كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

تقعد وقال نقصان دينهن تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي ولم يذكر الإقراء في هذه الأخبار وإنما ذكر الحيض فوجب بمقتضاها أن يكون الحيض اياما وأن مالا يقع عليه اسم الأيام فليس بحيض لأنه ص - قصد إلى بيان حكم جميع النساء في الحيض وقد حدث محمد بن شجاع قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إسرائيل عن عثمان بن سعيد عن عبدالله بن أبي مليكة عن فاطمة بنت أبي حبيش ذكرت قصتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لعائشة مري فاطمة فلتمسك كل شهر عدد أيام إقرائها ثم تغتسل فأبان في هذا الحديث عن مراده بذكر الإقراء وإنها حيضة في كل شهر لأنه قال تمسك كل شهر عدد أيام إقرائها وقد أخبر في حديث آخر أن عادة النساء في كل شهر حيضة واحدة بقوله لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فإن قيل كيف يجوز أن تسمى الحيضة الواحدة إقراء والحيضة الواحدة إنما هي قرء واحد فينبغي أن تكون الإقراء اسما لجماعة حيض قيل له ما كان القراء اسما لدم الحيض جاز أن تسمى الحيضة الواحدة إقراء على أنها عبارة عن أجزاء الدم كما يقال ثوب أخلاق يراد به العبارة عن كل قطعة منه وقال الشاعر ... جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منه التواق ... فسمى القميص الواحد أخلاقا لأنه أراد العبارة عن كل قطعة منه كذلك جاز أن تسمى الحيضة الواحدة إقراء عبارة بها عن أجزاء الدم فإن قيل أن اسم الأيام قد يقع على يومين فيجب أن يجعل أقل الحيض يومين لوقوع الاسم عليها قيل له إنما يطلق اسم الأيام عليهما مجازا وحقيقتها ثلاثة فما فوقها وحكم اللفظ أن يحمل على حقيقته حتى تقوم الدلالة على جواز صرفه إلى المجاز ودليل آخر وهو أن مدة أقل الحيض وأكثره لما لم يكن لنا سبيل إلى إثبات مقدارها من طريق المقاييس وكان طريقها التوقيف أو الاتفاق على ما تقدم من بيانه في هذا الباب ثم اتفق الجميع على أن الثلاث حيض وكذلك العشر واختلفوا فيما دون الثلاث وفوق العشر أثبتنا ما اتفقوا عليه ولم نثبت ما اختلفوا فيه لعدم ما يوجبه من توقيف أو اتفاق فإن قيل فقد اتفق الجميع على أن المبتدأة تترك الصلاة في أول ما ترى الدم وإن كانت رؤيته يوما وليلة فدل على أن اليوم والليلة حيض ومن ادعى أن ذلك الدم لم يكن حيضا احتاج إلى دلالة لأنه قد حكم له بحكم الحيض بديا فلا

ينقض هذا الحكم إلا بدلالة توجب نقضه وهذا يوجب أن يكون الحيض يوما وليلة قيل له وقد اتفقوا على أنها تترك الصلاة إذا رأته وقت صلاة فينبغي أن يكون ذلك دليلا على أن مدة الحيض وقت صلاة فلما لم يدل أمرنا إياها بترك الصلاة إذا رأت الدم وقت صلاة على أن أقل الحيض وقت صلاة بل كان حكم ذلك الدم مراعى منتظرا به استكمال مدة الحيض على اختلافهم فيها كذلك اليوم والليلة فإن قيل لما قال الله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فقد أوجب علينا الرجوع إلى قولها حين وعظها بترك الكتمان قيل له ليس هذا من مسئلتنا في شيء وإنما هو كلام في قبول خبرها إذا أخبرت عما خلق الله في رحمها ونحن نجعل القول قولها في ذلك وأما الحكم بأن ذلك الدم حيض أو ليس بحيض فليس ذلك إليها لأن ذلك حكم وليس الحكم مخلوقا في رحمها فنرجع إلى قولها قال أبو بكر وجميع ما قدمنا من ذلك منتظم دلالة على بطلان قول من حد مقدار أقل الحيض بيوم وليلة وعلى بطلان قول من لم يجعل لقليل الحيض ولا لكثيره مقدارا معلوما وعلى فساد قول من اعتبر عادة نسائها ويدل على بطلان قول من أسقط اعتبار المقدار في قليله وكثيره أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون الحيض هو الدم الموجود منها فيجب على هذه القضية أن لا تكون في الدنيا مستحاضة لوجود الدم وكون جميعه حيضا وقد علمنا بطلان ذلك بالسنة واتفاق الأمة فإن فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنبي ص - إني أستحاض فلا أطهر فأخاف أن لا يكون لي في الإسلام حظ واستحيضت حمنة سبع سنين فلم يقل الشارع لهما أن جميع ذلك حيض بل أخبرهما أن منه ما هو حيض ومنه ما هو استحاضة فلا بد من أن يكون لما كان منه حيضا مقدار موقت وهو ما أخبر عن مقداره بذكر الأيام ويلزم أيضا من لا يجعل لأقل الحيض ولا لأكثره مقدارا معلوما أن يجعل دم المبتدأة إذا استمر بها كله حيضا وإن رأته سنة لفقد عادة الحيض منها ووجود الدم في رحمها وهذا خلف من القول متفق على بطلانه فإن قيل لما كان النفاس مثل الحيض فيما يتعلق به من الحكم ولم يكن لأقله حد معلوم فكذلك الحيض قيل له إنما أثبتنا ذلك نفاسا بالاتفاق ولم نقس عليه الحيض إذ ليس طريق إثباته المقاييس وقد احتج الفريقان من مثبتي القليل والكثير من الدم حيضا وممن قدره بيوم وليلة بقوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض وقول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة إذ كان

ظاهره يقتضي القليل والكثير لأنه ليس في اللفظ توقيت فإذا رأت الدم يوما وليلة فقد تناوله الظاهر فيقال لهم إنما يجب أن يثبت ذلك حيضا حتى يعتزلها فيه إذ ليس في اللفظ دلالة على كيفية الحيض ولا على معناه وصفته فإذا ثبت أنه حيض حينئذ أجري فيه حكم الآية والخبر ومتى اختلفوا فيه لم يكن في هذه الآية دليل على معناه ودعوى الخصم تكون دليلا في المسئلة فإن قيل قد بين الشارع علامة دم الحيض وصفته بما يغني عن اعتبار المقدار معه بقوله دم الحيض هو الأسود المحتدم فمتى وجد الدم بهذه الصفة كان حيضا قيل له لا خلاف أن الدم الذي ليست هذه صفته قد يكون حيضا إذا رأته في أيامها أو رأته وهي مبتدأة وقد يوجد على هذه الصفة بعد أيامها أو في أيامها فيكون ما في أيامها منه حيضا وما بعد أيامها استحاضة فغير جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - جعل وجود هذه الصفة علما للحيض ودليلا عليه وهي توجد مع عدمه وتعدم مع وجوده وإنما وجه ذلك عندنا أنه علم ذلك من حال امرأة بعينها وإن حيضها أبدا يكون بهذه الصفة فأخبر عن حكمها خاصة دون غيرها فلم يجز اعتباره في غيرها وقد احتج الفريقان أيضا من مثبتي مقدار أقل الحيض يوما وليلة ومن نافى تقديره بقوله تعالى ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فزعم من أسقط اعتبار المقدار أنه لما وصف الحيض بكونه أذى فحيثما وجد الأذى فهو حيض بغير اعتبار التوقيف إذ ليس في الآية ذكر المقدار ومن قال باليوم والليلة يقول إن ظاهره يقتضي وجود الأذى في اليوم والليلة حيضا وفيما دونه وخصصنا ما دونه بدلالة فبقي حكم اللفظ في اليوم والليلة فيقال لهم ينبغي أن يثبت الحيض أولا حتى تثبت هذه الصفة وهي كونه أذى لأنه تعالى إنما جعل الحيض أذى ولم يجعل الأذى حيضا وقد علمنا أنه ليس كل أذى حيضا وأن كل حيض أذى كما أنه ليس كل نجاسة حيضا وإن كان كل حيض نجاسة فوجب أن يثبت الحيض حتى يكون أذى وأيضا معلوم أنه لو كان مراده أن يجعل الأذى اسم المحيض أنه لم يرد به أن كل أذى حيض لأن سائر ضروب الأذى ليست بحيض فيحصل حينئذ المراد أذى منكرا إذ يحتاج في معرفته إلى دلالة من غيره حتى إذا حصلت لنا معرفته حكمنا فيه بحكم الحيض وأيضا فإن الأذى اسم مشترك يقع على أشياء مختلفة المعاني وما كان هذا وصفه من الأسماء فليس يجوز أن يكون عموما واحتج بعض من جعل أكثر الحيض خمسة عشر يوما أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ما رأيت ناقصات

عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن فقيل وما نقصان دينهن فقال تمكث إحداهن نصف عمرها لا تصلي

قال
وهذا يدل على أن الحيض خمسة عشر يوما ويكون الطهر خمسة عشر يوما لأنه أقل الطهر فيكون الحيض نصف عمرها ولو كان أكثر الحيض أقل من ذلك لم توجد امرأة لا تصلي نصف عمرها فيقال له لم يرو أحد نصف عمرها وإنما روي على وجهين أحدهما شطر عمرها والآخر تمكث إحداهن الأيام والليالي تصلي فأما ذكر نصف عمرها فلم يوجد في شيء من الأخبار وقوله شطر عمرها لا دلالة فيه على أنه أراد النصف لأن الشطر هوبمنزلة قوله طائفة وبعض ونحو ذلك قال الله تعالى فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنما أراد ناحيته وجهته ولم يرد نصفه وقد بين مقدار ذلك الشطر في قوله ص - تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي فوجب أن لا يكون هو المراد دون غيره ومع ذلك فإنه لا يوجد في الدنيا امرأة تكون حائضا نصف عمرها لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ من عمرها وهو طهر بلا حيض فلو جاز أن يكون الحيض بعد البلوغ خمسة عشر يوما إلى انقضاء عمرها وكان طهرها مع ذلك خمسة عشر لما حصل الحيض نصف عمرها فعلمنا بطلان قول من زعم أن حيضها قد يكون نصف عمرها
ذكر الاختلاف في أقل مدة الطهر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح والشافعي أقل الطهر خمسة عشر يوما وهو قول عطاء وأما مالك بن أنس فإنه لا يوقت فيه شيئا في إحدى الروايات وفي رواية عبدالملك بن حبيب عنه أن الطهر لا يكون أقل من خمسة عشر وقال الأوزاعي قد يكون الطهر أقل من خمسة عشر ويرجع فيه إلى مقدار طهر المرأة قبل ذلك وقد حكي عن الشافعي أنه علم أن طهر المرأة أقل من خمسة عشر جعل القول قولها وذكر الطحاوي عن أبي عمران عن يحيى بن أكثم أنه قال أقل الطهر تسعة عشر يوما واحتج فيه بأن الله تعالى جعل عدل كل حيضة وطهر شهرا والحيض في العادة أقل من الطهر فلم يجز أن يكون الحيض خمسة عشر فوجب أن يكون عشرة وأن يكون باقي الشهر طهرا وهو تسعة عشر لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما وقد حكينا عن سعيد بن جبير أن الطهر أقله ثلاثة عشر يوما والدليل على أن أقله خمسة عشر يوما أنه لما كان أكثر الحيض

عشرة أيام وقد جعل الله تعالى الشهر الواحد بدلا من حيض وطهر وجب أن يكون الطهر أكثر منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأثبت الست أو السبع حيضا وجعل في الشهر طهرا اقتضى ذلك أن يكون هذا حكم جميع النساء مالم تقم الدلالة على خمسة عشر يوما ولم تقم على عشرة ولا على ثلاثة عشر فلا يكون ذلك طهرا صحيحا وأيضا لما كان الطهر من الحيض يلزم به الصلوات أشبه الإقامة فلما كان أقل الإقامة عندنا خمسة عشر يوما ولم يكن لأكثرها غاية وجب أن يكون الطهر من الحيض كذلك وأيضا فإن طريق إثبات مقدار الطهر التوقيف أو الإتفاق وقد ثبت باتفاق فقهاء السلف أن خمسة عشر يكون طهرا صحيحا واختلفوا فيما دونها وقفنا عند الإتفاق ولم نثبت ما دونها طهرا لعدم التوقيف والإتفاق فيه وأما ما حكي عن يحيى بن أكثم من تقديره الطهر تسعة عشر يوما فإنه يفسد من وجوه أحدها أن اتفاق السلف قد سبقه في كون الطهر خمسة عشر فلا يكون خلافا عليهم ولأن من تقدمه اختلفوا فيه على ثلاثة أوجه قال عطاء خمسة عشر يوما وقال سعيد بن جبير ثلاثة عشر يوما وقال مالك في بعض الروايات خمسة عشر وفي بعضها عشرة ولم يقل أحد منهم تسعة عشر ويفسد من جهة أنه أثبت له مقدارا من غير توقيف ولا اتفاق وذلك غير جائز فيما هذا وصفه وأما احتجاجه بما قدمنا ذكره فلا معنى له ولا يوجب ما ذكرنا وذلك لأنه معلوم أن ما أقامه الله من الشهر الواحد مقام حيضة وطهر غير مانع وجود حيضة وطهر في أقل من شهر لأنه لو كان حيضها ثلاثة أيام حصل لها حيضة وطهر في أقل من شهر وإذا لم يدل إيجاب الله تعالى شهرا عن حيضة وطهر على وجود حيضة وطهر في أقل منه وجاز نقصان الحيض عن عشرة حتى تستوفي لها حيضة وطهر في أقل من شهر وتنقضي عدتها بالحيض في أقل من ثلاثة أشهر وإن لم ميجز أن تنقضي عدتها إذا كانت بالشهور في أقل من ثلاثة أشهر لم يمتنع أن ينقص الطهر بعد استيفاء الحيضة عشرا فيكون أقل من تسعة عشر يوما فبان بما وصفنا أن ما ذكره ليس بدليل على وجوب الاقتصار في أقل الطهر على تسعة عشر يوما وإنما يدل ذلك على أن الطهر قد يكون هذا القدر ولا دلالة فيه على أنه لا يكون أقل منه والله أعلم
ذكر الاختلاف في الطهر العارض في حال الحيض
قال أصحابنا جميعا فيمن ترى يوما دما ويوما طهرا أن ذلك كدم متصل وكذلك قال

أبو يوسف إذا كان الطهر بين الدمين أقل من خمسة عشر فهو كدم متصل وقال محمد إذا كان الطهر الذي بين الدمين أقل من ثلاثة أيام فهو كدم متصل وإذا كان ثلاثة أيام أو أكثر من العشرة فإنه ينظر إلى الدمين والطهر الذي بينهما فإن كان الطهر أكثر منهما فصل بين الدمين وإن كانا سواء أو أقل فهو كدم متصل ومتى كان الطهر أكثر من الدمين ففصل بينهما اعتبر كل واحد من الدمين بنفسه فإن كان الأول منهما ثلاثة أيام فإنه يكون حيضا وكذلك إن لم يكن الأول ثلاثا وكان الآخر منهما ثلاثا فالآخر حيض وإن لم يكن واحد منهما ثلاثا فليس واحد منهما بحيض وقال مالك إذا رأت يوما دما ويوما طهرا أو يومين ثم رأت دما كذلك فإنه تلغى أيام الطهر وتضم أيام الدم بعضها إلى بعض فإن دام بها ذلك استظهرت بثلاثة أيام على أيام حيضها فإن رأت في خلال أيام الاستظهار أيضا طهر ألغاه حتى يحصل ثلاثة أيام دم الاستظهار وأيام الطهر تصلي وتصوم ويأتيها زوجها ويكون ما جمع من أيام الدم بعضه إلى بعض حيضة واحدة ولا يعتد بأيام الطهر في عدة من طلاق فإذا استظهرت بثلاثة أيام بعد أيام حيضها تتوضأ لكل صلاة وتغتسل كل يوم إذا انقطع عنها من أيام الطهر وإنما أمرت بالغسل لأنها لا تدري لعل الدم لا يرجع إليها وحكى الربيع عن الشافعي نحو ذلك قال ابو بكر معلوم أن الحائض لا ترى الدم أبدا سائلا وكذلك المستحاضة إنما تراه في وقت وينقطع في وقت ولا خلاف أن انقطاع دمها ساعة ونحوها لا يخرجها من حكم الحيض في وقت رؤية الطهر وانقطاع الدم في مثل هذا الوقت إن ذلك كله كدم متصل كما قالوا جميعا في انقطاعه ساعة ونحوها ولأن الطهر الذي بينهما ليس بطهر صحيح عند الجميع لأن أحدا لا يجعل الطهر الصحيح يوما ولا يومين ولم يقل أحد أن الطهر الذي بين الحيضتين يكون أقل من عشرة أيام على ما بيناه فيما سلف وأيضا لو كان طهر اليوم واليومين الذي بين الدمين طهرا يوجب الصلاة والصوم لوجب أن يكون كل واحد من الدمين حيضة تامة فلما اتفق الجميع على أن هذا القدر من الطهر غير معتد به في الفصل بين الدمين وجعل كل واحد منهما حيضة تامة وجب أن يسقط حكمه ويصير مع ما قبله وبعده من الدم كدم متصل وقد اختلف في الصفرة والكدرة في أيام الحيض فروي عن أم عطية الأنصارية قالت كنا لا نعتد بالصفرة ولا بالكدرة بعد الغسل شيئا واتفق فقهاء الأمصار على أن الصفرة في ايام الحيض حيض

منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والليث وعبدالله بن الحسن والشافعي واختلفوا في الكدرة فقال جميع من قدمنا ذكرهم أنها حيض في أيام الحيض وإن لم يتقدمها دم وقال أبو يوسف لا تكون الكدرة حيضا إلا بعد الدم وقد روي عن عائشة وأسماء بنت أبي بكر قالتا لا تصلي الحائض حتى ترى القصة البيضاء ولم يختلفوا في أن الكدرة حيض بعد الدم فلما كان وجودها عقيب الدم دليلا على أن الكدرة من اختلاط أجزاء الدم وجب أن يكون ذلك حكمها إذا وجدت في أيام الحيض وإن لم يتقدمها دم وأن يكون الوقت المعتاد فيه الدم دلالة على أن الكدرة من اختلاط أجزاء الدم بالبياض والدليل على أن للوقت تأثيرا في ذلك أن المرأة ترى الدم في أيام حيضها وبعدها فيكون ما رأته في أيامها حيضا وما بعد أيامها غير حيض وكان الوقت علما لكونه حيضا ودلالة عليه فكذلك يجب أن يكون الوقت دليلا على أن الكدرة من أجزاء دم الحيض وأن يكون حيضا وقد اختلف في حيض المبتدأة إذا رأت الدم واستمر بها فقال أصحابنا وجميعا عشرة منها حيض وما زاد فهو استحاضة إلى آخر الشهر فيكون حيضها عشرة وطهرها عشرين ولم يذكر عنهم خلاف في الأصول وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف تأخذ في الصلاة بالثلاث أقل الحيض وفي الزوج بالعشرة ولا تقضي صوما عليها إلا بعد العشرة وتصوم العشر من رمضان وتقضي سبعا منها وقال إبراهيم النخعي تقعد مثل أيام نسائها وقال مالك تقعد ما تقعد نحوها من النساء ثم هي مستحاضة بعد ذلك وقال الشافعي حيضها أقل ما يكون يوما وليلة والدليل على صحة القول الأول اتفاق الجميع على أنها مأمورة بترك الصلاة إلى أكثر الحيض على اختلافهم فيه فصارت محكوما لها بحكم الحيض في هذه الأيام ومثلها يجوز أن يكون حيضا فوجب أن تكون العشرة كلها حيضا لوقوع الحكم لها بذلك وعدم عادتها لخلافه ألا ترى أن الكل يقولون إن الدم لو انقطع عن العشرة لكان كله حيضا فثبت أن العشرة محكوم لها فيها لحكم الحيض وغير جائز نقض ذلك إلا بدلالة وأيضا فلو كان ما زاد على الأقل مشكوكا فيه بعد وجود الزيادة على الأكثر لكان الأولى أن لا ينقض ما حكمنا به حيضا بالشك ألا ترى أنه ص - حكم للشهر الذي يغم الهلال في آخره بثلاثين بقوله فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين لما كان ابتداء الشهر يقينا لم يحكم بانقضائه بالشك فإن قيل فمن كانت لها عادة دون العشر فزاد الدم ردت إلى أيام

عادتها ولم يكن حكمنا لها بديا في الزيادة بحكم الحيض مانعا من اعتبار أيامها وكذلك من رأت الدم في أول ايامها كانت مأمورة بترك الصلاة ولو دون الثلاث فإن انقطع ما دون الثلاث حكمنا بأن ما رأته لم يكن حيضا وإن تم ثلاثا كان حيضا قيل له أما التي كان لها أيام معروفة فإن حكم الزيادة لم يقع إلا مراعى معتبرا بانقطاعه في العشرة لقوله ص - المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها فاقتضى ذلك كون الزيادة مراعاة لعلمنا بان لها أياما معروفة وأما المبتدأة فلم يكن لها قبل ذلك أيام يجب اعتبارها فلذلك كانت رؤيتها الدم في العشرة غير مراعاة بل عندنا أن ما رأته المبتدأة في العشرة فهو كالعادة يصير ذلك أياما لها في العدد والوقت وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون الدم الذي رأته المبتدأة في العشر مراعى بل واجب أن يحكم لها فيه بحكم الحيض إذ كان مثله يكون حيضا وأما من رأت الدم في أول أيامها وحكمنا له فيه بحكم الحيض في باب الأمر بترك الصلاة والصيام ثم انقطاعه دون الثلاث يخرجه عن كونه حيضا فلأن ذلك وقع مراعى في الابتداء لعلمنا بأن لأقل الحيض مقدارا متى قصر عنه لم يكن الدم الذي رأته حيضا فمن أجل ذلك وقع مراعى وليس للمبتدأة بعد رؤيتها للدم ثلاثا حال يجب مراعاتها فوجب أن تكون العشرة كلها حيضا لعدم الدلالة الموجبة للاقتصار به على ما دونها وأما أبو يوسف فإنه جعلها بمنزلة من كان حيضها خمسا أو ستا فكانت شاكة في الستة وقالوا جميعا أنها تأخذ بالأقل في لصلاة وكذلك الميراث والرجعة وتأخذ في الأزواج بالأكثر احتياطا وكذلك المبتدأة قال أبو بكر وليس هذا نظيرا لمسألتنا من قبل أن هذه قد كانت لها أيام معلومة وقد تيقنا الخمسة وشككنا في الستة فاحتطنا لها في الصلاة والصوم واحتطنا أيضا في الأزواج فلم نبحها لهم بالشك والمبتدأة ليس لها أيام يجب اعتبارها فما رأته من الدم الذي يكون مثله حيضا فهو حيض ولا معنا لردها إلى أقل الحيض إذ ليس معنا دلالة توجب ذلك ويفسد هذا القول أيضا من جهة أن أقل الحيض ليس بعادة لها فلا فرق بينه وبين ما زاد عليه في امتناع وجوب الرد إليه فوجب حينئذ اعتبار الأكثر لوقوع الحكم بكونه حيضا وعدم الدلالة على نقض هذا الحكم ويدل أيضا على صحة قول أبي حنيفة أن الله تعالى جعل عدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر بدلا من الحيض فجعل مكان كل حيضة وطهر شهرا فدل ذلك على أنه إذا استمر بها الدم ولم تكن لها عادة فواجب أن تستوفي لها حيضة وطهر

ومعلوم أنه ليس لأكثر الطهر حد معلوم ولأكثر الحيض مقدار معلوم فوجب أن يستوفى لها أكثر الحيض ويكون بقية الشهر طهرا لأنه ليس مقدار من الطهر في بقية الشهر بالاعتبار أولى من غيره فوجب أن يكون المعتبر من الطهر لبقية الشهر هو الذي يبقى بعد أكثر الحيض ألا ترى أنك إذا نقصت الحيض من العشرة احتجت أن تزيد ما نقصته منها في الطهر وليس زيادة الطهر بأن يكون خمسة أو ستة فوجب أن يعتبر أكثر الحيض ويجعل الباقي من الشهر طهرا ويدل على وجوب استيفاء حيضة وطهر في الشهر لهذه المبتدأة قوله ص - لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء في كل شهر حيضة وطهر فإن قيل فهلا اعتبرت لها ستا أو سبعا كما قال ص - قيل له لم نقل ذلك لوجوه أحدها أنا لا نعلم أحدا من أهل العلم قال ذلك في المبتدأة والثاني أن هذه كانت عادة المرأة المخاطبة بذلك أعني ستا أو سبعا فلا يعتبر بها غيرها فاستدلالنا من الخبر بما وصفنا صحيح لأنا أردنا إثبات الحيضة والطهر في الشهر في المتعارف المعتاد وأما قول من قال أنها تقعد مثل حيض نسائها فلا معنى له لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يرد المستحاضة إلى وقت نسائها وإنما رد واحدة إلى عادتها فقال تقعد أيام إقرائها وأمر أخرى أن تقعد في علم الله ستا أو سبعا وأمر أخرى أن تغتسل لكل صلاة ولم يقل لواحدة منهن أقعدي أيام نسائك وأيضا فإن ايام نسائها والأجنبيات ومن كان دون سنها وفوقها سواء وقد يتفقن في السن مع اختلاف عاداتهن في الحيض فليس لنسائها في ذلك خصوصية دون غيرهن وقد تنازع أهل العلم في قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن فمن الناس من يقول أن انقطاع الدم يوجب إباحة وطئها ولم يفرقوا في ذلك بين أقل الحيض وأكثره ومنهم من لا يجوز وطأها إلا بعد الاغتسال في أقل الحيض وأكثره وهو مذهب الشافعي وقال أصحابنا إذا انقطع دمها وأيامها دون العشرة فهي في حكم الحائض حتى تغتسل إذا كانت واجدة للماء أويمضي عليها وقت الصلاة فإذا كان أحد هذين خرجت من الحيض وحل لزوجها وطؤها وانقضت عدتها إن كانت آخر حيضة وإذا كانت أيامها عشرة ارتفع حكم الحيض بمضي العشرة وتكون حينئذ بمنزلة امرأة جنب في إباحة وطء الزوج وانقضاء العدة وغير ذلك
واحتج من أباح وطأها في سائر الأحوال عند مضي أيام حيضها وانقطاع دمها قبل

الاغتسال بقوله ولا تقربوهن حتى يطهرن وحتى غاية تقتضي أن يكون حكم ما بعدها بخلافها فذلك عموم في إباحة وطئها بانقطاع الدم كقوله تعالى حتى مطلع الفجر وقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ولا جنبا إلا عابري سبل حتى تغتسلوا فكانت هذه نهايات لما قدر بها وكان حكم ما بعدها بخلافها فكذلك قوله حتى يطهرن إذا قرئ بالتخفيف فمعناها انقطاع الدم وقالوا وقد قرىء حتى يطهرن بالتشديد وهو يحتمل ما يحتمله قوله حتى يطهرن بالتخفيف فيراد به انقطاع الدم إذ جائز أن يقال طهرت المرأة وتطهرت إذا انقطع دمها كما يقال تقطع الحبل وتكسر الكوز والمعنى انقطع وانكسر ولا يقتضي ذلك فعلا من الموصوف بذلك
واحتج من حظر وطأها في كل حال حتى تغتسل بقوله فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله فشرط في إباحته شيئين أحدهما انقطاع الدم والآخر الاغتسال لأن قوله فإذا تطهرن لا يحتمل غير الغسل وهو كقول القائل لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار فإذا دخلها وقعد فيها فأعطه دينارا فيعقل به أن استحقاق الدينار موقوف على الدخول والقعود جميعا وكقوله تعالى ولا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا فشرط الأمرين في إحلالها للأول فلا تحل له فأحدهما كذلك قوله تعالى فإذا تطهرن فأتوهن مشروط في إباحة الوطء المعنيان وهو الطهر الذي يكون بانقطاع الدم والاغتسال قال أبو بكر قوله تعالى حتى يطهرن إذا قرئ بالتخفيف فإنما هو انقطاع الدم لا الإغتسال لأنها لو اغتسلت وهي حائض لم تطهر فلا يحتمل قوله حتى يطهرن إلا معنى واحدا وهو انقطاع الدم الذي به يكون الخروج من الحيض وإذا قرئ بالتشديد احتمل الأمرين من انقطاع الدم ومن الغسل لما وصفنا آنفا فصارت قراءة التخفيف محكمة وقراءة التشديد متشابهة وحكم المتشابه أن يحمل على المحكم ويرد إليه فيحصل معنىالقراءتين على وجه واحد وظاهرهما يقتضي إباحة الوطء بانقطاع الدم الذي هو خرج من الحيض وأما قوله فإذا تطهرن فإنه يحتمل ما احتملته قراءة التشديد في قوله حتى يطهرن من المعنيين فيكون بمنزلة قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن ويكون كلاما سائغا مستقيما كما تقول لا تطعه حتى يدخل الدار فإذا دخلها فأعطه ويكون تأكيدا لحكم الغاية وإن كان حكمنا بخلاف ما قبلها وإذا

كان للاحتمال فيه مساغ على الوجه الذي ذكرنا وكان واجبا حمل الغاية على حقيقتها فالذي يقتضيه ظاهر التلاوة إباحة وطئها بانقطاع الدم الذي يخرج به من الحيض ومن جهة أخرى فيها احتمال وهو أن يكون معنى قوله فإذا تطهرن فإذا حل لهن أن يتطهرن بالماء أو التيمم كقوله إذا غابت الشمس فقد أفطر الصائم معناه قد حل له الإفطار وقوله من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل معناه فقد جاز له أن يحل وكما يقال للمطلقة إذا انقضت عدتها أنها قد حلت للأزواج ومعناه قد حل لها أن تتزوج وعلى هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس إذا حللت فآذنيني وإذا احتمل ذلك لم تزل الغاية عن حقيقتها بحظر الوطء بعدها وأما قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن الغاية في هذا الموضع مستعملة على حقيقتها ونكاح الزوج وهو وطؤه إياها هو الذي يرفع التحريم الواقع بالثلاث ووطء الزوج الثاني مشروط لذلك وقد ارتفع ذلك بالوطء قبل طلاقه إياها وطلاق الزوج الثاني غير مشروط في رفع التحريم الواقع بالثلاث فإذا لا دليل للشافعي في الآية على الحد الذي ذكرنا على صحة مذهبه ولا على نفي قول مخالفيه وأما على مذهبنا فإن الآية مستعملة على ما احتملت من التأويل على حقيقتها في الحالتين اللتين يمكن استعمالهما فنقول إن قوله يطهرن إذا قرئ بالتخفيف فهو مستعمل على حقيقته فيمن كانت أيامها عشرا فيجوز للزوج استباحة وطئها بمضي العشر وقوله يطهرن بالتشديد فإذا تطهرن مستعملان في الغسل إذا كانت أيامها دون العشر ولم يمض وقت الصلاة لقيام الدلالة على أن مضي وقت الصلاة يبيح وطئها على ما سنبينه فيما بعد ولا يكون فيه استعمال واحد من الفعلين على المجاز بل مستعملان على الحقيقة في الحالين فإن قيل هلا كانت القراءتان كالآيتين تستعملان معا في حال واحدة قيل له لو جعلناهما كالآيتين كان ما ذكرنا أولى من قبل أنه لو وردت آيتان تقتضي إحداهما انقطاع غاية الدم لإباحة الوطء والأخرى تقتضي الغسل غاية لها لكان الواجب استعمالهما على حالين على أن تكون كل واحدة منهما مقرة على حقيقتها فيما اقتضته من حكم الغاية ولا يمكن ذلك إلا باستعمالهما في حالين على الوجه الذي بينا ولو استعملناهما على ما يقول المخالف كان فيه إسقاط إحدى الغايتين لأنه يقول إنها وإن طهرت وانقطع دمها لم يحل له أن يطأها حتى تغتسل فلو جعلنا ذلك دليلا مبتدأ كان سائغا مقنعا وإنما اعتبر أصحابنا فيمن

كان أيامها دون العشر فانقطع دمها بما وصفنا من قبل أنه جائز أن يعاودها الدم فيكون حيضا إذ ليس كل طهر تراه المرأة يكون طهرا صحيحا لأن الحائض ترى الدم سائلا مرة ومنقطعا مرة فليس في انقطاعه في وقت يجوز أن يكون حائضا فيه وقوع الحكم بزوال الحيض فقالوا إن انقطاع الدم فيمن وصفنا حالها معتبر بأحد شيئين إما بالإغتسال فيزول عنها حكم الحيض بالاتفاق وباستباحتها الصلاة وذلك ينافي حكم الحيض أو بمضي وقت صلاة فيلزمها فرض الصلاة ولزوم فرضها مناف لبقاء حكم الحيض إذ غير جائز أن يلزم الحائض فرض الصلاة فإذا انتفى حكم الحيض وثبت حكم الطهر ولم يبق إلا الإغتسال لم يمنع الوطء بمنزلة امرأة جنب جائز لزوجها وطؤها وعلى هذا المعنى عندنا ما روي عن الصحابة في اعتبار الاغتسال في انقضاء العدة وقد روى عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من الصحابة الخبر فالخبر منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس قالوا الرجل أحق بامرأته مالم تغتسل من حيضتها الثالثة وروي مثله عن علي وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأما إذا كانت أيامها عشرة فإنه غير جائز عندنا وجود الحيض بعد العشرة فوجب الحكم بانقضائه لامتناع جواز بقاء حكمه والله تعالى إنما منع من وطء الحائض أو ممن يجوز أن يكون حائضا فأما مع ارتفاع حكم الحيض وزواله فهو غير ممنوع من وطء زوجته لأنه تعالى قال فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن وقد طهرت لا محالة ألا ترى أنها منقضية العدة إن كانت معتدة وأن حكمها حكم سائر الطاهرات ولا تأثير لوجوب الاغتسال عليها في منع وطئها على ما بيناه فإن قيل إذا انقطع دمها فيما دون العشرة فقد وجب عليها الغسل ولزوم الغسل ينافي بقاء حكم الحيض إذ غير جائز لزوم الغسل على الحائض كما قلت في لزوم فرض الصلاة قيل له إذا كان الغسل من موجبات الحيض فلزومه غير مناف لحكمه وبقائه ألا ترى أن السلام لما كان من موجبات تحريمة الصلاة لم يكن لزومه بانتهائه إلى آخرها نافيا لبقاء حكمها وكذلك الحلق لما كان من موجبات الإحرام لم يكن لزومه نافيا لبقاء إحرامه مالم يحلق كذلك الغسل لما كان من موجبات الحيض لم يكن وجوبه عليها مانعا من بقاء حكم الحيض وأما الصلاة فليست من موجبات الحيض وإنما هو حكم آخر يختص لزومه بالطاهر من النساء دون الحائض ففي لزومها نفي لحكم الحيض وقوله حتى يطهرن فإذا تطهرن لما احتمل

