا القدر من الماء غير مراد والسادس والأربعون احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فذكر عدم كل جزء منه إذ كان نكرة في جواز التيمم فإذا وجد قليلا لم يجز الاقتصار على التيمم والسابع والأربعون دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلبا فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها والثامن والأربعون دلالتها على أن من خاف ذهاب الوقت إن توضأ لم يجز له التيمم إذ كان واجدا للماء لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء

بقوله تعالى فاغسلوا من غير ذكر الوقت والتاسع والأربعون دلالتها على أن المحبوس الذي لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا أنه لا يصلي لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الاية من ماء أو تراب والخمسون احتمالها لجواز التيمم للمحبوس إذا وجد ترابا نظيفا والحادي والخمسون جواز التيمم قبل دخول الوقت إذ لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى فلم تجدوا ماء والثاني والخمسون دلالتها على جواز الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ثم قوله في سياقه فتيمموا فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تقتض تكرار التيمم والثالث والخمسون دلالتها على أن على المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة الوضوء لقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف والرابع والخمسون مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به والخامس والخمسون مسح اليدين إلى المرفقين لاقتضاء قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق إياها وأن ما فوق المرفقين إنما خرج بدليل والسادس والخمسون جوازه بكل ما كان من الأرض لقوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا والصعيد الأرض والسابع والخمسون بطلان التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى طيبا والنجس ليس بطيب والثامن والخمسون وجوب النية في التيمم من وجهين أحدهما أن التيمم القصد والثاني قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه على ما بينا من دلالته على أن ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع وأن استعماله لشيء آخر يقطع حكم النية وتوجب الاستيناف والتاسع والخمسون احتمالها لإصابة بعض التراب وجهه ويديه لقوله منه وهو للتبعيض والستون دلالتها على بطلان قول من أجاز التيمم بالثلج والحشيش إذ ليسا من الصعيد والواحد والستون دلالة قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط على إيجاب الطهارة من الخارج من السبيلين وأن دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوهما توجب الوضوء إذ كان الغائط هو المطمئن من الأرض يؤتى لكل ذلك والثاني والستون دلالة قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم على جواز الغسل بسائر المائعات إلا ما خصه الدليل فيستدل به على جواز الوضوء بنبيذ التمر ويستدل به أيضا الحسن بن صالح على جوازه بالخل وما جرى مجراه ويستدل به أيضا على جواز

الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك والثالث والستون دلالة قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا على جوازه بالنبيذ إذ كان في النبيذ ماء وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور ويستدل به أيضا من يجيز الوضوء بالماء المضاف كالمرق وخل التمر ونحوه إذا كان فيه ماء والرابع والستون دلالتها لمن يمنع المستحاضة صلاتي فرض بوضوء واحد على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثان لقوله إذا قمتم إلى الصلاة فقد روي إذا قمتم وأنتم محدثون وهي محدثة لوجود الحدث بعد الطهارة والخامس والستون دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها في الاستحاضة إذا كان التيمم غير رافع للحدث فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو محدث والسادس والستون دلالتها على جواز التيمم في أول الوقت عند عدم الماء لقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا فأمر بالصلاة عند دلوكها وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجودا أو التراب إذا كان معدوما فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت كما اقتضى جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله والسابع والستون دلالتها على امتناع جواز التيمم في الحضر للمحبوس وجواز الصلاة به لقوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله فتيمموا صعيدا فشرط في إباحة التيمم شيئين أحدهما المرض والآخر السفر مع عدم الماء فإذا لم يكن مسافرا وكان مقيما إلا أنه ممنوع منه بحبس فغير جائز صلاته بالتيمم فإن قيل فهو غير واجد للماء وإن كان مقيما قيل له هو كذلك إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين أحدهما السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء والثاني عدمه وإنما أبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب وإنما حصل المنع بفعل آدمي من غير حال العادة فيها والغالب منها عدمه والثامن والستون دلالة قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج على نفي كل ما أوجب الحرج والاحتجاج به عند وقوع الخلاف عن منتحلي مذهب التضييق فيدل ذلك على جواز التيمم وإن كان معه ما إذا خاف على نفسه من العطش فيحبسه لشربه إذ كان فيه نفي الضيق والحرج وعلى نفي إيجاب الترتيب والموالاة في الطهارة وعلى نفي إيجاب

النية فيها وما جرى مجرى ذلك والتاسع والستون دلالة قوله ولكن يريد ليطهركم على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أو غيره ومن موالاة أو تفريق ومن وجوب نية أو عدمها وما جرى مجرى ذلك والسبعون دلالة قوله فاطهروا على سقوط اعتبار تقدير الماء إذ كان المراد التطهير وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم -

بالصاع غير موجب اعتباره والواحد والسبعون أن قوله تعالى
فامسحوا برؤسكم فيه دلالة على أن المراد مسحه بالماء فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الحكام منها نصوص ومنها احتمال في الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة وشروطها التي تصح بها وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه علمنا متى يحث عنها واستقصي النظر فيها أدركها من وفق لفهمها والله الموفق
باب
القيام بالشهادة والعدل
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ومعناه كونوا قوامين لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتنابه فهذا هو القيام لله بالحق وقوله شهداء لله بالقسط يعني بالعدل قد قيل في الشهادة أنها الشهادات في حقوق الناس روي ذلك عن الحسن وهو مثل قوله كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم وقيل إنه أراد الشهادة على الناس بمعاصيهم كقوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس فكان معناه أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة وقيل أراد به الشهادة لأمر الله بأنه الحق وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها وقوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا روي أنها نزلت في شأن اليهود حين ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم - ليستعينهم في دية فهموا أن يقتلوه وقال الحسن نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام قال أبو بكر قد ذكر الله تعالى هذا المعنى في هذه السورة في قوله ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فحمله الحسن على معنى الآية الأولى والأولى أن تكون نزلت في غيرهم وأن لا تكون تكرارا وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل وحكم بأن كفر الكافرين وظلمهم لا يمنع من العدل عليهم وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقون وأن يقتصر بهم على

المستحق من القتال والأمر والاسترقاق دون المثلة بهم وتعذيبهم وقتل أولادهم ونسائهم قصدا لإيصال الغم والألم إليهم وكذلك قال عبدالله بن رواحة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر خارصا فجمعوا له شيئا من حليهم وأرادوا دفعه إليه ليخفف في الخرص إن هذا سحت وإنكم لأبغض إلي من عدتكم قردة وخنازير وما يمنعني ذلك من أن أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض فإن قيل لما قال هو أقرب للتقوى ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى فكيف يكون الشيء هو أقرب إلى نفسه قيل معناه هو أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيآت فيكون العدل فيما ذكر داعيا إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي ويحتمل هو أقرب لاتقاء النار وقوله هو أقرب للتقوى فقوله هو راجع إلى المصدر الذي دل عليه الفعل كأنه قال العدل أقرب للتقوى كقول القائل من كذب كان شرا له يعني كان الكذب شرا له وقوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا قد اختلف في المراد بالنقيب ههنا فقال الحسن الضمين وقال الربيع بن أنس الأمين وقال قتادة الشهيد على قومه وقيل إن أصل النقيب مأخوذ من النقب وهو الثقب الواسع فقيل نقيب القوم لأنه ينقب على أحوالهم وعن مكنون ضمائرهم وأسرارهم فسمي رئيس العرفاء نقيبا لهذا المعنى وأما قول الحسن أنه الضمين فإنما أراد به أنه الضمين لتعرف أحوالهم وأمورهم وصلاحهم وفسادهم واستقامتهم وعدولهم ليرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

وكذلك جعل النبي ص
- على الأنصار اثني عشر نقيبا على هذا المعنى وقول الربيع بن أنس أنه الأمين وقول قتادة أنه الشهيد يقارب ما قال الحسن أيضا لأنه أمين عليهم وشهيد بما يعملون به ويجري عليهم أمورهم وإنما نقب النبي صلى الله عليه وسلم -
النقباء لشيئين أحدهما لمراعاة أحوالهم وأمورهم وإعلامها النبي ص
- ليدبر فيهم بما روي والثاني أنهم إذا علموا أن عليهم نقيبا كانوا أقرب إلى الاستقامة إذ علموا أن أخبارهم تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
ولأن كل واحد منهم يحتشم مخاطبة النبي ص
- فيما ينوبه ويعرض له من الحوائج قبله فيقوم عنه النقيب فيه وليس يجوز أن يكون النقيب ضامنا عليهم الوفاء بالعهد والميثاق لأن ذلك معنى لا يصح ضمانه ولا يمكن الضمين فعله ولا القيام به فعلمنا أنه على المعنى الأول وفي هذه الآية دلالة على قبول خبر الواحد لأن نقيب كل قوم إنما نصب ليعرف

أحوالهم النبي صلى الله عليه وسلم - أو الإمام فلولا أن خبره مقبول لما كان لنصبه وجه فإن قيل إنما يدل ذلك على قبول الإثني عشر دون الواحد قيل له إن الإثني عشر لم يكونوا نقباء على جميع بني إسرائيل بجملتهم وإنما كان كل واحد منهم نقيبا على قومه خاصة دون الآخرين قوله تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قال ابن عباس هذا قول جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم - نقمات الله فقالوا لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه قال السدي تزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد وقال الحسن إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد وأما النصارى فقيل إنهم تأولوا ما في الإنجيل في قول المسيح عليه السلام إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وقيل إنهم لما قالوا المسيح ابن الله وكان منهم جرى ذلك على قول العرب هذيل شعراء أي منهم شعراء وعلى قولهم في رهط مسيلمة قالوا نحن أبناء الله أي قال قائل منهم وتابعوه عليه فكان معنى قولهم على هذا الوجه نحن أبناء الله أي منا ابن الله وقال تعالى قل فلم يعذبكم بذنوبكم فيه إبطال دعواهم ذلك وتكذيبهم بها على لسانهم لأنهم كانوا مقرين بأنهم يعذبون بالذنوب ومعلوم أن الأب المشفق لا يعذب ولده قوله تعالى وجعلكم ملوكا قال عبدالله بن عمر وزيد بن أسلم والحسن الملك من له دار وامرأة وخادم وقال غيرهم هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش وقال ابن عباس ومجاهد جعلوا ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام وقال غيرهم بالأموال أيضا وقال الحسن إنما سماهم ملوكا لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم وقال السدي ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله وقال قتادة كانوا أول من ملك الخادم قوله يحرفون الكلم عن مواضعه تحريفهم إياه يكون بوجهين أحدهما بسوء التأويل والآخر بالتغيير والتبديل وأما ما قد استفاض وانتشر في أيدي الكافة فغير ممكن تغيير ألفاظه إلى غيرها لامتناع الطواطؤ على مثلهم وما لم يستفض في الكافة وإنما كان علمه عند قوم من الخاصة يجوز على مثلهم التواطؤ فإنه جائز وقوع تغيير ألفاظه ومعانيه إلى غيرها وإثبات ألفاظ أخر سواها وأما المستفيض الشائع في أيدي الكافة فإنما تحريفهم على تأويلات فاسدة كما تأولت المشبهة والمجبرة كثيرا من الآي المتشابهة على ما تعتقده من مذهبها وتدعي من معانيها ما يوافق اعتقادها دون حملها على معاني المحكمة وإنما قلنا إنه

غير جائز وقوع التحريف من جهة تغيير الألفاظ فيما استفاض وانتشر عند الكافة من قبل أن ذلك لا يقع إلا بالتواطؤ عليه ومثله مع اختلاف هممهم وتباعد أوطانهم لا يجوز وقوع التواطؤ منهم على مثله كما لا يجوز وقوع التواطؤ من المسلمين على تغيير شيء من ألفاظ القرآن إلى غيره ولو جاز ذلك لجاز تواطؤهم على اختراع أخبار لا أصل لها ولو جاز ذلك لما صح أن يعلم بالأخبار شيء وقد علم بطلان هذا القول اضطرار قوله تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم عن الحسن قال إنما قال قالوا إنا نصارى ولم يقل من النصارى ليدل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها وأنهم ليسوا على منهاج الذين اتبعوا المسيح في زمانه من الحواريين وهم الذين كانوا نصارى في الحقيقة نسبوا إلى قرية بالشام تسمى ناصرة فانتسب هؤلاء إليهم وإن لم يكونوا منهم لأن أولئك كانوا موحدة مؤمنين وهؤلاء مثلثة مشركون وقد أطلق الله تعالى في مواضع غيره اسم النصارى لا على وجه الحكاية عنهم في قوله تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله وفي مواضع أخر لأنهم قد عرفوا بذلك وصار ذلك سمة لهم وعلامة قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم إنما لحقتهم سمة الكفر لأنهم قالوا ذلك على جهة التدين به واعتقادهم إياه والإقرار بصحته لأنهم لو قالوا على جهة الحكاية عن غيرهم منكرين له لما كفروا والكفر هو التغطية ويرجع معنى ما ذكر عنهم إلى التغطية من وجهين أحدهما كفران النعمة يجحدها أن يكون المنعم بها هو الله تعالى وإضافتها إلى غيره ممن ادعوا له الإلهية والآخر كفر من جهة الجهل بالله تعالى وكل جاهل بالله كافر لتضييعه حق نعم الله تعالى فكان بمنزلة مضيفها إلى غيره وقوله تعالى فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم معناه من يقدر على دفع أمر الله تعالى إن أراد هلاك المسيح وأمه وهذا من أظهر الاحتجاج وأوضحه لأنه لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله تعالى إذا أراد الله تعالى إهلاكه وإهلاك غيره فلما كان المسيح وسائر المخلوقين سواء في جواز ورود الموت والهلاك عليهم صح أنه ليس بإله إذا لم يكن سائر الناس آلهة وهو مثلهم في جواز الفناء والموت والهلاك عليهم قوله تعالى يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم قال ابن عباس والسدي أرض بيت المقدس وقال مجاهد أرض الطور وقال قتادة أرض الشام

وقيل دمش وفلسطين وبعض الأردن والمقدسة هي المطهرة لأن التقديس التطهير وإنما سماها الله المقدسة لأنها طهرت من كثير من الشرك وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء والمؤمنين فإن قيل لم قال كتب الله لكم وقد قال فإنها محرمة عليهم قيل له روي عن ابن إسحاق أنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرمهم إياها قال أبو بكر ينبغي أن يكون الله قد جعلها على شريطة القيام بطاعته واتباع أمره فلما عصوا حرمهم إياها وقد قيل أنها على الخصوص وإن كان مخرجه مخرج العموم قوله تعالى إن فيها قوما جبارين فإنه قد قيل أن الجبار هو من الإجبار على الأمر وهو الإكراه عليه وجبر العظم لأنه كالإكراه على الصلاح والجبار هدر الأرش لأن فيه معنى الكره والجبار من النخل ما فات اليد طولا لأنه كالجبار من الناس والجبار من الناس الذي يجبرهم على ما يريد والجبار صفة مدح لله تعالى وهو ذم في صفة غيره يتعظم بما ليس له والعظمة لله عز و جل وحده الجبار المتعظم بالاقتدار ولم يزل الله جبارا والمعنى أن ذاته يدعو العارف به إلى تعظيمه والفرق بين الجبار والقهار أن في القهار معنى الغالب لمن ناوأه أو كان في حكم المناوئ بعصيانه إياه قوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب روي عن قتادة في قوله يخافون أنهم يخافون الله تعالى وقال غيره من أهل العلم يخافون الجبارين ولم يمنعهم الخوف من أن يقولوا الحق فأثنى الله عليهما بذلك فدل على فضيلة قول الحق عند الخوف وشرف منزلته وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول الحق إذا رآه وعلمه فإنه لا يبعد من رزق ولا يدني من أجل وقال لأبي ذر رضوان الله عليه وأن لا يأخذك في الله لومة لائم وقال حين سئل عن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر قوله تعالى قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون قوله فاذهب أنت وربك فقاتلا يحتمل معنيين أحدهما أنهم قالوه على وجه المجاز بمعنى وربك معين لك والثاني الذهاب الذي هو النقلة وهذا تشبيه وكفر من قائله وهو أولى بمعنى الكلام لأن الكلام خرج مخرج الإنكار عليهم والتعجب من جهلهم وقد يقال على المجاز قاتله الله بمعنى أن عداوته لهم كعداوة المقاتل المستعلى عليهم بالاقتدار وعظم السلطان قوله تعالى قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي هذا مجاز لأن الإنسان لا يملك نفسه ولا أخاه الحر على الحقيقة وذلك لأن أصل الملك القدرة

ومحال أن يقدر الإنسان على نفسه أو على أخيه ثم أطلق اسم الملك على التصرف فجعل المملوك في حكم المقدور عليه إذ كان له أن يصرفه تصرف المقدور عليه وإنما معناه ههنا أنه يملك تصريف نفسه في طاعة الله وأطلقه على أخيه أيضا إذ كان يتصرف بأمره وينتهي إلى قوله وقال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أحدا من علي بنفسه وذات يده من أبي بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله يعني أني متصرف حيث صرفتني وأمرك جائز في مالي وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لرجل أنت ومالك لأبيك ولم يرد به حقيقة الملك قوله تعالى فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض قال أكثر أهل العلم هو تحريم منع لأنهم كانوا يصبحون بحيث أمسوا ومقدار الموضع ستة فراسخ وقال بعض أهل العلم يجوز أن يكون تحريم التعبد لأن التحريم أصله المنع قال الله تعالى وحرمنا عليه المراضع من قبل يعني به المنع قال الشاعر يصف فرسا ... حالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام ...
يعني إني فارس لا يمكنك صرعي فهذا هو أصل التحريم ثم أجرى تحريم التعبد عليه لأن الله تعالى قد منعه بذلك حكما وصار المحرم بمنزلة الممنوع إذ كان من حكم الله فيه أن لا يقع كما لا يقع الممنوع منه وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ونحوهما تحريم حكم وتعبد لا تحريم منع في الحقيقة ويستحيل اجتماع تحريم المنع وتحريم التعبد في شيء واحد لأن الممنوع لا يجوز حظره ولا إباحته إذ هو غير مقدور عليه والحظر والإباحة يتعلق بأفعالنا ولا يكون فعل لنا إلا وقد كان قبل وقوعه منا مقدورا لنا قوله تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا قال ابن عباس وعبدالله بن عمر ومجاهد وقتادة كان ابني آدم لصلبه هابيل وقابيل وكان هابيل مؤمنا وقابيل كافرا وقيل بل كان رجل سوء وقال الحسن هما من بني إسرائيل لأن علامة تقبل القربان لم يكن قبل ذلك والقربان ما يقصد به القرب من رحمة الله تعالى من أعمال البر وهو فعلان من القرب كالفرقان من الفرق والعدوان من العدو والكفران من الكفر وقيل إذا لم يتقبل من أحدهما لأنه قرب شر ماله قرب الآخر خير ماله فتقبل منه وقيل بل رد قربانه لأنه كان فاجرا وإنما يتقبل الله من المتقين وقيل كانت علامة القبول أن تجيء نار فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود ومنه قوله تعالى حتى يأتينا بقربان تأكله النار إلى قوله تعالى

وبالذي قلتم قوله تعالى لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك قال ابن عباس معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به ولم يرد أني لا أدفعك على نفسي إذا قصدت قتلي فروي أنه قتل غيلة بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها وروي عن الحسن ومجاهد أنه كتب عليهم إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه قال أبو بكر وجائز في العقل ورود العبادة بمثله فإن كان التأويل هو الأول فلا دلالة فيه على جواز ترك الدفع عن نفسه بقتل من أراد قتله وإنما فيه أنه لا يبدأ بقتل غيره وإن كان التأويل هو الثاني فهو منسوخ لا محالة وجائز أن يكون نسخه بشريعة بعض الأنبياء المتقدمة وجائز أن يكون نسخه بشريعة نبينا ص -

والذي يدل على أن هذا الحكم غير ثابت في شريعة النبي ص
- وأن الواجب على من قصده إنسان بالقتل أن عليه قتله إذا أمكنه وأنه لا يسعه ترك قتله مع الإمكان قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر الله بقتال الفئة الباغية ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق وقال تعالى ولكم في القصاص حيوة فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل وقال الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فأمر بالقتال لنفي الفتنة ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا حسين بن حريث قال حدثنا الفضل بن موسى عن معمر عن عبدالله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر وقد روي عن النبي ص
- في أخبار مستفيضة من قتل دون نفسه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد وروى عبدالله بن الحسين عن عبدالرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال من أريد ماله فقاتل فقتل فهو شهيد فأخبر ص
- أن الدافع عن نفسه وأهله وماله شهيد ولا يكون مقتولا دون ماله إلا وقد قاتل دونه ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم -
في حديث أبي سعيد الخدري من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع
فبلسانه فإن لم يسطع فبقلبه وذاك ضعف الإيمان فأمر بتغير المنكر

