كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

في آثار شائعة النهي عن قتل النساء والولدان وروي عنه أيضا النهي عن قتل أصحاب الصوامع رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

فإن كان معنى الآية على ما قال الربيع بن أنس أنه أمر فيها بقتال من قاتل
والكف عمن لا يقاتل فإن قوله وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ناسخ لمن يلي وحكم الآية كان باقيا فيمن لا يلينا منهم ثم لما نزل قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم إلى قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام فكان ذلك أعم من الأول الذي فيه الأمر بقتال من يلينا دون من لا يلينا إلا أن فيه ضربا من التخصيص بحظره القتال عند المسجد الحرام إلا على شرط أن يقاتلونا فيه بقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ثم نزل الله فرض قتال المشركين كافة بقوله وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقوله كتب عليكم القتال وهو كره لكم وقوله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فمن الناس من يقول إن قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام منسوخ بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ومنهم من يقول هذا الحكم ثابت لا يقاتل في الحرم إلا من قاتل ويؤيد ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال يوم فتح مكة إن مكة حرام حرمها الله يوم خلق السموات والأرض فإن
ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها فإنما أحلت له ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة فدل ذلك على أن حكم الآية باق غير منسوخ وأنه لا يحل أن نبتدىء فيها بالقتال لمن لم يقاتل وقد كان القتال محظورا في الشهر الحرام بقوله يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد ثم نسخ بقوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ومن الناس من يقول هو غير منسوخ والحظر باق وأما قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم فإنه أمر بقتل المشركين إذا ظفرنا بهم وهي عامة في قتال سائر المشركين من قاتلنا منهم ومن لم يقاتلنا بعد أن يكونوا من أهل القتال لأنه لا خلاف أن قتل النساء والذراري محظور وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم -
وعن قتل أهل الصوامع فإن كان المراد بقوله وقاتلوا
في سبيل الله الذين يقاتلونكم الأمر بقتال من قاتلنا ممن هو أهل القتال دون من كف عنا منهم وكان قوله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين نهي عن قتال من لم يقاتلنا فهي لا محالة

منسوخة بقوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم لإيجابه قتل من حظر قتله في الآية الأولى بقوله وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إذ كان الاعتداء في هذا الموضع هو قتال من لم يقاتل وقوله وأخرجوهم من حيث أخرجوكم يعني والله أعلم من مكة إن أمكنكم ذلك لأنهم قد كانوا آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج فكانوا مخرجين لهم وقد قال الله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك فأمرهم الله تعالى عند فرضه القتال بإخراجهم إذا تمكنوا من ذلك إذ كانوا منهيين عن القتال فيها إلا أن يقاتلوهم فيكون قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم عاما في سائر المشركين إلا فيمن كان بمكة فإنهم أمروا بإخراجهم منها إلا لمن قاتلهم فإنه أمر بقتالهم حينئذ والدليل على ذلك قوله في نسق التلاوة ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فثبت أن قوله واقتلوهم حيث ثقفتموهم فيمن كان بغير مكة وقوله والفتنة أشد من القتل روي عن جماعة من السلف أن المراد بالفتنة ههنا الكفر وقيل إنهم كانوا يفتنون المؤمنين بالتعذيب ويكرهونهم على الكفر ثم عيروا المؤمنين بأن قتل واقد بن عبدالله وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

عمرو بن الحضرمي وكان مشركا في الشهر الحرام وقالوا قد استحل محمد القتال
في الشهر الحرام فأنزل الله والفتنة أشد من القتل يعني كفرهم وتعذيبهم المؤمنين في البلد الحرام والشهر الحرام أشد وأعظم مأثما من القتل في الشهر الحرام وأما قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن المراد بقوله حتى يقاتلوكم فيه حتى يقتلوا بعضكم كقوله ولا تلمزوا أنفسكم يعني بعضكم بعضا إذ غير جائز أن يأمر بقتلهم بعد أن يقتلوهم كلهم وقد أفادت الآية حظر القتل بمكة لمن لم يقتل فيها فيحتج بها في حظر قتل المشرك الحربي إذا لجأ إليها ولم يقاتل ويحتج أيضا بعمومها فيمن قتل ولجأ إلى الحرم في أنه لا يقتل لأن الآية لم تفرق بين من قتل وبين من لم يقتل في حظر قتل الجميع فلزم بمضمون الآية أن لا نقتل من وجدنا في الحرم سواء كان قاتلا أو غير قاتل إلا أن يكون قد قتل في الحرم فحينئذ يقتل بقوله فإن قاتلوكم فاقتلوهم فإن قيل هو منسوخ بقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله قيل له إذا أمكن استعمالهما لم يثبت النسخ لا سيما مع اختلاف الناس في نسخه فيكون قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة في غير الحرم ونظيره في حظر

قتل من لجأ إلى الحرم وإن كان جانيا قوله ومن دخله كان آمنا وقد تضمن ذلك أمنا من خوف القتل فدل على أن المراد من دخله وقد استحق القتل أنه يأمن بدخوله وكذلك قوله وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا كل ذلك دل على أن اللاجىء إلى الحرم المستحق للقتل يأمن به ويزول عنه القتل بمصيره إليه ومع ذلك فإن قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله إذا كان نازلا مع أول الخطاب عند قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام فغير جائز أن يكون ناسخا له لأن النسخ لا يصح إلا بعد التمكن من الفعل وغير جائز وجود الناسخ والمنسوخ في خطاب واحد وإذا كان الجميع مذكورا في خطاب واحد على ما يقتضيه نسق التلاوة ونظام التنزيل فغير جائز لأحد إثبات تاريخ الآيتين وتراخي نزول إحداهما عن الأخرى إلا بالنقل الصحيح ولا يمكن أحد دعوى نقل صحيح في ذلك وإنما روي ذلك عن الربيع بن أنس فقال هو منسوخ بقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقال قتادة هو منسوخ بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وجائز أن يكون ذلك تأويلا منه ورأيا لأن قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم لا محالة نزل بعد سورة البقرة لا يختلف أهل النقل في ذلك وليس فيه مع ذلك دلالة على النسخ لإمكان استعمالهما بأن يكون قوله فاقتلوا المشركين مرتبا على قوله ولا تقتلوهم عند المسجد فيصير قوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إلا عند المسجد الحرام إلا أن يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس وأبي شريح الخزاعي وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - خطب يوم فتح مكة فقال يا أيها الناس إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة وفي بعض الأخبار فإن ترخص مترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإنما أحلت لي ساعة من نهار فثبت بذلك حظر القتال في الحرم إلا أن يقاتلوا وقد روى عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحاق قال حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الخزاعي هذا الحديث وقال فيه وإنما أحل لي القتال بها ساعة من نهار ويدل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه خطب يومئذ حين قتل رجل من خزاعة رجلا من هذيل ثم قال إن أعتى الناس على الله ثلاثة رجل قتل غير قاتله ورجل قتل في الحرم ورجل قتل بذحل الجاهلية وهذا يدل على

تحريم القتل في الحرم لمن لم يجن فيه من وجهين أحدهما عموم الذم للقاتل في الحرم والثاني قد ذكر معه قتل من لم يستحق القتل فثبت أن المراد قتل من استحق القتل فلجأ وأن ذلك إخبار منه بأن الحرم يحظر قتل من لجأ إليه وهذه الآي التي تلوناها في حظر قتل من لجأ إلى الحرم فإن دلالتها مقصورة على حظر القتل فحسب ولا دلالة فيها على حكم ما دون النفس لأن قوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام مقصور على حكم القتل وكذلك قوله ومن دخله كان آمنا وقوله مثابة للناس وأمنا ظاهره الأمن من القتل وإنما يدخل ما سواه بدلالة لأن قوله ومن دخله إسم للإنسان وقوله كان آمنا راجع إليه فالذي اقتضت الآية أمانه هو الإنسان لا أعضاؤه ومع ذلك فإن كان اللفظ مقتضيا للنفس فما دونها فأما ما خصصنا دونها بدلالة وحكم اللفظ باق في النفس ولا خلاف أيضا أن من لجأ إلى الحرم وعليه دين أنه يحبس به وإن دخوله الحرم لا يعصمه من الحبس كذلك كل ما لم يكن نفسا من الحقوق فإن الحرم لا يعصمه منه قياسا على الديون وأما قوله عز و جل فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم يعني فإن انتهوا عن الكفر فإن الله يغفر لهم لأن قوله فإن انتهوا شرط يقتضي جوابا وهذا يدل على أن قاتل العمد له توبة إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل وقد أخبر الله أنه يقبل التوبة منه ويغفر له وقوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله يوجب فرض قتال الكفار حتى يتركوا الكفر قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع بن أنس الفتنة ههنا الشرك وقيل إنما سمي الكفر فتنة لأنه يؤدي إلى الهلاك كما يؤدي إليه الفتنة وقيل إن الفتنة هي الاختبار والكفر عند الاختبار إظهار الفساد وأما الدين فهو الانقياد لله بالطاعة وأصله في اللغة ينقسم إلى معنيين أحدهما الانقياد كقول الأعشى ... هو دان الرباب اذكر هو الدين ... دراكا بغزوة وصيال ... ثم دانت بعد الرباب وكانت ... كعذاب عقوبة الأقوال ...
والآخر العادة من قول الشاعر ... تقول وقد درأت لها وضيني ... أهذا دينه أبدا وديني ...
والدين الشرعي هو الانقياد لله عز و جل والاستسلام له على وجه المداومة والعادة وهذه الآية خاصة في المشركين دون أهل الكتاب لأن ابتداء الخطاب جرى بذكرهم

في قوله عز و جل واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم وذلك صفة مشركي أهل مكة الذين أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم -

وأصحابه فلم يدخل أهل الكتاب في هذا الحكم وهذا يدل على أن مشركي العرب
لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف لقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة يعني كفرا ويكون الدين لله ودين الله هو الإسلام لقوله إن الدين عند الله الإسلام وقوله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين المعنى فلا قتل إلا على الظالمين يعني والله أعلم القتل المبدوء بذكره في قوله وقاتلوهم وسمي القتل الذي يستحقونه بكفرهم عدوانا لأنه جزاء الظلم فسمي باسمه كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وإن لم يكن الجزاء اعتداء ولا سيئة قوله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص روى عن الحسن أن مشركي العرب قالوا للنبي ص -
أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام قال نعم وأراد المشركون أن يغيروه في
الشهر الحرام فيقاتلوه فأنزل الله تعالى الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص يعني إن استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم مثله وروى ابن عباس والربيع بن أنس وقتادة والضحاك أن قريشا لما ردت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام في الشهر الحرام فأدخله الله مكة في العام المقبل في ذي القعدة فقضى عمرته وأقصه بما حيل بينه وبينه في يوم الحديبية ويمتنع أن يكون المراد الأمرين فيكون إخبارا بما أقصه الله من الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت بشهر مثله في العام القابل وقد تضمن مع ذلك إباحة القتال في الشهر الحرام إذا قاتلهم المشركون لأن لفظا واحدا لا يكون خبرا وأمرا ومتى حصل على أحد المعنيين انتفى الآخر إلا أنه جائز أن يكون إخبارا بما عوض الله نبيه من فوات العمرة في الشهر الحرام الذي صده المشركون عن البيت شهرا مثله في العام القابل وكانت حرمة الشهر الذي أبدل كحرمة الشهر الذي فات فلذلك قال والحرمات قصاص ثم عقب تعالى ذلك بقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فأفاد أنهم إذا قاتلوهم في الشهر الحرام فعليهم أن يقاتلوهم فيه وإن لم يجز لهم أن يبتدؤهم بالقتال وسمى الجزاء اعتداء لأنه مثله في الجنس وقدر الاستحقاق على ما يوجبه فسمي باسمه على وجه المجاز لأن المعتدي في الحقيقة هو الظالم وقوله تعالى

فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم عموم في أن من استهلك لغيره مالا كان عليه مثله وذلك المثل ينقسم إلى وجهين أحدهما مثله في جنسه وذلك في المكيل والموزون والمعدود والآخر مثله في قيمته لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في عبد بين رجلين أعتقه أحدهما وهو موسر أن عليه ضمان نصف قيمته فجعل المثل اللازم بالاعتداء هو القيمة فصار أصلا في هذا الباب وفي أن المثل قد يقع على القيمة ويكون اسما لها ويدل على أن المثل قد يكون اسما لما ليس هو من جنسه إذا كان في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من الجزاء أن من اعتدى على غيره بقذف لم يكن المثل المستحق عليه أن يقذف بمثل قذفه بل يكون المثل المستحق عليه هو جلد ثمانين وكذلك لو شتمه بما دون القذف كان عليه التعزير وذلك مثل لما نال منه فثبت بذلك ان اسم المثل قد يقع على ما ليس من جنسه بعد أن يكون في وزانه وعروضه في المقدار المستحق من طريق الجزاء ويحتج بذلك في أن من غصب ساجة فأدخلها في بنائه أن عليه قيمتها لأن القيمة قد تناولها اسم المثل فمن حيث كان الغاصب معتديا بأخذها كان عليه مثلها لحق العموم فإن قيل إذا نقضنا بناءه وأخذناها بعينها فقد اعتدينا عليه بمثل ما اعتدى قيل له أخذ ملكه بعينه لا يكون اعتداء على الغاصب كما أن من له عند رجل وديعة فأخذها لم يكن معتديا عليه وإنما الاعتداء عليه أن يزيل من ملكه مثل ما أزال أو يزيل يده عن مثل ما أزال عنه يد المغصوب منه فأما أخذ ملكه بعينه فليس فيه اعتداء على أحد ولا فيه أخذ المثل ويحتج به في إيجاب القصاص فيما يمكن استيفاء المماثلة والمساواة فيه دون ما لم يعلم فيه استيفاء المماثلة وذلك نحو قطع اليد من نصف الساعد والجائفة والآمة في سقوط القصاص فيها لتعذر استيفاء المثل إذ كان الله تعالى إنما أمرنا باستيفاء المثل ويحتج به أبو حنيفة فيمن قطع يد رجل وقتله أن لوليه أن يقطع يده ثم يقتله لقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فله أن يفعل به مثل ما فعل بمقتضى الآية وقوله تعالى وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قال أبو بكر قد قيل فيه وجوه أحدها ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال حدثنا ابن وهب عن حيوة بن شريح وابن لهيعة عن زيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال غزونا بالقسطنطينية وعلى الجماعة عبدالرحمن بن الوليد والروم ملصوق

ظهورهم بحائط المدينة فحمل رجل على العدو فقال الناس مه مه لا إله إلا الله يلقي بيديه إلى التهلكة فقال أبو أيوب إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه وأظهر دينه الإسلام قلنا هلم نقيم في أموالنا ونصلحها فأنزل الله تعالى وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا فنصلحها وندع الجهاد قال أبو عمران فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية فأخبر أبو أيوب أن الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله وأن الآية في ذلك نزلت وروي مثله عن ابن عباس وحذيفة والحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وروي عن البراء بن عازب وعبيدة السلماني الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة هو اليأس من المغفرة بارتكاب المعاصي وقيل هو الإسراف في الإنفاق حتى لا يجد ما يأكل ويشرب فيتلف وقيل هو أن يقتحم الحرب من غير نكاية في العدو وهو الذي تأوله القوم الذي أنكر عليهم أبو أيوب وأخبر فيه بالسبب وليس يمتنع أن يكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية لاحتمال اللفظ لها وجواز اجتماعها من غير تضاد ولا تناف فأما حمله على الرجل الواحد يحمل على حلبة العدو فإن محمد بن الحسن ذكر في السير الكبير أن رجلا لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية فإني أكره له ذلك لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين وإنما ينبغي للرجل أن يفعل هذا إذا كان يطمع في نجاة أو منفعة للمسلمين فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه يجرىء المسلمين بذلك حتى يفعلوا مثل ما فعل فيقتلون وينكون في العدو فلا بأس بذلك إن شاء الله لأنه لو كان على طمع من النكاية في العدو ولا يطمع في النجاة لم أر بأسا أن يحمل عليهم فكذلك إذا طمع أن ينكي غيره فيهم بحملته عليهم فلا بأس بذلك وأرجو أن يكون فيه مأجورا وإنما يكره له ذلك إذا كان لا منفعة فيه على وجه من الوجوه وإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية ولكنه مما يرهب العدو فلا بأس بذلك لأن هذا أفضل النكاية وفيه منفعة للمسلمين والذي قال محمد من هذه الوجوه صحيح لا يجوز غيره وعلى هذه المعاني يحمل تأويل من تأول في حديث أبي أيوب أنه ألقى بيده إلى التهلكة بحمله على العدو إذ لم يكن عندهم في ذلك منفعة وإذا كان كذلك فلا ينبغي أن يتلف نفسه من غير منفعة عائدة على الدين ولا على

المسلمين فأما إذا كان في تلف نفسه منفعة عائدة على الدين فهذا مقام شريف مدح الله به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

في قوله إن
الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وقال ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون وقال ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله في نظائر ذلك من الآي التي مدح الله فيها من بذل نفسه لله وعلى ذلك ينبغي أن يكون حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه متى رجا نفعا في الدين فبذل نفسه فيه حتى قتل كان في أعلى درجات الشهداء قال الله تعالى وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال أفضل الشهداء حمزة بن عبدالمطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان
جائر فقتله وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن الجراح عن عبدالله بن يزيد عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عبدالعزيز بن مروان قال سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وذم الجبن يوجب مدح الإقدام والشجاعة فيما يعود نفعه على الدين وإن أيقن فيه بالتلف والله تعالى أعلم بالصواب
باب العمرة هل هي فرض أم تطوع
قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله واختلف السلف في تأويل هذه الآية فروي عن علي وعمر وسعيد بن جبير وطاوس قالوا إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقال مجاهد إتمامهما بلوغ آخرهما بعد الدخول فيهما وقال سعيد بن جبير وعطاء هو إقامتهما إلى آخر ما فيهما لله تعالى لأنهما واجبان كأنهما تأولا ذلك على الأمر بفعلهما كقوله لو قال حجوا واعتمروا وروي عن ابن عمر وطاوس قالا إتمامهما إفرادهما وقال قتادة إتمام العمرة الاعتمار في غير أشهر الحج وروي عن علقمة في قوله تعالى العمرة لله قال لاتجاوز بها البيت وقد اختلف السلف في وجوب العمرة فروي عن عبدالله بن مسعود وإبراهيم النخعي والشعبي أنها تطوع وقال مجاهد في قوله وأتموا الحج والعمرة لله قال ما أمرنا به فيهما وقالت عائشة وابن عباس وابن عمر

والحسن وابن سيرين هي واجبة وروي نحوه عن مجاهد وروي عن طاوس عن أبيه قال العمرة واجبة واحتج من أوجبها بظاهر قوله وأتموا الحج والعمرة لله قالوا واللفظ يحتمل إتمامهما بعد الدخول فيهما ويحتمل الأمر بابتداء فعلهما فالواجب حمله على الأمرين بمنزلة عموم يشتمل على مشتمل فلا يخرج منه شيء إلا بدلالة قال أبو بكر ولا دلالة في الآية على وجوبها وذلك لأن أكثر ما فيها الأمر بإتمامها وذلك إنما يقتضي نفي النقصان عنهما إذا فعلت لأن ضد التمام هو النقصان لا البطلان ألا ترى أنك تقول للناقص أنه غير تام ولا تقول مثله لما لم يوجد منه شيء فعلمنا أن الأمر بالإتمام إنما اقتضى نفي النقصان ولذلك قال علي وعمر إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك يعني الأبلغ في نفي النقصان الإحرام بهما من دويرة أهلك وإذا كان ذلك على ما وصفنا كان تقديره أن لا يفعلهما ناقصين وقوله لا يفعلهما ناقصين لا يدل على الوجوب لجواز إطلاق ذلك على النوافل ألا ترى أنك تقول لا تفعل الحج التطوع ولا العمرة التطوع ناقصين ولا صلاة النفل ناقصة فإذا كان الأمر بالإتمام يقتضي نفي النقصان فلا دلالة فيه إذا على وجوبها ويدل على صحة ذلك أن العمرة التطوع والحج النفل مرادان بهذه الآية في النهي عن فعلهما ناقصين ولم يدل ذلك على وجوبهما في الأصل وأيضا فإن الأظهر من لفظ الإتمام إنما يطلق بعد الدخول فيه قال الله عز و جل وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل فأطلق عليه لفظ الإتمام بعد الدخول قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا فأطلق لفظ الإتمام عليها بعد الدخول فيها ويدل على أن المراد إيجاب إتمامهما بعد الدخول فيهما أن الحج والعمرة نافلتين يلزمه إتمامهما بعد الدخول فيهما بالآية فكان بمنزلة قوله أتموهما بعد الدخول فيهما فغير جائز إذا ثبت أن المراد لزوم الإتمام بعد الدخول حمله على الابتداء لتضاد المعنيين ألا ترى أنه إذا أراد به الإلزام بالدخول انتفى إن يريد به الإلزام قبل الدخول ناف لكونه واجبا بالدخول ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال أن حجة الإسلام إنما تلزم بالدخول وإن صلاة الظهر متعلق لزومها بالدخول فيها وهذا يدل على أنه غير جائز إرادة إيجابهما بالدخول وإيجابهما ابتداء قبل الدخول فيهما فثبت بما وصفنا أنه لا دلالة في هذه الآية على وجوب العمرة قبل الدخول فيها ومما يدل على

أنها ليست بواجبة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال العمرة هي الحج الأصغر وروي عن عبدالله بن شداد ومجاهد قالا العمرة هي الحج الأصغر وإذا ثبت أن اسم الحج يتناول العمرة ثم ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان الدؤلي عن ابن عباس ان الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة قال بل مرة واحدة فمن زاد
فتطوع فلما سمى النبي صلى الله عليه وسلم - العمرة في الخبر الأول حجا وقال للأقرع الحج مرة واحدة فمن زاد فتطوع انتفى بذلك وجوب العمرة إذ كانت قد تسمى حجا ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال حدثنا أبو عبدالرحمن عن عبدالله بن عمر قال حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن حجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة والحج أواجب قال نعم وسأله عن العمرة أهي واجبة قال لا ولأن تعتمر خير لك ورواه أيضا عباد بن كثير عن محمد ابن المنكدر مثل حديث الحجاج وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا ابن الأصبهاني قال حدثنا شريك وجرير وأبو الأحوص عن معاوية بن إسحاق عن أبي صالح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الحج جهاد والعمرة تطوع ويدل عليه أيضا حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة ومعناه أنه ناب عنها لأن أفعال العمرة موجودة في أفعال الحج وزيادة ولا يجوز أن يكون المراد أن وجوبها كوجوب الحج لأنه حينئذ لا تكون العمرة بأولى أن تدخل في الحج من الحج بأن يدخل في العمرة إذ هما جميعا واجبان كما لا يقال دخلت الصلاة في الحج لأنها واجبة كوجوب الحج ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه حين أحرموا بالحج أن يحلوا منه بعمرة وأن سراقة بن مالك قال أعمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال بل للأبد ومعلوم أن هذه كانت عمل عمرة يحلل بها من إحرام الحج كما يتحلل الذي يفوته الحج بعمل عمرة وهي غير مجزية عن فرض العمرة عند من يراها فرضا فدل ذلك على أن العمرة غير مفروضة لأنها لو كانت مفروضة لما قال عمرتكم هذه للأبد وفيه أخبار بأنه لا عمرة عليهم غيرها ويدل على أن ما يتحلل به من إحرام

الحج ليس بعمرة أنه لو بقي الذي يفوته الحج على إحرامه حتى تحلل منه بعمرة في أشهر الحرم وحج من عامه أنه لا يكون متمتعا ومما يحتج به لذلك من طريق النظر بأن الفروض مخصوصة بأوقات يتعلق وجوبها بوجودها كالصلاة والصيام والزكاة والحج فلو كانت العمرة فرضا لوجب أن تكون مخصوصة بوقت فلما لم تكن مخصوصة بوقت كانت مطلقة له أن يفعلها متى شاء فأشبهت الصلاة التطوع والصوم النفل فإن قيل إن الحج النفل مخصوص بوقت ولم يدل ذلك على وجوبه قيل له هذا لا يلزم لأنا قلنا إن من شرط الفروض التي تلزم كل أحد في نفسه كونها مخصوصة بأوقات وما ليس مخصوصا بوقت فليس بفرض وليس يمتنع على ذلك أن يكون بعض النوافل مخصوصا بوقت وبعضها مطلق غير مخصوص بوقت فكل ما كان غير مخصوص بوقت فهو نافلة وما هو مخصوص بوقت فعلى ضربين منه فرض ومنه نفل ومما يحتج به أيضا من طريق الأثر ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا هشام بن عمار قال حدثنا الحسن ابن يحيى الحسني قال حدثنا عمر بن قيس قال حدثني طلحة بن موسى عن عمه إسحاق بن طلحة عن طلحة بن عبدالله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول الحج جهاد والعمرة تطوع وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن يحتر العطار قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا محمد بن الفضل ابن عطية عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله ص الحج جهاد والعمرة تطوع واحتج من رآها واجبة بما روى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الحج والعمرة فريضتان واجبتان وبما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وحجوا واعتمروا واستقيموا يستقم لكم
وأمره على الوجوب وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن الإسلام فذكر الصلاة وغيرها ثم قال وأن تحج وتعتمر وبقول صبي بن معبد وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي قال ذلك لعمر فلم ينكر عليه وقال له اجمعهما وبحديث أبي رزين رجل من بني عامر أنه قال يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج والعمرة ولا الظعن قال احجج عن أبيك واعتمر فأما حديث جابر في وجوب العمرة من طريق ابن لهيعة فهو ضعيف كثير الخطأ يقال احترقت كتبه فعول على حفظه وكان سيء الحفظ وإسناد حديث جابر الذي رويناه في عدم وجوبها أحسن من إسناد حديث ابن لهيعة ولو تساويا لكان أكبر

أحوالهما أن يتعارضا فيسقطا جميعا ويبقى لنا حديث طلحة وابن عباس من غير معارض فإن قال قائل ليس حديث الحجاج عن محمد بن المنكدر عن جابر الذي رويته في نفي الإيجاب بمعارض لحديث ابن لهيعة عن عطاء عن جابر في إيجابها لأن حديث الحجاج وارد على الأصل وحديث ابن لهيعة ناقل عنه ومتى ورد خبران أحدهما ناف والآخر مثبت فالمثبت منهما أولى وكذلك إذا كان أحدهما موجبا والآخر غير موجب لأن الأيجاب يقتضي حظر تركه ونفيه لا حظر فيه وخبر الحاظر أولى من المبيح قيل له هذا لا يجب من قبل أن حديث ابن لهيعة في إيجابها لو كان ثابتا لورد النقل به مستفيضا لعموم الحاجة إليه ولوجب أن يعرفه كل من عرف وجوب الحج إذ كان وجوبها كوجوب الحج ومن خوطب به فهو مخاطب بها فغير جائز فيما كان هذا وصفه أن يكون وروده من طريق الآحاد مع ما في سنده من الضعف ومعارضة غيره إياه وأيضا فمعلوم أن الروايتين وردتا عن رجل واحد فلو كان خبر الوجوب متأخرا في التاريخ عن خبر نفيه لبينه جابر في حديثه ولقال قال النبي صلى الله عليه وسلم - في العمرة أنها تطوع ثم قال بعد ذلك أنها واجبة إذ غير جائز أن يكون عنده الخبران جميعا مع علمه بتاريخهما فيطلق رواية تارة بإيجاب وتارة بضده من غير ذكر تاريخ فدل ذلك على أن هذين الخبرين وردا متعارضين وإنما يعتبر خبر المثبت والنافي على ما ذكرنا من الاعتبار إذا وردت الروايتان من جهتين وأما حديث سمرة وقوله فاعتمروا فإنه على الندب بالدلائل التي قدمنا فأما قوله حين سئل عن الإسلام فذكر الصلاة وغيرها ثم قال وأن تحج وتعتمر فإن النوافل من الإسلام وكذلك كل ما يتقرب به إلى الله تعالى لأنه من شرائعه وقد روي أن الإسلام بضع وسبعون خصلة منها إماطة الأذى عن الطريق وأما قول صبي بن معبد لعمر وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي وسكوت عمر عنه وتركه النكير عليه فإنه إنما قال هما مكتوبان علي ولم يقل مكتوبتان على الناس فظاهره يقتضى أن يكون نذرهما فصارا مكتوبين عليه بالنذر وأيضا فإنه إنما قاله تأويل منه للآية وفيه مساغ للتأويل فلم ينكره عمر لاحتمالها له وهو بمنزلة قول القائل بوجوب العمرة فلا يستحقون النكير إذ كان الاجتهاد سائغا فيه وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي سأله عن الحج عن أبيه وقوله حج عن أبيك واعتمر فلا دلالة فيه على وجوبها لأنه لا خلاف أن هذا القول لم يخرج مخرج الإيجاب إذ ليس عليه أن

يحج عن أبيه ولا أن يعتمر ومن الناس من يحتج لإيجاب العمرة بقوله تعالى وافعلوا الخير لأنها خير فظاهر اللفظ يقتضي إيجاب جميع الخير وهذا يسقط من وجوه أحدها أنه يحتاج أن يثبت أن فعل العمرة مع اعتقاد وجوبها خيرا لأن من لا يراها واجبة فغير جائز أن يفعلها على أنها واجبة ولو فعلها على هذا الاعتقاد لم يكن ذلك خيرا كمن صلى تطوعا واعتقد فيه الفرض وآخر وهو أن قوله وافعلوا الخير لفظ مجمل لاشتماله على المجمل الذي لا يلزم استعماله بورود اللفظ ألا ترى أنه يدخل فيه الصلاة والزكاة والصوم وهذه كلها فروض مجملة ومتى انتظم اللفظ ما هو مجمل فهو مجمل يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل من غيره ووجه آخر وهو أن الخير بالألف واللام لفظ جنس لا يمكن استغراقه فيتناول أدنى ما يقع عليه الاسم كقولك إن شربت الماء وتزوجت النساء فإذا فعل أدنى ما يسمى به فقد قضى عهدة اللفظ وأيضا فقد علمنا مع ورود اللفظ أن المراد البعض لتعذر استيعاب الكل فصار كقوله افعلوا بعض الخير فيحتاج إلى بيان في لزوم الأمر واحتج من أوجبها بأنا لم نجد شيئا يتطوع به إلا وله أصل في الفرض فلو كانت العمرة تطوعا لكان لها أصل في الفرض فيقال له العمرة إنما هي الطواف والسعي ولذلك أصل في الفرض فإن قيل لا يوجد طواف وسعي مفردا فرضا غير العمرة وإنما يوجد ذلك في الفرض تابعا قيل له قد يتطوع بالطواف بالبيت وإن لم يكن له أصل في الفرض مفردا فكذلك العمرة يتطوع بها إذ كانت طوافا وسعيا وإن لم يكن لها أصل في الفرض واحتج الشافعي بأنه لما جاز الجمع بينها وبين الحج دل على أنها فرض لأنها لو كانت تطوعا ما جاز أن يعمل مع عمل الحج كما لا يجمع بين صلاتين إحداهما فرض والأخرى تطوع ويجمع بين أربع ركعات فرض قال أبو بكر وهذه قضية فاسدة يبطل عليه القول بوجوب العمرة لأنه يقال له لما جاز الجمع بينهما ولم يجز بين صلاتي فرض دل على أنها ليست بفرض وأما قوله ويجمع بين عمل أربع ركعات فإن الأربع كلها صلاة واحدة كالحج الواحد المشتمل على سائر أركانه وكالطواف الواحد المشتمل على سبعة أشواط وهو مع ذلك منتقض على أصله لأنه لو اعتمر ثم حج حجة الفريضة وقرن معها عمرة كانت العمرة تطوعا والحج فرضا فقد صح الجمع بين الفرض والنفل في الحج والعمرة فانتقض بذلك استدلال من استدل بجواز جمعها إلى الحج على وجوبها واحتج الشافعي أيضا بأنه لما جعل لها ميقات كميقات