الغسل صار كقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا ويدل على أن على الحائض الغسل بعد انقضاء حيضها وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - واتفقت الآمة عليه قوله تعالى فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله قال أبو بكر هو إطلاق من حظر وإباحة وليس هو على الوجوب كقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وإذا حللتم فاصطادوا وهو إباحة وردت بعد حظر وقوله من حيث أمركم الله قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس يعني في الفرج وهو الذي أمر بتجنبه في الحيض في اول الخطاب في قوله فاتعزلوا النساء في المحيض وقال السدي والضحاك من قبل لطهر دون الحيض وقال ابن الحنفية من قبل النكاح دون الفجور قال أبو بكر هذا كله مراد الله تعالى لأنه مما أمر الله به فانتظمت الآية جميع ذلك قوله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين روي عن عطاء المتطهرين بالماء للصلاة وقال مجاهد المتطهرين من الذنوب قال أبو بكر المتطهرين بالماء أشبه لأنه قد تقدم في الآية ذكر الطهارة فالمراد بها الطهارة بالماء للصلاة في قوله فإذا تطهرن فأتوهن فالأظهر أن يكون قوله ويحب المتطهرين مدحا لمن تطهر بالماء للصلاة وقال تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين وروي أنه مدحهم لأنهم كانوا يستنجون بالماء وقوله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم الحرث المزدرع وجعل في هذا الموضع كناية عن الجماع وسمى النساء حرثا لأنهن مزدرع الأولاد وقوله فأتوا حرثكم أنى شئتم يدل على أن إباحة الوطء مقصورة على الجماع في الفرج لأنه موضع الحرث واختلف في إتيان النساء في أدبارهن فكان أصحابنا يحرمون ذلك وينهون عنه أشد النهي وهو قول الثوري والشافعي فيما حكاه المزني قال الطحاوي وحكى لنا محمد بن عبدالله بن عبدالحكم أنه سمع الشافعي يقول ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في تحريمه ولا تحليله شيء والقياس أنه حلال وروى أصبغ بن الفرج عن ابن القاسم عن مالك قال ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك فيه أنه حلال يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم قال فأي شيء أبين من هذا وما أشك فيه قال ابن القاسم فقلت لمالك بن أنس عندنا بمصر الليث بن سعد يحدثنا عن الحارث بن يعقوب عن أبي الحباب سعيد بن يسار قال قلت لابن عمر ما تقول في الجواري أنحمض لهن فقال وما التحميض فذكرت الدبر قال ويفعل ذلك أحد من

المسلمين فقال مالك فأشهد على ربيعة بن أبي عبدالرحمن يحدثني عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر عنه فقال لا بأس به قال ابن القاسم فقال رجل في المجلس يا أبا عبدالله فإنك تذكر عن سالم أنه قال كذب العبد أو كذب العلج على أبي يعني نافعا كما كذب عكرمة على ابن عباس فقال مالك وأشهد على يزيد بن رومان يحدثني عن سالم عن أبيه انه كان يفعله قال أبو بكر قد روى سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك فأنزل الله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم إلا أن زيد بن أسلم لا يعلم له سماع من ابن عمر وروى الفضل بن فضالة عن عبدالله بن عباس عن كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر أنه قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى ان تؤتى النساء في أدبارهن قال نافع كذبوا علي أن ابن عمر عرض المصحف يوما حتى بلغ نساؤكم حرث لكم فقال يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية قلت لا قال إنا كنا معشر قريش نجبي النساء وكانت نساء الأنصار قد أخذن عن اليهود إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله هذه فهذا يدل على أن السبب غير ما ذكره زيد بن أسلم عن ابن عمر لأن نافعا قد حكى عنه غير ذلك السبب وقال ميمون بن مهران أيضا قال ذلك نافع يعني تحليل وطء النساء في أدبارهن بعدما كبر وذهب عقله قال أبو بكر المشهور عن مالك إباحة ذلك وأصحابه ينفون عنه هذه المقالة لقبحها وشناعتها وهي عنه أشهر من أن يندفع بنفيهم عنه وقد حكى محمد بن سعيد عن أبي سليمان الجوزجاني قال كنت عند مالك بن أنس فسئل عن النكاح في الدبر فضرب بيده إلى رأسه وقال الساعة اغتسلت منه وقد رواه عنه ابن القاسم على ما ذكرنا وهو مذكور في الكتب الشرعية ويروى عن محمد بن كعب القرظي أنه كان لا يرى بذلك بأسا ويتأول فيه قوله تعالى أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم مثل ذلك إن كنتم تشتهون وروي عن ابن مسعود أنه قال محاش النساء حرام وقال عبدالله بن عمر وهي اللوطية الصغرى وقد اختلف عن ابن عمر فيه فكأنه لم يرو عنه فيه شيء لتعارض ما روي عنه فيه وظاهر الكتاب يدل على أن الإباحة مقصورة على الوطء في الفرج الذي هو موضع الحرث وهو الذي يكون منه الولد وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم -

آثار كثيرة في تحريمه رواه خزيمة بن ثابت وأبو هريرة وعلي بن طلق كلهم عن
النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا تأتوا النساء

في أدبارهن وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال هي اللوطية الصغرى يعني إتيان النساء في أدبارهن وروى حماد بن سلمة
عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من أتى حائضا أوامرأته في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد وروى ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن جابر أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأته وهي مدبرة جاء ولده أحول فأنزل الله تعالى نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
مقبلة ومدبرة ما كان في الفرج وروت حفصة بنت عبدالرحمن عن أم سلمة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال في صمام واحد وروى مجاهد عن ابن عباس مثله في تأويل الآية قال يعني كيف شئت في موضع الولد وروى عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا ينظر الله إلى الرجل أتى امرأته في دبرها وذكر ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن الذي يأتي امرأته في دبرها فقال هذا يسألني عن الكفر وقد روي عن ابن عمر في قوله نساؤكم حرث لكم قال كيف شئت إن شئت عزلا أو غير عزل رواه أبو حنيفة عن كثير الرياح الأصم عن ابن عمر وروي نحوه عن ابن عباس وهذا عندنا في ملك اليمين وفي الحرة إذا أذنت فيه وقد روي ذلك على ما ذكرنا من مذهب أصحابنا عن أبي بكر وعمر وعثمان وابن مسعود وابن عباس وآخرين غيرهم فإن قيل قوله عز و جل والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم يقتضي إباحة وطئهن في الدبر لورود الإباحة مطلقة غير مقيدة ولا مخصوصة قيل له لما قال الله تعالى فأتوهن من حيث أمركم الله ثم قال في نسق التلاوة فأتوا حرثكم أنى شئتم أبان بذلك موضع المأمور به وهو موضع الحرث ولم يرد إطلاق الوطء بعد حظره إلا في موضع الولد فهو مقصور عليه دون غيره وهو قاض مع ذلك على قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم كما كان حظر وطء الحائض قاضيا على قوله إلا على أزواجهم فكانت هذه الآية مرتبة على ما ذكر من حكم الحائض ومن يحظر ذلك يحتج بقوله قل هو أذى فحظر وطء الحائض للأذى الموجود في الحيض وهو القذر والنجاسة وذلك موجود في غير موضع الولد في جميع الأحوال فاقتضى هذا التحليل حظر وطئهن إلا في موضع الولد ومن يبيحه يجيب عن ذلك بأن المستحاضة يجوز وطؤها باتفاق من الفقهاء مع وجود الأذى هناك وهو دم الاستحاضة وهو نجس

كنجاسة دم الحيض وسائر الأنجاس ويجيبون أيضا علىتخصيصه إباحة موضع الحرث باتفاق الجميع على إباحة الجماع فيما دون الفرج وإن لم يكن موضعا للولد فدل على أن الإباحة غير مقصورة على موضع الولد ويجابون عن ذلك بأن ظاهر الآية يقتضي كون الإباحة مقصورة على الوطء في الفرج وأنه هو الذي عناه الله تعالى بقوله من حيث أمركم الله إذ كان معطوفا عليه ولولا قيام دلالة الإجماع لما جاز الجماع فيما دون الفرج ولكنا سلمناه للدلالة وبقي حكم الحظر فيما لم تقم الدلالة عليه
قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم الآية قد قيل فيه وجهان أحدهما أن تجعل يمينه مانعة من البر والتقوى والإصلاح بين الناس فإذا طلب منه ذلك قال قد حلفت فيجعل اليمين معترضة بينه وبين ما هو مندوب إليه أو هو مأمور به من البر والتقوى والإصلاح فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعل وليدع يمينه ويروى ذلك عن مجاهد وسعيد بن جبير وإبراهيم والحسن وطاوس وهو نظير قوله تعالى ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وروى أشعث عن ابن سيرين قال حلف أبو بكر في يتيمين كانا في حجره كانا فيمن خاض في أمر عائشة أحدهما مسطح وقد شهد بدرا أن لا يصلهما وأن لا يصيبا منه خيرا فنزلت هذه الآية ولا يأتل أولوا الفضل منكم فكسا أحدهما وحمل الآخر وقد ورد معناه في السنة أيضا وقد روى أنس بن مالك وعدي بن حاتم وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وهذا هومعنى قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم على التأويل الذي ذكرنا لأن معناه على هذا التأويل أن لا يمنع بيمينه من فعل ما هو خير بل يفعل الذي هو خير ويدع يمينه والوجه الثاني أن يكون قوله عرضة لأيمانكم يريد به كثرة الحلف وهو ضرب من الجرأة على الله تعالى وابتذال لاسمه في كل حق وباطل لأن تبروا في الحلف بها وتتقوا المأثم فيها وروي نحوه عن عائشة من أكثر ذكر شيء فقد جعله عرضة يقول القائل قد جعلتني عرضة للوم وقال الشاعر لا تجعليني عرضة اللوائم وقد ذم الله تعالى مكثري الحلف بقوله ولا تطع كل حلاف مهين فالمعنى لا تعترضوا اسم الله وتبذلوه في كل شيء لأن تبروا إذا حلفتم وتتقوا المآثم فيها إذا قلت أيمانكم لأن كثرتها تبعد من البر والتقوى

وتقرب من المآثم والجرأة على الله تعالى فكان المعنى أن الله ينهاكم عن كثرة الأيمان والجرأة على الله تعالى لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح فتكونون بررة أتقياء لقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس وإذا كانت الآية محتملة للمعنيين وليسا متضادين فالواجب حملها عليهما جميعا فتكون مفيدة لحظر ابتذاله اسما لله تعالى واعتراضه باليمين في كل شيء حقا كان أو باطلا ويكون مع ذلك محظورا عليه أن يجعل يمينه عرضة مانعة من البر والتقوى والإصلاح وإن لم يكثر بل الواجب عليه أن لا يكثر اليمين ومتى حلف لم يحتجر بيمينه عن فعل ما حلف عليه إذا كان طاعة وبرا وتقوى وإصلاحا كما قال ص -

من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه
قوله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم الآية قال أبو بكر رحمه الله قد ذكر الله تعالى اللغو في مواضع فكان المراد به معاني مختلفة على حسب الأحوال التي خرج عليها الكلام فقال تعالى لا تسمع فيها لاغية يعني كلمة فاحشة قبيحة ولا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما على هذا المعنى وقال وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه يعني الكفر والكلام القبيح وقال والغوا فيه يعني الكلام الذي لا يفيد شيئا ليشغلوا السامعين عنه وقال وإذا مروا باللغو مروا كراما يعني الباطل ويقال لغا في كلامه يلغو إذا أتى بكلام لا فائدة فيه وقد روي في لغو اليمين معان عن السلف فروي عن ابن عباس أنه قال هو الرجل يحلف على الشيء يراه كذلك فلا يكون وكذلك روي عن مجاهد وإبراهيم قال مجاهد ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان أن تحلف على الشيء وأنت تعلم وهذا في معنى قوله بما كسبت قلوبكم وقالت عائشة هو قول الرجل لا والله وبلى والله وروي عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك عندنا في النهي عن اليمين على الماضي رواه عنها عطاء أنها قالت قول الرجل فعلنا والله كذا وصنعنا والله كذا وروي مثله عن الحسن والشعبي وقال سعيد بن جبير هو الرجل يحلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه وهذا التأويل موافق لتأويل من تأول قوله عرضة لأيمانكم أن يمتنع باليمين من فعل مباح أو يقدم بها على فعل محظور وإذا كان اللغو محتملا لهذه المعاني ومعلوم أنه لما عطف قوله ولكن يؤاخذكم بما كسبت أن مراده ما عقد قلبه فيه على الكذب والزور وجب أن تكون هذه المؤاخذة هي عقاب الآخرة وأن لا تكون الكفارة المستحقة بالحنث لأن تلك الكفارة غير متعلقة بكسب القلب لاستواء حال

القاصد بها للخير والشر وتساوي حكم العمد والسهو فعلم أ ن مراده ما يستحق من العقاب بقصده إلى اليمين الغموس وهي اليمين على الماضي قال القاصد بها خلافها إلى الكذب فينبغي أن يكون اللغو هي التي لا يقصد بها إلى الكذب وهي على الماضي ويظن أنه كما حلف عليه فسماها لغوا من حيث لم يتعلق بها حكم في إيجاب كفارة ولا في استحقاق عقوبة وهي التي روي معناها عن ابن عباس وعائشة أنها قول الرجل لا والله وبلى والله في عرض كلامه وهو يظن أنه صادق فكان بمنزلة اللغو من الكلام الذي لا فائدة فيه ولا حكم له ويحتمل أن يريد به ما قال سعيد بن جبير فيمن حلف على الحرام فلا يؤاخذه الله بتركه يعني به عقاب الآخرة وإن كانت الكفارة واجبة إذا حنث وقال مسروق كل يمين ليس له الوفاء بها فهي لغو لا تجب فيها كفارة وهذا موافق لقول سعيد بن جبير والأولى الذي قدمنا إلا أن سعيدا يوجب الكفارة ومسروقا لا يوجبها وإن حنث وقد روي عن ابن عباس رواية أخرى وهي أن لغو اليمين ما تجب فيه الكفارة منها وروي مثله عن الضحاك وروي عن ابن عباس أن لغو اليمين حنث النسيان
باب

الإيلاء
قال الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر قال أبو بكر الإيلاء في اللغة هو الحلف يقولون آلى يؤلي إيلاء وإليه قال كثير ... قليل الألا يا حافظ ليمينه ... وإن بدرت منه الآلية برت ... فهذا أصله في اللغة وقد اختص في الشرع بالحلف على ترك الجماع الذي يكسب الطلاق بمضي المدة حتى إذا قيل آلى فلان من امرأته عقل به ذلك وقد اختلف فيما يكون به موليا على وجوه أحدها ما روي عن علي وابن عباس رواية الحسن وعطاء أنه إذا حلف أن لا يقربها لأجل الرضاع لم يكن موليا وإنما يكون موليا إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار والغضب والثاني ما روي عن ابن عباس أن كل يمين حالت دون الجماع إيلاء ولم يفرق بين الرضا والغضب وهو قول إبراهيم وابن سيرين والشعبي والثالث ما روي عن سعيد بن المسيب أنه في الجماع وغيره من الصفات نحو أن يحلف أن لا يكلمها فيكون موليا وقد روى جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم قال تزوجت امرأة فلقيت ابن عباس فقال بلغني أن في حلقها شيئا قال تالله لقد خرجت وما أكلمها قال عليك بها قبل أن

تمضي أربعة أشهر فهذا يدل على موافقة قول سعيد بن المسيب ويدل على موافقة ابن عمر في أن الهجران من غير يمين هو الإيلاء والرابع قول ابن عمر أنه إن هجرها فهو إيلاء ولم يذكر الحلف فأما من فرق بين حلفه على ترك جماعها ضرارا وبينه على غير وجه الضرار فإنه ذهب إلى أن الجماع حق لها ولها المطالبة به وليس له منعها حقها من ذلك فإذا حلف على ترك حقها من الجماع كان موليا حتى تصل إلى حقها من الفرقة إذ ليس له إلا إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان وأما إذا قصد الصلاح في ذلك بأن تكون مرضعة فحلف أن لا يجامعها لئلا يضر ذلك بالصبي فهذا لم يقصد منع حقها ولا هو غير ممسك لها بمعروف فلا يلزم التسريح بالإحسان ولا يتعلق بيمينه حكم الفرقة وقوله فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم يستدل من اعتبر الضرار لأن ذلك يقتضي أن يكون مذنبا يقتضي الفيء غفرانه وهذا عندنا لا يدل على تخصيصه من كان هذا وصفه لأن الآية قد شملت الجميع وقاصد الضرر أحد من شمله العموم فرجع هذا الحكم إليه دون غيره ويدل على استواء حال المطيع والعاصي في ذلك أنهما يستويان في وجوب الكفارة بالحنث كذلك يجب أن يستويا في إيجاب الطلاق بمضي المدة وأيضا سائر الأيمان المعقودة لا يختلف فيها حكم المطيع والعاصي فيما يتعلق بها من إيجاب الكفارة وجب أن يكون كذلك حكم الطلاق لأنهما جميعا يتعلقان باليمين وأيضا لا يختلف حكم الرجعة على وجه الضرار وغيره كذلك الإيلاء وفقهاء الأمصار على خلاف ذلك لأن الآية لم تفرق بين المطيع والعاصي فهي عامة في الجميع وأما قول من قال إنه إذا قصد ضرارها بيمين على الكلام ونحوه فلا معنى له لأن قوله للذين يؤلون من نسائهم لا خلاف أنه قد أضمر فيه اليمين على ترك الجماع لاتفاق الجميع على أن الحالف على ترك جماعها مول فترك الجماع مضمر في الآية عند الجميع فأثبتناه وما عدا ذلك من ترك الكلام ونحوه لم تقم الدلالة على إضماره في الآية فلم يضمره ويدل على ما بيناه قوله فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم ومعلوم عند الجميع أن المراد بالفيء هو الجماع ولا خلاف بين السلف فيه فدل ذلك على أن المضمر في قوله للذين يؤلون من نسائهم هو الجماع دون غيره وأما ما روي عن ابن عمر من أن الهجران يوجب الطلاق فإنه قول شاذ وجائز أن يكون مراده إذا حلف ثم هجرها مدة الإيلاء وهو مع ذلك خلاف الكتاب قال الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم والآلية اليمين على ما بينا وهجرانها ليس

بيمين فلا يتعلق به وجوب الكفارة وروى أشعث عن الحسن أن أنس بن مالك كانت عنده امرأة في خلقها سوء فكان يهجرها خمسة أشهر وستة أشهر ثم يرجع إليها ولا يرى ذلك إيلاء وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في المدة التي إذا حلف عليها يكون موليا فقال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء إذا حلف على أقل من أربعة أشهر ثم تركها أربعة أشهر لم يجامعها لم يكن موليا وهو قول أصحابنا ومالك والشافعي والأوزاعي وروي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم والحكم وقتادة وحماد أنه يكون موليا إن تركها أربعة أشهر بانت وهو قول ابن شبرمة والحسن بن صالح قال الحسن بن صالح وكذلك إن حلف أن لا يقربها في هذا البيت فهو مول فإن تركها أربعة أشهر بانت بالإيلاء وإن قربها في غيره قبل المدة سقط الإيلاء ولو حلف أن لا يدخل هذه الدار وفيها امرأته ومن أجلها حلف فهو مول قال أبو بكر قال الله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر والإيلاء هو اليمين وقد ثبت بما قدمنا إن ترك جماعها بغير يمين لا يكسبه حكم الإيلاء وإذا حلف على أقل من أربعة أشهر فمضت مدة اليمين كان تاركا لجماعها فيما بقي من مدة الأربعة الأشهر التى هي التربص بغير يمين وترك جماعها بغير يمين لا تأثير له في إيجاب البينونة وما دون الأربعة أشهر لا يكسبه حكم البينونة لأن الله تعالى قد جعل له تربص أربعة أشهر فل يبق هناك معنى يتعلق به إيجاب الفرقة فكان بمنزلة تارك جماعها بغير يمين فلا يلحقه حكم الإيلاء وأما قول الحسن بن صالح أنه إذا حلف أن لا يقربها في هذا البيت أنه يكون موليا فلا معنى له لأن الإيلاء كل يمين في زوجة يمنع جماعها أربعة أشهر لا يحنث على ما بينا وهذه اليمين لم تمنعه جماعها هذه المدة لأنه يمكنه الوصول إلى جماعها بغير حنث بأن يقربها في غير ذلك البيت وقد اختلف أيضا فيمن حلف على أربعة أشهر سواء فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والثوري هو مول فإن لم يقربها في المدة حتى مضت بانت بالإيلاء وروى عطاء عن ابن عباس قال كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين فوقت الله تعالى لهم أربعة أشهر فمن كان إيلاؤه دون ذلك فليس بمول وقال مالك والشافعي إذا حلف على أربعة أشهر فليس بمول حتى يحلف على أكثر من ذلك قال أبو بكر هذا قول يدفعه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فجعل هذه المدة تربصا للفيء فيها ولم يجعل له التربص أكثر منها فمن

امتنع من جماعها باليمين هذه المدة أكسبه ذلك حكم الإيلاء الطلاق ولا فرق بين الحلف على الأربعة الأشهر وبينه على أكثر منها إذ ليس له تربص أكثر من هذه المدة ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يقتضي كونه موليا في حلفه على أربعة أشهر وأقل منها وأكثر منها لأن مدة الحلف غير مذكورة في الآية وإنما خصصنا ما دونها بدلالة وبقي حكم اللفظ في الأربعة الأشهر وما فوقها فإن قيل إذا حلف على أربعة أشهر سواء لم يصح تعلق الطلاق بها لأنك توقع الطلاق بمضيها ولا إيلاء هناك قيل له لا يمتنع لأن مضي المدة إذا كان سببا للإيقاع لم يجب اعتبار بقاء اليمين في حال وقوعه ألا ترى أن مضي الحول لما كان سببا لوجوب الزكاة فليس بواجب أن يكون الحول موجودا في حال الوجوب بل يكون معدوما منقضيا وإن من قال لامرأته إن كلمت فلانا فأنت طالق كانت هذه يمينا معقودة فإن كلمته طلقت في الحال وقد انحلت فيها اليمين وبطلت كذلك مضي مدة الإيلاء لما كان سببا لوقوع الطلاق لم يمتنع وقوعه واليمين غير موجودة وقوله تعالى فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم قال أبو بكر الفيء في اللغة هو الرجوع إلى الشيء ومنه قوله تعالى حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل يعني حتى ترجع من البغي إلى العدل الذي هو أمر الله وإذا كان الفيء الرجوع إلى الشيء اقتضى ظاهر اللفظ أنه إذا حلف أن لا يجامعها على وجه الضرار ثم قال لها قد فئت إليك وقد أعرضت عما عزت عليه من هجران فراشك باليمين أن يكون قد فاء إليها سواء كان قادرا على الجماع أو عاجزا هذا هو مقتضى ظاهر اللفظ إلا أن أهل العلم متفقون على أنه إذا أمكنه الوصول إليها لم يكن فيئه إلا الجماع واختلفوا فيمن آلى وهو مريض أو بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر أو هي رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب فقال أصحابنا إذا فاء إليها بلسانه ومضت المدة والعذر قائم فذلك فيء صحيح ولا تطلق بمضي المدة ولو كان محرما بالحج وبينه وبين الحج أربعة أشهر لم يكن فيئه إلا الجماع وقال زفر فيئه بالقول وقال ابن القاسم إذا آلى وهي صغيرة لا تجامع مثلها لم يكن موليا حتى تبلغ الوطء ثم يوقف بعد مضي أربعة أشهر مذ بلغت الوطء وهو رأي ابن القاسم بن عمرو ولم يروه عن مالك وقال ابن وهب عن مالك في المولي إذا وقف عند انقضاء الأربعة الأشهر ثم راجع امرأته أنه إن لم يصبها حتى تنقضي عدتها فلا سبيل له إليها ولا رجعة إلا أن يكون له عذر من مرض أو سجن أو ما أشبه

ذلك فإن ارتجاعه إياها ثابت عليها وإن مضت عدتها ثم تزوجها بعد ذلك فإن لم يصبها حتى ينقضي أربعة أشهر وقف أيضا وقال إسماعيل بن إسحاق قال مالك إن مضي الأربعة الأشهر وهو مريض أو محبوس لم يوقف حتى يبرأ لأنه لا يكلف مالا يطيق وقال مالك لو مضت أربعة أشهر وهو غائب إن شاء كفر عن يمينه وسقط عنه ا لإيلاء قال إسماعيل وإنما قال ذلك في هذا الموضع لأن الكفارة قبل الحنث جائزة عنده وإن كان لا يستحب أن يكون إلا بعد الحنث وقال الأشجعي عن الثوري في المولي إذا كان له عذر من مرض أو كبر أو حبس أو كانت حائضا أو نفساء فليفئ بلسانه يقول قد فئت إليك يجزيه ذلك وهو قول الحسن بن صالح وقال الأوزاعي إذا آلى من امرأته ثم مرض أو سافر فأشهد على الفيء من غير جماع وهو مريض أو مسافر ولا يقدر على الجماع فقد فاء فليكفر عن يمينه وهي امرأته وكذلك إن ولدت في الأربعة الأشهر أو حاضت أو طرده السلطان فإنه يشهد على الفيء ولا إيلاء عليه وقال الليث بن سعد إذا مرض بعد الإيلاء ثم مضت أربعة أشهر فإنه يوقف كما يوقف الصحيح فإما فاء وإما طلق ولا يؤخر إلى أن يصح وقال المزني عن الشافعي إذا آلى المجبوب ففيئه بلسانه وقال في الإيلاء لا إيلاء على المجبوب قال ولو كانت صبية فآلى منها استؤنفت به أربعة أشهر بعد ما تصير إلى حال يمكن جماعها والمحبوس يفيء باللسان ولو أحرم لم يكن فيئه إلا الجماع ولو آلى وهي بكر فقال لا أقدر على اقتضاضها أجل أجل العنين قال أبو بكر الدليل على أنه إذا لم يقدر على جماعها في المدة كان فيئه باللسان قوله فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم وهذا قد فاء لأن الفيء الرجوع إلى الشيء وهو قد كان ممتنعا من وطئها بالقول وهو اليمين فإذا فاء بالقول فقال قد فئت إليك فقد رجع عما منع نفسه منه بالقول إلى ضده فتناوله العموم وأيضا لما تعذر جماعها قام القول فيه مقام الوطء في المنع من البينونة وأما تحريم الوطء بالإحرام والحيض فليس بعذر أما الإحرام فلأنه كان يفعله ولا يسقط حقها من الوطء وأما الحيض والنفاس فإن الله جعل للمولى تربص أربعة أشهر مع علمه بوجود الحيض فيها واتفق السلف على أن المراد الفيء بالجماع في حال إمكان الجماع فلم يجز أن ينقله عنه إلى غيره مع إمكان وطئها وتحريم الوطء لا يخرجه من إمكانه فصار بمنزلة الإحرام والظهار ونحو ذلك لأنه منع من الوطء بتحريمه لا بالعجز وتعذره ولأن حقها باق في الجماع ويدل على ذلك على أنه لو أبانها

يخلع وهو مول منها لم يكن التحريم الواقع موجبا لجواز فيئه بالقول وهومع ذلك لو وطئها في هذه الحال بطل الإيلاء فإن قيل إذا كان الفيء بالقول لا يسقط اليمين فواجب بقاؤها إذ لا تأثير للفيء بالقول في إسقاطها قيل له هذا غير واجب من قبل أنه جائز بقاء المين وبطلان الإيلاء من جهة ما تعلق به من الطلاق ألا ترى أنه إذا طلقها ثلاثا ثم عادت إليه بعد زوج كانت اليمين باقية لو وطئها حنث ولم يلحقها بها طلاق وإن ترك وطئها وكذلك لو أن رجلا قال لامرأة أجنبية والله لا أقربك لم يكن إيلاء فإن تزوجها كانت اليمين باقية لو وطئها لزمته الكفارة ولا يكون موليا في حكم الطلاق فليس بقاء اليمين إذا علة في حكم الطلاق فجاز من أجل ذلك أن يفيء إليها بلسانه فيسقط حكم الطلاق في هذه اليمين ويبقى حكم الحنث بالوطء وإنما شرط أصحابنا في صحة الفيء بالقول وجود الضرر في المدة كلها ومتى كان الوطء مقدورا عليه في شيء من المدة لم يكن فيئه عندهم إلا الجماع من قبل أن الفيء بالقول قائم مقام الوطء عند عدمه لئلا يقع الطلاق بمضي المدة فمتى قدر على الوطء في المدة بطل الفيء بالقول كالمتيمم إذا أقيم تيممه مقام الطهارة بالماء في إباحة الصلاة كان متى وجد الماء قبل الفراغ منها بطل تيممه وعاد إلى أصل فرضه سواء كان وجوده للماء في أول الصلاة أو في آخرها كذلك القدرة على الوطء في المدة تبطل حكم الفيء بالقول وقال محمد إذا فاء بالقول لوجود العذر في المدة ثم انقضت المدة والعذر قائم فقد بطل حكم الإيلاء منها فكان بمنزلة من حلف على أجنبية أن لا يقربها ثم تزوجها فيكون يمينه باقية إن قربها حنث وإن ترك جماعها أربعة أشهر لم تطلق
قوله تعالى وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم قال أبو بكر اختلف السلف في عزيمة الطلاق إذا لم يفئ على ثلاثة أوجه فقال ابن عباس عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر وهو قول ابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان وقالوا إنها تبين بتطليقة واختلف عن علي وابن عمر وأبي الدرداء فروي عنهم مثل قول الأولين وروي عنهم أنه يوقف بعد مضي المدة فإما أن يفيء إليها وإما أن يطلقها وهو قول عائشة وأبي الدرداء والقول الثالث قول سعيد بن المسيب وسالم بن عبدالله وأبي بكر بن عبدالرحمن والزهري وعطاء وطاوس قالوا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة رجعية وذهب أصحابنا إلى قول ابن عباس ومن تابعه فقالوا إذا مضت أربعة أشهر قبل أن يفيء بانت بتطليقة وهو قول

الثوري والحسن بن صالح وقال مالك والليث والشافعي بما روي عن أبي الدرداء وعائشة أنه يوقف بعد مضي المدة فإما إن يفيء وإما أن يطلق ويكون تطليقة رجعية إذا طلق قال مالك ولا تصح رجعته حتى يطأها في العدة وقال الشافعي ولو عفت عن ذلك بعد المدة كان لها بعد ذلك أن تطلب ولا يؤجل في الجماع أكثر من يوم وقال الأوزاعي بقول سعيد بن المسيب وسالم ومن تابعهما أنها تطلق واحدة رجعية بمضي المدة قال أبو بكر قوله تعالى وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم يحتمل الوجوه التي حصل عليها اختلاف السلف ولولا احتماله لها لما تأولوه عليها لأنه غير جائز تأويل اللفظ المأول على مالا احتمال فيه وقد كان السلف من أهل اللغة والعالمين بما يحتمل من الألفاظ والمعاني المختلفة ومالا يحتملها فلما اختلفوا فيه على هذه الوجوه دل ذلك على احتمال اللفظ لها ومن جهة أخرى وهي أن هذا الاختلاف قد كان شائعا مستفيضا فيما بينهم من غير نكير ظهر من واحد منهم على غيره فصار ذلك إجماعا منهم على توسع الاجتهاد في حمله على أحد هذه الوجوه وإذا ثبت ذلك احتجنا أن ننظر في الأولى من هذه الأقاويل وأشبهها بالحق فوجدنا ابن عباس قد قال عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر قبل الفيء إليها فسمى ترك الفيء حتى تمضي المدة عزيمة الطلاق فوجب أن يصير ذلك اسما له لأنه لم يخل من أن يكون قاله شرعا أولغة وأي الوجهين كان فحجته ثابته واعتبار عمومه واجب إذا كانت أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا وإذا كان هكذا وقد علمنا أن حكم الله في المولي أحد شيئين إما الفيء وإما عزيمة الطلاق وجب أن يكون الفيء مقصورا على الأربعة الأشهر وأنه فائت بمضيها فتطلق لأنه لو كان الفيء باقيا لما كان مضي المدة عزيمة للطلاق ومن جهة أخرى وهو أنه معلوم أن العزيمة إنما هي في الحقيقة عقد القلب على الشيء تقول عزمت علي كذا أي عقدت قلبي على فعله وإذا كان كذلك وجب أن يكون مضي المدة أولى بمعنى عزيمة الطلاق من الوقف لأن الوقف يقتضي إيقاع طلاق بالقول إما أن يوقعه الزوج وإما أن يطلقها القاضي عليه على قول من يقول بالوقف وإذا كان كذلك كان وقوع الفرقة بمضي المدة لتركه الفيء فيها أولى بمعنى الآية لأن الله لم يذكر إيقاعا مستأنفا وإنما ذكر عزيمة فغير جائز أن نزيد في الآية ما ليس فيها ووجه آخر وهو أنه لما قال للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم

اقتضى ذلك أحد أمرين من فيء أو عزيمة طلاق لا ثالث لهما والفىء إنما هو مراد في المدة مقصور الحكم عليها والدليل عليه قوله تعالى فإن فاؤا والفاء للتعقيب يقتضي أن يكون الفيء عقيب اليمين لأنه جعل الفيء عقيب اليمين لأنه جعل الفيء لمن له تربص أربعة أشهر وإذا كان حكم الفيء مقصورا على المدة ثم فات بمضيها وجب حصول الطلاق إذ غير جائز له أن يمنع الفيء والطلاق جميعا ويدل على أن المراد الفيء في المدة اتفاق الجميع على صحة الفيء فيها فدل على أنه مراد فيها فصار تقديره فإن فاؤا فيها وكذلك قرئ في حرف عبدالله بن مسعود فحصل الفيء مقصورا عليها دون غيرها وتمضي المدة بفوت الفيء وإذا فات الفيء حصل الطلاق فإن قيل لما قال تعالى للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤا فعطف بالفاء على التربص في المدة دل على أن الفيء مشروط بعد التربص وبعد مضي المدة وأنه متى ما فاء فإنما عجل حقا لم يكن عليه تعجيله كمن عجل دينا مؤجلا قيل له لولا أن الفيء مراد الله تعالى لما صح وجوده فيها وكان يحتاج بعد هذا الفيء إلى فيء بعد مضيها فلما صح الفيء في هذه المدة دل على أنه مراد الله بالآية ولذلك بطل معه عزيمة الطلاق ثم قولك إن المراد بالفيء إنما هو بعد المدة مع قولك إن الفيء في المدة صحيح كهو بعدها تبطل معه عزيمة الطلاق مناقضة منك في اللفظ كقولك إنه مراد في المدة غير مراد فيها وقولك إنه كالدين المؤجل إذا عجله لا يزيد عنك ما وصفنا من المناقضة لأن الدين المؤجل لا يخرجه التأجيل من حكم اللزوم ولولا ذلك لما صح البيع بثمن مؤجل لأن ما تعلق ملكه من الأثمان على وقت مستقبل لا يصح عقد البيع عليه ألا ترى أنه لو قال بعتكه بألف درهم لا يلزمك إلا بعد أربعة أشهر كان البيع باطلا والتأجيل الذي ذكرت لا يخرجه من أن يكون الثمن واجبا ملكا للبائع ومتى عجله وأسقط الأجل كان ذلك من موجب العقد إلا أنه مخالف للفيء في الإيلاء من قبل إن فوات الفيء يوجب الطلاق وإذا كان الفيء مرادا في المدة فواجب أن يكون فواته فيها موجبا للطلاق على ما بينا وأيضا فإن قوله تعالى فإن فاؤا فيه ضمير المولي المبدوء بذكره في الآية وهو الذي له تربص أربعة أشهر والذي يقتضيه الظاهر إيقاع الفيء عقيب اليمين ودليل آخر وهو قوله تربص أربعة أشهر كقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فلما كانت البينونة واقعة بمضي المدة في تربص الإقراء وجب أن يكون كذلك

حكم تربص الإيلاء من وجوه أحدها أنا لو وقفنا المولي لحصل التربص أكثر من أربعة أشهر وذلك خلاف الكتاب ولو غاب المولي عن امرأته سنة أو سنتين ولم ترفعه المرأة ولم تطالب بحقها لكان التربص غير مقدر بوقت وذلك خلاف الكتاب والوجه الثاني أنه لما كانت البينونة واقعة بمضي المدة في تربص الإقراء وجب مثله في الإيلاء والمعنى الجامع بينهما ذكر التربص في كل واحدة من المدتين والوجه الثالث أن كل واحدة من المدتين واجبة عن قوله وتعلق بها حكم البينونة فلما تعلقت في إحداهما بمضيها كانت الأخرى مثلها للمعنى الذي ذكرناه فإن قيل تأجيل العنين حولا بالاتفاق تخيير امرأته بعد مضي الحول إذا لم يصل إليها في الحول ولم يوجب ذلك زيادة في الأجل كذلك ما ذكرت من حكم الإيلاء إيجاب الوقف بعد المدة لا يوجب زيادةفيها قيل له ليس في الكتاب ولا في السنة تقدير أجل العنين وإنما أخذ حكمه من قول السلف والذين قالوا إنه يؤجل حولاهم الذين خيروها بمضيه قبل الوصول إليها ولم يوقعوا الطلاق قبل مضي المدة ومدة الإيلاء مقدرة بالكتاب من غير ذكر التخيير معها فالزائد فيها مخالف لحكمه وأيضا فإن أجل العنين إنما يوجب لها الخيار بمضيه وأجل المولي عندك إنما يوجب عليه الفيء فإن قال أفئ لم يفرق بينهما ولو قال العنين أنا أجامعها بعد ذلك لم يلتفت إلى قوله وفرق بينهما باختيارها فإن قيل لما لم يكن الإيلاء بصريح الطلاق ولا كناية عنه فالواجب أن لا يقع الطلاق قيل له وليس اللعان بصريح الطلاق ولا كناية عنه فيجب على قول المخالف أن لا توقع الفرقة حتى يفرق الحاكم ولا يلزمنا على أصلنا لأن الإيلاء يجوز أن يكون كناية عن الفرقة إذ ان قوله لا أقربك يشبه كناية الطلاق ولما كان أضعف أمرا من غيرها فلا يقع به الطلاق إلا بانضمام أمر آخر إليه وهو مضي المدة على النحو الذي يقوله إذ قد وجدنا من الكنايات مالا يقع فيه الطلاق بقول الزوج إلا بانضمام معنى آخر إليه وهو قول الزوج لامرأته قد خيرتك وقوله أمرك بيدك فلا يقع الطلاق فيه إلا باختيارها فكذلك لا يمتنع أن يقال في الإيلاء أنه كناية إلا أنه أضعف حالا من سائر الكنايات فلا يقع فيه الطلاق باللفظ دون انضمام معنىآخر إليه فأما اللعان فلا دلالة فيه على معنى الكنايات لأن قذفه إياها بالزنا وتلا عنهما لا يصلح أن يكون عبارة عن البينونة بحال وأيضا فإن اللعان مخالف للإيلاء من جهة أن حكمه لا يثبت إلا عند الحاكم

والإيلاء يثبت حكمه بغير الحاكم فكذلك ما يتعلق به من الفرقة وبهذا المعنى فارق العنين أيضا لأن تأجيل متعلق بالحاكم والإيلاء يثبت حكمه من غير حاكم فكذلك ما يتعلق به من حكم الفرقة واحتج من قال بالوقف بقوله تعالى وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم إنه لما قال سميع عليم دل على أن هناك قولا مسموعا وهو الطلاق قال أبو بكر وهذا جهل من قائله من قبل أن السميع لا يقتضي مسموعا لأن الله تعالى لم يزل سميعا ولا مسموعا وأيضا قال الله تعالى وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم وليس هناك قول لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاثبتوا وعليكم بالصمت وأيضا جائز أن يكون ذلك راجعا إلى أول الكلام وهو قوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم فأخبر أنه سامع لما تكلم به عليم بما أضمره وعزم عليه ومما يدل على وقوع الفرقة بمضي المدة أن القائلين بالوقف يثبتون هناك معاني أخر غير مذكورة في الاية إذ كانت الآية إنما اقتضت أحد شيئين من فيء أو طلاق وليس فيها ذكر مطالبة المرأة ولا وقف القاضي الزوج على الفيء أو الطلاق فلم يجز لنا أن نلحق بالآية ما ليس فيها ولا أن نزيد فيها ما ليس منها وقول مخالفينا يؤدي إلى ذلك ولا يوجب الاقتصار على موجب حكم الآية وقولنا يوجب الاقتصار علىحكم الآية من غير زيادة فيها فكان أولى ومعلوم أيضا أن الله تعالى إنما حكم في الإيلاء بهذا الحكم لإيصال المرأة إلى حقها من الجماع أو الفرقة وهو على معنى قوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقول من قال بالوقف يقول إن لم يفئ أمره بالطلاق فإذا طلق لم يخل من أن يجعله طلاقا بائنا أو رجعيا فإن جعله بائنا فإن صريح الطلاق لا يكون بائنا عند أحد فما دون الثلاث جعله رجعيا فلا حظ للمرأة في ذلك لأنه متى شاء راجعها فتكون امرأته كما كانت فلا معنى لإلزامه طلاقا لا تملك به المرأة بضعها وتصل به إلى حقها وأما قول مالك إنه لا يصح رجعته حتى يطأها في العدة فقول شديد الاختلال من وجوه أحدها أنه قال إذا طلقها طلاقا رجعيا والطلاق الرجعي لا تكون الرجعة فيه موقوفة على معنى غيرها والثاني أنه إذا منعه الرجعة إلا بعد الوطء فقد نفى أن يكون رجعيا وهو لو راجعها لم تكن رجعة والثالث أنه محظور عليه الوطء بعد الطلاق عنده ولا تقع الرجعة فيه بنفس الوطء فكيف يباح له وطؤها وأما قول من قال أنه تقع تطليقة رجعية بمضي المدة فإنه قول ظاهر الفساد من وجوه

أحدها ما قدمنا ذكره في الفصل الذي قبل هذا والثاني أن سائر الفرق الحادثة في الأصول بغير تصريح فإنها توجب البينونة من ذلك فرقة العنين واختيار الأمة وردة الزوج واختيار الصغيرين فلما لم يكن معه تصريح بإيقاع الطلاق وجب أن يكون بائنا وقد اختلف في إيلاء الذمي فقال أصحابنا جميعا إذا حلف بعتق أو طلاق أن لا يقربها فهو مول وإن حلف بصدقة أو حج لم يكن موليا وإن حلف بالله كان موليا في قول أبي حنيفة ولم يكن موليا في قول صاحبيه وقال مالك لا يكون موليا في شيء من ذلك وقال الأوزاعي إيلاء الذمي صحيح ولم يفصل بين شيء من ذلك وقال الشافعي الذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء قال أبو بكر لما كان معلوما أن الإيلاء إنما يثبت حكمه لما يتعلق بالحنث من الحق الذي يلزمه فواجب على هذا أن يصح إيلاء الذمي إذا كان بالعتق والطلاق لأن ذلك يلزمه كما يلزم المسلم وأما الصدقة والصوم والحج فلا يلزمه إذا حنث لأنه لو أوجبه على نفسه لم يلزمه بإيجابه ولأنه لا يصح منه فعل هذه القرب لأنه لا قربة له ولذلك لم يلزمه الزكوات والصدقات الواجبة على المسلمين في أموالهم في أحكام الدنيا فوجب على هذا أن لا يكون موليا بحلفه الحج والعمرة والصدقة والصيام إذ لا يلزمه بالجماع شيء فكان بمنزلة من لم يحلف وقوله تعالى للذين يؤلون من نسائهم يقتضي عموم المسلم والكافر ولكنا خصصناه بما وصفنا وأما إذا حلف بالله تعالى فإن أبا حنيفة جعله موليا وإن لم تلزمه كفارة في أحكام الدنيا من قبل أن حكم تسمية الله تعالى قد تعلق على الكافر كهى على المسلم بدلالة أن إظهار الكافر تسمية الله تعالى على الذبيحة يبيح أكلها كالمسلم ولو سمى الكافر باسم المسيح لم تؤكل فثبت حكم تسميته وصار كالمسلم في حكمها فكذلك الإيلاء لأنه يتعلق به حكمان أحدهما الكفارة والآخر الطلاق فثبت حكم التسمية عليه في باب الطلاق ومن الناس من يزعم أن الإيلاء لا يكون إلا بالحلف بالله عز و جل وأنه لا يكون بحلفه بالعتاق والطلاق والصدقة ونحوها وهذا غلط من قائله لأن الإيلاء إذا كان هو الحلف وهو حالف بهذه الأمور ولا يصل إلى جماعها إلا بعتق أو طلاق أو صدقة يلزمه وجب أن يكون موليا كحلفه بالله لأن عموم اللفظ ينتظم الجميع إذ كان من حلف بشيء منه فهو مول
فصل ومما تفيد هذه الآية من الأحكام ما استدل به منها محمد بن الحسن على

امتناع جواز الكفارة قبل الحنث فقال لما حكم الله للمولى بأحد حكمين من فيء أو عزيمة الطلاق فلو جاز تقديم الكفارة على الحنث لسقط الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق لأنه إن حنث لا يلزمه بالحنث شيء ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن موليا وفي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء بغير ما ذكر الله وذلك خلاف الكتاب والله الموفق للصواب
باب

الإقراء
قال الله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء واختلف السلف في المراد بالقرء المذكور في هذه الآية فقال علي وعمر وعبدالله بن مسعود وابن عباس وأبو موسى هو الحيض وقالوا هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وروى وكيع عن عيسى الحافظ عن الشعبي عن ثلاثة عشر رجلا من أصحاب محمد ص - الخبر فالخبر منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس قالوا الرجل أحق بامرأته ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها قالت عائشة الإقراء الإطهار وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها ولا تحل للأزواج حتى تغتسل وقال أصحابنا جميعا الإقراء الحيض وهو قول الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح إلا أن أصحابنا قد قالوا لا تنقضي عدتها إذا كانت أيامها دون العشرة حتى تغتسل من الحيضة الثالثة أو يذهب وقت صلاة وهو قول الحسن بن صالح إلا أنه قال اليهودية والنصرانية في ذلك مثل المسلمة وهذا لم يقله أحد ممن جعل الإقراء الحيض غير الحسن ابن صالح وقال أصحابنا الذمية تنقضي عدتها بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة لا غسل عليها فهي في معنى من اغتسلت فلا تنتظر بعد انقطاع الدم شيئا آخر وقال ابن شبرمة إذا انقطع من الحيضة الثالثة بطلت الرجعة ولم يعتبر الغسل وقال مالك والشافعي الإقراء الإطهار فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد بانت وانقطعت الرجعة قال أبو بكر قد حصل من اتفاق السلف وقوع اسم الإقراء على المعنيين من الحيض ومن الإطهار من وجهين أحدهما أن اللفظ لو لم يكن محتملا لهما لما تأوله السلف عليهما لأنهم أهل اللغة والمعرفة بمعاني الأسماء وما يتصرف عليه المعاني من العبارات فلما تأولها فريق على الحيض وآخرون على الإطهار

علمنا وقوع الاسم عليهما ومن جهة أخرى أن هذا الاختلاف قد كان شائعا بينهم مستفيضا ولم ينكر واحد منهم على مخالفيه في مقالته بل سوغ له القول فيه فدل ذلك على احتمال اللفظ المعنيين وتسويغ الاجتهاد فيه ثم لا يخلو من أن يكون الاسم حقيقة فيهما أو مجازا فيهما أو حقيقة في أحدهما مجازا في الآخر فوجدنا أهل اللغة مختلفين في معنى القرء في أصل اللغة فقال قائلون منهم هو اسم للوقت حدثنا بذلك أو عمر وغلام ثعلب عن ثعلب أنه كان إذا سئل عن معنى القرء لم يزدهم على الوقت وقد استشهد لذلك بقول الشاعر ... يا رب مولى حاسد مباغض ... على ذي ضغن وضب فارض ... له قروء كقروء الحائض ...
يعني وقتا تهيج فيه عداوته وعلى هذا تألوا قول الأعشى ... وفي كان عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا ... مورثة ما لا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا ...
يعني وقت وطئهن ومن ا لناس من يتأوله على الطهر نفسه كأنه قال لما ضاع فيها من طهر نسائك وقال الشاعر ... كرهت العقر عقر بني شليل ... إذا هبت لقارئها الرياح ...
يعني لوقتها في الشتاء وقال آخرون هم الضم والتأليف ومنه قوله ... تريك إذا دخلت على خلاء ... وقد أمنت عيون الكاشحينا ... ذراعي عطيل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا ...
يعني لم تضم في بطنها جنينا ومنه قولهم قريت الماء في الحوض إذا جمعته وقروت الأرض إذا جمعت شيئا إلى شيء وسيرا إلى سير ويقولون ما قرأت الناقة سلى قط أي ما اجتمع رحمها على ولد قط ومنه أقرأت النجوم إذا اجتمعت في الأفق ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت فهي مقرىء ذكره الأصمعي والكسائي والفراء وحكى عن بعضهم أنه قال هو الخروج من شيء إلى شيء وهذا قول ليس عليه شاهد من الل غة ولا هو ثابت عمن يوثق به من أهلها وليس فيما ذكرنا من الشواهد ما يليق بهذا المعنى فهو ساقط مردود ثم يقول وإن كانت حقيقته الوقت فالحيض أولى به لأن الوقت إنما يكون وقتا لما يحدث فيه والحيض هو الحادث وليس الطهر شيئا أكثر من عدم الحيض وليس هو شيء حادث

فوجب أن يكون الحيض أولى بمعنى الاسم وإن كان هو الضم والتأليف فالحيض أولى به لأن دم الحيض إنما يتألف ويجتمع من سائر أجزاء البدن في حال الحيض فمعناه أولى بالاسم أيضا فإن قيل إنما يتألف الدم ويجتمع في أيام الطهر ثم يسيل في أيام الحيض قيل له أحسبت أن الأمر كذلك ودلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه قد صار القرء اسما للدم إلا أنك زعمت أنه يكون اسما له في حال الطهر وقلنا يكون اسما له في حال الحيض فلا مدخل إذا للطهر في تسميته بالقرء لأن الطهر ليس هو الدم ألا ترى أن الطهر قد يكون موجودا مع عدم الدم تارة ومع وجوده أخرى على أصلك فإذا القرء اسم للدم وليس باسم للطهر ولكنه لا يسمى بهذا الاسم إلا بعد ظهوره لأنه لا يتعلق به حكم إلا في هذه الحال ومع ذلك فلا يتيقن كونه في الرحم في حال الطهر فلم يحركونه في حال الطهر أن نسميه باسم القرء لأن القرء اسم يتعلق به حكم ولا حكم له قبل سيلانه وقبل العلم بوجوده وأيضا فمن اين لك العلم باجتماع الدم في الرحم في حال الطهر واحتباسه فيه ثم سيلانه في وقت الحيض فإن هذا قول عار من دليل يقوم عليه ويرده ظاهر الكتاب قال الله تعالى ويعلم ما في الأرحام فاستأثر تعالى بعلم ما في الأرحام ولم يطلع عباده عليه فمن أين لك القضاء باجتماع الدم في حال الطهر ثم سيلانه في وقت الحيض وما أنكرت ممن قال إنما يجتمع من سائر البدن ويسيل في وقت الحيض لا قبل ذلك ويكون أولى بالحق منك لأنا قد علمنا يقينا وجوده في هذا الوقت ولم نعلم وجوده في وقت قبله فلا يحكم به لوقت متقدم وإذ قد بينا وقوع الاسم عليهما وبينا حقيقة ما يتناوله هذا الاسم في اللغة فليدل على أنه اسم للحيض دون الطهر في الحقيقة وأن إطلاقه على الطهر إنما هو مجاز واستعارة وإن كان ما قدمنا من شواهد اللغة وما يحتمله اللفظ من حقيقتها كافية في الدلالة على أن حقيقته تختص بالحيض دون الطهر فنقول لما وجدنا أسماء الحقائق التي لا تنتفي عن مسمياتها بحال ووجدنا أسماء المجاز قد يجوز أن تنتفي عنها في حال وتلزمها في اخرى ثم وجدنا اسم القرء غير منتف عن الحيض بحال ووجدناه قد ينتفي عن الطهر لأن الطهر موجود في الآيسة والصغيرة وليستا من ذوات الإقراء علمنا أن اسم القرء للطهر الذي بين الحيضتين مجاز وليس بحقيقة سمي بذلك لمجاورته للحيض كما يسمى الشيء باسم غيره إذا كان مجاورا له وكان منه بسبب لا ترى أنه حين جاور الحيض سمي به وحين لم

يجاوره لم يسم به فدل ذلك على أنه مجاز في الطهر حقيقة في الحيض ومما يدل على أن المراد الحيض دون الطهر أنه لما كان اللفظ محتملا للمعنيين واتفقت الأمة على أن المراد أحدهما فلو أنهما تساويا في الاحتمال لكان الحيض أولاها وذلك لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم - وردت بالحيض دون الطهر بقوله المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها وقال لفاطمة بنت أبي حبيش فإذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة وإذا أدبر فاغتسلي وصلي ما بين القرء إلى القرء فكان لغة النبي صلى الله عليه وسلم - أن القرء الحيض فوجب أن لا يكون معنى الآية إلا محمولا عليه لأن القرآن لا محالة نزل بلغته ص - وهو المبين عن الله عز و جل مراد الألفاظ المحتملة للمعاني ولم يرد لغته بالطهر فكان حمله على الحيض أولى منه على الطهر ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن مسعود قال حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن مظاهر بن أسلم عن القاسم بن محمد عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال طلاق الأمة ثنتان وقرؤها حيضتان قال أبو عاصم فحدثني مظاهر قال حدثني به القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله إلا أنه قال وعدتها حيضتان وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد ابن شاذان قال حدثنا معلى قال حدثنا عمر بن شبيب عن عبدالله بن عيسى عن عطية عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال تطليق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان فنص على الحيضتين في عدة الأمة وذلك خلاف قول مخالفينا لأنهم يزعمون أن عدتها طهران ولا يستوعبون لها حيضتين وإذا ثبت أن عدة الأمة حيضتان كانت عدة الحرة ثلاث حيض وهذان الحديثان وإن كان ورودهما من طريق الآحاد فقد اتفق أهل العلم على استعمالها في أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة فأوجب ذلك صحته ويدل عليه أيضا حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرىء بحيضة
ومعلوم أن أصل العدة موضوع للاستبراء فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم - استبراء الأمة بالحيضة دون الطهر وجب أن تكون العدة بالحيض دون الطهر إذ كل واحد منهما موضوع في الأصل للاستبراء أو لمعرفة براءة الرحم من الحبل وإن كان قد تجب العدة على الصغيرة والآيسة لأن الأصل للاستبراء ثم حمل عليه غيره من الآيسة والصغيرة لئلا يترخص في التي قاربت البلوغ وفي الكبيرة التي قد يجوز أن تحيض وترى الدم بترك العدة فأوجب على الجميع العدة احتياطا للاستبراء الذي ذكرنا ويدل عليه

أيضا قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر فأوجب الشهور عند عدم الحيض فأقامها مقامها فدل ذلك على أن الأصل هو الحيض كما أنه لما قال فلم تجدوا ماء فتيمموا علمنا أن الأصل الذي نقل عنه إلى الصعيد هو الماء ويدل عليه أن الله حصر الإقراء بعدد يقتضي استيفاءه للعدة وهو قوله تعالى ثلاثة قروء واعتبار الطهر فيه يمنع استيفاءها بكما لها فيمن طلقها للسنة لأن طلاق السنة أن يوقعه في طهر لم يجامعها فيه فلا بد إذا كان كذلك من أن يصادف طلاقه طهرا قد مضى بعضه ثم تعتد بعده بطهرين آخرين فهذان طهران وبعض الثالث فلما تعذر استيفاء الثلاث إذا أراد طلاق السنة علمنا أن المراد الحيض الذي يمكن استيفاء العدد المذكور في الآية بكماله وليس هذا كقوله تعالى الحج أشهر معلومات فالمراد شهران وبعض الثالث لأنه لم يحصرها بعدد وإنما ذكرها بلفظ الجمع والإقراء محصورة بعدد لا يحتمل الأقل منه ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول رأيت ثلاثة رجال ومرادك رجلان وجائز أن تقول رأيت رجالا والمراد رجلان وأيضا فإن قوله تعالى الحج أشهر معلومات معناه عمل الحج في أشهر معلومات ومراده في بعضها لأن عمل الحج لا يستغرق الأشهر وإنما يقع في بعض الأوقات منها فلم يحتج فيه إلى استيفاء العدد وأما الإقراء فواجب استيفاؤها للعدة فإن كانت الإفراد الإطهار فواجب أن يستوفى العدد المذكور كما يستغرق الوقت كله فيكون جميع أوقات الطهر عدة إلى انقضاء عددها فلم يجز الاقتصار به على ما دون العدد المذكور فوجب أن يكون المراد الحيض إذا أمكن استيفاء العدد عند إيقاع طلاق السنة وكما لم يجز الاقتصار في هذه الآيسة والصغيرة على شهرين وبعض الثالث بقوله تعالى فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك لما ذكر ثلاثة قروء على شهرين وبعض الثالث فإن قيل إذا طلقها في الطهر فبقيته قرء تام قيل له فينبغي أن تنقضي عدتها بوجود جزء من الطهر الثالث إذا كان الجزء منه قرءا تاما فإن قيل القرء هو الخروج من حيض أو من طهر إلى حيض إلا أنهم قد اتفقوا أنه لو طلقها وهي حائض لم يكن خروجها من حيض إلى طهر معتدا به قرء فإذا ثبت أن خروجها من حيض إلى طهر غير مراد بقي الوجه الآخر وهو خروجها من طهر إلى حيض ويمكن استيفاء ثلاثة أقراء كاملة إذا طلقها في الحيض قيل له قول القائل القرء هو خروج من طهر إلى حيض أو من حيض إلى طهر قول يفسد من وجوه أحدها أن السلف اختلفوا

في معنى قوله تعالى يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فقال منهم قائلون هي الحيض وقال آخرون هي الأطهار ولم يقل أحد منهم إنه خروج من حيض إلى طهر أو من طهر إلى حيض فقول القائل بما وصفت خارج عن إجماع السلف وقد انعقد الإجماع منهم بخلافه فهو ساقط ومن جهة أخرى أن أهل اللغة اختلفوا في معناه في أصل اللغة على ما قدمنا من أقوالهم فيه ولم يقل منهم أحد فيما ذكر من حقيقته ما يوجب احتمال خروجها من حيض فيفسد من هذا الوجه أيضا ويفسد أيضا من جهة أن كل من ادعى معنى لاسم من طريق اللغة فعليه أن يأتي بشاهد منها عليه أو رواية عن أهلها فيه فلما عرى هذا القول من دلالة اللغة ورواية فيها سقط ومن أخرى ومن جهة وهي أنه لو كان القرء اسما للانتقال على الوجه الذي ذكرت لوجب أن يكون قد سمي به في الأصل غيره على وجه الحقيقة ثم ينتقل من الانتقال من طهر إلى حيض إذ معلوم أنه ليس باسم موضوع له في أصل اللغة وإنما هو منقول من غيره فإذا لم يسم شيء من ضروب الانتقال بهذا الاسم علمنا أنه ليس باسم له وأيضا لوكان كذلك لوجب أن يكون انتقالها من الطهر إلى الحيض قرءا ثم انتقالها من الحيض إلى الطهر قرءا ثانيا ثم انتقالها من الطهر الثاني إلى الحيض قرءا ثالثا فتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الثانية إذ ليس بحيض على أصلك اسم القرء بالانتقال من الحيض إلى الطهر دون الانتقال من الطهر إلى الحيض فإن قيل الظاهر يقتضيه إلا أن دلالة الإجماع منعت منه قيل له ما أنكرت ممن قال لك إن المراد الانتقال من الحيض إلى الطهر إلا أنه إذا طلقها في الحيض لم يعتد بانتقالها من الحيض إلى الطهر فيه بدلالة الإجماع وحكم اللفظ باق بعد ذلك في سائر الانتقالات من الحيض إلى الطهر فإذا لم يمكنه الانفصال مما ذكرنا وتعارضا سقطا وزال الاحتجاج به فإن قيل اعتبار خروجها من طهر إلى حيض أولى من اعتبار خروجها من حيض إلى طهر لأن في انتقالها من طهر إلى حيض دلالة على براءة رحمها من الحبل وخروجها من حيض إلى طهر غير دال على ذلك لأنه قد يجوز أن تحبل المرأة في آخر حيضها ويدل عليه قول تأبط شرا ... ومبرأ من كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل ... يعني إن أمه لم تحبل به في بقية حيضها فيقال له قولك أنه يجوز أن تحبل به في بقية حيضها قول خطأ لأن الحبل لا يجامعه الحيض قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل

حتى تستبرىء بحيضة فجعل وجود الحيض علما لبراءة رحمها من الحبل فثبت أن الحمل والحيض لا يجتمعا ومتى حملت المرأة وهى حائض ارتفع الحيض ولا يكون الدم الموجود من الحبل حيضا وإنما يكون دم استحاضة وإذا كان كذلك فقولك إن خروجها من الحيض إلى الطهر لا دلالة فيه على براءة رحمها قول خطأ وأما استشهاده بقول تأبط شرا فإنه من العجائب وما علم هذا الشاعر الجاهل بذلك وقد قال الله تعالى ويعلم ما في الأرحام وقال تعالى عالم الغيب يعني أنه استأثر بعلم ذلك دون خلقه وأن الخلق لا يعلمون منه إلا ما علمهم مع دلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم - على انتفاء اجتماع الحيض والحبل ومع ذلك فإن ما ذكره هذا القائل دلالة على صحة قولنا لأنه إذا كانت العدة بالإقراء إنما هي لاستبراء الرحم من الحبل والطهر لا استبراء فيه لأن الحمل طهر وجب أن يكون الاعتبار بالحيض التي هي علم البراءة الرحم من الحبل إذ ليس في الطهر دلالة عليه ويدل على أن العدة بالإقراء استبراء أنها لو رأت الدم ثم ظهر بها حبل كانت العدة هي هي الحبل فدل ذلك على أن العدة لذوات الإقراء إنما هي استبراء من الحبل والإستبراء من الحبل إنما يكون بالحيض لا بالطهر من وجهين أحدهما أن عدة الشهور للصغيرة والآيسة طهر صحيح وليس باستبراء والمعنى الآخر أن الطهر مقارن للحبل فدل على أن الاستبراء لا يقع بما يقارنه وإنما يقع بما ينافيه وهو الحيض فيكون دلالة على براءة رحمها من الحبل فوجب أن تكون العدة بالحيض دون الإطهار واحتج من اعتبر الإطهار بقوله تعالى فطلقوهن لعدتهن وقول النبي صلى الله عليه وسلم - لعمر حين طلق ابنه امرأته حائضا مرة فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء قال فهذا يدل من وجهين على أنها بالإطهار أحدهما قوله بعد ذكره الطلاق في الطهر فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وذلك إشارة إلى الطهر دون الحيض فدل على أن العدة بالإطهار دون الحيض والثاني قوله تعالى وأحصوا العدة وذلك عقيب الطلاق في الطهر فوجب أن يكون المحصى هو بقية الطهر وهو الذي يلي الطلاق فيقال له أما قولك فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء فإن اللام قد تدخل في ذلك لحال ماضية ومستقبلة ألا ترى إلى قوله ص - صوموا لرؤيته يعني لرؤية ماضية وقال تعالى ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها يعني الآخرة فاللام ههنا للاستقبال والتراخي ويقولون تأهب للشتاء يعني وقتا مستقبلا

متراخيا عن حال التأهب وإذا كان اللفظ محتملا للماضي والمستقبل ومتى تناول المستقبل فليس في مقتضاه وجوده عقيب المذكور بلا فصل وإذا كان كذلك ووجدنا قوله ص - لابن عمر فيه ذكر حيضة ماضية والحيضة المستقبلة معلومة وإن لم تكن مذكورة وذلك في قوله مره فليراجعها ثم ليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء فاحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الحيضة الماضية فيدل ذلك على أن العدة إنما هي الحيض وجائز أن يريد حيضة مستقبلة إذ هي معلوم كونها على مجرى العادة فليس الطهر حينئذ بأولى بالاعتبار من الحيض لأن الحيض في المستقبل وإن لم يكن مذكورا فجائز أن يراد به إذا كان معلوما كما أنه لم يذكر طهرا بعد الطلاق وإنما ذكر طهرا قبله ولكن الطهر لما كان معلوما وجوده بعد الطلاق إذا طلقها فيه على مجرى العادة جاز عندك رجوع الكلام إليه وإرادته باللفظ ومع ذلك فجائز أن تحيض عقيب الطلاق بلا فصل فليس إذا في اللفظ دلالة على أن المعتبر في الاعتداد به هو الطهر دون الحيض ومع ذلك فقد دل على أنه لو طلقها في آخر الطهر فحاضت عقيب الطلاق بلا فصل إن عدتها ينبغي أن تكون الحيض دون الطهر بمقتضى لفظه ص - إذ ليس في اللفظ ذكر حيض بعد الطلاق ولا طهر فإذا حاضت عقيب الطلاق كان ذلك عدتها ثم لم يفرق أحد في اعتبار الحيض بين وجوده عقيب الطلاق ومتراخيا عنه فأوجب ذلك أن يكون الحيض هو المعتد به من الإقراء دون الطهر فإن قيل الحيضة الماضية غير جائز أن تكون مرادة بالخبر لأن ما قبل الطلاق من الحيض لا يكون عدة قيل له إذا كانت تعتد به بعد الطلاق جاز أن يسميها عدة كما قال تعالى حتى تنكح زوجا غيره فسماه زوجا قبل النكاح ويلزم مخالفنا من ذلك ما لزمنا لأنه ص - ذكر الطهر وأمره أن يطلقها فيه ولم يذكر الطهر الذي بعد الطلاق فقد سمى الطهر الذي قبله عدة لأنه به تعتد عندك فما أنكرت أن تسمي التى قبل الطلاق عدة إذ كانت بها تعتد وأما قوله تعالى وأحصوا العدة فإن الأحصاء ليس بمختص بالطهر دون الحيض لأن كل ذي عدد فالأحصاء يلحقه فإن قيل إذا كان الذي يلي الطلاق هو الطهر وقد أمرنا بالإحصاء فإوجب أن ينصرف الأمر بالإحصاءإليه لأن الأمر على الفور قيل له هذا غلط لأن الإحصاء إنما ينصرف إلى أشياء ذوي عدد فأما شيء واحد قبل انضمام غيره إليه فلا عبرة بإحصائه فإذا لزوم الإحصاء يتعلق بما يوجد في

المستقبل من الإقراء متراخيا عن وقت الطلاق ثم حينئذ الطهر لا يكون أولى به من الحيض إذ كانت سمة الإحصاء تناولهما جميعا وتلحقهما على وجه واحد وأيضا فيلزمك على هذا أن تقول إنها لو حاضت عقيب الطلاق أن تكون عدتها بالحيض للزوم الإحصاء عقيبه والذي يليه في هذه المحال الحيض فينبغي أن يكون هو العدة وقال بعض المخالفين ممن صنف في أحكام القرآن قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن معناه في عدتهن كما يقول الرجل كتب لغرة الشهر معناه في هذا الوقت وهذا غلط لأن في هي طرف واللام وإن كانت متصرفة على معان فليس في أقسامها التي تتصرف عليها وتحتملها كونها ظرفا والمعاني التي تنقسم إلها لام الإضافة خمسة منها لام الملك كقولك له مال ولام الفعل كقولك له كلام وله حركة ولام العلة كقولك قام لأن زيدا جاءه وأعطاه لأنه سأله ولام النسبة كقولك له أب وله أخ ولام الاختصاص كقولك له علم وله إرادة ولام الاستغاثة كقولك يا لبكر ويا لدارم ولام كي وهو قوله تعالى وليرضوه وليقترفوا ولام العاقبة كقوله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا فهذه المعاني التي تنقسم إليها هذه اللام ليس في شيء منها ما ذكره هذا القائل وهو مع ذلك ظاهر الفساد لأنه إذا كان قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن معناه في عدتهن فينبغي أن تكون العدة موجودة حتى يطلقها فيها كما لو قال قائل طلقها في شهر رجب لم يجز له أن يطلقها قبل أن يوجد منه شيء فبان بذلك فساد قول هذا القول وتناقضه ومما يدل على أن قوله تعالى وأحصوا العدة لا دلالة فيه على أنه الطهر الذي مسنون فيه طلاق السنة أنه لو طلقها بعد الجماع في الطهر لكان مخالفا للسنة ولم يختلف حكم ما تعتد به عند الفريقين بكونه جميعا من حيض أو طهر فدل ذلك على أنه لا تعلق لإيقاع طلاق السنة في وقت الطهر بكونه عدة محضاة منها ويدل عليه أنه لو طلقها وهي حائض لكانت معتدة عقيب الطلاق ونحن مخاطبون بإحصاء عدتها فدل على أنه لا تعلق للزوم الإحصاء ولا لوقت طلاق السنة لكونه هو المعتد به دون غيره وقال القائل الذي قدمنا ذكر اعتراضه في هذا الفصل وقد اعتبرتم يعني أهل العراق معاني أخر غير الإقراء من الاغتسال أو مضي وقت الصلاة والله تعالى إنما أوجب العدة بالإقراء وليس الاغتسال ولا مضي وقت الصلاة في شيء فيقال له لم نعتبر غير الإقراء التي هي عندنا ولكنا لم نتيقن انقضاء الحيض والحكم بمضيه إلا بأحد معنيين لمن كانت أيامها دون العشرة وهو