باليد وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم خلافا أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله وقد قتل علي بن ابي طالب الخوارج حين قصدوا قتل الناس وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - معه موافقون عليه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

آثار في وجوب قتهلم منها حديث أبي سعيد الخدري وأنس أن رسول الله ص
- قال سيكون في أمتي اختلاف وفرقة فيهم قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية طوبى لمن قتلهم أو قتلوه في آثار كثيرة مشهورة وقد تلقتها السلف بالقبول واستعملتها في وجوب قتلهم وقتالهم وروى أبو بكر بن عياش قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال قال رجل يا رسول الله الرجل يأتيني يريد مالي قال ذكره الله قال فإن لم يذكر قال استعن عليه من حولك من المسلمين قال فإن لم يكن حولي منهم قال فاستعن عليه السلطان قال فإن نأى عني السلطان قال قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده إنسان بالقتل أن لا يقاتله ولا يدفعه عن نفسه حتى يقتله وتأولوا فيه هذه الآية وقد بينا أنه ليس في الآية دلالة على أنه كف يده عن قتله حين قصده بالقتل وإنما الآية تدل على أنه لا يبدأ بالقتل على ما روي عن ابن عباس ولو ثبت حكم الآية على ما ادعوه لكان منسوخا بما ذكرنا من القرآن والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه وإن أتى على نفسه وتأولت هذه الطائفة التي ذكرنا قولها أحاديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
منها حديث أبي موسى الأشعري عن النبي ص
- إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه أراد قتل صاحبه وروى علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن سعد بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة وروى الحسن عن الأحنف بن قيس قال سمعت أبا بكر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه وروى معمر عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إن ابني آدم ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما وروى معمر

عن أبي عمران الجوني عن عبدالله بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة قتل قال قلت ألبس سلاحي قال شاركت القوم إذ قال قلت فكيف أصنع يا رسول الله قال إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه فاحتجوا بهذه الآثار ولا دلالة لهم فيها فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلما على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة وأما قوله ص - إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة فإنما عنى به ترك القتال في الفتنة وكف اليد عن الشبهة فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم ينفه بذلك وأما قوله ص -

كن كخير ابني آدم فإنما عنى به أن لا يبدأ بالقتل وأما دفع القاتل عن
نفسه فلم يمنعه فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس فلا يجوز قتله قبل أن يقتل بقضية نفي النبي صلى الله عليه وسلم - قتل المسلم إلا بإحدى ما ذكر وهذا لم يقتل بعد فلا يستحق القتل قيل له هذا القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر لأنه أراد قتل غيره فإنما قتلناه بنفس من قصد لقتله لئلا يقتله فأحيينا نفس المقصود بقتلنا إياه ولو كان الأمر في ذلك على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما والإمساك عنه حتى يقتل من يريد قتله لوجب مثله في سائر المحظورات إذا أراد الفاجر ارتكابها من الزنا وأخذ المال أن نمسك عنه حتى يفعلها فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة ومحو آثار الشريعة وما علم مقالة أعظم ضررا على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور المسلمين واستيلائهم على بلدانهم حتى تحكموا فحكموا فيها بغير حكم الله وقد جر ذلك ذهاب الثغور وغلبة العدو حين ركن الناس إلى هذه المقالة في ترك قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على الولاة والجوار والله المستعان ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلما يستحق القتل وأن على الناس كلهم أن يقتلوه قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فكان في

مضمون الآية إباحة قتل المفسد في الأرض ومن أعظم الفساد قصد قتل النفس المحرمة فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه قال أبو بكر ذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت يسعك قتله لقوله ص - من قتل دون ماله فهو شهيد ولا يكون شهيدا إلا وهو مأمور بالقتال إن أمكنه فقد تضمن ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه وقال أيضا في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه قال أبو بكر وذلك لأن قلع السن أعظم من أخذ المال فإذا جاز قتله لحفظ ماله فهو أولى بجواز القتل من أجلها قوله تعالى إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فإنه روي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي وقال غيرهم إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك والمراد إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها ومعنى تبوء ترجع يقال باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزلة وباؤا بغضب الله رجعوا والبواء الرجوع بالقود وهم في هذه الأمر بواء أي سواء لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد قوله تعالى فطوعت له نفسه قتل أخيه قال مجاهد شجعته نفسه على قتل أخيه وقال قتادة زينت له نفسه قتل أخيه وقيل ساعدته نفسه على قتل أخيه والمعنى في جميع ذلك أنه فعله طوعا من نفسه غير متكره له ويقال إن العرب تقول طاع لهذه الظبية أصول الشجر وطاع فلان كذا أي أتاه طوعا ويقال انطاع بمعنى انقاد ويقال طوعت له نفسه ولا يقال أطاعته نفسه على هذا المعنى لأن قولهم أطاع يقتضي قصد أمنه لموافقة معنى الأمر وذلك غير موجود في نفسه وليس كذلك الطوع لأنه لا يقتضي أمرا ولا يجوز أن يكون آمرا لنفسه ولا ناهيا لها إذ كان موضوع الأمر والنهي ممن هو أعلى لمن دونه وقد يجوز أن يوصف بفعل يتناوله ولا يتعدى إلى غيره كقولك حرك غيره وقتل نفسه كما يقال حرك غيره وقتل غيره قوله تعالى فأصبح من الخاسرين يعني خسر نفسه بإهلاكه إياها لقوله تعالى إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ولا دلالة في قوله فأصبح من الخاسرين على أن القتل كان ليلا وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلا وجائز أن يكون نهارا وهو كقول الشاعر

أصبحت عاذلتي معتلة ...
وليس المراد النهار دون الليل وكقول الآخر ... بكرت علي عواذلي ... يلحينني والومهته ...
ولم يرد بذلك أول النهار دون آخره وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم
باب

دفن الموتى
قال الله تعالى فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك لم يدر كيف يصنع به حتى رأى غرابا جاء يدفن غرابا ميتا وفي هذا دليل على فساد ما روي عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل لأنه لو كان كذلك لكان قد عرف الدفن بجريان العادة فيه قبل ذلك وهو الأصل في سنة دفن الموتى وقال تعالى ثم أماته فأقبره وقال تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءا وأمواتا وقيل في معنى سوأة أخيه وجهان أحدهما جيفة أخيه لأنه لو تركه حتى ينتن لقيل لجيفة وسوأة والثاني عورة أخيه وجائز أن يريد الأمرين جميعا لاحتمالهما وأصل السوأة التكره ومنه ساءه يسوءه سوء إذا أتاه بما يتكرهه وقص الله علينا قصته لنعتبر بها ونتجنب قبح ما فعله القاتل منهما وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما وقال الله
تعالى فأصبح من النادمين قيل إنه ندم على القتل على غير جهة القربة إلى الله تعالى منه وخوف عقابه وإنما كان ندمه من حيث لم ينتفع بما فعل وناله ضرر بسببه من قبل أبيه وأمه ولو ندم على الوجه المأمور به لقبل الله توبته وغفر ذنوبه قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بني إسرائيل ما ذكر في الآية وهو لئلا يقتل بعضهم بعضا فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمنة بمعان يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني التي علق بها الأحكام وجعلت عللا وأعلاما لها وقوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض يدل على أن من قتل نفسا بنفس فلا لوم عليه وعلى أن من قتل

نفسا بغير نفس فهو مستحق للقتل ويدل أيضا على أن الفساد في الأرض معنى يستحق به القتل وقوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا قد قيل فيه وجوه أحدها تعظيم الوزر والثاني أن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه سن القتل وسهله لغيره فكان كالمشارك له فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال ما من قاتل ظلما إلا وعلى ابن آدم كفل من الإثم لأنه سن القتل
وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة والثالث أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه فيكون كلهم خصومه في ذلك حتى يقاد منه كأنه قتل أولياءهم جميعا وهذا يدل على وجوب القود على الجماعة إذا قتلت واحدا إذ كانوا بمنزلة من قتل الناس جميعا وقوله تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال مجاهد من أحياها نجاها من الهلاك وقال الحسن إذا عفا عن دمها وقد وجب القود وقال غيرهم من أهل العلم زجر عن قتلها بما فيه حياتها قال أبو بكر يحتمل أن يريد بإحيائها معونة الولي على قتل القاتل واستيفاء القصاص منه حياة كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة ويحتمل أن يريد بإحيائها أن يقتل القاصد لقتل غيره ظلما فيكون محييا لهذا المقصود بالقتل ويكون كمن أحيا الناس جميعا لأن ذلك يردع القاصدين إلى قتل غيرهم عن مثله فيكون في ذلك حياة لسائر الناس من القاصدين للقتل والمقصودين به فتضمنت هذه الآية ضروبا من الدلائل على الأحكام منها دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعان يجب اعتبارها بوجودها وهذا يدل على صحة القول بالقياس والثاني إباحة قتل النفس بالنفس والثالث أن من قتل نفسا فهو مستحق للقتل والرابع من قصد قتل مسلم ظلما فهو مستحق القتل لأن قوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدل على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها والخامس الفساد في الأرض يستحق به القتل والسادس احتمال قوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا أن عليه مأثم كل قاتل عبده لأنه سن القتل وسهله لغيره والسابع أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه والثمن دلالتها على وجوب قتل الجماعة إذا قتلوا واحدا والتاسع قوله تعالى فكأنما أحيا الناس جميعا على معونة الولي على قتل القاتل والعاشر دلالته أيضا على قتل من قصد قتل غيره ظلما والله أعلم بالصواب

باب

حد المحاربين
قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية قال أبو بكر قوله تعالى يحاربون الله هو مجاز ليس بحقيقة لأن الله يستحيل أن يحارب وهو يحتمل وجهين أحدهما أنه سمى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه فسموا محاربين تشبيها لهم بالمحاربين من الناس كما قال تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وقوله إن الذين يحادون الله ورسوله ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يباين صاحبه ومعنى المحادة أن يصير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة وذلك يستحيل على الله تعالى إذ ليس بذي مكان فيشاق أو يحاد أو تجوز عليه المباينة والمفارقة ولكنه تشبيه بالمعادين إذ صار كل واحد منهما في شق وناحية على وجه المباينة وذلك منه على وجه المبالغة في إظهار المخالفة والمباينة فكذلك قوله تعالى يحاربون الله يحتمل أن يكونوا سموا بذلك تشبيها بمظهري الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس وخصت هذه الفرقة بهذه السمة لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح ولم يسم بذلك كل عاص لله تعالى إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المبالغة في أخذ الأموال وقطع الطريق ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله كما قال تعالى إن الذين يؤذون الله والمعنى يؤذون أولياء الله ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله لكانوا مرتدين بإظهار محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد يصح إطلاق لفظ المحاربة لله ولرسوله على من عظمت جريرته بالمجاهرة بالمعصية وإن كان من أهل الملة والدليل عليه ما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رأى معاذا يبكي فقال ما يبكيك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول اليسير من الربا شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة فأطلق عليهم اسم المحاربة ولم يذكر الردة ومن حارب مسلما على أخذ ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى بذلك وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم فاستحق من حاربهم اسم المحارب لله ولرسوله وإن لم يكن مشركا فثبت بما ذكرنا أن قاطع الطريق يقع عليه اسم المحارب لله عز و جل ولرسوله

ويدل عليه أيضا ما روى أشعث عن الشعبي عن سعد بن قيس أن حارثة بن بدر حارب الله وسوله وسعى في الأرض فسادا وتاب من قبل أن يقدر عليه فكتب علي رضي الله عنه إلى عامله بالبصرة أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وتاب من قبل أن نقدر عليه فلا تعرضن إلا بخير فأطلق عليه اسم المحارب لله ورسوله ولم يرتد وإنما قطع الطريق فهذه الأخبار وما ذكرنا من معنى الآية دليل على أن هذا الاسم يلحق قطاع الطريق وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين مع أنه لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة وحكي عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين وهو قول ساقط مردود مخالف للآية وإجماع السلف والخلف ويدل على أن المراد به قطع الطريق من أهل الملة قوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها وأيضا فإن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحد عنهم وأيضا فإن المرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة فعلمنا أنه لم يرد المرتد وأيضا ذكر فيه نفي من لم يتب قبل القدرة عليه والمرتد لا ينفى فعلمنا أن حكم الآية جار في أهل الملة وأيضا فإنه لا خلاف أن أحدا لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر وأن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عرض عليه الإسلام فإن اسلم وإلا قتل ولا تقطع يده ولا رجله وأيضا فإن الآية أوجبت قطع يد المحارب ورجله ولم توجب منه شيئا آخر ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره وأيضا ليس من حكم المرتدين الصلب فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة ويدل عليه أيضا قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال في المحاربين إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم فشرط في زوال الحد عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها فلما علم انه لم يرد

بالمحاربين أهل الردة فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالة على بطلان قول من ادعى خصوص الآية في المرتدين فإن قال قائل قد روى قتادة وعبدالعزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم -

أناس من عرينة فقال لهم رسول الله ص
- لو خرجتم إلى ذودنا فشربتم من ألبانها وأبوالها ففعلوا فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقتلوه ورجعوا كفارا واستاقوا ذود رسول الله ص
- فأرسل في طلبهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا قيل له إن خبر العرنيين مختلف فيه فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا وزاد فيه أنه كان سبب نزول الآية وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في أصحاب أبي برزة الأسلمي وكان موادعا للنبي ص - فقطعوا الطريق على قوم جاؤا يريدون الإسلام فنزلت فيهم وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين فلم يذكر مثل قصة العرنيين وروي عن ابن عمر أنها نزلت في العرنيين ولم يذكر ردة ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين فإن كان نزولها في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم لأنه لا حكم للسبب عندنا وإنما الحكم عندنان لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب وأيضا فإن من ذكر نزولها في شأن العرنيين فإنه ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم - بعد نزول الآية شيئا وإنما تركهم في الحرة حتى ماتوا ويستحيل نزول الآية في الأمر بقطع من قد قطع وقتل من قد قتل لأن ذلك غير ممكن فعلمنا أنهم غير مرادين بحكم الآية ولأن الآية عامة في سائر من يتناوله الاسم غير مقصور الحكم على المرتدين وقد روى همام عن قتادة عن ابن سيرين قال كان أمر العرنيين قبل أن ينزل الحدود فأخبر أنه كان قبل نزول الآية ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم -
سمل أعينهم وذلك منسوخ بنهي النبي ص
- عن المثلة وأيضا لما كان نزول الآية بعد قصة العرنيين واقتصر فيها على ما ذكر ولم يذكر سمل الأعين فصار سمل الأعين منسوخا بالآية لأنه لو كان حدا معه لذكره وهو مثل ما روي في خبر عبادة في البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم ثم أنزل الله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فصار الحد هو ما في الآية دون غيره وصار النفي منسوخا بها ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب وليس فيها ذكر

سمل الأعين وغير جائز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم وأن يكونوا مرادين بها لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي صلى الله عليه وسلم - حكمها عليهم فلما لم يصلبوا وسملهم دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتا حينئذ فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين وأنه عام في سائر المحاربين
ذكر الاختلاف في ذلك

واختلف
السلف وفقهاء الأمصار في حكم الآية من وجوه أنا ذاكرها بعد اتفاقهم على أن حكم الآية جار في أهل الملة إذا قطعوا الطريق فروى الحجاج بن أرطاة عن عطية العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية قال إذا حارب الرجل فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب فإن قتل ولم يأخذ المال قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفي وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل إن الإمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله وإن شاء قتله ولم يصلبه فإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل عزر ونفي من الأرض ونفيه حبسه وفي رواية أخرى أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا وهو قول الحسن رواية وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب وقال الآخرون الإمام مخير فيهم إذا خرجوا يجري عليهم أي هذه الأحكام شاء وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وممن قال ذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن رواية وعطاء بن أبي رباح وقال ابو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لا خلاف بين أصحابنا في ذلك فإن قتلوا وأخذوا المال فإن أبا حنيفة قال للإمام أربع خيارات إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وإن شاء صلبهم وإن شاء قتلهم وترك القطع وقال أبو يوسف ومحمد إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يصلبون ويقتلون ولا يقطعون وروي عن أبي يوسف في الإملاء أنه قال إن شاء قطع يده ورجله وصلبه فأما

الصلب فلا أعفيه منه وقال الشافعي في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا إذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا خافوا السبيل نفوا وإذا هربوا طلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحدود إلا من تاب قبل أن نقدر عليه سقط عنه الحد ولا يسقط حقوق الآدميين ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة ويقطع من أخذ ربع دينار فصاعدا وقال مالك إذا أخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإمام مخير في إقامة أي الحدود التي أمر الله تعالى بها قتل المحارب أو لم يقتل أخذ مالا أو لم يأخذ الإمام مخير في ذلك إن شاء قتله وإن شاء قطعه خلافا وإن شاء نفاه ونفيه حبسه حتى يظهر توبة فإن لم يقدر على المحارب حتى يأتيه تائبا وضع عنه حد المحاربة القتل والقطع والنفي وأخذ بحقوق الناس وقال الليث بن سعد الذي يقتل ويأخذ المال يصلب فيطعن بالحربة حتى يموت والذي يقتل فإنه يقتل بالسيف وقال ابو الزناد في المحاربين ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب من قتل أو صلب أو قطع أونفي قال أبو بكر الدليل على أن حكم الآية على الترتيب الذي ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم -

لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل
نفس بغير نفس فنفى ص - قتل من خرج عن هذه الوجوه الثلاثة ولم يخصص فيه قاطع الطريق فانتفى بذلك قتل من لم يقتل من قطاع الطريق وإذا انتفى قتل من لم يقطع وجب قطع يده ورجله إذا أخذ المال وهذا لا خلاف فيه فإن قيل روى إبراهيم بن طهمان عن عبدالعزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان ورجل قتل رجلا فقتل به ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض قيل له قد روي هذا الحديث من وجوه صحاح ولم يذكر فيه قتل المحارب ورواه عثمان وعبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه قتل المحارب والصحيح منها ما لم يذكر ذلك فيه لأن المرتد لا محال مستحق للقتل بالاتفاق وهو أحد الثلاثة المذكورين في خبر هؤلاء فلم يبق من الثلاثة غيرهم ويكون المحارب إذا لم يقتل خارجا منهم وإن صح ذكر المحارب فيه فالمعنى فيه إذا قتل حتى يكون موافقا للإخبار الآخر وتكون فائدته جواز قتله على وجه الصلب فإن قيل فقد ذكر فيه أو

ينفى من الأرض قيل له لا يمتنع أن يكون مبتدأ قد أضمر فيه إن لم يقتل فإن قيل فقد يقتل الباغي وإن لم يقتل وهو خارج عن الثلاثة المذكورين في الخبر قيل له ظاهر الخبر ينفي قتله وإنما قتلناه بدلالة الاتفاق وبقي حكم الخبر في نفي قتل المحارب إلا أن يقتل على العموم وأيضا فإن الخبر إنما ورد فيمن استحق القتل بفعل سبق منه واستقر حكمه عليه كالزاني المحصن والمرتد والقاتل والباغي لا يستحق القتل على هذا الوجه وإنما يقتل على وجه الدفع ألا ترى أنه لو قعد في بيته ولم يقتل وإن كان معتقدا لمقالة أهل البغي فثبت بما وصفنا أن حكم الآية على الترتيب على الوجه الذي بينا لا على التخيير ويدل على أن في الآية ضميرا ولا تخيير فيها اتفاق الجميع على أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا لم يجز للإمام أن ينفيه ويترك قطع يده ورجله وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل أو الصلب الصلب ولو كان الأمر على ما قال القائلون بالتخيير لكان التخيير ثابتا فيما إذا أخذوا المال وقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا فلما كان ذلك على ما وصفنا ثبت أن في الآية ضميرا وهو أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا أن ينفوا من الأرض إن خرجوا ولم يفعلوا شيئا من ذلك حتى ظفر بهم واحتج القائلون بالتخيير بظاهر الآية وبقوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فدل على أن الفساد في الأرض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وليس ما ذكروه بموجب للتخيير مع قيام الدلالة على ضمير الآية وتعلق الحكم به دون مقتضى ظاهرها وهو ما قدمنا من أنها لو كانت موجبة للتخيير ولم يكن فيها ضمير لكان الخيار باقيا إذا قتلوا وأخذوا المال في العدول عن قتلهم وقطعهم إلى نفيهم فلما ثبت أنه غير جائز العدول عن القتل والقطع في هذه الحال صح أن معناها أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجهلم من خلاف إن أخذوا المال فإن قال قائل إنما أوجب قتلهم إذا قتلوا وقطعهم إذا أخذوا المال ولم يجز العدول عنه إلى النفي لأن القتل على الإنفراد يستحق به القتل وإن لم يكن محاربا وأخذ المال يستحق به القطع إذا كان سارقا فلذلك لم يجز في هذه الحال العدول إلى النفي وترك القتل أو القطع قيل له قتل المحارب في هذه الحال وقطعه حد ليس على وجه