الحج دل على أنها فرض فيقال له إذا اعتمر عمرة الفريضة ورجع الى أهله ثم أراد أن يرجع للعمرة كان لها ميقات كميقات الحج وهي تطوع فشرط الميقات ليس بدلالة على الوجوب وكذلك الحج التطوع له ميقات كميقات الواجب واحتج أيضا بوجوب الدم على القارن ولم يبين منه وجه الدلالة على الوجوب ولكن ادعى دعوى عارية من البرهان ومع ذلك فإنه منتقض لأنه لو قرن حجة فريضة مع عمرة تطوع لكان عليه دم فكذلك لو جمع بينهما وهما نافلتان لوجب الدم قوله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي قال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل اللغة الإحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة والحصر حصر العدو ويقال أحصره المرض وحصره العدو وحكى عن الفراء أنه أجاز كل واحد منهما مكان الآخر وأنكره أبو العباس المبرد والزجاج وقال هما مختلفان في المعنى ولا يقال في المرض حصره ولا في العدو أحصره قالا وإنما هذا كقولهم حبسه إذا جعله في الحبس وأحبسه أي عرضه للحبس وقتله أوقع به القتل وأقتله أي عرضه للقتل وقبره دفنه في القبر وأقبره عرضه للدفن في القبر وكذلك حصره حبسه وأوقع به الحصر وأحصره عرضه للحصر وروى ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال لا حصر إلا حصر عدو فأما من حبسه الله بكسر أو مرض فليس بحصر فأخبر ابن عباس أن الحصر يختص بالعدو وأن المرض لا يسمى حصرا وهذا موافق لقول من ذكرنا قولهم من أهل اللغة في معنى الاسم ومن الناس من يظن أن هذا يدل من قوله على أن المريض لا يجوز له أن يحل ولا يكون محصرا وليس في ذلك دلالة على ما ظن لأنه إنما أخبر عن معنى الاسم ولم يخبر عن معنى الحكم فاعلم أن اسم الإحصار يختص بالمرض والحصر يختص بالعدو وقد اختلف السلف في حكم المحصر على ثلاثة أنحاء روي عن ابن مسعود وابن عباس العدو والمرض سواء يبعث بدم ويحل به إذا نحر في الحرم وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والثاني قول ابن عمر أن المريض لا يحل ولا يكون محصرا إلا بالعدو وهو قول مالك والليث والشافعي والثالث قول ابن الزبير وعروة بن الزبير أن المرض والعدو سواء لا يحل إلا بالطواف ولا نعلم لهما موافقا من فقهاء الأمصار قال أبو بكر ولما ثبت بما قدمته من قول أهل اللغة أن اسم الإحصار يختص بالمرض وقال الله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وجب أن يكون اللفظ مستعملا فيما هو حقيقة

فيه وهو المرض ويكون العدو داخلا فيه بالمعنى فإن قيل فقد حكي عن الفراء أنه أجاز فيهما لفظ الإحصار قيل له لو صح ذلك كانت دلالة الآية قائمة في إثباته في المرض لأنه لم يدفع وقوع الاسم على المرض وإنما أجازه في العدو فلو وقع الاسم على الأمرين لكان عموما فيهما موجبا للحكم في المريض والمحصور بالعدو جميعا فإن قيل لم تختلف الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية وكان النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ممنوعين بالعدو فأمرهم الله بهذه الآية بالإحلال من الإحرام فدل على أن المراد بالآية هو العدو قيل له لما كان سبب نزول الآية هو العدو ثم عدل عن ذكر الحصر وهو يختص بالعدو إلى الإحصار الذي يختص بالمرض دل ذلك على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل اللفظ على ظاهره ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالإحلال وحل هو دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ فكان نزول الآية مفيدا للحكم في الأمرين ولو كان مراد الله تعالى تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظا يختص به دون غيره ومع ذلك لو كان اسما للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبا للاقتصار بحكمه عليه بل كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب يدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن حجاج الصواف قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل قال عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا صدق ومعنى قوله فقد حل فقد جاز له أن يحل كما يقال حلت المرأة للزوج يعني جاز لها أن تتزوج فإن قيل روى حماد وابن زيد عن أيوب عن عكرمة أنه قال في المحصر يبعث بالهدى فإذا بلغ الهدي محله حل وعليه الحج من قابل وقال لقد رضي الله سبحانه بالقصاص من عباده ويأخذ منهم العدو أن عليه حج مكان حج وإحرام مكان إحرام فزعم هذا القائل أنه لو كان عند عكرمة هذا الحديث لما كان قال يبعث بالهدي ولقال يحل كما روي في الخبر وهذا القائل إنما غلط حين ظن أن المعنى في قوله حل وقوع الإحلال بنفس الإحصار وليس هو كما ظن وإنما معناه أنه جاز له أن يحل كما ذكرنا مثله فيما يطلقه الناس من قولهم حلت المرأة للأزواج يريدون به قد جاز له أن تحل بالتزويج ويدل عليه من جهة النظر أن المحصر بالعدو لما جاز له الإحلال لتعذر وصوله إلى البيت وكان ذلك

موجودا في المرض وجب أن يكون بمنزلته وفي حكمه ألا ترى أنه متى لم يتعذر وصوله إلى البيت بمنع العدو لم يجز له أن يحل فدل ذلك على أن المعنى فيه تعذر وصوله إلى البيت ويدل على ذلك موافقة مخالفينا إيانا على أن المرأة إذا منعها زوجها من حجة التطوع بعد الإحرام جاز لها الإحلال وكانت بمنزلة المحصر مع عدم العدو وكذلك من حبس في دين أو غيره فتعذر عليه الوصول إلى البيت كان في حكم المحصر فكذلك المريض ويدل عليه أن سائر الفروض لا يختلف حكمها في كون المنع منها بالعدو أو المرض ألا ترى أن الخائف جائز له فعل الصلاة بالإيماء أو قاعدا إذا تعذر عليه فعلها قائما كما يجوز ذلك للمريض فكذلك المضي في الإحرام واجب أن لا يختلف حكمه عند تعذر الوصول إلى البيت لمرض كان ذلك أو لخوف عدو وكذلك هذا في استقبال القبلة إذا كان خائفا أو مريضا وكذلك من عدم الماء أو كان مريضا ومن لا يجد ما يحتمل به للجهاد ومن كان مريضا لم يختلف حكم الأعذار في سقوط الفرض كذلك ينبغي أن لا يختلف حكمها في باب سقوط فرض المضي على الإحرام وجواز الإحلال منه والمعنى في الجميع تعذر الفعل فإن قيل لما قال تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ثم عقب ذلك بقوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة دل ذلك من وجهين على أن المريض غير مراد بذكر الإحصار لأنه لو كان كذلك لما استأنف له ذكرا مع كونه في أول الخطاب والوجه الآخر أنه لو كان مرادا به لكان يحل بذلك الدم ولم يكن يحتاج إلى فدية قيل له لما قال الله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله منعه الإحلال مع وجود الإحصار إلى وقت بلوغ الهدي محله وهو ذبحه في الحرم فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدي محله وأباح له حلق الرأس مع إيجاب الفدية ووجه آخر وهو أنه ليس كل مرض يمنع الوصول إلى البيت ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن عجرة أتؤذيك هوام رأسك قال نعم فأنزل الله الآية ولم تكن هوام رأسه مانعته من الوصول إلى البيت فرخص الله له في الحلق وأمره بالفدية وكذلك المرض المذكور في الآية جائز أن يكون المرض الذي ليس معه إحصار والله سبحانه إنما جعل المرض إحصارا إذا منع الوصول إلى البيت فليس في ذكره حكم المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارا ووجه آخر وهو قوله فمن كان منكم مريضا يجوز أن يكون عائدا

إلى أول الخطاب كما عاد إليه حكم الإحصار وهو قوله وأتموا الحج والعمرة لله ثم عطف عليه قوله فإن أحصرتم فبين حكمهم إذا أحصروا ثم عقبه بقوله فمن كان منكم مريضا يعني أيها المحرمون بالحج والعمرة فبين حكمهم إذا مرضوا قبل الإحصار كما بين حكمهم عند الإحصار فليس إذا في قوله فمن كان منكم مريضا دلالة على أن المرض لا يكون إحصارا فإن قيل لما قال في سياق الآية فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج دل على أن مراده العدو المخوف لأن الأمن يقتضي الخوف قيل له ما الذي يمنع أن يكون المراد الأمن ضرر المرض المخوف ولم جعلته مخصوصا بالعدو دون المرض والأمن والخوف موجودان فيهما وقد روي عن عروة بن الزبير في قوله فإذا أمنتم يعني إذا أمنت من كسرك ووجعك فعليك أن تأتي البيت فإن قيل الفرق بين العدو والمرض أن المحصر بعد وإن لم يمكنه أن يتقدم أمكنه الرجوع والمريض لا يختلف حاله في التقدم والرجوع قيل له فهذا أحرى أن يكون محصرا لتعذر الأمرين عليه فهو أعذر ممن يمكنه الرجوع وإن تعذر عليه المضي للخوف ويقال أيضا ما تقول في المحصر بالعدو إذا كان محيطا به ولم يمكنه الرجوع ولا التقدم أليس جائزا له الإحلال بلا خلاف بين الفقهاء فقد انتقضت علتك في الفرق بينهما ومع ذلك فقد قال الشافعي في المحرمة إذا منعها زوجها والمحبوس أنهما محصران وجائز لهما الإحلال وحال التقدم والرجوع لهما سواء لأنهما ممنوعان من الأمرين وزعم الشافعي أن الفرق بين المريض والخائف أن الله تعالى قد أباح للخائف في القتال أن يتحيز إلى فئة فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن فيقال له وكذلك قد أباح للمريض ترك القتال رأسا بقوله ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج فكانت رخصة المريض أوسع من رخصة الخائف لأن الخائف غير معذور في ترك حضور القتال والمريض معذور فيه وإنما عذر الخائف أن يتحيز إلى فئة ولم يعذر في ترك القتال رأسا فالمريض أولى بالعذر في الإحلال من إحرامه قال الشافعي فلما قال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ثم قال في شأن المحصر الخائف ما قال وجب أن لا يزول فرض تمام الحج والعمرة إلا عن الخائف فيقال له الذي قال وأتموا الحج والعمرة لله هو الذي قال فإن أحصرتم وهو عموم في الخائف وغيره فلا يخرج شيء منه إلا بدلالة فما الدلالة على تخصيصه بالخائف دون غيره وقد

نقضت ذلك بإطلاقك للمرأة الإحلال إذا منعها زوجها وليست بخائفة وكذلك المحبوس لا يخاف القتل وقال المزني جعل الإحلال رخصة للخائف من العدو ولا يشبه به غير غيره كما جعل المسح على الخفين خاصا لا يشبه به القفازين فيقال له إن كان المعنى فيه أنه رخصة فينبغي أن لا يقاس على شيء من الرخص فإذا رخص النبي صلى الله عليه وسلم - الاستنجاء بالأحجار وجب أن لا يشبه به غيره في جواز الإستنجاء بالخرق والخشب ولما كان حلق الرأس من أذى رخصة وجب أن لا يشبه به الأذى في البدن في إباحة الحلق والفدية ويلزمه أن لا يشبه بالخائف المحبوس والمرأة إذا منعها زوجها وجميع ما ذكرنا ينقض اعتلاله
فصل قال أبو بكر رضي الله عنه والإحصار من الحج والعمرة سواء وحكى عن محمد بن سيرين أن الإحصار يكون من الحج دون العمرة وذهب إلى أن العمرة غير موقته وإنه لا يخشى الفوات وقد تواترت الأخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم -

كان محرما بالعمرة عام الحديبية وأنه أحل من عمرته بغير طواف ثم قضاها في
العام القابل في ذي القعدة وسميت عمرة القضاء وقال الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله ثم قال فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وذلك حكم عائد إليهما جميعا وغير جائز الإقتصار على أحدهما دون الآخر لما فيه من تخصيص حكم اللفظ بغير دلالة وقوله تعالى فما استيسر من الهدي قال أبو بكر قد اختلف السلف في ذلك فروى عن عائشة وابن عمر أنهما قالا لا يكون الهدي إلا من الإبل والبقر وقال ابن عباس شاة واختلف فقهاء الأمصار فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي الهدي من الأصناف الثلاثة الإبل والبقر والغنم وهو قول ابن شبرمة قال ابن شبرمة والبدن من الإبل خاصة وقال أصحابنا والشافعي من الإبل والبقر واختلفوا في السن فقال أصحابنا والشافعي لا يجز في الهدي من الإبل والبقر والغنم إلا الثنى فصاعدا إلا الجذع من الضأن فإنه يجزى و قال مالك لا يجزي من الهدي إلا الثني فصاعدا وقال الأوزاعي يهدى الذكور من الإبل ويجوز الجذع من الإبل والبقر ويجزي كل واحد منهما عن سبعة قال أبو بكر الهدي اسم لما يهدى إلى البيت على وجه التقرب به إلى الله تعالى وجائز أن يسمى به ما يقصد به الصدقة وإن لم يهد إلى البيت قال النبي صلى الله عليه وسلم - المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم الذي يليه كالمهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة

والبيضة هديا وإن لم يرد به إهداءه إلى البيت وإنما أراد به الصدقة وإخراجها مخرج القربة ولذلك قال أصحابنا فيمن قال لله على أن أهدى ثوبي هذا أو داري هذه أن عليه أن يتصدق به واتفق الفقهاء على أن ما عدا هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ليس من الهدي المراد بقوله فما استيسر من الهدي واختلفوا فيما أريد به منها على ما ذكرنا وظاهر الآية يقتضي دخول الشاة فيه لوقوع الاسم عليها ولم يختلفوا في معنى قوله هديا بالغ الكعبة أن الشاة منه وأنه يكون هديا في جزاء الصيد وروى إبراهيم عن الأسود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

أهدى غنما مرة وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال كان فيما أهدى رسول
الله ص - غنم مقلدة فإن قيل الرواية عن عائشة في هدي الغنم لا يصح لأن القاسم قد روى عنها أنها كانت لا ترى الغنم مما يستيسر من الهدي قيل له إنما معناه أنه لا يصير محرما بها وأن هدي الإبل والبقر يوجب الإحرام إذا أراده وقلدهما وأما اعتبار الثنى فلما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في قصة أبي بردة بن نيار حين ضحى قبل الصلاة فأمر النبي ص
- بإعادتها فقال عندي جذعة من المعز خير من شاتي لحم فقال تجزى عنك ولا تجزى عن أحد بعدك فمنع الجذع في الأضحية والهدي مثلها لأن أحدا لم يفرق بينهما وإنما أجازوا الجذع من الضأن لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بأن يضحى بالجذع من الضأن إذا فرض له ستة أشهر وقد بينا ذلك في شرح المختصر وقد اختلفوا في جواز الشركة في دم الهدايا الواجبة فقال أصحابنا والشافعي تجوز البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وقال مالك يجوز ذلك في التطوع ولا يجزى في الواجب وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه جعل يوم الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وتلك كانت واجبة لأنها كانت عن إحصار ولما اتفقوا على جوازها عن سبعة في التطوع كان الواجب مثله لأنهما لا يختلفان في الجواز في سائر الوجوه ويدل عليه قوله فما استيسر من الهدي ظاهره يقتضي التبعيض فوجب أن يجزى بعض الهدي بحق الظاهر والله أعلم
باب
المحصر أين يذبح الهدي
قال الله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله واختلف السلف في المحل ما هو فقال عبدالله بن مسعود وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين هو الحرم وهو قول أصحابنا والثوري وقال مالك والشافعي محله الموضع الذي أحصر

فيه فيذبحه ويحل والدليل على صحة القول الأول أن المحل اسم لشيئين يحتمل أن يراد به الوقت ويحتمل أن يراد به المكان ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لضبعة بنت الزبير اشترطي في الحج وقولي محلي حيث حبستني فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة موقنا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية وجب أن يكون مراده المكان فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ مكانا غير مكان الإحصار لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله بوقوع الإحصار ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية فدل ذلك على أن المراد بالمحل هو الحرم لأن كل من لا يجعل موضع الإحصار محلا للهدى فإنما يجعل المحل الحرم ومن جعل محل الهدى موضع الاحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناها ومن جهة أخرى وهو أن قوله وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلى قوله لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ودلالته على صحة قولنا في المحل من وجهين أحدهما عمومه في سائر الهدايا والآخر ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله حتى يبلغ الهدي محله فإذا كان الله قد جعل المحل البيت العتيق فغير جائز لأحد أن لا يجعل المحل غيره ويدل عليه قوله في جزاء الصيد هديا بالغ الكعبة فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل فصيام شهرين متتابعين فقيدهما بفعل التتابع لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه وكذلك قوله فتحرير رقبة مؤمنة لا يجوز إلا على الصفة المشروطة وكذلك قال أصحابنا في سائر الهدايا التي تذبح أنها لا تجوز إلا في الحرم ويدل عليه أيضا قوله في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فأوجب على المحصر دما ونهاه عن الحلق حتى يذبح هديه فلو كان ذبحه في الحل جائز الذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى فدل ذلك على أن الحل ليس بمحل الهدي فإن قيل هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار قيل له لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك ولا يكون مخيرا بين الأشاء الثلاثة إلا وهو واجد لها لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين مالا يجد فثبت بذلك أن محل الهدي هو

الحرم دون محل الإحصار ومن جهة النظر لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزي في غيره وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام فإن قيل قال الله تعالى هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله وذلك في شأن الحديبية وفيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم لولا ذلك لكان بالغا محله قيل له هذا من أدل شيء على أن محله الحرم لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال والهدي معكوفا أن يبلغ محله فلما أخبر عن منعهم الهدي عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له وهذا يصلح أن يكون ابتداء دليل في المسألة فإن قيل فإن لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ذبحوا الهدي في الحل فما معنى قوله والهدي معكوفا أن يبلغ محله قيل له لما حصل أدنى منع جاز أن يقال أنهم منعوا وليس يقتضى ذلك أن يكون أبدا ممنوعا ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقه جاز أن يقال منعه حقه كما يقال حبسه ولا يقتضى ذلك أن يكون أبدا محبوسا فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم جاز إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام وإن كانوا قد أطلقوا لهم بعد ذلك الوصول إليه في العام المقبل وقال الله عز و جل قالوا يا أبانا منع منا الكيل وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر فكذلك منعوا الهدي بديا لما وقع الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم -

وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم وقيل أن النبي ص
- ساق البدن ليذبحها بعد الطواف بالبيت فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى والهدي معكوفا أن يبلغ محله لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح وهو عند المروة أو بمنى فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم وأن مضرب النبي صلى الله عليه وسلم - كان في الحل ومصلاه كان في الحرم فإذا أمكنه أن يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه وقد روي أن ناجية بن جندب الأسلمي قال للنبي ص - ابعث معي الهدي حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة ففعل وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم والله أعلم

باب

وقت ذبح هدي الإحصار
قال الله تعالى فما استيسر من الهدي ولم يختلف أهل العلم ممن أباح الإحلال بالهدي أن ذبح هدي العمرة غير موقت وأن له أن يذبحه متى شاء ويحل وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه محصرين بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة فحلوا منها بعد الذبح وكان ذلك في ذي القعدة واختلفوا في هدي الإحصار في الحج فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي له أن يذبحه متى شاء ويحل قبل يوم النحر وقال أبو يوسف والثوري ومحمد لا يذبح قبل يوم النحر وظاهر قوله فما استيسر من الهدي يقتضى جوازه غير موقت وفي إثبات التوقيت تخصيص اللفظ وذلك غير جائز إلا بدليل فإن قيل لما قال تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله والمحل اسم يقع على التوقيت وجب أن يكون موقتا قيل له قد بينا أن المحل اسم للموضع وإن كان قد يقع على الوقت فقد اتفق الجميع على ان المكان مراد بذكر المحل فإذا بلغ الحرم وذبح جاز بظاهر الآية وحينئذ يصير شرط الوقت زيادة فيه لأن أكثر أحواله أن يكون الاسم لما تناولهما جميعا فواجب أن يجزى بأيهما وجد لأنه جعل بلوغ المحل غاية الإحرام وقد وجد بذبحه في الحرم ولما قال تعالى والهدي معكوفا أن يبلغ محله وكان هذا المحل هو الحرم ثم قال في هذه القصة بعينها حتى يبلغ الهدي محله وجب أن يكون هو المحل المذكور في الآية الآخرى وهو الحرم ومما يدل على أنه غير موقت أن قوله عز و جل فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي عائد إلى الحج والعمرة والمبدوء بذكرهما في قوله وأتموا الحج والعمرة لله والهدي المذكور للحج هو المذكور للعمرة واتفق الجميع على أنه لم يرد به التوقيت للعمرة فكذلك الحج إذ قد أريد باللفظ الإطلاق ويدل عليه أيضا قوله تعالى حتى يبلغ الهدي محله والمراد بمحله للعمرة هو الحرم دون الوقت فصار كالمنطوق به فيه فاقتضى ذلك جواز ذبحه في الحرم أي وقت شاء في العمرة فكذلك هو للحج وأيضا لما كان الإطلاق قد تناول العمرة لم يجز أن يكون مقيدا للحج لأنه دخل فيهما على وجه واحد بلفظ واحد فغير جائز أن يراد في بعض ما انتظمه اللفظ الوقت وفي بعضه المكان كما لا يجوز أن يريد بقوله السارق والسارقة في بعضهم سارق العشرة وفي بعضهم سارق ربع دينار ويدل على ذلك من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم -
من كسر أو

عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ومعناه فقد جاز له أن يحل إذ لا خلاف أنه لا يحل بالكسر والعرج ويدل عليه حديث ضباعة بنت الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لها اشترطي وقولي إن محلي حيث حبستني ومعنى ذلك إعلامها أن ذلك محلها بدلالة الأصول أن موجب الإحرام لا ينتفي بالشرط ثم لم يوقت المحل ويحتج له من جهة النظر باتفاق الجميع على أن العمرة التي تحلل بها عند الفوات لا وقت لها إذا وجبت كذلك هذا الدم لما وجب عند الإحصار وجب أن يكون غير موقت لأنه يقع به إحلال على وجه الفسخ كعمرة الفوات قوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم هو نهي عن حلق الرأس في الإحرام للحاج والمعتمر جميعا لأنه معطوف على قوله وأتموا الحج والعمرة لله وقد اقتضى حظر حلق بعضنا رأس بعض وحلق كل واحد رأس نفسه لاحتمال اللفظ للأمرين كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم اقتضى النهي عن قتل كل واحد منا لنفسه ولغيره فيدل ذلك على أن المحرم محظور عليه حلق رأس غيره ومتى فعله لزمه الجزاء ويدل على أن الذبح مقدم على الحلق في القران والتمتع لأنه عموم في كل من عليه حلق وهدي في وقت واحد فيحتج فيمن حلق قبل أن يذبح أن عليه دما لمواقيته المحظور في تقديم الحلق على الهدي وقد اختلفوا في المحصر هل عليه حلق أم لا فقال أبو حنيفة ومحمد لا حلق عليه وقال أبو يوسف في إحدى الروايتين يحلق فإن لم يحلق فلا شيء عليه وروي عنه أنه لا بد من الحلق ولم يختلفوا في المرأة تحرم تطوعا بغير إذن زوجها والعبد يحرم بغير إذن مولاه أن للزوج والمولى أن يحللاهما بغير حلق ولا تقصير وذلك بأن يفعل بهما أدنى ما يحظره الإحرام من طيب أو لبس وهذا يدل على أن الحلق غير واجب على المحصر لأن هذين بمنزلة المحصر وقد جاز لمن يملك إحلالهما أن يحللهما بغير حلق ولو كان الحلق واجبا وهو ممكن لكان عليه أن يحلل العبد بالحلق والمرأة بالتقصير وأيضا فالحلق إنما ثبت نسكا مرتبا على قضاء المناسك ولم يثبت على غير هذا الوجه فغير جائز إثباته نسكا إلا عند قيام الدلالة إذ قد ثبت أن الحلق في الأصل ليس بنسك ويقاس بهذه العلة على العبد والمرأة أن المولى والزوج لما جاز لهما إحلال العبد والمرأة بغير حلق ولا تقصير إذا لم يفعلا سائر المناسك التي رتب عليها الحلق وجب أن يجوز لسائر المحصرين الإحلال بغير حلق لهذه العلة ويدل على ذلك أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -

لعائشة حين أمرها برفض العمرة قبل استيعاب أفعالها انقضى

رأسك وامتشطي ودعي العمرة واغتسلي وأهلي بالحج فلم يأمرها بالحلق ولا بالتقصير حين لم تستوعب أفعال العمرة فدل على أن من جاز له الإحلال من إحرامه قبل قضاء المناسك فليس عليه الإحلال بالحلق وفيه دليل على أن الحلق مرتب على قضاء المناسك كترتيب سائر أفعال المناسك بعضها على بعض وقد احتج محمد لذلك بأنه لما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق ويحتمل ذلك من قوله وجهين احدهما أن يكون مراده المعنى الذي ذكرنا أن الحلق مرتب على قضاء المناسك فلما سقط عنه سائر المناسك سقط الحلق ويحتمل أنه لما كان الحلق إذا وجب في الإحرام كان نسكا وقد سقط عن المحصر سائر المناسك وجب أن يسقط عنه الحلق فإن قيل إنما سقط عنه سائر المناسك لتعذر فعلها والحلق غير متعذر فعليه فعله قيل له هذا غلط لأن المحصر لو أمكنه الوقوف بالمزدلفة ورمي الجمار ولم يمكنه الوصول إلى البيت ولا الوقوف بعرفة لا يلزمه الوقوف بالمزدلفة ولا رمي الجمار مع إمكانهما لأنهما مرتبان على مناسك تتقدمهما كذلك لما كان الحلق مرتبا على أفعال أخر لم يكن فعله قبلهما نسكا فقد سقط بما ذكرنا اعتراض السائل لوجودنا مناسك يمكنه فعلها ولم تلزمه مع ذلك عند كونه محصرا فإن احتج محتج لأبي يوسف بقوله ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فجعل بلوغه محله غاية لزوال الحظر وواجب أن يكون حكم الغاية بضد ما قبلها فيكون تقديره ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فإذا بلغ فاحلقوا وذلك يقتضي وجوب الحلق قيل له هذا غلط لأن الإباحة هي ضد الحظر كما أن الإيجاب ضده فليست في صرفه إلى أحد الضدين وهو الإيجاب بأولى من الآخر وهو الإباحة وأيضا فإن ارتفاع الحظر غير موجب لفعل ضده على جهة الإيجاب وإنما الذي يقتضيه زوال الحظر بقاء الشيء على ما كان عليه قبله فيكون بمنزلته قبل الإحرام فإن شاء حلق وإن شاء ترك ألا ترى أن زوال حظر البيع بفعل الجمعة وزوال حظر الصيد

بالإحلال
لم يقتض إيجاب البيع ولا الاصطياد وإنما اقتضى إباحتهما ويحتج لأبي يوسف بقول النبي صلى الله عليه وسلم - رحم الله المحلقين ثلاثا ودعا للمقصرين مرة وذلك في عمرة الحديبية عند الإحصار فدل ذلك على أنه نسك وإذا كان نسكا وجب فعله كما يجب عند قضاء المناسك لغير المحصر والجواب أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - اشتد عليهم الحلق والإحلال قبل الطواف بالبيت فلما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم - بالإحلال

توقفوا رجاء أن يمكنهم الوصول وعاد عليهم القول ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم -

بدأ فنحر هديه وحلق رأسه فلما رأوه كذلك حلق بعض وقصر بعض فدعا للمحلقين
لمبالغتهم في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم - ومسارعتهم إلى أمره ولما قيل له يا رسول الله دعوت للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة فقال إنهم لم يشكوا ومعنى ذلك أنهم لم يشكوا أن الحلق أفضل من التقصير فاستحقوا من الثواب بعلمهم لذلك ما لم يستحقه الآخرون فإن قيل فكيفما جزى الأمر فقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم - بالحلق وأمره على الوجوب ودعاؤه للفريقين من المحلقين والمقصرين دليل على أنه نسك وما ذكرته من أن القوم كرهوا الحلق قبل الوصول إلى البيت وأن النبي صلى الله عليه وسلم - أمرهم به ليس بناف وجه الدلالة منه على كونه نسكا فإنه يقال قد روى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قصة الحديبية فقالا فيه فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم -
أحلوا وانحروا وذكر في بعض الأخبار الحلق فنستعمل اللفظين فنقول ما حل به
من شيء فهو حلال لقوله ص - أحلوا وقوله احلقوا المقصد به الإحلال لا تعيينه بالحلق دون غيره وإنما استحقوا الثواب لإحلالهم وائتمارهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وكان الحلق أفضل من التقصير لجدهم واجتهادهم في متابعة أمره ص
- والله أعلم بالصواب
باب
ما يجب على المحصر بعد إحلاله من الحج بالهدي
قال الله تعالى بعد ما ذكر في شأن المحصر فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المحصر بالحج إذا حل بالهدي فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس ومجاهد عن عبدالله بن مسعود قالا عليه عمرة وحجة فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه وكذلك قال علقمة والحسن وإبراهيم وسالم والقاسم ومحمد بن سيرين وهو قول أصحابنا وروى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال أمر الله بالقصاص أو يأخذ منكم العدوان حجة بحجة وعمرة بعمرة وروي عن الشعبي قال عليه حجة وإنما يوجب أبو حنيفة عليه حجة وعمرة إذا أحل بالدم ثم لم يحج من عامه ذلك فلو أنه أحل إحرامه قبل يوم النحر ثم زال الإحصار فأحرم بالحج وحج من عامه لم يكن عليه عمرة وذلك لأن هذه العمرة إنما هي التي تلزم بالفوات لأن من فاته الحج فعليه أن يتحلل بعمل عمرة فلما حصل حجه فائتا كان عليه عمرة للفوات والدم الذي عليه في الإحصار إنما هو للإحلال ولا يقوم

مقام العمرة التي تلزم بالفوات وذلك لأنه ليس في الأصول عمرة يقوم مقامها دم ألا ترى أن من نذر عمرة لم ينب عنها دم لا في حال العذر ولا في حال الإمكان وكذلك من يجعل العمرة فريضة لا يجعل الدم نائبا عنها بحال فلما كان الفوات قد ألزمه عمل عمرة لم يجز أن ينوب عنها دم فثبت بذلك أن الدم إنما هو للإحلال فحسب ويدل على ذلك أن العمرة التي تلزم بالفوات غير جائز فعلها قبل الفوات لعدم وقتها وسببها ودم الإحصار يجوز ذبحه والإحلال به قبل الفوات باتفاق منا ومن مخالفينا فدل ذلك على أن الدم هو للإحلال لا على أنه قائم مقام العمرة ولا يسوغ لمالك والشافعي أن يجعلا دم الإحصار قائما مقام العمرة الواجبة بالفوات لأنهما يقولان الذي يفوته الحج عليه مع عمرة الفوات هدي فهدي الإحصار عندهما هو الذي يلزم بالفوات فلا يقوم مقام العمرة كما لا يقوم مقامه بعد الفوات فإن قيل فأنت تجيز صوم ثلاثة أيام المتعة بعد إحرام العمرة قبل يوم النحر وهو بدل من الهدي والهدي نفسه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر قيل له إنما جاز ذلك لوجود سبب المتعة وهو العمرة فجاز تقديم بعض الصوم على وقت ذبح الهدي ولم يوجد للمحصر سبب للزوم العمرة لأن سببه إنما هو طلوع الفجر يوم النحر قبل الوقوف بعرفة فلذلك لم يقم الدم مقام العمرة التي تلزم بالفوات ويدل على أن الدم غير قائم مقام العمرة التي تلزم بالفوات أنه يلزم المعتمر وهو لا يخشى الفوات لأنها غير موقتة فدل ذلك على أن هذا الدم لا يتعلق بالفوات وإنه موضوع لتعجيل الإحلال بدلالة أنه لم يختلف فيه حكم ما يخشى فوته وحكم ما لا يخشى فوته في لزوم الدم فإن قيل في حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يذكر فيه عمرة ولو كانت واجبة معه لذكرها كما ذكر وجوب قضاء الحج قيل له ولم يذكر دما ومع ذلك فلا يجوز له أن يحل إلا بدم وإنما أراد ص - الإخبار عن الإحصار بالمرض ووجوب قضاء ما يحل فيه وقد ذهب عبدالله بن مسعود وابن عباس في رواية سعيد بن جبير إلى أن قوله عقيب ذكر حكم المحصر فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أراد به العمرة التي تجب بالإحلال من الحج إذا جمعها إلى الحج الذي أحل منه في أشهر الحج فعليه الفداء وروي عن ابن عباس قول آخر في المحصر وهو ما رواه عبدالرزاق قال حدثنا الثوري عن ابن أبي نجيح عن عطاء ومجاهد عن ابن عباس قال

الحبس حبس العدو فإن حبس وليس معه هدي حل مكانه وإن كان معه هدي حل به ولم يحل حتى ينحر الهدي وليس عليه حجة ولا عمرة وقد روي عن عطاء إنكار ذلك على رواية رواها محمد بن بكر قال أخبرنا ابن جريج عن عمرو بن دينار قال قال ابن عباس ليس على من حصره العدو هدي حسب أنه قال ولا حج ولا عمرة قال ابن جريج فذكرت ذلك لعطاء قلت هل سمعت ابن عباس يقول ليس على المحصر هدي ولا قضاء إحصاره قال لا وأنكره وهذه رواية لعمري منكرة خلاف نص التنزيل وما ورد بالنقل المتواتر عن الرسول ص -