الاغتسال واستباحة الصلاة به فتكون طاهرا بالاتفاق على ما روي عن عمر وعلي وعبدالله وعظماء السلف من بقاء الرجعة إلى أن تغتسل أو يمضي عليها وقت الصلاة فيلزمها فرضها فيكون لزوم فرض الصلاة منافيا لبقاء حكم الحيض وهذا إنما هو كلام في مضي الحيضة الثالثة ووقوع الطهر منها وليس ذلك من الكلام في المسألة في شيء ألا ترى أنا نقول أن أيامها إذا كانت عشرة انقضت عدتها بمضي العشرة اغتسلت أو لم تغتسل لحصول اليقين بانقضاء الحيضة إذ لا يكون الحيض عندنا أكثر من عشرة فالملزم لنا ذلك على اعتبار الحيض مغفل في إلزامه واضع للإقراء في غير موضعها قال أبو بكر رحمه الله وقد أفردنا لهذه المسألة كتابا واستقصينا القول فيها أكثر من هذا وفيما ذكرناه ههنا كفاية وهذا الذي ذكره الله تعالى من العدة ثلاثة قروء ومراده مقصور على الحرة دون الأمة وذلك لأنه لا خلاف بين السلف أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة وقد روينا عن علي وعمر وعثمان وابن عمر وزيد بن ثابت وآخرين منهم أن عدة الأمة على النصف من عدة الحرة وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان والسنة والإجماع قد دلا على أن مراد الله تعالى في قوله ثلاثة قروء هو الحرائر دون الإماء قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن أبي بن كعب قال كان من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها وروى نافع عن ابن عمر في قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن قال الحيض والحبل وقال عكرمة الحيض والحكم عن مجاهد وإبراهيم أحدهما الحمل وقال الآخر الحيض وعن علي أنه استحلف امرأة أنها لم تستكمل الحيض وقضى بذلك عثمان وقال أبو بكر لما وعظها بترك الكتمان دل على أن القول قولها في وجود الحيض أو عدمه وكذلك في الحبل لأنهما جميعا مما خلق الله في رحمها ولولا أن قولها فيه مقبول لما وعظت بترك الكتمان ولا كتمان لها فثبت بذلك أن المرأة إذا قالت أنا حائض لم يحل لزوجها وطؤها وأنها إذا قالت قد طهرت حل له وطؤها وكذلك قال أصحابنا أنه إذا قال لها أنت طالق إن حضت فقالت قد حضت طلقت وكان قولها كالبينة وفرقوا بين ذلك وبين سائر الشروط إذا علق بها الطلاق نحو قوله إن دخلت الدار وكلمت زيدا فقالوا لا يقبل قولها إذا لم يصدقها الزوج إلا ببينة وتصدق في الحيض والطهر لأن الله تعالى قد أوجب علينا

قبول قولها في الحيض والحبل وفي انقضاء العدة وذلك معنى يخصها ولا يطلع عليه غيرها فجعل قولها كالبينة فكذلك سائر ما تعلق من الأحكام بالحيض فقولها مقبول فيه وقالوا لو قال لها عبدي حر إن حضت فقالت قد حضت لم تصدق لأن ذلك حكم في غيرها أعني عتق العبد والله تعالى إنما جعل قولها كالبينة في الحيض فيما يخصها من انقضاء عدتها ومن إباحة وطئها أو حظره فأما فيما لا يخصها ولا يتعلق بها فهو كغيره من الشروط فلا تصدق عليه ونظير هذه الآية في تصديق المؤتمن فيما اؤتمن عليه قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا لما وعظه بترك البخس دل ذلك على أن القول قوله فيه ولولا أنه مقبول القول فيه لما كان موعوظا بترك البخس وهو لو بخس لم يصدق عليه ومنه أيضا قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه دل ذلك على أن الشاهد إذا كتم أو أظهر كان المرجع إلى قوله فيما كتم وفيما أظهر لدلالة وعظه إياه بترك الكتمان على قبول قوله فيها وذلك كله أصل في أن كل من اؤتمن على شيء فالقول قوله فيه كالمودع إذا قال قد ضاعت الوديعة أو قد رددتها وكالمضارب والمستأجر وسائر المأمونين على الحقوق ولذلك قلنا إن قوله تعالى فرهان مقبوضة ثم قوله تعالى عطفا عليه فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه فيه دلالة على أن الرهن ليس بأمانة لأنه لو كان أمانة لما عطف الأمانة عليه إذ كان الشيء لا يعطف على نفسه وإنما يعطف على غيره ومن الناس من يقول إن قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنما هو مقصور الحكم على الحبل دون الحيض لأن الدم إنما يكون حيضا إذا سال ولا يكون حيضا وهو في الرحم لأن الحيض هو حكم يتعلق بالدم الخارج فما دام في الرحم فلا حكم له ولا معنى لاعتباره ولا اؤتمان المرأة عليه قال أبو بكر هذا صحيح إذ الدم لا يكون حيضا إلا بعد خروجه من الرحم ولكن دلالة الآية قائمة على ما ذكرنا وذلك لأن وقت الحيض إنما يرجع فيه إلى قولها إذ ليس كل دم سائل حيضا وإنما يكون حيضا بأسباب أخر نحو الوقت والعادة وبراءة الرحم عن الحبل وإذا كان كذلك وكانت هذه الأمور إنما تعلم من جهتها فهي إذا قالت قد حضت ثلاث حيض فالقول قولها بمقتضى الآية وكذلك إذا قالت لم أر دما ولم تنقض عدتي فالقول قولها وكذلك إذا قالت قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه وانقضت عدتي فالقول قولها وإنما التصديق متعلق بحيض قد وجد ودم قد

سال وفي هذه الآية دلالة على أن الحيض لا يتعلق حكمه بلون الدم لأنه لو كان كذلك لما اختصت هي بالرجوع إلى قولها دوننا لأنها وإيانا متساوون في التفرقة بين الألوان فدل ذلك على أن دم الحيض غير متميز بلونه من لون دم الاستحاضة وأنهما على صفة واحدة ففيه دلالة على بطلان قول من اعتبر الحيض بلون الدم وإنما لم يعلم ذلك إلا من جهتها عند سقوط اعتبار لون الدم لما وصفنا من أن وقت الحيض والعادة فيه ومقداره وأوقات الطهر إنما يعلم من جهتها إذ ليس كل دم حيضا وكذلك وجود الحمل النافي لكون الدم حيضا وإسقاط سقط كل ذلك المرجع فيه إلى قولها لأنا لا نعلمه نحن ولا نقف عليه إلا من جهتها فلذلك جعل القول فيه قولها وذكر هشام عن محمد أن قول المرأة مقبول في وجود الحيض ويحكم ببلوغها إذا كانت قد بلغت سنا تحيض مثلها وذلك لما ذكرنا من قوله تعالى ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن قال محمد ولو قال صبي مراهق قد احتلمت لم يصدق فيه حتى يعلم الاحتلام أو بلوغ سن يكون مثله بالغا فيها ففرق بين الحيض والاحتلام والفرق بينهما أن الحيض إنما يعلم من جهتها لتعلقه بالأوقات والعادة والمعاني التي لا تعلم من جهة غيرها ودلالة الآية على قبول قبولها فيه وليس كذلك الاحتلام لأنه لا يتعلق خروج المنى على وجه الدفق والشهوة بأسباب أخر غير خروجه ولا اعتبار فيه بوقت ولا عادة فلما كان كذلك لم يعتبر قوله فيه حتى نعلم يقينا صحة ما قال ومن جهة أخرى أن دم الحيض والاستحاضة لما كانا على صفة واحدة لم يجز لمن شاهد الدم أن يقضى له بحكم الحيض فوجب الرجوع إلى قولها إذ كان إنما هو شيء تعلمه هي دوننا وأما الاحتلام فلا يشتبه فيه خروج المنى على أحد شاهده وهو يدرك ويعلم من غير التباس منه بغيره فلذلك لم نحتج فيه إلى الرجوع إلى قوله وقوله تعالى إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر ليس بشرط في النهي عن الكتمان وإنما هو على وجه التأكيد وأنه من شرائط الأيمان فعليها أن لا تكتم ومن يؤمن ومن لا يؤمن في هذا النهي سواء وهو كقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وقول مريم إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا قد تضمن ضروبا من الأحكام أحدها أن ما دون الثلاث لايرفع الزوجية ولا يبطلها وإخبار ببقاء الزوجية معه لأنه سماه بعلا بعد الطلاق فدل ذلك على بقاء التوارث وسائر أحكام الزوجية ما دامت معتدة ودل على أن له الرجعة

ما دامت معتدة لأنه قال في ذلك يعني فيما تقدم ذكره من الثلاثة قروء ودل على أن إباحة هذه الرجعة مقصورة على حال إرادة الإصلاح ولم يرد بها الإضرار بها وهو كقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا فإن قيل فما معنى قوله تعالى أحق بردهن في ذلك مع بقاء الزوجية وإنما يقال ذلك فيما قد زال عنه ملكه فأما فيما هو في ملكه فلا يصح أن يقال بردها إلى ملكه مع بقاء ملكه فيها قيل له لما كان هناك سبب قد تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدة طاز إطلاق اسم الرد عليه ويكون ذلك بمعنى المانع من زوال الزوجية بانقضاء العدة فسماه ردا إذ كان رافعا لحكم السبب الذي تعلق به زوال الملك وهو كقوله تعالى فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وهو ممسك لها في هذه الحال لأنها زوجته وإنما المراد الرجعة الموجبة لبقاء النكاح بعد انقضاء الحيض التي لو لم تكن الرجعة لكانت مزيلة للنكاح وهذه الرجعة وإن كانت إباحتها معقودة بشريطة إرادة الإصلاح فإنه لا خلاف لين أهل العلم أنه إذا راجعها مضارا في الرجعة مريدا لتطويل العدة عليها إن رجعته صحيحة وقد دل على ذلك قوله تعالى فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ثم عقبه بقوله تعالى ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه فلو لم تكن الرجعة صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالما لنفسه بفعلها وقد دلت الآية أيضا على جواز إطلاق لفظ العموم في مسميات ثم يعطف عليه بحكم يختص به بعض ما انتظمه العموم فلا يمنع ذلك اعتبار عموم اللفظ فيما يشمله في غير ما خص به المعطوف لأن قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء عام في المطلقة ثلاثا وفيما دونها لا خلاف في ذلك ثم قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن حكم خاص فيمن كان طلاقها دون الثلاث ولم يوجب ذلك الاقتصار بحكم قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء على ما دون الثلاث ولذلك نظائره كثيرة في القرآن والسنة نحو قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وذلك عموم في الوالدين الكافرين والمسلمين ثم عطف عليه قوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم وذلك خاص في الوالدين المشركين فلم يمنع ذلك عموم أول الخطاب في الفريقين من المسلمين والكفار والله أعلم بالصواب

باب

حق الزوج على المرأة وحق المرأة على الزوج
قال الله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة قال أبو بكر رحمه الله أخبر الله تعالى في هذه الآية أن لكل واحد من الزوجين على صاحبه حقا وإن الزوج مختص بحق له عليها ليس لها عليه مثله بقوله تعالى وللرجال عليهن درجة ولم يبين في هذه الآية ما لكل واحد منهما على صاحبه من الحق مفسرا وقد بينه في غيرها وعلى لسان رسوله ص - فمما بينه الله تعالى من حق المرأة عليه قوله تعالى وعاشروهن بالمعروف وقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقال تعالى وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقال تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم وكانت هذه النفقة من حقوقها عليه وقال تعالى وآتوا ا لنساء صدقاتهن نحلة فجعل من حقها عليه أن يوفيها صداقها وقال تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهنقنطارا فلا تأخذوا منه شيئا فجعل من حقها عليه أن لا يأخذ مما أعطاها شيئا إذا أراد فراقها وكان النشوز من قبله لأن ذكر الاستبدال يدل على ذلك وقال تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة فجعل من حقها عليه ترك إظهار الميل إلى غيرها وقد دل ذلك على أن من حقها القسم بينها وبين سائر نسائه لأن فيه ترك إظهار الميل إلى غيرها ويدل عليه أن عليه وطأها بقوله تعالى فتذروها كالمعلقة يعني لا فارغة فتتزوج ولا ذات زوج إذ لم يوفها حقها من الوطء ومن حقها أن لا يمسكها ضرارا على ما تقدم من بيانه وقوله تعالى ولا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف إذا كان خطابا للزوج فهو يدل على أن من حقها إذا لم يمل إليها أن لا يعضلها عن غيره بترك طلاقها فهذه كلها من حقوق المرأة على الزوج وقد انتظمت هذه الآيات إثباتها لها ومما بين الله من حق الزوج على المرأة قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله فقيل فيه حفظ مائة في رحمها ولا تحتال في إسقاطه ويحتمل حفظ فراشها عليه ويحتمل حافظات لما في بيوتهن من مال أزواجهن ولأنفسهن وجائز أن يكون المراد جميع ذلك لاحتمال اللفظ له وقال تعالى الرجال قوامون على النساء قد أفاد ذلك لزومها طاعته لأن وصفه بالقيام عليها يقتضي ذلك وقال تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن

واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ويدل على أن عليها طاعته في نفسها وترك النشوز عليه وقد روي في حق الزوج على المرأة وحق المرأة عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار بعضها مواطىء لما دل عليه الكتاب وبعضها زائد عليه من ذلك ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي وغيره قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم - بعرفات فقال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وروى ليث عن عبدالملك عن عطاء عن ابن عمر قال جاءت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله ما حق الزوج على الزوجة فذكر فيها أشياء لا تصدق بشيء من بيته إلا بإذنه فإن فعلت كان له الأجر وعليها الوزر فقالت يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته قال لا تخرج من بيته إلا بإذنه ولا تصوم يوما إلا بإذنه وروى مسعر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها ثم قرأ الرجال قوامون على النساء الآية قال أبو بكر ومن الناس من يحتج بهذه الآية في إيجاب التفريق إذا أعسر الزوج بنفقتها لأن الله تعالى جعل لهن من الحق عليها مثل الذي عليهن فسوى بينها فغير جائز أن يستبيح بضعها من غير نفقة ينفقها عليها وهذا غلط من وجوه أحدها أن النفقة ليست بدلا عن ا لبضع فيفرق بينهما ويستحق البضع عليها من أجلها لأنه قد ملك البضع بعقد النكاح وبدله هو المهر والوجه الثاني أنها لو كانت بدلا لما استحقت التفريق بالآية لأنه عقب ذلك قوله تعالى وللرجال عليهن درجة فاقتضى ذلك تفضيله عليها فيما يتعلق بينهما من حقوق النكاح وأن يستبيح بعضها وإن لم يقدر على نفقتها وأيضا فإن كانت النفقة مستحقة عليها بتسليمها نفسها في بيته فقد أوجبنا لها عليه مثل ما أبحنا منها له وهو فرض النفقة وإثباتها في ذمته لها فلم تخل في هذه الحال من إيجاب الحق لها كما أوجبناه له عليها ومما تضمنه قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف من الدلالة على الأحكام إيجاب مهر المثل إذا لم يسم لها مهرا لأنه قد ملك عليها بضعها بالعقد واستحق عليها تسليم نفسها إليه فعليه

لها مثل ملكه عليها ومثل البضع هو قيمته وهي مهر المثل كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فقد عقل به وجوب قيمة ما يستملكه عليه بما لا يمثل له من جنسه وكذلك مثل البضع هو مهر المثل وقوله تعالى بالمعروف يدل على أن الواجب من ذلك مالا شطط فيه ولا تقصير كما قال ص - في المتوفى عنها زوجها ولم يسم لها مهرا ولم يدخل بها لها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط وقوله أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثل نسائها ولا وكس ولا شطط فهذا هو المعنى المعروف المذكور في الآية وقد دلت الآية أيضا على أنه لو تزوجها على أنه لا مهر لها إن المهر واجب لها إذ لم تفرق بين من شرط نفي المهر في النكاح وبين من لم يشرط في إيجابه لها مثل الذي عليها وقوله وللرجال عليهن درجة قال أبو بكر مما فضل به الرجل على المرأة ما ذكره الله من قوله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض فأخبر بأنه مفضل عليها بأن جعل قيما عليها وقال تعالى وبما أنفقوا من أموالهم فهذا أيضا مما يستحق به التفضيل عليها ومما فضل به عليها ما ألزمها الله من طاعته بقوله تعالى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ومن درجات التفضيل ما أباحه للزوج من ضربها عند النشوز وهجران فراشها من وجوه التفضيل عليها ما ملك الرجل من فراقها بالطلاق ولم تملكه ومنها أنه جعل له أن يتزوج عليها ثلاثا سواها ولم يجعل لها أن تتزوج غيره ما دامت في حباله أو في عدة منه ومنها زيادة الميراث على قسمها ومنها أن عليها أن تنتقل إلى حيث يريد الزوج وليس على الزوج اتباعها في النقلة والسكنى وأنه ليس لها أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ضروب أخر من التفضيل سوى ما ذكرنا منها حديث إسماعيل بن عبدالملك عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا ينبغي لبشر أن يسجد لبشر ولو كان ذلك كان النساء لأزواجهن وحديث
خلف بن خليفة عن حفص بن أخي أنس عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة بالقيح والصديد ثم لحسته لما أدت حقه وروى الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة

حتى تصبح وفي حديث حصين بن محصن عن عمة له أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم - فقال أذات زوج أنت فقالت نعم قال فأين أنت منه قالت ما ألوه إلا ما عجزت عنه قال فانظري أين أنت منه فإنما هو جنتك أو نارك وروى سفيان عن أبي زياد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تصوم المرأة يوما وزوجها شاهد من غير رمضان إلا بإذنه وحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - النساء أن يصمن إلا بإذن أزواجهن فهذه الأخبار مع ما تضمنته دلالة الكتاب توجب تفضيل الزوج على المرأة في الحقوق التي يقتضيها عقد النكاح وقد ذكر في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء نسخ في مواضع أحدها ما رواه مطرف عن أبي عثمان النهدي عن أبي بن كعب قال لما نزلت عدة النساء في الطلاق والمتوفى عنها زوجها قلنا يا رسول الله قد بقي نساء لم تنزل عدتهن بعد الصغار والكبار والحبلى فنزلت واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إلى قوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وروى عبدالوهاب عن سعيد عن قتادة قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فجعل عدة المطلقة ثلاث حيض ثم نسخ منها التي لم يدخل بها في العدة ونسخ من الثلاثة القروء امرأتان واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فهذه العجوز التي لاتحيض والائي والئي لم يحضن فهذه البكر عدتها ثلاثة أشهر وليس الحيض من أمرها في شيء ونسخ من الثلاثة القروء الحامل فقال وأولات الأحمال أجلهن أن يضعه حملهن فهذه أيضا ليست من القروء في شيء إنما أجلها أن تضع حملها قال أبو بكر أما حديث أبي بن كعب فلا دلالة فيه على نسخ شيء وإنما أكثر ما فيه أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم - عن عدة الصغيرة والآيسة والحبلى فهذا يدل على أنهم علموا خصوص الآية وأن الحبلى لم تدخل فيها مع جواز أن تكون مرادة بها وكذلك الصغيرة لأنه كان جائزا أن يشترط ثلاثة قروء بعد بلوغها وإن طلقت وهي صغيرة وأما الآيسة فقد عقل من الآية أنها لم ترد بها لأن الآيسة هي التي لا ترجى لها حيض فلا جائر أن يتناولها مراد الآية بحال وأما حديث قتادة فإنه ذكر أن الآية كانت عامة في اقتضائها إيجاب العدة بالإقراء في المدخول بها وغير المدخول بها وأنه نسخ منها غير المدخول بها وهذا ممكن أن يكون كما قال وأما قوله ونسخ عن الثلاثة قروء امرأتان وهي الايسة والصغيرة فإنه أطلق لفظ النسخ في الآية وأراد به التخصيص وكثيرا ما يوجد

عن ابن عباس وعن غيره من أهل التفسير إطلاق لفظ النسخ ومرادهم التخصيص فإنما أراد قتادة بذكر النسخ في الآيسة التخصيص لا حقيقة النسخ لأنه غير جائز ورود النسخ إلا فيما قداستقر حكمه وثبت وغير جائز أن تكون الآيسة مرادة بعدة الإقراء مع استحالة وجودها منها فدل على أنه أراد التخصيص وقد يحتمل وجها على بعد عندنا وهو أن يكون مذهب قتادة أن التي ارتفع حيضها وإن كانت شابة تسمى آيسة وأن عدتها مع ذلك الإقراء وإن طالت المدة فيها وقد روي عن عمر أن التي ارتفع حيضها من الآيسات وتكون عدتها عدة الآيسة وإن كانت شابة وهو مذهب مالك فإن كان إلى هذا ذهب في معنى الآيسة فهذه جائز أن تكون مرادة بالإقراء لأنها يرجى وجودها منها وأما قوله ونسخ من الثلاثة قروء الحامل فإن هذا أيضا جائز سائغ لأيه لا يمتنع ورود العبارة بأن عدة الحامل ثلاث حيض بعد وضع الحمل وإن كانت ممن لا تحيض وهي حامل فجائز أن يكون عدتها ثلاثة قروء بعد وضع الحمل فنسخ بالحمل إلا أن أبي بن كعب قد أخبر أن الحامل لم تكن مرادة بعدة الإقراء وأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأخبر بأنه لم تنزل في الحامل والآيسة والصغيرة فأنزل الله تعالى ذلك وليس يجوز إطلاق النسخ على الحقيقة إلا فيما قد علم ثبوت حكمه وورود الحكم الناسخ له متأخرا عنه إلا أن يطلق لفظ النسخ والمراد التخصيص على وجه المجاز فلا يضيق وأولى الأشياء بنا حمله على وجه التخصيص فيكون قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن لم يرد إلا خاصا في المطلقات ذوات الحيض المدخول بهن وأن الآيسة والصغيرة والحامل لم يردن قط بالآية إذ ليس معنا تاريخ لورود هذه الأحكام ولا علم باستقرار حكمها ثم نسخه بعده فكأن هذه الآيات وردت معا وترتبت أحكامها على ما اقتضاها من استعمالها وبني العام على الخاص منها وقد روي عن ابن عباس وجه آخر من النسخ في هذه الآية وهو ما روى الحسين بن الحسن بن عطية عن أبيه عطية عن ابن عباس قال والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء إلى قوله وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته كان أحق بردها وإن طلقها ثلاثا فنسختها هذه الآية يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن إلى قوله جميلا وعن الضحاك بن مزاحم والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقال فعدتهن ثلاثة أشهر فنسخ واستثنى منها فقال إذا نكحتم المؤمنات ثم

طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وروي فيها وجه آخر وهو ما روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان الرجل إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل أن تنقضي عدتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك إلي ولا تحلين مني أبدا فأنزل الله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فاستقبل الناس الطلاق جديدا من يومئذ من كان منهم طلق أو لم يطلق وروى شيبان عن قتادة في قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك قال في القروء الثلاثة ثم قال الطلاق مرتان لكل مرة قرء فنسخت هذه الآية ما كان قبلها فجعل الله حد الطلاق ثلاثا فجعله أحق برجعتها مالم تطلق ثلاثا
باب

عدد الطلاق
قال الله عز و جل الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال أبو بكر قد ذكرت في معناه وجوه أحدها أنه بيان للطلاق الذي نثبت معه الرجعة يروى ذلك عن عروة بن الزبير وقتادة والثاني أنه بيان لطلاق السنة المندوب إليه ويروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والثالث أنه أمر بأنه إذا أراد أن يطلقها ثلاثا فعليه تفريق الطلاق فيتضمن الأمر بالطلاق مرتين ثم ذكر بعدهما الثالثة قال أبو بكر فأما قول من قال إنه بيان لما يبقى معه الرجعة من الطلاق وإن ذكر معه الرجعة عقيبه فإن ظاهره يدل على أنه قصد به بيان المباح منه وأما ما عداه فمحظور وبين مع ذلك حكمه إذا أوقعه على الوجه المأمور به بذكر الرجعة عقيبه والدليل على أن المقصد فيه الأمر بتفريق الطلاق وبيان حكم ما يتعلق بإيقاع ما دون الثلاث من الرجعة أنه قال الطلاق مرتان وذلك يقتضي التفريق لا محالة لأنه لو طلق اثنتين معا لما جاز أن يقال طلقها مرتين وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع فحينئذ يطلق عليه وإذا كان هذا هكذا فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين إذا كان هذا الحكم ثابتا في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين فثبت بذلك أن ذكره للمرتين إنما هو أمر بإيقاعه مرتين ونهي عن الجمع بينهما في مرة واحدة ومن جهة أخرى أنه لو كان اللفظ محتملا للأمرين لكان الواجب حمله

على إثبات الحكم في إيجاب الفائدتين وهو الأمر بتفريق الطلاق متى أراد يطلق اثنتين وبيان حكم الرجعة إذا طلق كذلك فيكون اللفظ مستوعبا للمعنيين وقوله تعالى الطلاق مرتان وإن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر كقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء والوالدات يرضعن أولادهن وما جرى هذا المجرى مما هو في صيغة الخبر ومعناه الأمر والدليل على أنه أمر وليس بخبر أنه لو كان خبرا لوجد مخبره على ما أخبر به لأن أخبار الله لا تنفك من وجود مخبراتها فلما وجدنا الناس قد يطلقون الواحدة والثلاث معا ولو كان قوله تعالى الطلاق مرتان اسما للخبر لاستوعب جميع ما تحته ثم وجدنا في الناس من يطلق لا على الوجه المذكور في الآية علمنا أنه لم يرد الخبر وأنه تضمن أحد معنيين إما الأمر بتفريق الطلاق متى أردنا الإيقاع أو الإخبار عن المسنون المندوب إليه منه وأولى الأشياء حمله على الأمر إذ قد ثبت أنه لم يرد به حقيقة الخبر لأنه حينئذ يصير بمعنى قوله طلقوا مرتين متى أردتم الطلاق وذلك يقتضي الإيجاب وإنما ينصرف إلى الندب بدلالة ويكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - الصلاة مثنى مثنى والتشهد في كل ركعتين وتمكن وخشوع فهذه صيغة الخبر والمراد الأمر بالصلاة على هذه الصفة وعلى أنه إن حمل على أن المراد بيان المسنون من الطلاق كانت دلالته قائمة على حظر جمع الإثنين والثلاث لأن قوله الطلاق مرتان منتظم لجميع الطلاق المسنون فلا يبقى شيء من مسنون الطلاق إلا وقد انطوى تحت هذا اللفظ فإذا ما خرج عنه فهو على خلاف السنة فثبت بذلك أن من جمع اثنتين أو ثلاثا في كلمة فهو مطلق لغير السنة فانتظمت هذه الآية الدلالة على معان منها أن مسنون الطلاق التفريق بين إعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثا ومنها أن له أن يطلق اثنتين في مرتين ومنها أن ما دون الثلاث تثبت معه الرجعة ومنها أنه إذا طلق اثنتين في الحيض وقعتا لأن الله قد حكم بوقوعهما ومنها أنه نسخ هذه الآية الزيادة على الثلاث على ما روي عن ابن عباس وغيره إنهم كانوا يطلقون ما شاؤا من العدد ثم يراجعون فقصروا على الثلاث ونسخ به ما زاد ففي هذه الآية دلالة على حكم العدد المسنون من الطلاق وليس فيها ذكر الوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق وقد بين الله ذلك في قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن وبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم - طلاق العدة فقال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض ما هكذا أمرك الله إنما طلاق العدة أن تطلقها طاهرا من غير جماع

أو حاملا وقد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء فكان طلاق السنة معقودا بوصفين أحدهما العدد والآخر الوقت فأما العدد فأن لا يزيد في طهر واحد على واحدة وأما الوقت فأن يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها وقد اختلف أهل العلم في طلاق السنة لذوات الإقراء فقال أصحابنا أحسن الطلاق أن يطلقها إذا طهرت قبل الجماع ثم يتركها حتى تنقضي عدتها وإن أراد أن يطلقها ثلاثا طلقها عند كل طهر واحدة قبل الجماع وهو قول الثوري وقال أبو حنيفة وبلغنا عن إبراهيم عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يستحبون أن لا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضي العدة وأن هذا عندهم أفضل من أن يطلقها ثلاثا عند كل طهر واحدة وقال مالك وعبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون والليث بن سعد والحسن بن صالح والأوزاعي طلاق السنة أن يطلقها في طهر قبل الجماع تطليقة واحدة ويكرهون أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار لكنه إن لم يرد رجعتها تركها حتى تنقضي عدتها من الواحدة وقال الشافعي فيما رواه عنه المزني لا يحرم عليه أن يطلقها ثلاثا ولو قال لها أنت طالق ثلاثا للسنة وهي طاهر من غير جماع طلقت ثلاثا معا قال أبو بكر فنبدأ بالكلام على الشافعي في ذلك فنقول إن دلالة الآية التي تلوتها ظاهرة في بطلان هذه المقالة لأنها تضمنت الأمر بإيقاع الإثنتين في مرتين فمن أوقع الإثنتين في مرة فهو مخالف لحكمها ومما يدل على ذلك قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم وظاهره يقتضي تحريم الثلاث لما فيها من تحريم ما أحل لنا من الطيبات والدليل على أن الزوجات قد تناولهن هذا العموم قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء فوجب بحق العموم حظر الطلاق الموجب لتحريمها ولولا قيام الدلالة في إباحة إيقاع الثلاث في وقت السنة وإيقاع الواحدة لغير المدخول بها لاقتضت الآية حظره ومن جهة أخرى من دلائل الكتاب أن الله تعالى لم يبح الطلاق ابتداء لمن تجب عليها العدة لا مقرونا بذكر الرجعة منها قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف وقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقوله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فلم يبح الطلاق المبتدأ لذوات العدد إلا مقرونا بذكر الرجعة وحكم الطلاق مأخوذ من هذه الآيات لولاها لم يكن الطلاق من أحكام الشرع فلم يجز لنا إثباته مسنونا إلا على هذه

الشريطة وبهذا الوصف وقال النبي صلى الله عليه وسلم - من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد وأقل أحوال هذا اللفظ حظر خلاف ما تضمنته الآيات التي تلونا من إيقاع الطلاق المبدأ مقرونا بما يوجب الرجعة ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة أمر الله أن يطلق لها النساء وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عنبسة قال حدثنا يونس عن ابن شهاب قال أخبرني سالم بن عبدالله عن أبيه أنه طلق امرأته وهي حئض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم قال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله فذكر سالم في رواية الزهري عنه ونافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها ثم يدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر مثله وروى يونس وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أره أن يراجعها حتى تطهر ثم قال إن شاء طلق وإن شاء أمسك والأخبار الأول لما فيها من الزيادة ومعلوم أن جميع ذلك إنما ورد في قصة واحدة وإنما ساوى بعضهم لفظ النبي صلى الله عليه وسلم - على وجهه وحذف بعضهم ذكر الزيادة إغفالا أو نسيانا فوجب استعماله بما فيه من زيادة ذكر الحيضة إذ لم يثبت أن الشارع ص - قال ذلك عاريا من ذكر الزيادة وذكره مرة مقرونا بها إذ كان فيه إثبات القول منه في حالين وهذا مما لا نعلمه فغير جائز إثباته وعلى أنه لو كان الشارع ص - قد قال ذلك في حالين لم يخل من أن يكون المتقدم منهما هو الخبر الذي فيه الزيادة والآخر متأخرا عنه فيكون ناسخا له وأن يكون الذي لا زيادة فيه هو المتقدم ثم ورد بعده ذكر الزيادة فيكون ناسخا للأول بإثبات الزيادة ولا سبيل لنا إلى العلم بتاريخ الخبرين لا سيما وقد أشار الجميع من الرواة إلى قصة واحدة فإذا لم يعلم التاريخ وجب إثبات الزيادة من وجهين أحدهما أن كل شيئين لا يعلم تاريخهما فالواجب الحكم بهما معا ولا يحكم بتقدم أحدهما على الآخر كالغرقى والقوم يقع عليهم البيت وكما نقول في البيعين

من قبل رجل واحد إذا قامت عليهما البينة ولم يعلم تاريخهما فيحكم بوقوعهما معا فكذلك هذان الخبران وجب الحكم بهما معا إذ لم يثبت لهما تاريخ فلم يثبت الحكم إلا مقرونا بالزيادة المذكورة فيه والوجه الآخر أنه قد ثبت أن الشارع قد ذكر الزيادة وأثبتها وأمر باعتبارها بقوله مره فليدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء لورودها من طرق صحيحة فإذا كانت ثابتة في وقت واحتمل أن تكون منسوخة بالخبر الذي فيه حذف الزيادة واحتمل أن تكون غير منسوخة لم يجز لنا إثبات النسخ بالاحتمال ووجب بقاء حكم الزيادة ولما ثبت ذلك وأمر الشارع ص - بالفصل بين التطليقة الموقعة في الحيض وبين الأخرى التي أمره بإيقاعها بحيضة ولم يبح له إيقاعها في الطهر الذي يلي الحيضة ثبت إيجاب الفصل بين كل تطليقتين بحيضة وأنه غير جائز له الجمع بينهما في طهر واحد لأنه ص - كما أمره بإيقاعها في الطهر ونهاه عنها في الحيض فقد أمره أيضا بأن لا يواقعها في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلقها فيه ولا فرق بينهما فإن قيل قد روي عن أبي حنيفة أنه إذا طلقها ثم راجعها في ذلك الطهر جاز له إيقاع تطليقة أخرى في ذلك الطهر فقد خالف بذلك ما أردت تأكيده من الزيادة المذكورة في الخبر قيل له ذكرنا هذه المسألة في الأصول ومنعه من إيقاع التطليقة الثانية في ذلك الطهر وإن راجعها حتى يفصل بينهما بحيضة وهذا هو الصحيح والرواية الأخرى غير معمول عليها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في النهي عن إيقاع الثلاث مجموعة بما لا مساغ للتأويل فيه وهو ما حدثنا ابن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان الجوهري قال حدثنا معلى بن منصور قال حدثنا سعيد بن زريق أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال حدثنا عبدالله بن عمر أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض ثم راد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرئين الباقيين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء فأمرني رسول الله فراجعتها وقال إذا هي طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك فقلت يا رسول الله ارأيت لو كنت طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها قال لا كانت تبين وتكون معصية فأخبر ص -