القود ألا ترى أن عفو الأولياء غير جائز فيه فثبت أنه إنما يستحق ذلك على وجه الحد لأنه قتل على وجه المحاربة ووجب قطعه لأخذه المال على وجه المحاربة فإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا لم يجز أن يقتل ولا يقطع لأنه لو كان القتل واجبا حدا لما جاز العدول عنه إلى النفي وكذلك القطع كما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال لم يجز العدول عن القتل أو القطع إلى النفي إذ كان وجوب ذلك على وجه الحد وفي ذلك دليل على أن المحارب لا يستحق القتل إلا إذا قتل ولا القطع إلا إذا أخذ المال ويصلح أن يكون ذلك دليلا مبتدأ لأن القتل إذا وجب حدا لم يجز العدول عنه إلى غيره وكذلك القطع كالزاني والسارق فلما جاز للإمام أن يعدل عن قتل المحارب الذي لم يقتل إلى النفي علمنا أنه غير مستحق للقتل بنفس الخروج وكما لو قتل لم يجز أن يعفى عن قتله فلو كان يستحق القتل بنفس المحاربة لما جاز أن يعدل عنه كما لم يجز أن يعدل عنه إذا قتل وأما قوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض وتسويته بين قتل النفس بغير النفس وبين الفساد في الأرض فإنما المراد الفساد في الأرض الذي يكون معه قتل أو قتله في حال إظهار الفساد فيقتل على وجه الدفع ونحن قد نقتل المحارب الذي لم يقتل على وجه الدفع وإنما الكلام فيمن صار في يد الإمام قبل أن يتوب هل يجوز أن يقتله إذا لم يقتل فأما على وجه الدفع فلا خلاف فيه فجائز أن يكون المراد من قوله تعالى أو فساد في الأرض على هذا الوجه لأن الفساد في الأرض لو كان يستحق به القتل لما جاز العدول عنه إلى النفي فلما جاز عند الجميع نفيه دل على أنه غير مستحق للقتل فصح بما وصفنا قول من قال بإيجاب ترتيب حكم الآية على الوجه الذي ذكرنا وأيضا فإن الوصول إلى القتل لا يستحق بأخذ المال ولا القصد له ومعلوم أن المحاربين إنما خرجوا لأخذ المال فإن كان القتل غير مستحق لأخذ المال في الأصول فالقصد لأخذه أولى أن لا يستحق به القتل على وجه الحد فإذا خرج المحاربون وقتلوا قتلوا حدا لأجل القتل وليس قتلهم هذا لأن القتل يستحق به القتل في الأصول إلا أنه لما قتله على جهة إظهار الفساد في الأرض تأكد حكمه بأن أوجب قتله علىأنه حق لله تعالى لا يجوز فيه عفو الأولياء فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما في الآية من ذكر ذلك وقطع اليد والرجل يستحق بأخذ المال في الأصول ألا ترى أن السارق تقطع يده فإن

عاد فسرق قطعت رجله إلا أنه غلظت عقوبته حين كان أخذه للمال على وجه الفساد في الأرض فإن قتل وأخذ فالإمام فيه بالخيار على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا فيه فكان عند أبي حنيفة له أن يجمع عليه قطع اليد والرجل والصلب والقتل وأخذ المال على وجه المحاربة صار جميع ذلك حدا واحدا ألا ترى أن القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد كالقطع وأن عفو الأولياء فيه لا يجوز فدل ذلك على أنهما جميعا حد واحد فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعا وله أن يقتلهم فيدخل فيه قطع اليد والرجل وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في التبدئة ببعض ذلك دون بعض فله أن يبدأ بالقتل أو بالقطع فإن قال قائل هلا قتلته وأسقطت القطع كمن سرق وقتل أنه يقتل ولا يقطع قيل له ما بينا من أن جميع ذلك حد واحد مستحق بسب واحد هو القتل وأخذ المال على وجه المحاربة وأما السرقة والقتل فكل واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي به استحق الآخر وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ أحد الحدين وليس في مسئلتنا درء أحد الحدين وإنما هو حد واحد فلم يلزمنا إسقاط بعضه وإيجاب بعض وهو مخير أيضا بين أن يقتله صلبا وبين الاقتصار على القتل دون الصلب لقوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا وذكر أبو جعفر الطحاوي أن الصلب المذكور في آية المحارب هو الصلب بعد القتل في قول أبي حنيفة وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه يصلب ثم يقتل يبعج بطنه برمح أو غيره فيقتل وقال أبو الحسن هذا هو الصحيح وصلبه بعد القتل لا معنى له لأن الصلب عقوبة وذلك يستحيل في الميت فقيل له لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعا لغيره فقال لأن الصلب إذا كان موضوعه للتعذيب والعقوبة لم يجز إيقاعه إلا على الوجه الموضوع في الشريعة فإن قال قائل إذا كان الله تعالى إنما أوجب القتل أو الصلب على وجه التخيير فكيف يجوز جمعهما عليه قيل له أراد قتلا على غير وجه الصلب إذا قتل ولم يأخذ المال وأراد قتلا على وجه الصلب إذا قتل وأخذ المال فغلظت العقوبة عليه في صفة القتل لجمعه بين القتل وأخذ المال وروى مغيرة عن إبراهيم قال يترك المصلوب من المحاربين على الخشبة يوما وقال يحيى بن آدم ثلاثة أيام واختلف في النفي فقال أصحابنا هو حبسه حيث يرى الإمام وروي مثله عن إبراهيم وروي عن إبراهيم رواية أخرى وهو أن ينفيه طلبه وقال مالك ينفى إلى بلد آخر غير

البلد الذي يستحق فيه العقوبة فيحبس هناك وقال مجاهد وغيره هو أن يطلب الإمام الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام قال أبو بكر فأما من قال إنه ينفى عن كل بلد يدخل فهو إنما ينفيه عن البلد الذي هو فيه والإقامة فيه وهو حينئذ غير منفي من التصرف في غيره فلا معنى لذلك ولا معنى أيضا لحبسه في بلد غير بلده إذ الحبس يستوي في البلد الذي أصاب فيه وفي غيره فالصحيح إذا حبسه في بلده وأيضا فلا يخلو قوله تعالى أو ينفوا من الأرض من أن يكون المراد به نفيه من جميع الأرض وذلك محال لأنه لا يمكن نفيه من جميع الأرض إلا بأن يقتل ومعلوم أنه لم يرد بالنفي القتل لأنه قد ذكر في الآية القتل مع النفي أو يكون مراده نفيه من الأرض التي خرج منها محاربا من غير حبسه لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل وكف أذاه عن المسلمين وهو إذا صار إلى بلد آخر فكان هناك مخلا كانت معرته قائمة على المسلمين إذا كان تصرفه هناك كتصرفه في غيره أو أن يكون المراد نفيه عن دار الإسلام وذلك ممتنع أيضا لأنه لا يجوز نفي المسلم إلى دار الحرب لما فيه من تعريضه للردة ومصيره إلى أن يكون حربيا فثبت أن معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض إلا موضع حبسه الذي لا يمكنه فيه العبث والفساد وقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم يدل على أن إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم قوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها كقوله تعالى إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فأخرج آل لوط من جملة المهلكين وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين وكقوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس فكان إبليس خارجا من جملة الساجدين فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم فقد نفى إيجاب الحد عليهم وقد أكد ذلك بقوله تعالى فاعلموا أن الله غفور رحيم كقوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم فإن قال قائل قد قال في السرقة فمن تاب من بعد ظلمه

وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ومع ذلك فليست توبة السارق مسقطة للحد عنه قيل له لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من مبتدأ مستغنيا بنفسه عن تضمينه بغيره وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة وقوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم مفتقر في صحته إلى ما قبله فمن أجل ذلك كان مضمنا به ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة وكالزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس كالسارق إذا درئ عنه الذي يكون به محاربا فقال أبو حنيفة من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا أو بين الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا فلا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحارى وحكى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن الأمصار وغيرها سواء وهم المحاربون يقام حدهم وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين يكبسون الناس ليلا في دورهم في المصر أنهم بمنزلة قطاع الطريق يجري عليهم أحكامهم وحكي عن مالك أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية وذكر عنه أيضا قال المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير نائرة ولم يفرق ههنا بين المصر وغيره وقال الشافعي قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال والصحارى والمصر واحد وقال الثوري لا يكون محاربا بالكوفة حتى يكون خارجا منها قال أبو بكر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال لا قطع على خائن ولا مختلس فنفى ص
- القطع عن المختلس والمختلس هو الذي يختلس الشيء وهو ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمتهب كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلسا غاصبا لا يجري عليه أحكام قطاع الطريق وإذا كانت جماعة ممتنعة

في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محاربا في المصر لعدم الامتناع منه فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالسلب والقتال فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في المصر فإن قال قائل إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم قيل له صاروا محاربين بالامتناع والخروج سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره
فصل واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم واعتبر الشافعي ربع دينار كما اعتبره في

قطع السارق
ولم يعتبره مالك لأنه يروى إجراء الحكم عليها بالخروج قبل أخذ المال
فصل وقال أصحابنا إذا كان الذي ولي القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجري الحكم عليهم وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا بإجتماعهم جميعا فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة وهو المنعة حصل باجتماعهم جميعا وجب أن لا يختلف حكم من ولي القتل منهم ومن كان عونا أو ظهيرا والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال منهم ومن كان منهم ردأ وظهيرا ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف إذ كان من لم يل القتال يجري عليه الحكم
باب قطع السارق
قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما روى سفيان عن جابر عن

عامر قال قراءة عبدالله فاقطعوا أيديهما وروى ابن عوف عن إبراهيم في قراءتنا فاقطعوا أيمانهما قال أبو بكر لم تختلف الأمة في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمين فعلمنا أن مراد الله تعالى بقوله أيديهما أيمانهما فظاهر اللفظ في جمعه الأيدي من الإثنين يدل على أن المراد اليد الواحدة من كل واحد منهما كقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما لما كان لكل واحد منهما قلب واحد أضافه إليها بلفظ الجمع كذلك لما أضاف الأيدي إليهما بلفظ الجمع دل على أن المراد إحدى اليدين من كل واحد منهما وهي اليمنى وقد اختلف في قطع اليسرى في المرة الثالثة وفي قطع الرجل اليمنى في الرابعة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى ولم تختلف الأمة في خصوص هذه الآية لأن اسم السارق يقع على سارق الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم - إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته قيل له يا رسول الله وكيف يسرق صلاته قال لا يتم ركوعها وسجودها ويقع على سارق اللسان روى ليث بن سعد قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبدالله عن أبي رهم عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أسرق السارق الذي يسرق لسان الأمير فثبت بذلك أنه لم يرد كل سارق والسرقة اسم لغوي مفهوم المعنى عند أهل اللسان بنفس وروده غير محتاج إلى بيان وكذلك حكمه في الشرع وإنما علق بهذا الاسم حكم القطع كالبيع والنكاح والإجارة وسائر الأمور المعقولة معانيها من اللغة قد علقت بها أحكام يجب اعتبار عمومها بوجود الاسم إلا ما قام دليل خصوصه فلو خلينا وظاهر قوله السارق والسارقة لوجب إجراء الحكم على الاسم إلا ما خصه الدليل إلا أنه قد ثبت عندنا أن الحكم متعلق بمعنى غير الاسم يجب اعتباره في إيجابه وهو الحرز والمقدار فهو مجمل من جهة المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إثباته فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار والدليل على إجماله وامتناع اعتبار عمومه ما حدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عبدالرحمن بن المبارك قال حدثنا وهيب عن أبي واقد قال حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن وروى ابن لهيعة عن أبي النضر عن عمرة
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تقطع يد السارق إلا فيما بلغ ثمن المجن فما فوقه وروى سفيان عن منصور عن مجاهد عن عطاء عن أيمن الحبشي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أدنى ما يقطع فيه السارق

ثمن المجن فثبت بهذه الأخبار أن حكم الآية في إيجاب القطع موقوف على ثمن المجن فصار ذلك كوروده مع الآية مضموما إليها وكان تقديرها والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذا بلغت السرقة ثمن المجن وهذا لفظ مفتقر إلى البيان غير مكتف بنفسه في إثبات الحكم وما كان هذا سبيله لم يصح الاحتجاج بعمومه ووجه آخر يدل على إجمالها في هذا الوجه وهو ما روى عن السلف في تقويم المجن فروي عن عبدالله بن عباس وعبدالله بن عمر وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم في آخرين أن قيمته كانت عشرة دراهم وقال ابن عمر قيمته ثلاثة دراهم وقال أنس وعروة والزهري وسليمان بن يسار قيمته خمسة دراهم وقالت عائشة ثمن المجن ربع دينار ومعلوم أنه لم يكن ذلك تقويما منهم لسائر المجان لأنها تختلف كاختلاف الثياب وسائر العروض فلا محالة أن ذلك كان تقويما للمجن الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ومعلوم أيضا أنهم لم يحتاجوا إلى تقويمه من حيث قطع فيه النبي ص
- إذ ليس في قطع النبي صلى الله عليه وسلم - في شيء بعينه دلالة على نفي القطع عما دونه كما أن قطعه السارق في المجن غير دال على أن حكم القطع مقصور عليه دون غيره إذ كان ما فعله بعض ما تناوله لفظ العموم على حسب حدوث الحادثة فإذا لا محالة قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف لهم حين قطع السارق على نفي القطع فيما دونه فدل ذلك على إجمال حكم الآية في المقدار كدلالة الأخبار التي قدمناها لفظا من نفي القطع عما دونه قيمة المجن فلم يجز من أجل ذلك اعتبار عموم الآية في إثبات المقدار ووجب طلب معرفة قيمة المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم - وليس إجمالها في المقدار بموجب إجمالها في سائر الوجوه من الحرز وجنس المقطوع فيه وغير ذلك بل جائز أن يكون عموما في هذه الوجوه مجملا في حكم المقدار فحسب كما أن قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة عموم في جهة الأموال الموجب فيها الصدقة مجمل في المقدار الواجب منها وكان شيخنا أبو الحسن يذهب إلى أن الآية مجملة من حيث علق فيها الحكم بمعان لا يقتضيها اللفظ من طريق اللغة وهو الحرز والمقدار والمعان المعتبرة في إيجاب القطع متى عدم منها شيء لم يجب القطع مع وجود الاسم لأن اسم السرقة موضوع في اللغة لأخذ الشيء على وجه الاستخفاء ومنه قيل سارق اللسان وسارق الصلاة تشبيها بأخذ الشيء على وجه الاستخفاء والأصل فيها ما ذكرنا وهذه المعاني التي ذكرنا اعتبارها في الإيجاب القطع

لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة وإنما ثبت ذلك من جهة الشرع فصارت السرقة في الشرع اسما شرعيا لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قامت دلالته واختلف في مقدار ما يقطع فيه السارق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا أو قيمتها من غيرها وروي عن أبي يوسف ومحمد أنه لا قطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دارهم مضروبة وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سرق ما يساوي عشرة دارهم مما يجوز بين الناس قطع وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وقال الشافعي فلو غلت الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قطع إلا في ربع دينار وإن كان ذلك نصف درهم وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قطع في ربع دينار وذلك خمسة وعشرون درهما وروي عن الحسن البصري أنه قال لا يقطع في درهم واحد وهو قول شاذ قد اتفق الفقهاء على خلافه وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار لا يقطع إلا في خمسة دراهم وروي نحوه عن عمر وعلي أنهما قالا لا يقطع إلا في خمسة وقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأبو جعفر وعطاء وإبراهيم لا قطع إلا في عشرة دراهم قال ابن عمر يقطع في ثلاثة دراهم وروي عن عائشة القطع في ربع دينار وروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا لا تقطع اليد إلا في أربعة دراهم والأصل في ذلك أنه لما ثبت باتفاق الفقهاء من السلف ومن بعدهم أن القطع لا يجب إلا في مقدار متى قصر عنه لم يجب وكان طريق إثبات هذا الضرب من المقادير التوقيف أو الاتفاق ولم يثبت التوقيف فيما دون العشرة وثبت الاتفاق في الشعرة أثبتناها ولم نثبت ما دونها لعدم التوقيف والاتفاق فيه ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لما بينا أنه مجمل بما اقترن إليه من توقيف الرسول ص - على اعتبار ثمن المجن ومن اتفاق السلف على ذلك أيضا فسقط الاحتجاج بعمومه ووجب الوقوف عند الاتفاق في القطع في العشرة ونفيه عما دونها لما وصفنا وقد رويت أخبار توجب اعتبار العشرة في إيجاب القطع منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا نصر بن ثابت عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا قطع فيما دون عشرة دراهم وقد سمعنا أيضا في سنن ابن قانع

حديثا رواه بإسناده له عن زحر بن ربيعة عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم وقال عمرو بن شعيب قلت لسعيد بن المسيب إن عروة والزهري وسليمان بن يسار يقولون لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم فقال أما هذا فقد مضت السنة فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم قاله ابن عباس وأيمن الحبشي وعبدالله بن عمر وقالوا كان ثمن المجن عشرة دراهم فإن احتجوا بما روي عن ابن عمر وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وبما روي عن عائشة أن النبي ص
- قال تقطع يد السارق في ربع دينار قيل له أما حديث ابن عمر وأنس فلا دلالة فيه على موضع الخلاف لأنهما قوماه ثلاثة دراهم وقد قومه غيرهما عشرة فكان تقديم الزائد أولى وأما حديث عائشة فقد اختلف في رفعه وقد قيل إن الصحيح منه أنه موقوف عليها غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
لأن الإثبات من الرواة رووه موقوفا وروى يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن ثلث دينار أو نصف دينار فصاعدا وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أدنى من ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم تكن تقطع في الشيء التافه فهذا يدل على أن الذي كان عند عائشة من ذلك القطع في ثمن المجن وأنه لم يكن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير ذلك إذ لو كان عندها عن رسول الله في ذلك شيء معلوم المقدار من الذهب أو الفضة لم تكن بها حاجة إلى ذكر ثمن المجن إذ كان ذلك مدركا من جهة الاجتهاد ولا حظ للاجتهاد مع النص وهذا يدل أيضا على أن ما روي عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - إن ثبت فإنما هو تقدير منها لثمن المجن اجتهادا وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن عبدالرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب وحدث به يحيى عن عمرة عن عائشة ورفعه فقال له عبدالرحمن بن القاسم إنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه فهذا يدل على أن من رواه مرفوعا فإنما سمعه من يحيى قبل تركه الرفع ثم لو ثبت هذا الحديث لعارضه ما قدمناه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم - من وجوه مختلفة في نفي القطع عن سارق ما دون العشرة وكان يكون حينئذ خبرنا أولى لما فيه من حظر القطع عما دونها وخبرهم مبيح له وخبر الحظر أولى من خبر الإباحة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال لعن الله السارق يسرق الحبل