قال الله تعالى فإن
أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله وقوله فما استيسر من الهدي على أحد وجهين أحدهما فعليه ما استيسر من الهدي والآخر فليهد ما استيسر من الهدي فاقتضى ذلك إيجاب الهدي على المحصر متى أراد الإحلال ثم عقبه بقوله ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله فكيف يسوغ لقائل أن يقول جائز له الإحلال بغير هدي مع ورود النص بإيجابه ومع نقل إحصار النبي صلى الله عليه وسلم - بالحديبية وأمره إياهم بالذبح والإحلال واختلف الفقهاء في المحصر إذا لم يحل حتى فاته الحج ووصل إلى البيت فقال أصحابنا والشافعي عليه أن يتحلل بالعمرة ولا يصح له فعل الحج بالإحرام الأول وقال مالك يجوز له أن يبقى حراما حتى يحج في السنة الثانية وإن شاء تحلل بعمل عمرة والدليل على أنه غير جائز له أن يفعل بذلك الإحرام الأول حجا بعد الفوات اتفاق الجميع على أنه له أن يتحلل بعمل عمرة فلولا أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا لما جاز له التحلل منه ألا ترى أنه غير جائز له أن يتحلل منه في السنة الأولى حين أمكنه فعل الحج به وفي ذلك دليل على أن إحرامه قد صار بحيث لا يفعل به حجا وأيضا فإن فسخ الحج منسوخ بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فعلمنا حين جاز له الإحلال أن موجبه في هذه الحال هو عمل العمرة لا عمل الحج لأنه لو أمكنه عمل الحج فجعله عمرة بالإحلال لكان فاسخا لحجه مع إمكان فعله وهذا لم يكن قط إلا في السنة التي حج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ثم نسخ وهو معنى قول عمر متعتان كانت على عهد رسول الله ص
- أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة النساء ومتعة الحج فأراد بمتعة الحج فسخه على نحو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
به أصحابه في حجة الوداع واختلفوا أيضا فيمن أحصر وهو محرم بحج تطوع أو
بعمرة تطوع فقال أصحابنا عليه القضاء سواء كان

الإحصار بمرض أو عدو إذا حل منهما بالهدي واما مالك والشافعي فلا يريان الإحصار بالمرض ويقولان إن أحصر بعدو فحل فلا قضاء عليه في الحج ولا في العمرة والدليل على وجوب القضاء قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وذلك يقتضي الإيجاب بالدخول ولما وجب بالدخول صار بمنزلة حجة الإسلام والنذر فيلزمه القضاء بالخروج منه قبل إتمامه سواء كان معذورا فيه أو غير معذور لأن ما قد وجب لا يسقطه العذر فلما اتفقوا على وجوب القضاء بالإفساد وجب عليه مثله بالإحصار ويدل عليه من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل ولم يفرق بين حجة الإسلام والتطوع وأيضا فإن من ترك موجبات الإحرام لا يختلف فيه المعذور وغيره في ترك لزوم حكمه والدليل عليه أن الله قد عذر حالق رأسه من أذى ولم يخله من إيجاب فدية سواء كان ذلك في إحرام فريضة أو تطوع فكذلك ينبغي أن يكون حكم المحصر بحجة فرض أو نفل في وجوب القضاء وواجب أيضا أن يستوي حكم إفساده إياه بالجماع وخروجه منه بإحصار كما لم يخل من إيجاب كفارة في الجنايات الواقعة في الإحرام المعذور وغيره ويدل على وجوب القضاء على المحصر وإن كان معذورا اتفاق الجميع أن على المريض القضاء إذا فاته الحج وإن كان معذورا في الفوات كما يلزمه لو قصد إلى الفوات من غير عذر والمعنى في استواء حكم المعذور وغير المعذور ما لزمه من الإحرام بالدخول وهو موجود في المحصر فوجب أن لا يسقط عنه القضاء ويدل عليه أيضا قصة عائشة حين حاضت وهي مع النبي صلى الله عليه وسلم -

في حجة الوداع وكانت محرمة بعمرة فقال لها النبي ص
- انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة ثم لما فرغت من الحج أمر عبدالرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم وقال هذه مكان عمرتك فأمرها بقضاء ما رفضته من العمرة للعذر فدل ذلك على أن المعذور في خروجه من الإحرام لا يسقط عنه القضاء ويدل عليه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية وكانوا محرمين بالعمرة وقضوها في العام المقبل سميت عمرة القضاء ولو لم تكن لزمت بالدخول ووجب القضاء لما سميت عمرة القضاء ولكانت تكون حينئذ عمرة مبتدأة وفي ذلك دليل على لزوم القضاء بالإحلال والله الموفق

باب المحصر لا يجد هديا
قال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي واختلف أهل العلم في المحصر لا يجد هديا فقال أصحابنا لا يحل حتى يجد هديا فيذبح عنه وقال عطاء يصوم عشرة أيام ويحل كالمتمتع إذا لم يجد هديا وللشافعي فيه قولان أحدهما أنه لا يحل أبدا إلا بهدي والآخر إذا لم يقدر على شيء حل وأهراق دما إذا قدر عليه وقيل إذا لم يقدر أجزأه وعليه الطعام أو صيام إن لم يجد ولم يقدر قال أبو بكر واحتج محمد لذلك بأن هدي المتعة منصوص عليه وكذلك حكم المتمتع منصوص عليه فيما يلزم من هدي أو صيام إن لم يجد هديا والمنصوصات لا يقاس بعضها على بعض ووجه آخر وهو أنه غير جائز إثبات الكفارات بالقياس فلما كان الدم مذكورا للمحصر لم يجز لنا إثبات شيء غيره قياسا لأن ذلك دم جناية على وجه الكفارة لامتناع جواز إثبات الكفارة قياسا وأيضا فإن فيه ترك المنصوص عليه بعينه لأنه قال ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن أباح له الحلق قبل بلوغ الهدي محله فقد خالف النص ولا يجوز ترك النص بالقياس والله أعلم
باب

إحصار أهل مكة
قال أبو بكر روي عن عروة بن الزبير والزهري أنهما قالا ليس على أهل مكة إحصار إنما إحصارهم أن يطوفوا بالبيت وكذلك قال أصحابنا إذا أمكنهم الوصول إلى البيت وذلك لأنه لا يخلو من أن يكون محرما بحج أو عمرة فإن كان معتمرا فلعمرة إنما هي الطواف والسعي وليس بمحصر عن ذلك وإن كان حاجا فله أن يؤخر الخروج إلى عرفات إلى آخر وقته لو لم يكن محصرا فإذا فاته الوقوف فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل بعمرة فيكون مثل المعتمر فلا يكون محصرا والله أعلم
باب
المحرم يصيبه أذى من رأسه أو مرض
قال الله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه إلى آخر الآية يعني والله أعلم فمن كان منكم مريضا من المحرمين محصرين أو غير محصرين فأصابه مرض أو أذى في رأسه ففدية من صيام فدل ذلك على أن المحصر

لا يجوز له الحلق قبل بلوغ الهدي محله وأنه إذا كان مريضا أو به أذى من رأسه فحلق فعليه الفدية وإن كان غير محصر فهو في حكم المحصر الذي لم يبلغ هديه محله فدل ذلك على التسوية بين المحصرين وغير المحصرين في أن كل واحد منهم لا يجوز له الحلق في الإحرام إلا على الشرط المذكور وقوله تعالى فمن كان منكم مريضا عنى المرض الذي يحتاج فيه إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام فيفعل ذلك لدفع الأذى ويفتدي وكذلك قوله أو به أذى من رأسه إنما هو على أذى يحتاج فيه إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام من حلق أو تغطية فأما إن كان مريضا أو به أذى في رأسه لا يحتاج فيه إلى حلق ولا إلى استعمال بعض ما يحظره الإحرام فهو في هذه الحال بمنزلة الصحيح في حظر ما يحظره الإحرام وقد روي في أخبار متظاهرة عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - مر به في عام الحديبية والقمل تتناثر على وجهه فقال أتؤذيك هوام رأسك فقلت نعم فأمره بالفدية فكان كثرة القمل من الأذى المراد بالآية ولو كان به قروح في رأسه أو خراج فاحتاج إلى شده أو تغطيته كان ذلك حكمه في جواز الفدية وكذلك سائر الأمراض التي تصيبه ويحتاج إلى لبس الثياب جاز له أن يستبيح ذلك ويفتدي لأن الله لم يخصص شيئا من ذلك فهو عام في الكل فإن قيل قوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه معناه فحلق ففدية من صيام قيل له الحلق غير مذكور وإن كان مرادا وكذلك اللبس وتغطية الرأس كل ذلك غير مذكور وهو مراد لأن المعنى فيه إستباحة ما يحظره الإحرام للعذر وكذلك لو لم يكن مريضا وكان به أذى في بدنه يحتاج فيه إلى حلق الشعر كان في حكم الرأس في باب الفدية إذ كان المعنى معقولا في الجميع وهو استباحة ما يحظره الإحرام في حال العذر وأما قوله تعالى ففدية من صيام فإنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صام ثلاثة أيام في حديث كعب بن عجرة وهو قول جماعة السلف وفقهاء الأمصار إلا شيء روي عن الحسن وعكرمة أن الصيام عشرة أيام كصيام المتعة وأما الصدقة فإنه روي في مقدارها عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - روايات مختلفة الظاهر فمنها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب قال حدثنا سهل بن محمد قال حدثنا ابن أبي زائدة عن أبيه قال حدثني عبدالرحمن بن الأصبهاني عن عبدالله بن مغفل أن كعب بن عجرة حدثه أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم -

محرما فقمل رأسه ولحيته فبلغ ذلك النبي ص
- فدعا

بحلاق فحلق رأسه وقال هل تجد نسكا قال ما أقدر عليه فأمره أن يصوم ثلاثة أيام أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين صاعا وأنزل الله ففدية من صيام أو صدقة أو نسك للمسلمين عامة ورواه صالح بن أبي مريم عن مجاهد عن كعب بن عجرة بمثل ذلك وروى داود بن أبي هند عن عامر عن 2كعب بن عجرة وقال فيه صدق بثلاثة آصع من تمر بين كل مسكينين صاع وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن الحسن بن أحمد قال حدثنا عبدالعزيز بن داود قال حدثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال له أنسك نسيكة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ثلاثة آصع من طعام لستة مساكين فذكر في الخبر الأول ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين وفي خبر ستة آصع وهذا أولى لأن فيه زيادة ثم قوله ثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ينبغي أن يكون المراد به الحنطة لأن هذا ظاهره والمعتاد المتعارف منه فيحصل من ذلك أن يكوم من التمر ستة آصع ومن الحنطة ثلاثة آصع وعدد المساكين الذين يتصدق عليهم ستة بلا خلاف وأما النسك فإن في أخبار كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمره أن ينسك نسيكة وفي بعضها شاة ولا خلاف بين الفقهاء أن أدناه شاة وإن شاء جعله بعيرا أو بقرة ولا خلاف أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة يبتدئ بأيها شاء وذلك مقتضى الآية وهو قوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وأو للتخير هذا حقيقتها وبابها إلا أن تقوم الدلالة على غير هذا في الإثبات وقد بيناه في مواضع واختلف الفقهاء في موضع الفدية من الدم والصدقة مع اتفاقهم على أن الصوم غير مخصوص بموضع فإن له أن يصوم في أي موضع شاء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الدم بمكة والصيام والصدقة حيث شاء وقال مالك بن أنس الدم والصدقة والصيام حيث شاء وقال الشافعي الصدقة والدم بمكة والصيام حيث شاء فظاهر قوله ففدية من صيام أو صدقة أو نسك يقتضي إطلاقها حيث شاء المفتدي غير مخصوم بموضع لو لم يكن في غيرها من الآي دلالة على تخصيصه بالحرم وهو قوله لكم فيها منافع إلى أجل مسمى يعني الأنعام التي قدم ذكرها ثم قال ثم محلها إلى البيت العتيق وذلك عام في سائر الأنعام التي تهدي إلى البيت فوجب بعموم هذه الآية أن كل هدي متقرب به مخصوص بالحرم لا يجزي في غيره ويدل عليه قوله تعالى هديا

بالغ الكعبة وذلك جزاء الصيد فصار بلوغ الكعبة صفة للهدي ولا يجزي دونها وأيضا لما كان ذلك ذبحا تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون مخصوصا بالحرم كجزاء الصيد وهدي المتعة فإن قيل لما قال النبي صلى الله عليه وسلم - لكعب بن عجرة أو اذبح شاة ولم يشترط له مكانا وجب أن لا يكون مخصوصا بموضع قيل له إن كعب بن عجرة أصابه ذلك وهو بالحديبية وبعضها من الحل وبعضها من الحرم فجائز أن يكون ترك ذكر المكان اكتفاء بعلم كعب بن عجرة بأن ما تعلق من ذلك بالإحرام فهو مخصوص بالحرم وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قبل ذلك عالمين بحكم تعلق الهدايا بالحرم لما كان يرون النبي صلى الله عليه وسلم - يسوق البدن إلى الحرم لينحرها هناك وأما الصدقة والصوم فحيث شاء لأن الله تعالى أطلق ذلك غير مقيد بذكر المكان فغير جائز لنا تقييده بالحرم لأن المطلق على إطلاقه كما أن المقيد على تقييده ويدل عليه أنه ليس في الأصول صدقة مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره فلما كانت هذه صدقة لم تجز أن تكون مخصوصة بموضع لا يجوز أداؤها في غيره لأن ذلك مخالف للأصول خارج عنها فإن قيل ينبغي أن تكون الصدقة في الحرم لأن للمساكين بالحرم فيها حقا كالذبائح قيل له الذبح لم يتعلق جوازه بالحرم لأجل حق المساكين لأنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه منه وتصدق به في غير الحرم أجزأه ومع ذلك فإنه لا يختص ذلك بمساكين الحرم دون غيرهم لأنه لو كان حقا لهم لكان لهم المطالبة به ولما لم تكن لهم المطالبة به دل على أنه ليس بحق لهم وإنما هو حق الله قد لزمه إخراجه إلى المساكين على وجه القربة كالزكاة وسائر الصدقات التي لا تختص بموضع دون غيره وأيضا لما لم تكن القربة فيها إراقة الدم وجب أن لا يختص بالحرم كالصيام وقد اختلف السلف في ذلك فروي عن الحسن وعطاء وإبراهيم قالوا ما كان دم فبمكة وما كان من صيام أو صدقة فحيث شاء وعن مجاهد قال اجعل الفدية حيث شئت وقال طاوس النسك والصدقة بمكة والصيام حيث شئت وروي أن عليا نحر عن الحسين بعيرا وكان قد مرض وهو محرم وأمر بحلقه ونحر البعير عنه بالسقيا وقسمه على أهل الماء وليس في ذلك دلالة على أنه رأى جواز الذبح في غير الحرم لأنه جائز أن يكون جعل اللحم صدقة وذلك جائز عندنا والله أعلم

باب التمتع بالعمرة إلى الحج

قال
الله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي قال أبو بكر هذا الضرب من التمتع ينتظم معنيين أحدهما الإحلال والتمتع إلى النساء والآخر جمع العمرة إلى الحج في أشهر الحج ومعناه الارتفاق بهما وترك إنشاء سفرين لهما وذلك لأن العرب في الجاهلية كانت لا تعرف العمرة في أشهر الحج وتنكرها أشد الإنكار ويروى عن ابن عباس وعن طاوس أن ذلك عندهم كان من أفجر الفجور ولذلك رجع النبي صلى الله عليه وسلم - حين أمرهم أن يحلوا بعمرة على عادتهم كانت في ذلك حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن المثنى قال حدثنا عفان قال حدثنا وهيب قال حدثنا عبدالله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برئ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم - صبيحة رابعه مهلين بالحج أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يحلوا فتعاظم ذلك عندهم قالوا يا رسول الله أي الحل قال الحل كله فمتعة الحج تنتظم هذين المعنيين إما استباحة التمتع بالنساء بالإحلال وإما الإرتفاق بالجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج والإقتصار بهما على سفر واحد بعد أن كانوا لا يستحلون ذلك في الجاهلية ويفردون لكل واحد سفرا ويحتمل التمتع بالعمرة إلى الحج الانتفاع بهما بجمعهما في أشهر الحج واستحقاق الثواب بهما إذا فعلا على هذا الوجه فدل ذلك على زيادة نفع وفضيلة تحصل لفاعلهما والمتعة على أربعة أوجه أحدها القارن والمحرم بعمرة في أشهر الحج إذا حج من عامه في سفر واحد لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والمحصر على قول من لا يرى له الإحلال ولكنه يمكث على إحرامه حتى يصل إلى البيت فيتحلل من حجه بعمل العمرة بعد فوت الحج وفسخ الحج بالعمرة وقد اختلف في تأويل قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فقال ابن مسعود وعلقمة هو عطف على قوله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي يعني الحاج إذا أحصر فحل من إحرامه بهدي أن عليه قضاء عمرة وحجة فإن هو تمتع بهما وجمع بينهما في أشهر الحج في سفر واحد فعليه دم آخر للتمتع وإن اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى أهله ثم حج من عامه فلا دم عليه قال عبدالله بن مسعود سفران وهدي أو هديان وسفر يعني بقوله سفران

وهدي أن هذا المحصر إن اعتمر بعد إحلاله من الحج في أشهر الحج ورجع إلى أهله ثم عاد فحج من عامه فعليه هدي واحد وهو هدي الإحصار وذلك لأنه فعلهما في سفرين أو هديان وسفر يعني إذا لم يرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى أهله فعليه هدي التمتع والهدي الأول للإحصار فلذلك هديان وسفر وقال ابن عباس فيما رواه ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس كان يقول بجمع الآية المحصر والمخلى سبيله يعني قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج قال عطاء وإنما سميت متعة من أجل أنه اعتمر في أشهر الحج ولم تسم متعة من أجل أنه يحل أن يتمتع إلى النساء فكان مذهب ابن عباس أن الآية قد انتظمت الأمرين من المحصرين إذا أرادوا قضاء الحج مع العمرة التي لزمت بالفوات ومن غير المحصرين ممن أراد التمتع بالعمرة إلى الحج فكان عند عبدالله بن مسعود أن ذلك لما كان معطوفا على المحصرين فحكمه أن يكونوا هم المرادين به فيفيد إيجاب عمرة بالفوات ويفيد الحكم بأنه إذا جمعهما مع قضاء الحج الفائت في سفر واحد في أشهر الحج فعليه دم وإن فعلهما في سفرين فلا دم عليه وليس مذهب ابن مسعود في ذلك مخالفا لقول ابن عباس إلا أن ابن عباس قال الآية عامة في المحصرين وغيرهم وهي مقيدة في المحصرين بما ذكره ابن مسعود ومقيدة في غير المحصرين في جواز التمتع لهم وبيان حكمهم إذا تمتعوا وقال ابن مسعود الآية في فحواها خاصة في المحصرين وإن كان غير المحصرين إذا تمتعوا كانوا بمنزلتهم والقارن والذي يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه في سفر واحد متمتعان من وجهين أحدهما الإرتفاق بالجمع بينهما في سفر واحد والآخر حصول فضيلة الجمع فيدل ذلك على أن ذلك أفضل من الإفراد بكل واحد منهما في سفر أو تفريقهما بأن يفعل العمرة في غير أشهر الحج وقد روي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - في هذه المتعة روايات ظاهرها يقتضي الإختلاف في إباحتها وإذا حصلت كان الإختلاف في الأفضل لا في الحظر والإباحة فممن روي عنه النهي عن ذلك عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وأبو ذر والضحاك بن قيس حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن أبي مريم عن مالك بن أنس عن ابن شهاب أن محمد بن عبدالله بن الحارث بن نوفل حدثه أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية وهما يتذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك لا يصنع

ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى قال سعد بئس ما قلت يا ابن أخي فقال الضحاك فإن عمر بن الخطاب قد نهى عنه قال سعد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وصنعناها معه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت جري بن كليب يقول رأيت عثمان ينهى عن المتعة وعلي يأمر بها فأتيت عليا فقلت إن بينكما لشرا أنت تأمر بها وعثمان ينهى عنها فقال ما بيننا إلا خير ولكن خيرنا أتبعنا لهذا الدين وقد روي عن عثمان أنه لم يكن ذلك منه على وجه النهي ولكن على وجه الإختيار وذلك لمعان أحدها الفضيلة ليكون الحج في أشهره المعلومة له ويكون العمرة في غيرها من الشهور والثاني أنه أحب عمارة البيت وأن يكثر زواره في غيرها من الشهور والثالث أنه رأى إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس إليهم فقد جاءت بهذه الوجوه أخبار مفسرة عنه حدثنا جعفر بن محمد المؤدب قال حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثني يحيى بن سعيد عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال قال عمر بن الخطاب إن تفرقوا بين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته قال أبو عبيد وحدثنا عبدالله بن صالح عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن عبدالله عن أبيه قال كان عمر يقول إن الله قال وأتموا الحج والعمرة لله وقال الحج أشهر معلومات فأخلصوا أشهر الحج للحج واعتمروا فيما سواها من الشهور وذلك لأن من اعتمر في أشهر الحج لم تتم عمرته إلا بهدي ومن اعتمر في غير أشهر الحج تمت عمرته إلا أن يتطوع بهدي غير واجب فأخبر في هذا الخبر بجهة اختياره للتفريق بينهما قال أبو عبيد وحدثنا أبو معاوية هشام عن عروة عن أبيه قال إنما كره عمر العمرة في أشهر الحج إرادة أن لا يتعطل البيت في غير أشهر الحج فذكر في هذا الخبر وجها آخر لاختياره التفريق بينهما قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال حدثنا أبو بشر عن يوسف بن ماهك قال إنما نهى عمر عن المتعة لمكان أهل البلد ليكون موسمان في عام فيصيبهم من منفعتهما فذكر في هذا الخبر أنه اختاره لمنفعة أهل البلد وقد روي عن عمر اختيار المتعة على غيرها حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن طاوس عن ابن عباس قال سمعت عمر يقول لو اعتمرت

ثم اعتمرت ثم اعتمرت ثم حججت لتمتعت ففي هذا الخبر اختياره للمتعة فثبت بذلك أنه لم يكن ما كان منه في أمر المتعة على وجه اختيار المصلحة لأهل البلد تارة ولعمارة البيت أخرى وبين الفقهاء خلاف في الأفضل من إفراد كل واحد منهما أو القران أو التمتع فقال أصحابنا القران أفضل ثم التمتع ثم الإفراد وقال الشافعي الإفراد أفضل والقران والتمتع حسنان وقد روى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر لأن اعتمر في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة في شهر يجب علي فيه الهدي أحب إلي من أن أعتمر في شهر لا يجب علي فيه الهدي وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال سألت ابن مسعود عن امرأة أرادت أن تجمع مع حجها عمرة فقال أسمع الله يقول الحج أشهر معلومات ما أراها إلا أشهر الحج ولا دلالة في هذا الخبر على أنه كان يرى الإفراد أفضل من التمتع والقران وجائز أن يكون مراده البيان عن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالجمع بين الحج والعمرة وقال علي كرم الله وجهه تمام العمرة أن تحرم من حيث ابتدأت من دويرة أهل فهذا يدل على أنه أراد التمتع والقران بأن يبدأ بالعمرة من دويرة أهله إلى الحج لا يلم بأهله وتأوله أبو عبيد القاسم بن سلام على أنه يخرج من منزله ناويا العمرة خالصة لا يخلطها بالحج قال لأنه إذا أحرم بها من دويرة أهله كان خلاف السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد وقت المواقيت وهذا تأويل ساقط لأنه قد روي عن علي تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك فنص الإحرم بهما من دويرة أهله والذي ذكره من السنة على خلاف ما ظن لأن السنة إنما قضت بحظر مجاورتها إلا محرما لمن أراد دخول مكة فأما الإحرام بها قبل الميقات فلا خلاف بين الفقهاء فيه وروي عن الأسود بن يزيد قال خرجنا عمارا فلما انصرفنا مررنا بأبي ذر فقال أحلقتم الشعث وقضيتم التفث أما إن العمرة من مدركم وتأوله أبو عبيد على ما تأول عليه حديث علي وإنما أراد أبو ذر أن الأفضل إنشاء العمرة من أهلك كما روي عن علي تمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار متواترة أنه قرن بين الحج والعمرة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن صبي بن معبد أنه كان نصرانيا فأسلم فأراد الجهاد فقيل له إبدأ بالحج فأتى أبا موسى الأشعري فأمره أن يهل بالحج والعمرة جميعا ففعل

فبينما هو يلبي بهما إذ مر زيد بن صوحان وسلمان بن ربيعة فقال أحدهما هذا أضل من بعيره فسمعهما صبي فكبر عليه فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك فقال عمر إنهما لا يقولان شيئا هديت لسنة نبيك ص -

قال أبو عبيد وحدثنا ابن أبي زائدة عن الحجاج بن أرطاة عن الحسن بن سعيد
عن ابن عباس قال أنبأني أبو طلحة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - جمع بين حجة وعمرة قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا الحجاج عن شعبة قال حدثني حميد بن هلال قال سمعت مطرف بن عبدالله بن الشخير يقول قال عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل قرآن بتحريمه قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم قال أخبرنا حميد عن بكر بن عبدالله قال سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يلبي بالحج والعمرة قال بكر فحدثت ابن عمر بذلك قال لبى بالحج وحده قال بكر فلقيت أنس بن مالك فحدثته بقول ابن عمر فقال ما يعدونا إلا صبياننا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول لبيك عمرة وحجا قال أبو بكر وجائز أن يكون ابن عمر سمع النبي ص
- يقول لبيك بحجة وسمعه أنس في وقت آخر يقول لبيك بعمرة وحجة وكان قارنا وجائز للقارن أن يقول مرة لبيك بعمرة وحجة وتارة لبيك بحجة وأخرى لبيك بعمرة فليس في حديث ابن عمر نفي لما رواه أنس وقالت عائشة اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أربع عمر أحدها مع حجة الوداع وروى يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن
عباس سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول وهو بوادي العقيق أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل حجة وعمرة وروي عمرة في حجة وفي حديث جابر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه أن يجعلوا حجهم عمرة وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وقال لعلي بماذا أهللت قال بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم - فقال إني سقت الهدي ولا أحل إلى يوم النحر فلو لم يكن هديه هدي تمتع وقران لما منعه الإحلال لأن هدي التطوع لا وقت له يجوز ذبحه متى شاء فدل ذلك على أن هديه كان هدي قران ولذلك منعه الإحلال لأنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فهذه الأخبار توجب كون النبي صلى الله عليه وسلم - قارنا ورواية من روى أنه كان مفردا غير معارض لها من وجوه أحدها أنها ليست في وزن الأخبار التي فيها ذكر القران في الإستفاضة والشيوع والثاني أن الراوي للإفراد أكثر ما أخبر

أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول لبيك بحجة وذلك لا ينفي كونه قارنا لأنه جائز للقارن أن يذكر الحج وحده تارة وتارة العمرة وحدها وأخرى ويذكرهما والثالث أنهما لو تساويا في النقل والاحتمال لكان خبر الزائد أولى وإذا ثبت بما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان قارنا وقد قال ص -

خذوا عني مناسككم فأولى الأمور وأفضلها الاقتداء برسول الله ص
- فيما فعله لا سيما وقد قال لهم خذوا عني مناسككم فأولى الأمور وأفضلها الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم -
فيما فعله وقال الله تعالى فاتبعوه
وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ولأنه ص - لا يختار من الأعمال إلا أفضلها وفي ذلك دليل على أن القران أفضل من التمتع ومن الإفراد ويدل عليه أن فيه زيادة نسك وهو الدم لأن دم القران عندنا دم نسك وقربة يؤكل منه كالأضحية بدلالة قوله فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق وليس شيء من الدماء ترتب عليه هذه الإفعال إلا دم القران والتمتع ويدل عليه قوله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وقد بينا أن التمتع يجوز أن يكون اسما للحج للنفع الذي يحصل له بجمعه بينهما والفضيلة التي يستحقها به ويجوز أن يكون اسما للإرتفاق بالجمع من غير إحداث سفر آخر وهو عليهما جميعا فجائز أن يكون المعنيان جميعا مرادين بالآية فينتظم القارن والمتمتع من وجهين أحدهما الفضيلة الحاصلة بالجمع والثاني الإرتفاق بالجمع من غير إحداث سفر ثان وهذه المتعة مخصوص بها من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لقوله ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ومن كان وطنه المواقيت فما دونها إلى مكة فليس له متعة ولا قران وهو قول أصحابنا فإن قرن أو تمتع فهو مخطئ وعليه دم ولا يأكل منه لأنه ليس بدم متعة وإنما هو دم جناية إذ لا متعة لمن كان من أهل هذه المواضع لقوله ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقد روي عن ابن عمر أنه قال إنما التمتع رخصة لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقال بعضهم إنما معنى ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا دم عليهم إذا تمتعوا ومع ذلك فلهم أن يتمتعوا بلا هدي فظاهر الآية يوجب خلاف ما قالوه لأنه تعالى قال ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والمراد المتعة ولو كان المراد الهدي لقال ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فإن قيل يجوز أن يكون معنى ذلك على من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لأن اللام قد تقام مقام

على كما قال تعالى ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ومعناه وعليهم اللعنة قيل لا يجوز إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى المجاز إلا بدلالة ولكل واحدة من هذه الأدوات معنى هي موضوعة له حقيقة فعلى حقيقتها خلاف حقيقة اللام فغير جائز حملها عليها إلا بدلالة وأيضا فإن التمتع لأهل سائر الآفاق إنما هو تخفيف من الله تعالى وإزالة المشقة عنهم في إنشاء سفر لكل واحد منهما وأباح لهم الاقتصار على سفر واحد في جميعها جميعا إذ لو منعوا عنذ ذلك لأدى ذلك إلى مشقة وضرر وأهل مكة لا مشقة عليهم ولا ضرر في فعل العمرة في غير أشهر الحج ويدل عليه أن اسم التمتع يقتضي الإرتفاق بالجمع بينهما وإسقاط تجديد سفر العمرة على ما روي من تأويله عمن قدمنا قوله وهو مشبه لمن أوجب على نفسه المشي إلى بيت الله الحرام فإذا ركب لزمه دم لإرتفاقه بالركوب غير أن هذا الدم لا يؤكل منه ودم المتعة يؤكل منه فاختلافهما من هذا الوجه لا يمنع اتفاقهما من الوجه الذي ذكرنا وقد حكي عن طاوس أنه قال ليس على أهل مكة متعة فإن فعلوا وحجوا فعليهم ما على الناس وجائز أن يريد به أن عليهم الهدي ويكون هدي جناية لا نسكا واتفق أهل العلم السلف منهم والخلف أنه إنما يكون متمتعا بأن يعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ذلك ولو أنه اعتمر في هذه السنة ولم يحج فيها وحج في عام قابل أنه غير متمتع ولا هدي عليه واختلف أهل العلم فيمن اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله وعاد فحج من عامه فقال أكثرهم أنه ليس بمتمتع منهم سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم والحسن في إحدى الروايتين وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وروى أشعث عن الحسن أنه قال من اعتمر في أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع رجع أو لم يرجع ويدل على صحة القول الأول أن الله تعالى خص أهل مكة بأن لم يجعل لهم متعة وجعلها لسائر أهل الآفاق وكان المعنى فيه إلمامهم بأهاليهم بعد العمرة مع جواز الإحلال منها وذلك موجود فيمن رجع إلى أهله لأنه قد حصل له إلمام بعد العمرة فكان بمنزلة أهل مكة وأيضا فإن الله جعل على المتمتع الدم بدلا من أحد السفرين الذين اقتصر على أحدهما فإذا فعلهما جميعا لم يكن الدم قائما مقام شيء فلا يجب واختلفوا أيضا فيمن لم يرجع إلى أهله وخرج من مكة حتى جاوز الميقات فقال أبو حنيفة هو متمتع إن حج من عامه ذلك لأنه إذا لم يحصل له إلمام بأهله بعد العمرة فهو بمنزلة كونه بمكة وروي عن أبي يوسف أنه ليس

بمتمتع لأن ميقاته الآن في الحج ميقات أهل بلده لأن الميقات قد صار بينه وبين أهل مكة فصار بمنزلة عوده إلى أهله والصحيح هو الأول لما بينا واختلف أهل العلم فيمن ينشئ العمرة في رمضان ويدخل مكة في شوال أو قبله فروى قتادة عن ابن عياض قال عمرته في الشهر الذي يهل فيه وقال الحسن والحكم عمرته في الشهر الذي يحل فيه وروي عن إبراهيم مثله وقال عطاء وطاوس عمرته في الشهر الذي دخل فيه الحرم وروي عن الحسن وإبراهيم رواية أخرى قالا عمرته في الشهر الذي يطوف فيه وهو قول مجاهد وكذلك قال أصحابنا أنه يعتبر الطواف فإن فعل أكثر الطواف في رمضان فهو غير متمتع وإن فعل أكثره في شوال فهو متمتع وذلك لأن من أصلهم أن فعل الأكثر بمنزلة الكل في باب امتناع ورود الفساد عليها فإذا تمت عمرته في رمضان فهو غير جامع بينهما في أشهر الحج وبقاء الإحرام لا حكم له ألا ترى أنه لو أحرم بعمرة فأفسدها ثم حل منها ثم حج من عامه لم يكن متمتعا لأن العمرة لم تتم في أشهر الحج مع اجتماع إحراميهما في أشهر الحج وكذلك لو قرن ثم وقف بعرفات قبل أن يطوف لعمرته لم يكن متمتعا فلا اعتبار إذا باجتماع الإحرامين في أشهر الحج وإنما الواجب اعتبار فعل العمرة مع الحج في أشهر الحج وكذلك قول من قال عمرته في الشهر الذي يهل فيه لا معنى له لما بينا من سقوط اعتبار الإحرام دون أفعالها والله أعلم بالصواب
باب