نصا في هذا الحديث بكون الثلاث معصية فإن قيل لما قال النبي ص
- في سائر أخبار ابن عمر حين ذكر الطهر الذي هو وقت لإيقاع طلاق السنة ثم ليطلقها إن شاء ولم يخصص ثلاثا مما دونها كان ذلك إطلاقا للإثنتين والثلاث معا قيل

له لما ثبت بما قدمنا من إيحابه الفصل بين التطليقتين بحيضة ثم عطف عليه بقوله ثم ليطلقها إن شاء علمنا أنه إنما أراد واحدة لا أكثر منها لاستحالة إرادته نسخ ما أوجبه بديا من إيجابه الفصل بينهما وما اقتضاه ذلك من حظر الجمع بين تطليقتين إذ غير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد لأن النسخ لا يصح إلا بعد استقرار الحكم والتمكن من الفعل ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول في خطاب واحد قد أبحت لكم ذا الناب من السباع وقد حظرته عليكم لأن ذلك عبث والله تعالى منزه عن فعل العبث وإذا ثبت ذلك علمنا أن قوله ثم ليطلقها إن شاء مبني على ما تقدم من حكمه في ابتداء الخطاب وهو أن لا يجمع بين اثنتين في طهر واحد وأيضا فلو خلا هذا اللفظ من دلالة حظر الجمع بين التطليقتين في طهر واحد لما دل على إباحته لوروده مطلقا عاريا من ذكر ما تقدم لأن قوله ثم ليطلقها إن شاء لم يقتض اللفظ أكثر من واحد وكذلك نقول في نظائر ذلك من الأوامر أنه إنما يقتضي أدنى ما يتناوله الاسم وإنما يصرف إلى الأكثر بدلالة كقول الرجل لآخر طلق امرأتي إن الذي يجوز له إيقاعه بالأمر إنما هو تطليقة واحدة لا أكثر منها وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لعبده تزوج أنه يقع على امرأته واحدة فإن تزوج اثنتين لم يجز نكاح واحدة منهما إلا أن يقول المولى أردت اثنتين وكذلك قوله فليطلقها إن شاء لم يقتض إلا تطليقة واحدة وما زاد عليها فإنما يثبت بدلالة فهذا الذي قدمناه من دلالة الكتاب والسنة على حظر جمع الثلاث والإثنتين في كلمة واحدة قد ورد بمثله اتفاق السلف من ذلك ما روى الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله أنه قال طلاق السنة أن يطلقها تطليقة واحدة وهي طاهر في غير جماع فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى وقال إبراهيم مثل ذلك وروى زهير عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبدالله قال من أراد الطلاق الذي هو الطلاق فليطلق عند كل طهر من غير جماع فإن بدا له أن يراجعها وأشهد رجلين وإذا كانت الثانية في مرة أخرى فكذلك فإن الله تعالى يقول الطلاق مرتان وروى ابن سيرين عن علي قال لو أن الناس أصابوا أحد الطلاق ما ندم أحد على امرأة يطلقها وهي طاهر من غير جماع أو حاملا قد تبين حملها فإذا بدا له أن يراجعها راجعها وإن بدا له أن يخلي سبيلها وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا إسماعيل قال أخبرنا أيوب عن عبدالله بن كثير عن مجاهد

قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال له إنه طلق امرأته ثلاثا قال فسكت ابن عباس حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال يطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال ومن يتق الله يجعل له مخرجا وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك وإن الله تعالى قال يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن أي قبل عدتهن وعن عمران بن حصين أن رجلا قال له إني طلقت امرأتي ثلاثا فقال أثمت بربك وحرمت عليك امرأتك وأبو قلابة قال سئل ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فقال لا أرى من فعل ذلك إلا قد حرج وروى ابن عون عن الحسن قال كانوا ينكلون من طلق امرأته ثلاثا في مقعد واحد وروي عن ابن عمران أنه كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد أوجعه ضربا وفرق بينهما فقد ثبت عن هؤلاء الصحابة حظر جمع الثلاث ولا يروى عن أحد من الصحابة خلافه فصار إجماعا فإن قيل قد روي أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته ثلاثا في مرضه وإن ذلك لم يعب عليه ولو كان جمع الثلاث محظورا لما فعله وتركهم النكير عليه دليل على أنهم رأوه سائغا له قيل له ليس في الحديث الذي ذكرت ولا في غيره أنه طلق ثلاثا في كلمة واحدة وإنما أراد أنه طلقها ثلاثا على الوجه الذي جوز عليه الطلاق وقد بين ذلك في أحاديث رواها جماعة عن الزهري عن طلحة بن عبدالله بن عوف أن عبدالرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر تطليقتين ثم قال لها في مرضه إن أخبرتني بطهرك لأطلقنك فبين في هذا الحديث أنه لم يطلقها ثلاثا مجتمعة وقد روي في حديث فاطمة بنت قيس شبيها بهذا وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان بن يزيد العطار قال حدثنا يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن أن فاطمة بنت قيس حدثته أن أبا حفص بن المغيرة طلقها وأن خالد بن الوليد ونفر من بني مخزوم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا نبي الله إن أبا حفص بن المغيرة طلق امرأته ثلاثا وإنه ترك لها نفقة يسيرة فقال لا نفقة لها وساق الحديث فيقول المحتج لإباحة إيقاع الثلاث معا بأنهم قالوا للنبي ص - أنه طلقها ثلاثا فلم ينكره وهذا خبر قد أجمل فيه ما فسر في غيره وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس أنها أخبرته أنها كانت عند

أبي حفص بن المغيرة وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات فزعمت أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر الحديث قال أبو داود وكذلك رواه صالح بن كيسان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن الزهري فبين في هذا الحديث ما أجمل في الحديث الذي قبله أنه إنما طلقها آخر ثلاث تطليقات وهو أولى لما فيه من الإخبار عن حقيقة الأمر والأول فيه ذكر الثلاث ولم يذكر إيقاعهن معا فهو محمول على أنه فرقهن على ما ذكر في هذا الحديث الذي قبله فثبت بما ذكرنا من دلائل الكتاب والسنة واتفاق السلف أن جمع الثلاث محظور فإن قيل فيما قدمناه من دلالة قوله تعالى الطلاق مرتان على حظر جمع الإثنتين في كلمة واحدة أنه من حيث دل على ما ذكرت فهو دليل على أن له أن يطلقها في طهر واحد مرتين إذ ليس في الآية كفريقهما في طهرين وفيه إباحة تطليقتين في مرتين وذلك يقتضي إباحة تفريق الإثنتين في طهر واحد وإذا جاز ذلك في طهر واحد جاز جمعهما بلفظ واحد إذ لم يفرق أحد بينهما قيل له هذا غلط من قبل أن ذلك اعتبار يؤدي إلى إسقاط حكم اللفظ ورفعه رأسا وإزالة فائدته وكل قول يؤدي إلى رفع حكم اللفظ فهو ساقط وإنما صار مسقطا لفائدة اللفظ وإزالة حكمه من قبل أن قوله تعالى الطلاق مرتان قد اقتضى تفريق الإثنتين وحظر جمعهما في لفظ واحد على ما قدمنا من بيانه وإباحتك لتفريقهما في طهر واحد يؤدي إلى إباحة جمعهما في كلمة واحدة وفي ذلك رفع حكم اللفظ ومتى حظرنا تفريقهما وجمعهما في طهر واحد وأبحناه في طهرين فليس فيه وقع حكم اللفظ بل فيه استعماله على الخصوص في بعض المواضع دون بعض فلم يؤد قولنا بالتفريق في طهرين إلى رفع حكمه وإنما أوجب تخصيصه إذ كان اللفظ موجبا للتفريق واتفق الجميع على أنه إذا أوجب التفريق فرقهما في طهرين فخصصنا تفريقهما في طهر واحد بدلالة الاتفاق مع استعمال حكم اللفظ ومتى أبحنا التفريق في طهر واحد أدى ذلك إلى رفع حكم اللفظ رأسا حتى يكون ذكره للطلاق مرتين وتركه سواء وهذا قول ساقط مردود واحتج من أباح ذلك أيضا بحديث عويمر العجلاني حين لاعن النبي صلى الله عليه وسلم - بينه وبين امرأته فلما فرغا من لعانهما قال كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا ففارقها قبل أن يفرق النبي صلى الله عليه وسلم -

بينهما قال فلما لم ينكر الشارع ص
- إيقاع الثلاث معا دل على إباحته وهذا الخبر لا يصح للشافعي الاحتجاج به لأن من مذهبه

أن الفرقة قد كانت وقعت بلعان الزوج قبل لعان المرأة فبانت منه ولم يلحقها طلاق فكيف كان ينكر عليها طلاقا لم يقع ولم يثبت حكمه فإن قيل فما وجهه على مذهبك قيل له جائز أن يكون ذلك قبل أن يسن الطلاق للعدة ومنع الجمع بين التطليقات في طهر واحد فلذلك لم ينكر عليه الشارع ص - وجائز أيضا أن تكون الفرقة لما كانت مستحقة من غير جهة الطلاق لم ينكر عليه إيقاعها بالطلاق وأما من قال سنة الطلاق أن لا يطلق إلا واحدة وهو ما حكيناه عن مالك بن أنس والليث والحسن بن حي والأوزاعي فإن الذي يدل على إباحة الثلاث في الأطهار المتفرقة قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وفي ذلك إباحة لإيقاع الإثنتين ولما اتفقنا على أنه لا يجمعهما في طهر واحد وجب استعمال حكمهما في الطهرين وقد روي في قوله تعالى أو تسريح بإحسان أنه للثالثة وفي تخيير له في إيقاع الثلاث قبل الرجعة ويدل عليه قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن قد انتظم إيقاع الثلاث للعدة وذلك لأنه معلوم أن المراد لأوقات العدة كما بينه الشارع ص - في قوله يطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء وإذا كان المراد به أوقات الأطهار تناول الثلاث كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس قد عقل منه تكرار فعل الصلاة لدلوكها في سائر الأيام كذلك قوله فطلقوهن لعدتهن لما كان عبارة عن أوقات الأطهار اقتضى تكرار الطلاق في سائر الأوقات وأيضا لما جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الأول لأنها طاهر من غير جماع طهرا لم يوقع فيه طلاقا جاز إيقاعه في الطهر الثاني لهذه العلة وأيضا لما اتفقوا على أنه لو راجعها جاز له إيقاع الطلاق في الطهر الثاني وجب أن يجوز ذلك له إذا لم يراجعها لوجود المعنى الذي من أجله جاز إيقاعه في الطهر الأول إذ لا حظ للرجعة في إباحة الطلاق ولا في حظره ألا ترى أنه لو راجعها ثم جامعها في ذلك الطهر لم يجز له إيقاع الطلاق فيه ولم يكن للرجعة تأثير في إباحته فوجب أن يجوز له أن يطلقها في الطهر الثاني قبل الرجعة كما جاز له ذلك لو لم يراجع فإن قيل لا فائدة في الثانية والثالثة لأنه إن أراد أن يبينها أمكنه ذلك بالواحدة بأن يدعها حتى تنقضي عدتها وقال تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا وهذا هو ا لفرق بينه إذا راجعها أو لم يراجعها في إباحة الثانيةوالثالثة إذا راجع وحظرهما إذا لم يراجع قيل له في إيقاع الثانية

والثالثة فوائد بتعجلها لو لم يوقع الثانية والثالثة لم تحصل له وهو أن تبين منه بإيقاع الثالثة قبل انقضاء عدتها فيسقط ميراثها منه لو مات ويتزوج أختها وأربعا سواها على قول من يجيز ذلك في العدة فلم يخل في إيقاع الثانية والثالثة من فوائد وحقوق تحصل له فلم تكن لغوا مطرحا وجاز من أجلها إيقاع ما بقي من طلاقها في أوقات السنة كما يجوز ذلك لو راجعها وبالله التوفيق
ذكر

الاختلاف في الطلاق بالرجال
قال أبو بكر رحمه الله اتفق السلف ومن بعدهم من فقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين خارجان من قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان واتفقوا على أن الرق يوجب نقصان الطلاق فقال علي وعبدالله الطلاق بالنساء يعني أن المرأة إن كانت حرة فطلاقها ثلاث حرا كان زوجها أو عبدا وأنها إن كانت أمة فطلاقها اثنتان حرا كان زوجها أو عبدا وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد والثوري والحسن بن صالح وقال عثمان وزيد بن ثابت وابن عباس الطلاق بالرجال يعنون أن الزوج إن كان عبدا فطلاقه اثنتان سواء كانت الزوجة حرة أو أمة وإن كان حرا فطلاقه ثلاث حرة كانت الزوجة أو أمة وهو قول مالك والشافعي وقال ابن عمر أيهما رق نقص الطلاق برقه وهو قول عثمان البتي وقد روى هشيم عن منصور بن زادان عن عطاء عن ابن عباس قال الأمر إلى المولى في الطلاق أذن له العبد أو لم يأذن ويتلو هذه الآية ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء روى هشام عن أبي الزبير عن أبي معبد مولى ابن عباس أن غلاما كان لابن عباس طلق امرأته تطليقتين فقال له ابن عباس ارجعها لا أم لك فإنه ليس لك من الأمر شيء فأبى فقال هي لك فاتخذها فهذا يدل على أنه رأى طلاقه واقعا لولاه لم يقل له ارجعها وقوله هي لك يدل على أنها كانت أمة وجائز أن يكون الغلام حرا لأنهما إذا كان امملوكين فلا خلاف أن رقهما ينقص الطلاق وقد روي في ذلك حديث يدل على أنه كان لا يرى طلاق العبد شيئا ويرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب قال حدثنا يحيى بن سعيد قال حدثنا علي بن المبارك قال حدثنا يحيى بن أبي كثير أن عمر بن معتب أخبره أن أبا حسن مولى بني نوفل أخبره أنه استفتى ابن عباس في مملوك تحته مملوكة فطلقها تطليقتين ثم أعتقا بعد

ذلك هل يصلح له أن يخطبها بعد ذلك قال نعم قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال أبو داود وقد سمعت أحمد بن حنبل قال قال عبدالرزاق قال ابن المبارك لعمر من أبو حسن هذا لقد تحمل صخرة عظيمة قال أبو داود وأبو حسن هذا روى عنه الزهري وكان من الفقهاء قال أبو بكر وهذا الحديث يرده الإجماع لأنه لا خلاف بين الصدر الأول ومن بعدهم من الفقهاء أنهما إذا كانا مملوكين أنها تحرم بالإثنتين ولا تحل له إلا بعد زوج والذي يدل على أن الطلاق بالنساء حديث ابن عمر وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وقد تقدم ذكر سنده وقد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة وإن كان وروده من طريق الآحاد فصار في حيز التواتر لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر لما بيناه في مواضع ولم يفرق الشارع في قله وعدتها حيضتان بين من كان زوجها حرا أو عبدا فثبت بذلك اعتبار الطلاق بها دون الزوج ودليل آخر هو أنه لما اتفق الجميع على أن الرق يوجب نقص الطلاق كما يوجب نقص الحد ثم كان الاعتبار في نقصان الحد برق من يقع به دون من يوقعه وجب أن يعتبر نقصان الطلاق برق من يقع به دون من يوقعه وهو المرأة ويدل عليه أنه لا يملك تفريق الثلاث عليها على الوجه المسنون وإن كان حرا إذا كانت الزوجة أمة ألا ترى أنه إذا أراد تفريق الثلاث عليها في أطهار متفرقة لم يمكنه إيقاع الثالثة بحال فلو كان مالكا للجميع لملك التفريق على الوجه المسنون كما لو كانت حرة وفي ذلك دليل على أنه غير مالك للثلاث إذا كانت الزوجة أمة والله أعلم
ذكر

الحجاج لإيقاع الطلاق الثلاث معا
قال أبو بكر قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان الآية يدل على وقوع الثلاث معا مع كونه منهيا عنها وذلك لأن قوله الطلاق مرتان قد أبان عن حكمه إذا أوقع اثنين بأن يقول أنت طالق أنت طالق في طهر واحد وقد بينا أن ذلك خلاف السنة فإذا كان في مضمون الآية الحكم بجواز وقوع الإثنتين على هذا الوجه دل ذلك على صحة وقوعهما لو أوقعهما معا لأن أحدا لم يفرق بينهما وفيها الدلالة عليه من وجه آخر وهو قوله تعالى فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فحكم بتحريمها عليه بالثالثة بعد الإثنتين ولم يفرق بين إيقاعهما في طهر واحد أو في أطهار

فوجب الحكم بإيقاع الجميع على أي وجه أوقعه من مسنون أو غير مسنون ومباح أو محظور فإن قيل قدمت بديا في معنى الآية أن المراد بها بيان المندوب إليه والمأمور به من الطلاق وإيقاع الطلاق الثلاث معا خلاف المسنون عندك فكيف نحتج بها في إيقاعها على غير الوجه المباح والآية لم تتضمنها على هذا الوجه قيل له قد دلت الآية على هذه المعاني كلها من إيقاع الإثنتين والثلاث لغير السنة وأن المندوب إليه والمسنون تفريقها في الأطهار وليس يمتنع أن يكون مراد الآية جميع ذلك ألا ترى أنه لوقال طلقوا ثلاثا في الأطهار وإن طلقتم جميعا معا وقعن كان جائزا وإذا لم يتناف المعنيان واحتملتهما الآية وجب حملها عليهما فإن قيل معنى هذه الآية محمول على ما بينه بقوله فطلقوهن لعدتهن وقد بين الشارع الطلاق للعدة وهو أن يطلقها في ثلاثة أطهار إن أراد إيقاع الثلاث ومتى خالف ذلك لم يقع طلاقه قيل له نستعمل الآيتين على ما تقتضيانه من أحكامهما فنقول إن المندوب إليه المأمور به هو الطلاق للعدة على ما بينه في هذه ا لآية وإن طلق لغير العدة وجمع الثلاث وقعن لما اقتضه الآية الأخرى وهي قوله تعالى الطلاق مرتان وقوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد إذ ليس في قوله فطلقوهن نفي لما اقتضته هذه الآية الأخرى على أن في فحوى الآية التي فيها ذكر الطلاق للعدة دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة وهو قوله تعالى فطلقوهن لعدتهن إلى قوله تعالى وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فلولا أنه إذا طلق لغير العدة وقع ما كان ظالما لنفسه بإيقاعه ولا كان ظالما لنفسه بطلاقه وفي هذه الآية دلالة على وقوعها إذا طلق لغير العدة ويدل عليه قوله تعالى في نسق الخطاب ومن يتق الله يجعل له مخرجا يعني والله أعلم أنه إذا أوقع الطلاق على ما أمره الله كان له مخرجا مما أوقع إن لحقه ندم وهو الرجعة وعلى هذا المعنى تأوله ابن عباس حين قال للسائل الذي سأله وقد طلق ثلاثا إن الله يقول ومن يتق الله يجعل له مخرجا وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك ولذلك قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لو أن الناس أصابوا حد الطلاق ما ندم رجل طلق امرأته فإن قيل لما كان عاصيا في إيقاع الثلاث معا لم يقع إذ ليس هو الطلاق المأمور به كما لو وكل رجل رجلا بأن يطلق امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار لم يقع إذا جمعهن في طهر واحد قيل له أما كونه عاصيا في الطلاق

فغير مانع صحة وقوعه لما دللنا عليه فيما سلف ومع ذلك فإن الله جعل الظهار منكرا من القول وزورا وحكم مع ذلك بصحة وقوعه فكونه عاصيا لا يمنع لزوم حكمه والإنسان عاص لله في ردته عن الإسلام ولم يمنع عصيانه من لزوم حكمه وفراق امرأته وقد نهاه الله عن مراجعتها ضرارا بقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا فلو راجعها وهو يريد ضرارها لثبت حكمها وصحت رجعته وأما الفرق بينه وبين الوكيل فهو أن الوكيل إنما يطلق لغيره وعنه يعبر وليس يطلق لنفسه ولا يملك ما يوقعه ألا ترى أنه لا يتعلق به شيء من حقوق الطلاق وأحكامه فلما لم يكن مالكا لما يوقعه وإنما يصح إيقاعه لغيره من جهة الأمر إذ كانت أحكامه تتعلق بالأمر دونه لم يقع متى خالف الأمر وأما الزوج فهو مالك الطلاق وبه تتعلق أحكامه وليس يوقع لغيره فوجب أن يقع من حيث كان مالكا للثلاث وارتكاب النهي في طلاقه غير مانع وقوعه كما وصفنا في الظهار والرجعة والردة وسائر ما يكون به عاصيا ألا ترى أنه لو وطئ أم امرأته بشبهة حرمت عليه امرأته وهذا المعنى الذي ذكرناه من حكم الزوج في ملكه للثلاث من الوجوه التي ذكرنا يدل على أنه إذا أوقعهن معا وقع إذ هو موقع لما ملك ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عمر الذي ذكرنا سنده حين قال أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان لي أن أراجعها فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا كانت تبين ويكون معصية وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن سعيد عن عبدالله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال ما أردت بالبتة قال واحدة قال آلله قال آلله قال هو على ما أردت فلو لم تقع الثلاث إذا أراها لما استحلفه بالله ما أراد إلا واحدة وقد تقدم ذكر أقاويل السلف فيه وأنه يقع وهو معصية فالكتاب والسنة وإجماع السلف توجب إيقاع الثلاث معا وإن كانت معصية وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه قال كان الحجاج بن أرطاة خشنا وكان يقول طلاق الثلاث ليس بشيء وقال محمد بن إسحاق الطلاق الثلاث ترد إلى الواحدة واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم -

كيف طلقتها فقال طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال نعم قال فإنما تلك
واحدة فارجعها إن شئت قال فرجعتها وبما روى أبو عاصم عن ابن جريج عن

ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال نعم وقد قيل أن هذين الخبرين منكران وقد روى سعيد بن جبير ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس والنعمان بن أبي عياش كلهم عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته وقد روى حديث أبي الصهباء على غير هذا الوجه وهو أن ابن عباس قال كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة فقال عمر لو أجزناه عليهم وهذا معناه عندنا أنهم إنما كانوا يطلقون ثلاثا فأجازها عليهم وقد روى ابن وهب قال أخبرني عياش بن عبدالله الفهري عن ابن شهاب عن سهل بن سعد أن عويمر العجلاني لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينه وبين امرأته قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق
ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذلك عليه وما قدمنا من دلالة الآية والسنة والاتفاق يوجب إيقاع الطلاق في الحيض وإن كان معصية وزعم بعض الجهال ممن لا يعد خلافه أنه لا يقع إذا طلق في الحيض واحتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن صالح قال حدثنا عبدالرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع عبدالرحمن بن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع فقال كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال إن عبدالله طلق وهي حائض فقال فردها علي ولم يرها شيئا وقال إذا طهرت فليطلق أو ليمسك قيل له هذا غلط فقد رواه جماعة عن ابن عمر أنه اعتد بتلك التطليقة من ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال حدثنا يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال حدثنا يونس بن جبير قال سألت عبدالله بن عمر قال قلت رجل طلق امرأته وهي حائض قال تعرف عبدالله بن عمر قلت نعم قال فإنه طلق امرأته وهي حائض فأتى عمر النبي صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال مره فليراجعها ثم ليطلقها في قبل عدتها قال قلت فيعتد بها قال فمه أرأيت إن عجزوا ستحمق فهذا خبر ابن عمر في هذا الحديث أنه اعتد بتلك التطليقة ومع ذلك فقد روي في سائر أخبار ابن عمر أن الشارع أمره بأن يراجعها ولو لم يكن الطلاق واقعا لما احتاج إلى الرجعة وكانت لا تصح

رجعته لأنه لا يجوز أن يقال راجع امرأته ولم يطلقها إذ كانت الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق ولو صح ما روي أنه لم يره شيئا كان معناه أنه لم يبنها منه بذلك الطلاق ولم تقع الزوجية قوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال أبو بكر لما كانت الفاء للتعقيب وقال الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان اقتضى ذلك كون الإمساك المذكور بعد الطلاق وهذا الإمساك إنما هو الرجعة لأنه ضد الطلاق وقد كان وقوع الطلاق موجبه التفرقة عند انقضاء العدة فسمى الله الرجعة إمساكا لبقاء النكاح بها بعد مضي ثلاث حيض ورفع حكم البينونة المتعلقة بانقضاء العدة وإنما أباح له إمساكها على وصف وهو أن يكون بمعروف وهو وقوعه على وجه يحسن ويجمل فلا يقصد به ضرارها على ما ذكره في قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وإنما أباح له الرجعة على هذه الشريطة ومتى أرجع بغير معروف كان عاصيا فالرجعة صحيحة بدلالة قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه فلولا صحة الرجعة لما كان لنفسه ظالما بها وفي قوله تعالى فإمساك بمعروف دلالة على وقوع الرجعة بالجماع لأن الإمساك على النكاح إنما هو الجماع وتوابعه من اللمس والقبلة ونحوها والدليل عليه أن من يحرم عليه جماعها تحريما مؤبدا لا يصح له عقد النكاح عليها فدل ذلك على أن الإمساك على النكاح مختص بالجماع فيكون بالجماع ممسكا لها وكذلك اللمس والقبلة للشهوة والنظر إلى الفرج شهموه إذ كانت صحة عقد النكاح مختصة باستباحة هذه الأشياء فمتى فعل شيئا من ذلك كان ممسكا لها بعموم قوله تعالى فإمساك بمعروف وأما قوله أو تسريح بإحسان فقد قيل فيه وجهان أحدهما أن المراد به الثالثة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - حديث غير ثابت من طريق النقل ويرده الظاهر أيضا وهو ما حدثنا اعبدالله بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرازق قال أخبرنا الثوري عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال قال رجل يا رسول الله أسمع الله يقول الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فأين الثالثة قال التسريح بإحسان وقد روي عن جماعة من السلف منهم السدي والضحاك أنه تركها حتى تنقضي عدتها وهذا التأويل أصح إذ لم يكن الخبر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك ثابتا وذلك من وجوه أحدها أن سائر المواضع الذي ذكره الله فيها عقيب الطلاق الإمساك والفراق فإنما أراد به ترك الرجعة

حتى تنقضي عدتها منه قوله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف والمراد بالتسريح ترك ا لرجعة إذ معلوم أنه لم يرد فأمسكوهن بمعروف أو طلقوهن واحدة أخرى ومنه قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ولم يرد به إيقاعا مستقبلا وإنما أراد به تكرها حتى تنقضي عدتها والجهة الأخرى أن الثالثة مذكورة في نسق الخطاب في قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإذا كانت الثالثة مذكورة في صدر هذا الخطاب مفيدة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج وجب حمل قوله تعالى أو تسريح بإحسان على فائدة مجددة وهي وقوع البينونة بالإثنتين بعد انقضاء العدة وأيضا لما كان معلوما أن المقصد فيه عدد الطلاق الموجب للتحريم ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق وبلا عدد محصور فلو كان قوله تعالى أو تسريح بإحسان هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج وإنما علم التحريم بقوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فوجب أن لا يكون قوله تعالى أو تسريح بإحسان هو الثالثة وأيضا لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى فإن طلقها عقيب ذلك هي الرابعة لأن الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره فثبت بذلك أن قوله تعالى أو تسريح بإحسان هو تركها حتى تنقضي عدتها قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره منتظم لمعان منها تحريمها على المطلق ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره مفيد في شرط ارتفاع التحريم الواقع بالطلاق الثلاث العقد والوطء جميعا لأن النكاح هو الوطء في الحقيقة وذكر الزوج يفيد العقد وهذا من الإيجاز والاقتصار على الكناية المفهمة المغنية عن التصريح وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار مستفيضة في أنها لا تحل للأول حتى يطأها الثاني منها حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا فتزوجت عبدالرحمن بن الزبير فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت يا نبي الله إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعده عبدالرحمن بن الزبير وإنه يا رسول الله ما معه إلا مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وقال لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك

وروى ابن عمر وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله ولم يذكرا قصة امرأة رفاعة وهذه أخبار وقد تلقاها الناس بالقبول واتفق الفقهاء على استعمالها فهي عندنا في حيز التواتر ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك إلا شيء يروى عن سعيد بن المسيب أنه قال إنها تحل للأول بنفس عقد النكاح دون الوطء ولم نعلم أحدا تابعه عليه فهو شاذ وقوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره غاية التحريم الموقع بالثلاث فإذا وطئها الزوج الثاني ارتفع ذلك التحريم الموقع وبقي التحريم من جهة إنها تحت زوج كسائر النساء الأجنبيات فمتى فارقها الثاني وانقضت عدتها حلت للأول وقوله تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا مرتب على ما أوجب من العدة على المدخول بها في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وقوله تعالى ولا تعزموا عقدةالنكاح حتى يبلغ الكتاب أجله ونحوها من الآي الحاظرة للنكاح في العدة وقوله تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا نص على ذكر الطلاق ولا خلاف أن الحكم في إباحتها للزوج الأول غير مقصور على الطلاق وأن سائر الفرق الحادثة بينهما من نحو موت أو ردة أو تحريم بمنزلة الطلاق وإن كان المذكور نفسه هو الطلاق وفيه الدلالة أيضا على جواز النكاح بغير ولي لأنه أضاف التراجع إليها من غير ذكر الولي وفيه أحكام أخر نذكرها عند ذكرنا لأحكام الخلع بعد ذلك ولكنا قدمنا ذكر الثالثة لأنه يتصل به في المعنى بذكر الإثنتين وإن تخللهما ذكر الخلع وبالله التوفيق
باب الخلع
قال الله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فحظر على الزوج بهذه الآية أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا على الشريطة كما أن قوله تعالى ولا تقل لهما أف قد دل على حظر ما فوقه من ضرب أو شتم وقوله تعالى إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله قال طاوس يعني فيما افترض على كل واحد منهما في العشرة والصحبة وقال القاسم بن محمد مثل ذلك وقال الحسن هو أن تقول المراة والله لا أغتسل لك من جنابة وقال أهل اللغة إلا أن يخافا معناه إلا أن يظنا وقال أبو محجن الثقفي أنشده الفراء رحمه الله تعالى ... إذا مت فادفني إلى جب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالعراء فإنني ... أخاف إذا مت أن لا أذوقها ... وقال آخر ... أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي ... يعني ما ظننت وهذا الخوف من ترك إقامة حدود الله على وجهين إما أن يكون أحدهما سيء الخلق أو جميعا فيفضي بهما ذلك إلى ترك إقامة حدود الله فيما ألزم كل واحد منهما من حقوق النكاح في قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وإما أن يكون أحدهما مبغضا للآخر فيصعب عليه حسن العشرة والمجاملة فيؤدبه ذلك إلى مخالفة أمر الله في تقصيره في الحقوق التي تلزمه وفيما ألزم الزوج من إظهار الميل إلى غيرها في قوله تعالى فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة فإذا وقع أحد هذين وأشفقا من ترك إقامة حدود الله التي حدها لهما حل الخلع وروى جابر الجعفي عن عبدالله بن يحيى عن علي كرم الله وجهه أنه قال كلمات إذا قالتهن المرأة حل له أن يأخذ الفدية إذا قالت له لا أطيع لك أمرا ولا أبر لك قسما ولا أغتسل لك من جنابة وقال المغيرة عن إبراهيم قال لا يحل للرجل أن يأخذ الفدية من امرأته إلا أن تعصيه ولا تبر له قسما وإذا فعلت ذلك وكان من قبلها حلت له الفدية وإن أبى أن يقبل منها الفدية وأبت أن تعطيه بعثا حكمين حكما من أهله وحكما من أهلها وذكر علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال تركها إقامة حدود الله استخفافا بحق الزوج وسوء خلقها فتقول والله لا أبر لك قسما ولا أطأ لك مضجعا ولا أطيع لك أمرا فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية ولا يأخذ أكثر مما أعطاها شيئا ويخلي سبيلها وإن كانت الإساءة من قبلها ثم قال فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا يقول إن كان عن غير ضرار ولا خديعة فهو هنيء مريء كما قال الله تعالى وقد اختلف في نسخ هذه الآية فروى حجاج عن عقبة بن أبي الصهباء قال سألت بكر بن عبدالله عن رجل تريد منه امرأته الخلع قال لا يحل له أن يأخذ منها شيئا قلت له يقول الله في كتابه فلا جناح عليهما فيما افتدت به قال هذه نسخت بقوله وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهم قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا وروى أبو عاصم عن ابن جريج قال قلت لعطاء أرأيت إذا كانت له ظالمة مسيئة فدعاها إلى الخلع أيحل له قال لا إما أن يرضى فيمسك وإما أن يسرح قال أبو بكر وهو قول شاذ يرده ظاهر الكتاب والسنة واتفاق

السلف ومع ذلك فليس في قوله وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج الآية ما يوجب نسخ قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لأن كل واحدة منهما مقصورة الحكم على حال مذكورة فيها فإنما حظر الخلع إذا كان النشوز من قبله وأراد استبدال زوج مكان زوج غيرها وأباحه إذا خافا أن لا يقيما حدود الله بأن تكون مبغضة له أو سيئة الخلق أو كان هو سيء الخلق ولا يقصد مع ذلك الإضرار بها لكنهما يخافان أن لا يقيما حدود الله في حسن العشرة وتوفية ما لزمهما الله من حقوق النكاح وهذه الحال غير تلك فليس في إحداهما ما يعترض به على الأخرى ولا يوجب نسخها ولا تخصيصها أيضا إذ كل واحدة مستعملة فيما وردت فيه وكذلك قوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إذا كان خطابا للأزواج فإنما حظر عليهم أخذ شيء من مالها إذا كان النسوز من قبله قاصدا للإضرار بها إلا أن يأتي بفاحشة مبينة فقال ابن سيرين وأبو قلابة يعني أن يظهر منها على زنا وروي عن عطاء والزهري وعمرو بن شعيب إن الخلع لا يحل إلا من الناشز فليس في شيء من هذه الآيات نسخ وجميعها مستعمل والله أعلم
ذكر