فيقطع فيه ويسرق البيضة فيقطع فيها فربما ظن بعض من لا روية له أنه يدل على أن ما دون العشرة يقطع فيه لذكر البيضة والحبل وهما في العادة أقل قيمة من عشرة دراهم وليس ذلك على ما يظنه لأن المراد بيضة الحديد وقد روي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم - قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهما ولأنه لا خلاف بين الفقهاء أن سارق بيضة الدجاج لا قطع عليه وأما الحبل فقد يكون مما يساوي العشرة والعشرين وأكثر من ذلك
فصل وأما اعتبار الحرز فالأصل فيها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا قطع على خائن رواه ابن عباس وجابر وهو يشتمل على نفي القطع في جميع ما ائتمن الإنسان فيه فمنها أن الرجل إذا ائتمن غيره على دخول بيته ولم يحرز منه ماله لم يجب عليه القطع إذا خانه لعموم لفظ الخبر ويصير حينئذ بمنزلة المودع والمضارب وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم - بقوله لا قطع على خائن وجوب القطع على جاحد الوديعة والمضاربة وسائر الأمانات ويدل أيضا على نفي القطع عن المستعير إذا جحد العارية وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده فلا دلالة فيه على وجوب القطع على المستعير إذا خان إذ ليس فيه أنه قطعها لأجل جحودها للعارية وإنما ذكر جحود العارية تعريفا لها إذ كان ذلك معتادا منها حتى عرفت به فذكر ذلك على وجه التعريف وهذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال للرجلين أحدهما يحجم الآخر في رمضان أفطر الحاجم والمحجوم فذكر الحجامة تعريفا لهما والإفطار واقع بغيرها وقد روي في أخبار صحيحة أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت وهي هذه المرأة التي ذكر في الخبر أنها كانت تستعير المتاع وتجحده فبين في هذه الأخبار أنه قطعها لسرقتها ويدل على اعتبار الحرز أيضا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سئل عن حريسة الجبل فقال فيها غرامة مثلها وجلدات نكال فإذا أواها المراح وبلغ ثمن المجن ففيه القطع وقال ليس في الثمر المعلق قطع حتى يأويه الجرين فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ودلالة هذا الخبر على وجوب اعتبار الحرز أظهر من دلالة الخبر الأول وإن كان كل واحد منهما مكتفيا بنفسه في وجوب اعتباره ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن الحرز شرط في القطع وأصله من السنة ما وصفنا والحرز عند أصحابنا ما بني للسكنى وحفظ الأموال من الأمتعة

وما في معناها وكذلك الفساطيط والمضارب والخيم التي يسكن الناس فيها ويحفظون أمتعتهم بها كل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أم لا باب له إلا أنه محجر بالبناء وما كان في غير بناء ولا خيمة ولا فسطاط ولا مضرب فإنه لا يكون حرزا إلا أن يكون عنده من يحفظه وهو قريب منه بحيث يكون حافظ له وسواء كان الحافظ نائما في ذلك الموضع أو مستيقظا والأصل في كون الحافظ حرزا له وإن كان في مسجد أو صحراء حديث صفوان بن أمية حين كان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فسرقه سارق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بقطعه ولا خلاف أن المسجد ليس بحرز فثبت أنه كان محرزا لكون صفوان عنده ولذلك قال أصحابنا لا فرق بين أن يكون الحافظ نائما أو مستيقظا لأن صفوان كان نائما وليس المسجد عندهم في ذلك كالحمام فمن سرق من الحمام لم يقطع وكذلك الخان والحوانيت المأذون في دخولها وإن كان هناك حافظ من قبل أن الإذن موجود في الدخول من جهة مالك الحمام والدار فخرج الشيء من أن يكون محرزا من المأذون له في الدخول ألا ترى أن من أذن لرجل في دخول داره أن الدار لم تخرج من أن تكون حرزا في نفسها ولا يقطع مع ذلك المأذون له في الدخول لأنه حين أذن له في الدخول فقد ائتمنه ولم يحرز ماله عنه كذلك كل موضع يستباح دخوله بإذن المالك فهو غير حرز من المأذون له في الدخول وأما المسجد فلم يتعلق إباحة دخوله بإذن آدمي كالمفازة والصحراء فإذا سرق منه وهناك حافظ له قطع وحكي عن مالك أن السارق من الحمام يقطع إن كان هناك حافظ له قال أبو بكر لو وجب قطع السارق من الحانوت والمأذون له في الدخول إليه لأن صاحب الحانوت حافظ له ومعلوم أن إذنه له في دخوله قد أخرجه من أن يكون ماله فيه محرزا فكان بمنزلة المؤتمن ولا فرق بين الحمام والحانوت والمأذون في دخوله فإن قال قائل يقطع السارق من الحانوت والخان المأذون له قيل له هو كالخائن للودائع والعواري والمضاربات وغيرها إذ لا فرق بين ما ذكرنا وبينها وقد ائتمنه صاحبه بأن لم يحرزه كما ائتمنه في إيداعه وقال عثمان البتي إذا سرق من الحمام قطع واختلف في قطع النباش فقال أبو حنيفة والثوري ومحمد والأوزاعي لا قطع على النباش وهو قول ابن عباس ومكحول وقال الزهري اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في زمن كان مروان أميرا

على المدينة أن النباش لا يقطع ويعزر وكان الصحابة متوافرين يومئذ وقال أبو يوسف بن أبي ليلى وأبو الزناد وربيعة يقطع وروي مثله عن ابن الزبير وعمر بن عبدالعزيز والشعبي والزهري ومسروق والحسن والنخعي وعطاء وهو قول الشافعي والدليل على صحة القول الأول أن القبر ليس بحرز والدليل عليه اتفاق الجميع على أنه لو كان هناك دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع لعدم الحرز والكفن كذلك فإن قيل إن الأحراز مختلفة فمنها شريحة البقال حرز لما في الحانوت والإصطبل حرز للدواب وللأموال ويكون الرجل حرزا لما هو حافظ له وكل شيء من ذلك حرزا لما يحفظ به ذلك الشيء في العادة ولا يكون حرزا لغيره فلو سرق دراهم من اصطبل لم يقطع ولو سرق منه دابة قطع ذلك القبر هو حرز للكفن وإن لم يكن حرزا للدراهم قيل له هذا كلام فاسد من وجهين أحدهما أن الأحراز على اختلافها في أنفسها ليست مختلفة في كونها حرزا لجميع ما يجعل فيها لأن الإصطبل لما كان حرزا للدواب فهو حرز للدراهم والثياب ويقطع فيما يسرقه منه وكذلك حانوت البقال هو حرز لجميع ما فيه من ثياب ودراهم وغيرها فقول القائل الإصطبل حرز للدواب ولا يقطع من سرق منه دراهم غلط والوجه الآخر أن قضيتك هذه لو كانت صحيحة لكانت مانعة من إيجاب قطع النباش لأن القبر لم يحفر ليكون حرزا للكفن فيحفظ به وإنما يحفر لدفن الميت وستره عن عيون الناس وأما الكفن فإنما هو للبلى والهلاك ودليل آخر وهو أن الكفن لا مالك له والدليل عليه أنه من جميع المال فدل على أنه ليس في ملك أحد ولا موقوف على أحد فلما صح أنه من جميع المال وجب أن لا يملكه الوارث كما لا يملكون ما صرف في الدين الذي هو من جميع المال ويدل عليه أيضا أن الكفن يبدأ به على الديون فإذا لم يملك الوارث ما يقضي به الديون فهو أن لا يملك الكفن أولى وإذا لم يملكه الوارث واستحال أن يكون الميت مالكا وجب أن لا يقطع سارقه كما لا يقطع سارق بيت المال وأخذ الأشياء المباحة التي لا ملك لها فإن قال قائل جواز خصومة الوارث المطالبة بالكفن دليل على أنه ملكه قيل له الإمام يطالب بما يسرق من بيت المال ولا يملكه ووجه آخر وهو أنا الكفن يجعل هناك للبلى والتلف لا للقنية والتبقية فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء الذي هو للإتلاف لا للتبقية فإن قال قائل القبر حرز للكفن لما روى عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول

الله ص - كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف يعني القبر قلت الله ورسوله أعلم

قال
عليك بالصبر فسمى القبر بيتا وقال حماد بن أبي سليمان يقطع النباش لأنه دخل على الميت بيته وروى مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - لعن المختفي والمختفية وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله وقال أهل اللغة المختفي النباش قيل له إنما سماه بيتا على وجه المجاز لأن البيت موضوع في لغة العرب لما كان مبنيا ظاهرا على وجه الأرض وإنما سمي القبر بيتا تشبيها بالبيت المبني ومع ذلك فإن قطع السارق ليس معلقا بكونه سارقا من بيت إلا أن يكون ذلك البيت مبنيا ليحرز به ما يجعل فيه وقد بينا أن القبر ليس بحرز ألا ترى أن المسجد يسمى بيتا قال الله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولو سرق من المسجد لم يقطع إذا لم يكن له حافظ وأيضا فلا خلاف أنه لو كان في القبر دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع وإن كان بيتا فعلمنا أن قطع السرقة غير متعلق بكونه بيتا وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لعن الله المختفي وما روي أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله فإن هذا إنما هو لعن له واستحقاق اللعن ليس بدليل على وجوب القطع لأن الغاصب والكاذب والظالم كل هؤلاء يستحقون اللعن ولا يجب قطعهم وقوله من اختفى ميتا فكأنما قتله فإنه لم يوجب به قطعا وإنما جعله كالقاتل وإن كان معناه محمولا على حقيقة لفظه فواجب أن نقتله وهذا لا خلاف فيه ولا تعلق لذلك بالقطع
باب من أين يقطع السارق
قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما واسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب والدليل عليه أن عمارا تيمم إلى المنكب بقوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم يخطئ من طريق اللغة وإنما لم يثبت ذلك لورود السنة بخلافه ويقع على اليد إلى مفصل الكف أيضا قال الله تعالى إذا أخرج يده لم يكد يراها وقد عقل به ما دون المرفق وقال تعالى لموسى أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ويمتنع أن يدخل يده إلى المرفق ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق فلو لم يقع الاسم على ما دون المرافق لما ذكرها إلى المرافق وفي ذلك دليل على وقوع الاسم إلى الكوع لما كان الاسم يتناول هذا العضو إلى المفصل وإلى المرفق وإلى المنكب

اقتضى عموم اللفظ القطع من المنكب إلى أن تقوم الدلالة على أن المراد ما دونه وجائز أن يقال إن الاسم لما تناولها إلى الكوع ولم يجز أن يقال إن ذلك بعض اليد بل يطلق عليه اسم اليد من غير تقييد وإن كان قد يطلق أيضا على ما فوقه إلى المرفق تارة وإلى المنكب أخرى ثم قال تعالى فاقطعوا أيديهما وكانت اليد محظورة في الأصل فمتى قطعناها من الفصل فقد قضينا عهدة الآية لم يجز لنا قطع ما فوقه إلا بدلالة كما لو قال أعط هذا رجالا فأعطاه ثلاثة منهم فقد فعل المأمور به إذ كان الاسم يتناولهم وإن كان اسم الرجال يتناول ما فوقهم فإن قال قائل يلزمكم في التيمم مثله بقوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وقد قلتم فيه إن الاسم لما تناول العضو إلى المرفق اقتضاه العموم ولم ينزل عنه إلا بدليل قيل له هما مختلفان من قبل أن اليد لما كانت محظورة في الأصل ثم كان الاسم يقع على العضو إلى المفصل وإلى المرفق لم يجز لنا قطع الزيادة بالشك ولما كان الأصل الحدث واحتاج إلى استباحة الصلاة لم يزل أيضا إلا بيقين وهو التيمم إلى المرفق ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن القطع من المفصل وإنما خالف فيه الخوارج وقطعوا من المنكب لوقوع الاسم عليه وهم شذوذ لا يعدون خلافا وقد روى محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قطع يد سارق من الكوع وعن عمر وعلي أنهما قطعا اليد من المفصل ويدل على
أن دون الرسغ لا يقع عليه اسم اليد على الإطلاق قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم يقل أحد أنه يقتصر بالتيمم على ما دون المفصل وإنما اختلفوا فيما فوقه واختلفوا في قطع الرجل من أي موضع هو فروي عن علي أنه قطع سارقا من خصر القدم وروى صالح السمان قال رأيت الذي قطعه علي رضي الله عنه مقطوعا من أطراف الأصابع فقيل له من قطعك فقال خير الناس قال أبو رزين سمعت ابن عباس يقول أيعجز من رأى هؤلاء أن يقطع كما قطع هذا الأعرابي يعني نحوه فلقد قطع فما أخطأ يقطع الرجل ويذر عقبها وروي مثله عن عطاء وأبي جعفر من قولهما وعن عمر رضي الله عنه في آخرين يقطع الرجل من المفصل وهو قول فقهاء الأمصار والنظر يدل على هذا القول لاتفاقهم على قطع اليد من المفصل الظاهر وهو الذي يلي الزند وكذلك الواجب قطع الرجل من المفصل الظاهر الذي يلي الكعب الناتئ وأيضا لما اتفقوا على أنه لايترك

له من اليد ما ينتفع به للبطش ولم يقطع من أصول الأصابع حتى يبقى له الكف كذلك ينبغي أن لا يترك له من الرجل العقب فيمشي عليه لأن الله تعالى إنما أوجب قطع اليد ليمنعه الأخذ والبطش بها وأمر بقطع الرجل ليمنعه المشي بها فغير جائز ترك العقب للمشي عليه ومن قطع من المفصل الذي هو على ظهر القدم فإنه ذهب في ذلك أن هذا المفصل من الرجل بمنزلة مفصل الزند من اليد لأنه ليس بين مفصل أصابع الرجل مفصل غيره كما أنه ليس بين مفصل الزند ومفصل أصابع اليد مفصل غيره فلما وجب في اليد قطع أقرب المفصل إلى مفصل الأصابع كذلك وجب أن يقطع في الرجل من أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع والقول الأول أظهر لأن مفصل ظهر القدم غير ظاهر كظهور مفصل الكعب من الرجل ومفصل الزند من اليد فلما وجب قطع مفصل اليد ظاهر منه كذلك يجب أن يكون في الرجل لما استوعبت اليد بالقطع وجب استيعاب الرجل أيضا والرجل كلها إلى مفصل الكعب بمنزلة الكف إلى مفصل الزند وأما القطع من أصول أصابع الرجل فإنه لم يثبت عن علي من جهة صحيحة وهو قول شاذ خارج عن الإتفاق والنظر جميعا واختلف في قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى فقال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب حين رجع إلى قول علي لما استشاره وابن عباس إذا سرق قطعت يده اليمنى فإذا سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى فإذا سرق لم يقطع وحبس وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وروي عن عمر أنه تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليمنى فإن سرق قطعت رجله اليمنى فإن سرق حبس حتى يحدث التوبة وعن أبي بكر مثل ذلك إلا أن عمر قد روي عنه الرجوع إلى قول علي كرم الله وجهه وقال مالك والشافعي تقطع اليد اليسرى بعد ا لرجل اليسرى والرجل اليمنى بعد ذلك ولا يقتل إن سرق بعد ذلك وروي عن عثمان بن عفان وعبدالله بن عمر وعمر بن عبدالعزيز أنهم قتلوا سارقا بعد ما قطعت أطرافه وروى سفيان عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرجل فقال له عمر السنة اليد وروى عبدالرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول أن عمر قال لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل ولكن احبسوه عن المسلمين وقال الزهري انتهى أبو بكر إلى اليد والرجل وروى أبو خالد الأحمر عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا على أنه تقطع يده

اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثم لا يقطع أكثر من ذلك وهذا يقتضي أن يكون ذلك إجماعا لا يسع خلافه لأن الذي يستشيرهم عمر هم الذين ينعقد بهم الإجماع وروى سفيان عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق قطع اليد بعد قطع اليد والرجل في قصة الأسود الذي نزل بأبي بكر ثم سرق حلي أسماء وهو مرسل وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رجلا خدم أبا بكر فبعثه مع مصدق وأوصاه به فلبث قريبا من شهر ثم جاءه وقد قطعه المصدق فلما رآه أبو بكر قال له مالك قال وجدني خنت فريضة فقطع يدي فقال أبو بكر إني لا آراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة والذي نفسي بيده لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ثم سرق حلي أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر فأخبرت عائشة أن أبا بكر قطعه بعد قطع المصدق يده وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى وهو حديث صحيح لا يعارض بحديث القاسم ولو تعارضا لسقطا جميعا ولم يثبت بهذا الحديث عن أبي بكر شيء ويبقى لنا الأخبار الأخر التي ذكرناها عن أبي بكر والاقتصار على الرجل اليسرى فإن قيل روى خالد الحذاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يدا بعد يد ورجل قيل له لم يقل في السرقة ويجوز أن يكون في قصاص وقد روي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وتأويله ما ذكرناه فحصل من اتفاق السلف وجوب الاقتصار على اليد والرجل وما روي عنهم من مخالفة ذلك فإنما هو على وجهين إما أن يكون الحكاية في قطع اليد بعد الرجل أو قطع الأربع من غير ذكر السرقة فلا دلالة فيه على القطع في السرقة أو يكون مرجوعا عنه كما روي عن عمر ثم روي عنه الرجوع عنه وقد روي عن عثمان أنه ضرب عنق رجل بعد ما قطع أربعته وليس فيه دلالة على قول المخالف لأنه لم يذكر أنه قطعه في السرقة ويجوز أن يكون قطعه من قصاص ويدل على صحة قول أصحابنا قوله تعالى فاقطعوا أيديهما وقد بينا أن المراد أيمانهما وكذلك هو في قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم وإذا كان الذي تتناوله الآية يدا واحدة لم تجز الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق وقد ثبت الاتفاق في الرجل اليسرى واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى فلم يجز قطعها مع عدم الاتفاق والتوقيف إذ غير جائز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين ودليل آخر وهو اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليد وفي ذلك دليل على أن اليد اليسرى غير مقطوعة أصلا لأن العلة في العدول عن

اليد اليسرى بعد اليمنى إلى الرجل في قطعها على هذ الوجه إبطال منفعة الجنس وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى ومن جهة أخرى أنه لم تقطع رجله اليمنى بعد رجله اليسرى لما فيه من بطلان منفعة المشي رأسا كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى لما فيه من بطلان البطش وهو منافع اليد كالمشي من منافع الرجل ودليل آخر وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جرمه في أخذ المال لا يزاد على قطع اليد والرجل لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف كذلك السارق وإن كثر الفعل منه بأن عظم جرمه فلا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل فإن قال قائل قوله عز و جل فاقطعوا أيديهما يقتضي قطع اليدين جميعا ولولا الاتفاق لما عدلنا عن اليد اليسرى في السرقة الثانية إلى الرجل اليسرى قيل له أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى فليس كذلك عندنا لأنها إنما اقتضت يدا واحدة لما ثبت من إضافتها إلى الإثنين بلفظ الجمع دون التثنية وإن ما كان هذا وصفه فإنه يقتضي يدا واحد منهما ثم قد اتفقوا أن اليد اليمنى مرادة فصار كقوله تعالى فاقطعوا أيمانهما فانتفى بذلك أن تكون اليسرى مرادة باللفظ فيسقط الاحتجاج بالآية في إيجاب قطع اليسرى وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملا لما وصفت لكان اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دلالة على أن اليسرى غير مرادة إذ غير جائز ترك المنصوص والعدول عنه إلى غيره واحتج موجبو قطع الأطراف بما رواه عبدالله بن رافع قال أخبرني حماد بن بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق قد سرق فأمر به أن تقطع يده ثم أتي به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تقطع رجله حتى قطعت أطرافه كلها وحماد بن أبي حميد ممن يضعف وهو مختصر وأصله ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبدالله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبدالله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء الثالثة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الخامسة فقال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ورواه معشر عن مصعب بن ثابت بإسناد مثله وزاد

خرجنا به إلى مربد النعم فحملنا عليه النعم فأشار بيده ورجليه فنفرت الإبل عنه فلقيناه بالحجارة حتى قتلناه ورواه يزيد بن سنان حدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر

قال
أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم - بسارق فقطع يده ثم أتي به قد سرق فقطع رجله ثم أتي به قد سرق فأمر بقتله ورواه حماد بن سلمة عن يوسف بن الحارث بن حاطب أن رجلا سرق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - اقتلوه فقال القوم إنما سرق فقال اقطعوه فقطعوه ثم سرق على عهد أبي بكر الصديق فقطعه حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق الخامسة فقال أبو بكر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعلم به حين أمر بقتله فأمر به فقتل والذي ذكرناه من حديث مصعب بن ثابت هو أصل الحديث الذي رواه حماد بن أبي حميد وفيه الأمر بقتله بديا ومعلوم ان السرقة لا يستحق بها القتل فثبت أن قطع هذه الأعضاء لم يكن على وجه الحد المستحق بالسرقة وإنما كان على جهة تغليظ العقوبة والمثلة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قصة العرنيين أنه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم وليس السمل حدا في قطاع الطريق فلما نسخت المثلة نسخ بها هذا الضرب من العقوبة فوجب الاقتصار على اليد والرجل لا غير ويدل على أن قطع الأربع كان على وجه المثلة لا على الحد أن في حديث جابر أنهم حملوا عليه النعم ثم قتلوه بالحجارة وذلك لا يكون حدا في السرقة بوجه
باب مالا يقطع فيه
قال
أبو بكر قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يوجب قطع كل من تناول الاسم في سائر الأشياء لأنه عموم في هذا الوجه وإن كان مجملا في المقدار إلا أنه قد قامت الدلالة من سنة الرسول ص -
وقول السلف واتفاق فقهاء الأمصار على أنه لم يرد به العموم وأن كثيرا مما
يسمى آخذه سارقا لا قطع فيه واختلف الفقهاء في أشياء منه
ذكر الاختلاف في ذلك
قال أبو حنيفة ومحمد لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد نحو الرطب والعنب والفواكه الرطبة واللحم والطعام الذي لا يبقى ولا في الثمر المعلق والحنطة في سنبلها سواء كان لها حافظ أو لم يكن ولا قطع في شيء من الخشب إلا الساج والقنا ولا قطع في الطين والنورة