ذكر اختلاف أهل العلم في حاضري المسجد الحرام
قال أبو بكر اختلف الناس في ذلك على أربعة أوجه فقال عطاء ومكحول من دون المواقيت إلى مكة وهو قول أصحابنا إلا أن أصحابنا يقولون أهل المواقيت بمنزلة دونها وقال ابن عباس ومجاهد هم أهل الحرم وقال الحسن وطاوس ونافع وعبدالرحمن الأعرج هم أهل مكة وهو قول مالك بن أنس وقال الشافعي هم من كان أهله دون ليلتين وهو حينئذ أقرب المواقيت وما كان وراء فعليهم المتعة قال أبو بكر لما كان أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها بغير إحرام وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة ألا ترى أن من خرج من مكة فما لم يجاوز الميقات فله الرجوع ودخولها بغير إحرام وكان تصرفهم في الميقات فما دونه بمنزلة تصرفهم في مكة فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة في حكم المتعة ويدل على أن الحرم وما قرب منه أهل من حاضري المسجد الحرام قوله تعالى

إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام وليس أهل مكة منهم لأنهم كانوا قد أسلموا حين فتحت فإنما نزلت الآية بعد الفتح في حجة أبي بكر وهم بنو مدلج وبنو الدئل وكانت منازلهم خارج مكة في الحرم وما قرب منه فإن قيل كيف يكون أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبينها مسيرة عشر ليال قيل له أنهم وإن لم يكونوا من حاضري المسجد الحرام فهم في حكمهم في باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام وفي باب أنهم متى أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم كما أن أهل مكة إذا أرادوا الإحرام أحرموا من منازلهم فيدل ذلك على أن المعنى حاضروا المسجد الحرام ومن في حكمهم وقال الله عز و جل في شأن البدن ثم محلها إلى البيت العتيق وقال ص -

منى منحر وفجاج مكة منحر فكان مراد الله بذكر البيت ما قرب من مكة وإن
كان خارجا منها وقال تعالى والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد وهي مكة وما قرب منها فهاتان المتعتان قد بينا حكمهما وهما القران والتمتع وأما المتعة الثالثة فإنها على قول عبدالله بن الزبير وعروة بن الزبير أن يحصر الحاج المفرد بمرض أو أمر يحبسه فيقدم فيجعلها عمرة ويتمتع بحجة إلى العام المقبل ويحج فهذا المتمتع بالعمرة إلى الحج فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر يوم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجة بعمل عمرة وهذا خلاف قول الله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ثم قال ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ولم يفرق بين الحج والعمرة فيما أباح من الإحلال بالحلق ولا خلاف أن هذا الحلق للإحلال من العمرة فكذلك الحج والنبي صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلق هو وحل وأمرهم بالإحلال ومع ذلك فإن عمل العمرة الذي يلزم بالفوات ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة مفعول بإحرام الحج والله سبحانه إنما قال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج وليس الذي يفوته الحج بالمعتمر وأيضا فإنه قال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وهو إنما أوجب عليه الهدي ليصل به إلى الحلق يوم النحر سواء حج بعد ذلك أو لم يحج ألا ترى أنه لو لم يحج إلا بعد عشر سنين لكان الهدي قائما فدل ذلك على أن المتمتع المذكور في الآية ليس هو ما ذهب إليه ابن الزبير لأن ما في الآية من ذلك إنما يتعلق الهدي فيه بفعل العمرة والحج والدم الذي يلزمه

بالإحصار غير متعلق بوجود الحج بعد العمرة وهذه المتعة هي الإحلال إلى النساء إلا على الوجه الذي ذكرناه من الجمع بين العمرة والحج في أشهر الحج وأما المتعة الرابعة فهي فسح الحاج إذا طاف له قبل يوم النحر وما نعلم أحدا من الصحابة قال بذلك غير ابن عباس فإنه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال أخبرني عطاء عن ابن عباس قال لا يطوف بالبيت أحد إلا أحل قال قلت إنما هذا بعد المعروف قال كان ابن عباس يراه قبل وبعد قال قلت من أين كان يأخذ هذا فقال من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في حجة الوداع أمرهم أن يحلوا ومن قول الله ثم
محلها إلى البيت العتيق قال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت أبا حسان الأعرج يقول قال رجل لابن عباس ما هذه الفتيا التي قد شعبت الناس يعني فرقت بينهم في الفتيا أنه من طاف فقد حل فقال سنة نبيكم ص -
وإن رغمتم قال أبو بكر وقد وردت آثار متواترة في أمر النبي ص
- أصحابه في حجة الوداع بفسخ الحج ولم يكن معه منهم هدي ولم يحل هو ص - وقال إني سقت الهدي ولا أحل إلى يوم النحر ثم أمرهم فأحرموا بالحج يوم التروية حين أرادوا الخروج إلى منى وهي إحدى المتعتين اللتين قال عمر بن الخطاب متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة الحج ومتعة النساء وقال طارق بن شهاب عن أبي موسى في قصة نهي عمر بن الخطاب عن هذه المتعة قال فقلت يا أمير المؤمنين ما هذا الذي أحدثت في شأن النساء فقال أن نأخذ بكتاب الله فإن الله يقول وأتموا الحج والعمرة لله وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فإنه ص
- ما حل حتى نحر الهدي فأخبر عمر أن هذه المتعة منسوخة بقوله وأتموا الحج والعمرة لله وهذا من قوله يدل على جواز نسخ السنة بالقرآن وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن ذلك كان خاصا لأولئك حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا نعيم عن عبدالعزيز بن محمد عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن عن الحرث بن بلال بن الحرث عن أبيه بلال بن الحرث المزني قال قلت يا رسول الله فسخ الحج لنا أو لمن بعدنا قال لا بل لنا خاصة وقال أبو ذر لم يكن فسخ الحج بعمرة إلا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروي عن علي وعثمان وجماعة من الصحابة إنكار فسخ الحج بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
وفي قول عمر متعتان كانتا على عهد

رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وعلم الصحابة بها ما يوجب أن يكونوا قد علموا من نسخها مثل علمه لولا ذلك
ما أقروه على النهي عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم - وعلم الصحابة من غير ثبوت النسخ وقد روي عن جابر من طرق صحيحة أن سراقة بن مالك قال يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال هي لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فأخبر في هذا الحديث أن العمرة التي فسخوا بها الحج كانت خاصة في تلك الحال وأن مثلها لا يكون وأما قوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة فإنه مما حدثنا به جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أبو عبيد وقوله دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة يفسر تفسيرين أحدهما أن يكون دخول العمرة في الحج هو الفسخ بعينه وذلك أنه يهل الرجل بالحج ثم يحل منه بعمرة إذا طاف بالبيت والآخر أن يكون دخول العمرة في الحج هو المتعة نفسه وذلك أن يفرد الرجل العمرة في أشهر الحج ثم يحل منها بحج من عامه قال أبو بكر وكلا الوجهين ملبس غير لائق باللفظ والذي يقتضيه ظاهره أن الحج نائب عن العمرة والعمرة داخلة فيه فمن فعل الحج فقد كفاه عن العمرة كما تقول الواحد داخل في العشرة يعني أن العشرة مغنية عنه وموفية عليه فلا يحتاج إلى استنئاف حكمه ولا ذكره وقد قيل في أمر النبي صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالإحلال معنى آخر وهو ما رواه عمر بن ذر عن مجاهد في قصة أحلال النبي صلى الله عليه وسلم -
وقال في آخره قلت لمجاهد أكانوا فرضوا الحج وأمرهم أن يهلوا أو ينتظرون
ما يؤمرون به وقال أهلوا بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم - وانتظروا ما يؤمرون به وكذلك قال كل واحد من علي وأبي موسى أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم -
وكذلك كان إحرام النبي ص
- بديا ويدل عليه قوله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به وبه أمر أصحابه ويدل عليه قوله أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وهو وادي العقيق فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل حجة في عمرة فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم -
خرج ينتظر ما يؤمر به فلما بلغ الوادي أمر بحجة في عمرة ثم أهل أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم - بالحج وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم - أحرم بذلك فجاز لهم مثله فلما أحرم منهم من أحرم بالحج لم يكن إحرامه صحيحا وكان موقوفا كما كان إحرام علي وأبي موسى موقوفا ونزل الوحي وأمروا بالمتعة بأن يطوفوا بالبيت ويحلوا ويعملوا عمل

العمرة ويحرموا بالحج كما يؤمر من يحرم بشيء لا يسميه لأنه يجعله عمرة إن شاء وإن لم تكن تسميتهم الحج تسمية صحيحة إذ كانوا مأمورين بإنتظار أمر النبي صلى الله عليه وسلم - فكان وجه الخصوص لأولئك الصحابة أنهم أحرموا بالحج ولم يصح تعيينهم له فكانوا بمنزلة من أحرم بشيء لا ينويه بعينه إذ كانوا مأمورين بانتظار أمره ص - وغيرهم من سائر الناس من أحرم بشيء بعينه لزمه حكمه وليس له صرفه إلى غيره وقد أنكر قوم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - أمر بفسخ الحج على حال واحتجوا بما روى زيد بن هارون قال حدثنا محمد بن عمر عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب أن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنواعا فمنا من أهل بحج مفردا ومنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة فمن أهل بالحج مفردا لم يحل مما أحرم عليه حتى يقضي مناسك الحج ومن أهل بعمرة فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وحل من حرمه حتى يستقبل حجا وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثني أبو عبيد قال حدثني عبدالرحمن بن مهدي عن مالك بن أنس عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالحج والعمرة ومنا من أهل بالعمرة قالت
وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم - بالحج فأما من أهل بالعمرة فطاف بالبيت وسعى وحل وأما من أهل بالحج أو بالحج والعمرة فلم يحل إلى يوم النحر وقال حدثنا أبو عبيد قال حدثني عبدالرحمن عن مالك عن أبي الأسود عن سليمان بن يسار مثل ذلك إلا أنه لم يذكر إهلال النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن عائشة خلاف ذلك حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يزيد عن يحيى بن سعيد أن عمرة بنت عبدالرحمن أخبرته أنها سمعت عائشة تقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة ونحن لا نرى إلا الحج فلما قربنا أو دنونا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي أن يجعلها عمرة قالت فأحل الناس كلهم إلا من كان معه هدي قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن صالح عن الليث عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك وزاد فيه قال يحيى فذكرت ذلك للقاسم بن محمد فقال جاءتك بالحديث على وجهه وهذا هو الصحيح لما ورد فيه من الآثار المتواترة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
أصحابه بفسخ الحج وقول عمر بحضرة الصحابة متعتان كانتا على عهد رسول الله
ص - أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما

متعة النساء ومتعة الحج وهو يعني هذه المتعة فلم يظهر من أحد منهم إنكاره ولا الخلاف عليه ولو تعارضت أخبار عائشة لكان سبيلها أن تسقط كأنه لم يرو عنها شيء وتبقى الأخبار الأخر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم -

أصحابه بفسخ الحج من غير معارض ويكون منسوخا بقوله وأتموا
الحج والعمرة لله على ما روي عن عمر رضي الله عنه وقوله فما استيسر من الهدي قال أبو بكر الهدي المذكور ههنا مثل الهدي المذكور للإحصار وقد بينا أن أدناه شاة وأن من شاء جعله بقرة أو بعيرا فيكون أفضل وهذا الهدي لا يجزي إلا يوم النحر لقوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق وقضاء التفث وطواف الزيارة لا يكون قبل يوم النحر ولما رتب هذه الأفعال على ذبح هذه البدن دل على أنها بدن القران والتمتع لاتفاق الجميع على أن سائر الهدايا لا تترتب عليها هذه الأفعال وأن له أن ينحرها متى شاء فثبت بذلك أن هدي المتعة غير مجزي قبل يوم النحر ويدل عليه أيضا قوله ص - لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة وقد كان عليه السلام قارنا وقد ساق الهدي وأخبر أنه لو استقبل من أمره ما استدبر ما ساق الهدي ولو جاز ذبح هدي المتعة قبل يوم النحر لذبحه وحل كما أمر أصحابه وكان لا يكون مستدركا في المستدبر شيئا قد فاته وقال لعلي حين قال أهللت بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم - أني سقت الهدي وإني لا أحل إلى يوم النحر ويدل عليه قوله ص -
خذوا عني مناسككم وهو ص
- نحر بدنه يوم النحر فلزم اتباعه ولم يجز تقديمه على وقته والله سبحانه والله أعلم
باب
صوم التمتع
قال الله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم قال أبو بكر قد اختلف في معنى قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج فروي عن علي أنه قبل يوم التروية بيوم ويوم التروية ويوم عرفة وقالت عائشة وابن عمر من حين أهل الحج إلى يوم عرفة قال ابن عمر ولا يصومهن حتى يحرم قال عطاء يصومهن في العشر حلالا إن شاء وهو قول طاوس وقالا لا يصومهن قبل أن يعتمر قال عطاء وإنما يؤخرهن إلى العشر لأنه لا يدري عسى يتيسر له الهدي قال أبو بكر هذا يدل على أن ذلك عندهما على جهة الاستحباب لا على جهة الإيجاب فيكون بمنزلة استحبابنا لمن لا يجد الماء تأخير التيمم

إلى آخر الوقت إذا رجا وجود الماء وقول علي وعطاء وطاوس يدل على جواز صومهن في العشر حلالا أو حراما لأنم لم يفرقوا بين ذلك وأصحابنا يجيزون صومهن بعد إحرامه بالعمرة ولا يجيزونه قبل ذلك وذلك لأن الإحرام بالعمرة هو سبب التمتع قال الله فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فمتى وجد السبب جاز تقديمه على وقت الوجوب كتعجيل الزكاة لوجود النصاب وتعجيل كفارة القتل لوجود الجراحة ويدل على جواز تقديمه قبل وقت وجوبه لوجود سببه إنا قد علمنا أن وجوب الهدي متعلق بوجوب تمام الحج وذلك إنما يكون بالوقوف بعرفة لأن قبل ذلك يجوز ورود الفساد عليه فلا يكون الهدي واجبا عليه وإذا كان كذلك وقد جاز عند الجميع صوم ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج وإن لم يكن الإحرام به موجبا له إذ كان وجوبه متعلقا بتمام الحج والعمرة جميعا ثبت جوازه بعد وجود سببه وهو العمرة ولا فرق بين إحرام الحج وإحرام العمرة إذا فعله بعد إحرام الحج إنما هو لأجل وجود سببه وذلك موجود بعد إحرام العمرة فإن قيل لو كان ما ذكرت سببا للجواز لوجب أن يجوز السبعة أيضا لوجود السبب قيل له لو لزمنا ذلك على قولنا في جوازه بعد إحرام العمرة للزمك مثله في إجازتك له بعد إحرام الحج لأنك تجيز صوم الثلاثة الأيام بعد إحرام الحج ولا تجيز السبعة فإن قيل فإذا كان الصيام بدلا من الهدي والهدي لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر فكيف جاز الصوم قيل له لا خلاف في جواز الصوم قبل يوم النحر وقد ثبت بالسنة امتناع جواز ذبح الهدي قبل يوم النحر وأحدهما ثابت بالاتفاق وبدليل قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج والآخر ثابت بالسنة فالإعتراض عليهما بالنظر ساقط وأيضا فإن الصوم يقع مراعى منتظر به شيئان أحدهما إتمام العمرة والحج في أشهر الحج والثاني أن لا يجد الهدي حتى يحل فإذا وجد المعنيان صح الصوم عن المتعة وإذا عدم أحدهما بطل أن يكون صوم المتعة وصار تطوعا وأما الهدي فقد رتب عليه أفعال أخر من حلق وقضاء التفث وطواف الزيارة فلذلك اختص بيوم النحر فإن قيل قال الله فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج فلا يجوز تقديمه على الحج قيل له لا يخلو قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج من أحد معان إما أن يريد به في الأفعال التي هي عمدة للحج وما سماه النبي صلى الله عليه وسلم -

حجا وهو الوقوف بعرفة لأنه قال الحج عرفة أو أن يريد في إحرام الحج أو في
أشهر الحج لأن الله تعالى قال الحج أشهر

معلومات وغير جائز أن يكون المراد فعل الحج الذي لا يصح إلا به لأن ذلك إنما هو يوم عرفة بعد الزوال ويستحيل صوم الثلاثة الأيام فيه ومع ذلك فلا خلاف في جوازه قبل يوم عرفة فبطل هذا الوجه وبقي من وجوه الاحتمال في إحرام الحج أو في أشهر الحج وظاهره يقتضي جواز فعله بوجود أيهما كان لمطابقته اللفظ في الآية وأيضا قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج معلوم أن جوازه معلق بوجود سببه لا بوجوبه فإذا ان هذا المعنى موجودا عند إحرامه بالعمرة وجب أن يجزي ولا يكون ذلك خلاف الآية كما أن قوله ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة لا يمنع جواز تقديمها على القتل لوجود الجراحة وكذلك قوله لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول لم يمنع جواز تعجيلها لوجود سببها وهو النصاب فكذلك قوله فصيام ثلاثة أيام في الحج غير مانع جواز تعجيله لأجل وجود سببه الذي به جاز فعله في الحج فإن قيل لم نجد بدلا يجوز تقديمه على وقت المبدل عنه ولما كان الصوم بدلا من الهدي لم يجز تقديمكه عليه قيل له هذا اعتراض على الآية لأن نص التنزيل قد أجاز ذلك في الحج قبل يوم النحر وأيضا فإنا لم نجد ذلك فيما تقدم البدل كله على وقت المبدل عنه وهاهنا إنما جاز تقديم بعض الصيام على وقت الهدي وهو صوم الثلاثة الأيام والسبعة التي معها غير جائز تقديمها عليه لأنه تعالى قال وسبعة إذا رجعتم فإنما أجيز له من ذلك مقدار ما يحل به يوم النحر إذا لم يجد الهدي وأيضا فإن الصوم لما كان بدلا من الهدي وهدي العمرة يصح إيجابه بعد إحرام العمرة ويتعلق به حكم التمتع في باب المنع من الإحلال إلى أن يذبحه فكذلك يجوز الصيام بدلا منه من حيث صح هديا للمتعة ويدل أيضا على صحة كونه عن المتعة أنه متى بعث بهدي المتعة ثم خرج يريد الإحرام أنه يصير محرما قبل أن يلحقه فدل ذلك على صحة هدي المتعة بالسوق فكذلك يصح الصوم بدلا منه إذا لم يجد فإن قيل فقد يصح هديا قبل أن يحرم بالعمرة ولا يجوز الصوم في تلك الحال قيل له قبل إحرام المتعة لم يتعلق به حكم المتعة والدليل على ذلك أنه لا تأثير له في هذه الحال في حكم الإحرام ووجوده وعدمه سواء فلم يصح الصوم معه قبل إحرام العمرة فإذا أحرم بعمرة ثبت لها حكم الهدي في منعه الإحلال فلذلك جاز الصوم في تلك الحال كما صح هديا للمتعة ويدل على جواز تقديم الصوم على إحرام الحج أن سنة المتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية وبذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم -

أصحابه

حين أحلوا من إحرامهم بعمرة ولا يكون إلا وقد تقدم الصوم قبل ذلك
باب

المتمتع إذ لم يصم قبل يوم النحر
قال الله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج واختلف السلف فيمن لم يجد الهدي ولم يصم الأيام الثلاثة قبل يوم النحر فقال عمر بن الخطاب وابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم وطاوس لا يجزيه إلا الهدي وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وقال ابن عمر وعائشة يصوم أيام منى وهو قول مالك وقال علي بن أبي طالب يصوم بعد أيام التشريق وهو قول الشافعي قال أبو بكر قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - النهي عن صوم يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق في أخبار متواترة مستفيضة واتفق الفقهاء على استعمالهما وأنه غير جائز لأحد أن يصوم هذه الأيام عن غير صوم المتعة لا من فرض ولا من نفل فلم يجز صومها عن المتعة لعموم النهي عن الجميع ولما اتفقوا على أنه لا يجوز أن يصوم يوم النحر وهو من أيام الحج للنهي الوارد فيه كذلك لا يجوز الصوم أيام منى ولما لم يجز أن يصومهن عن قضاء رمضان لقوله فعدة من أيام أخر وكان الحظر المذكور في هذه الأخبار قاضيا على إطلاق الآية موجبا لتخصيص القضاء في غيرها وجب أن يكون ذلك حكم صوم التمتع وأن يكون قوله تعالى فصيام ثلاثة أيام في الحج في غير هذه الأيام قال أبو بكر وأيضا لما قال فصيام ثلاثة أيام في الحج ولم يكن صوم هذه الأيام في الحج لأن الحج فائت في هذا الوقت لم يجز أن يصومها فإن قيل لما قال فصيام ثلاثة أيام في الحج وهذه من أيام الحج وجب أن يجوز صومهن فيها قيل له لا يجب ذلك من وجوه أحدها أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم -
عن صوم هذه الأيام قاض عليه ومخصص له كما خص قوله تعالى فعدة
من أيام أخر نهيه عن صيام هذه الأيام والثاني أنه لو كان جائز إلا أنه من أيام الحاج لوجب أن يكون صوم يوم النحر أجوز لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام والثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم -
خص يوم عرفة بالحج بقوله الحج عرفة فقوله فصيام
ثلاثة أيام في الحج يقتضي أن يكون آخرها يوم عرفة والرابع أنه روي أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة وروي أنه يوم النحر وقد اتفقوا أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج فما لم يسم يوم الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى أن لا يصوم فيها وأيضا فإن الذي يبقى بعد يوم النحر إنما هو من توابع الحج

وهو رمي الجمار فلا اعتبار به في ذلك فليس هو إذا من أيام الحج فلا يكون صومها صوما في الحج وأما القول في صومها بعد أيام منى فإن أصحابنا لم يجيزوه لقوله تعالى فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج فجعل أصل الفرض هو الهدي ونقله إلى صوم مقيد بصفة وقد فات فوجب أن يكون الواجب هو الهدي كقوله فصيام شهرين متتابعين وقوله فتحرير رقبة مؤمنة فغير جائز وقوعها عن الكفارة إلا على الصفة المشروطة فإن قيل أكثر ما فيه إيجاب فعله في وقت فلا يسقطه فواته كقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس و حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوله وقرآن الفجر وما جرى مجرى ذلك من الفروض المخصوصة بأوقاتها ثم لم يكن فواتها مسقطا لها فالجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن كل فرض مخصوص بوقت فإن فوات الوقت يسقطه وإنما يحتاج إلى دلالة أخرى في إيجاب فرض آخر لأن المفروض في هذا الوقت الثاني هو غير المفروض في الوقت الأول ولولا قول النبي صلى الله عليه وسلم -

من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لما وجب قضاء الصلاة إذا
فاتت عن أوقاتها وكذلك لولا قوله فعدة من أيام أخر لما وجب قضاء صوم رمضان بعد فواته عن وقته ولما كان صوم الثلاثة الأيام مخصوصا بوقت ومعقودا بصفة وهو فعله في الحج ثم لم يفعله على الصفة المشروطة وفي الوقت المخصوص به لم يجز إيجاب قضائه وإقامة غيره مقامه إلا بتوقيف والثاني أن صوم الثلاثة الأيام جعل بدلا من الهدي عند عدمه بهذه الشريطة فغير جائز إثباته بدلا إلا على هذا الوصف ألا ترى أن التيمم لما كان بدلا عن الماء لم يجز لنا أن نقيم غير التراب مقام التراب عند عدمه مثل الدقيق والأشنان ونحوهما كذلك لما جعل الصوم بدلا عن الهدي على أن يفعله على صفة لا يجوز أن نقيم مقامه صوما غيره على غير تلك الصفة وليس كذلك حكم الصلوات الفوائت لأنا لم نقم القضاء بدلا منها عند عدمها وإنما هي فروض ألزمها عند الفوات فإن قيل شرط الله تعالى صوم الظهار قبل المسيس فإن مسها لم ينتقل إلى العتق كذلك صوم هذه الأيام وإن كان مشروطا في الحج فإن فواته فيه لا يسقط ولا يوجب الرجوع إلى الهدي قيل له من قبل أن صوم الظهار مشروط قبل المسيس والنهي عن المسيس قائم قبله وبعده فالصفة التي علق بها فعل البدل موجودة فلذلك جاز والحج الذي علق به جواز البدل الذي هو الصوم غير موجود

لأن الحج قد فات ففات فعل الصوم بفواته وأيضا فإن ظاهره يقتضي سقوطه بوجوده قبل المسيس ولولا قيام الدلالة من غير الآية على جوازه لما أجزناه ومن الناس من لا يوجب كفارة الظهار بعد المسيس وأظنه مذهب طاوس ولكنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - نهي المظاهر عن الجماع بعد المسيس حتى يكفر والله أعلم
باب ذكر اختلاف الفقهاء فيمن دخل في صوم المتعة ثم وجد الهدي

قال
أصحابنا إذا وجد الهدي بعد دخوله في الصوم أو بعد ما صام قبل أن يحل فعليه الهدي ولا يجزيه غيره وهو قول إبراهيم النخعي وقال مالك والشافعي إذا دخل في الصوم ثم وجد الهدي أجزأه الصوم وليس عليه هدي وروي مثله عن الحسن والشعبي وقال عطاء إذا صام يوما ثم أيسر فعليه الهدي وإن صام ثلاثة أيام ثم أيسر فليس عليه هدي وليصم السبعة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ففرض الهدي قائم عليه ما لم يحل أو يمضي أيام النحر التي هي مسنونة للحلق فمتى وجده فعليه أن يهدي وبطل صومه ومعلوم أن الهدي مشروط للإحلال لأنه لا يجوز أن يحل قبل ذبح الهدي لقوله تعالى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمتى لم يحل حتى وجد الهدي فعليه الهدي لأن الله تعالى لم يفرق في إيجابه الهدي بين حاله قبل دخوله في الصوم وبعده ويدل على أن الهدي مشروط للإحلال قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فأمرهم بقضاء التفث بعد ذبح الهدي فإذا كان كذلك وجب أن يراعى وقوع الإحلال فإن صام رجل ثم وجد الهدي لم ينتقض صومه ولم يلزمه الهدي لوجود المعنى الذي من أجله شرط الهدي ثم نقل عند عدمه إلى البدل وهو بمنزلة المتيمم إذا وجد الماء بعد فراغه من الصلاة والعاري إذا وجد ثوبا والمظاهر إذا فرغ من الصوم ثم وجد الرقبة لأن الفرض قد سقط عنه فلا ينتقض حكم المفعول منه وأما قبل الفراغ من هذه الأشياء التي ذكرنا فإن حكم البدل مراعى فإن تم وفرغ منه فقد وقع موقع البدل وأجزى عن أصل الفرض وإن وجد الأصل قبل الفراغ مما شرط له انتقض حكمه وعاد إلى أصل فرضه ألا ترى أن دخوله في الصلاة مراعى ومنتظر بها آخرها لأن ما يفسد آخرها يفسد أولها فوجب أن يكون حكم التيمم بعد دخوله في الصلاة

منتظرا مراعى وكذلك صوم الظهار إذا دخل فيه فهو مراعى منتظر ألا ترى أنه لو أفطر فيه يوما انتقض كله وعاد إلى أصل فرضه كذلك إذا وجد الرقبة وهو في الصوم وجب أن ينتقض صومه عن الظهار ويعود إلى أصل فرضه كما لو تيمم ولم يدخل في الصلاة حتى وجد الماء انتقض تيممه لأنه وقع مراعى على شريطة أن لا يجد الماء حتى يقضي به الفرض وزعم بعض المخالفين أنه إذا ابتدأ بصوم الظهار فقد سقط عنه فرض الرقبة لصحة الجزء المفعول وكذلك الداخل في الصلاة بالتيمم فقد سقط عنه فرض الطهارة بالماء لهذه الصلاة وكذلك إذا دخل في صوم التمتع فقد سقط عنه فرض الهدي لأن الجزء المفعول منه قد صح وفي الحكم بصحة ذلك إسقاط فرض الأصل قال وليس كذلك المتيمم إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لأن التيمم غير مفروض في نفسه وإنما هو مفروض لأجل الصلاة وهو مراعى فمتى وجد الماء قبل دخوله في الصلاة بطل تيممه والذي في عروض التيمم بعد الدخول دخوله في الصوم وهذا الذي قاله شديد الإختلاف ظاهر الفساد لأن الفرض لم يسقط بدخوله في صوم المتعة ولا في صوم الظهار ولا في الصلاة بل دخوله مراعى موقوف الحكم على آخره والدليل عليه أنه متى أفسد باقي الصلاة فسد ما قبله وكذلك إذا فسد باقي صوم الظهار فسد ما تقدم منه وكذلك لو دخل في صوم المتعة ثم أفسده في أول يوم منه فسد فإن كان واجدا للهدي لم يجزه الصوم بالإتفاق فقوله لما حكمنا بصحة الجزء المفعول من البدل سقط عنه فرض الأصل خطأ لأن الحكم لم يقع بصحته وإنما حكمه أن يكون منتظرا به آخره فإن تم مع عدل فرض الأصل ثبت حكمه وإن وجد الأصل قبل تمامه بطل حكمه وعاد إلى أصل فرضه ومن حيث حكم للمتيمم بحكم الانتظار إلى أن يدخل في الصلاة وجب أن يكون حكمه بعد الدخول في الصلاة لأن الصلاة المفعولة به منتظر بها الفراغ منها فوجب أن لا يختلف حكمه في وجود الماء قبل دخوله في الصلاة وبعده وكذلك سائر ما ذكرنا من صوم التمتع وصوم الظهار ونحوه وقالوا جميعا في الصغيرة المدخول بها إذا فارقها زوجها أن عدتها الشهور وأنه لا يختلف حكمها عند عدم الحيض في وجوده قبل الطلاق أو بعده بعد وجوب الشهور في انتقالها إلى الحيض وكذلك قالوا في الماسح على الخفين إذا خرج وقت مسحه وهو في الصلاة أو قبلها وتساوى حكم الحالين من الإبتداء والبقاء في منع الصلاة ولزوم غسل الرجلين

وكذلك قال الشافعي في المستحاضة إذا زالت استحاضتها وهي في الصلاة أو قبل دخولها فيها في استواء حكم الحالين في باب المنع منها إلا بعد تجديد الطهارة لها وذكر بعض أصحاب مالك أن المرأة إذا طلقها زوجها طلاقا رجعيا ثم مات عنها كانت عليها عدة الوفاة لأنها كانت في حكم الزوجات عند الموت قال فلو أن رجلا كانت تحته أمة وطلقها كانت عليها عدة الأمة فإن عتقت وهي في العدة لم تنتقل عدتها إلى عدة الحرة وإن كان زوجها يملك رجعتها قال لأنه لم يحدث هناك شيء يجب به عدة كما حدث الموت في المسألة التي قبلها وهو موجب للعدة ويلزمه على هذا أن لا تنتقل عدة الصغيرة إذا حاضت لأنه لم يحدث ما يوجب العدة وهو وجود الحيض كما لا يجب بالعتق كما اقتضاه اعتلاله قوله تعالى وسبعة إذا رجعتم روي عن عطاء قال إن شاء صامهن بمكة وإن شاء إذا رجع إلى أهله وروى الحسن قال إن شاء صام في الطريق وإن شاء إذا رجع إلى أهله وكذلك قال مجاهد وسعيد بن جبير وقال ابن عمر والشعبي يصومهن إذا رجع إلى أهله وقوله تعالى إذا رجعتم محتمل للرجوع من منى وللرجوع إلى أهله فهو على أول الرجوعين وهو الرجوع من منى ويدل عليه أن الله حظر صيام أيام التشريق وأباح السبعة بعد الرجوع فالأولى أن يكون المراد الوقت الذي أباح فيه الصوم بعد حظره وهو انقضاء أيام التشريق قوله تعالى تلك عشرة كاملة قال أبو بكر قد قيل فيه وجوه منها أنها كاملة في قيامها مقام الهدي فيما يستحق من الثواب وذلك لأن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب جواز الإحلال بها يوم النحر قبل صيام السبعة فكان جائزا أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب فأعلمنا الله أن العشرة بكمالها هي القائمة مقامه في استحقاق ثوابه وأن الحكم قد تعلق بالثلاثة في جواز الإحلال بها وفي ذلك أعظم الفوائد في الحث على فعل السبعة والأمر بتعجيلها بعد الرجوع لاستكمال ثواب الهدي وقيل فيه أنه أزال احتمال التخيير وأن تكون الواو فيه بمعنى أو إذ كانت الواو قد تكون في معنى أو في بعض المواضع فأزال هذا الاحتمال بقوله تلك عشرة كاملة وقيل المعنى تأكيده في نفس المخاطب والدلالة على انقطاع التفصيل في العدد كما قال الشاعر ... ثلاث واثنتين فهن خمس ... وسادسة تميل إلى شمام