اختلاف السلف وسائر فقهاء الأمصار فيما يحل أخذه بالخلع
روي عن علي رضي الله عنه أنه كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس وسعيد بن جبير وروي عن عمر وعثمان وابن عمر وابن عباس ومجاهد وإبرايهم والحسن رواية أخرى أنه جائز له أن يخلعها على أكثر مما أعطاها ولو بعقاصها وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد إذا كان النسوز من قبلها حل له أن يأخذ منها ما أعطاها ولا يزداد وإن كان النشوز من قبله لم يحل له أن يأخذ منها شيئا فإن فعل جاز في القضاء وقال ابن شبرمة تجوز المبارأة إذا كانت من غير إضرار منه وإن كانت على إضرار منه لم تجز وقال ابن وهب عن مالك إذا علم أن زوجها أضر بها وضيق عليها وأنه ظالم لها قضى عليها الطلاق ورد عليها مالها وذكر ابن القاسم عن مالك أنه جائز للرجل أن يأخذ منها في الخلع أكثر مما أعطاها ويحل له وإن كان النشوز من قبل الزوج حل له أن يأخذ ما أعطته على الخلع إذا رضيت بذلك ولم يكن في ذلك ضرر منه لها وعن الليث نحو ذلك وقال الثوري إذا كان الخلع من قبلها فلا بأس أن يأخذ منها شيئا وإذا

كان من قبله فلا يحل له أن يأخذ منها شيئا وقال الأوزاعي في رجل خالع امرأته وهي مريضة إن كانت ناشزة كان في ثلثها وإن لم تكن ناشزة رد عليها وكانت له عليها الرجعة وإن خالعها قبل أن يدخل بها على جميع ما أصدقها ولم يتبين منها نشوز أنهما إذا اجتمعا على فسخ النكاح قبل أن يدخل بها فلا أرى بذلك بأسا وقال الحسن بن حي إذا كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها بقليل ولا كثير وإذا كانت الإساءة من قبلها والتعطيل لحقه كان له أن يخالعها على ما تراضيا عليه وكذلك قول عثمان البتي وقال الشافعي إذا كانت المرأة مانعة ما يجب عليها لزوجها حلت الفدية للزوج وإذا حل له أن يأكل ما طابت به نفسا على غير فراق حل له أن يأكل ما طابت به نفسا وتأخذ الفراق به قال أبو بكر قد أنزل الله تعالى في الخلع آيات منها قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا فهذا يمنع أخذ شيء منها إذا كان النشوز من قبله فلذلك قال أصحابنا لا يحل له أن يأخذ منها في هذه الحال شيئا وقال تعالى في آية أخرى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فاباح في هذه الآية الأخذ عند خوفهما ترك إقامة حدود الله وذلك على ما قدمنا من بغض المرأة لزوجها وسوء خلقها أو كان ذلك منهما فيباح له أخذ ما أعطاها ولا يزداد والظاهر يقتضي جواز أخذ الجميع ولكن ما زاد مخصوص بالسنة وقال تعالى في آية أخرى لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قيل فيه إنه خطاب للزوج وحظر به أخذ شيء مما أعطاها إلا أن تأتي بفاحشة مبينة قيل فيها إنها هي الزنا وقيل فيها إنها النشوز من قبلها وهذه نظير قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقال تعالى في آية أخرى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وسنذكر حكمها في مواضعها إن شاء الله تعالى وذكر الله تعالى إباحة أخذ المهر في غير هذه الآية إلا أنه لم يذكر حال الخلع في قوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهذه الآيات كلها مستعملة على مقتضى أحكامها فقلنا إذا كان النشوز من قبله لم يحل له

أخذ شيء منها بقوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا وقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن وإذا كان النشوز من قبلها أو خافا لسوء خلقها أو بعض كل واحد منهما لصاحبه أن لا يقيما جاز له أن يأخذ ما أعطاها لا يزداد وكذلك ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وقد قيل فيه إلا أن تنشز فيجوز له عند ذلك أخذ ما أعطاها
وأما قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فهذا في غير حال الخلع بل في حال الرضا بترك المهر بطيبة من نفسها به وقول من قال إنه لما أجاز أخذ مالها بغير خلع فهو جائز والخلع خطأ لأن الله تعالى قد نص على الموضعين في أحدهما بالحظر وهو قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله وفي الآخر بالإباحة وهو قوله تعالى فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فقول القائل لما جاز أن يأخذ مالها بطيبة نفسها من غير الخلع جاز في الخلع قول مخالف لنص الكتاب وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الملع ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة عن حبيبة بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من هذه قالت أنا حبيبة بنت سهل قال ما شأنك قالت لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاءه ثابت بن قيس قال له هذه حبيبة بنت سهل فذكرت ما شاء الله أن تذكر فقالت حبيبة كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لثابت خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها وروي فيه ألفاظ مختلفة في بعضها خلي سبيلها وفي بعضها فارقها وإنما قالوا إنه لا يسعه أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها لما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن يحيى بن أبي سمينة قال حدثنا الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رجلا خاصم امرأته إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال النبي ص
- تردين إليه ما أخذت منه قالت نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
أما الزيادة فلا وقال أصحابنا لا يأخذ منه الزيادة لهذا الخبر وخصوا به
ظاهر الآية وإنما جاز تخصيص هذا الظاهر

بخبر الواحد من قبل أن قوله تعالى فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لفظ محتمل لمعان والاجتهاد سائغ فيه وقد روي عن السلف فيه وجوه مختلفة وكذلك قوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة محتمل لمعان على ما وصفنا فجاز تخصيصه بخبر الواحد وهو كقوله تعالى أ و لامستم النساء وقوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن لما كان محتملا للوجوه واختلف السلف في المراد به جاز قبول خبر الواحد في معناه المراد به وإنما قال أصحابنا إذا خلعها على أكثر مما أعطاها أو خلعها على مال والنشوز من قبله أن ذلك جائز في الحكم وإن لم يسعه فيما بينه وبين الله تعالى من قبل أنه أعطته بطيبة من نفسها غير مجبرة عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وأيضا فإن النهي لم يتعلق بمعنى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنى في غيره وهو أنه لم يعطها مثل ما أخذ منها ولو كان قد أعطاها مثل ذلك لما كان ذلك مكروها فلما تعلق النهي بمعنى في غير العقد لم يمنع ذلك جواز العقد كالبيع عند أذان الجمعة وبيع حاضر لباد وتلقي الركبان ونحو ذلك وأيضا لما جاز العتق على قليل المال وكثيره وكذلك الصلح عن دم العمد كان كذلك الطلاق وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر المثل وهو بدل البضع كذلك جاز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها لأنه بدل من البضع في الحالين فإن قيل لما كان الخلع فسخا لعقد النكاح لم يجز بأكثر مما وقع عليه العقد كما لا يجوز الإقالة بأكثر من الثمن قيل له قولك إن الخلع فسخ للعقد خطأ وإنما هو طلاق مبتدأ كهو لو لم يشرط فيه بدل ومع ذلك فلا خلاف أنه ليس بمنزلة الإقالة لأنه لو خلعها على أقل مما أعطاها جاز بالاتفاق والإقالة غير جائزة بأقل من الثمن ولا خلاف أيضا في جواز الخلع بغير شيء وقد اختلف السلف في الخلع دون السلطان فروي عن الحسن وابن سيرين إن الخلع لا يجوز إلا عند السلطان وقال سعيد بن جبير لا يكون الخلع حتى يعظها فإن اتعظت وإلا هجرها فإن اتعظت وإلا ضربها فإن اتعظت وإلا ارتفعا إلى السلطان فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها فيردان ما يسمعان إلى السلطان فإن رأى بعد ذلك أن يفرق فرق وإن رأى أن يجمع جمع وروي عن علي وعمر وعثمان وابن عمر وشريح وطاوس والزهري في آخرين أن الخلع جائز دون السلطان وروى سعيد عن قتادة قال كان زياد أول من

رد الخلع دون السلطان ولا خلاف بين فقهاء الأمصاء في جوازه دون السلطان وكتاب الله يوجب جوازه وهو قوله تعالى ولا جناح عليهما فيما افتدت به وقال تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فأباح الأخذ منها بتراضيهما من غير سلطان وقول النبي صلى الله عليه وسلم - لامرأة ثابت بن قيس أتردين عليه حديقته فقالت نعم فقال للزوج خذها وفارقها يدل على ذلك أيضا لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسئلهما النبي صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله اخلعها بل كان يخلعها منه ويرد عليه حديقته وإن أبيا أو واحد منهما كما لما كانت فرقة المتلاعنين إلى الحاكم لم يقل للملاعن خل سبيلها بل فرق بينهما كما روى سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم - فرق بين المتلاعنين كما قال في حديث آخر لا سبيل لك عليها ولم يرجع ذلك إلى الزوج فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ويدل عليه أيضا قوله ص - لا يحل مال امرئ إلا بطيبة من نفسه وقد اختلف في الخلع هل هو طلاق أم ليس بطلاق فروي عن عمر وعبدالله وعثمان والحسن وأبي سلمة وشريح وإبراهيم والشعبي ومكحول إن الخلع تطليقة بائنة وهو قول فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه وروي عن ابن عباس أنه ليس بطلاق حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال أخبرني عبدالملك بن ميسرة قال سأل رجل طاوسا عن الخلع فقال ليس بشيء فقلت لا تزال تحدثنا بشيء لا نعرفه فقال والله لقد جمع ابن عباس بين امرأة وزوجها بعد تطليقتين وخلع ويقال هذا مما أخطأ فيه طاوس وكان كثير الخطأ مع طلالته وفضله وصلاحه يروي أشياء منكرة منها أنه روي عن ابن عباس أنه قال من طلق ثلاثا كانت واحدة وروي من غير وجه عن ابن عباس أن من طلق امرأته عدد النجوم بانت منه بثلاث قالوا وكان أيوب يتعجب من كثرة خطأ طاوس وذكر ابن أبي نجيح عن طاوس أنه قال الخلع ليس بطلاق قال فأنكره عليه أهل مكة فجمع ناسا منهم واعتذر إليهم وقال إنما سمعت ابن عباس يقول ذلك وقد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال حدثنا أبو همام قال حدثنا الوليد عن أبي سعيد روح بن جناح قال سمعت زمعة بن أبي عبدالرحمن قال سمعت سعيد بن المسيب يقول جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

الخلع تطليقة ويدل على أنه طلاق قوله ص
- لثابت بن قيس حين

نشزت عليه امرأته خل سبيلها وفي بعض الألفاظ فارقها بعد ما قال للمرأة ردي عليه حديقته فقالت قد فعلت ومعلوم أن من قال لامرأته قد فارقتك أو قد خليت سبيلك ونيته الفرقة أنه يكون طلاقا فدل ذلك على أن خلعه إياها بأمر الشارع كان طلاقا وأيضا لا خلاف أنه لو قال لها قد طلقتك على مال أو قد جعلت أمرك إليك بمال كان طلاقا وكذلك لو قال قد خلعتك بغير مال يريد به الفرقة كان طلاقا كذلك إذا خلعها بمال فإن قيل إذا قال بلفظ الخلع كان بمنزلة الإقالة في البيع فتكون فسخا لا بيعا مبتدأ قيل له لا خلاف في جواز الخلع بغير مال وعلى أقل من المهر والإقالة لا تجوز إلا بالثمن الذي كان في العقد ولو كان الخلع فسخا كالإقالة لما جاز إلا بالمهر الذي تزوجها عليه وفي اتفاق الجميع على جوازه بغير مال وبأقل من المهر دلالة على أنه طلاق بمال وأنه ليس بفسخ وأنه لا فرق بينه وبين قوله قد طلقتك على هذا المال ومما يحتج به من يقول أنه ليس بطلاق إن الله تعالى لما قال الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ثم عقب ذلك بقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلى أن قال في نسق التلاوة فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فأثبت الثالثة بعد الخلع دل ذلك على أن الخلع ليس بطلاق إذ لو كان طلاقا لكانت هذه رابعة لأنه ذكر الخلع بعد التطليقتين ثم ذكر الثالثة بعد الخلع وهذا ليس عندنا على هذا التقدير وذلك لأن قوله تعالى الطلاق مرتان أفاد حكم الإثنتين إذا أوقعهما على غير وجه الخلع وأثبت معهما الرجعة بقوله تعالى فإمساك بمعروف ثم ذكر حكمهما إذا كانتا على وجه الخلع وأبان عن موضع الحظر والإباحة فيهما والحال التي يجوز فيها أخذ المال أو لا يجوز ثم عطف على ذلك قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فعاد ذلك إلى الإثنتين المقدم ذكرهما على وجه الخلع تارة وعلى غير وجه الخلع أخرى فإذا ليس فيه دلالة على أن الخلع بعد اثنتين ثم الرابعة بعد الخلع وهذا مما يستدل به على أن المختلعة يلحقها الطلاق لأنه لما اتفق فقهاء الأمصار على أن تقدير الآية وترتيب أحكامها على ما وصفنا وحصلت الثالثة بعد الخلع وحكم الله بصحة وقوعها وحرمتها عليه أبدا إلا بعد زوج فدل ذلك على أن المختلفعة يلحقها الطلاق ما دامت في العدة ويدل على أن الثالثة بعد الخلع قوله تعالى في نسق التلاوة فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله عطف

على ما تقدم ذكره وقوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فأباح لهما التراجع بعد التطليقة الثالثة بشريطة زوال ما كانا عليه من الخوف لترك إقامة حدود الله لأنه جائز أن يندما بعد الفرقة ويحب كل واحد منهما أن يعود إلى الألفة فدل ذلك على أن الثالثة مذكورة بعد الخلع وقوله تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأنه علق الإباحة بالظن فإن قيل قوله تعالى فلا تحل له من بعد عائد على قوله الطلاق مرتان دون الفدية المذكورة بعدها قيل له هذا يفسد من وجوه أحدها أن قوله ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا خطاب مبتدأ بعد ذكر الإثنتين غير مرتب عليهما لأنه معطوف عليه بالواو وإذا كان كذلك ثم قال عقيب ذكر الفدية فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره وجب أن يكون مرتبا على الفدية لأن الفاء للتعقيب وغير جائز ترتيبه على الإثنتين المبدوء بذكرهما وترك عطفه على ما يليه إلا بدلالة تقتضي ذلك وتوجبه كما تقول في الإستنثناء بلفظ التخصيص أنه عائد عل ما يليه ولا يرد ما تقدمه إلا بدلالة ألا ترى إلى قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم إن شرط الدخول عائد على الربائب دون أمهات النساء إذ كان العطف بالفاء يليهن دون أمهات النساء مع أن هذا أقرب ما ذكرت من عطف قوله تعالى فإن طلقها على قوله تعالى الطلاق مرتان دون ما يليه في الفدية لأنك لا تجعله عطفا على ما يليه من الفدية وتجعله عطفا على ما تقدم دون ما توسط بينهما من ذكر الفدية فأيضا وأيضا فإنا نجعله عطفا على جميع ما تقدم من الفدي ومما تقدمها من التطليقتين على غير وجه الفدية فيكون منتظما لفائدتين إحداهما جواز طلاقها بعد الخلع بتطليقتين والأخرى بعد التطليقتين إذا أوقعهما على غير وجه الفدية والله أعلم
باب

المضارة في الرجعة
قال الله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف قال أبو بكر المراد بقوله فبلغن أجلهن مقاربة البلوغ والإشراف عليه لا حقيقته لأن الأجل المذكور هو العدة وبلوغه هو انقضاؤها ولا رجعة بعد انقضاء العدة وقد عبر عن العدة بالأجل في مواضع منها قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن

بمعروف أو فارقوهن بمعروف ومعناه معنى ما ذكر في هذه الآية وقال تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وقال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن وقال ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله فكان المراد بالآجال المذكورة في هذه الآي العدد ولما ذكره الله تعالى في قوله فإذا بلغن أجلهن والمراد مقاربته دون انقضائه ونظائره كثيرة في القرآن واللغة قال الله تعالى إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ومعناه إذا أردتم الطلاق وقاربتم أن تطلقوا فطلقوا للعدة وقال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله معناه إذا أردت قراءته وقال وإذا قلتم فاعدلوا وليس المراد العدل بعد القول ولكن قبله يعزم على أن لا يقول إلا عدلا فعلى هذا ذكر بلوغ الأجل وأراد به مقاربته دون وجود نهايته وإنما ذكر مقاربته البلوغ عند الأمر بالإمساك بالمعروف وإن كان عليه ذلك في سائر أحوال بقاء النكاح لأنه قرن إليه التسريح وهو انقضاء العدة وجمعهما في الأمر والتسريح إنما له حال واحد ليس يدوم فخص حال بلوغ الأجل بذلك لينتظم المعروف الأمرين جميعا وقوله تعالى فأمسكوهن بمعروف المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة وروي ذلك عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وقوله تعالى أو سرحوهن بمعروف معناه تركها حتى تنقضي عدتها وأباح الإمساك بالمعروف وهو القيام بما يجب لها من حق على ما تقدم من بيانه وأباح التسريح أيضا على وجه يكون معروفا بأن لا يقصد مضارتها بتطويل العدة عليها بالمراجعة وقد بينه عقيب ذلك بقوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا ويجوز أن يكون من الفراق بالمعروف أن يمتعها عند الفرقة ومن الناس من يحتج بهذه الآية وبقوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان في إيجاب الفرقة بين المعسر العاجز عن النفقة وبين امرأته لأن الله تعالى إنما خيره بين أحد شيئين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وترك الإنفاق ليس بمعروف فمتى عجز عنه تعين عليه التسريح فيفرق الحاكم بينهما قال أبو بكر رحمه الله وهذا جهل من قائله والمحتج به لأن العاجز عن نفقة امرأته يمسكها بمعروف إذ لم يكلف الإنفاق في هذا الحال قال الله تعالى ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا فغير جائز أن يقال إن المعسر غير ممسك بالمعروف إذ كان ترك الإمساك بمعروف ذما والعاجز غير مذموم بترك الإنفاق ولو كان العاجز عن النفقة غير ممسك

بمعروف لوجب أن يكون أصحاب الصفة وفقراء الصحابة الذين عجزوا عن النفقة على أنفسهم فضلا عن نسائهم غير ممسكين بمعروف وأيضا فقد علمنا أن القادر على الإنفاق الممتنع منه غير ممسك بمعروف ولا خلاف أنه لا يستحق التفريق فكيف يجوز أن يستدل بالآية على وجوب التفريق على العاجز دون القادر والعاجز ممسك بمعروف والقادر غير ممسك وهذا خلف من القول قوله تعالى ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا روي عن مسروق والحسن ومجاهد وقتادة وإبراهيم هو تطويل العدة عليها بالمراجعة إذا قاربت انقضاء عدتها ثم يطلقها حتى تستأنف العدة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها فأمر الله بإمساكها بمعروف ونهاه عن مضارتها بتطويل العدة عليها وقوله تعالى ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه دل على وقوع الرجعة وإن قصد بها مضارتها لولا ذلك ما كان ظالما لنفسه إذ لم يثبت حكمها وصارت رجعته لغوا لا حكم لها وقوله تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا روي عن عمر وعن الحسن عن أبي الدرداء قال كان الرجل يطلق امرأته ثم يرجع فيقول كنت لاعبا فأنزل الله تعالى ولا تتخذوا آيات الله هزوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من طلق أو حرر أو نكح فقال كنت لاعبا فهو جاد فأخبر أبو الدرداء إن ذلك تأويل الآية وأنها نزلت فيه فدل ذلك على أن لعب الطلاق وجده سواء وكذلك الرجعة لأنه ذكر عقيب الإمساك أو التسريح فهو عائد عليهما وقد أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما بينه وروى عبدالرحمن بن حبيب عن عطاء عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والنكاح والرجعة وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال أربع واجبات على كل من تكلم بهن العتاق والطلاق والنكاح والنذر وروى جابر عن عبدلله بن لحي عن علي أنه قال ثلاث لا يلعب بهن الطلاق والنكاح والصدقة وروى القاسم بن عبدالرحمن عن عبدالله قال إذا تكلمت بالنكاح فإن النكاح جده ولعبه سواء كما أن جد الطلاق ولعبه سواء وروي ذلك عن جماعة من التابعين ولا نعلم فيه خلافا بين فقهاء الأمصار وهذا أصل في إيقاع طلاق المكره لأنه لما استوى حكم الجاد والهازل فيه وكانا إنما يفترقان مع قصدهما إلى القول من جهة وجود إرادة أحدهما لإيقاع حكم ما لفظ به والآخر غير مريد الإيقاع حكمه لم يكن للنية تأثير في دفعه وكان المكره قاصدا إلى القول غير مريد لحكمه لم يكن لفقد نية الإيقاع تأثير في دفعه فدل ذلك على أن شرط

وقوعه وجود لفظ الإيقاع من مكلف والله أعلم
باب

النكاح بغير ولي
قال الله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن الآية وقوله تعالى فبلغن أجلهن المراد حقيقة البلوغ بانقضاء العدة والعضل يعتوره معنيان أحدهما المنع والآخر الضيق يقال عضل الفضاء بالجيش إذا ضاق بهم والأمر المعضل هو الممتنع وداء عضال ممتنع وفي التضييق يقال عضلت عليهم الأمراء أضيقت وعضلت المرأة بولدها إذا عسر ولادها وأعضلت والمعنيان متقاربان لأن الأمر الممتنع يضيق فعله وزواله والضيق ممتنع أيضا وروى الشعبي سئل عن مسألة صعبة فقال زباء ذات وبر لا تنساب ولا تنقاد ولو نزلت بأصحاب محمد لأعضلت بهم وقوله تعالى ولا تعضلوهن معناه لا تمنعوهن أو لا تضيقوا عليهن في التزويج وقد دلت هذه الآية من وجوه على جواز النكاح إذا عقدت على نفسها بغير ولي ولا إذن وليها أحدها إضافة العقد إليها من غير شرط إذن الولي والثاني نهيه عن العضل إذا تراضى الزوجان فإن قيل لولا أن الولي يملك منعها عن النكاح لما نهاه عنه كما لا ينهى الأجنبي الذي لا ولاية له عنه قيل له هذا غلط لأن النهي يمنع أن يكون له حق فيما نهى عنه فكيف يستدل به على إثبات الحق وأيضا فإن الولي يمكنه أن يمنعها من الخروج والمراسلة في عقد النكاح فجائز أن يكون النهي عن العضل منصرفا إلى هذا الضرب من المنع لأنها في الأغلب تكون في يد الولي بحيث يمكنه منعها من ذلك ووجه آخر من دلالة الآية على ما ذكرنا وهو أنه لما كان الولي منهيا عن العضل إذا زوجت هي نفسها من كفؤ فلا حق له في ذلك كما لو نهى عن الربا والعقود الفاسدة لم يكن له حق فيما قد نهى عنه فلم يكن له فسخه وإذا اختصموا إلى الحاكم فلو منع الحاكم من مثل هذا العقد كان ظالما مانعا مما هو محظور عليه منعه فيبطل حقه أيضا في الفسخ فيبقى العقد لا حق لأحد في فسخه فينفذ ويجوز فإن قيل إنما نهى الله سبحانه الولي عن العضل إذا تراضوا بينهم بالمعروف فدل ذلك على أنه ليس بمعروف إذا عقده غير الولي قيل له قد علمنا أن المعروف مهما كان من شيء فغير جائز أن يكون عقد الولي وذلك لأن في نص الآية جواز عقدها ونهي الولي عن منعها فغير جائز أن يكون معنى المعروف أن لا يجوز عقدها لما فيه من نفي موجب

الآية وذلك لا يكون إلا على وجه النسخ ومعلوم امتناع جواز الناسخ والمنسوخ في خطاب لأن النسخ لا يجوز إلا بعد استقرار الحكم والتمكن من الفعل فثبت بذلك أن المعروف المشروط في تراضيهما ليس هو الولي وأيضا فإن الباء تصحب الإبدال فإنما انصرف ذلك إلى مقدار المهر وهو أن يكون مهر مثلها لا نقص فيه ولذلك قال أبو حنيفة إنها إذا نقضت من مهر المثل فللأولياء أن يفرقوا بينهما ونظير هذه الآية في جواز النكاح بغير ولي قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا قد حوى الدلالة من وجهين على ما ذكرنا أحدهما إضافته عقد النكاح إليها في قوله حتى تنكح زوجا غيره والثاني فلا جناح عليهما أن يتراجعا فنسب التراجع إليهما من غير ذكر الولي ومن دلائل القرآن على ذلك قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف فجاز فعلها في نفسها من غير شرط الولي وفي إثبات شرط الولي في صحة العقد نفي الموجب الآية فإن قيل إنما أراد بذلك اختيار الأزواج وأن لا يجوز العقد عليها إلا بإذنها قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما عموم اللفظ في اختيار الأزواج وفي غيره والثاني أن اختيار الأزواج لا يحصل لها به فعل في نفسها وإنما يحصل ذلك بالعقد الذي يتعلق به أحكام النكاح وأيضا فقد ذكر الاختيار مع العقد بقوله إذا تراضوا بينهم بالمعروف
ذكر

الاختلاف في ذلك
اختلف الفقهاء في عقد المرأة على نفسها بغير ولي فقال أبو حنيفة لها أن تزوج نفسها كفوا وتستوفي المهر ولا اعتراض للولي عليها وهو قول زفر وإن زوجت نفسها غير كفو فالنكاح جائز أيضا وللأولياء أن يفرقوا بينهما وروي عن عائشة أنها زوجت حفصة بنت عبدالرحمن بن أبي بكر من المنذر بن الزبير وعبدالرحمن غائب فهذا يدل على أن من مذهبهما جواز النكاح بغير ولي وهو قول محمد بن سيرين والشعبي والزهري وقتادة وقال أبو يوسف لا يجوز النكاح بغير ولي فإن سلم الولي جاز وإن أبى أن يسلم والزوج كفو أجازه القاضي وإنما يتم النكاح عنده حين يجيزه القاضي وهو قول محمد وقد روي عن أبي يوسف غير ذلك والمشهور عنه ما ذكرناه قال الأوزاعي إذا ولت أمرها رجلا فزوجها كفوا فالنكاح جائز وليس للولي أن يفرق بينهما وقال ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن

صالح والشافعي لا نكاح إلا بولي وقال ابن شبرمة لا يجوز النكاح وليس الوالدة بولي ولا أن تجعل المرأة وليها رجلا إلا قاض من قضاة المسلمين وقال ابن القاسم عن مالك إذا كانت امرأة معتقة أو مسكينة أو دنية لا حظ لها فلا بأس أن تستخلف رجلا ويزوجها ويجوز وقال مالك وكل امرأة لها مال وغنى وقدر فإن تلك ينبغي أن يزوجها إلا الأولياء أو السلطان قال وأجاز مالك للرجل أن يزوج المرأة وهو من فخذها وإن كان غيره أقرب منه إليها وقال الليث في المرأة تزوج بغير ولي أن غيره أحسن منه يرفع أمرها إلى السلطان فإن كان كفوا أجازه ولم يفسخه وذلك في الثيب وقال في السوداء تزوج بغير ولي أنه جائز قال والبكر إذا زوجها غير ولي والولي قريب حاضر فهذا الذي أمره إلى الولي يفسخه له السلطان إن رأى لذلك وجها والولي من قبل هذا أولى من الذي أنكحها قال أبو بكر وجميع ما قدمنا من دلائل الآي الموجبة لجواز عقدها تقضي بصحة قول أبي حنيفة في هذه المسألة ومن جهة السنة حديث ابن عباس حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن صالح بن كيسان عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ليس للولي مع الثيب أمر قال أبو داود وحدثنا أحمد بن يونس وعبدالله بن مسلمة قالا حدثنا مالك عن عبدالله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الأيم أحق بنفسها من وليها فقوله ليس للولي مع الثيب أمر يسقط اعتبار الولي في العقد وقوله الأيم أحق بنفسها من وليها يمنع أن يكون له حق في منعها العقد على نفسها كقوله ص - الجار بصقبه وقوله لأم الصغير أنت أحق به مالم تنكحي فنفى بذلك كله أن يكون له معها حق ويدل عليه حديث الزهري عن سهل بن سعد في المرأة التي وهبت نفسها للنبي ص - فقال ص -

مالي في النساء من أرب فقام رجل فسأله أن يزوجها فزوجها ولم يسألها هل
لها ولي أم لا ولم يشترط الولي في جواز عقدها وخطب النبي صلى الله عليه وسلم - أم سلمة فقالت ما أحد من أوليائي شاهد فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم -
ما أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكرهني فقالت لابنها وهو غلام صغير قم
فزوج أمك رسول الله صلى الله عليه وسلم - فتزوجها ص -
بغير ولي فإن قيل لأن النبي ص
- كان وليها وولي المرأة التي وهبت نفسها له لقوله تعالى النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم قيل له هو أولى بهم فيما يلزمه من اتباعه وطاعته فيما يأمرهم به فإما أن يتصرف عليهم في

أنفسهم وأموالهم فلا ألا ترى أنه لم يقل لها حين قالت له ليس أحد من أليائي شاهد وما عليك من أوليائك وأنا أولى بك منهم بل قال ما أحد منهم يكرهني وفي هذا دلالة على أنه لم يكن وليا لهن في النكاح ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله كذلك المرأة لما كانت جائزة التصرف في مالها وجب جواز عقد نكاحها والدليل على أن العلة في جواز نكاح الرجل ما وصفنا أن الرجل إذا كان مجنونا غير جائز التصرف في ماله لم يجز نكاحه فدل على صحة ما وصفنا واحتج من خالف في ذلك بحديث شريك عن سماك عن أبي أخي معقل بن يسار عن معقل أن أخت معقل كانت تحت رجل فطلقها ثم أراد أن يراجعها فأبى عليها معقل فنزلت هذه الآية فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن وقد روي عن الحسن أيضا هذه القصة وأن الآية نزلت فيها وأنه ص - دعا معقلا وأمره بتزويجها وهذا الحديث غير ثابت على مذهب أهل النقل لما في سنده من الرجل المجهول الذي روى عنه سماك وحديث الحسن مرسل ولو ثبت لم ينف دلالة الآية على جواز عقدها من قبل أن معقلا فعل ذلك فنهاه الله عنه فبطل حقه في العضل فظاهر الآية يقتضي أن يكون ذلك خطابا للأزواج لأنه قال وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن فقوله تعالى فلا تعضلوهن إنما هو خطاب لمن طلق وإذا كان كذلك كان معناه عضلها عن الأزواج بتطويل العدة عليها كما قال ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا وجائز أن يكون قوله تعالى ولا تعضلوهن خطابا للأولياء وللأزواج ولسائر الناس والعموم يقتضي ذلك واحتجوا أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أيما امرأة نكحت بغير وليها فنكاحها باطل وبما روي من قوله لا نكاح إلا بولي وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها فأما الحديث الأول فغير ثابت وقد بينا علله في شرح الطحاوي وقد روي في بعض الألفاظ أيما امرأة تزوجت بغير إذن مواليها وهذا عندنا على الأمة تزوج نفسها بغير إذن مولاها وقوله لا نكاح إلا بولي لا يعترض على موضع الخلاف لأن هذا عندنا نكاح بولي لأن المرأة ولي نفسها كما أن الرجل ولي نفسه لأن الولي هو الذي يستحق الولاية على من يلي عليه والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها فكذلك في بعضها وأما حديث أبي هريرة فمحمول على وجه الكراهة لحضور المرأة مجلس الإملاك لأنه

مأمور بإعلان النكاح ولذلك يجمع له الناس فكره للمرأة حضور ذلك المجمع وقد ذكر أن قوله الزانية هي التي تنكح نفسها من قول أبي هريرة وقد روي في حديث آخر عن أبي هريرة هذا الحديث وذكر فيه أن أبا هريرة قال كان يقال الزانية هي التي تنكح نفسها وعلى أن هذا اللفظ خطأ بإجماع المسلمين لأن تزويجها نفسها ليس بزنا عند أحد من المسلمين والوطء غير مذكور فيه فإن حملته على أنها زوجت نفسها ووطئها الزوج فهذا أيضا لا خلاف فيه أنه ليس بزنا لأن من لا يجيزه إنما يجعله نكاحا فاسدا يوجب المهر والعدة ويثبت به النسب إذا وطئ وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في شرح الطحاوي وقوله عز و جل ذلكم أزكى لكم وأطهر يعني إذا لم تعضلوهن لأن العضل ربما أدى إلى ارتكاب المحظور منهما على غير وجه العقد وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى قال حدثنا حاتم بن إسماعيل قال سمعت عبدالله بن هرمز قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض
باب

الرضاع
قال الله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين الآية قال أبو بكر ظاهره الخبر ولكنه معلوم من مفهوم الخطاب أنه لم يرد به الخبر لأنه لو كان خبرا لوجد مخبره فلما كان في الوالدات من لا يرضع علم أنه لم يرد به الخبر ولا خلاف أيضا في أنه لم يرد به الخبر وإذا لم يكن المراد حقيقة اللفظ الذي هو الخبر لم يخل من أن يكون المراد إيجاب الرضاع على الأم وأمرها به إذ قد يرد الأمر في صيغة الخبر كقوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء وأن يريد به إثبات حق الرضاع للأم وإن أبى الأب أو تقدير ما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في آية أخرى فإ ن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وقال تعالى وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى دل ذلك على أنه ليس المراد الرضاع شاءت الأم أو أبت وأنها مخيرة في أن ترضع أو لا ترضع فلم يبق إلا الوجهان الآخران وهو أن الأب إذا أبى استرضاع الأم أجبر عليه وإن أكثر ما يلزمه في نفقة الرضاع للحولين فإن أبى أن ينفق نفقة الرضاع أكثر منهما لم يجبر عليه