والجص والزرنيخ ونحوه ولا قطع في شيء من الطير ويقطع في الياقوت والزمرد ولا قطع في شيء من الخمر ولا في شيء من آلات الملاهي وقال أبو يوسف يقطع في كل شيء سرق من حرز إلا في السرقين والتراب والطين وقال مالك لا يقطع في الثمر المعلق ولا في حريسة الجبل وإذا أواه الجرين ففيه القطع وكذلك إذا سرق خشبة ملقاة فبلغ ثمنها ما يجب فيه القطع ففيه القطع وقال الشافعي لا قطع في الثمر المعلق ولا في الجمار لأنه غير محرز فإن أحرز ففيه القطع رطبا كان أو يابسا وقال عثمان البتي إذا سرق الثمر على شجره فهو سارق يقطع قال أبو بكر روى مالك وسفيان الثوري وحماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن مروان أراد قطع يد عبد وقد سرق وديا فقال رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا قطع في ثمرة ولا كثر وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمه واسع بن حبان بهذه القصة فأدخل ابن عيينة بين محمد بن حبان وبين رافع واسع بن حبان ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمة له بهذه القصة وأدخل الليث بينهما عمة له مجهولة ورواه الدراوردي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي ميمونة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله فجعل الدراوردي بين محمد بن يحيى ورافع أبا ميمونة فإن كان واسع بن حبان كنيته أبو ميمونة فقد وافق ابن عيينة وإن كان غيره فهو مجهول لا يدري من هو إلا أن الفقهاء قد تلقت هذا الحديث بالقبول وعملوا به فثبت حجته بقولهم له كقوله لا وصية لوارث واختلاف التابعين لما تلقاه العلماء بالقبول ثبتت حجته ولزم العمل به وقد تنازع أهل العلم معنى قوله لا قطع في ثمر ولا كثر فقال أبو حنيفة ومحمد هو على كل ثمر يسرع إليه الفساد وعمومه يقتضي ما يبقى منه ومالا يبقى إلا أن الكل متفقون على القطع فيما قد استحكم ولا يسرع إليه الفساد فخص ما كان بهذا الوصف من العموم وصار ذلك أصلا في نفي القطع عن جميع ما يسرع إليه الفساد وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا قطع في طعام وذلك ينفي القطع عن جميع الطعام إلا أنه خص مالا يسرع إليه بالفساد بدليل وقال أبو يوسف ومن قدمنا قوله أن نفيه القطع عن الثمر والكثر لأجل عدم الحرز فإذا أحرز فهو وغيره سواء وهذا تخصيص بغير دلالة وقوله ولا كثر أصل في ذلك أيضا لأن الكثر قد قيل فيه وجهان أحدهما الجمار والآخر النخل الصغار وهو عليهما جميعا

فإذا أراد به الجمار فقد نفى القطع عنه لأنه مما يفسد وهو أصل في كل ما كان في معناه وإن أراد به النخل فقد دل على نفي القطع في الخشب فنستعملهما على فائدتيهما جميعا وكذلك قال أبو حنيفة لا قطع في الخشب إلا الساج والقنا وكذلك يجيء على قوله في الأبنوس وذلك أن الساج والأبنوس لا يوجد في دار الإسلام إلا مالا فهو كسائر الأموال وإنما اعتبر ما يوجد في دار الإسلام مالا من قبل أن الأملاك الصحيحة هي التي توجد في دار الإسلام وما كان في دار الحرب فليس بملك صحيح لأنها دار إباحة وأملاك أهلها مباحة فلا يختلف فيها حكم ما كان منه مالا مملوكا وما كان منه مباحا فلذلك سقط اعتبار كونها مباحة في دار الحرب فاعتبر حكم وجودها في دار الإسلام فلما لم توجد في دار الإسلام إلا مالا كانت كسائر أموال المسلمين التي ليست مباحة الأصل فإن قال قائل النخل غير مباح الأصل قيل له هو مباح الأصل في كثير من المواضع كسائر الجنس المباح الأصل وإن كان بعضها مملوكا بالأخذ والنقل من موضع إلى موضع وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمر قال جاء رجل من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال هي عليه ومثلها والنكال وليس في شيء من الماشية قطع إلا ما أواه المراح فإذا أواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد ومالم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثله وجلدات النكال قال يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق قال هي ومثله معه والنكال وليس في شيء من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذه من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع ومالم يبلغ ففيه غرامة مثله وجلدات النكال فنفى في حديث رافع بن خديج القطع عن الثمر رأسا ونفى في حديث عبدالله بن عمر القطع عن الثمر إلا ما أواه الجرين وقوله حتى يأويه الجرين يحتمل معنيين أحدهما الحرز والآخر الإبانة عن حال استحكامه وامتناع إسراع الفساد إليه لأنه لا يأويه الجرين إلا وهو مستحكم في الأغلب وهو كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده ولم يرد به وقوع الحصاد وإنما أراد به بلوغه وقت الحصاد وقوله ص - لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولم يرد به وجود الحيض وإنما أخبر عن حكمها بعد البلوغ وقوله إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ولم يرد به السن وإنما أراد الإحصان وقوله في خمس وعشرين بنت مخاض أراد دخولها في السنة الثانية وإن لم يكن بأمها مخاض لأن الأغلب إذا صارت كذلك كان بأمها مخاض وكذلك قوله حتى يأويه

الجرين يحتمل أن يريد به بلوغ حال الاستحكام فلم يجز من أجل ذلك أن يخص حديث رافع بن خديج في قوله لا قطع في ثمر ولا كثر وإنما لم يقطع في النورة ونحوها لما روت عائشة قالت لم يكن قطع السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الشيء التافه يعني الحقير فكل ما كان تافها مباح الأصل فلا قطع فيه والزرنيخ والجص والنورة ونحوها تافه مباح الأصل لأن أكثر الناس يتركونه في موضعه مع إمكان القدرة عليه وأما الياقوت والجوهر فغير تافه وإن كان مباح الأصل بل هو ثمين رفيع ليس يكاد يترك في موضعه مع إمكان أخذه فيقطع فيه وإن كان الأصل كما يقطع في سائر الأموال لأن شرط زوال القطع المعينان جميها من كونه تافها في نفسه ومباح الأصل وأيضا فإن الجص والنورة ونحوها أموال لا يراد بها القنية بل الإتلاف فهي كالخبز واللحم ونحو ذلك والياقوت ونحوه مال يراد به القنية والتبقية كالذهب والفضة وأما الطير فإنما لم تقطع فيه لما روي عن علي وعثمان أنهما قالا لا يقطع في الطير من غير خلاف من أحد من الصحابة عليهما وأيضا فإنه مباح الأصل فأشبه الحشيش والحطب واختلف في السارق من بيت المال فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي لا يقطع من سرق من بيت المال وهو قول علي وإبراهيم النخعي والحسن وروى ابن وهب عن مالك أنه يقطع وهو قول حماد بن أبي سليمان وروى سفيان عن سماك بن حرب عن ابن عبيد بن الأبرص أن عليا أتي برجل سرق مغفرا من الخمس فلم يرد عليه قطعا وقال له فيه نصيب وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم أن رجلا سرق من بيت المال فكتب فيه سعد إلى عمر فكتب إليه عمر ليس عليه قطع له في نصيب ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وأيضا لما كان حقه وحق سائر المسلمين فيه سواء فصار كسارق مال بينه وبين غيره فلا يقطع واختلف فيمن سرق خمرا من ذمي أو مسلم فقال أصحابنا ومالك والشافعي لا قطع عليه وهو قول الثوري وقال الأوزاعي في ذمي سرق من مسلم خمرا أو خنزيرا غرم الذمي ويجد فيه المسلم قال أبو بكر الخمر ليست بمال لنا وإنما أمر هؤلاء أن نترك مالا لهم بالعهد والذمة فلا يقطع سارقها لأن ما كان مالا من وجه وغير مال من وجه فإن أقل أحواله أن يكون ذلك شبهة في درء الحد عن سارقه كن وطىء جارية بينه وبين غيره وأيضا فإن المسلم معاقب على اقتناء الخمر وشربها مأمور بتخليلها أو صبها فمن أخذها فإنما

أزال يده عما كان عليه إزالته عنه فلا يقطع واختلف فيمن أقر بالسرقة مرة واحدة فقال أبو حنيفة وزفر ومالك والشافعي والثوري إذا أقر بالسرقة مرة واحدة قطع وقال أبو يوسف وابن شبرمة وابن أبي ليلى لا يقطع حتى يقر مرتين والدليل على صحة القول الأول ما روى عبدالعزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن صفية عن محمد بن عبدالرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال أتي بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله هذا سرق فقال ما أخاله سرق فقال السارق بلى قال فاذهبوا به فاقطعوه فقطع ورواه غير الدراوردي عن محمد بن عبدالرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولم يذكر فيه أبا هريرة منهم الثوري وابن جريج ومحمد بن إسحاق قال أبو بكر وعلى أي وجه حصلت الرواية من وصل أو قطع فحكمها ثابت لأن إرسال من أرسله لا يمنع صحة وصل من وصله ومع ذلك لو حصل مرسلا لكان حكمه ثابتا لأن المرسل والموصول سواء عندنا فيما يوجبون من الحكم فقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم - بإقراره مرة واحدة فإن قال قائل إنما قطعه بشهادة الشهود لأنهم قالوا سرق قيل له لو كان كذلك لاقتصر عليها ولم يلقنه الجحود فلما قال بعد قولهم سرق وما أخاله سرق ولم يقطعه حتى أقر ثبت أنه قطع بإقراره دون الشهادة فإن احتجوا بما روى حماد بن سلمة عن إسحاق عن عبدالله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أتي بلص اعترف اعترافا ولم يوجبوا معه المتاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ما أخالك سرقت قال بلى يا رسول الله فأعادها عليه رسول الله ص
- مرتين أو ثلاثا قال بلى فأمر به فقطع ففي هذا الحديث أنه لم يقطعه بإقراره مرة واحدة وهو أقوى إسنادا من الأول قيل له ليس في هذا الحديث بيان موضع الخلاف وذلك أنه لم يذكر فيه إقرار السارق مرتين أو ثلاثا قبل أن يقر ثم أقر فإن قيل فقد ذكر فيه أنه اعترف اعترافا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم -
ذلك مرتين أو ثلاثا ويحتمل أيضا أن يكون الاعتراف قد حصل منه عند غير
النبي صلى الله عليه وسلم - فلا يوجب ذلك القطع عليه وأيضا لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أعاد عليه ذلك بعد الإقرار الأول لما دل على أن الإقرار الأول لم يوجب
القطع إذ ليس يمتنع أن يكون القطع قد وجب وأراد النبي صلى الله عليه وسلم - أن يتوصل إلى إسقاطه بتلقينه الرجوع عنه فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال ما بنبغي لوال أمر أن يؤتى الحد إلا أقامه فلو كان القطع واجبا
بإقراره بديا لما اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم - بتلقينه الرجوع عن الإقرار

ولسارع إلى إقامته قيل له ليس وجوب القطع مانعا من استثبات الإمام إياه فيه ولا موجبا عليه قطعه في الحال لأن ماعزا قد أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم - بالزنا أربع مرات فلم يرجمه حتى استثبته وقال لعلك قبلت لعلك لمست وسأل أهله عن صحة عقله وقال لهم أبه جنة ولم يدل ذلك على أن الرجم لم يكن قد وجب بإقراره أربع مرات فليس إذا في هذا الخبر ما يعترض به على خبر أبي هريرة الذي ذكر فيه أنه أمر بقطعه حين أقر ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقدم على إقامة حد لم يجب بعد وليس يمتنع أن يؤخر إقامة حد قد وجب مستثبتا لذلك ومتحريا بالاحتياط والثقة فيه ويدل على صحة ما ذكرنا أيضا حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه أن عمرو بن سمرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فأرسل إليهم النبي ص
- فقالوا إنا فقدنا جملا لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم - فقطعت يده ففي هذا الخبر أيضا قطعه بإقراره مرة واحدة ومن جهة النظر أيضا أن السرقة المقر بها لا تخلو من أن تكون عينا أو غير عين فإن كانت عينا ولم يجب القطع بإقرار الأول فقد وجب ضمانها لا محالة من قبل أن حق الآدمي فيه يثبت بإقراره مرة واحدة ولا يتوقف على الإقرار ثانيا وإذا ثبت الملك للمقر له ولم يثبت القطع صار مضمونا عليه وحصول الضمان ينفي القطع وإن كانت السرقة ليست بعين قائمة قد صارت دينا بالإقرار الأول وحصولها دينا في ذمته ينفي القطع على ما وصفنا فإن قال قائل إذا جاز أن يكون حكم أخذه بديا على وجه السرقة موقوفا في القطع على نفي الضمان وإثباته فهلا جعلت حكم إقراره موقوفا في تعلق الضمان به على وجوب القطع وسقوطه قيل له نفس الأخذ عندنا على وجه السرقة يوجب القطع فلا يكن موقوفا وإنما سقوط القطع بعد ذلك يوجب الضمان ألا ترى أنه إذا ثبتت السرقة بشهادة الشهود كان كذلك حكمها فإن لم يكن الإقرار بديا موجبا للقطع فينبغي أن يوجب الضمان ووجوب الضمان ينفي القطع إذ كان إقراره الثاني لا ينفي ما قد حصل عليه من الضمان النافي للقطع بإقراره الأول فإن قيل ينتقض هذا الاعتلال بالإقرار بالزنا لأن إقراره الأول بالزنا إذا لم يوجب حدا فلا بد من إيجاب المهر به لأن الوطء في غير ملك لا يخلو من إيجاب حد ومهر ومتى انتفى الحد وجب المهر وإقراره الثاني والثالث والرابع لا يسقط المهر الواجب بديا بالإقرار الأول وهذا يؤدي إلى سقوط اعتبار عدد الإقرار في الزنا فلما صح وجوب اعتبار عدد الإقرار

في الزنا مع وجود العلة المانعة من اعتبار عدد الإقرار في السرقة بان فيه فساد اعتلالك قيل له ليس هذا مما ذكرناه في شيء وذلك أن سقوط الحد في الزنا على وجه الشبهة لا يجب به مهر لأن البضع لا قيمة له إلا من جهة عقد أو شبهة عقد ومتى عري من ذلك لم يجب مهر ويدل عليه اتفاقهم جميعا على أنه لو أقر بالزنا مرة واحدة ثم مات أو قامت عليه بينة بالزنا فمات قبل أن يحد لم يجب عليه المهر في ماله ولو مات بعد إقراره بالسرقة مرة واحدة لكانت السرقة مضمونة عليه باتفاق منهم جميعا فقد حصل من قولهم جميعا إيجاب الضمان بالإقرار مرة واحدة وسقوط المهر مع الإقرار بالزنا من غير حد واحتج الآخرون بما روى الأعمش عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن علي أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال شهدت على نفسك بشهادتين فأمر به فقطع وعلقها في عنقه ولا دلالة في هذا الحديث على أن مذهب علي رضي الله عنه أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين إنما قال شهدت على نفسك بشهادتين ولم يقل لو شهدت بشهادة واحدة لما قطعت وليس فيه أيضا أنه لم يقطع حتى أقر مرتين ومما يحتج به لأبي يوسف من طريق النظر أن هذا لما كان حدا يسقط بالشبهة وجب أن يعتبر عدد الإقرار فيه بالشهادة فلما كان أقل من يقبل فيه شهادة شاهدين وجب أن يكون أقل ما يصح به إقراره مرتين كالزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود وهذا يلزم ابا يوسف أن يعتبر عدد الإقرار في شرب الخمر بعدد الشهود وقد سمعت أبا الحسن الكرخي يقول إنه وجد عن أبي يوسف في شرب الخمر أنه لا يحد حتى يقر مرتين كعدد الشهود ولا يلزم عليه حد القذف لأن المطالبة به حق لآدمي وليس كذلك سائر الحدود وهذا الضرب من القياس مدفوع عندنا فإن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس فيما كان هذا صفته وإنما طريقها التوقيف والاتفاق
باب

السرقة من ذوي الأرحام
قال أبو بكر قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما عموم في إيجاب قطع كل سارق إلا ما خصه الدليل على النحو الذي قدمنا وعلى ما حكينا عن أبي الحسن ليس بعموم وهو مجمل محتاج فيه إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ومن جهة أخرى على أصله أن ما ثبت خصوصه بالاتفاق لا يصح الاحتجاج بعمومه وقد بينا ذلك في أصول الفقه وهو مذهب محمد بن شجاع إلا أنه وإن كان عموما عندنا لو خلينا ومقتضاه فقد قامت

دلالة خصوصه في ذوي الرحم المحرم وقد اختلف الفقهاء فيه
ذكر

الاختلاف في ذلك
قال أصحابنا لا يقطع من سرق من ذي الرحم وهو الذي لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم الذي بينهما ولا تقطع أيضا عندهم المرأة إذا سرقت من زوجها ولا الزوج إذا سرق من امرأته وقال الثوري إذا سرق من ذوي رحم منه لم يقطع وقال مالك يقطع الزوج فيما سرق من امرأته والمرأة فيما تسرق من زوجها في غير الموضع الذي يسكنان فيه وكذلك في الأقارب وقال عبيدالله بن الحسن في الذي يسرق من أبويه إن كان يدخل عليهم لا يقطع وإن كانوا نهوه عن الدخول عليهم فسرق قطع وقال الشافعي لا قطع على من سرق من أبويه أو أجداده ولا على زوج سرق من امرأته أو امرأة سرقت من زوجها والدليل على صحة قول أصحابنا قول الله عز و جل ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم إلى قوله أو ما ملكتم مفاتحه فأباح تعالى الأكل من بيوت هؤلاء وقد اقتضى ذلك إباحة الدخول إليها بغير إذنهم فإذا جاز لهم دخولها لم يكن ما فيها محرزا عنهم ولا قطع إلا فيما سرق من حرز وأيضا إباحة أكل أموالهم يمنع وجوب القطع فيها لما لهم فيها من الحق كالشريك ونحوه فإن قيل فقد قال أو صديقكم ويقطع فيه مع ذلك إذا سرق من صديقه قيل له ظاهر الآية ينفي القطع من الصديق أيضا وإنما خصصناه بدلالة الاتفاق ودلالة اللفظ قائمة فيما عداه وعلى أنه لا يكون صديقا إذا قصد السرقة ودليل آخر هو أنه قد ثبت عندنا وجوب نفقة هؤلاء عند الحاجة إليه وجواز أخذها منه بغير يدل فأشبه السارق من بيت المال لثبوت حقه فيه بغير بدل يلزمه عند الحاجة إليه فإن قيل قد ثبت هذا الحق عند الضرورة في مال الأجنبي ولم يمنع من القطع بالسرقة منه قيل له يعترضان من وجهين أحدهما أنه في مال الأجنبي يثبت عند الضرورة وخوف التلف وفي مال هؤلاء يثبت بالفقر وتعذر الكسب والوجه الآخر أن الأجنبي يأخذه ببدل وهؤلاء يستحقونه بغير بدل كمال بيت المال وأيضا فلما استحق عليه إحياء نفسه وأعضائه عند الحاجة إليهم بالإنفاق عليه وكان هذا السارق محتاجا إلى هذا المال في إحياء يده لسقوط

القطع صار في هذه الحالة كالفقير الذي يستحق على ذي الرحم المحرم منه الإنفاق عليه لإحياء نفسه أو بعض أعضائه وأيضا فهو مقيس على الأب بالمعنى الذي قدمناه والله تعالى أعلم
باب

فيمن سرق ما قد قطع فيه
قال أصحابنا فيمن سرق ثوبا فقطع فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه لم يقطع فيه والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق فلما عدمناهما فيما وصفنا لم يبق في إثباته إلا القياس ولا يجوز ذلك عندنا فإن قيل هلا قطعته بعموم قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قبل السرقة قيل له السرقة الثانية لم يتناولها العموم لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع والذي في الآية قطع اليد وأيضا فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعين جميعا والدليل أنه متى سقط القطع وجب ضمان العين كما أن حد الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجبا ضمان الوطء ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجبا ضمان النفس فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعا واحدا كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعا واحدا إذا كان لكل واحد من العينين أعني الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع فإن قيل فلو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى حد ثانيا مع وقوع الفعلين في عين واحدة قيل له لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلق وجوب الحد بها وإنما يتعلق وجوب حد الزنا بالوطء لا غير والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة وفي السرقة متى سقط القطع ضمن عين السرقة وأيضا فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكا للناس كالطين والخشب والحشيش والماء ومن أجل ذلك قالوا إنه لو كان غزلا فنسجه ثوبا بعد ما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قطع لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع كما لو سرق خشبا لم يقطع فيه ولو كان بابا منجورا فسرقه قطع لخروجه بالصنعة