وجعل الشافعي هذا أحد أقسام البيان وذكر أنه من البيان الأول ولم يجعل أحد من أهل العلم ذلك من أقسام البيان لأن قوله ثلاثة وسبعة غير مفتقر إلى البيان ولا إشكال على أحد فيه فجاعله من أقسام البيان مغفل في قوله قوله تعالى الحج أشهر معلومات قال أبو بكر قد اختلف السلف في أشهر الحج ما هي فروي عن ابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء ومجاهد أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وروي عن عبدالله بن مسعود أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة وروي عن ابن عباس وابن عمر في رواية أخرى مثله وكذلك روي عن عطاء ومجاهد وقال قائلون وجائز أن لا يكون ذلك اختلافا في الحقيقة وأن يكون مراد من قال وذو الحجة أنه بعضه لأن الحج لا محالة إنما هو في بعض الأشهر لا في جميعها لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام منى شيء من مناسك الحج وقالوا ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج كان الإختيار عنده فعل العمرة في غيرها كما روي عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج على ما قدمنا وحكى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة لأن من لم يدرك الوقوف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فحجه فائت ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله أشهر معلومات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - أيام منى ثلاثة وإنما هي يومان وبعض الثالث ويقولون حججت عام كذا وإنما الحج في بعضه ولقيت فلانا سنة كذا وإنما كان لقاؤه في بعضها وكلمته يوم الجمعة والمراد البعض وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل للوقت كان المعقول منه البعض قال أبو بكر ولقول من قال أنها شوال وذو العقدة وذو الحجة وجه آخر وهو شائع مستقيم وهو ينتظم القولين من المختلفين في معنى الأشهر المعلومات وهو أن أهل الجاهلية قد كانوا ينسؤن الشهور فيجعلون صفر المحرم ويستحلون المحرم على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال فأبطل الله تعالى النسيء وأقر وقت الحج على ما كان ابتداؤه عليه يوم خلق السموات كما قال ص - يوم حجة الوداع ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة إثنا عشر شهرا منها أربعة حرم شوال وذو القعدة وذو الحجة ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان قال الله تعالى الحج أشهر معلومات

يعني بها هذه الأشهر التي ثبت وقت الحج فيها دون ما كان أهل الجاهلية عليه من تبديل الشهور وتأخير الحج وتقديمه وقد كان وقت الحج معلقا عندهم وهذه الثلاثة التي يأمنون فيها واردين وصادرين فذكر الله هذه الأشهر وأخبرنا باستقرار أمر الحج وحظر بذلك تغييرها وتبديلها إلى غيرها وفيه وجه آخر وهو أن الله لما قدم ذكر التمتع بالعمرة إلى الحج ورخص فيه وأبطل به ما كانت العرب تعتقده من حظر العمرة في الأشهر قال الحج أشهر معلومات فأفاد بذلك أن الأشهر التي يصح فيها التمتع بالعمرة إلى الحج وثبت حكمه فيها هذه الأشهر وإن من اعتمر في غيرها ثم حج لم يكن له حكم التمتع والله أعلم
باب

الإحرام بالحج قبل أشهر الحج
قال أبو بكر قد اختلف السلف في جواز الإحرام قبل أشهر الحج فروى مقسم عن ابن عباس قال من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج وأبو الزبير عن جابر قال لا يحرم الرجل بالحج قبل أشهر الحج وروي مثله عن طاوس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون وعكرمة وقال عطاء من أحرم بالحج قبل أشهر الحج فليجعلها عمرة وقال علي رضي الله عنه في قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله أن إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ولم يفرق بين من كان بين دويرة أهله وبين مكة مسافة بعيدة أو قريبة فدل ذلك على أنه كان من مذهبه جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وما رواه مقسم عن ابن عباس أن من سنة الحج أن لا يحرم بالحج قبل أشهر الحج يدل ظاهره على أنه لم يرد بذلك حتما واجبا وروي عن إبراهيم النخعي وأبي نعيم جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وهو قول أصحابنا جميعا ومالك والثوري والليث بن سعد وقال الحسن بن صالح بن حيي إذا أحرم بالحج قبل أشهر الحج جعله عمرة فإذا أدركته أشهر الحج قبل أن يجعلها عمرة مضى في الحج وأجزأه وقال الأوزاعي يجعلها عمرة وقال الشافعي يكون عمرة قال أبو بكر قد قدمنا فيما سلف ذكر وجه الدلالة على جواز ذلك من قوله تعالى يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وأن ذلك عموم في كون الأهلة كلها وقتا للحج ولما كان معلوما أنها ليست ميقاتا لأفعال الحج وجب أن يكون حكم اللفظ مستعملا في إحرام الحج فاقتضى ذلك جوازه عند سائر الأهلة وغير جائز الاقتصار على بعضها

دون بعض لاتفاق الجميع على أن إرادة الله تعالى عموم جميع الأهلة فيما جعله مواقيت للناس وأنه لم يرد به بعض الأهلة دون بعض فمن حيث انتظم فيما جعله مواقيت للناس جميعا وجب أن يكون ذلك حكمها فيما جعله للحج منها إذ هما جميعا قد انطويا تحت لفظ واحد فإن قيل لما جعلها مواقيت للحج والحج في الحقيقة هو الأفعال الموجبة بالإحرام ولم يكن الإحرام هو الحج وجب أن يحمل على حقيقته فتكون الأهلة التي هي مواقيت للحج شوالا وذا القعدة وذا الحجة لأن هذه الأشهر هي التي تصح فيها أفعال الحج لأنه لو طاف وسعى للحج قبل أشهر الحج لم يصح عند الجميع فيكون لفظ الحج مستعملا على حقيقته قيل له هذا غلط لما فيه من إسقاط حكم اللفظ رأسا وذلك لأن قوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج يقتضي أن تكون الأهلة نفسها ميقاتا للحج وفروض الحج ثلاثة الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيارة ومعلوم أن الأهلة ليست ميقاتا للوقوف ولا لطواف الزيارة إذ هما غير مفعولين في وقت الهلال فلم تبق الأهلة ميقاتا إلا للإحرام دون غيره من فروضه ولو حملناه على ما ذكرت لم يكن شيء من ذهنه الفروض متعلقا بالأهلة ولا كانت الأهلة ميقاتا لها فيؤدي ذلك إلى إسقاط ذكر الأهلة وزوال فائدته فإن قيل إذا كانت معرفة وقت الوقوف متعلقة بالهلال جاز أن يقال أن الهلال ميقات له قيل له ليس ذلك كما ظننت لأن الهلال له وقت معلوم على ما قدمنا فيما سلف ولا يسمى بعد مضي ذلك الوقت هلالا ألا ترى أنه لا يقال للقمر ليلة الوقوف هلالا والله تعالى إنما جعل الهلال نفسه ميقاتا للحج وأنت إنما تجعل غير الهلال ميقاتا وفي ذلك إسقاط حكم اللفظ ودلالته ألا ترى أنه إذا جعل محل الدين هلالا شهر كذا كان الهلال نفسه وقتا لثبوت حق المطالبة ووجوب أدائه إليه لا ما بعده من الأيام وكذلك الإجارات إذا عقدت على الأهلة فإنما يعتبر فيها وقت رؤية الهلال ذلك مفهوم من اللفظ لا يشكل مثله على ذي فهم وأما قوله أن الحج هو اسم للافعال الموجبة بالإحرام وأن الإحرام لا يسمى حجا فإن الإحرام إذا كان سببا لتلك الأفعال ولا يصح حكمها إلا به فجائز أن يسمى باسمه على ما بينا في أول الكتاب من تسمية الشيء باسم غيره إذا كان سببا أو مجاورا فسمى الإحرام حجا على هذا الوجه وأيضا فإنه إذا كان جائزا إضمار الإحرام حتى يكون في معنى قل هي مواقيت للناس

ولإحرام الحج على نحو قوله واسئل القرية ومعناه أهل القرية وقوله ولكن البر من اتقى ومعناه ولكن البر من اتقى وجب استعماله على هذا المعنى ليصح إثبات حكم اللفظ في جعله الأهلة مواقيت الحج وأيضا لما كان الحج في اللغة اسما للقصد وإن كان في الشرع قد علق به أفعال أخر يصح إطلاق الاسم عليه لم يمتنع أن يسمى الإحرام حجا لأن أول قصد يتعلق به حكم هو الإحرام وقبل الإحرام لا يتعلق بذلك القصد حكم فجائز من أجل ذلك أن يسمى الإحرام حجا إذ هو أوله فيكون قوله يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج منتظما للإحرام وغيره من أفعال الحج ومناسكه لو خلينا وظاهره فلما خصت الأفعال بأوقات محصورة خصصناها من الجملة وبقي حكم اللفظ في الإحرام ويدل على أن الحج في اللغة هو القصد قول الشاعر ... يحج مأمومة ... في قعرها لجف ...
يعني يقصدها ليعرف مقدارها وليس يجب من حيث علق بالقصد أفعال أخر لا يستحق القصد اسم الحج في الشرع إلا بها إسقاط اعتبار القصد فيه ألا ترى أن الصوم في أصل اللغة اسم للإمساك وهو في الشرع اسم لمعان أخر معه ولم يسقط مع ذلك اعتبار الإمساك في صحته وكذلك الإعتكاف اسم اللبث وهو في الشرع اسم لمعان أخر مع اللبث فكان معنى الاسم الموضوع له معتبرا وإن ألحقت به في الشرع معان أخر لا يثبت حكم الاسم في الشرع إلا بوجودها وكذلك الحج لما كان اسما في اللغة للقصد ثم كان حكم ذلك القصد متعلقا بالإحرام وما قبله لا حكم له جاز أن يكون الإحرام مسمى بهذا الاسم كما سمي به الطواف والوقوف بعرفة وأفعال المناسك فوجب بحق العموم كون الأهلة كلها ميقاتا للإحرام وقد اقتضى العموم ذلك لسائر أفعال الحج لولا قيام الدلالة على تخصيصها بأوقات محصورة دليل آخر وهو قوله الحج أشهر معلومات وقد قدمنا ذكر أقاويل السلف في الأشهر وأن منهم من قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقال آخرون شوال وذو القعدة وذو الحجة فحصل من اتفاقهم أن يوم النحر من أشهر الحج فوجب بعموم قوله أشهر معلومات جواز الإحرام بالحج يوم النحر وإذا صح يوم النحر جاز في سائر السنة لأن أحدا لم يفرق في جوازه بين يوم النحر وبين سائر أيام السنة فإن قيل أن من قال عشر من ذي الحجة إنما أراد به عشر ليال ولم يجعل يوم النحر منها لأنه يكون الحج فائتا بطلوع

الفجر من يوم النحر قيل له قول من قال عشرا إن كان مراده عشر ليال فإن ذكر الليالي يقتضي دخول ما بإزائها من الأيام كقوله في موضع ثلاث ليال سويا وقد أراد الأيام الا ترى إلى قوله في موضع آخر عند ذكر هذه القصة بعينها ثلاثة أيام إلا رمزا وقال تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا وهي أربعة أشهر وعشرة أيام وقد روي عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن شداد وعبدالله بن أبي أوفى في آخرين أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر ويستحيل أن يكون يوم النحر يوم الحج الأكبر ولا يكون من أشهر الحج ومع ذلك فإن قوله الحج أشهر معلومات يقتضي ظاهره استيعاب الشهور الثلاثة ولا ينقص شيء منه إلا بدلالة فثبت بذلك أن يوم النحر من أشهر الحج وقد أباح الله الإحرام فيه بقوله الحج أشهر معلومات فوجب أن يصح ابتداء الإحرام فيه وإذا صح فيه صح في سائر أيام السنة بالاتفاق وفي هذه الآية دلالة من وجه آخر على جواز الإحرام قبل دخول أشهر الحج وهو قوله في سياق الخطاب فمن فرض فيهن الحج معنى فرض الحج فيهن إيجابه فيها لأن سائر الأفعال موجبة به ولم يوقت للفرض وقتا وإنما وقته للفعل لأن الفرض المذكور في هذا الموضع هو لا محالة غير الحج الذي علقه به وإذا كان كذلك كان الوقت وقتا لأفعال المناسك وألزمه إياها بفرض غير موقت وجب أن يصح فعل إحرام الحج قبل أشهر الحج يوجب أفعال المناسك ويدلك على ما ذكرنا أنه يصح أن يبتدئ حجا بنذر قبل أشهر الحج فيكون موجبا للحج في وقته المشروط وإن كان إيجابه قبله ومن قال لله علي أن أصوم غدا كان في هذا الوقت موجبا لصوم غد قبل وجوده فكذلك جائز أن يقال لمن أحرم بالحج قبل أشهر الحج أنه موجب للحج في أشهر الحج وإن كان فرضه وابتداء إحرامه في غيره فاقتضى ظاهر قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج إيجاب فعل الحج بفرض قبلهن أو فيهن إذ كان ظاهر اللفظ يتناول الفروض في الوقتين ويدل عليه من جهة السنة حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من أراد الحج فليتعجل وذلك على الإحرام وأفعاله إلا ما قال دليله مما لا يجوز تقديمه على وقته ويدل عليه أيضا قوله في ذكر المواقيت هن لأهلهن ولمن مر عليهم من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة وذلك عموم في جواز الإحرام بالحج في أي وقت مر عليهن من السنة ويدل عليه من جهة

النظر اتفاق الجميع على بقاء إحرام الحج بكماله بعد طلوع الفجر يوم النحر قبل رمي الجمار ولو كان الإحرام بالحج لا يجوز قبل أشهر الحج لوجب أن لا يبقى بكماله في الوقت الذي لا يصح فيه ابتداء الإحرام وفي بقاء إحرامه يوم النحر قبل رمي الجمار دليل على جواز ابتدائه وذلك لأن مناسك الحج محصورة بأوقات غير جائز تقديمها عليها فلو لم يكن يوم النحر وقتا للإحرام لما جاز بقاؤه فيه ألا ترى أن الجمعة لما كانت محصورة بوقت لا يجوز تقديمها عليه لم يجز أن تبقى الجمعة بعد الدخول فيها في وقت لا يصح ابتداؤها فيه نحو أن يدخل في الجمعة ثم يدخل وقت العصر قبل الفراغ منها فتبطل ولا يبقى حكمها بعد خروج الوقت كما لا يصح ابتداؤها فيه فكذلك إحرام الحج لو كان محصورا بأشهر الحج لما صح بقاؤه بكماله بعد انقضائه كما لا يصح عند مخالفينا ابتداؤه فلما صح بقاؤه في يوم النحر صح ابتداؤه ويدل على ذلك اتفاق الجميع على جواز الإحرام بالحج في وقت يتراخى عنه أفعاله ولا يصح إيقاعها فيه ووجب أن يجوز تقديمه على أشهر الحج كما صح فعله فيها لأن موجبه من الإفعال متراخ عنه وأيضا لو كان الإحرام موقتا لوجب أن يتصل به موجب أفعاله كما أن إحرام الصلاة لما كان موقتا كان موجبه من فرضه متصلا به ولم يجز تراخيه عنه ويحتج لذلك أيضا باتفاق الجميع على أن المتمتع هو الجامع بين أفعال العمرة والحج في سفر واحد ممن ليس من حاضري المسجد الحرام ولا يختلف حكم إحرام العمرة بأن يكون في أشهر الحج أو قبله فيما يقتضيه حكم المتمتع كذلك يجب أن لا يختلف حكم إحرام الحج في كونه في أشهر الحج أو قبله والمعنى الجامع بينهما أن حكم كل واحد من موجب الإحرامين من الأفعال متعلق بوقوعه في أشهر الحج فوجب استواء حكم الإحرامين في الوجه الذي ذكرنا كما استوى حكم أفعالهما في صحة وقوعهما في أشهر الحج واحتج من أبى تجويز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج بظاهر قوله تعالى الحج أشهر معلومات وقد ذكرنا وجه الدلالة منه على جوازه قبل أشهر الحج ومع ذلك فإن قوله الحج أشهر معلومات حكمه متعلق بضمير لا يستغني عنه الكلام وذلك أنه معلوم أن الحج لا يكون أشهرا لأن الحج هو فعل الحاج والأشهر هي فعل الله تعالى وغير جائز أن يكون فعل الله هو فعل العبد فثبت أن فيه ضميرا ويحتمل أن يكون الضمير فعل الحج في أشهر معلومات وليس في شيء منه نفي لجواز إحرامه قبل أشهر الحج وإنما يفيد أن

فعل الحج في هذه الأشهر وأن الإحرام جائز فيها وليس في تجويز الإحرام فيها نفي لجوازه في غيرها فإن قيل قد تضمن ذلك الأمر بإحرام الحج أو أفعاله فيها فغير جائز فعلها في غيرها قيل له هذا غلط لأنه ليس في اللفظ دلالة على الأمر وإنما فيه الدلالة على جوازه فيها فأما الإيجاب فلا دلالة عليه من اللفظ وإذا كان كذلك فأكثر ما فيه تجويز إحرام الحج وأفعاله في هذه الأشهر وليس فيه نفي لجوازه في غيرها فإن قيل فإذا كان الإحرام جائزا في سائر السنة فلا معنى لتوقيت الأشهر له وهذا المذهب يؤدي إلى إسقاط فائدة التوقيت قيل له ليس كذلك بل فيه عدة فوائد منها أنه أفاد أن أفعال الحج مخصوصة بهذه الأشهر ألا ترى أنا نقول أنه لو كان طاف وسعى قبل أشهر الحج أنه لا يعتد به ويعيده ومنها أن التمتع إنما يتعلق حكمه بفعل العمرة مع الحج في هذه الأشهر حتى لو قدم طواف العمرة على أشهر الحج وحج من عامه لم يكن متمتعا ولذلك قال أصحابنا فيمن قرن ودخل مكة قبل أشهر الحج وطاف للعمرة وسعى ومضى على قرانه أنه ليس بمتمتع وليس عليه دم القران فأفادت الآية أن هذه الأشهر هي التي يتعلق به حكم التمتع إذا جمع بين العمرة والحج فيها ومع ذلك فلو كان قوله تعالى الحج أشهر معلومات يوجب الاقتصار به عليها دون غيرها من الشهور لوجب أن نصرفه إلى أفعال الحج دون إحرامه ليسلم لنا عموم قوله يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج في جواز الإحرام في سائر الأهلة ولو حملناه على الإحرام لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة قوله قل هي مواقيت للناس والحج والاقتصار به على معنى قوله الحج أشهر معلومات ومع ذلك فلا نكون مستعملين له لأن الله قد أخبر أنه جعل الأهلة وقتا للحج ومتى قصرناه على أشهر الحج لم يتعلق حكمه بالأهلة وكان متعلقا بأوقات أخر غيرها مثل يوم عرفة للوقوف ويوم النحر للطواف والرمي ونحوه وأيضا فغير جائز أن يريد الإحرام وأفعاله ومتى أراد الأفعال انتفى الإحرام لامتناع إرادتهما بلفظ واحد لأن أحدهما هو المقصود بعينه وهو أفعال المناسك والآخر سبب له سمي باسمه على طريق المجاز فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد ألا ترى أن من حج ولم يقف فجائز أن يقال أنه لم يحج ومتى وقف أطلق عليه اسم الحاج وأيضا لما قال تعالى الحج أشهر معلومات وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

الحج عرفة وجب أن يكون ذلك تعريفا للحج المذكور في قوله الحج
أشهر معلومات فتكون

الألف واللام لتعريف المعهود فيصير حينئذ تقدير الآية مع الخبر الحج الذي هو الوقوف بعرفة في أشهر معلومات ويكون فائدة ذكر الأشهر ما قدمنا وأيضا لو صح إرادة الوقت للإحرام وجب استعماله في الأشهر على الندب وقوله مواقيت للناس والحج على الجواز حتى يوفى كل واحد من اللفظين حظه من الفائدة وقسطه من الحكم فإن قيل إذا أراد به الإحرام لم يجز تقديمه على وقته ويصير بمنزلة قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس وقوله وأقم الصلاة طرفي النهار ونحو ذلك من الآي التي فيها توقيت العبادات قيل له قد بينا أن قوله الحج أشهر معلومات لا دلالة فيه على الوجوب لأنه ليس بأمر وفيه ضمير يحتاج في إثباته إلى دلالة من غيره لاحتماله أن يكون المراد جواز الحج ويحتمل أن يريد به فضيلة الحج فليس في ظاهر اللفظ دليل على أن المراد بالتوقيت المذكور فيه لماذا هو فلذلك لم يصح الاستدلال على توقيت الإحرام بالأشهر على جهة الإيجاب وأما الصلاة فإن الله تعالى نص فيها على الأوقات المذكورة بلفظ يقتضي الإيجاب فيها من غير احتمال لغيرها بقوله أقم الصلاة لدلوك الشمس وما جرى مجراه من الأوامر الموقتة ووجه آخر وهو أنا سلمنا لهم أن ذلك وقت الإحرام لم تلزم الصلاة عليه من قبل أن تقديم إحرام الصلاة على وقتها إنما لم يجز من حيث اتصلت فروضها وأركانها بالإحرام وسائر فروضها غير جائزة متراخية عن تحريمتها فلذلك كان حكم تحريمتها حكم سائر أفعالها ولا خلاف في جواز إحرام الحج في وقت يتراخى عنه سائر أفعاله وغير جائز شيء من فروضه عقيب إحرامه فلذلك اختلفا ومن جهة أخرى وهو أن كونه منهيا عن فعل الإحرام لا يمنع صحة لزومه وكون الصلاة منهيا عنها يمنع صحة الدخول فيها والدليل على ذلك أن من تحرم بالصلاة محدثا أو غير مستقبل القبلة عامدا أو عاريا وهو يجد ثوبا لم يصح دخوله فيها ولو أحرم بالحج وهو مخالط لامرأته أو لابس ثيابا كان إحرامه واقعا ولزمه حكمه مع مقارنة ما يفسده فلم يجز اعتبار أحكام إحرام الحج بالصلاة ووجه آخر وهو أن ترك بعض فروض الصلاة يفسدها مثل الحدث والكلام والمشي وما جرى مجرى ذلك وترك بعض فروض الإحرام لا يفسده لأنه لو تطيب أو لبس أو اصطاد لم يفسده مع كون ترك هذه الأمور فرضا فيه وأيضا وجدنا من فروض الحج ما يفعل بعد أشهر الحج ويكون مفعولا في وقته وهو طواف الزيارة ولم نجد شيئا من

فروض الصلاة يفعل بعد خروج وقتها إلا على وجه القضاء فلم يجز أن تكون الصلاة أصلا للإحرام ويمكن أن يجعل ذلك دليلا في أصل المسألة بأن يقال لما كان بعض فروض الحج مفعولا بعد أشهر الحج ويكون ذلك وقتا له كذلك جائز أن يكون إحرامه قبل أشهر الحج ويكون ذلك وقتا لأنه لو لم يجز تقديمه على أشهر الحج لما جاز تأخير شيء من فروضه عنه كالصلاة فإن قيل لما اتفق الجميع على أن من فاته الحج لا يجوز أن يفعل بإحرامه ذلك حجا في القابل وكان عليه أن يتحلل بعمل عمرة دل ذلك على أن الإحرام بالحج في غير أشهر الحج يوجب عمرة وأنه غير جائز أن يفعل به حجا قيل له فقد جاز أن يبقى إحرامه كاملا بعد أشهر الحج وهو يوم النحر قبل رمي الجمار حتى زعم الشافعي أنه إن جامع يوم النحر قبل رمي الجمار فسد حجه وقد ذكرنا فيما سلف وجه الاستدلال من ذلك على جواز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج إذ لم يكن يوم النحر عنده من أشهر الحج وقد جاز بقاء إحرامه بكماله فيه فدل على معنيين أحدهما سقوط سؤال السائل لنا واعتراضه بما ذكره إذ قد جاز وجود إحرام صحيح بالحج قبل أشهر الحج والمعنى الثاني أنه دل على جواز ابتداء إحرام الحج قبل أشهر الحج إذ قد جاز بقاؤه فيه على ما بيناه فيما سلف وأما قول الشافعي في أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج يكون محرما بعمرة فإنه قول ظاهر الإختلال والفساد لأنه لا يخلو من أن يلزمه إحرام الحج على ما عقده على نفسه أو لا يلزمه فإن لم يلزمه كان كمن لم يحرم وبمنزلة من أحرم بالظهر قبل دخول وقتها فلا يلزمه شيء ولا يكون داخلا فيها ولا في غيرها وأن يلزمه الحج فقد جاز أداء الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وإذا صح إحرامه وأمكنه المضي فيه لم يجز له أن يتحلل منه بعمرة فإن قيل هو بمنزلة من فاته الحج فيلزمه أن يتحلل بعمرة قيل له ليس ذلك بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج ألا ترى أن من فاته الحج وهو بمكة أنه غير مأمور بالخروج منها إلى الحل لأجل ما لزمه من عمل العمرة إذ كان وقت العمرة لمن كان بمكة الحل ولو أراد أن يبتدئ عمرة لأمر بالخروج إلى الحل فدل ذلك على أن ما يفعله بعد الفوت ليس بعمرة وإنما هو عمل عمرة يتحلل به من إحرام الحج وإحرام الحج باق مع الفوات وأيضا فالذي فاته قد لزمه إحرام الحج وإنما احتاج إلى الإحلال منه بعمل عمرة فهل يقول الشافعي أن المحرم بالحج قبل أشهر الحج قد لزمه الحج ويتحلل منه بعمل عمرة

ويوجب عليه قضاء الحج فإذا لم يكن عنده محرما بالحج فقد لزمه في ذلك شيئان أحدهما أنه لزمه عمرة لم يعقدها على نفسه ولم ينوها والثاني أنه جعله بمنزلة الذي يفوته الحج بعد الإحرام وهذا لم يحرم قط به فألزمه عمرة لا سبب لها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -

الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فإذا أحرم ونوى الحج فواجب أن
يلزمه ما نوى بقضية قوله ص - وإنما لكل امرئ ما نوى قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله فقال ابن عباس رواية والحسن وقتادة فمن أحرم وروى شريح عن أبي إسحاق عن ابن عباس فمن فرض فيهن الحج قال التلبية وكذلك روي عن عبدالله بن مسعود وابن عمر وإبراهيم النخعي وطاوس ومجاهد وعطاء وقالت عمرة عن عائشة لا إحرام إلا لمن أهل ولبى قال أبو بكر قول من تأول قوله تعالى فمن فرض فيهن الحج على من أحرم لا يدل على أنه رأى الإحرام جائزا بغير تلبية لأنه جائز أن يقول فمن أحرم وشرط الإحرام أن يلبي فلم يثبت عن أحد من السلف جواز الدخول في الإحرام بغير تلبية أو ما يقوم مقامها من تقليد الهدي وسوقه وأصحابنا لا يجيزون الدخول في الإحرام إلا بالتلبية وتقليد الهدي وسوقه والدليل على ذلك حديث فراد بن أبي نوح قال حدثنا نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وهي كأنها حزينة فقال مالك فقالت لا أنا قضيت عمرتي وألفاني الحج عاركا قال ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم فحجي وقولي ما يقول المسلمون في حجهم وذلك يدل على وجوب التلبية لأنها الذي يقوله المسلمون عند الإحرام وأمره ص - على الوجوب ويدل قوله ص -
خذوا عني مناسككم والتلبية من المناسك وقد فعلها عند الإحرام ويدل عليه
قوله ص - أتاني جبريل عليه السلام فقال مر أمتك يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج فيضمن ذلك معنيين فعل التلبية ورفع الصوت بها وقد اتفقوا على أن رفع الصوت غير واجب فبقي حكمه في فعل التلبية ويدل عليه أن الحج والعمرة ينتظمان أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة فأشبهت الصلاة لما تضمنت أفعالا متغايرة مختلفة مفعولة بتحريمة واحدة كان شرط الدخول فيها الذكر كذلك الحج والعمرة واجب أن يكون الدخول فيهما بالذكر أو ما يقوم مقامه وقال أصحابنا إذا قلد بدنة وساقها وهو يريد الإحرام فقد أحرم وقد روى ابنا جابر عن أبيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أن من قلد بدنة فقد أحرم واختلف

السلف في ذلك فقال ابن عمر إذا قلد بدنته فقد أحرم وكذلك روي عن علي وقيس بن سعد وابن مسعود وابن عباس وطاوس وعطاء ومجاهد والشعبي ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وإبراهيم وهذا على أنه قلدها وساقها وهو يريد الإحرام لأنه لا خلاف أنه إذا لم يرد الإحرام لا يكون محرما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إني قلدت الهدي فلا أحل إلى يوم النحر فأخبر أن تقليد الهدي وسوقه كان المانع له من الإحرام فدل على أن لذلك تأثيرا في الإحرام وأنه قائم مقام التلبية في باب الدخول فيه كما كان له تأثير في منع الإحلال والدليل على أن التقليد بانفراده لا يوجب الإحرام ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان يبعث بهديه ويقيم فلا يحرم عليه شيء وكذلك قالت عائشة لا يحرم إلا من أهل ولبى تعني ممن لم يسق هديه ولم يخرج معه قوله تعالى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج اختلف السلف في تأويل الرفث فقال ابن عمر هو الجماع وروي عن ابن عباس مثله وروي عنه أنه التعريض بالنساء وكذلك عن ابن الزبير وروي عن ابن عباس أنه أنشد في حرامه ... وهن يمشين بنا هميسا ... أن يصدق الطير ننك لميسا ...
فقيل له في ذلك فقال إنما الرفث مراجعة النساء بذكر الجماع وقال عطاء الرفث الجماع فما دونه من قول الفحش وقال عمرو بن دينار هو الجماع فما دونه من شأن النساء قال أبو بكر قد قيل إن أصل الرفث في اللغة هو الإفحاش في القول وبالفرج الجماع وباليد الغمز للجماع وإذا كان كذلك قد تضمن نهيه عن الرفث في الحج هذه الوجوه كلها وحصل من اتفاق جميع من روي عنه تأويله أن الجماع مراد به في هذه الآية ويدل على أن الرفث الفحش في المنطق قوله ص - إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إني صائم والمراد فحش القول وإن كان المراد بالرفث هو التعريض بذكر النساء في الإحرام فاللمس والجماع أولى أن يكون محظورا كما قال تعالى فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما عقل منه النهي عن السب والضرب وقد ذكر الله تعالى الرفث في شأن الصوم فقال أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ولا خلاف أنه يريد به الجماع وعقل منه إباحة ما دونه كما أن حظره الرفث في الحج وهو التعريض واللمس قد عقل به حظر ما فوقه من الجماع لأن حظر القليل يدل على الكثير من جنسه وإباحة الكثير تدل على إباحة القليل من جنسه

وقد روي عن محمد بن راشد قال خرجنا حجاجا فمررنا بالرويثة فإذا بها شيخ يقال له أبو هرم قال سمعت أبا هريرة يقوم للمحرم من امرأته كل شيء إلا الجماع قال فأهوى رجل منا إلى امرأته فقبلها فقدمنا مكة فذكرنا ذلك لعطاء فقال قاتله الله قعد على طريق من طرق المسلمين يفتنهم بالضلالة ثم قال للذي قبل امرأته أهرق دما وهذا شيخ مجهول وما ذكره قد اتفقت الأمة على خلافه وعلى أن من قبل امرأته في إحرامه بشهوة فعليه دم وروي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر والحسن وعطاء وعكرمة وإبراهيم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ذلك وهو قول فقهاء الأمصار ولما ثبت بما ذكرنا حظر مراجعة النساء بذكر الجماع في حال الإحرام والتعريض به واللمس وذلك كله من دواعي الجماع دل ذلك على أن الجماع ودواعيه محظورة على المحرم وذلك دليل على حظر التطيب لهذا المعنى بعينه ولما ورد فيه من السنة وأما الفسوق فروي عن ابن عمر قال الفسوق السباب والجدال المراء وقال ابن عباس الجدال أن تجادل صاحبك حتى تغيظه والفسوق المعاصي وروي عن مجاهد لا جدال في الحج قال قد أعلم الله تعالى أشهر الحج فليس فيها شك ولا خلاف قال أبو بكر جميع ما ذكر من هذه المعاني عن المتقدمين جائز أن يكون مراد الله تعالى فيكون المحرم منهيا عن السباب والمماراة في أشهر الحج وفي غير ذلك وعن الفسوق وسائر المعاصي فتضمنت الآية الأمر بحفظ اللسان والفرج عن كل ما هو محظور من الفسوق والمعاصي والمعاصي والفسوق وإن كانت محظورة قبل الإحرام فإن الله نص على حظرها في الإحرام تعظيما لحرمة الإحرام ولأن المعاصي في حال الإحرام أعظم وأكبر عقابا منها في غيرها كما قال ص -

إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن جهل عليه فليقل إني امرؤ
صائم وقد روي أن الفضل بن العباس كان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم - من المزدلفة إلى منى فكان يلاحظ النساء وينظر إليهن فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - يصرف وجهه بيده من خلفه وقال إن هذا يوم من ملك سمعه وبصره غفر له ومعلوم حظر ذلك في غير ذلك اليوم ولكنه خص اليوم تعظيما لحرمته فكذلك المعاصي والفسوق والجدال والرفث كل ذلك محظور ومراد بالآية سواء كان مما حظره الإحرام أو كان محظورا فيه وفي غيره بعموم اللفظ ويكون تخصيصه إياها بحال الإحرام تعظيما للإحرام وإن كانت محظورة في غيره وقد روى مسعود عن منصور عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي

ص - قال من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه وهذا موافق لدلالة الآية وذلك لأن الله تعالى لما نهى عن المعاصي والفسوق في الحج فقد تضمن ذلك الأمر بالتوبة منها لأن الإصرار على ذلك هو من الفسوق والمعاصي فأراد الله تعالى أن يحدث الحاج توبة من الفسوق والمعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وقوله تعالى ولا
جدال في الحج قد تضمن النهي عن مماراة صاحبه ورفيقه وإغضابه وحظر الجدال في وقت الحج على ما كان عليه أمر الجاهلية لأنه قد استقر على وقت واحد وأبطل به النسيء الذي كان أهل الجاهلية عليه وهو معنى قوله ص -
ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض يعني عود الحج
إلى الوقت الذي جعله الله له واتفق ذلك في حجة النبي صلى الله عليه وسلم - وقوله فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وإن كان ظاهره الخبر فهو نهي عن هذه الأفعال وعبر بلفظ النفي عنها لأن المنهي عنه سبيله أن يكون منفيا غير مفعول وهو كقوله في الأمر والوالدات يرضعن أولادهن ويتربصن بأنفسهن وما جرى مجراه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر قوله تعالى وتزودوا فإن خير الزاد التقوى روي عن مجاهد والشعبي أن أناسا من أهل اليمن كانوا لا يتزودون في حجهم حتى نزلت وتزودوا فإن خير الزاد التقوى وقال سعيد بن جبير الزاد الكعك والزيت وقيل فيه إن قوما كانوا يرمون بأزوادهم يتسمون بالمتوكلة فقيل لهم تزودوا من الطعام ولا تطرحوا كلكم على الناس وقيل فيه أن معناه أن تزودوا من الأعمال الصالحة فإن خير الزاد التقوى قال أبو بكر لما احتملت الآية الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى وجب أن يكون عليهما إذ لم تقم دلالة على تخصيص زاد من زاد وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج لأنه أحق شيء بالاستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه كما نص على حظر الفسوق والمعاصي فيه وإن كانت محظورة في غيره تعظيما لحرمة الإحرام وإخبارا أنها فيه أعظم مأثما فجمع الزادين في مجموع اللفظ من الطعام ومن زاد التقوى ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ودوام ثوابه وهذا يدل على بطلان مذهب المتوصفة الذين يتسمون بالمتوكلة في تركهم التزود والسعي في المعاش وهو يدل على أن من شرط استطاعة الحج الزاد والراحلة لأنه خاطب بذلك من خاطبه بالحج وعلى هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم -
حين سئل عن الإستطاعة فقال هي الزاد والراحلة والله الموفق

باب التجارة في الحج
قال الله عقيب ذكر الحج والتزود له ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم يعني المخاطبين بأول الآية وهم المأمورون بالتزود للحج وأباح لهم التجارة فيه وروى أبو يوسف عن العلاء بن السائب عن أبي أمامة قال قلت لابن عمر إني رجل أكري الإبل إلى مكة أفيجزي من حجتي قال ألست تلبي فتقف وترمي الجمار قلت بلى قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن مثل ما سألتني فلم يجبه حتى أنزل الله هذه الآية ليس
عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فقال ص -
أنتم حاج وقال عمرو بن دينار قال ابن عباس كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا
للناس في الجاهلية فلما كان الإسلام تركوا حتى نزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أتاني رجل فقال إني آجرت نفسي من قوم على أن أخدمهم ويحجون بي فهل لي من حج فقال ابن عباس هذا من الذين قال الله تعالى لهم نصيب مما كسبوا وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين منهم الحسن وعطاء ومجاهد وقتادة ولا نعلم أحدا روي عنه خلاف ذلك إلا شيئا رواه سفيان الثوري عن عبدالكريم عن سعيد بن جبير قال سأله رجل أعرابي فقال إني أكري إبلي وأنا أريد الحج أفيجزيني قال لا ولا كرامة وهذا قول شاذ خلاف ما عليه الجمهور وخلاف ظاهر الكتاب في قوله ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فهذا في شأن الحاج لأن أول الخطاب فيهم وسائر ظواهر الآي المبيحة لذلك دالة على مثل ما دلت عليه هذه الآية نحو قوله وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وقوله وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر إلى قوله ليشهدوا منافع لهم ولم يخصص شيئا من المنافع دون غيرها فهو عام في جميعها من منافع الدنيا والآخرة وقال تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا ولم يخصص منه حال الحج وجميع ذلك على أن الحج لا يمنع التجارة وعلى هذا أمر الناس من عصر النبي صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا في مواسم منى ومكة في أيام الحج والله أعلم
باب الوقوف بعرفة
قال الله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام قال أبو بكر

قد دل ذلك على أن مناسك الحج الوقوف بعرفة وليس في ظاهره دلالة على أنه من فروضه فلما قال في سياق الخطاب ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس أبان بذلك عن فرض الوقوف ولزومه وذلك لأن أمره بالإضافة مقتض للوجوب ولا تكون الإفاضة فرضا إلا والكون بها فرضا حتى يفيض منها إذ لا يتوصل إلى الإفاضة إلا بكونه قبلها هناك وقد اختلف في تأويل قوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فروي عن عائشة وابن عباس وعطاء والحسن ومجاهد وقتادة والسدي أنه أراد الإفاضة من عرفة قالوا وذلك لأن قريشا ومن دان دينها يقال لهم الحمس كانوا يقفون بالمزدلفة ويقف سائر العرب بعرفات فلما جاء الإسلام أنزل الله تعالى على نبيه ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - قريشا ومن دان دينها أن يأتوا عرفات فيقفوا بها مع الناس ويفيضوا من حيث أفاض الناس وحكي عن الضحاك أنه أراد به الوقوف بالمزدلفة وأن يفيضوا من حيث أفاض إبراهيم عليه السلام وقيل أنه إنما قال الناس وأراد إبراهيم وحده كما قال تعالى الذين قال لهم الناس وكان رجلا واحدا ولأن إبراهيم عليه السلام لما كان الإمام المقتدى به سماه الله تعالى أمة كان بمنزلة الأمة التي تتبع سنته جاز إطلاق اسم الناس والمراد به هو وحده والتأويل الأول هو الصحيح لاتفاق السلف عليه والضحاك لا يزاحم به هؤلاء فهو قول شاذ وإنما ذكر الناس هاهنا وأمر قريشا بالإفاضة من حيث أفاض الناس لأنهم كانوا أعظم الناس وكانت قريش ومن دان دينها قليلة بالإضافة إليهم فلذلك قال من حيث أفاض الناس فإن قيل لما قال فإذا أفضتم من عرفات ثم عقب ذلك بقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وثم يقتضي الترتيب لا محالة علمنا أن هذه الإفاضة هي بعد الإفاضة من عرفات وليس بعدها إفاضة إلا من المزدلفة وهي المشعر الحرام فكان حمله على ذلك اولى منه على الإفاضة من عرفة ولأن الإفاضة من عرفة قد تقدم ذكرها فلا وجه لإعادتها قيل له إن قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس عائد إلى أول الكلام وهو الخطاب بذكر الحج وتعليم مناسكه وأفعاله فكأنه قال يا أيها المأمورون بالحج من قريش بعد ما تقدم ذكرنا له أفيضوا من حيث أفاض الناس فيكون ذلك راجعا إلى صلة خطاب المأمورين وهو كقوله تعالى ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن والمعنى بعد ما ذكرنا لكم أخبرناكم أنا آتينا موسى

الكتاب تماما على الذي أحسن ويجوز أن يكون ثم بمعنى الواو فيكون تقديره وأفيضوا من حيث أفاض الناس كما قال تعالى ثم كان من الذين آمنوا معناه وكان من الذين آمنوا وقوله ثم الله شهيد على ما يفعلون معناه والله شهيد فإذا كان ذلك سائغا في اللغة ثم روي عن السلف ما ذكرنا لم يجز العدول عنه إلى غيره وأما قولك أن ذكر عرفات قد تقدم في قوله فإذا أفضتم من عرفات فلا يكون لقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس وجه فليس كذلك لأن قوله فإذا أفضتم من عرفات لا دلالة فيه على إيجاب الوقوف وقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس هو أمر لمن لم يكن يقف بعرفة من قريش فقد أفاد به من إيجاب الوقوف مالم يتضمنه قوله فإذا أفضتم من عرفات إذ لا دلالة في قوله فإذا أفضتم من عرفات على فرض الوقوف ومع ذلك فلو اقتصر على قوله فإذا أفضتم من عرفات لكان جائزا أن يظن ظان أنه خطاب لمن كان يقف بها دون من لم يكن يرى الوقوف بها فيكون التاركون للوقوف على جملة أمرهم في الوقوف بالمزدلفةدون عرفات فأبطل ظن الظان لذلك بقوله ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واتفقت الأمة مع ذلك على أن تارك الوقوف بعرفة لا حج له ونقلته عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قولا وعملا وروى بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال سئل رسول
الله ص - كيف الحج قال الحج يوم عرفة من جاء عرفة ليلة جمع قبل الصبح أو يوم جمع فقد تم حجه وروى الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال بالمزدلفة من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجابر إذا وقف قبل طلوع الفجر فقد تم حجه والفقهاء مجمعون على ذلك وقد اختلف الفقهاء فيمن لم يقف بعرفة ليلا فقال سائرهم إذا وقف نهارا فقد تم حجه وإن دفع منها قبل غروب الشمس فعليه دم عند أصحابنا إن لم يرجع قبل الإمام وقال مالك بن أنس إن لم يرجع حتى طلع الفجر بطل حجه وأصحابه يزعمون أنه قال ذلك لأن مذهبه أن فرض الوقوف بالليل دون النهار وأن الوقوف نهارا غير مفروض إنما هو مسنون وروي عن ابن الزبير أن من دفع من عرفات قبل غروب الشمس فسد حجه والدليل على صحة القول الأول قوله ص - في حديث عروة بن مضرس وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه فحكم بصحة

حجه وإتمامه بوقوفه في أحد الوقتين من ليل أو نهار ويدل عليه أيضا قوله تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض

الناس
وحيث اسم للموضع وهو عرفات فكان بمنزلة قوله أفيضوا من عرفات ولم يخصصه بليل ولا نهار وليس فيه ذكر للوقت فاقتضى ذلك جوازه في أي وقت وقف فيه ويدل عليه من جهة النظر أنا وجدنا سائر المناسك ابتداؤها بالنهار وإنما يدخل فيه الليل تبعا ولم نجد شيئا منها يختص بالليل حتى لا يصح فعله في غيره فقول من جعل فرض الوقوف بالليل خارج عن الأصول ألا ترى أن طواف الزيارة والوقوف بالمزدلفة والرمي والذبح والحلق كل ذلك مفعول بالنهار وإنما يفعل بالليل على أنه يؤخر عن وقته على وجه التبع للنهار فوجب أن يكون ذلك حكم الوقوف بعرفة وأيضا قد نقلت الأمة وقوف النبي صلى الله عليه وسلم - نهارا إلى يومنا هذا وأنه دفع منها عند سقوط الفرض وهذا يدل على أن وقت الوقوف هو النهار ووقت الغروب هو الدفع فاستحال أن يكون الدفع هو وقت الفرض ووقت الوقوف لا يكون وقتا للفرض وأيضا لما قيل يوم عرفة ونقلت هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم - في أخبار كثيرة منها أن الله تعالى يباهي ملائكته يوم عرفة ومنها أن صيام يوم عرفة يعدل صيام سنة ولذلك أطلقت الأمة ذلك عليه دل على أن النهار وقت الفرض فيه وأن الوقوف ليلا إنما يفعله من وقف فائتا ألا ترى أنه لما قيل يوم الجمعة ويوم الأضحى ويوم الفطر كانت هذه الأفعال واقعة في هذه الأيام نهارا ولذلك أضيفت إليها فدل ذلك على أن فرض الوقوف يوم عرفة وأنه يفعل ليلا على وجه القضاء لما فاته كما يرمي الجمار ليلا على وجه القضاء لما فاته نهارا وكذلك الطواف والذبح والحلق واختلف في موضع الوقوف فروى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال كل عرفات موقف وارفعوا عن عرنة وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر وروى
جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال كل عرفة موقف وقال ابن عباس ارتفعوا عن وادي عرنة والمنبر عن مسيله فما فوق ذلك موقف ولم يختلف رواة الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم - دفع من عرفة بعد غروب الشمس وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يدفعون منها إذا صارت الشمس على رؤس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم وإنهم كانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم - ودفع من عرفات بعد الغروب ومن المزدلفة قبل الطلوع وروى سلمة بن كهيل عن الحسن العرني عن ابن عباس قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم - الناس

يوم عرفة فقال يا أيها الناس ليس البر في إيجاب الخيل ولا في إيضاع الإبل ولكن سيرا حسنا جميلا ولا تواطئوا ضعيفا ولا تؤذوا مسلما وروى هشام بن عروة عن أبيه عن أسامة بن زيد قال كان سيرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين يدفع من عرفات العنق غير أنه كان إذا وجد فجوة نص والله أعلم
باب الوقوف بجمع
قال الله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ولم يختلف أهل العلم أن المشعر الحرام هو المزدلفة وتسمى جمعا فمن الناس من يقول أن هذا الذكر هو صلاة المغرب والعشاء اللتين يجمع بينهما بالمزدلفة والذكر الثاني في قوله واذكروه كما هداكم هو الذكر المفعول عند الوقوف بالمزدلفة غداة جمع فيكون الذكر الأول غير الثاني والصلاة تسمى ذكرا قال النبي صلى الله عليه وسلم -

من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وتلا عند ذلك قوله تعالى وأقم
الصلاة لذكري فسمى الصلاة ذكرا فعلى هذا قد اقتضت الآية تأخير صلاة المغرب إلى أن تجمع مع العشاء بالمزدلفة وروى أسامة بن زيد وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من عرفات إلى المزدلفة أنه قال للنبي ص
- في طريق المزدلفة الصلاة فقال الصلاة أمامك فلما أتى المزدلفة صلاها مع العشاء الآخرة والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
متواترة في جمع النبي ص
- بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وقد اختلف فيمن صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة فقال أبو حنيفة ومحمد لا تجزيه وقال أبو يوسف تجزيه وظاهر قوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام إذا كان المراد به الصلاة يمنع جوازها قبله وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم -
الصلاة أمامك وحمله على ذلك أولى من حمله على الذكر المفعول في حال
الوقوف بجمع لأن قوله تعالى واذكروه كما هداكم هو الذكر في موقف جمع فواجب أن نحمل الذكر الأول على الصلاة حتى نكون قد وفينا كل واحد من الذكرين حظه من الفائدة ولا يكون تكرارا وأيضا فإن قوله فاذكروا الله عند المشعر الحرام هو أمر يقتضي الإيجاب والذكر المفعول بجمع ليس بواجب عند الجميع ومتى حمل على فعل صلاة المغرب بجمع كان محمولا على مقتضاه من الوجوب فوجب حمله عليه وقد اختلف أهل العلم في الوقوف بالمزدلفة هل هو من فروض الحج أم لا فقال قائلون هو من فروض الحج ومن فاته فلا حج له كمن فاته الوقوف بعرفة

وقال جمهور أهل العلم حجه تام ولا يفسده ترك الوقوف بالمزدلفة واحتج من لم يجعله من فروضه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي عن النبي ص
- أنه قال الحج عرفة فمن وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه وقال في بعض الأخبار من أدرك عرفة فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة فقد فاته الحج فحكم بصحة حجه بإدراك عرفة ولم يشترط معه الوقوف بجمع ويدل عليه ما روى ابن عباس وابن عمر ونقله الناس قائلين له أن النبي صلى الله عليه وسلم - قدم ضعفة أهله بليل وفي بعض الأخبار ضعفة الناس من المزدلفة ليلا وقال لهم لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس فلو كان الوقوف بها فرضا لما رخص لهم في تركه للضعف كما لا يرخص في الوقوف بعرفة لأجل الضعف فإن قيل لأنهم كانوا وقفوا ليلا وهو وقت الوقوف بها وروى سالم بن عمر وهو أحد من روى حديث تقديم ضعفة الناس من المزدلفة فكان يقدم ضعفة أهله من المزدلفة فيقفون عند المشعر الحرام بليل فيذكرون ما بدا لهم ثم يدفعون قيل له وقت الوقوف بها بعد طلوع الفجر وقد نقل الناس وقوف النبي صلى الله عليه وسلم - بها بعد طلوع الفجر ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم - ضعفة أهله بالوقوف حين عجلهم منها ليلا ولو كان ذلك وقت الوقوف لأمرهم به ولم يرخص لهم في تركه مع إمكانه من غير عذر وما روي عن ابن عمر فإنما هو من فعله ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولم يقل ابن عمر أيضا أن هذا وقت الوقوف وإنما كان ذلك على وجه الاستحباب للذكر قبل الرجوع إلى منى ويدل على أن وقت الوقوف بعد طلوع الفجر إنا وجدنا سائر أفعال المناسك إنما وقتها بالنهار والليل يدخل فيه على وجه التبع على ما بينا واحتج من جعل الوقوف بها فرضا بظاهر قوله تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام فظاهره يقتضي الوجوب ويحتجون أيضا بحديث مطرف بن طريف عن الشعبي عن عروة بن مضرس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من أدرك جمعا والإمام واقف فوقف مع الإمام ثم أفاض مع الناس فقد أدرك الحج ومن لم يدرك فلا حج له وبما روى يعلى بن عبيد قال حدثنا سفيان عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - واقفا بعرفات فأقبل ناس من أهل نجد فسألوه عن الحج فقال الحج يوم عرفة ومن أدرك جمعا قبل الصبح فقد أدرك الحج فأما قوله فاذكروا الله عند المشعر الحرام فلا دلالة فيه على ما ذكروا وذلك لأنه أمر بالذكر وقد اتفق الجميع على أن الذكر هناك

غير مفروض فإن تركه لا يوجب نقصا في الحج وليس للوقوف ذكر في الآية فسقط الاحتجاج به ومع ذلك فقد بينا أن المراد بهذا الذكر هو فعل صلاة المغرب هناك وأما حديث مطرف بن طريف عن الشعبي فإنه قد رواه خمسة من الرواة غير مطرف منهم زكريا بن أبي زائدة وعبدالله بن أبي السفر وسيار وغيرهم عن الشعبي عن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم - ذكروا فيه أنه قال من صلى معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف وأفاض قبل ذلك من عرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه ولم يذكر منهم أحد أنه قال فلا حج له ومع ذلك فقد اتفقوا أن ترك الصلاة هناك لا يفسد الحج وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم - فكذلك الوقوف وقوله فلا حج له يحتمل أن يريد به نفي الفضل لا نفي الأصل كما قال ص -

لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه وكما روى عمر من قدم نفله فلا حج له
وأما حديث عبدالرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فإنه قد روى هذا الحديث محمد بن كثير عن سفيان عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقال فيه من وقف قبل أن يطلع الفجر فقد تم حجه فعلمنا أن المراد بذلك الوقوف بعرفة في شرط إدراك الحج وإن رواية من روى من أدرك جمعا قبل الصبح وهم وكيف لا يكون وهما وقد نقلت الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقوفه بها بعد طلوع الفجر ولم يرو عنه أنه أمر أحدا بالوقوف بها ليلا ومع ذلك فقد عارضته الأخبار الصحيحة التي رويت من قوله من صلى معنا هذه الصلاة ثم وقف معنا هذا الموقف وسائر أخبار عبدالرحمن بن يعمر أنه قال من أدرك عرفة فقد أدرك الحج وقد تم حجه ومن فاته عرفة فقد فاته الحج وذلك ينفي رواية من شرط معه الوقوف بالمزدلفة وأظن الأصم وابن علية القائلين بهذه المقالة واحتجوا فيه من طريق النظر بأنه لما كان في الحج وقوفان واتفقنا على فرضية أحدهما وهو الوقوف بعرفة وجب أن يكون الآخر فرضا لأن الله عز و جل ذكرهما في القرآن كما أنه لما ذكر الركوع والسجود كانا فرضين في الصلاة فقال له أما قولك أنهما لما كانا مذكورين في القرآن كانا فرضين فإنه غلط فاحش لأنه يقتضي أن يكون كل مذكور في القرآن فرضا وهذا خلف من القول وعلى أن الله تعالى لم يذكر الوقوف وإنما قال فاذكروا الله عند المشعر الحرام والذكر ليس بمفروض عند الجميع فكيف يكون الوقوف فرضا فالاحتجاج به من هذا الوجه ساقط فإن كان أوجبه قياسا على الوقوف بعرفة فإنه يطالب

بالدلالة على صحة العلة الموجبة لهذا القياس وذلك معدوم ويقال له أليس قد طاف النبي صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة وسعى ثم طاف أيضا يوم النحر وطاف للصدر وأمر به فهل وجب أن يكون لهذا الطواف كله حكم واحد في باب الإيجاب فإذا جاز أن يكون بعض الطواف ندبا وبعضه واجبا فما ينكر أن يكون حكم الوقوف كذلك فيكون بعضه ندبا وبعضه واجبا قوله تعالى فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم قضاء المناسك هو فعلها على تمام ومثله قوله فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وقوله فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ومنه قوله ص -

فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا يعني افعلوا على التمام وقوله فاذكروا
الله كذكركم آباءكم قد قيل فيه وجهان أحدهما الأذكار المفعولة في سائر أحوال المناسك كقوله إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة وهو مأمور به قبل الطلاق على مجرى قولهم إذا حججت فطف بالبيت وإذا أحرمت فاغتسل وإذا صليت فتوضأ وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وإنما هو قبل الصلاة وكذلك فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله جائز أن يريد الأذكار المسنونة بعرفات والمزدلفة وعند الرمي والطواف وقيل فيه أن أهل الجاهلية كانوا يقفون عند قضاء المناسك فيذكرون مآثرهم ومفاخر آبائهم فأبدلهم الله به ذكره وشكره على نعمه والثناء عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بعرفات إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء الناس من آدم
وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ثم تلا يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم فكان خروج الكلام على حال لأهل الجاهلية في ذكرهم آباءهم والله أعلم
باب
أيام منى والنفر فيها
قال الله عز و جل واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه قال أبو بكر روى سفيان وشعبة عن بكير بن عطاء عن عبدالرحمن بن يعمر الديلي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أيام منى ثلاثة أيام التشريق فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه واتفق أهل العلم على أن قوله بيان المراد الآية في قوله أيام معدودات ولا خلاف بين أهل العلم أن المعدودات أيام التشريق وقد روي ذلك عن علي وعمر

وابن عباس وابن عمر وغيرهم إلا شيء رواه ابن أبي ليلى عن المنهال عن زر عن علي قال المعدودات يوم النحر ويومان بعده اذبح في أيها شئت وقد قيل إن هذا وهم والصحيح عن علي أنه قال ذلك في المعلومات وظاهر الآية ينفي ذلك أيضا لأنه قال فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وذلك لا يتعلق بالنحر وإنما يتعلق برمي الجمار والمفعول في أيام التشريق وأما المعلومات فقد روي عن علي وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت قال ابن عمر المعدودات أيام التشريق وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وقد روى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده أيام التشريق والمعدودات يوم النحر وثلاثة أيام بعده التشريق وروى عبدالله بن موسى أخبرنا عمارة بن ذكوان عن مجاهد عن ابن عباس قال المعدودات أيام العشر والمعلومات أيام النحر فقوله المعدودات أنها أيام العشر لا شك في أنه خطأ ولم يقل به أحد وهو خلاف الكتاب قال الله تعالى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه وليس في العشر حكم يتعلق بيومين دون الثلاث وقد روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول الجمهور من التابعين منهم الحسن ومجاهد وعطاء والضحاك وإبراهيم في آخرين منهم وقد روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران عن بشر بن الوليد قال كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام المعلومات فأملى على أبي يوسف جواب كتابه اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر وإلى ذلك أذهب لأنه قال على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وذكر شيخنا أبو الحسن الكرخي عن أحمد القاري عن محمد عن أبي حنيفة أن المعلومات العشر وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده قال أبو بكر فحصل من رواية أحمد القاري عن محمد ورواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده ولم تختلف عن أبي حنيفة أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق وهو قول ابن عباس المشهور وقوله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لا دلالة فيه على أن المراد أيام النحر لاحتماله أن يريد لما رزقهم من بهيمة الأنعام كقوله ولتكبروا الله على ما هداكم والمعنى لما

هداكم وأيضا يحتمل أن يريد بها أيام العشر لأن فيها يوم النحر وفيه الذبح ويكون بتكرار السنين عليه أياما وذكر أهل اللغة أن المعدودات منفصلة عن المعلومات بدلالة اللفظ على افتراقهما في باب العدد وذلك لأن وصفها بالمعدودات دلالة التقليل كقوله تعالى بخس دراهم معدودة وإنما يوصف بالعدد إذا أريد به التقليل لأنه يكون نقيض كثرة فهو كقولك قليل وكثير فعرفت المعدودات بالتقليل وقيل للأخرى معلومات فعرفت بالشهرة لأنها عشرة ولم يختلف أهل العلم أن أيام منى ثلاثة يوم النحر وبعد أن للحاج أن يتعجل في اليوم الثاني منها إذا رمى الجمار وينفر وأن له أن يتأخر إلى اليوم الثالث حتى يرمي الجمار فيه ثم ينفر واختلف فيمن لم ينفر حتى غابت الشمس من اليوم الثاني فروي عن عمر وابن عمر وجابر بن زيد والحسن وإبراهيم أنه إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل أن ينفر فلا ينفر حتى يرمي الجمار من الغد وروي عن الحسن البصري أن له أن ينفر في اليوم الثاني إذا رمى وقت الظهر كله فإن أدركته صلاة العصر بمنى فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث وقال أصحابنا إنه إذا لم ينفر حتى غابت الشمس فلا ينبغي له أن ينفر حتى يرمي جمرة اليوم الثالث ولا يلزمه ذلك إلا أن يصبح بمنى فحينئذ يلزمه رمي اليوم الثالث ولا يجوز تركه ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أن من أقام بمنى إلى اليوم الثالث أنه لا يجوز له النفر حتى يرمي وإنما قالوا إنه لا يلزمه رمي اليوم الثالث بإقامته بمنى إلى أن يمسي من قبل أن الليلة التي تلي اليوم الثاني هي تابعة له حكمها حكمه وليس حكمها حكم الذي بعدها ألا ترى أنه لو ترك الرمي في اليوم الأول رماه في ليلته ولم يكن مؤخرا له عن وقته لأنه ص - رخص للرعاة أن يرموا ليلا فكان حكم الليلة حكم اليوم الذي قبلها ولم يكن حكمها حكم الذي بعدها فلذلك قالوا إن إقامته في اليوم الثاني بمنى إلى أن يمسي بمنزلة إقامته بها نهارا وإذا أقام حتى يصبح من اليوم الثالث لزمه الرمي بلا خلاف وهذا مما يستدل به على صحة قول أبي حنيفة في تجويزه رمي اليوم الثالث قبل الزوال إذ قد صار وقتا للزوم الرمي ويستحيل أن يكون وقتا لوجوبه ثم لا يصح فعله فيه وأما قوله تعالى فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما فلا إثم عليه لتكفير سيئاته وذنوبه بالحج المبرور وروي نحوه عن عبدالله بن مسعود ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع

كيوم ولدته أمه والوجه الثاني أنه لا مأثم عليه في التعجيل وروي نحوه عن الحسن وغيره ومن تأخر فلا إثم عليه لأنه مباح له التأخير وقوله لمن اتقى يحتمل لمن اتقى ما نهى الله عنه في الإحرام بقوله فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وإن لم يتق فغير موعود بالثواب
قوله تعالى ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا الآية قال أبو بكر فيه تحذير من الاغترار بظاهر القول وما يبديه من حلاوة المنطق والاجتهاد في تأكيد ما يظهره فأخبر الله تعالى أن من الناس من يظهر بلسانه ما يعجبك ظاهره ويشهد الله على ما في قلبه وهذه صفة المنافقين مثل قوله تعالى قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة وقوله وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم فأعلم الله تعالى نبيه ضمائرهم لئلا يغتر بظاهر أقوالهم وجعله عبرة لنا في أمثالهم لئلا نتكل على ظاهر أمور الناس وما يبدونه من أنفسهم وفيه الأمر بالإحتياط فيما يتعلق بأمثالهم من أمور الدين والدنيا فلا نقتصر فيما أمرنا بائتمان الناس عليه من أمر الدين والدنيا على ظاهر حال الإنسان دون البحث عنه وفيه دليل على أن عليه استبراء حال من يراد للقضاء والشهادة والفتية والإمامة وما جرى مجرى ذلك في أن لا يقبل منهم ظاهرهم حتى يسئل ويبحث عنهم إذ قد حذرنا الله تعالى أمثالهم في توليتهم على أمور المسلمين ألا ترى أنه عقبه بقوله وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل فكان ذكر التولي في هذا الموضع إعلاما لنا أنه غير جائز الاقتصار على ظاهر ما يظهره دون الإستبراء لحاله من غير جهته قوله تعالى وهو ألد الخصام هو وصف له بالمبالغة في شدة الخصومة والقتل للخصم بها عن حقه وإحالته إلى جانبه ويقال لده عن كذا إذا حبسه وعلى هذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم - إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار فكان معنى قوله وهو ألد الخصام أنه أشد المخاصمين خصومة وقوله والله لا يحب الفساد نص على بطلان مذهب أهل الإجبار لأن مالا يحبه الله فهو لا يريده وما يريده فهو لا يحبه فأخبر الله تعالى في هذه الآية أنه لا يحب الفساد وهذا يوجب أن لا يفعل الفساد لأنه لو فعله لكان مريدا له ومحبا له وهو

مثل قوله وما الله يريد ظلما للعباد فنفى عن نفسه فعل الظلم لأنه لو فعله لكان مريدا له لاستحالة أن يفعل مالا يريد ويدل على أن محبته لكون الفعل هي إرادته له أنه غير جائز أن يجب كونه ولا يريد أن يكون بل يكره أن يكون وهذا هو التناقض كما لو قال يريد الفعل ويكرهه لكان مناقضا مختلا في كلامه ويدل عليه قوله تعالى إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم والمعنى إن الذين يريدون فدل على أن المحبة هي الإرادة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الله أحب لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا أحب لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال فجعل الكراهة في مقابلة المحبة فدل أن ما أراده فقد أحبه كما أن ما كرهه فلم يرده إذ كانت الكراهة في مقابلة الإرادة كما هي في مقابلة المحبة فلما كانت الكراهة نقيضا لكل واحدة من الإرادة والمحبة دل على أنهما سواء قوله تعالى فاعلموا أن الله عزيز حكيم فإن العزيز هو المنيع القادر على أن يمنع ولا يمنع لأن أصل العزة الامتناع ومنه يقال أرض عزاز إذا كانت ممتنعة بالشدة والصعوبة وأما الحكيم فإنه يطلق في صفة الله تعالى على معنيين أحدهما العالم إذا أريد به ذلك جاز أن يقال لم يزل حكيما والمعنى الآخر من الفعل المتقن المحكم وإذا أريد به ذلك لم يجز أن يقال لم يزل حكيما كما لا يجوز أن يقال لم يزل فاعلا فوصفه لنفسه بأنه حكيم يدل على أنه لا يفعل الظلم والسفه والقبائح ولا يريدها لأن من كان كذلك فليس بحكيم عند جميع أهل العقل وفيه دليل على بطلان قول أهل الجبر وقوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة هذا من المتشابه الذي أمرنا الله برده إلى المحكم في قوله هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه وإنما كان متشابها لاحتماله حقيقة اللفظ وإتيان الله واحتماله أن يريد أمر الله ودليل آياته كقوله في موضع آخر هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة او يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك فجميع هذه الآيات المتشابهة محمولة على ما بينه في قوله أو يأتي ربك لأن الله تعالى لا يجوز عليه الإتيان ولا المجيء ولا الانتقال ولا الزوال لأن ذلك من صفات الأجسام ودلالات الحدث وقال تعالى في آية محكمة ليس كمثله شيء وجعل إبراهيم عليه السلام ما شهده من حركات النجوم وانتقالها

دليلا على حدثها واحتج به على قومه فقال الله عز و جل وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه يعني في حدث الكواكب والأجسام تعالى الله عن قول المشبهة علوا كبيرا فإن قيل فهل يجوز أن يقال جاء ربك بمعنى جاء كتابه أو جاء رسوله أو ما جرى مجرى ذلك قيل له هذا مجاز والمجاز لا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه وقد قال تعالى واسأل القرية التي كنا فيها وهو يريد أهل القرية وقال إن الذين يؤذون الله ورسوله وهو يعني أولياء الله والمجاز إنما يستعمل في الموضع الذي يقوم الدليل على ا ستعماله فيه أو فيما لا يشتبه معناه على السامع وقوله عز و جل وإلى الله ترجع الأمور6 فيه وجهان أحدهما أنه لما كانت الأمور كلها قبل أن يملك العباد شيئا منها له خاصة ثم ملكهم كثيرا من الأمور ثم تكون الأمور كلها في الآخرة إليه دون خلقه جاز أن يقول ترجع إليه الأمور والمعنى الآخر أن يكون بمعنى قوله ألا إلى الله تصير الأمور يعني أنه لا يملكها غيره لا على أنها لم تكن إليه ثم صارت إليه لكن على أنه لا يملكها أحد سواه كما قال لبيد ... وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ...