ثم لا يخلو بعد ذلك قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن من أن يكون عموما في سائر الأمهات مطلقات كن أو غير مطلقات أو أن يكون معطوفا على ما تقدم ذكره من المطلقات مقصور الحكم عليهن فإن كان المراد سائر الأمهات المطلقات منهن والمزوجات فإن النفقة الواجبة للمزوجات منهن هي نفقة الزوجية وكسوتها لا للرضاع لأنها لا تستحق نفقة الرضاع مع بقاء الزوجية فتجتمع لها نفقتان إحداهما للزوجية والأخرى للرضاع وإن كانت مطلقة فنققة الرضاع أيضا مستحقة بظاهر الآية لأنه أوجبها بالرضاع وليست في هذه الحال زوجة ولا معتدة منه لأنه يكون معطوفا على قوله تعالى وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فتكون منقضية العدة بوضع الحمل وتكون النفقة المستحقة أجرة الرضاع وجائز أن يكون طلقها بعد الولادة فتكون عليها العدة بالحيض وقد اختلفت الرواية من أصحابنا في وجوب نفقة الرضاع ونفقة العدة معا ففي إحدى الروايتين أنهما تستحقهما معا وفي الأخرى أنها لا تستحق للرضاع شيئا مع نفقة العدة فقد حوت الآية الدلالة على معنيين أحدهما أن الأم أحق برضاع ولدها في الحولين وأنه ليس للأب أن يسترضع له غيرها إذا رضيت بأن ترضعه والثاني أن الذي يلزم الأب في نفقة الرضاع إنما هو سنتان وفي الآية دلالة على أن الأب لا يشارك في نفقة الرضاع لأن الله تعالى أوجب هذه النفقة على الأب للأم وهما جميعا وارثان ثم جعل الأب أولى بإلزام ذلك من الأم مع اشتراكهما في الميراث فصار ذلك أصلا في اختصاص الأب بإلزام النفقة دون غيره كذلك حكمه في سائر ما يلزمه من نفقة الأولاد الصغار والكبار الزمنى يختص هو بإيجابه عليه دون مشاركة غيره فيه لدلالة الآية عليه وقوله تعالى رزقهن وكسوتهن بالمعروف يقتضي وجوب النفقة والكسوة لها في حال الزوجية لشمول الآية لسائر الوالدات من الزوجات والمطلقات وقوله تعالى بالمعروف يدل على أن الواجب من النفقة والكسوة هو على قدر حال الرجل في إعساره ويساره إذ ليس من المعروف إلزام المعسر أكثر مما يقدر عليه ويمكنه ولا إلزام الموسر الشيء الطفيف ويدل أيضا على أنها على مقدار الكفاية مع اعتبار حال الزوج وقد بين ذلك بقوله عقيب ذلك لا تكلف نفس إلا وسعها فإذا اشتطت المرأة وجلبت من النفقة أكثر من المعتاد

المتعارف لمثلها لم تعط وكذلك إذا قصر الزوج عن مقدار نفقة مثلها في العرف والعادة لم يحل ذلك وأجبر على نفقة مثلها وفي هذه الآية دلالة على جواز استئجار الظئر بطعامها وكسوتها لأن ما أوجبه الله تعالى في هذه الآية للمطلقة هما أجرة الرضاع وقد بين ذلك بقوله تعالى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وفي هذه الآية دلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث إذ توصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن وأكثر الرأي إذ كان ذلك معتبرا بالعادة وكل ما كان مبنيا على العادة فسبيله الاجتهاد وغالب الظن إذ ليست العادة مقصورة على مقدار واحد لا زيادة عليه ولا نقصان ومن جهة أخرى هو مبني على الاجتهاد وهو اعتبار حاله في إعساره ويساره ومقدار الكفاية والإمكان بقوله لا تكلف نفس إلا وسعها واعتبار الوسع مبني على العادة وقوله تعالى لا تكلف نفس إلا وسعها يوجب بطلان قول أهل الإجبار في اعتقادهم أن الله يكلف عباده مالا يطيقون وإكذاب لهم في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى الله عما يقولون وينسبون إليه من السفه والعبث علوا كبيرا قوله تعالى لا تضار والدة بوالدها ولا مولود له بولده روي عن الحسن ومجاهد وقتادة قالوا هو المضارة في الرضاع وعن سعيد بن جبير وإبراهيم قالا إذا قام الرضاع على شيء خيرت الأم قال أبو بكر فمعناه لا تضار والدة بولدها بأن لا تعطى إذا رضيت بأن ترضعه بمثل ما ترضعه به الأجنبية بل تكون هي أولى على ما تقدم في أول الآية من قوله والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف فجعل الأم أحق برضاع الولد هذه المدة ثم أكد ذلك بقوله تعالى لا تضار والدة بولدها يعني والله أعلم أنها إذا رضيت بأن ترضع بمثل ما ترضع به غيرها لم يكن للأب أن يضارها فيدفعه إلى غيرها وهو كما قال في آية أخرى فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن فجعلها أولى بالرضاع ثم قال وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى فلم يسقط حقها من الرضاع إلا عند التعاسر ويحتمل أن يريد به أنها لا تضار بولدها إذا لم تختر أن ترضعه بأن ينتزع منها ولكنه يؤمر الزوج بأن يحضر الظئر إلى عندها حتى ترضعه في بيتها وكذلك قول أصحابنا ولما كانت الآية محتملة للمضارة في نزع الولد منها واسترضاع غيرها وجب حمله على المعنيين فيكون الزوج ممنوعا من استرضاع غيرها إذا رضيت هي بأن ترضعه بأجرة

مثلها وهي الرزق والكسوة بالمعروف وإن لم ترضع أجبر الزوج على إحضار المرضعة حتى ترضعه في بيتها حتى لا يكون مضارا لها بولدها وفي هذا دلالة على أن الأم أحق بإمساك الولد ما دام صغيرا وإن استغنى عن الرضاع بعد ما يكون ممن يحتاج إلى الحضانة لأن حاجته إلى الأم بعد الرضاع كهي قبله فإذا كانت في حال الرضاع أحق به وإن كانت المرضعة غيرها علمنا في كونه عند الأم حقا لها وفيه حق للولد أيضا وهو أن الأم أرفق به وأحنى عليه وذلك في الغلام عندنا إلا أن يأكل وحده ويشرب وحده ويتوضأ وحده وفي الجارية حتى تحيض لأن الغلام إذا بلغ الحد الذي يحتاج فيه إلى التأديب ويعقله ففي كونه عند الأم دون الأب ضرر عليه والأب مع ذلك أقوم بتأديبه وهي الحال التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم - مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع فمن كان سنه سبعا فهو مأمور بالصلاة على وجه التعليم والتأديب لأنه يعقلها فكذلك سائر الأدب الذي يحتاج إلى تعلمه وفي كونه عندها في هذه الحال ضرر عليه ولا ولاية لأحد على الصغير فيما يكون فيه ضرر عليه وأما الجارية فلا ضرر عليها في كونها عند الأم إلى أن تحيض بل كونها عندها أنفع لها لأنها تحتاج إلى آداب النساء ولا تزول هذه الولدية عنها إلا بالبلوغ لأنها تستحقها عليها بالولادة ولا ضرر عليها في كونها عندها فلذلك كانت أولى إلى وقت البلوغ فإذا بلغت احتاجت إلى التحصين والأب أقوم بتحصينها فلذلك كان أولى بها وبمثل دلالة القرآن على ما وصفنا ورد الأثر عن الرسول ص - وهو ما روي عن علي كرم الله وجهه وابن عباس أن عليا اختصم هو وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في بنت حمزة وكانت خالتها تحت جعفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم - ادفعوها إلى خالتها فإن الخالة والدة فكان هذا الخبر أنه جعل الخالة أحق من العصبة كما حكمت الآية بأن الأم أحق بإمساك الولد من الأب وهذا أصل في أن ذوات الرحم المحرم أولى بإمساك الصبي وحضانته من حضانة العصبة من الرجال الأقرب فالأقرب منهم وقد حوى هذا الخبر معاني منها أن الخالة لها حق الحضانة وأنها أحق به من العصبة وسماها والدة ودل ذلك على أن كل ذات رحم محرم من الصبي فلها هذا الحق الأقرب فالأقرب إذ لم يكن هذا الحق مقصورا على الولادة وقد روى عمر بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمر أن امرأة جاءت بابن لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله حين كان بطني له وعاء وثديي له

سقاء وحجري له حواء أراد أبوه أن ينتزعه مني فقال أنت أحق به مالم تتزوجي وروى مثل ذلك عن جماعة من الصحابة منهم علي وأبو بكر وعبدالله بن مسعود والمغيرة بن شعبة في آخرين من الصحابة والتابعين وقال الشافعي يخير الغلام إذا أكل أو شرب وحده فإن اختار الأب كان أولى به وكذلك إن اختار الأم كان عندها وروي فيه حديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

خير غلاما بين أبويه فقال له اختر أيهما شئت وروى عبدالرحمن بن غنم قال
شهدت عمر بن الخطاب خير صبيا بين أبويه فأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فجائز أن يكون بالغا لأنه قد يجوز أن يسمى غلاما بعد البلوغ وقد روي عن علي أنه خير غلاما وقال لو قد بلغ هذا يعني أخا له صغيرا لخيرته فهذا يدل على أن الأول كان كبيرا وقد روي في حديث أبي هريرة أن امرأة خاصمت زوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم -
وقالت إنه طلقني وأنه يريد أن ينزع مني ابني وقد نفعني وسقاني من بئر أبي
عنبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - استهما عليه فقال من يحاجني في ابني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا غلام هذه أمك وهذا أبوك فاختر أيهما شئت فأخذ الغلام بيد أمه وقول الأم قد سقاني من بئر أبي عنبة يدل على أنه كان كبيرا وقد اتفق الجميع أنه لا اختيار للصغير في سائر حقوقه وكذلك في الأبوين قال محمد بن الحسن لا يخير الغلام لأنه لا يختار إلا شر الأمرين قال أبو بكر هو كذلك لأنه يختار اللعب والإعراض عن تعلم الأدب والخير وقال الله تعالى قوا أنفسكم وأهليكم نارا ومعلوم أن الأب أقوم بتأديبه وتعليمه وأن في كونه عند الأم ضررا عليه لأنه ينشأ على أخلاق النساء وأما قوله تعالى ولا مولود له بولده فإنه عائد على المضارة نهى الرجل أن يضارها بولدها ونهى المرأة أيضا أن تضار بولده والمضارة من جهتها قد تكون في النفقة وغيرها فأما في النفقة فأن تشتط عليه وتطلب فوق حقها وفي غير النفقة أن تمنعه من رؤيته والإلمام به ويحتمل أن تغترب به وتخرجه عن بلده فتكون مضارة له بولده ويحتمل أن تريد أن لا يطيعه وتمتنع من تركه عنده فهذه الوجوه كلها محتملة ينطوي عليها قوله تعالى ولا مولود له بولده فوجب حمل الآية عليها قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك هو عطف على جميع المذكور قبله من عند قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض بالواو وهي الحرف الجمع فكان الجميع مذكورا في حال واحدة النفقة والكسوة والنهي لكل واحد منهما عن مضارة الآخر

على ما اعتورها من المعاني التي قدمنا ذكرها ثم قال الله وعلى الوارث مثل ذلك يعني النفقة والكسوة وأن لا يضارها ولا تضاره إذ كانت المضارة قد تكون في غيرها فلما قال عطفا على ذلك وعلى الوارث مثل ذلك كان ذلك موجبا على الوارث جميع المذكور وقد روي عن عمر وزيد بن ثابت والحسن وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وقتادة في قوله تعالى وعلى الوارث مثل ذلك قالوا النفقة وعن ابن عباس والشعبي عليه أن لا يضار قال أبو بكر قولهما عليه أن لا يضار لا دلالة فيه على أنهما لم يريا النفقة واجبة على الوارث لأن المضارة قد تكون في النفقة كما تكون في غيرها فعوده على المضارة لا ينفي إلزامه النفقة ولولا أن عليه النفقة ما كان لتخصيصه بالنهي عن المضارة فائدة إذ هو في ذلك كالأجنبي ويدل على أن المراد المضارة في النفقة وفي غيرها قوله تعالى عقيب ذلك وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم فدل ذلك على أن المضارة قد انتظمت الرضاع والنفقة وقد اختلف السلف فيمن تلزمه نفقة الصغير فقال عمر بن الخطاب إذا لم يكن له أب فنفقته على العصبات وذهب في ذلك إلى أن الله تعالى أوجب النفقة على الأب دون الأم لأنه عصبة فوجب أن تختص بها العصبات بمنزلة العقل وقال زيد بن ثابت النفقة على الرجال والنساء على قدر مواريثهم وهو قول أصحابنا وروي عن ابن عباس ما ذكرنا من أن على الوارث أن لا يضارها وقد بينا أن هذا يدل على أنه رأى على الوارث النفقة لأن المضارة تكون فيها وقال مالك لا نفقة على أحد إلا الأب خاصة ولا تجب على الجد وعلى ابن الإبن للجد وتجب على الإبن للأب وقال الشافعي لا تجب نفقة الصغير على أحد من قرابته إلا الوالد والولد والجد وولد الولد قال أبو بكر وظاهر قوله وعلى الوارث مثل ذلك واتفاق السلف على ما وصفنا من إيجاب النفقة يقضيان بفساد هذين القولين لأن قوله وعلى الوارث مثل ذلك عائد على جميع المذكورين في النفقة والمضارة وغير جائز لأحد تخصيصه بغير دلالة وقد ذكرنا اختلاف السلف فيمن تجب عليه من الورثة ولم يقل أحد منهم أن الأخ والعم لا تجب عليهما النفقة وقول مالك والشافعي خارج عن قول الجميع ومن حيث وجب على الأب وهو ذو رحم محرم وجب على من هو بهذه الصفة الأقرب فالأقرب لهذه العلة ويدل عليه قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله تعالى أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم فذكر ذوي الرحم المحرم وجعل لهم أن

يأكلوا من بيوتهم فدل على أنهم مستحقون لذلك لولاه لما أباحه لهم فإن قيل قد ذكرنا فيه أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ولا يستحاقن النفقة قيل له هو منسوخ عنهم بالإتفاق ولم يثبت نسخ ذوي الرحم المحرم فإن قيل فأوجبوا النفقة على ابن العم إذا ان وارثا قيل له الظاهر يقتضيه وخصصناه بدلالة فإن قيل فإن كان قوله وعلى الوارث مثل ذلك موجبا للنفقة على كل وارث فالواجب إيجاب النفقة على الأب والأم على قدر مواريثهما منه قيل له إنما المراد وعلىالوارث غير الأب وذلك لأنه قد تقدم ذكر الأب في أول الخطاب بإيجاب جميع النفقة عليه دون الأم ثم عطف عليه قوله وعلى الوارث مثل ذلك وغير جائز أن يكون مراده الأب مع سائرالورثة لأنه نسخ ما قد تقدم وغير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في شيء واحد في خطاب إذ كان النسخ غير جائز إلا بعد استقرار الحكم والتمكين من الفعل وذكر إسماعيل بن إسحاق أنه إذا ولد مولود وأبوه ميت أو معدوم فعلى أمه أن ترضعه لقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن فلا يسقط عنها بسقوط ما كان يجب على الأب فإن انقطع لبنها بمرض أو غيره فلا شيء عليها وإن كان يمكنها أن تسترضع فلم تفعل وخافت عليه الموت وجب عليها أن تسترضع لا من جهة ما على الأب لكن من جهة أن على كل واحد إعانة من يخاف عليه إذا أمكنه وهذا الفصل من كلامه يشتمل على ضروب من الإختلال أحدها أنه أوجب الرضاع على الأم لقوله والوالدات يرضعن أولادهن وأعرض عن ذكر ما يتصل به من قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف فإنما جعل عليها الرضاع بحذاء ما أوجب لها من النفقة والكسوة فكيف يجوز إلزامها ذلك بغير بدل ومعلوم أن لزوم النفقة للأب بدلا من الرضاع يوجب أن تكون تلك المنافع في الحكم حاصلة للأب ملكا باستحقاق البدل عليه فاستحال إيجابها على الأم وقد أوجبها الله تعالى على الأب بإلزامها بدل من النفقة والكسوة والثاني قوله يرضعن أولادهن ليس فيه إيجاب الرضاع عليها وإنما جعل به الرضاع حقا لها لأنه لا خلاف أنها لا تجبر على الرضاع إذا أبت وكان الأب حيا وقد نص الله على ذلك في قوله وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى فلا يصح الاستدلال بالآية على إيحاب الرضاع عليها في حال فقد الأب وهو لم يقتض إيجابه عليها في حال حياته وهو المنصوص عليه في الآية ثم زعم أنه إن انقطع لبنها

بمرض أو غيره فلا شيء عليها وإن أمكنها أن تسترضع وهذا أيضا متنقض لأنها إن كانت منافع الرضاع مستحقة عليها للولد في حال فقد الأب فواجب أن يكون ذلك عليها في مالها إذا تعذر عليها الرضاع كما وجب على الأب استرضاعه وإن لم تكن منافع الرضاع مستحقة عليها في مالها فغير جائز إلزامها الرضاع وما الفرق بين لزومها منافع الرضاع وبين لزوم ذلك في مالها إذا تعذر عليها ثم ناقض فيه من وجه آخر وهو أنه لم يلزمها نفقته بعد انقضاء الرضاع ويفرق بين الرضاع وبين النفقة بعدالرضاع وهما جميعا من نفقة الصغير فمن أين أوجب الفرق بينهما ولو جازت الفرقة من هذا الوجه لجاز مثله في الأب حتى يقال إن الذي يلزمه إنما هو نفقة الرضاع فإذا انقضت مدة الرضاع فلا نفقة عليه للصغير لأن الله تعالى إنما أوجب عليه نفقتها وكسوتها للرضاع ثم زعم أنه إذا أمكنها أن تسترضع وخافت عليه الموت فعليها أن تسترضع على الوجه الذي يلزمها ذلك لو خافت عليه الموت فإن كان ذلك على هذا المعنى فكيف خصها بإلزامها ذلك دون جيرانها ودون سائر الناس وهذا كله تخليط وتشبه غير مقرون بدلالة ولا مستند إلى شبهة وقد حكي مثل ذلك عن مالك أنه لا يوجب النفقة إلا على الأب للإبن وعلى الإبن للأب ولا يوجبها للجد على ابن الإبن وهو قول خارج عن أقاويل السلف والخلف جميعا لا نعلم عليه موافقا ومع ذلك فإن ظاهر الكتاب يرده وهو قوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن إلى قوله تعالى وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا والجد داخل في هذه الجملة لأنه أب قال الله تعالى ملة أبيكم إبراهيم وهو مأمور بمصاحبته بالمعروف لا خلاف في ذلك وليس من الصحبة بالمعروف تركه جائعا مع القدرة على سد جوعته ويدل عليه أيضا قوله ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم فذكر بيوت هؤلاء الأقرباء ولم يذكر بيت الإبن ولا ابن الإبن لأن قوله من بيوتكم قد اقتضى ذلك كقوله أنت ومالك لأبيك فأضاف إليه ملك الإبن كما أضاف إليه بيت الإبن واقتصر على إضافة البيوت إليه والدليل على أنه أراد بيوت الإبن وابن الإبن أنه قد كان معلوما قبل ذلك أن الإنسان غير محظور عليه مال نفسه فإنه لا وجه لقول القائل لا جناح عليك في أكل مال نفسك فدل ذلك على أن المراد بقوله أن تأكلوا من بيوتكم هي بيوت الأبناء وأبناء الأبناء إذ لم يذكرهما جميعا كما ذكر سائر الأقرباء وقد اختلف

موجبو النفقة على الورثة على قدر مواريثهم فقال أصحابنا هي على كل من كان من أهل الميراث على قدر ميراثه من الصبي إذا كان ذا رحم محرم منه ولا نفقة على من لم يكن ذا رحم محرم من الصبي وإن كان وارثا ولذلك أوجبوا النفقة على الخال والميراث لإبن العم لأن ابن العم ليس رحم محرم والخال وإن لم يكن وارثا في هذه الحال فهو من أهل الميراث ذو رحم محرم وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به وارثا في حال الحياة لأن الميراث لا يكون في حال الحياة وبعد الموت لا يدرى من يرثه وعسى أن يكون هذا الصبي يرث هذا الذي عليه النفقة بموته قبله وجائز أن يحدث له من الورثة من يحجب من أوجبنا عليه ولما كان ذلك كذلك علمنا أنه ليس المراد حصول الميراث وإنما المعنى أنه ذو رحم محرم من أهل الميراث وقال ابن أبي ليلى النفقة واجبة على كل وارث ذا رحم محرم كان أو غير ذي رحم محرم فيوجبها على ابن العم دون الخال والدليل على صحة ما ذكرنا اتفاق الجميع على أن مولى العتاقة لا تجب عليه النفقة وإن كان وارثا وكذلك المرأة لا تجب عليها نفقة زوجها الصغير وهي ممن يرثه فدل ذلك على أن كونه ذا رحم محرم شرط في إيجاب النفقة وأما قوله عز و جل حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة فإنه لا يخلو توقيت الحولين من أحد المعنيين إما أن يكون تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم أو لما يلزم الأب من نفقة الرضاع فلما قال في نسق التلاوة بعد ذكر الحولين فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما دل ذلك على أن الحولين ليسا تقديرا لمدة الرضاع الموجب للتحريم لأن الفاء للتعقيب فواجب أن يكون الفصال الذي علقه بإرادتهما بعد الحولين وإذا كان الفصال معلقا بتراضيهما وتشاورهما بعد الحولين فقد دل ذلك على أن ذكر الحولين ليس هو من جهة توقيت نهاية الرضاع الموجب للتحريم وإنه جائز أن يكون بعدهما رضاع وقد روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ثم قال فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح إن أراد أن يفطماه قبل الحولين أو بعده فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى فإن أرادا فصالا على ما قبل الحولين وبعده ويدل عليه قوله تعالى وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم وظاهره الاسترضاع بعد الحولين لأنه معطوف على ذكر الفصال الذي علقه بتراضيهما

فأباحه لهما وأباح للأب الاسترضاع بعد ذلك كما أباح لهما الفصال إذا كان فيه صلاح الصبي ودل ما وصفنا على أن ذكر الحولين إنما هو توقيت لما يلزم الأب في الحكم من نفقة الرضاع ويجبره الحاكم عليه والله أعلم
ذكر

اختلاف الفقهاء في وقت الرضاع
قال أبو بكر قد كان بين السلف اختلاف في رضاعة الكبير فروي عن عائشة أنها كانت ترى رضاع الكبير موجبا للتحريم كرضاع الصغير وكانت تروي في ذلك حديث سالم مولى أبي حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لسهلة بنت سهيل وهي امرأة ابي حذيفة أرضعيه خمس رضعات ثم يدخل عليك وكانت عائشة إذا ارادت أن يدخل عليها رجل أمرت أختها أم كلثوم أن ترضعه خمس رضعات ثم يدخل عليها بعد ذلك وأبى سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك وقلن لعل هذه كانت رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لسالم وحده وقد روي أن سهلة بنت سهيل قالت يا رسول الله إني أرى في وجه
أبي حذيفة من دخول سالم علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة فيحتمل أن يكون ذلك خاصا لسالم كما تأوله سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم -
كما خص أبا زياد ابن دينار بالجذعة في الأضحية وأخبر أنها لا تجزي عن أحد
بعده وقد روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن رضاع الكبير لا يحرم وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أشعث بن سليم عن أبيه عن مسروق عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
دخل عليها وعندها رجل فقالت يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة فقال ص
- انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة فهذا يوجب أن يكون حكم الرضاع مقصورا على حال الصغير وهي الحال التي يسد اللبن فيها جوعته ويكتفي في غذائه وقد روي عن أبي موسى أنه كان يرى رضاع الكبير وروي عنه ما يدل على رجوعه وهو ما روى أبو حصين عن أبي عطية قال قدم رجل بامرأته من المدينة فوضعت فتورم ثديها فجعل يمجه ويصبه فدخل في بطنه جرعة منه فسأل أبا موسى فقال بانت منك فأتى ابن مسعود فأخبره ففصل فأقبل بالأعرابي إلى الأشعري فقال أرضيعا ترى هذا الأشمط إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم فقال الأشعري لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بين أظهركم وهذا يدل على أنه رجع عن قوله الأول إلى قول ابن مسعود

إذ لولا ذلك لم يقل لا تسألوني عن شيء وهذا الحبر بن أظهركم وكان باقيا على مخالفته وإن ما أفتى به حق وقد روي عن علي وابن عباس وعبدالله وأم سلمة وجابر بن عبدالله وابن عمر أن رضاع الكبير لا يحرم ولا نعلم أحدا من الفقهاء قال برضاع الكبير إلا شيء يروى عن الليث بن سعد يرويه عنه أبو صالح أن رضاع الكبير يحرم وهو قول شاذ لأنه قد روي عن عائشة ما يدل على أنه لا يحرم وهو ما روى الحجاج عن الحكم عن أبي الشعثاء عن عائشة قالت يحرم من الرضاع ما أنبت اللحم والدم وقد روى حرام بن عثمان عن ابن جابر عن أبيهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا يتم بعد حلم ولا رضاع بعد فصال وروي عن النبي ص
- في حديث عائشة الذي قدمنا إنما الرضاعة من المجاعة وفي حديث آخر ما أنبت اللحم وأنشز العظم وهذا ينفي كون الرضاع في الكبير وقد روي حديث عائشة الذي قدمناه في رضاع الكبير على وجه آخر وهو ما روى عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة كانت تأمر بنت عبدالرحمن بن أبي بكر أن ترضع الصبيان حتى يدخلوا عليها إذا صاروا رجالا فإذا ثبت شذوذ قول من أوجب رضاع الكبير فحصل الاتفاق على أن رضاع الكبير غير محرم وبالله التوفيق وقد اختلف فقهاء الأمصار في مدة ذلك فقال أبو حنيفة ما كان من رضاع في الحولين وبعدهما بستة أشهر وقد فطم أو لم يفطم فهو يحرم وبعد ذلك لا يحرم فطم أو لم يفطم وقال زفر بن الهذيل ما دام يجتزئ باللبن ولم يفطم فهو رضاع وإن أتى عليه ثلاث سنين وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والحسن بن صالح والشافعي يحرم في الحولين ولا يحرم بعدهما ولا يعتبر الفطام وإنما يعتبر الوقت وقال ابن وهب عن مالك قليل الرضاع وكثيره محرم في الحولين وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم قليله ولا كثيره وقال ابن القاسم عن مالك الرضاع حولان وشهر أو شهران بعد ذلك ولا ينظر إلى إرضاع أمه إياه إنما ينظر إلى الحولين وشهر أو شهرين قال وإن فصلته قبل الحولين وأرضعته قبل تمام الحولين فهو فطيم فإن ذلك لا يكون رضاعا إذا كان قد استغنى قبل ذلك عن الرضاع فلا يكون ما أرضع بعده رضاعا وقال الأوزاعي إذا فطم لسنة واستمر فطامه فليس بعده رضاع ولو أرضع ثلاث سنين لم يفطم لم يكن رضاعا بعد الحولين وقد روي عن السلف في ذلك أقاويل فروي عن علي لا رضاع بعد فصال وعن عمر وابن عمر لا رضاع إلا ما كان في الصغر وهذا يدل من قولهم على

ترك اعتبار الحولين لأن عليا علق الحكم بالفصال وعمر وابنه بالصغر من غير توقيت وعن أم سلمة أنها قالت إنما يحرم من الرضاع ما كان في الثدي قبل الفطام وعن أبي هريرة لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان في الثدي قبل الفطام فعلق الحكم بما كان قبل الفطام وبما فتق الأمعاء وهو نحو ما روي عن عائشة أنها قالت إنما يحرم من الرضاعة ما أنبت اللحم والدم فهذا كله يدل على أنه لم يكن من مذهبهم اعتبار الحولين وقد روي عن عبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس أنهما قالا لا رضاع بعد الحولين وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الرضاعة من المجاعة يدل على أنه غير متعلق بالحولين لأنه لو كان الحولان توقيتا له لما قال الرضاعة من المجاعة ولقال الرضاعة في الحولين فلما لم يذكر الحولين وذكر المجاعة زمعناها أن اللبن إذا كان يسد جوعته ويقوي عليه بدنه فالرضاعة في تلك الحال وذلك قد يكون بعد الحولين فاقتضى ظاهر ذلك صحة الرضاع الموجب للتحريم بعد الحولين وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا رضاع بعد فصال وذلك يوجب أنه إذا فصل بعد الحولين أن ينقطع حكمه بعد ذلك وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز العظم دلالته على نفي توقيت الحولين بمدة الرضاع لدلالة الأخبار المتقدمة وقد حكي عن ابن عباس قول لست أثق بصحة النقل فيه هو أنه يعتبر ذلك بقوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا فإن ولدت المرأة لستة أشهر فرضاعه حولان كاملان وإن ولدت لتسعة أشهر فأحد وعشرون شهرا وإن ولدت لسبعة أشهر فثلاثة وعشرون شهرا يعتبر فيه تكملة ثلاثين شهرا بالحمل والفصال جميعا ولا نعلم أحدا من السلف والفقهاء بعدهم اعتبر ذلك ولما كانت احوال الصبيان تختلف في الحاجة إلى الرضاع فمنهم من يستغني عنه قبل الحولين ومنهم من لا يستغني عنه بعد كمال الحولين واتفق الجميع على نفي الرضاع للكبير وثبوت الرضاع للصغير على ما قدمنا من الرواية فيه عن السلف ولم يكن الحولان حدا للصغير إذ لا يمتنع أحد أن يسميه صغيرا وإن أتى عليه حولان علمنا أن الحولين ليس بتوقيف لمدة الرضاع ألا ترى أنه ص - لما قال الرضاعة من المجاعة وقال الرضاعة ما أنبت اللحم وأنشز العظم فقد اعتبر معنى تختلف فيه أحوال الصغار وإن كان الأغلب أنهم قد يستغنون عنه بمضي الحولين فسقط اعتبار الحولين في ذلك ثم مقدار الزيادة عليهما طريقة الإجتهاد لأنه تحديد بين الحال التي يكتفى فيها باللبن في غذائه وينبت عليه

لحمه وبين الانتقال إلى الحال التي يكتفى فيها بالطعام ويستغنى عن اللبن وكان عند أبي حنيفة أنه ستة أشهر بعد الحولين وذلك اجتهاد في التقدير والمقادير التي طريقها الاجتهاد لا يتوجه على القائل بها سؤال نحو تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف وتقدير متعة النساء بعد الطلاق وما جرى مجرى ذلك ليس لأحد مطالبة من غلب على ظنه شيء من هذه المقادير بإقامة الدلالة عليه فهذا أصل صحيح في هذا الباب يجري مسائله فيه على منهاج واحد ونظيره ما قال أبو حنيفة في حد البلوغ أنه ثماني عشرة سنة وأن المال لا يدفع إلى البالغ الذي لم يؤنس رشده إلا بعد خمس وعشرين سنة في نظائر لذلك من المسائل التي طريق إثبات المقادير فيها الإجتهاد فإن قال قائل وإن كان طريقة الإجتهاد فلا بد من جهة يغلب معها في النفس اعتبار هذا المقدار بعينه دون غيره فما المعنى الذي أوجب من طريق الإجتهاد اعتبار ستة أشهر بعد الحولين دون سنة تامة على ما قال زفر قيل له أحد ما يقال في ذلك أن الله تعالى لما قال وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ثم قال وفصاله في عامين فعقل من مفهوم الخطابين كون الحمل ستة أشهر ثم جارت الزيادة عليه إلى تمام الحولين إذ لا خلاف أن الحمل قد يكون حولين ولا يكون عندنا الحمل أكثر منهما فلا يخرج الحمل المذكور في هذه الجملة من جملة الحولين كذلك الفصال لا يخرج من جملة ثلاثين شهرا لأنهما جميعا قد انتظمتهما الجملة المذكورة في قوله تعالى وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وكان أبو الحسن يقول في ذلك لما كان الحولان هما الوقت المعتاد للفطام وقد جازت الزيادة عليه بما ذكرنا وجب أن تكون مدة الإنتقال من غذاء اللبن بعد الحولين إلى غذاء الطعام ستة أشهر كما كانت مدة انتقال الولد في بطن الأم إلى غذاء الطعام بالولادة ستة أشهر وذلك أقل مدة الحمل فإن قال قائل قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة نص على أن الحولين تمام الرضاع فغير جائز أن يكون بعده رضاع قيل له إطلاق لفظ الإتمام غير مانع من الزيادة عليه ألا ترى أن الله تعالى قد جعل مدة الحمل ستة أشهر في قوله وحمله وفصاله ثلاثون شهرا وقوله تعالى وفصاله في عامين فجعل مجموع الآيتين الحمل ستة أشهر ثم لم تمتنع الزيادة عليها فكذلك ذكر الحولين للرضاع غير مانع جواز الزيادة عليهما وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

من أدرك عرفة فقد تم حجه ولم تمتنع زيادة الفرض عليها تقدير لما يلزم
الأب من

أجرة الرضاع وأنه غير مجبر على أكثر منهما لإثباته الرضاع بتراضيهما بقوله تعالى فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وبقوله تعالى وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم فلما ثبت الرضاع بعد الحولين دل ذلك على أن حكم التحريم به غير مقصور عليهما فإن قيل هلا اعتبرت الفطام على ما اعتبره مالك في الحولين في حال استغناء الصبي عن اللبن بالطعام بدلالة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - لا رضاع بعد فصال وبما روي عن الصحابة فيه على نحو ما قدمنا ذكره مما يدل كله على اعتبار الفطام قيل له لو وجب ذلك لوجب اعتبار حال الصبي بعد الحولين في حاجته إلى اللبن واستغنائه عنه لأن من الصبيان من يحتاج إلى الرضاع بعد الحولين فلما اتفق الجميع على سقوط اعتبار ذلك بعد الحولين دل على سقوط اعتباره في الحولين ووجب أن يكون حكم التحريم معلقا بالوقت دون غيره فإن قال قائل قد روي في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا رضاع بعد الحولين قيل له المشهور عنه لا رضاع بعد فصال فجائز أن يكون هذا هو أصل الحديث وإن من ذكر الحولين حمله على المعنى وحده وأيضا لو ثبت هذا اللفظ احتمل أن يريد أيضا لا رضاع على الأب بعد الحولين على نحو تأويل قوله تعالى حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وقد تقدم ذكره وأيضا لو كان الحولان هما مدة الرضاع وبهما يقع الفصال لما قال تعالى فإن ارادا فصالا وهذا القول يدل من وجهين على أن الحولين ليسا توقيتا للفصال أحدهما ذكره للفصال منكورا في قوله تعالى فصالا ولو كان الحولان فصالا لقال الفصال حتى يرجع ذكر الفصال إليهما لأنه معهود مشار إليه فلما أطلق فيه لفظ النكرة دل على أنه لم يرد به الحولين والوجه الآخر تعليقه الفصال بإرادتهما وما كان مقصورا على وقت محدود لا يعلق بالإرادة والتراضي والتشاور وفي ذلك دليل على ما ذكرنا وقوله تعالى فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدي إلى صلاح أمر الصغير وذلك موقوف على غالب ظنهما لا من جهة اليقين والحقيقة وفيه أيضا دلالة على أن الفطام في مدة الرضاع موقوف على تراضيهما وأنه ليس لأحدهما أن يفطمه دون الآخر لقوله تعالى فإن ارادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فأجاز ذلك بتراضيهما وتشاورهما وقد روي نحو ذلك عن مجاهد وقد روي عن بعض السلف نسخ في هذه الآية روى شيبان عن قتادة في قوله تعالى

والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ثم أنزل التخفيف بعد ذلك فقال تعالى لمن أراد أن يتم الرضاعة قال أبو بكر كأنه عنده كان رضاع الحولين واجبا ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من مدة الرضاع بقوله تعالى لمن أراد أن يتم الرضاعة وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس مثل قتادة وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن اراد أن يتم الرضاعة ثم قال فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا حرج إن أرادا أن يفطما قبل الحولين أو بعدهما والله أعلم
باب

ذكر عدة المتوفى عنها زوجها
قال الله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا والتربص بالشيء الانتظار به قال الله تعالى فتربصوا به حتى حين وقال تعالى ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر يعني ينتظر وقال تعالى أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون فأمرها الله تعالى بأن يتربصن بأنفسهن هذه المدة عن الأزواج ألا ترى أنه عقبه بقوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن وقد كانت عدة المتوفى عنها زوجها سنة بقوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فتضمنت هذه الآية أحكاما منها توقيت العدة سنة ومنها أن نفقتها وسكناها كانت في تركة زوجها ما دامت معتدة بقوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلىالحول ومنها أنها كانت ممنوعة من الخروج في هذه السنة فنسخ منها من المدة ما زاد على أربعة أشهر وعشرا ونسخ أيضا وجوب نفقتها وسكناها في التركة بالميراث لقوله تعالى أربعة أشهر وعشا من غير إيجاب نفقة ولا سكنى ولم يثبت نسخ الإخراج فالمنع من الخروج في العدة الثانية قائم إذ لم يثبت نسخه وقد حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخرساني عن ابن عباس في هذه الآية يعني قوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج قال كان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها سنة فنسختها آية المواريث فجعل لهن الربع أو الثمن مما ترك الزوج قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا وصية لوارث إلا أن يرضى الورثة

قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد عن حميد عن نافع أنه سمع زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة وأم حبيبة أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم -

فذكرت أن بنتا لها توفي عنها زوجها واشتكت عينها وهي تريد أن تكحلها فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم - قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة عند رأس الحول وإنما هي أربعة أشهر وعشرا قال حميد فسألت زينب وما رميها بالبعرة فقالت كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها عمدت إلى شرى بيت لها فجلست فيه سنة فإذا مرت سنة خرجت فرمت ببعرة من ورائها رواه مالك عن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو عن حميد عن نافع عن زينب بنت أبي سلمة وذكرت الحديث وقالت فيه كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر سنة ثم تؤتى بدابة حمار وشاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطي بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن عدة الحول منسوخة بأربعة أشهر وأخبر ببقاء حظر الطيب عليها في العدة وعدة الحول وإن كانت متأخرة في التلاوة فهي متقدمة في التنزيل وعدة الشهور متأخرة عنها ناسخة لها لأن نظام التلاوة ليس هو على نظام التنزيل وترتيبه واتفق أهل العلم على أن عدة الحول منسوخة بعدة الشهور على ما وصفنا وأن وصية النفقة والسكنى للمتوفى عنها زوجها منسوخة إذا لم تكن حاملا واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها أيضا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ولا خلاف بين أهل العلم أيضا في أن هذه الاية خاصة في غير الحامل واختلفوا في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها على ثلاثة أنحاء فقال علي وهي إحدى الروايتين عن ابن عباس عدتها أبعد الأجلين وقال عمر وعبدالله وزيد بن ثابت وابن عمر وأبو هريرة في آخرين عدتها أن تضع حملها وروي عن الحسن أن عدتها أن تضع حملها وتطهر من نفاسها ولا يجوز لها أن تتزوج وهي ترى الدم وأما علي فإنه ذهب إلى أن قوله تعالى أربعة أشهر وعشرا يوجب الشهور وقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن يوجب انقضاء العدة بوضع الحمل فجمع بين الآيتين في إثبات حكمهما للمتوفى عنها زوجها وجعل انقضاء عدتها أبعد الأجلين من وضع الحمل أومضي الشهور وقال عبدالله بن مسعود من شاء باهلته أن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن نزل بعد قوله أربعة أشهر وعشرا

فحصل بما ذكرنا اتفاق الجميع على أن قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن عام في المطلقة والمتوفى عنها زوجها وإن كان مذكورا عقيب ذكر الطلاق لاعتبار الجميع بالحمل في انقضاء العدة لأنهم قالوا جميعا أن مضي الشهور لا تنقضي به عدتها إذا كانت حاملا حتى تضع حملها فوجب أن يكون قوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن مستعملا على مقتضاه وموجبه وغير جائز اعتبار الشهور معه ويدل على ذلك أيضا عدة الشهور خاصة في غير المتوفى عنها زوجها ويدل عليه أيضا أن قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء مستعمل في المطلقات غير الحوامل وأن الإقراء غير مشروطة مع الحمل في الحامل بل كانت عدة الحامل المطلقة وضع الحمل من غير ضم الإقراء إليها وقد كان جائزا أن يكون الحمل والإقراء مجموعين عدة لها بأن لا تنقضي عدتها بوضع الحمل حتى تحيض ثلاث حيض فكذلك يجب أن تكون عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي الحمل غير مضموم إليه الشهور وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله في هذه الآية حين نزلت وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال فيهما جميعا وقد روت أم سلمة أن سبيعة بنت الحارث ولدت بعد وفاة زوجها بأربعين ليلة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم - بأن تتزوج وروى منصور عن إبراهيم عن الأسود عن أبو السنابل بن بعكك أن سبيعة بنت الحارث وضعت بعد وفاة زوجها ببضع وعشرين ليلة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن تتزوج وهذا حديث قد ورد من طرق صحيحة لا مساغ لأحد في العدول عنه مع ما عضده من ظاهر الكتاب وهذه الآية خاصة في الحرائر دون الإماء لأنه لا خلاف بين السلف فيما نعلمه وبين فقهاء الأمصار في أن عدة الأمة المتوفى عنها زوجها شهران وخمسة أيام نصف عدة الحرة وقد حكي عن الأصم أنها عامة في الأمة والحرة وكذلك يقول في عدة الأمة في الطلاق أنها ثلاث حيض وهو قول شاذ خارج عن أقاويل السلف والخلف مخالف للسنة لأن السلف لم يختلفوا في أن عدة الأمة من الحيض والشهور على النصف من عدة الحرة وقال النبي صلى الله عليه وسلم - طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان وهذا خبر قد تلقاه الفقهاء بالقبول واستعملوه في تنصيف عدة الأمة فهو في حيز التواتر الموجب للعلم عندنا واختلف السلف في المتوفى عنها زوجها إذا لم تعلم بموته وبلغها الخبر فقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر

وعطاء وجابر بن زيد عدتها منذ يوم يموت وكذلك في الطلاق من يوم طلق وهو قول الأسود بن زيد في آخرين وهو قول فقهاء الأمصار وقال علي والحسن البصري وخلاس بن عمرو من يوم يأتيها الخبر في الموت وفي الطلاق من يوم طلق وهو قول ربيعة وقال الشعبي وسعيد بن المسيب إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت وإذا لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر وجائز أن يكون مذهب علي على هذا المعنى بأن يكون قد خفي عليها وقت الموت فأمرها بالاحتياط من يوم يأتيها الخبر وذلك لأن الله تعالى نص على وجوب العدة بالموت والطلاق بقوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن كما قال تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء فأوجب العدة فيهما بالموت وبالطلاق فواجب أن تكون العدة فيهما من يوم الموت والطلاق ولما اتفقوا على أن عدة المطلقة من يوم طلق ولم يعتبروا وقت بلوغ الخبر كذلك عدة الوفاء لأنهما جميعا سببا وجوب العدة وأيضا فإن العدة ليست هي فعلها فيعتبر فيها علمها وإنما هي مضي الأوقات ولا فرق بين علمها بذلك وبين جهلها به وأيضا لما كانت العدة موجبة عن الموت كالميراث وإنا يعتبر في الميراث وقت الوفاة لا وقت بلوغ خبرها وجب أن تكون كذلك العدة وأن لا يختلف فيها حكم العلم والجهل كما لا يختلف في الميراث وأيضا فإن أكثر ما في العلم أن تجتنب ما تجتنبه المعتدة من الخروج والزينة إذا علمت فإذا لم تعلم فترك اجتناب ما يلزم اجتنابه في العدة لم يكن مانعا من انقضاء العدة لأنها لو كانت عالمة بالموت فلم تجتنب الخروج والزينة لم يؤثر ذلك في انقضاء العدة فكذلك إذا لم تعلم به قوله تعالى أربعة أشهر وعشرا ذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال في المتوفى عنها زوجها والمعتدة من الطلاق بالشهور أنه إن وجبت مع رؤية الهلال اعتدت بالأهلة كان الشهر ناقصا أو تاما وإن كانت العدة وجبت في بعض شهر لم تعمل على الأهلة واعتدت تسعين يوما في الطلاق وفي الوفاة مائة وثلاثين يوما وذكر أيضا سليمان بن شعيب عن أبيه عن محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة بخلاف ذلك قال إن كانت العدة وجبت في بعض شهر فإنها تعتد بما بقي من ذلك الشهر أياما ثم تعتد لما يمر عليها من الأهلة شهورا ثم تكمل الأيام الأول ثلاثين يوما وإذا وجبت العدة مع رؤية الهلال اعتدت بالأهلة وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وروي عن مالك في الإجارة مثله وقال ابن

القاسم وكذلك قوله في الأيمان والطلاق وكذلك قال أصحابنا في الإجارة وروى عمرو بن خالد عن زفر في الإيلاء في بعض الشهر أنها تعتد بكل شهر يمر عليها ناقصا أو تاما قال وقال أبو يوسف تعتد بالأيام حتى تستكمل مائة وعشرين يوما ولا تنظر إلى نقصان الشهر ولا إلى تمامه قال أبو بكر وهذا على ما حكاه سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في عدة الشهور ولا خلاف بين الفقهاء في مدة العدد وأجل الإيلاء والأيمان والإجارات إذا عقدت على الشهور مع رؤية الهلال أنه تعتبر الأهلة في سائر شهوره سواء كانت ناقصة أو تامة وإذا كان ابتداء المدة في بعض الشهر فهو على الخلاف الذي ذكرنا وأما وجه من اعتبر في ذلك بقية الشهر الأول بالعدد ثلاثين يوما وسائر الشهود بالأهلة ثم يكمله الشهر الأخر بالأيام مع بقية الشهر الأول فإنه ذهب إلى معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين فدل ذلك على معنيين أحدهما أن كل شهر ابتداؤه وانتهاؤه بالهلال واحتجنا إلى اعتباره فواجب اعتباره بالهلال ناقصا كان أو تاما كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم - باعتباره في صوم رمضان وشعبان وكل شهر لم يكن ابتداؤه وانتهاؤه بالأهلة فهو ثلاثون وإنما ينقص بالهلال فلما لم يكن ابتداء الشهر الأول بالهلال وجب فيه استيفاء ثلاثين يوما من آخر المدة وسائر الشهور لما أمكن استيفاؤها بالأهلة وجب اعتبارها بها وعلى قول من اعتبر سائر الشهور بالأيام يقول لما لم يكن ابتداء المدة بالهلال وجب استيفاء هذا الشهر بالأيام ثلاثون يوما فيكون انقضاؤه في بعض الشهر الذي يليه ثم يكون كذلك حكم سائر الشهور قالوا ولا يجوز أن يجبر هذا الشهر من أحد الشهور ويجعل ما بينهما شهورا بالأهلة لأن الشهور سبيلها أن تكون أيامها متصلة متوالية فوجب استيفاء شهر كامل ثلاثين يوما منذ أول المدة أياما متوالية فيقع ابتداءالشهر الثاني في بعض الشهر الثاني فتكون الشهور وأيامها متوالية متصلة ومن يعتبر الأهلة فيما يستقبل من الشهور بعد بقية الشهر الأول فإنه يحتج بما قد قدمنا ذكره من أنه قد استقبل الشهر الذي يليه بالهلال فوجب أن يكون انتهاؤه بالهلال قال الله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واتفق أهل العلم بالنقل أنها كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشرا من ربيع الآخر فاعتبر الهلال فيما يأتي من الشهور دون عدد الأيام فوجب مثله في نظائره من المدة وقوله تعالى وعشرا

ظاهرها أنها الليالي والأيام مرادة معها ولكن غلبت الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ وغيره لأن ابتداء شهور الأهلة بالليالي منذ طلوع الأهلة فلما كان ابتداؤها الليل غلبت الليالي وخصت بالذكر دون الأيام وإن كانت تفيد ما بإزائها من الأيام ولو ذكر جمعا من الأيام أفادت ما بإزائها من الليالي والدليل عليه قوله تعالى ثلاثة ايام إلا رمزا وقال تعالى في موضع آخر ثلاث ليال سويا والقصة واحدة فاكتفى تارة بذكر الأيام عن الليالي وتارة بذكر الليالي عن الأيام وقال النبي صلى الله عليه وسلم - الشهر تسع وعشرون وفي لفظ آخر تسعة وعشرون فدل على أن كل واحد من العددين إذا أطلق أفاد بإزائه من الآخر ألا ترى أنه لما اختلف العددان من الليالي والأيام فصل بينهما في اللفظ في قوله تعالى سبع ليال وثمانية أيام حسوما وذكر الفراء أنهم يقولون صمنا عشرا من شهر رمضان فيعبرون بذكر الليالي عن الأيام لأن عشرا لا تكون إلا الليالي ألا ترى أنه لو

قال
عشرة أيام لم يجز فيها إلا التذكير وأنشد الفراء ... اقامت ثلاثا بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تضيف وتجارا ... فقال ثلاثا وهي الليالي وذكر اليوم والليلة في المراد وإذا ثبت ما وصفنا كان قوله تعالى أربعة أشهر وعشرا مفيدا لكون المدة أربعة أشهر على ما قدمنا من الاعتبار وعشرة أيام زائدة عليها وإن كان لفظ العدد واردا بلفظ التأنيث
ذكر الإختلاف في خروج المعتدة من بيتها
قال أصحابنا لا تنتقل المبتوتة ولا المتوفى عنها زجها عن بيتها الذي كانت تسكنه وتخرج المتوفى عنها زوجها بالنهار ولا تبيت في غير منزلها ولا تخرج المطلقة ليلا ولا نهارا إلا من عذر وهو قول الحسن وقال مالك لا تنتقل المطلقة المبتوتة ولا الرجعية ولا المتوفى عنها ولا يخرجن بالنهار ولا يبتن عن بيوتهن وقال الشافعي ولم يكن الإحداد في سكنى البيوت فتسكن المتوفى عنها زوجها أي بيت كانت فيه جيدا أو رديا وإنما الإحداد في الزينة قال أبو بكر أما المطلقة فلقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فحظر خروجها وإخراجها في العدة إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وذلك ضرب من العذر فأباح خروجها لعذر وقد اختلف في الفاحشة المذكورة في هذه الآية وسنذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى وأما المتوفى عنها زوجها فإن الله تعالى قال في العدة الأولى

متاعا إلى الحول غير إخراج ثم نسخ منها ما زاد على الأربعة الأشهر والعشر فبقي حكم هذه العدة الثانية على ما كان عليه من ترك الخروج إذ لم يرد لها نسخ وإنما النسخ فيما زاد وقد وردت السنة بمثل ما دل عليه الكتاب حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن سلمة القعنبي عن مالك عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها قتله عبد له فسألت رسول
الله ص - أن أرجع إلى أهلي فإنه لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نعم قالت فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني فقال كيف قلت فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي قالت فقال امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت فلما كان عثمان أرسل إلي وسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به وقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال حدثنا موسى بن مسعود قال حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح قال قال عطاء قال ابن عباس نسخت هذه الآية عدتها عند أهله فتعتد حيث شاءت وهو قول الله عز و جل غير إخراج قال عطاء إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في منزلها وإن شاءت خرجت لقول الله تعالى فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن قال عطاء ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت قال أبو بكر ليس في إيجاب الميراث ما يوجب نسخ الكون في المنزل وقد يجوز اجتماعهما فليس في ثبوت أحدهما نفي الآخر وقد ثبت ذلك ايضا بسنة الرسول ص - بعد نسخ الحول وإيجاب الميراث لأن عدة الفريعة كانت أربعة أشهر وعشرا وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم - عن النقلة وما روينا من قصة الفريعة قد دل على معنيين أحدهما لزوم السكون في المنزل الذي كانت تسكنه يوم الوفاة والنهي عن النقلة والثاني جواز الخروج إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم - الخروج ولو كان الخروج محظورا لنهاها عنه وقد روي مثل ذلك عن جماعة من السلف منهم عبدالله بن مسعود وعمر وزيد بن ثابت وأم سلمة وعثمان أنهم قالوا المتوفى عنها زوجها تخرج بالنهار ولا تبيت عن بيتها وروى عبدالرزاق عن ابن كثير عن مجاهد قال استشهد رجال يوم أحد فآمنت نساؤهم وكن متجاورات في دار

فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقلن نبيت عند إحدانا فقال تزاورن بالنهار فإذا كان الليل فلتأو كل واحدة منكن إلى بيتها وروي عن جماعة من السلف أن المتوفى عنها زوجها تعتد حيث شاءت منهم علي وابن عباس وجابر بن عبدالله وعائشة وما قدمنا من دليل الكتاب والسنة يوجب صحة القول الأول فإن قيل قال الله تعالى متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف فهذا يدل على أن لها أن تنتقل قيل له المعنى فإذا خرجن بعد انقضاء العدة كما قال في الآية الأخرى فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن ويدل على أن المراد ما ذكرنا أنها لو خرجت قبل انقضاء العدة لم يكن لها أن تتزوج بالاتفاق فدل ذلك على أن المراد فإذا خرجن بعد انقضاء العدة وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان حظر الانتقال باقيا على المتوفى عنها زوجها وإنما قالوا إن المطلقة لا تخرج ليلا ولا نهارا لقوله تعالى ولا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وذلك عموم في جميعهن وحظر عن خروجهن في سائر الأوقات وخالفت المتوفى عنها زوجها فهي مستغنية عن الخروج والله أعلم
باب ذكر إحداد المتوفى عنها زوجها

روي
عن جماعة من الصحابة أن عليها اجتناب الزينة والطيب منهم عائشة وأم سلمة وابن عمر وغيرهم ومن التابعين سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وحكاه عن فقهاء المدينة وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار لا خلاف بينهم فيه وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي عن مالك عن عبدالله بن أبي بكر عن حميد بن نافع عن زينب بنت بن أبي سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث قالت زينب دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت منه جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليالي إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب ودخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول وهو على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قالت زينب وسمعت أمي أم سلمة تقول

جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقالت يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها
فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لامرأتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنما هي أربعة أشهر وعشرا وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول قال حميد فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس الحول فقالت زينب كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتضي بشيء إلا مات ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره فحظر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم - الاكتحال في العدة وأخبر بالعدة التي كانت تعتد إحداهن وما تجتنبه من الزينة والطيب ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشرا فدل بذلك علىأن هذه العدة محتدا بها العدة التي كانت سنة في اجتناب الطيب والزينة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير قال حدثنا يحيى بن أبي بكير قال حدثنا إبراهيم بن طهمان قال حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -
عن النبي ص
-
أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا
الحلية ولا تختضب ولا تكتحل وروى أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل وروت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لها وهي معتدة من زوجها لا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب قوله عز و جل والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم الآية قد تضمنت هذه الآية أربعة أحكام أحدها الحول وقد نسخ منه ما زاد على أربعة أشهر وعشرا والثاني نفقتها وسكناها في مال الزوج فقد نسخ بالميراث على ما روي عن ابن عباس وغيره لأن الله تعالى أوجبها لها على وجه الوصية لأزواجهم كما كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت بالميراث وقول النبي صلى الله عليه وسلم -
لا وصية لوارث ومنها الإحداد الذي دلت عليه الدلالة من الآية فحكمه باق
بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومنها انتقالها عن بيت زوجها فحكمه باق في حظره فنسخ من الآية حكمان وبقي حكمان ولا نعلم آية اشتملت على أربعة أحكام فنسخ منها اثنان وبقي اثنان غيرها ويحتمل أن يكون قوله تعالى غير إخراج منسوخا لأن المراد به السكنى الواجبة في مال الزوج فقد نسخ كونها في مال الزوج فصار حظر

الإخراج منسوخا إلا أن قوله تعالى غير إخراج قد تضمن معنيين أحدهما وجوب السكنى في مال الزوج والثاني حظر الخروج والإخراج لأنهم إذا كانوا ممنوعين من إخراجها فهي لا محالة مأمورة باللبس فإذا نسخ وجوب السكنى في مال الزوج بقي حكم لزوم اللبث في البيت وقد اختلف أهل العلم في نفقة المتوفى عنها زوجها فقال ابن عباس وجابر بن عبدالله نفقتها على نفسها حاملا كانت أو غير حامل وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء وقبيصة بن ذؤيب وروى الشعبي عن علي وعبدالله قالا إذا مات عنها زوجها فنفقتها من جميع المال وروى الحكم عن إبراهيم قال كان أصحاب عبدالله يقضون في الحامل المتوفى عنها زوجها إن كان المال كثيرا فنفقتها من نصيب ولدها وإن كان قليلا فمن جميع المال وروى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال ينفق عليها من جميع المال وقال أصحابنا جميعا لا نفقة لها ولا سكنى في مال الميت حاملا كانت أو غير حامل وقال ابن أبي ليلى هي في مال الزوج بمنزلة الدين على الميت إذا كانت حاملا وقال مالك بن أنس نفقتها على نفسها وإن كانت حاملا ولها السكنى إن كانت الدار للزوج وإن كان عليه دين فالمرأة أحق بسكناها حتى تنقضي عدتها وإن كانت في بيت بكراء فأخرجوها لم يكن لها سكنى في مال الزوج هذا رواية ابن وهب عنه وقال ابن القاسم عنه لا نفقة لها في مال الميت ولها السكنى إن كانت الدار للميت وإن كان عليه دين فهي أحق بالسكنى من الغرماء وتباع للغرماء ويشترط السكنى على المشتري وقال الثوري إن كانت حاملا أنفق عليها من جميع المال حتى تضع فإذا وضعت أنفق على الصبي من نصيبه هذه رواية الأشجعي عنه وروى عنه المعافى أن نفقتها من حصتها وقال الأوزاعي في المرأة يموت زوجها وهي حامل فلا نفقة لها وإن كانت أم ولد فلها النفقة من جميع المال حتى تضع وقال الليث بن سعد في أم الولد إذا كانت حاملا منه فإنه ينفق عليها من المال فإن ولدت كان ذلك في حظ ولدها وإن لم تلد كان ذلك دينا يتبع به وقال الحسن بن صالح للمتوفى عنها زوجها النفقة من جميع المال وقال الشافعي في المتوفى عنها زوجها قولين أحدهما لها النفقة والسكنى والآخر لا نفقة لها ولا سكنى قال أبو بكر لا تخلو نفقة الحامل من أحد ثلاثة أوجه إما أن تكون واجبة على حسب وجوبها بديا حين كانت عدتها حولا في قوله تعالى وصية لأزواجهم متاعا إلىالحول غير إخراج أو أن تكون واجبة على حسب وجوبها للمطلقة المبتوتة أو تجب للحامل

دون غيرها لأجل الحمل والوجه الأول باطل لأنها كانت واجبة على وجه الوصية والوصية للوارث منسوخة والوجه الثاني لا يصح أيضا من قبل أن النفقة لم تكن واجبة في حال الحياةوإنما تجب حالا فحالا على حسب مضي الأوقات وتسليم نفسها في بيت الزوج ولا يجوز إيجابها بعد الموت من وجهين أحدهما أن سبيلها أن يحكم بها الحاكم على الزوج ويثبتها في ذمته وتؤخذ من ماله وليس للزوج ذمة فتثبت فيها فلم يجز أخذها من ماله إذا لم تثبت عليه والثاني أن ذلك الميراث قد انتقل إلى الورثة بالموت إذا لم يكن هناك دين عند الموت فغير جائز إثباتها في مال الورثة ولا في مال الزوج فتؤخذ منه وإن كانت حاملا لم يخل إيجاب النفقة لها في مال الزوج من أحد وجهين إما أن يكون وجوبها متعلقا بكونها في العدة أو لأجل الحمل وقد بينا أن إيجابها لأجل العدة غير جائز ولا يجوز إيجابها لأجل الحمل لأن الحمل نفسه لا يستحق نفقة على الورثة إذ هو موسر مثلهم بميراثه ولو ولدته لم تجب نفقته على الورثة فكيف تجب له في حال الحمل فلم يبق وجه يستحق به النفقة والله أعلم
باب

التعريض بالخطبة في العدة
قال الله تعالى ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم الآية وقد قيل في الخطبة أنها الذكر الذي يستدعي به إلى عقدة النكاح والخطبة بالضم الموعظة المتسقة على ضروب من التأليف وقد قيل أيضا إن الخطبة ماله أول وآخر كالرسالة والخطبة للحال نحو الجلسة والقعدة وقيل في التعريض أنه ما تضمن الكلام من الدلالة على شيء من غير ذكر له كقول القائل ما أنا بزان يعرض بغيره أنه زان ولذلك رأى عمر فيه الحد وجعله كالتصريح والكناية العدول عن صريح اسمه إلى ذكر يدل عليه كقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر يعني القرآن فالهاء كناية عنه وقال ابن عباس التعريض بالخطبة أن يقول لها إني أريد أن أتزوج امرأة من أمرها وأمرها يعرض لها بالقول وقال الحسن هو أن يقول لها إني بك لمعجب وإني فيك لراغب ولا تفوتينا نفسك وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس وهي في العدة لا تفوتينا نفسك ثم خطبها بعد انقضاء العدة على أسامة بن زيد وقال عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه قال هو أن يقول لها وهي في العدة إنك لكريمة وإني فيك لراغب وإن الله لسائق إليك خيرا أو نحو هذا من القول

وقال عطاء هو أن يقول إنك لجميلة وإني فيك لراغب وإن قضىالله شيئا كان فكان التعريض أن يتكلم بكلام يدل فحواه على رغبته فيها ولا يخطبها بصريح القول قال سعيد بن جبير في قوله تعالى إلا أن تقولوا قولا معروفا أن يقول إني فيك لراغب وإني لأرجو أن نجتمع وقوله تعالى أو أكننتم في أنفسكم يعني أضمرتموه من التزويج بعد انقضاء عدتها فأباح التعريض بالخطبة وإضمار نكاحها من غير إفصاح به وذكر إسماعيل بن إسحاق عن بعض الناس أنه احتج في نفي الحد في التعريض بالقذف بأن الله تعالى لم يجعل التعريض في هذا الموضع بمنزلة التصريح كذلك لا يجعل التعريض بالقذف كالتصريح قال إسماعيل فاحتج بما هو حجة عليه إذ التعريض بالنكاح قد فهم به مراد القائل فإذا فهم به مراده وهو القذف حكم عليه بحكم القاذف قال وإنما يزيل الحد عن المعرض بالقذف من يزيله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف إذ كان محتملا لغيره قال وينبغي على قوله هذا أن يزعم أن التعريض بالقذف جائز مباح كما أبيح التعريض بالخطبة بالنكاح قال وإنما اختير التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جوابا منها ولا يقتضي التعريض جوابا في الأغلب فلذلك افترقا قال أبو بكر الكلام الأول الذي حكاه عن خصمه في الدلالة على نفي الحد بالتعريض صحيح ونقضه ظاهر الاختلال واضح الفساد ووجه الإستدلال به على نفي الحد بالتعريض أنه لما حظر عليه المخاطبة بعقد النكاح صريحا وأبيح له التعريض به اختلف حكم التعريض والتصريح في ذلك على أن التعريض بالقذف مخالف لحكم التصريح وغير جائز التسوية بينهما كما خالف الله بين حكمهما في خطبة النكاح وذلك لأنه معلوم أن الحدود مما يسقط بالشبهة فهي في حكم السقوط والنفي آكد من النكاح فإذا لم يكن التعريض في النكاح كالتصريح وهو آكد في باب الثبوت من الحد كان الحد أولى أن لا يثبت بالتعريض من حيث دل على أنه لو خطبها بعد انقضاء العدة بالتعريض لم يقع بينهما عقد النكاح فكان تعريضه بالعقد مخالفا للتصريح فالحد أولى أن لا يثبت بالتعريض وكذلك لم يختلفوا أن الإقرار في العقود كلها لا يثبت بالتعريض ويثبت بالتصريح لأن الله فرق بينهما في النكاح فكان الحد أولى أن لا يثبت به وهذه الدلالة واضحة على الفرق بينهما في سائر ما يتعلق حكمه بالقول وهي كافية مغنية في جهة الدلالة على ما وصفنا وإن أرادنا رده إليه من جهة القياس

لعلة تجمعهما كان سائغا وذلك أن النكاح حكمه متعلق بالقول كالقذف فلما اختلف حكم التصريح والتعريض بالخطبة بهذا المعنى ثبت حكمه بالتعريض وإن كان حكمه ثابتا بالإفصاح والتصريح كما حكم الله به في النكاح وأما قوله إن التعريض بالقذف ينبغي أن يكون بمنزلة التصريح لأنه قد عرف مراده كما عرف بالتصريح فإني أظنه نسي عند هذا القول حكم الله تعالى في الفصل بين التعريض والتصريح بالخطبة إذ كان المراد مفهوما مع الفرق بينهما لأنه إن كان الحكم متعلقا بمفهوم المراد فلذلك بعينه موجود في الخطبة فينبغي أن يستوي حكمهما فيها فإذا كان نص التنزيل قد فرق بينهما فقد انتقض هذا الإلزام وصح الإستدلال به على ما وصفنا وأما قوله إن من أزال الحد عن المعرض بالقذف فإنما أزاله لأنه لم يعلم بتعريضه أنه أراد القذف لاحتمال كلامه لغيره فإنها وكالة لم تثبت عن الخصم وقضاء على غائب بغير بينة وذلك لأن أحدا لا يقول بأن حد القذف متعلق بإرادته وإنما يتعلق عند خصومه بالإفصاح به دون غيره فالذي يحيل به خصمه من أنه أزال الحد لأنه لم يعلم مراده لا يقبلونه ولا يعتمدونه وأما إلزامه خصمه أن يبيح التعريض بالقذف كما يبيح التعريض بالنكاح فإنه كلام رجل غير مثبت فيما يقوله ولا ناظر في عاقبة ما يؤل إليه حكم إلزامه له فنقول إن خصمه الذي احتج به لم يجعل ما ذكره علة للإباحة حتى يلزم عليه إباحة التعريض بالقذف وإنما استدل بالآية على إيجاب الفرق بين التعريض والتصريح فأما الحظر موقوفان على دلالتهما من غير هذا الوجه وأما قوله إنما حيز التعريض بالنكاح دون التصريح لأن النكاح لا يكون إلا منهما ويقتضي خطبته جوابا منها ولا يقتضي التعريض جوابا في الأغلب فإنه كلام فارغ لا معنى تحته وهو مع ذلك منتقض وذلك التعريض بالنكاح والتصريح به لا يقتضي واحد منهما جوابا لأن النهي إنما انصرف إلى خطبتها لوقت مستقبل بعد انقضاء العدة بقوله تعالى ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا وذلك لا يقتضي الجواب كما لا يقتضي التعريض ولم يجز الخطاب عن النهي عن العقد المقتضي للجواب حتى يفرق بينهما بما ذكر فقد بان بذلك أنه لا فرق بين التعريض والتصريح في نفي اقتضاء الجواب وهذا الموضع هو الذي فرقت الآية فيه بين الأمرين فأما العقد المقتضي للجواب فإنما هو منهي عنه بقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وإن كان نهيه عن العقد نفسه فقد

اقتضاه نهيه عن الإفصاح بالخطبة من جهة الدلالة كدلالة قوله تعالى ولا تقل لهما أف على حظر الشتم والضرب وأما وجه انتقاضه فإنه لا خلاف أن العقود المقتضية للجواب لا تصح بالتعريض وكذلك الإقرارات لا تصح بالتعريض وإن لم تقتض جوابا من المقر له فلم يختلف حكم ما يقتضي من ذلك جوابا ومالا يقتضيه فعلمت أن اختلافهما من هذا الوجه لا يوجب الفرق بينهما وأما قوله تعالى ولكن لا تواعدوهن سرا فإنه مختلف في المراد به فقال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي ومجاهد مواعدة السر أن يأخذ عليها عهدا أو ميثاقا أن تحبس نفسها عليه ولا تنكح زوجا غيره وقال الحسن وإبراهيم وأبو مجلز ومحمد وجابر بن زيد لا تواعدوهن سرا الزنا وقال زيد بن أسلم لا تواعدهن سرا لا تنكح المرأة في عدتها ثم تقول سأسره ولا يعلم به أو يدخل عليها فيقول لا يعلم بدخولي حتى تنقضي العدة قال أبو بكر اللفظ محتمل لهذه المعاني كلها لأن الزنا قد يسمى سرا قال الحطيئة ... ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع ... وأراد بالسر الزنا وصفهم بالعفة عن نساء جيرانهم وقال رؤبة يصف حمار الوحش وأتانه لما كف عنها حين حملت ... قد أحضنت مثل دعاميص الرنق ... أجنة في مستكنات الحلق ... فعف عن أسرارها بعد العسق ... يعني بعد اللزوق يقال عسق به إذا لزق به وأراد بالسر ههنا الغشيان وعقدالنكاح نفسه يسمى سرا كما يسمى به الوطء ألا ترى أن الوطء والعقد كل واحد منهما يسمى نكاحا ولذلك ساغ تأويل الآية على الوطء وعلى العقد وعلى التصريح بالخطبة لما بعد انقضاء العدة وأظهر الوجوه وأولاها بمراد الآية مع احتمالها لسائر ما ذكرنا ما روي عن ابن عباس ومن تابعه وهو التصريح بالخطبة وأخذ العهد عليها أن تحبس نفسه عليه ليتزوجها بعد انقضاء العدة لأن التعريض المباح إنما هو في عقد يكون بعد انقضاء العدة وكذلك التصريح واجب أن يكون حظره من هذا الوجه بعينه ومن جهة أخرى أن ذلك معنى لم نستفده إلا بالآية فهو لا محالة مراد بها وأما حظر إيقاع العقد في العدة فمذكور باسمه في نسق التلاوة بقوله تعالى ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله فإذا كان ذلك

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19