عن الحال الأولى وأيضا لما كان وقوع القطع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دفع قيمته فصار كأنه عوضه منه وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجب ويشبه الملك من وجه
باب

السارق يوجد قبل إخراج السرقة
قال أبو بكر رحمه الله اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حرزه والدار كلها حرز واحد فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر وهو قول إبراهيم وروى يحيى بن سعيد عن عبدالرحمن بن القاسم قال بلغ عائشة أنهم كانوا يقولون إذا لم يخرج بالمتاع لم يقطع فقالت عائشة لو لم أجد إلا سكينا لقطعته وروى سعيد عن قتادة عن الحسن قال إذا وجد في بيت فعليه القطع قال أبو بكر دخوله البيت لا يستحق به اسم السارق فلا يجوز إيجاب القطع به وأخذه في الحرز أيضا لا يوجب القطع لأنه باق في الحرز ومتى لم يخرجه من الحرز فهو بمنزلة من لم يأخذه فلا يجب عليه القطع ولو جاز إيجاب القطع في مثله لما كان لاعتبار الحرز معنى والله أعلم
باب
غرم السارق بعد القطع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري وابن شبرمة إذا قطع السارق فإن كانت السرقة قائمة بعينها أخذها المسروق منه وإن كانت مستهلكة فلا ضمان عليه وهو قول مكحول وعطاء والشعبي وابن شبرمة وأحد قولي إبراهيم النخعي وقال مالك يضمنها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا وقال عثمان البتي والليث والشافعي يغرم السرقة وإن كانت هالكة وهو قول الحسن والزهري وحماد وأحد قولي إبراهيم قال أبو بكر أما إذا كانت قائمة بعينها فلا خلاف أن صاحبها يأخذها وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قطع سارق رداء صفوان ورد الرداء على صفوان والذي يدل على نفي الضمان بعد
القطع قوله تعالى فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والجزاء اسم لما يستحق بالفعل فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق بالفعل هو القطع لم يجز إيجاب الضمان

معه لما فيه من الزيادة في حكم المنصوص ولا يجوز ذلك إلا بمثل ما يجوز به النسخ وكذلك قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله فأخبر أن جميع الجزاء هو المذكور في الآية لأن قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ينفي أن يكون هناك جزاء غيره ومن جهة السنة حديث عبدالله بن صالح قال حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن زيد قال سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبدالرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إذا أقمتم على السارق الحد فلا غرم عليه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن نصر بن صهيب قال حدثنا أبو بكر بن أبي شجاع الأدمي قال حدثني خالد بن خداش قال حدثنا إسحق بن الفرات قال حدثنا المفضل بن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم عن عبدالرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق فأمر بقطعه وقال لا غرم عليه وقال عبدالباقي هذا هو الصحيح وأخطأ فيه خالد بن خداش فقال المسور بن مخرمة ويدل عليه من جهة النظر امتناع وجوب الحد والمال بفعل واحد كما لا يجتمع الحد والمهر والقود والمال فوجب أن يكون القطع نافيا لضمان المال إذ كان المال في الحدود لا يجب إلا مع الشبهة وحصول الشبهة ينفي وجوب القطع ووجه آخر وهو أن من أصلنا أن الضمان سبب لإيجاب الملك فلو ضمناه لملكه بالأخذ الموجب للضمان فيكون حينئذ مقطوعا في ملك نفسه وذلك ممتنع فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع وكان في إيجاب الضمان إسقاط القطع امتنع وجوب الضمان
باب

الرشوة
قال الله تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت قيل إن اصل السحت الاستيصال يقال أسحته إسحاتا إذا استأصله وأذهبه قال الله عز و جل فيسحتكم بعذاب أي يستأصلكم به ويقال أسحت ماله إذا أفسده وأذهبه فسمى الحرام سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستيصال وروى ابن عيينة عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال سألت عبدالله بن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم فقال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ولكن السحت أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدي لك هدية فتقبلها وروى شعبة عن منصور عن سالم بن

أبي الجعد عن مسروق قال سألت عبدالله عن الجور في الحكم فقال ذلك كفر وسألته عن السحت فقال الرشا وروى عبدالأعلى بن حماد حدثنا حماد عن أبان عن ابن أبي عياش عن مسلم أن مسروقا قال قلت لعمر يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت قال لا ولكن كفر إنما السحت أن يكون لرجل عند سلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه وروي عن علي بن أبي طالب قال السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعجال في القضية فكأنه جعل السحت اسما لأخذ مالا يطيب أخذه وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك السحت الرشا وروى منصور عن الحكم عن أبي وائل عن مسروق قال إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال بابان من السحت يأكلهما الناس الرشا ومهر الزانية وروى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

هدايا الأمراء من السحت وروى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال لعن رسول
الله ص - الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما وروى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الراشي والمرتشي وروى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم قال أبو بكر اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى والرشوة تنقسم إلى وجوه منها الرشوة في الحكم وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعا وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم - لعن الله الراشي والمرتشي والرائش وهو الذي يمشي بينهما فلذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحق له فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم ولا ينفذ حكمه لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه وفي هذا دليل أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه كالحج

وتعليم القرآن والإسلام ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائز لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين أحدهما أخذ الرشوة والآخر الحكم بغير حق وكذلك الراشي وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان وقال إن أخذ الرشا على الأحكام كفر وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله الرشا من السحت وأما الرشوة في غير الحكم فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان وذلك منهي عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه قال الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يزال الله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه ووجه آخر من الرشوة وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها وروي عن جابر بن زيد والشعبي قالا لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم وعن عطاء وإبراهيم مثله وروى هشام عن الحسن قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي قال الحسن ليحق باطلا أو يبطل حقا فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس وقال يونس عن الحسن لا بأس أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال اجعل مالك جنة دون دينك ولا تجعل دينك جنة دون مالك وروى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال لم نجد زمن زياد شيئا أنفع لنا من الرشا فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم -

لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس
السلمي شيئا فسخطه فقال شعرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم - اقطعوا عنا لسانه فزادوه حتى رضي وأما الهدايا للأمراء والقضاة فإن محمد بن الحسن كرهها وإن لم يكن للمهدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميدالساعدي في قصة ابن اللتبية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم -
على الصدقة فلما جاء قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقال النبي ص
- ما بال أقوام نستعملهم على ما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي فهلا جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا وما روي عنه ص -
أنه قال هدايا الأمراء غلول وهدايا الأمراء سحت وكره عمر بن عبدالعزيز
قبول الهدية فقيل

له إن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقبل الهدية ويثيب عليها فقال كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحت ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهديه قبل القضاء فكأنه إنما كره منها ما أهدي له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يهد له وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا فأخبر أنه إنما أهدي له لأنه عامل ولولا أنه عامل لم يهد له وأنه لا يحل له وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد أعلم به لم يهده إليه لأجل القضاء فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك وقد روي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت علي امرأة عمر فردها عمر ومنع قبولها
باب

الحكم بين أهل الكتاب
قال الله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ظاهر ذلك يقتضي معنيين أحدهما تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم والثاني التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم فقال قائلون منهم إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم وقال آخرون التخيير منسوخ فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي وإبراهيم رواية وروي عن الحسن خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم وروى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال آيتان نسختا من سورة المائدة آية القلائد وقوله تعالى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم حتى نزلت
وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن
ابن عباس في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال نسخها قوله وأن احكم بينهم بما انزل الله وروى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله وروى سفيان عن السدي عن عكرمة مثله قال أبو بكر فذكر هؤلاء أن قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأي

والاجتهاد وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير أن آية التخيير نزلت بعد قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأن التخيير نسخه وإنما حكى عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ فثبت نسخ التخيير بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله كرواية من ذكر نسخ التخيير ويدل على نسخ التخيير قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الايات ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات ومن لم يحكم بما أنزل الله منسوخا إلا ما يروى عن مجاهد رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله نسخها ما قبلها فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وقد روى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ويحتمل أن يكون قوله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قبل أن تعقد لهم الذمة ويدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا للتخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة الذين يجري عليهم أحكام المسلمين وقد روي عن ابن عباس ما يدل على ذلك روى محمد بن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة وأن بني قريظة يدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله ص
- على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ومعلوم أن بني قريظة وبني النضير لم تكن لهم ذمة قط وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم - بني النضير وقتل بني قريظة ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها فأخبر ابن عباس إن آية التخيير نزلت فيهم فجائز أن يكون حكمها باقيا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ وهذا تأويل سائغ لولا ما روي عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى وروي عن ابن عباس رواية أخرى وعن الحسن ومجاهد والزهري أنها نزلت في شأن

الرجم حين تحاكموا إليه وهؤلاء أيضا لم يكونوا أهل ذمة وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم فصار النبي صلى الله عليه وسلم - إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله ثم رجم اليهوديين وقال اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في ا لبيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرون على أن تكون مالا لهم ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان ولا نعلم خلافا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور فكتب إليهم عمر أن ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله
ورسوله فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم - في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين قال الله تعالى وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل فأخبر أنهم منهيون عن الربا وأكل المال بالباطل كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فسوى بينهم وبين المسلمين في المنع من الربا والعقود الفاسدة المحظورة وقال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين وقال مالك الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم فقال أبو حنيفة هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا لأحكامنا فإن رضي بها الزوجان حملا على أحكامنا وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم وكذلك إن أسلموا وقال محمد إذا رضي احدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر إلا في النكاح بغير شهود خاصة وقال أبو يوسف يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في

النكاح بعد شهود نجيزه إذا تراضوا بها فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحتهم إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون نكاح ذوات المحرم ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما وكذلك اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهما حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية وفي ذلك دليل أنه أقرهم على مناكحتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فلم يقرهم عليه حين علم بتايعهم به وأيضا قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحتهم وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الإعتراض عليهم وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا فإن قيل فقد روي عن عمر انه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه قيل له لو كان هذا ثابتا لورد النقل متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا وأيضا قد بينا أن قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير فأما شرط المجيء منهم فلم تقم الدلالة على نسخه فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيا والتخيير منسوخا فيكون تقديره مع الآية الأخرى فإن جاؤك فاحكم بينهم بما أنزل وإنما قال إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة من قبل أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراض عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا فمتى تراضوا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل ومعلوم أن العدة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء لأن امرأة تحت زوج أو طرأت عليها عدة من وطء بشبهة لم يمنع ما وجب من العدة بقاء الحكم فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما

ومن جهة أخرى أن العد حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة فإذا لم تكن عندهم عدة واجبة لم تكن عليها عدة فجاز نكاحها الثاني وليس كذلك نكاح ذوات المحارم إذ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه وأما النكاح بغير شهود فإن الذي هو شرط في صحة العقد وجوب الشهود في حال العقد ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود لأن الشهود لو ارتدوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثر ذلك في العقد فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يجز أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلف فيه بين الفقهاء فمنهم من يجيزه والاجتهاد سائغ في جوازه ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه فغير جائز فسخه إذا عقدوه في حال الكفر إذ كان ذلك سائغا جائزا في وقت وقوعه لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يجز بعد ذلك فسخه وإنما اعتبر أبو حنيفة تراضيهما جميعا بأحكامنا من قبل قول الله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم فشرط مجيئهم فلم يجز الحكم على أحدهما بمجيء الآخر فإن قال قائل إذا رضي أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو أسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام قيل له هذا غلط لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجابا ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه بعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا وأيضا إذا لم يجز أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يرض به مبقي على حكمه لا يجز إلزامه حكما لأجل رضا غيره وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يلزم الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم وذهب أبو يوسف إلى ظاهر قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم قوله تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله يعني الله أعلم فيما تحاكموا إليك فيه فقيل إنهم تحاكموا إليه في حد الزانيين وقيل في الدية بين بني قريظة وبني النضير فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته وإنما طلبوا الرخصة ولذلك قال وما أولئك بالمؤمنين يعني هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين وقوله تعالى وعندهم التوراة فيها حكم الله يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا وأنه

صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم - شريعة لنا لم ينسخ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا مالم تنسخ وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن الحسن في قوله تعالى فيها حكم الله بالرجم لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا وقال قتادة فيها حكم الله بالقود لأنهم اختصموا في ذلك وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي أن النبي صلى الله عليه وسلم -

مراد بقوله
حكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا قال أبو بكر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها وكان ذلك في حكم التوراة وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضا حكم التوراة وهذا يدل على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة وقوله تعالى وكانوا عليه شهداء قال ابن عباس شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه في التوراة وقال غيره شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله وقال عز
و جل فلا تخشوا الناس واخشون قال فيه السدي لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت وقيل لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله تعالى أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قال يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى الآية وقال إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا إلى قوله فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فتضمنت هذه الآية معاني منها الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد حكم على اليهود بحكم التوراة ومنها أن حكم التوراة كان باقيا في زمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يوجب نسخه ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتا لم ينسخ بشريعة الرسول
ص - ومنها إيجاب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يجابى فيه مخالفة الناس ومنها تحريم أخذ الرشا في الأحكام وهو قوله تعالى ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا

وقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله قال ابن عباس هو في الجاحد لحكم الله وقيل هي في اليهود خاصة وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم هي عامة يعني فيمن لم يحكم بما أنزل ا لله وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى ومن فعل هذا فقد كفر فمن جعلها في قوم خاصة وهم اليهود لم يجعل من بمعنى الشرط وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله والمراد قوم بأعيانهم وقال البراء بن عازب وذكر قصة رجم اليهود فأنزل الله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآيات إلى قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال في اليهود خاصة وقوله فأولئك هم الظالمون وأولئك هم الفاسقون في الكفار كلهم وقال الحسن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في اليهود وهي علينا واجبة وقال أبو مجلز نزلت في اليهود وقال أبو جعفر نزلت في اليهود ثم جرت فينا وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في بني إسرائيل قال نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ولتسلكن طريقهم قد الشراك قال إبراهيم النخعي نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها وروى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى وقال طاوس ليس بكفر ينقل عن الملة وروى طاوس عن ابن عباس قال ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله ومن لم يحكم بما أنزل ا لله فأولئك هم الكافرون وقال ابن جريج عن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وقال علي بن حسين رضي الله عنهما ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك قال أبو بكر قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون لا يخلو من أن يكون مراده كفر الشرك والجحود او كفر النعمة من غير جحود فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله فهذا كفر يخرج عن الملة وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلما وعلى هذا تأوله من قال إنها نزلت في بني إسرائيل وجرت فينا يعنون أن من جحد منا حكم أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود فلا يكون فاعله خارجا من الملة والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله

وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود لها وأكفروا بذلك كل من عصى الله بكبيرة أو صغيرة فإذا هم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين الآية فيه إخبار عما كتب الله على بني إسرائيل في التوراة من القصاص في النفس وفي الأعضاء المذكورة وقد استدل أبو يوسف بظاهر هذه الآية على إيجاب القصاص بين الرجل والمرأة في النفس لقوله تعالى أن النفس بالنفس وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن شرائع من كان قبلنا حكمها ثابت إلى أن يرد نسخا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم -

أو بنص القرآن وقوله في نسق الآية
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون دليل على ثبوت هذا الحكم ي وقت نزول هذه الآية من وجهين أحدهما أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شيء من الأزمان فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يرد نسخه والثاني معلوم أنهم استحقوا سمة الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية إما جحودا له أو تركا لفعل ما أوجب الله من ذلك وهذا يقتضي وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه وقوله تعالى والعين بالعين معناه عند أصحابنا في العين إذا ضربت فذهب ضوءها وليس هو على أن تقلع عينه هذا عندهم لا قصاص فيه لتعذر استيفاء لا قصاص في مثله ألا ترى أنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه منها فهو كمن قطع قطعة لحم من فخذ رجل أو ذراعه أو قطع بعض فخذه فلا يجب فيه القصاص وإنما القصاص عندهم فيما قد ذهب ضوءها وهي قائمة أن تشد عينه الأخرى وتحمى له مرآة فتقدم إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها وأما قوله تعالى والأنف بالأنف فإن أصحابنا قالوا إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه لأنه عظم لا يمكن استيفاء القصاص فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد وكما لو قطع رجله من نصف الفخذ لا خلاف في سقوط القصاص فيه لتعذر استيفاء المثل والقصاص هو أخذ المثل فمتى لم يكن كذلك لم يكن قصاصا وقالوا إنما يجب القصاص في الأنف إذا قطع المارن وهو ما لان منه ونزل عن قصبة الأنف وروي عن أبي يوسف أن في الأنف إذا استوعب القصاص وكذلك الذكر واللسان وقال محمد لا قصاص في الأنف واللسان والذكر إذا استوعب وقوله تعالى والأذن بالأذن

فإنه يقتضي وجوب القصاص فيها إذا استوعبت لإمكان استيفائه وإذا قطع بعضها فإن أصحابنا قالوا فيه القصاص إذا كان يستطاع ويعرف قدره وقوله عز و جل والسن بالسن فإن أصحابنا قالوا لا قصاص في عظم إلا السن فإن قلعت أو كسر بعضها ففيها القصاص لإمكان استيفائه إن كان الجميع فبالقلع كما يقتص من اليد من المفصل وإن كان البعض فإنه يبرد بمقداره بالمبرد فيمكن استيفاء القصاص فيه وأما سائر العظام فغير ممكن استيفاء القصاص فيها لا يوقف على حده وقد اقتضى ما نص الله تعالى في هذه الأعضاء أن يؤخذ الكبير من هذه الأعضاء بصغيرها والصغير بالكبير بعد أن يكون المأخوذ منه مقابلا لما جني عليه لغيره وقوله تعالى والجروح قصاص يعني إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها ودل به على نفي القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه لأن قوله والجروح قصاص يقتضي أخذ المثل سواء ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وقد بيناه في سورة البقرة وكذلك بين العبيد والأحرار
ذكر

الخلاف في ذلك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والشافعي لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني وقال ابن شبرمة تفقأ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان وتؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية وقال الحسن بن صالح إذا قطع أصبعا من كف فلم يكن للقاطع من تلك الكف أصبع مثلها قطع مما يلي تلك الأصبع ولا يقطع أصبع كف بأصبع كف أخرى وكذلك تقلع السن التي تليها إذا لم تكن للقاطع سن مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى قال أبو بكر لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا لم يكن للمجني عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدو ما قبله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى والعين بالعين إلى آخر الآية استيفاء مثله مما يقابله من الجاني فغير جائز إذا كان كذلك أن يعتدى إلى غيره سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه تكون

يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل وليست هذه الأعضاء مماثلة فغير جائز أن يستوعبها ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة وذلك

لقوله
تعالى والجروح قصاص وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز لأنه رضي بدون حقه واختلف في القصاص في العظم فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد لا قصاص في عظم ما خلا السن وقال الليث والشافعي مثل ذلك ولم يستثنيا السن وقال ابن القاسم عن مالك عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص وقال الأوزاعي ليس في المأمومة قصاص قال أبو بكر لما اتفقوا على نفي في عظم الرأس كذلك سائر العظام وقال الله تعالى والجروح قصاص وذلك غير ممكن في العظام وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير أنه اقتص من مأمومة فأنكر ذلك عليه ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس لأنه لا يوقف على مقدار جنايته فكذلك العظام وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم قوله تعالى فمن تصدق به فهو كفارة له روي عن عبدالله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم رواية والشعبي رواية هو كفارة لولى القتيل وللمجروح إذا عفوا المستوفي لحقه ويكون الجاني كأنه لم يجن وهذا محمول على أن وقال الجاني للجاني كأنهم جعلوه بمنزلة الذي ينافي موته حتف أنفه وينفصل به من الميتة والتسمية مشروطة لشهادتنا احق من شهادتهما ثم قوله ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة تاب من جنايته لأنه لو كان مصرا عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمة والقول الأول هو الصحيح لأن قوله تعالى راجع إلى المذكور وهو قوله فمن تصدق به فالكفارة واقعة لمن تصدق ومعناه كفارة لذنوبه قوله تعالى وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه قال أبو بكر فيه دلالة على أن مالم ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابت على معنى أنه صار شريعة للنبي ص - لقوله وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومعلوم أنه لم يرد أمرهم باتباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم -
لأنه صار شريعة له لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي ص
- غير متبعين له لكانوا

كفارا فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعة للنبي ص -

قوله تعالى
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة مهيمنا يعني أمينا وقيل شاهدا وقيل حفيظا وقيل مؤتمنا والمعنى فيه أنه أمين عليه ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان لأن الأمين على الشيء مصدق عليه وكذلك الشاهد وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمنا على شيء فهو مقبول القول فيه من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سماه أمينا عليها وقد بين الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبول القول فيما ائتمن فيه وهو
قوله تعالى
فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه وقال وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فلما جعله أمينا فيه وعظه بترك البخس وقد اختلف في المراد بقوله ومهيمنا فقال ابن عباس هو الكتاب وفيه إخبار بأن القرآن مهيمن على الكتب المتقدمة شاهد عليها وقال مجاهد أراد به النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله يدل على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه قوله تعالى ولا تتبع أهواءهم يدل على بطلان قول من يردهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف لما فيه من تعظيم الموضع وهم يهون ذلك وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم ويدل على بطلان قول من يردهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم ولأن ردهم إلى أهل دينهم إنما هو رد لهم ليحكموا فيهم بما هو كفر بالله عز و جل إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفرا بالله وإن كان موافقا لما أنزل في التوراة والإنجيل لأنهم مأمورون بتركه واتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الشرعة والشريعة واحد ومعناها الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي قوله تعالى ومنهاجا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك سنة وسبيلا ويقال طريق نهج إذا كان واضحا قال مجاهد وأراد بقوله شرعة القرآن لأنه لجميع الناس وقال قتادة وغيره شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا إيانا وإن لم يثبت نسخها لإخباره بأنه

جعل لكل نبي من الأنبياء شرعة ومنهاجا وليس فيه دليل على ما قالوا لأن ما كان شريعة لموسى عليه السلام فلم ينسخ إلى ان بعث النبي

ص
-
فقد صارت شريعة للنبي ص
- وكان فيما سلف شريعة لغيره فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع وأيضا فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الأنبياء فلم ينف قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم - ص - موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين وإذا كان كذلك فالمراد فيما نسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم - بغيرها فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر قوله عز و جل ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة قال الحسن لجعلكم على الحق وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحق ولكنه لو فعل لم يستحقوا ثوابا وهو كقوله ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقال قائلون معناه ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء قوله تعالى فاستبقوا الخيرات معناه الأمر بالمبادرة بالخيرات التي تعبدنا بها قبل الفوات بالموت وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات لأنها من الخيرات فإن قيل فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها لأنها من الواجبات في أول الوقت قيل له ليست من الواجبات في أول الوقت والآية مقتضية للوجوب فهي فيما قد وجب وألزم وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات وقوله تعالى في هذا الموضع وأن احكم بينهم بما أنزل الله ليس بتكرار لما تقدم من مثله لأنهما نزلا في شيئين مختلفين أحدهما في شأن الرجم والآخر في التسوية بين الديات حين تحاكموا إليه في الأمرين قوله تعالى واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك قال ابن عباس أراد أنهم يفتنونه بإضلالهم إياه عما أنزل الله إلى ما يهوون من الأحكام أطماعا منهم له في الدخول في الإسلام وقال غيره إضلالهم بالكذب على التوراة بما ليس فيها فقد بين الله تعالى حكمه قوله تعالى فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ذكر البعض والمراد الجميع كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص وكما قال يا أيها النبي والمراد جميع المسلمين بقوله إذا طلقتم النساء وفيه أن المراد الإخبار

عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقون به يهلكهم وقيل أراد تعجيل البعض بتمردهم وعتوهم وقال الحسن ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة قوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون فيه وجهان أحدهما أنه خطاب لليهود لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا أوجب على أغنيائهم لم يأخذهم به فقيل لهم أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل الكتاب وقيل إنه أريد به كل من خرج عن حكم الله إلى حكم الجاهلية وهو ما تقدم عليه فاعله بجهالة من غير علم قوله تعالى ومن أحسن من الله حكما إخبار عن حكمه بالعدل والحق من غير محاباة وجائز أن يقال إن حكما أحسن من حكم كما لو خير بين حكمين نصا وعرف أن أحدهما أفضل من الآخر كان الأفضل أحسن وكذلك قد يحكم المجتهد بما غيره أولى منه لتقصير منه في النظر أو لتقليده من قصر فيه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض روي عن عكرمة أنها نزلت في أبي لبابة بن عبدالمنذر لما تنصح إلى بني قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح وقال السدي لما كان بعد أحد خاف قوم من المشركين حتى قال رجل أو إلى اليهود وقال آخر أو إلى النصارى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال عطية بن سعد نزلت في عبادة بن الصامت وعبدالله بن أبي بن سلول لما تبرأ عبادة من موالاة اليهود وتمسك بها عبدالله بن أبي وقال أخاف الدوائر والولي هو الناصر لأنه يلي صاحبه بالنصرة وولي الصغير لأنه يتولى التصرف عليه بالحياطة وولي المرأة عصبتها لأنهم يتولون عليها عقد النكاح وفي هذه الآية دلالة على أن الكافر لا يكون وليا للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة ويدل على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم لأن الولاية ضد العداوة فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم ويدل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى بعضهم أولياء بعض ويدل على أن اليهودي يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهوديا وهو أن يكون صغيرا أو مجنونا وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل ومن حيث دلت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدل على إيجاب التوارث بينهما وعل ما ذكرنا من كون الكفر كله ملة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض اليهودي للنصرانية والنصراني لليهودية وهذا الذي

ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم وأما فيما بينهم لا بين المسلمين فيختلف حكم الكتابي وغير الكتابي في جواز المناكحة وأكل الذبيحة قوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم يدل على أن حكم نصارى بني تغلب حكم نصارى بني إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقوله منكم يجوز أن يريد به المغرب لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذ تولوا الكفار صاروا مرتدين والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحة وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينما شيء من حقوق الولاية وزعم بعضهم أن قوله ومن يتولهم منكم فإنه منهم يدل على أن المسلم لا يرث المترتد لإخبار الله أنه ممن تولاه من اليهود والنصارى ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني فكذلك لا يرث المرتد قال أبو بكر وليس فيه دلالة على ما ذكرنا لأنه لا خلاف أن المرتد إلى اليهودية لا يكون يهوديا والمرتد إلى النصرانية لا يكون نصرانيا ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه فكما لم يدل ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني كذلك لا يدل على أن المسلم لا يرثه وإنما المراد أحد وجهين إن كان الخطاب لكفار العرب فهو دال على أن عبدة الأوثان من العرب إذا تهودوا أو تنصروا كان حكمهم حكمهم في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم فلا دلالة فيه على حكم الميراث فإن قال قائل لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين لأنه قال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء لم يحتمل أن يريد بقوله ومن يتولهم منكم مشركي العرب قيل له لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب جاز أن يريد بقوله ومن يتولهم منكم العرب فيفيد أن مشركي العرب إذا تولوا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملتنا بعض المذاهب الموجبة لإكفار معتقديها أن الحكم بإكفاره لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملة الإسلام وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة إذ كانوا في الجملة متولين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن كما أن

من انتحل النصرانية إلى اليهودية كان حكمه حكمهم وإن لم يكن متمسكا بجميع شرائعهم ولقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن قاتل معه أهل الردة وقال السدي هي في الأنصار وقال مجاهد في أهل اليمن وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري قال لما نزلت يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - بشيء معه إلى أبي موسى فقال هم قوم هذا وفي الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وذلك لأن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله ولم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم -

غير هؤلاء المذكورين وأتباعهم ولا يتهيأ لأحد أن يجعل الآية في غير
المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم - من العرب ولا في غير هؤلاء الأئمة لأن الله تعالى لم يأت بقوم يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر ونظير ذلك ايضا في دلالته على صحة إمامة أبي بكر قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا لأنه كان الداعي لهم إلى قتال أهل الردة وأخبر تعالى بوجوب طاعته عليهم بقوله فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما فإن قال قائل يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
هو الذي دعاهم قيل له قال الله تعالى
فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبدا ولا يقاتلون معه عدوا فإن قال قائل جائز أن يكون عمر هو الذي دعاهم قيل له إن كان كذلك فإمامة عمر ثابتة بدليل الآية وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبي بكر لأنه هو المستخلف له فإن قيل جائز أن يكون علي هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب قيل له قال الله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون وعلي رضي الله عنه إنما قاتل أهل البغي وحارب أهل الكتاب على أن يسلموا أو يعطوا الجزية ولم يحارب أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
على أن يسلموا غير أبي بكر فكانت الآية دالة على صحة إمامته

باب العمل اليسير في الصلاة

قال
الله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون روي عن مجاهد والسدي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم أنها نزلت في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع وروى الحسن أنه قال هذه الآية صفة جميع المسلمين لأن قوله تعالى الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون صفة للجماعة وليست للواحد وقد اختلف في معنى قوله وهم راكعون فقيل فيه أنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة وقال آخرون معنى وهم راكعون أن ذلك من شأنهم وأفرد الركوع بالذكر تشريفا له وقال آخرون معناه أنهم يصلون بالنوافل كما يقال فلان يركع أي يتنفل فإن كان المراد فعل الصدقة في حال الركوع فإنه يدل على إباحة العمل اليسير في الصلاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار في إباحة العمل اليسير فيها فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة ومنها أنه مس لحيته وأنه أشار بيده ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلى الله عليه وسلم - فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه ومنها أنه كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة لأنه إن كان المراد الركوع فكان تقديره الذين يتصدقون في حال الركوع فقد دلت على إباحة الصدقة في هذه الحال وإن كان المراد وهم يصلون فقد دلت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة فكيفما تصرفت الحال فالآية دالة على إباحة الصدقة في الصلاة فإن قال قائل فالمراد أنهم يتصدقون ويصلون ولم يرد به فعل الصدقة في الصلاة قيل له هذا تأويل ساقط من قبل أن قوله تعالى وهم راكعون إخبار عن الحال التي تقع فيها الصدقة كقوله تكلم فلان وهو قائم وأعطى فلانا وهو قاعد إنما هو إخبار عن حال الفعل أيضا لو كان المراد ما ذكرت كان تكرارا لما تقدم ذكره في أول الخطاب قوله تعالى الذين يقيمون الصلوة ويكون تقديره الذين يقيمون الصلاة ويصلون وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى فثبت أن المعنى ما ذكرنا من مدح الصدقة في حال الركوع أو في حال الصلاة وقوله تعالى ويؤتون الزكاة وهم راكعون يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة لأن عليا تصدق بخاتمه تطوعا وهو نظير قوله تعالى وما آتيتم من زكاة تريدون

وجه الله فأولئك هم المضعفون قد انتظم صدقة الفرض والنفل فصار اسم الزكاة يتناول الفرض والنفل كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين
باب

الأذان
قال الله تعالى وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا قد دلت هذه الآية على أن للصلاة أذانا يدعى به الناس إليها ونحوه قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وقد روى عمرو بن مرة عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال كانوا يجتمعون للصلاة لوقت يعرفونه ويؤذن بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا فجاء عبدالله بن زيد الأنصاري وذكر الأذان فقال عمر قد طاف بي الذي طاف به ولكنه سبقني وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال استشار النبي صلى الله عليه وسلم - المسلمين على ما يجمعهم في الصلاة فقالوا البوق فكرهه من أجل اليهود وذكر قصة عبدالله بن زيد وأن عمر رأى مثل ذلك فلم يختلفوا أن الأذان لم يكن مسنونا قبل الهجرة وأنه إنما سن بعدها وقد روى أبو يوسف عن محمد بن بشر الهمداني قال سألت محمد بن علي عن الأذان كيف كان أوله وما كان فقال شأن الأذان أعظم من ذلك ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما أسري به جمع النبيون ثم نزل ملك من السماء لم ينزل قبل ليلته فأذن كأذانكم وأقام كإقامتكم ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالنبيين قال أبو بكر ليلة أسري به كان بمكة وقد صلى بالمدينة بغير أذان واستشار أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة ولو كانت تبدئة الأذان قد تقدمت قبل الهجرة لما استشار فيه وقد ذكر معاذ وابن عمر في قصة الأذان ما ذكرنا والأذان مسنون لكل صلاة مفروضة منفردا كان المصلي أو في جماعة إلا أن أصحابنا قالوا جائز للمقيم المنفرد أن يصلي بغير أذان لأن أذان الناس دعاء له فيكتفى به والمسافر يؤذن ويقيم وإن اقتصر على الإقامة دون الأذان أجزأه ويكره له أن يصلي بغير أذان ولا إقامة لأنه لم يكن هناك أذان ويكون دعاء له وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من صلى في أرض بأذان وإقامة صلى خلفه صف من الملائكة لا يرى طرفاه وهذا يدل على أن من سنة صلاة المنفرد الأذان وقال في خبر آخر إذا سفرتما فأذنا وأقيما وقد ذكرنا صفة الأذان والإقامة والاختلاف فيهما في غير هذا الكتاب قوله تعالى يا أيها الذين

آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين لأن الأولياء هم الأنصار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه حين أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود وقالوا نحن نخرج معك فقال إنا لا نستعين بمشرك وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم - المشركين وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو مسلم حدثنا حجاج حدثنا حماد عن محمد بن إسحق عن الزهري أن أناسا من اليهود غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -

فقسم لهم كما قسم للمسلمين وقد روي عن النبي ص
- أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبدالله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم - ليقاتل معه فقال ارجع ثم اتفقا فقال إنا لا نستعين بمشرك وقال أصحابنا لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم ومستفيض في أخبار أهل السير ونقله المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يغزو ومعه قوم من اليهود في بعض الأوقات وفي بعضها قوم من المشركين وأما وجه الحديث الذي قال فيه إنا لا نستعين بمشرك فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يثق بالرجل وظن أنه عين للمشركين فرده وقال إنا لا نستعين بمشرك يعني
به من كان في مثل حاله قوله تعالى لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم قيل فيه إن معناه هلا وهي تدخل للماضي والمستقبل فإذا كانت للمستقبل فهي في معنى الأمر كقوله لم لا تفعل وهي ههنا للمستقبل يقول هلا ينهاهم ولم لا ينهاهم وإذا كانت للماضي فهو للتوبيخ كقوله تعالى لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء و لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقيل في الرباني إنه العالم بدين الرب فنسب إلى الرب كقولهم روحاني في النسبة إلى الروح وبحراني في النسبة إلى البحر وقال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره هو كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم وذكر لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب قال الرباني العالم العامل وقد اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهي عنه والاجتهاد في إزالته لذمه من ترك ذلك قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم وروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم

وصفوه بالبخل وقالوا هو مقبوض العطاء كقوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال الحسن قالوا هي مقبوضة عن عقابنا واليد في اللغة تنصرف على وجوه منها الجارحة وهي معروفة ومنها النعمة تقول لفلان عندي يد أشكره عليها أي نعمة ومنها القوة فقوله أولي الأيدي فسروه بأولي القوى ونحوه قول الشاعر ... تحملت من ذلفاء ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان ...
ومنها الملك ومنه قوله الذي بيده عقدة النكاح يعني يملكها ومنها الاختصاص بالفعل كقوله تعالى خلقت بيدي أي توليت خلقه ومنها التصرف كقوله هذه الدار في يد فلان يعني التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك وقيل أنه قال تعالى بل يداه على وجه التثنية لأنه أراد نعمتين أحدهما نعمة الدنيا والأخرى نعمة الدين والثاني قوتان بالثواب والعقاب على خلاف قول اليهود لأنه لا يقدر على عقابنا وقيل إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة كقولك لبيك وسعديك وقيل في قوله تعالى غلت أيديهم يعني في جهنم روي عن الحسن قوله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فيه إخبار بغلبة المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم وقد كان من حول المدينة منهم فئات تقاوم العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم فكان مخبره على ما أخبر به فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم - بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين وإنما ذكر النار ههنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهب لها على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم - أنا بريء من كل مسلم مع مشرك قيل لم يا رسول الله قال لا تراءى ناراهما وإنما عنى بها نار الحرب يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان وقيل إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى منها أوقدت النيران على رؤس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعم القبيلة رؤيتها فيعلمون أنهم قد ندبوا إلى

الاستعداد للحرب والتأهب لها فاستعدوا وتأهبوا فصار اسم النار في هذا الموضع مفيدا للتأهب للحرب وقد قيل فيه وجه آخر وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالف على التناصر على غيرهم والجد في حربهم وقتالهم أوقدوا نارا عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب وقال الأعشى ... وأوقدت للحرب نارا ...
قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فيه أمر للنبي ص - بتبليغ الناس جميعا وما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئا بقوله تعالى وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره بقوله تعالى والله يعصمك من الناس وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم -

كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية لأنه تعالى أمره
بالتبليغ وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى والله يعصمك من الناس وفيه دلالة على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها لعموم البلوى بها فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحديث وقد دل قوله تعالى والله يعصمك من الناس على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - إذا كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به لأنه لم يصل إليه احد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة والقصد لاغتياله مخادعة نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد فلم يصلا إليه ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية فأعلمه الله إياه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتساله فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة ولو لم يكن ذلك من عند الله

لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم - ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدث والتخمين وتعاطي علم النجوم والزرق والفال ونحوها فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شيء منها علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون قوله تعالى يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم فيه أمر لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل لأن إقامتها هو العمل بهما وبما في القرآن أيضا لأن قوله تعالى وما أنزل إليكم من ربكم حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله فكان خطابا لهم وإن كان محتملا لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى لستم على شيء مقتضاه لستم على شيء من الدين الحق حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم ينسخ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم -

فهو ثابت الحكم مأمور به وأنه قد صار شريعة لنبينا ص
- لولا ذلك لما أمروا بالثبات عليه والعمل به فإن قال قائل معلوم نسخ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا ص - فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم - ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقه وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين قيل له لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء المتقدمين فيكون فيها أمر باستعمالها وإخبار ببقاء حكمها أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم -
وموجبات أحكام العقول فلم تخل الآية من الدلالة على بقاء حكم ما لم ينسخ
من شرائع من قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا ص - قوله تعالى ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى

في أن المسيح إله لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شيء وقد قيل في معنى قوله كانا يأكلان الطعام أنه كناية عن الحدث لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه وإن ذلك ينفي كونه إلها وقديما قوله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير وقيل إن فائدة لعنهم على لسان الأنبياء إعلامهم الأياس من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجاب وقيل إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلا يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي قوله تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق اطرا ولتقصرنه على الحق قصرا وقال أبو داود وحدثنا خلف بن هشام حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - بنحوه زادا وليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم قال أبو بكر في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالة على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر وأنه لا يكتفى منهم بالنهي دون الهجران قوله تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا روي عن الحسن وغيره أن الضمير في منهم راجع إلىاليهود وقال آخرون هو راجع

إلى أهل الكتاب والذين كفروا هم عبدة الأوثان تولاهم أهل الكتاب على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم -

ومحاربته قوله تعالى
ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء روي عن الحسن ومجاهد أنه من المنافقين من اليهود أخبر أنهم غير مؤمنين بالله وبالنبي وإن كانوا يظهرون الإيمان وقيل إنه أراد بالنبي موسى عليه السلام أنهم غير مؤمنين به إذ كانوا يتولون المشركين قوله تعالى ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى الآية
قال
ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي نزلت في النجاشي وأصحابه لما أسلموا وقال قتادة قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام فلما جاء محمد ص - آمنوا به ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وإخبارا بأنهم خير من اليهود وليس كذلك وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه
باب تحريم ما أحل الله عز و جل
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم والطيبات اسم يقع على ما يستلذ ويشتهى ويميل إليه القلب ويقع على الحال وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعا لوقوع الاسم عليهما فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين أحدهما أن يقول قد حرمت هذا الطعام على نفسي فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن أكل منه والثاني أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي فأنزل الله
تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية وروى سعيد عن قتادة قال كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - هموا بترك اللحم والنساء والاختصاء فأنزل الله عز و جل يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال ليس في ديني ترك

النساء ولا اللحم ولا اتخاذ الصوامع وروى مسروق قال كنا عند عبدالله فأتى بضرع فتنحى رجل فقال عبدالله أدنه فكل فقال إني كنت حرمت الضرع فتلا عبدالله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كل وكفر وقال الله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم - حرم مارية وروي أنه حرم العسل على نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفارة وكذلك قال أكثر أهل العلم فيمن حرم طعاما أو جارية على نفسه أنه إن أكل من الطعام حنث وكذلك إن وطئ الجارية لزمته كفارة يمين وفرق أصحابنا بين من قال والله لا آكل هذا الطعام وبين قوله حرمته على نفسي فقالوا في التحريم إن أكل الجزء منه حنث وفي اليمين لا يحنث إلا بأكل الجميع وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله والله لأكلت منه شيئا إذ كان ذلك مقتضى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى مثل قوله حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه فكذلك تحريم الإنسان طعاما يقتضي إيجاب اليمين في أكل الجزء منه وأما اليمين بالله في نفي أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيمان المنتظمة للشروط والجواب كقول القائل إن أكلت هذا الطعام فعبدي حر فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفي أكل الجميع فإن قال قائل قال الله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فروي أن إسرائيل أخذه عرق النسا فحرم أحب الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله فكان ذلك تحريما صحيحا حاظرا لما حرم على نفسه قيل له هو منسوخ بشريعة الرسول ص - وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم -

يأكل لحم الدجاج وروي أنه كان يأكل الرطب والبطيخ وروى غالب بن عبدالله
عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يأكل الدجاج حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت ابن عباس يقول كل ما شئت واكتس ما أخطأت اثنتين سرفا أو مخيلة وقد روي أن عثمان وعبدالرحمن بن عوف والحسن بن علي وعبدالله بن أبي أوفى وعمران بن حصين وأنس

ابن مالك وأبا هريرة وشريحا كانوا يلبسون الخز ويدل على نحو دلالة الاية التي ذكرنا في أكل إباحة الطيبات قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه متاع لكم ويحتج بقوله لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة
باب

الأيمان
قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم عقيب نهيه عن تحريم ما أحل الله قال ابن عباس لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية وأما اللغو فقد قيل فيه أنه مالا يعتد به ومنه قول الشاعر ... أو مائة تجعل أولادها ... لغوا وعرض المائة الجلد ...
يعني نوقا لا تعتد بأولادها فعلى هذا لغو اليمين ما لا يعتد به ولا حكم له وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في قوله عز و جل لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا حدثنا محمد بن بكار حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء وسئل عن اللغو في اليمين فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت لغو اليمين لا والله وبلى والله موقوفا عليها وروى عكرمة عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر يراه كذلك وليس كذلك وروي عن ابن عباس أيضا أن لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وروي عن الحسن والسدي وإبراهيم مثل قول عائشة وقال بعض أهل العلم اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد على نحو قول القائل لا والله وبلى والله على سبق اللسان وقال بعضهم اللغو في اليمين أن تحلف على معصية أن تفعلها فينبغي أن لا تفعلها ولا كفارة فيه وروي فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أصحابنا اللغو هو قوله لا والله وبلى والله فيما يظن أنه صادق فيه على الماضي وقال مالك والليث نحو ذلك وهو قول

الأوزاعي وقال الشافعي اللغو هو المعقود عليه وقال الربيع عنه من حلف على شيء يرى أنه كذلك ثم وجده على غير ذلك فعليه كفارة قال أبو بكر لما قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان أبان بذلك أن لغو اليمين غير المعقود منها لأنه لو كان المعقود هو اللغو لما عطفه عليه ولما فرق بينهما في الحكم في نفيه المؤاخذة بلغو اليمين وإثبات الكفارة في المعقودة ويدل على ذلك أيضا أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة ويدل على ذلك ايضا أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة لأن المؤاخذة قائمة في المعقودة وحكمها ثابت فبطل بذلك قول من قال إن اللغو هو اليمين المعقودة وأن فيها الكفارة فثبت بذلك أن معناه ما قال ابن عباس وعائشة وأنها اليمين على الماضي فيما يظن الحالف أنه كما قال والأيمان على ضربين ماض ومستقبل والماضي ينقسم قسمين لغو وغموس ولا كفارة في واحد منهما والمستقبل ضرب واحد وهو اليمين المعقودة وفيها الكفارة إذا حنث وقال مالك والليث مثل قولنا في الغموس إنه لا كفارة فيها وقال الحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي في الغموس الكفارة وقد ذكر الله تعالى هذه الأيمان الثلاث في الكتاب فذكر في هذه الآية اليمين اللغو والمعقودة جميعا بقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وقال في سورة البقرة لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والمراد به والله أعلم الغموس لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكسب القلب ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك فدل على أن قوله ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة وذكره للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين يدل على أن اللغو هو الذي لم يقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى ومما يدل على أن الغموس لا كفارة فيها قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة فلو أوجبنا فيها الكفارة كان زيادة في النص وذلك غير جائز إلا بنص مثله وروى عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال من حلف على يمين وهو فيها آثم فاجر ليقطع بها

مالا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار فذكر النبي
ص - المأثم ولم يذكر الكفارة فدل على أن الكفارة غير واجبة من وجهين أحدهما أنه لا تجوز الزيادة في النص إلا بمثله والثاني أنها لو كانت واجبة لذكرها في اليمين المعقودة في قوله ص - من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خيرا منها وليكفر عن يمينه رواه عبدالرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما ومما يدل على نفي الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة واحفظوا أيمانكم وحفظها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها ومعلوم امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ فإن قال قائل قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم يقتضي عمومه إيجاب الكفارة في سائر الأيمان إلا ما خصه الدليل قيل له ليس كذلك لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل فلا محالة أن فيه ضمير يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث وإذا ثبت أن في الآية ضميرا سقط الاحتجاج بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجب بها كفارة قبل الحنث فثبت أن في الآية ضميرا فلم يجز اعتبار عمومها إذ كان حكمها متعلقا بضمير غير مذكور فيها وأيضا قوله تعالى واحفظوا أيمانكم يقتضي أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي ألزمنا حفظها وذلك إنما هو في اليمين المعقودة التي تمكن مراعاتها وحفظها لأداء كفارتها واليمين على الماضي لا يقع فيها حنث فينتظمها اللفظ ألا ترى أنه لا يصح دخول الاستثناء عليها فتقول كان أمس الجمعة إن شاء الله والله لقد كان أمس الجمعة إذ كان الحنث وجود معنى بعد اليمين بخلاف ما عقد عليه ويدل على أن الكفارة إنما تتعلق بالحنث في اليمين بعد العقد أنه لو قال والله كان ذلك قسما ولم تلزمه كفارة بوجود هذا القول لأنه لم يتعلق به حنث وقد قرئ قوله تعالى بما عقدتم على ثلاثة أوجه عقدتم بالتشديد قد قرأه جماعة وعقدتم خفيفة وعاقدتم فقوله تعالى عقدتم بالتشديد كان أبو الحسن يقول لا يحتمل إلا عقد قول وعقدتم بالتخفيف يحتمل عقد القلب وهو العزيمة والقصد إلى القول ويحتمل عقد اليمين قولا ومتى احتمل إحدى القراءتين القول واعتقاد القلب ولم يحتمل الأخرى إلا عقد اليمين قولا وجب حمل ما يحتمل وجهين على مالا يحتمل إلا وجها واحدا فيحصل المعنى من

القراءتين عقد اليمين قولا ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصورا على هذا الضرب من الأيمان وهو أن تكون معقودة ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير معقودة وإنما هو خبر عن ماض والخبر عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقا أو كذبا فإن قال قائل إذ كان قوله تعالى عقدتم بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب ويحتمل عقد اليمين فهلا حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين وكذلك قوله تعالى بما عقدتم بالتشديد محمول على عقد اليمين فلا ينفي ذلك واستعمال اللفظ في القصد إلى اليمين فيكون عموما في سائر الأيمان قيل له لو سلم لك ما ادعيت من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت ولكانت دلالة الإجماع مانعة من حمله على ما وصفت وذلك أنه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة فبطل بذلك تأويل من تأوله اللفظ على قصد القلب في حكم الكفارة وثبت أن المراد بالقراءتين جميعا في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل فإن قال قائل قوله عقدتم بالتشديد يقتضي التكرار والمؤاخذة تلزم من غير تكرار فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه التكرار قيل له قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدا إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارة بتكرير الفعل والتضعيف وتارة بعظم المنزلة وأيضا فإن في قراءة التشديد إفادة حكم ليس في غيره وهو أنه متى أعاد المين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره وأراد به التكرار لا يلزمه واحدة فإن قيل قوله بما عقدتم بالتخفيف يفيد إيجاب الكفارة باليمين إلا كفارة أحد قيل له القراءتان والتكرار جميعا مستعملتان على ما وصفنا ولكل واحدة منهما فائدة مجددة
فصل ومن يجيز الكفارة قبل الحنث يحتج بهذه الآية من وجهين أحدهما قوله ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته فجعل ذلك كفارة عقيب عقد اليمين من غير ذكر الحنث لأن الفاء للتعقيب والثاني قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأما قوله بما عقدتم الأيمان فكفارته فإنه لا خلاف أن فيه ضميرا متى أراد إيجابها وقد علمنا لا محالة أن الآية قد تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وأنها غير واجبة قبل

الحنث فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها فكفارته وهو كقوله تعالى ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر والمعنى فأفطر فعدة من أيام أخر وقوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة فمعناه فحلق ففدية عن صيام كذلك قوله بما عقدتم الأيمان فكفارته معناه فحنثتم بكفارته لاتفاق الجميع أنها غير واجبة قبل الحنث وقد اقتضت الآية لا محالة إيجاب الكفارة وذلك لا يكون إلا بعد الحنث فثبت أن المراد ضمير الحنث فيه وأيضا لما سماه كفارة علمنا أنه أراد التكفير بها في حال وجوبها لأن ما ليس بواجب فليس بكفارة على الحقيقة ولا يسمى بهذا الاسم فعلمنا أن المراد إذا حنثتم فكفارته إطعام عشرة مساكين وكذلك قوله في نسق التلاوة ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم معناه إذا حلفتم وحنثتم لما بيناه آنفا فإن قيل يجوز أن تسمى كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يعجله من الزكاة قبل الحول زكاة لوجوب السبب الذي هو النصاب وكما يسمى ما يعجله بعد الجراحة كفارة قبل وجود القتل وإن لم تكن واجبة في هذه الحال فكذلك يجوز أن يكون ما يعجله الحالف كفارة قبل الحنث ولا يحتاج إلى إثبات إضمار الحنث في جوازها قيل له قد بينا أن الكفارة الواجبة بعد الحنث مرادة بالآية وإذا أريد بها الكفارة الواجبة امتنع أن ينتظم ما ليس منها لاستحالة كون لفظ واحد مقتضيا للإيجاب ولما ليس بواجب فمن حيث أريد بها الواجب انتفى ما ليس منها بواجب وأيضا فقد ثبت أن المتبرع بالطعام ونحوه لا يكون مكفرا بما يتبرع به إذا لم يحلف فلما كان المكفر قبل الحنث متبرعا بما أعطى ثبت أن ما أخرج ليس بكفارة ومتى فعله لم يكن فاعلا للمأمور به وأما إعطاء كفارة القتل قبل الموت بعد الجراحة وتعجيل الزكاة قبل الحول فإن جميع ما أخرج هؤلاء تطوع وليس بكفارة ولا زكاة وإنما أجزناه لما قامت الدلالة أن إخراج هذا التطوع يمنع لزوم الفرض بوجود الموت وحؤول الحول
فصل ويحتج من يوجب على من عقد نذره بشرط كفارة يمين دون المنذور مثل قوله إن دخلت الدار فالله علي حجة أو عتق رقبة أو نحو ذلك فحنث بظاهر قوله تعالى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته وبقوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم قال فلما كان هذا حالفا وجب أن يكون الواجب عليه بالحنث كفارة اليمين دون

المنذور بعينه وليس هذا كما ظن هذا القائل وذلك لأن النذر يوجب الوفاء بالمنذور بعينه وله أصل غير اليمين لقوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم وقال تعالى يوفون بالنذر وقال تعالى أوفوا بالعقود وقال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فذمهم تعالى على ترك الوفاء بنفس المنذور وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

من نذر نذرا لم يسمه فعليه كفارة يمين ومن نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به
وكان قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم في اليمين المعقودة بالله عز و جل وكانت النذور محمولة على الأصول الأخر التي ذكرنا في لزوم الوفاء بها قوله تعالى واحفظوا أيمانكم فقال قائلون معناه احفظوا أنفسكم من الحنث فيها واحذروا الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية وقال آخرون أقلوا من الأيمان على نحو قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم واستشهد من قال ذلك بقول الشاعر ... قليل الألا يا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الألية برت ...
وقال آخرون معناه راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها لأن حفظ الشيء هو مراعاته وهذا هو الصحيح فأما الأول فلا معنى له لأنه غير منتهي عن الحنث إذا لم يكن ذلك الفعل معصية وقد قال ص -
من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
فأمره بالحنث فيها وقد قال الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا الآية روي أنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة حين حلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن لا ينفق عليه لما كان منه من الخوض في أمر عائشة وقد كان ينفق عليه وكان ذا قرابة منه فأمره الله تعالى بالحنث في يمينه والرجوع إلى الإنفاق عليه ففعل ذلك أبو بكر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم -
بقوله
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم بالكفارة والرجوع عما حرم على نفسه فثبت بذلك أنه غير منهي عن الحنث في اليمين إذا لم يكن الفعل معصية فغير جائز أن يكون معنى قوله واحفظوا أيمانكم نهيا عن الحنث وأما من قال إن معناه النهي عن الحلف واستشهد بالبيت فقوله مرذول ساقط لأنه غير جائز أن يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين كما لا يجوز أن يقال احفظ مالك بمعنى أن لا تكسبه ومعنى البيت هو على ما نقوله مراعاة

الحنث لأداء الكفارة لأنه قال قليل الألا يا حافظ ليمينه فأخبر بديا بقلة أيمانه ثم قال حافظ ليمينه ومعناه أنه مراع لها ليؤدي كفارتها عند الحنث ولو كان على ما قال المخالف لكان تكرارا لما قد ذكره فصح أن معناه الأمر بمراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث قوله تعالى طعام عشرة مساكين روي عن علي وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن في كفارة اليمين كل مسكين نصف صاع من بر وقال عمر وعائشة أو صاعا من تمر وهو قول أصحابنا إذا أعطاهم الطعام تمليكا وقال ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء في آخرين مد من بر لكل مسكين وهو قول مالك والشافعي واختلف في الإطعام من غير تمليك فروي عن علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة يغديهم ويعشيهم وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي وقال الحسن البصري وجبة واحدة تجزئ وقال الحكم لا يجزي الإطعام حتى يعطيهم وقال سعيد بن جبير مدين من طعام ومد لإدامه ولا يجمعهم فيطعمهم ولكن يعطيهم وروي عن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول وطاوس والشعبي يطعمهم أكلة واحدة وروي عن أنس مثل ذلك وقال الشافعي لا يعطيهم جملة ولكن يعطي كل مسكين مدا قال أبو بكر قال الله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فاقتضى ظاهره جواز الإطعام بالأكل من غير إعطاء ألا ترى إلى قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا قد عقل منه إطعامهم بالإباحة لهم من غير تمليك ويقال فلان يطعم الطعام وإنما مرادهم دعاؤه إياهم إلى أكل طعامه فلما كان الاسم يتناول الإباحة وجب جوازه وإذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة من غير تمليك فالتمليك أحرى بالجواز لأنه أكثر من الإباحة ولا خلاف في جواز التمليك وإنما قالوا يغديهم ويعشيهم لقوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم وهو مرتان غداء وعشاء لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات والأقل واحدة والأوسط مرتان وقد روى ليث عن ابن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إذا كان خبزا يابسا فهو غداؤه وعشاؤه وإنما قال أصحابنا إذا أعطاهم كان
من البر نصف صاع ومن الشعير والتمر صاعا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث كعب بن عجرة في فدية الأذى أو أطعم ثلاثة آصع من طعام ستة مساكين وفي حديث آخر أطعم ستة آصع من تمر ستة

مساكين فجعل لكل مسكين صاعا من تمر أو نصف صاعا من بر ولم يفرق بين تقدير الطعام في فدية الأذى وكفارة اليمين فثبت أن كفارة اليمين مثلها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في كفارة الظهار وسقا من تمر لستين مسكينا والوسق ستون صاعا ولما ثبت في كفارة الظهار لكل مسكين صاع من تمر كانت كفارة اليمين مثلها لاتفاق الجميع على تساويهما في مقدار ما يجب فيهما من الطعام وإذا ثبت من التمر صاع وجب أن يكون من البر نصف صاع لأن كل من أوجب فيها صاعا من التمر أوجب من البر نصف صاع قوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم روي عن ابن عباس قال كان لأهل المدينة قوت وكان للكبير أكثر مما للصغير وللحر أكثر مما للمملوك فنزلت من أوسط ما تطعمون أهليكم ليس بأفضله ولا بأخسه وروي عن سعيد بن جبير مثله قال أبو بكر بين ابن عباس أن المراد الأوسط في المقدار لا بأن يكون مادوما وروي عن ابن عمر قال أوسطه الخبز والتمر والخبز والزيت وخير ما نطعم أهلنا الخبز واللحم وعن عبيدة الخبز والسمن وقال أبو رزين الخبز والتمر والخل وقال ابن سيرين أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه التمر مع الخبز روي عن عبدالله بن مسعود مثله قال أبو بكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم - سلمة بن صخر أن يكفر عن الظهار بإعطاء كل مسكين صاعا من تمر ولم يأمره معه بشيء آخر غيره من الإدام وأمر كعب بن عجرة أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ولم يأمره بالإدام ولا فرق عند أحد بين كفارة الظهار وكفارة اليمين في مقدار الطعام فثبت بذلك أن الإدام غير واجب مع الطعام وأن الأواسط المراد بالآية الأوسط في مقدار الطعام لا في ضم الإدام إليه وقوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين عموم في جميع من يقع عليه الاسم منهم فيصح الاحتجاج به في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع لأنا لو منعناه في اليوم الثاني كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض لا سيما فيمن قد دخل في حكم الآية بالاتفاق وهو قول أصحابنا وقال مالك والشافعي لا يجزي فإن قال قائل لما ذكر عشرة مساكين لم يجز الاقتصار على من دونهم كقوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله تعالى أربعة أشهر وعشرا وسائر الأعداد المذكورة لا يجوز الاقتصار على ما دونها كذلك غير جائز الاقتصار على الأقل من العدد المذكور قيل له لما كان القصد في

ذلك سد جوعة المساكين لم يختلف فيه حكم الواحد والجماعة بعد أن يتكرر عليهم الإطعام أو على واحد منهم في عشرة أيام على حسب ما يحصل به سد الجوعة فكان المعنى المقصود بإعطاء العشرة موجودا في الواحد عند تكرار الدفع والإطعام في عدد الأيام وليس يمتنع إطلاق اسم إطعام العشرة على واحد بتكرار الدفع إذ كان المقصد فيه تكرار الدفع لا تكرار المساكين كما قال تعالى يسئلونك عن الأهلة وهو هلال واحد فأطلق عليه اسم الجمع لتكرار الرؤية في الشهور وأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بالاستنجاء بثلاثة أحجار ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه وكذلك أمر برمي الجمار بسبع حصيات ولو رمى بحصاة واحدة سبع مرات أجزأه لأن المقصد فيه حصول الرمي سبع مرات والمقصد في الاستنجاء حصول المساحات دون عدد الأحجار فكذلك لما كان المقصد في إخراج الكفارة سد جوعة المساكين لم يختلف حكم الواحد إذا تكرر ذلك عليه في الأيام وبين الجماعة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى أو كسوتهم ومعلوم أن كسوتهم عشرة أثواب فصار تقديره أو عشرة أثواب لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة فوجب أن يجزي إعطاؤها الواحد منهم ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كسوة عشر مساكين مسكينا واحدا فقوله تعالى أو كسوتهم يدل من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة ويدل أيضا من الوجه الذي دل عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا ولا تجزي الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكينا واحدا إلا أن يعطيه كل يوم ثوبا لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام وجب مثله في الكسوة إذ لم يفرق واحد بينهما وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر وجب مثله في الكفارة لأن أحدا لم يفرق بينهما ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعطى غيره دراهم يشتري بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال قد أطعمه وكساه وإذا كان إطلاق ذلك سائغا انتظمه لفظ الآية ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19