وإنما عنى على أنه يصير رمادا لا على أنه كان رمادا مرة ثم رجع إلى ما
كان قوله تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين الآية قيل فيه أنهم كانوا أمة واحدة على الكفر وإن كانوا مختلفين في مذاهبهم وجائز أن يكون فيهم مسلمون إلا أنهم قليلون في نفسهم وجائز إذا كان كذلك إطلاق اسم الأمة على الجماعة لانصرافه إلى الأعم الأكثر وقال قتادة والضحاك كانوا أمة واحدة على الحق فاختلفوا وقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فإن عبدالله بن طاوس يروي عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أن كل أمة أوتوا الكتاب قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ولليهود غد وللنصارى بعد غد وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه إلا أنه قال هدانا الله له يوم الجمعة لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ففي هذا الحديث أن المراد بقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه هو يوم الجمعة وعموم اللفظ يقتضي سائر الحق الذي هدي له المؤمنون ويكون يوم الجمعة أحدها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب

باب

من يبدأ به في النفقة عليه
قال الله تعالى يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين الآية فالسؤال واقع عن مقدار ما ينفق والجواب صدر عن القليل والكثير مع بيان من تصرف إليه النفقة فقال تعالى قل ما أنفقتم من خير فذاك يتناول القليل والكثير لشمول اسم الخير لجميع الإنفاق الذي يطلب به وجه الله وبين فيمن تصرف إليه بقوله فللوالدين والأقربين ومن ذكر في الآية وأن هؤلاء أولى من غيرهم ممن ليس هو في منزلتهم بالقرب والفقر وقد بين في آية أخرى ما يجب عليه فيه النفقة وهو قوله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو فروي عن ابن عباس قال ما يفضل عن أهلك وقال قتادة العفو الفضل فأخبر في هذه الآية أن النفقة فيما يفضل عن نفسه وأهله وعياله وعلى هذا المعنى قال ص -
خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وفي خبر آخر خير الصدقة ما أبقت غنى وابدأ
بمن تعول فهذا موافق لقوله ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أخبار في التبدئة بالأقرب فالأقرب في النفقة فمنها حديث ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم - اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول أمك وأبوك وأختك وأخوك وأدناك فأدناك وروى مثله ثعلبة بن زهدم وطارق عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقد دل ذلك على معنى الآية في قوله قل
ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين وإنما المراد بها تقديم الأقرب فالأقرب في الإنفاق وروي عن الحسن البصري أن الآية في الزكاة والتطوع جميعا وأنها ثابتة الحكم غير منسوخة عليه وقال السدي هي منسوخة بفرض الزكاة قال أبو بكر هي ثابتة الحكم عامة في الفرض والتطوع أما الفرض فلم يرد به الوالدين ولا الولد وإن سلفوا لقيام الدلالة عليه وأما التطوع فهي عامة في الجميع ومتى أمكننا استعمالها مع فرض الزكاة فغير جائز الحكم بنسخها وكذلك حكم سائر الآيات متى أمكن الجمع بين جميعها في أحكامها من غير إثبات نسخ لها لم يجز لنا الحكم بنسخ شيء منها وليس يمتنع أن يكون المراد به النفقة على الوالدين والأقربين إذا كانوا محتاجين وذلك إذا كان الرجل غنيا لأن قوله تعالى قل العفو قد دل على أن النفقة إنما تجب عليه فيما يفضل فإذا كان هو وعياله محتاجين لا يفضل عنهم شيء فليس عليه نفقة وقد دلت الآية على معان منها أن القليل والكثير من النفقة يستحق به الثواب على الله تعالى إذا أراد بها وجه الله وينتظم

ذلك الصدقات من النوافل والفروض ومنها أن الأقرب فالأقرب أولى بذلك بقوله فللوالدين والأقربين مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم - لمراد الله بقوله ابدأ بمن تعول أمك وأباك وأختك وأخاك وأدناك فأدناك وفيه الدلالة على وجوب نفقة الوالدين والأقربين عليه فإن قيل فينغبي أن يلزمه نفقة المساكين وابن السبيل وجميع من ذكر في الآية قيل له قد اقتضى ظاهرها ذلك وخصصنا بعضها من النفقة التي تستحقها الأقارب بدلالة وهم داخلون في الزكاة والتطوع وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا سفيان عن مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبي هريرة قال دينار أعطيته في سبيل الله ودينار أعطيته مسكينا ودينار أعطيته في رقبة ودينار أنفقته على أهلك فإن الدينار الذي أنفقته على أهلك أعظمها أجرا وقد روي ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - حدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا المسعودي عن مزاحم بن زفر عن مجاهد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن عبدالله بن زيد عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن المسلم إذا أنفق نفقة على أهله كانت له صدقة فهذه الآثار موافقة لمعنى قوله يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو وقد اختلف في المراد به فقال ابن عباس وقتادة الفضل عن الغنى قال الحسن وعطاء الوسط من غير إسراف وقال مجاهد أراد به الصدقة المفروضة قال أبو بكر إذا كان العفو ما فضل فجائز أن يريد به الزكاة المفروضة في أنها لا تجب إلا فيما فضل عن مقدار الحاجة وحصل به الغنى وكذلك سائر الصدقات الواجبة ويجوز أن يريد به صدقة التطوع فيتضمن ذلك الأمر بالإنفاق على نفسه وعياله والأقرب فالأقرب منه ثم بعد ذلك ما يفضل يصرفه إلى الأجانب ويحتج به في أن صدقة الفطر وسائر الصدقات لا تجب على الفقير إذ كان الله تعالى إنما أمرنا بالإنفاق من العفو والفاضل عن الغنى
قوله تعالى كتب عليكم القتال وهو كره لكم هذا يدل على فرض القتال لأن قوله كتب عليكم بمعنى فرض عليكم كقوله كتب عليكم الصيام ثم لا يخلو القتال المذكور في الآية من أن يرجع إلى معهود قد عرفه المخاطبون أو لم يرجع إلى معهود لأن الألف واللام تدخلان للجنس أو للمعهود فإن كان المراد قتالا قد عرفوه رجع الكلام

إليه نحو قوله تعالى وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقوله ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم فإن كان كذلك فإنما هو أمر بقتال على وصف وهو أن نقاتل المشركين إذا قاتلونا فيكون حينئذ كلاما مبنيا على معهود قد علم حكمه مكرر ذكره تأكيدا وإن لم يكن راجعا إلى معهود فهو لا محالة مجمل مفتقر إلى البيان وذلك أنه معلوم عند وروده أنه لم يأمرنا بقتال الناس كلهم فلا يصح اعتقاد العموم فيه ومالا يصح اعتقاد العموم فيه فهو مجمل مفتقر إلى البيان وسنبين اختلاف أهل العلم في فرض الجهاد وكيفيته عند مصيرنا إلى قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم إن شاء الله تعالى وقوله وهو كره لكم معناه مكروه لكم أقيم فيه المصدر مقام المفعول كقولك فلان رضي أي مرضي وقوله تعالى يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام قد تضمنت هذه الآية تحريم القتال في الشهر الحرام ونظيره في الدلالة عل مثله قوله الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وقوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن الليث بن سعد قال حدثني أبو الزبير عن جابر بن عبدالله قال لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى فإذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ وقد اختلف في نسخ ذلك فقالت طائفة حكمه باق لم ينسخ وممن قال ذلك عطاء بن أبي رباح حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال قلت لعطاء مالهم أن ذلك لم يكن يحل لهم أن يغزوا في الشهر الحرام ثم غزوهم بعد فيه قال فحلف لي ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا قال وما نسخت وروى سليمان بن يسار وسعيد بن المسيب أن القتال جائز في الشهر الحرام وهو قول فقهاء الأمصار والأول منسوخ بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية لأنها نزلت بعد حظر القتال في الشهر الحرام وقد اختلف في السائلين عن ذلك من هم فقال الحسن وغيره إن الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

عن ذلك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام وقال
آخرون المسلمون سألوا

عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه وقيل أنها نزلت على سبب وهو قتل واقد بن عبدالله بن عمرو بن الحضرمي مشركا فقال المشركون قد استحل محمد القتال في الشهر الحرام وقد كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر فأعلمهم الله تعالى بقاء حظر القتال في الشهر الحرام وأرى المشركين مناقضة بإقامتهم على الكفر مع استعظامهم القتل في الشهر الحرام مع أن الكفر أعظم الإجرام ومع إخراج أهل المسجد الحرام منه وهم المؤمنون لأنهم أولى بالمسجد الحرام من الكفار لقوله إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر فأعلمهم الله أن الكفر بالله وبالمسجد الحرام وهو أن الله جعل المسجد للمؤمنين ولعبادتهم إياه فيه فجعلوه لأوثانهم ومنعوا المسلمين منه فكان ذلك كفرا بالمسجد الحرام وأخرجوا أهله منه وهم المؤمنون لأنهم أولى به من الكفار فأعلمهم الله أن الكفار مع هذه الإجرام أولى بالعيب من قتل رجل من المشركين في الشهر الحرام والله سبحانه وتعالى أعلم تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب تحريم الخمر

بسم الله الرحمن الرحيم
باب

تحريم الخمر
قال الله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما هذه الآية قد اقتضت تحريم الخمر لو لم يرد غيرها في تحريمها لكانت كافية مغنية وذلك لقوله قل فيهما إثم كبير والإثم كله محرم بقوله تعالى قال إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم فأخبر أن الإثم محرم ولم يقتصر على إخباره بأن فيها أثما حتى وصفه بأنه كبير تأكيدا لحظرها وقوله ومنافع للناس لا دلالة فيه على إباحتها لأن المراد منافع الدنيا وأن في سائر الحرمات منافع لمرتكبيها في دنياهم إلا أن تلك المنافع لا تفي بضررها من العقاب المستحق بارتكابها فذكره لمنافعها غير دال على إباحتها لا سيما وقد أكد حظرها مع ذكر منافعها بقوله في سياق الآية وإثمهما أكبر من نفعهما يعني أن ما يستحق بهما من العقاب أعظم من النفع العاجل الذي ينبغي منهما وبما نزل في شأن الخمر قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وليس في هذه الآية دلالة على تحريم ما لم يسكر منها وفيها الدلالة على تحريم ما يسكر منها لأنه إذا كانت الصلاة فرضا نحن مأمورون بفعلها في أوقاتها فكل ما أدى إلى المنع منها فهو محظور فإذا كانت الصلاة ممنوعة في حال السكر وكان شربها مؤديا إلى ترك الصلاة كان محظورا لأن فعل ما يمنع من الفرض محظور ومما نزل في شأن الخمر مما لا مساغ للتأويل فيه قوله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إلى قوله فهل أنتم منتهون فتضمنت هذه الآيات ذكر تحريمها من وجوه أحدها قوله رجس من عمل الشيطان وذلك لا يصح إطلاقه إلا فيما كان محظورا محرما ثم أكده بقوله فاجتنبوه وذلك أمر يقتضي لزوم اجتنابه ثم قال تعالى فهل أنتم منتهون ومعناه فانتهوا فإن قيل ليس في قوله تعالى فيهما إثم كبير دلالة على تحريم القليل منها لأن مراد الآية ما يلحق من المأثم بالسكر وترك الصلاة والمواثبة

والقتال فإذا حصل المأثم بهذه الأمور فقد وفينا ظاهر الآية مقتضاها من التحريم ولا دلالة على تحريم القليل منها قيل له معلوم أن في مضمون قوله فيهما إثم كبير ضمير شربها لأن جسم الخمر هو فعل الله تعالى ولا مأثم فيها وإنما المأثم مستحق بأفعالنا فيها فإذا كان الشرب مضمرا كان تقديره في شربها وفعل الميسر إثم كبير فيتناول ذلك شرب القليل منها والكثير كما لو حرمت الخمر لكان معقولا أن المراد به شربها والانتفاع بها فيقتضي ذلك تحريم قليلها وكثيرها وقد روى في ذلك حديث حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير قال الميسر هو القمار كان الرجل في الجاهليةيخاطر على أهله وماله وقال وقوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها ثم أن ناسا من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضا وتكلموا بما لا يرضي الله عز و جل فأنزل الله إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه قال فالميسر القمار والأنصاب الأوثان والأزلام القداح كانوا يستقسمون بها قال وحدثناأبو عبيد قال حدثنا عبدالرحمن ابن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فقال اللهم بين لنا في الخمر فنزلت قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما فقال اللهم بين لنا في الخمر فنزلت إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه إلى قوله فهل أنتم منتهون فقال عمر انتهينا إنها تذهب المال وتذهب العقل قال وحدثنا لأبو عبيدالله هشيم قال أخبرنا المغيرة عن أبي رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي نزلت في البقرة وبعد الآية التي في النساء فكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت تركوها ثم حرمت في المائدة في قوله فهل أنتم منتهون فانتهى القوم عنها فلم يعودوا فيها فمن الناس من يظن أن قوله قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس لم يدل على التحريم لأنه لو كان دالا لما شربوه ولما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم -

ولما سئل عمر البيان بعده وليس هذا كذلك عندنا وذلك لأنه جائز أن يكونوا
تأولوا في قوله

ومنافع للناس جواز استباحة منافعها فإن الإثم مقصور على بعض الأحوال دون بعض فإنما ذهبوا عن حكم الآية بالتأويل وأما قوله إنها لو كانت حراما لما أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم -

على شربها فإنه ليس في شيء من الأخبار علم النبي ص
- بشربها ولا إقرارهم عليه بعد علمه وأما سؤال عمر رضي الله عنه بيانا بعد نزول هذه الآية فلأنه كان للتأويل فيه مساغ وقد علم هو وجه دلالتها على التحريم ولكنه سأل بيانايزول معه احتمال التأويل فأنزل الله تعالى إنما الخمر والميسر الآية ولم يختلف أهل النقل في أن الخمر قد كانت مباحة في أول الإسلام وأن المسلمين قد كانوا يشربونها بالمدينة ويتبايعون بها مع علم النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك وإقرارهم عليه إلى أن حرمها الله تعالى فمن الناس من يقول إن تحريمها على الإطلاق إنما ورد في قوله إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه الى قوله فهل أنتم منتهون وقد كانت محرمة قبل ذلك في بعض الأحوال وهي أوقات الصلاة بقوله لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وأن بعض منافعها قد كان مباحا وبعضها محظورا بقوله قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس إلى أن أتم تحريمها بقوله فاجتنبوه وقوله فهل أنتم منتهون وقد بينا ما يقتضيه ظاهر كل واحد من حكم الآيات من حكم التحريم وقد اختلف فيما يتناوله اسم الخمر من الأشربه فقال الجمهور الأعظم من الفقهاء اسم الخمر في الحقيقة يتناول الني المشتد من ماء العنب وزعم فريق من أهل المدينة ومالك والشافعي أن كل ما أسكر كثيره من الأشربة فهو خمر والدليل على أن اسم الخمر مخصوص بالني المشتد من ماء العنب دون غيره وأن غيره إن سمي بهذا الاسم فإنما هو محمول عليه ومشبه به على وجه المجاز حديث أبي سعيد الخدري قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم - بنشوان فقال له أشربت خمرا فقال ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله قال فماذا شربت قال الخليطين قال فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم -
الخليطين فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي ص
- فلم ينكره عليه ولو كان ذلك يسمى خمرا من جهة لغة أو شرع لما أقره عليه إذ كان في نفي التسمية التي علق بها حكم نفي الحكم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يقر أحدا على حظر مباح ولا على استباحة محظور وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر منتف على سائر الأشربة إلا من الني المشتد من ماء العنب لأنه إذا كان الخليطان لا يسميان خمرا مع وجود قوة الإسكار منهما علمنا أن الاسم مقصور على ما وصفنا ويدل عليه

ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا عبدالرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن الأشربة عام حجة الوداع فقال حرام الخمر بعينها والسكر من كل شراب قال عبدالباقي وحدثنا محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا شعيب بن واقد قال حدثنا قيس عن قطن عن منذر عن محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا شعيب بن واقد قال حدثنا قيس عن قطن عن منذر عن محمد بن الحنفية عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا عياش بن الوليد قال حدثنا علي بن عباس قال حدثنا سعيد بن عمارة قال حدثنا الحارث بن النعمان قال سمعت أنس بن مالك يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال الخمر بعينها حرام والسكر من كل شراب وقد روى عبدالله بن شداد عن ابن
عباس من قوله مثل ذلك وروى عنه أيضا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد حوى هذا الخبر معاني منها أن اسم الخمر مخصوص بشراب بعينه دون غيره وهو الذي لم يختلف في تسميته بها دون غيرها من ماء العنب وأن غيرها من الأشربة غير مسمى بهذا الاسم لقوله والسكر من كل شراب وقد دل أيضا على أن المحرم من سائر الأشربة هو ما يحدث عنده السكر لولا ذلك لما اقتصر منها على السكر دون غيره ولما فصل بينها وبين الخمر في جهة التحريم ودل أيضا على أن تحريم الخمر حكم مقصور عليها غير متعد إلى غيرها قياسا ولا استدلالا إذ علق حكم التحريم بعين الخمر دون معنى فيها سواها وذلك ينفي جواز القياس عليها لأن كل أصل ساغ القياس عليه فليس الحكم المنصوص عليه مقصورا عليه ولا متعلقا به بعينه بل يكون الحكم منصوبا على بعض أوصافه مما هو موجود في فروعه فييكون الحكم تابعا للوصف جاريا معه في معلولاته ومما يدل على أن سائر الأشربة المسكرة لا يتناولها اسم الخمر قوله ص - في حديث أبي هريرة عنه الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة فقوله الخمر اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه فاستوعب به جميع ما يسمى بهذا الاسم فلم يبق شيء من الأشربة يسمى به إلا وقد استغرقه ذلك فانتفى بذلك أن يكون ما يخرج من غير هاتين الشجرتين يسمى خمرا ثم نظرنا فيما يخرج منهما هل جميع الخارج منهما مسمى باسم الخمر أم لا فلما اتفق الجميع على أن كال ما يخرج منهما من الأشربة غير مسمى باسم الخمر لأن العصير والدبس والخل ونحوه من هاتين الشجرتين ولا يسمى شيء معه خمرا علمنا أن مراده بعض الخارج من هاتين الشجرتين

وذلك البعض غير مذكور في الخبر فاحتجنا إلى الاستدلال على مراده من غيره في إثبات اسم الخمر للخارج منهما فسقط الاحتجاج به في تحريم جميع الخارج منهما وتسميته باسم الخمر ويحتمل مع ذلك أن يكون مراده أن الخمر أحدهما كقوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان و يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم والمراد أحدهما فكذلك جائز أن يكون المراد في قوله الخمر من هاتين الشجرتين أحدهما فإن كان المراد هما جميعا فإن ظاهر اللفظ يدل على أن المسمى بهذا الاسم هو أول شراب يصنع منهما لأنه لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله من هاتين الشجرتين بعض كل واحدة منهما لاستحالة كون بعضها خمرا دل على أن المراد أول خارج منهما من الأشربة لأن من يعتورها معان في اللغة منها التبعيض ومنها الابتداء كقولك خرجت من الكوفة وهذا كتاب من فلان وما جرى مجرى ذلك فيكون معنى من في هذا الموضع على ابتداء ما يخرج منهما وذلك إنما يتناول العصير المشتد والدبس السائل من النخل إذا اشتد ولذلك قال أصحابنا فيمن حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئا أنه على رطبها وتمرها ودبسها لأنهم حملوا من ما ذكرنا من الابتداء قال أبو بكر ويدل على ما ذكرنا اسم الخمر عن سائر الأشربة إلا ما وصفنا ما روي عن ابن عمر أنه قال لقد حرمت الخمر يوم حرمت وما بالمدينة يومئذ منها شيء وابن عمر رجل من أهل اللغة ومعلوم أنه قد كان بالمدينة السكر وسائر الأنبذة المتخذة من التمر لأن تلك كانت أشربتهم ولذلك قال جابر بن عبدالله نزل تحريم الخمر وما يشرب الناس يومئذ إا البسر والتمر وقال أنس بن مالك كنت ساقي عمومتي من الأنصار حين نزل تحريم الخمر فكان شرابهم يومئذ الفضيح فلما سمعوا أراقوها فلما نفى ابن عمر اسم الخمر عن سائر الأشربة التي كانت بالمدينة دل ذلك على أن الخمر عنده كانت شراب العنب الني المشتد وأن ما سواها غير مسمى بهذا الاسم ويدل عليه أن العرب كانت تسمى الخمر سبيئة ولم تكن تسمى بذلك سائر الأشربة المتخذة من تمر النخل لأنها كانت تجلب إليها من غير بلادها ولذلك قال الأعشى ... وسبيئة مما يعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها ...
وتقول سبأت الخمر إذا شريتها فنقلوا الاسم إلى المشترى بعد أن كان الأصل إنما هو يجلبها من موضع إلى موضع على عادتها في الاتساع في الكلام ويدل عليه أيضا قول

أبي الأسود الدؤلي وهو رجل من أهل اللغة حجة فيما قال منها فقال ... دع الخمر تشربها الغواة فإنني ... رأيت أخاها مغنيا لمكانها ... فإن لا تكنه أو يكنها فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها ...
فجعل غيرها من الأشربة أخالها بقوله رأيت أخاها مغنيا لمكانها ومعلوم أنه لو كان يسمى خمرا لما سماه أخا لها ثم أكده بقوله فإن لا تكنه أو يكنها فإنه أخوها فأخبر أنها ليست هو فثبت بما ذكرنا من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابة وأهل اللغة أن اسم الخمر مخصوص بما وصفنا ومقصور عليه دون غيره ويدل على ذلك أنا وجدنا بلوى أهل المدينة بشرب الأشربة المتخذة من التمر والبسر كانت أعم منها بالخمر وإنما كانت بلواهم بالخمر خاصة قليلة لقلتها عندهم فلما عرف الكل من الصحابة تحريم الني المشتد واختلفوا فيما سواها وروي عن عظماء الصحابة مثل عمر وعبدالله وأبي ذر وغيرهم شرب النبيذ الشديد وكذلك سائر التابعين ومن بعدهم من أخلافهم من الفقهاء من أهل العراق لا يعرفون تحريم هذه الأشربة ولا يسمونها باسم الخمر بل ينفونه عنها دل ذلك على معنيين أحدهما أن اسم الخمر لا يقع عليها ولا يتناولها لأن الجميع متفقون على ذم شارب الخمر وأن جميعها محرم محظور والثاني أن النبيذ غير محرم لأنه لو كان محرما لعرفوا تحريمها كمعرفتهم بتحريم الخمر إذ كانت الحاجة إلى معرفة تحريميها أمس منها إلى معرفة تحريم الخمر لعموم بلواهم بها دونها وما عمت البلوى من الأحكام فسبيل وروده نقل التواتر الموجب للعلم والعمل وفي ذلك دليل على أن تحريم الخمر لم يعقل به تحريم هذه الأشربة ولا عقل الخمر اسما لها واحتج من زعم أن سائر الأشربة التي يسكر كثير ها خمر بما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال كل مسكر خمر وبما روي عن الشعبي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الخمر من خمسة أشياء التمر والعنب والحنطة والشعير والعسل وروي عن عمر من قوله نحوه وبما روي عن عمر الخمر ما خامر العقل وبما روي عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال كل مخمر خمر وكل مسكر حرام وبما روي عن أنس قال كنت ساقي القوم حيث حرمت الخمر في منزل أبي طلحة وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيح فحين سمعوا تحريم الخمر أهراقوا الأواني وكسروها وقالوا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم -

هذه الأشربة خمرا وكذلك عمر وأنس وعقلت الأنصار من تحريم الخمر تحريم
الفضيح وهو نقيع البسر ولذلك

أراقوها وكسروا الأواني ولا تخلو هذه التسمية من أن تكون واقعة على هذه الأشربة من جهة اللغة أو الشرع وأيهما كان فحجته ثابتة والتسمية صحيحة فثبت بذلك أن ما أسكر من الأشربة كثيره فهو خمر وهو محرم بتحريم الله إياها من طريق اللفظ والجواب عن ذلك وبالله التوفيق أن الأسماء على ضربين ضرب سمي به الشيء حقيقة لنفسه وعبارة عن معناه والضرب الآخر ما سمي به الشيء مجازا فأما الضرب ألأول فواجب استعماله حيث ما وجد وأما الضرب الآخر فإنما يجب استعماله عند قيام الدلالة عليه نظير الضرب الأول قوله تعالى يريد الله ليبين لكم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فأطلق لفظ الإرادة في هذا الموضع مجاز لا حقيقة ونحو قوله إنما الخمر والميسر فاسم الخمر في هذا الموضع حقيقة فيما أطلق فيه وقال في موضع آخر إني أراني أعصر خمرا فأطلق اسم الخمر في هذا الموضع مجازا لأنه إنما يعصر العنب لا الخمر ونحو قوله ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها فاسم القرية فيها حقيقة وإنما أراد البنيان ثم قوله واسئل القرية التي كنا فيها مجاز لأنه لم يرد بها ما وضع اللفظ له حقيقة وإنما أراد أهلها وتنفصل الحقيقة من المجاز بأن ما لزم مسمياته فلم ينتف عنه بحال فهو حقيقة فيه وما جاز انتفاؤه عن مسمياته فهو مجاز ألا ترى أنك إذا قلت أنه ليس للحائط إرادة كنت صادقا ولو قال قائل إن الله لا يريد شيئا أو الإنسان العاقل ليست له إرادة كان مبطلا في قوله وكذلك جائز أن تقول إن العصير ليس بخمر وغير جائز أن يقال أن الني المشتد من ماء العنب ليس بخمر ونظائر ذلك كثيرة في اللغة والشرع والأسماء الشرعية في معنى أسماء المجاز لا تتعدى بها مواضعها التي سميت بها فلما وجدنا اسم الخمر قد ينتفي عن سائر الأشربة سوى الني المشتد من ماء العنب علمنا أنها ليست بخمر في الحقيقة والدليل على جواز انتفاء اسم الخمر عما وصفنا حديث أبي سعيد الخدري قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بنشوان فقال أشربت خمرا فقال والله ما شربتها منذ حرمها الله ورسوله قال
فماذا شربت قال شربت الخليطين فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم - الخليطين يومئذ فنفى اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم -
فأقره عليه ولم ينكره فدل ذلك على أنه ليس بخمر وقال ابن عمر حرمت الخمر
وما بالمدينة يومئذ منها شيء فنفى اسم الخمر عن أشربة تمر

النخل مع وجودها عندهم يومئذ ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - الخمر من هاتين الشجرتين وهو أصح إسنادا من الأخبار التي ذكر فيما أن الخمر من خمسة أشياء فنفى بذلك أن يكون ما خرج من غيرهما خمرا إذ كان قوله الخمر من هاتين الشجرتين اسما للجنس مستوعبا لجميع ما يسمى بهذا الاسم فهذا الخبر معارض ما روي من أن الخمر من خمسة أشياء وهو أصح إسنادا منه ويدل عليه انه لا خلاف أن مستحل الخمر كافر وأن مستحل هذه الأشربة لا تلحقه سمة الفسق فكيف بأن يكون كافرا فدل ذلك على أنها ليست بخمر في الحقيقة ويدل عليه أن خل هذه الأشربة لا يسمى خل خمر وأن خل الخمر هو الخل المستحيل من ماء العنب الني المشتد فإذا ثبت بما ذكرنا انتفاء اسم الخمر عن هذه الأشربة ثبت أنه ليس باسم لها في الحقيقة وأنه إن ثبت تسميتها باسم الخمر في حال فهو على جهة التشبيه بها عند وجود السكر منها فلم يجز أن يتناولها إطلاق تحريم الخمر لما وصفنا من أن أسماء المجاز لا يجوز دخولها تحت إطلاق أسماء الحقائق فينبغي أن يكون قوله الخمر من خمسة أشياء محمولا على الحال التي يتولد منها السكر فسماها باسم الخمر في تلك الحال لأنها قد عملت عمل الخمر في توليد السكر واستحقاق الحد ويدل عليه أن هذه التسمية إنما تستحقها في حال توليدها السكر قول عمر الخمر ما خامر العقل وقليل النبيذ لا يخامر العقل لأن ما خامر العقل هو ما غطاه وليس ذلك بموجود في قليل ما أسكر كثيره من هذه الأشربة وإذا ثبت بما وصفنا أن اسم الخمر مجاز في هذه الأشربة فلا يستعمل إلا في موضع يقوم الدليل عليه فلا يجوز أن ينطوي تحت إطلاق تحريم الخمر ألا ترى أنه ص - قد سمى فرسا لأبي طلحة ركبة لفزع كان بالمدينة فقال وجدناه بحرا فسمى الفرس بحرا إذ كان جوادا واسع الخطو ولا يعقل بإطلاق اسم البحر الفرس الجواد وقال النابغة للنعمان بن المنذر ... فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
... ولم تكن الشمس اسما له ولا الكواكب اسما للملوك فصح بما وصفنا ان اسم الخمر لا يقع على هذه الأشربة التي وصفنا وأنه مخصوص بماء العنب الني المشتد حقيقة وإنما يسمى به غيرها مجازا والله أعلم
باب تحريم الميسر

قال
الله تعالى يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير قال أبو بكر دلالته

على تحريم الميسر كهى على ما تقدم من بيانه ويقال أن اسم الميسر في أصل اللغة إنما هو للتجزئة وكل ما جزأته فقد يسرته يقال للجاز الياسر لأنه يجزىء الجزور والميسر الجزور نفسه إذا تجزى وكانوا ينحرون جزورا ويجعلونه أقساما يتقامرون عليها بالقداح على عادة لهم على ذلك فكل من خرج له قدح نظروا إلى ما عليه من السمة فيحكمون له بما يقتضيه أسماء القداح فسمي على هذا سائر ضروب القمار ميسرا وقال ابن عباس وقتادة ومعاوية بن صالح وعطاء وطاوس ومجاهد الميسر القمار وقال عطاء ةطاوس ومجاهد حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز وروي عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجر ا فإنها من الميسر
وروى سعيد بن أبي هند عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله وروى حماد بن سلمة عن قتادة عن حلاس أن رجلا قال لرجل إن أكلت كذا وكذا بيضة فلك كذا وكذا فارتفعا إلى علي فقال هذا قمار ولم يجزه ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم القمار وأن المخاطرة من القمار قال ابن عباس إن المخاطرة فمار وإن أهل الجاهلية كانوا يخاطرون على المال والزوجة وقد كان ذلك مباحا إلى أن ورد تحريمه وقد خاطر أبو بكر الصديق المشركين حين نزلت ألم غلبت الروم وقال له النبي صلى الله عليه وسلم - زد في الخطر وابعد في الأجل ثم حظر ذلك ونسخ بتحريم القمارولا خلاف في حظره إلا ما رخص فيه من الرهان في السبق في الدواب والإبل والنصال إذا كان الذي يستحق واحدا إن سبق ولا يستحق الآخر إن سبق وإن شرط أن من سبق منهما أخذ ومن سبق أعطى فهذا باطل فإن أدخلا بينهما رجلا إن سبق استحق وإن سبق لم يعط فهذا جائز وهذا الدخيل الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم - محللا وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه سابق بين الخيل وإنما خص ذلك لأن فيه رياضة للخيل وتدريبا لها على الركض وفيه استظهار وقوة على العدو قال الله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة روى أنها الرمي ومن رباط الخيل فظاهر قوله ومن رباط الخيل يقتضي جواز السبق بها لما فيه من القوة على العدو وذلك الرمي وما ذكره الله تعالى من تحريم الميسر وهو القمار يوجب تحريم القرعة في العبيد يعتقهم المريض ثم يموت لما فيه من القمار وإحقاق بعض وإنجاح بعض وهذا هو معنى

القمار بعينه وليست القرعة في القسمة كذلك لأن كل واحد يستوفى في نصيبه لا يحقق واحد منهم والله أعلم
باب

التصرف في مال اليتيم
قال الله تعالى ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم قال أبو بكر اليتيم المنفرد عن أحد أبويه فقد يكون يتيما من الأم مع بقاء الأب وقد يكون يتيما من الأب مع بقاء الأم إلا أن الأظهر عند الإطلاق هو اليتيم من الأب وإن كانت الأم باقية ولا يكاد يوجد إلإطلاق في اليتيم من الأم إذا كان الأب باقيا وكذلك سائر ما ذكر الله من أحكام الأيتام إنما المراد بها الفاقدون لآبائهم وهم صغار ولا يطلق ذلك عليهم بعد البلوغ إلا على وجه المجاز لقرب عهدهم باليتيم والدليل على أن اليتيم اسم للمنفرد تسميتهم للمرأة المنفردة عن الزوج يتيمة سواء كانت كبيرة أو صغيرة قال الشاعر ... إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى ...
وتسمى الرابية يتيمة لانفرادها عما حواليها قال الشاعر يصف ناقته ... قوداء تملك رحلها ... مثل اليتيم من الأرانب ...
يعني الرابية ويقال درة يتيمة لأنها مفردة لا نظير لها وكتاب لابن المقفع في مدح أبي العباس السفاح واختلاف مذاهب الخوارج وغيرهم يسمى اليتيمة قال أبو تمام ... وكثير عزة يوم بين ينسب ... وابن المقفع في اليتيمة يسهب ...
وإذا كان اليتيم اسما للانفراد كان كاملا لمن فقد أحد أبويه صغيرا أو كبيرا إلا أن الانطلاق إنما يتناول ما ذكرنا من فقد الأب في حال الصغر حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز و جل ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير قال الله تعالى لما أنزل إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا كره المسلمون أن يضموا اليتامى إليهم وتحرجوا أن يخالطوهم وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم -
عنه فأنزل الله يسألونك عن اليتامى الى قوله ولو شاء الله لأعنتكم قال لو
شاء الله لأخرجكم وضيق عليكم ولكنه وسع ويسر فقال ومن

كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ابتغوا بأموال اليتامى لا تأكلها الصدقة ويروى ذلك موقوفاعلى عمر وعن عمر وعائشة وابن عمر وشريح وجماعة من التابعين دفع مال اليتيم مضاربة والتجارة به وقد حوت هذه الآية ضرويا من الأحكام أحدها قوله قل إصلاح لهم خير فيه الدلالة على جواز خلط ماله بماله وجواز التصرف فيه بالبيع والشرى إذا كان ذلك صلاحا وجواز دفعه مضاربة إلى غيره وجواز أن يعمل ولي اليتيم مضاربة أيضا وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من طريق الاجتهاد وغالب الظن ويدل على أن لولي اليتيم أن يشتري من ماله لنفسه إذا كان خير لليتيم وذلك بأن ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة مما يخرج عن ملكه وهو قول أبي حنيفة ويبيع أيضا من مال نفسه لليتيم لأن ذلك من الإصلاح له ويدل أيضا على أن له تزويج اليتيم إذا كان ذلك من الإصلاح وذلك عندنا فيمن كان ذا نسب منه دون الوصي الذي لا نسب بينه وبينه لأن الوصية نفسها لا يستحق بها الولاية في التزويج ولكنه قد اقتضى ظاهره أن للقاضي أن يزوجه ويتصرف في ماله على وجه الإصلاح ويدل على أن له أن يعلمه ما له فيه صلاح من أمر الدين والأدب ويستأجر له على ذلك وأن يؤاجره ممن يعلمه الصناعات والتجارات ونحوها لأن جميع ذلك قد يقع على وجه الإصلاح ولذلك قال أصحابنا إن كل من كان اليتيم في حجره من ذوي الرحم المحرم فله أن يؤاجره ليعلم الصناعات وقال محمد له أن ينفق عليه من ماله وقالوا أنه إذا وهب لليتيم مال فلمن هو في حجره ان يقبضه له لما له فيه من الإصلاح فظاهر الآية قد اقتضى جميع ذلك كله وقوله ويسألونك عن اليتامة قل إصلاح لهم خير إنما عنى بالمضمرين في قوله ويسألونك القوام على الأيتام الكافلين لهم وذلك ينتظم كل ذي رحم محرم لأن له إمساك اليتيم وحفظه وحياضته وحضانته وقد انتظم قوله قل إصلاح لهم خير سائر الوجوه التي ذكرنا من التصرف في ماله على وجه الإصلاح والتزويج والتقويم والتأديب وقوله خير قد دل على معان منها إباحة التصرف على اليتامى من الوجوه التي ذكرنا ومنها أن ذلك مما يستحق به الثواب لأنه سماه خيرا وما كان خيرا فإنه يستحق به الثواب ومنها أنه لم يوجبه وإنما وعد به الثواب فدل على أنه ليس بواجب عليه التصرف في ماله بالتجارة ولا هو مجبر على تزويجه

لأن ظاهر اللفظ يدل على أن مراده الندب والإرشاد وقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم فيه إباحة خلط ماله بماله والتجارة والتصرف فيه ويدل على أنه له أن يخالط اليتيم بنفسه في الصهر والمناكحة وأن يزوجه أو يزوج اليتيمة بعض ولده فيكون قد خلط اليتامى بنفسه وعياله واختلط هو بهم فقد انتظم قوله وإن تخالطوهم إباحة خلط ماله بماله والتصرف فيه وجواز تزويجه بعض ولده ومن يلي عليه فيكون قد خلطه بنفسه والدليل على أن اسم المخالطة يتناول جميع ذلك قولهم فلان خليط فلان إذا كان شريكا وإذا كان يعامله ويبايعه ويشاريه ويداينه وإن لم يكن شريكا وكذلك يقال قد اختلط فلان بفلان إذا صاهره وذلك كله مأخوذ من الخلطة التي هي الاشتراك في الحقوق من غير تمييز بعضهم من بعض فيها وهذه المخالطة معقودة بشريطة الإصلاح من وجهين أحدهما تقديمه ذكر الإصلاح فيما أجاب به من أمر اليتامى والثاني قوله عقيب ذكر المخالطة والله يعلم المفسد من المصلح وإذا كانت الآية قد انتظمت جواز خلطه مال اليتيم بماله في مقدار ما يغلب في ظنه أن اليتيم يأكله على ما روي عن ابن عباس فقد دل على جواز المناهدة التي يفعلها الناس في الأسفار فيخرج كل واحد منهم شيئا معلوما فيخلطونه ثم ينفقونه وقد يختلف أكل الناس فإذا كان الله قد أباح في أموال الأيتام فهو في مال العقلاء البالغين بطيبة أنفسهم أجوز ونظيره في تجويزه المناهدة قوله تعالى في قصة أهل الكهف فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فكان الورق لهم جميعا لقوله بورقكم فأضافه إلى الجماعة وأمره بالشراء ليأكلوا جميعا منه وقوله وإن تخالطوهم فإخوانكم قد دل على ما ذكرنا من جواز المشاركة والخلطة على أنه يستحق الثواب بما يتحرى فيه الإصلاح من ذلك لأن قوله فإخوانكم قد دل على ذلك إذ هو مندوب إلى معونة أخيه وتحرى مصالحه لقوله تعالى إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه فقد انتظم قوله فإخوانكم الدلالة على الندب والإرشاد واستحقاق الثواب بما يليه منه وقوله ولو شاء الله لأعنتكم يعني به لضيق عليكم في التكليف فيمنعكم من مخالطة الأيتام والتصرف لهم في أموالهم ولأمركم بإفراد أموالكم عن أمولهم أو لأمركم على جهة الإيجاب بالتصرف لهم وطلب الأرباح بالتجارات لهم ولكنه وسع ويسر وأباح لكم التصرف لهم على وجه الإصلاح ووعدكم

الثواب عليه ولم يلزمكم ذلك على جهة الإيجاب فيضيق عليكم تذكيرا بنعمه وإعلاما منه اليسر والصلاح لعباده وقوله فإخوانكم يدل على أن أطفال المؤمنين هم مؤمنون في الأحكام لأن الله تعالى سماهم إخوانا لنا والله تعالى قد قال إنما المؤمنون إخوة والله تعالى أعلم
باب

نكاح المشركات
قال الله تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال ثم استثنى أهل الكتاب فقال والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان قال عفائف غير زوان فأخبر ابن عباس أن قوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن مرتب على قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وأن الكتابيات مستثنيات منهن وروي عن ابن عمر أنها عامة في الكتابيات و غيرهن حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب وكره نكاح نسائهم قال أبو عبيد وحدثنا عبدالله بن صالح عن الليث قال حدثني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال إن الله حرم المشركات على المسلمين قال فلا أعلم من الشرك شيئا أكبر أو قال أعظم من أن تقول ربها عيسى أو عبد من عبيد الله فكرهه في الحديث الأول ولم يذكر التحريم وتلا في الحديث الثاني الآية ولم يقطع فيها بشيء وأخبر أن مذهب النصارى شرك قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا علي بن سعد عن أبي المليح عن ميمون ابن مهران قال قلت لابن عمر إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب فننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فقرأ علي أية التحليل وآية التحريم قال قلت أني أقرأ ما تقرأ فننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فأعاد على آية التحليل وآية التحريم قال أبو بكر عدوله بالجواب بالإباحة والحظر إلى تلاوة الآية دليل على أنه كان واقفا في الحكم غير قاطع فيه بشيء وما ذكر عنه من الكراهة يدل على أنه ليس على وجه التحريم كما يكره تزوج نساء أهل

الحرب من الكتابيات لا على وجه التحريم وقد روي عن جماعة من ال الصحابة والتابعين إباحة نكاح الكتابيات حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثني سعيد بن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد عن عمر مولى عفرة قال سمعت عبدالله بن علي بن السائب يقول إن عثمان تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية على نسائه وبهذا الإسناد من غير ذكر نافع أن طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية من أهل الشام وروي عن حذيفة أيضا أنه تزوج يهودية وكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه حذيفة أحرام هي فكتب إليه عمر لا ولكن أخاف أن تواقعوا المومسات منهن وروي عن جماعة من التابعين إباحة تزويج الكتابيات منهم الحسن وإبراهيم والشعبي ولا نعلم عن أحد من الصحابة والتابعين تحريم نكاحهن وما روي عن ابن عمر فيه فلا دلالة فيه على أنه رآه محرما وإنما فيه عنه الكراهة كما روي كراهة عمر لحذيفة تزويج الكتابية من غير تحريم وقد تزوج صعثمان وطلحة وحذيفة الكتابيات ولو كان ذلك محرما عند الصحابة لظهر منهم نكير أو خلاف وفي ذلك دليل على اتفاقهم على جوازه وقوله ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن غير موجب لتحريم الكتابيات من وجهين أحدهما أن ظاهر لفظ المشركات إنما يتناول عبدة الأوثان منهم عند الإطلاق ولا يدخل فيه الكتابيات إلا بدلالة ألا ترى إلى قوله ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم وقال لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ففرق بينهم في اللفظ وظاهره يقتضي أن المعطوف غير المعطوف عليه إلا أن تقوم الدلالة على شمول الاسم للجميع وأنه أفرد بالذكر لضرب من التعظيم أو التأكيد كقوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فأفردهما بالذكر تعظيما لشأنهما مع كونهما من جملة الملائكة إلا أن الأظهر أن المعطوف غير المعطوف عليه إلا أن تقوم الدلالة على أنه من جنسه فاقتضى عطفه أهل الكتاب على المشركين أن يكونوا غيرهم وأن يكون التحريم مقصورا على عبدة الأوثان من المشركين والوجه الآخر أنه لو كان عموما في الجميع لوجب أن يكون مرتبا على قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وأن لا تنسخ إحداهما بالأخرى ما أمكن استعمالهما فإن قيل قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من

قبلكم إنما أراد به اللاتي أسلمن من أهل الكتاب كقوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وقوله من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون قيل له هذا خلف من القول دال على غباوة قائله والمحتج به وذلك من وجهين أحدهما أن هذا الاسم إذا أطلق فإنما يتناول الكفار منهم كقوله من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وقوله ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك وما جرى مجرى ذلك من الألفاظ المطلقة فإنما يتناول اليهود والنصارى ولا يعقل به من كان من أهل الكتاب فأسلم إلا بتقييد ذكر الإيمان ألا ترى أن الله تعالى لما أراد به من أسلم منهم ذكر الإسلام مع ذكره أنهم من أهل الكتاب فقال ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله واليوم الآخر والوجه الآخر أنه ذكر في الآية المؤمنات وقد انتظم ذكر المؤمنات اللاتي كن من أهل الكتاب فأسلمن ومن كن مؤمنات في الأصل لأنه قال والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فكيف يجوز أن يكون مراده بالمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من المؤمنات المبدوء بذكرهن وربما احتج بعض القائلين بهذه المقالة بما روي عن علي بن أبي طلحة قال أراد كعب بن مالك أن يتزوج امرأة من أهل الكتاب فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم - فنهاه وقال إنها لا تحصنك قال فظاهر النهي يقتضي الفساد فيقال إن هذا حديث مقطوع من هذا الطريق ولا يجوز الاعتراض بمثله على ظاهر القرآن في إيجاب نسخه ولا تخصيصه وإن ثبت فجائز أن يكون على وجه الكراهية كما روي عن عمر من كراهته لحذيفة تزويج اليهودية لا على وجه التحريم ويدل عليه قوله إنها لا تحصنك ونفي التحصين غير موجب لفساد النكاح لأن الصغيرة لا تحصنه وكذلك الأمة ويجوز نكاحهما وقد اختلف في تزوج الكتابية الحربية فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا قال وتلا هذه الآية قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله وهم صاغرون قال الحكم فحدثت به إبراهيم فأعجبه قال أبو بكر يجوز أن يكون ابن عباس رأى ذلك على وجه الكراهية وأصحابنا يكرهونه من غير تحريم وقد روي عن علي أنه كره نساء اهل

الحرب من أهل الكتاب وقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لم يفرق فيه بين الحربيات والذميات وغير جائز تخصيصه بغير دلالة وقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لا تعلق له بجواز النكاح ولا فساده ولو كان وجوب القتال علة لفساد النكاح لوجب أن لا يجوز نكاح نساء الخوارج وأهل البغي لقوله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فبان بما وصفنا أنه لا تأثير لوجوب القتال في إفساد النكاح وإن ما كرهه أصحابنا لقوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى وجعل بينكم مودة ورحمة فلما أخبر أن النكاح سبب المودة والرحمة ونهانا عن موادة أهل الحرب كرهوا ذلك وقوله يوادون من حاد الله ورسوله إنما هو في أهل الحرب دون أهل الذمة لأنه لفظ مشتق من كونهم في حد ونحن في حد وكذلك المشاقة وهو أن يكونوا في شق ونحن في شق وهذه صفة أهل الحرب دون أهل الذمة فلذلك كرهوه كرهوا ذلك وقوله يوادون من حاد الله ورسوله إنما هو في أهل الذمة لأنه لفظ مشتق من كونهم في حد ونحن في حد وكذلك المةوشاقة وهو أن يكونوا في شق وهذه صفة أهل الحرب ومن جهة أخرى وهو أن ولده ينشأ في دار الحرب على أخلاق أهلها وذلك منهي عنه قال ص أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين وقال ص - أنا بريء من كل مسلم مع مشرك فإن قيل ما أنكرت أن يكون قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله مخصصا لقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قاصرا لحكمه على الذميات منهن دون الحربيات قيل له الآية إنما اقتضت النهي عن الوداد والتحاب فأما نفس عقد النكاح فلم تتناوله الآية وإن كان قد يصير سببا للموادة والتحاب فنفس العقد ليس هو الموادة والتحاب إلا أنه يؤدي إلى ذلك فاستحسنوا له غيرهن فإن قيل لما قال عقيب تحريم نكاح المشركات أولئك يدعون إلى النار دل على أنه لهذه العلة حرم نكاحهن وذلك موجود في نكاح الكتابيات الذميات والحربيات منهن فوجب تحريم نكاحهن لهذه العلة كتحريم نكاح المشركات قيل له معلوم أن هذه ليست علة موجبة لتحريم النكاح لأنها لو كانت كذلك لكان غير جائز إباحتهن بحال فلما وجدنا نكاح المشركات قد كان مباحا في أول الإسلام إلى أن نزل تحريمهن مع وجود هذا المعنى وهو دعاء الكافرين لنا إلى النار دل على أن هذا المعنى ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح وقد كانت امرأة نوح وامرأة لوط كافرتين تحت نبيين من أنبياء الله تعالى

قال الله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين فأخبر بصحة نكاحهما مع وجود الكفر منهم افثبت بذلك أن الكفر ليس بعلة موجبة لتحريم النكاح وإن كان الله تعالى قد قال في سياق تحريم المشركات أولئك يدعون إلى النار فجعله علما لبطلان نكاحهن وما كان كذلك من المعاني التي تجري مجرى العلل الشرعية فليس فيه تأكيد فيما يتعلق به الحكم من الاسم فيجوز تخصيصخ كتخصيص الاسم وإذا كان قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب يجوز به تخصيص التحريم الذي علق بالاسم جاز أيضا تخصيص الحكم المنصوب على المعنى الذي أجري مجرى العلل الشرعية ونظير ذلك قوله إنما يريد ا لشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله فذكر ما يحدث عن شرب الخمر من هذه الأمور المحظورة وأجراها مجرى العلة وليس بواجب إجراؤها في معلولاتها لأنه لو كان كذلك لوجب أن يحرم سائر البياعات والمناكحات وعقود المداينات لإرادة الشيطان إيقاع العداوة والبغضاء بيننا في سائرها وأن يصدنا بها عن ذكر الله فلما لم يجب اعتبار المعنى في سائر ما وجد فيه بل كان مقصور الحكم على المذكور دون غيره كان كذلك حكم سائر العلل الشرعية المنصوص عليها منها والمقتضية والمستدل عليها وهذا مما يستدل به على تخصيص العلل الشرعية فوجب بما وصفنا أن يكون حكم التحريم مقصورا فيما وصفنا على المشركات منهن دون غيرهن ويكون ذكر دعائهم إيانا إلى النار تأكيدا للحظر في المشركات غير متعد به إلى سواهن لأن الشرك والدعاء إلى النار هما علما تحريم النكاح وذلك غير موجود في الكتابيات وقد قيل إن ذلك في مشركي العرب المحاربين كانوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين فنهوا عن نكاحهن لئلا يمكن بهم إلى مودة أهاليهن من المشركين فيؤدي ذلك إلى التقصير منهم في قتالهم دون أهل الذمة الموادين الذين أمرنا بترك قتالهم إلا أنه إن كان كذلك فهو يوجب تحريم نكاح الكتابيات الحربيات لوجود هذا المعنى ولا نجد بدا من الرجوع إلى حكم معلول هذه العلة بما قدمنا وقوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة يدل على جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة لأن الله تعالى أمر المؤمنين بتزويج الأمة المؤمنة بدلا من الحرة المشركة التي تعجبهم ويجدون الطول إليها وواجد الطول إلى الحرة

المشركة هو واجدة إلى الحرة المسلمة إذ لا فرق بينهما في العادة في المهور فإذا كان كذلك وقد قال الله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا يصح الترغيب في نكاح الأمة المؤمنة وترك الحرة المشركة إلا وهو يقدر على تزويج الحرة المسلمة فتضمنت الآية جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة ويدل من وجه آخر على ذلك وهو أن النهي عن نكاح المشركات عام في واجد الطول وغير واجده للغني والفقير منهم ثم عقب ذلك بقوله ولأمة مؤمنة خير من مشركة فأباح نكاحها لمن حظر عليه نكاح المشركة فكان عموما في الغني والفقير موجبا لجواز نكاح الأمة للفريقين
باب

الحيض
قوله تعالى ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض والمحيض قد يكون اسما للحيض نفسه ويجوز أن يسمى به موضع الحيض كالمقبل والمبيت هو موضع القيلولة وموضع البيتوتة ولكن في فحوى اللفظ ما يدل على أن المراد بالمحيض في هذا الموضع هو الحيض لأن الجواب ورد بقوله هو أذى وذلك صفة لنفس الحيض لا الموضع الذي فيه وكانت مسألة القوم عن حكمه وما يجب عليهم فيه وذلك لأنه قد كان قوم من اليهود يجاورونهم بالمدينة وكانوا يجتنبون مؤاكلة النساء ومشاربتهن ومجالسهن في حال الحيض فأرادوا أن يعلموا حكمه في الإسلام فأجابهم الله بقوله هذا هو أذى يعني أنه نجس وقذر ووصفه له بذلك قد أفاد لزوم اجتنابه لأنهم كانوا عالمين قبل ذلك بلزوم اجتناب النجاسات فأطلق فيه لفظا علقوا منه الأمر بتجنبه ويدل على أن الأذى اسم يقع على النجاسات قول النبي صلى الله عليه وسلم - إذا أصاب نعل أحدكم أذى فليمسحها بالأرض وليصل فيها فإنه لها طهور فسمى النجاسة أذى وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله قل هو أذى الأخبار عن حاله في تأذى الإنسان به لأن ذلك لا فائدة فيه علمنا أنه أراد الأخبار بنجاسته ولزوم اجتنابه وليس كل أذى نجاسة قال الله تعالى ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر والمطر ليس بنجس وقال ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإنما كان الأذى المذكور في الآية عبارة عن النجاسة ومفيدا لكونه قذرا يجب اجتنابه لدلالة الخطاب عليه ومقتضى سؤال السائلين عنه وقد اختلف الفقهاء فيما يلزم اجتنابه من الحائض بعد اتفاقهم على أن له أن يستمتع منها بما

فوق المئزر وورد به التوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم -

روته عائشة وميمونة أن النبي ص
- كان يباشر نساءه وهن حيض فوق الإزار واتفقوا أيضا أن عليه اجتناب الفرج منها واختلفوا في الإستمتاع منها بما تحت الإزار بعد أن يجتنب شعائر الدم فروى عن عائشة وأم سلمة أن له أن يطأها فيما دون الفرج وهو قول الثوري ومحمد بن الحسن وقالا يجتنب موضع الدم وروي مثله عن الحسن والشعبي وسعيد بن المسيب والضحاك وروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس أن له منها ما فوق الإزار وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف والأوزاعي ومالك والشافعي قال أبو بكر قوله فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن قد انتظم الدلالة من وجهين على حظر ما تحت الإزار أحدهما قوله فاعتزلوا النساء في المحيض ظاهره يقتضي لزوم اجتنابها فيما تحت المئزز وفوقه فلما اتفقوا على إباحة الاستمتاع منها بما فوقه سلمناه للدلاة وحكم الحظر قائم فيما دونه إذ لم تقم الدلالة على إباحة الاستمتاع منها بما فوقه سلمناه للدلاة وحكم الحظر قائم فيما دونه إذ لم تقم الدلالة عليه والوجه الآخر قوله ولا تقربوهن وذلك في حكم اللفظ الأول في الدلالة على مثل ما دل عليه فلا يخص منه عند الاختلاف إلا ما قامت الدلالة عليه ويدل عليه أيضا من جهة السنة حديث يزيد ابن أبي أنيسة عن أبي إسحاق عن عمير مولى عمر بن الخطاب أن نفرا من أهل العراق سألوا عم عما يحل لزوج الحائض منها وغير ذلك فقال سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال لك منها ما فوق الإزار وليس لك منها ما تحته ويدل عليه أيضا حديث الشيباني عن عبدالرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة قالت كانت إحدانا إذا كانت حائضا أمرها النبي صلى الله عليه وسلم - أن تتزر في فور حيضها ثم يباشرها فأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يملك إربه وروى الشيباني أيضا عن عبدالله بن شداد عن ميمونة زوج النبي ص
- عن مثله ومن أباح له ما دون المئزر احتج بحديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن اليهود كانوا يخرجون الحائض من البيت ولا يؤاكلونها ولا يجامعونها في بيت فسئل النبي صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى ويسألونك عن المحيض الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - جامعوهن في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح وبما روى عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لها ناوليني الخمرة فقالت إني حائض فقال ليست حيضتك في يدك قالوا وهذا يدل على أن كل عضو منها ليس فيه الحيض حكمه حكم ما كان فيه قبل الحيض في الطهارة وفي جواز الاستمتاع والجواب عن ذلك لمن رأى حظر ما دون مئزرها أن قوله في حديث أنس

إنما فيه ذكر سبب نزول الآية وما كانت اليهود تفعله فأخبر عن مخالفتهم في ذلك وأنه ليس علينا إخراجها من البيت وترك مجالستها وقوله اصنعوا كل شيء إلا النكاح جائز أن يكون المراد به الجماع فيما دون الفرج لأنه ضرب من النكاح والمجامعة وحديث عمر الذي ذكرناه قاض عليه متأخر عنه والدليل على ذلك أن في حديث أنس إخبارا عن حال نزول الآية وحديث عمر بعد ذلك لأنه لم يخبر عن حال نزول الآية وقد أخبر فيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عما يحل من الحائض وذلك لا محالة بعد حديث أنس من وجهين أحدهما أنه لم يسئل عما يحل منها إلا وقد تقدم تحريم إتيان الحائض والثاني أنه لو كان السؤال في حال نزول الآية عقيبها لاكتفى بما ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال اصنعوا كل شيء إلا النكاح وفي ذلك دليل على أن سؤال عمر كان بعد ذلك ومن جهة أخرى أنه لو تعارض حديث عمر وحديث أنس لكان حديث عمر أولى بالاستعمال لما فيه من حظر الجماع فيما دون الفرج وفي ظاهر حديث أنس الإباحة والحظر والإباحة إذا اجتمعا فالحظر أولى ومن جهة أخرى وهو أن خبر عمر يعضده ظاهر القرآن وهو قوله تعالى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن وخبر أنس يوجب تخصيصه وما يوافق القرآن من الأخبار فهو أولى مما يخصه ومن جهة أخرى وهو أن خبر أنس مجمل عام ليس فيه بيان إباحة موضع بعينه وخبر عمر مفسر فيه بيان الحكم في الموضعين مما تحت الإزار وما فوقه والله أعلم
باب

بيان معنى الحيض ومقداره
قال أبو بكر الحيض اسم لمقدار من الدم يتعلق به أحكام منها تحريم الصلاة والصوم وحطر الجماع وانقضاء العدة واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن وتصير المرأة به بالغة فإذا تعلق بوجود الدم هذه الأحكام كان له مقدار ما سمي حيضا وإذا لم يتعلق به هذه الأحكام لم يسم حيضا ألا ترى أن الحائض ترى الدم في أيامها وبعد أيامها على هيئة واحدة فيكون ما في أيامها منه حيضا لتعلق هذه الآحكام به مع وجوده وما بعد أيامها فليس بحيض لفقد هذه الأحكام مع وجوده وكذلك نقول في الحامل أنها لا تحيض وهي قد ترى الدم ولكن ذلك الدم لما لم يتعلق به ما ذكرنا من الأحكام لم يسم حيضا فالمستحاضة قد ترى الدم السائل دهرا ولا يكون حيضا وإن كان كهيئة الدم الذي

يكون مثله حيضا إذا رأته في أيامها فالحيض اسم لدم يفيد في الشرع تعلق هذه الأحكام به إذا كان له مقدار ما والنفاس والحيض فيما يتعلق بهما من تحريم الصلاة والصوم وجماع الزوج واجتناب ما يجتنبه الحائض سواء وإنما يختلفان من وجهين أحدهما أن مقدار مدة الحيض ليس هو مقدار مدة النفاس والثاني أن النفاس لا تأثير له في انقضاء العدة ولا في البلوغ وكان أبو الحسن يحد الحيض بأنه الدم الخارج من الرحم الذي تكون به المرأة بالغة في ابتدائه بها وما تعتاده النساء في الوقت بعد الوقت وإنما أراد بذلك عندنا أن تكون بالغة في ابتدائه بها إذا لم يكن قد تقدم بلوغها قبل ذلك من جهة السن أو الاحتلام أو الإنزال عند الجماع فأما إذا تقدم بلوغها قبل ذلك بما وصفنا ثم رات دما فهو حيض إذا رأته مقدار مدة الحيض وإن لم تصر بالغة في ابتدائه بها وقد اختلف الفقهاء في مقدار مدة الحيض فقال أصحابنا أقل مدة الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة وهو قول سفيان الثوري وهو المشهور عن أصحابنا جميعا وقد روي عني أبي يوسف ومحمد إذا كان يومين وأكثر اليوم الثالث فهو حيض والمشهور عن محمد مثل قول أبي حنيفة وقال مالك لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره وحكى عبدالرحمن بن مهدي عن مالك أنه كان يرى أن أكثر الحيض خمسة عشر يوما حدثنا عبدالله بن جعفر بن فارس قال حدثنا هارون بن سليمان الجزار قال حدثنا عبدالرحمن بن مهدي بذلك وقال الشافعي أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما وروى عبدالرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن علي بن ثابت عن محمد بن زيد عن سعيد بن جبير قال الحيض إلى ثلاثة عشر فإذا زادت فهي استحاضة وقال عطاء إذا زادت على خمسة عشر فهي استحاضة وقد كان أبو حنيفة يقول بقول عطاء إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر ثم رجع عنه إلى ما ذكرنا ومما يحتج به للقائلين بأن أقله ثلاثة أيام وأكثره عشرة حديث القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة فإن صح هذا الحديث فلا معدل عنه لأحد ويدل عليه أيضا حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي وأنس بن مالك أنهما قالا الحيض ثلاثة أيام أربعة أيام إلى عشرة أيام وما زاد فهو استحاضة ويدل ذلك على ما وصفنا من وجهين أحدهما أن القول إذا ظهر عن جماعة من الصحابة واستفاض ولم يوجد له منهم مخالف فهو إجماع وحجة على من بعدهم وقد روى ما وصفنا عن هذين الصحابيين من غير خلاف

ظهر من نظرائهم عليهم فثبت حجته والثاني أن هذا الضرب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى وعبادات محضة طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق مثل إعداد ركعات الصلوات المفروضات وصيام رمضان ومقادير الحدود وفرائض الإبل في الصدقات ومثله مقدار مدة الحيض والطهر ومنه مقدار المهر الذي هو مشروط في عقد النكاح والقعود قدر التشهد في آخر الصلاة فمتى روي عن صحابي فيما كان هذا وصفه قول في تحديد شيء من ذلك وإثبات مقدراه فهو عندنا توقيف إذ لا سبيل إلى إثباته من طريق المقاييس فإن قيل ليس يمتنع أن يكون مقدار الحيض معتبرا بعادات النساء فيجب الرجوع إليها فيه ويدل عليه قوله ص - لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فردها إلى العادة وأثبتها ستا أو سبعا فجائز على هذا أن يكون قول من قال بالعشرة في أكثره وبالثلاث في أقله إنما صدر عن العادة عنده قيل له إنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في الأقل الذي لا نقص عنه وفي الأكثر الذي لا يزاد عليه وقد اتفق الجميع على المذكور من العدد وفي قصة حمنة وهو ست أو سبع ليس بحد في ذلك وأنه لا اعتبار به في إثبات التحديد فسقط الاحتجاج به في موضع الخلاف وقوله لحمنة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر يصلح أن يكون دليلا مبتدأ لصحة قولنا من قبل أن قوله كما تحيض النساء في كل شهر لما كان مستوعبا لجنس النساء اقتضى أن يكون ذلك حكم جميع النساء وذلك ينفي أن يكون حيض امرأة أقل من ذلك فلو لا قيام دلالة الإجماع على أن الحيض قد يكون ثلاثا لما جاز لأحد أن يجعل الحيض أقل من ست أو سبع فلما حصل الاتفاق على كون الثلاث حيضا خصصناه من عموم الخبر وبقي حكم ما دون الثلاث منفيا بمقتضى الخبر ويحتج بمثله في أكثر الحيض ويدل على ذلك أيضا ما روي عنه ص - أنه قال ما رأيت ناقصا عقل ودين أغلب لعقول ذوي الألباب منهن فقيل ما نقصان دينهن فقال تمكث إحداهن الأيام والليالي لا تصلي فدل على أن مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام والليالي وأقلها ثلاثة أيام وأكثرها عشرة أيام ويدل عليه حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة أنه ص -

قال لفاطمة بنت أبي حبيش اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضأي لكل
صلاة وروى الحكم عن أبي جعفر أن سودة قالت للنبي ص - إني أستحاض فأمرها أن تقعد أيام حيضها فإذا مضت توضأت

لكل صلاة وصلت وفي بعض ألفاظ حديث فاطمة بنت أبي حبيس دعي الصلاة بعدد الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وفي حديث أم سلمة عنه ص - في المرأة التي سألته أنها تهراق الدم فقال لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر ثم لتغتسل ولتصل وروى شريك عن أبي اليقظان عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عنه ص - قال المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة وفي بعض ألفاظ هذا الحديث تدع الصلاة أيام إقرائها وأمر النبي صلى الله عليه وسلم - فاطمة بنت أبي حبيش والمرأة التي روت قصتها أم سلمة أن تدع الصلاة أيام حيضها من غير مسألة منه لها عن مقدار حيضها قبل ذلك وجب بذلك أن تكون مدة الحيض ما يقع عليه اسم الأيام وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة ولو كان الحيض يكون أقل من ثلاث لما أجابها بذكر الأيام والليالي وقال في حديث عدي بن ثابت المستحاضة تدع الصلاة أيام حيضها وذلك لفظ عام في سائر النساء واسم الأيام إذا أطلقت في عدد محصور يقع أقله على ثلاثة وأكثره على عشرة ولا بد من أن يكون له عدد محصور يضاف إليه الأيام فوجب أن يكون عدده ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم - ووجه آخر وهو أنه متى تقدمت معرفة الوقت الذي أضيفت إليه الأيام فإن اسم الأيام لا يتناول عددا محصورا نظيره قول القائل أيام السنة فلا تختص بالثلاثة ولا بالعشرة وقوله أياما معدودات لم تختص بما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه قال كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم فلما أضافها إلى الوقت الذي قد تقررت معرفته عند المخاطبين لم تختص بما بين الثلاثة إلى العشرة وقوله تدع الصلاة أيام حيضها وأيام إقرائها لم يتقدم عند السامعين عدد أيامها فيكون ذكر الأيام راجعا إليها دون ما تختص به من العدد فوجب أن يكون محمولا على ما يختص به من هذا العدد وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة وإنما كان ذلك كذلك لأن اسم الأيام قد تطلق ويراد بها وقت مبهم كما يطلق اسم الليالي على وقت مبهم ولا يراد بها سواد الليل فإذا تقدمت معرفة الوقت المضاف إليه الأيام فذكر الأيام فيه بمعنى الوقت المبهم الذي لا يراد به عدد قال الشاعر ... ليالي تصطاد الرجال بفاحم ... ولم يرد به سواد الليل دون بياض النهار وقال آخر

واذكر أيام الحمى ثم انثنى ... على كبدي من خشية أن تصدعا ... وليست عشيات الحمى برواجع ... إليك ولكن خل عينيك تدمعا ... ولم يرد بذكر الأيام يياض النهار ولا بذكر العشيات أواخره وإنما أراد وقتا قد تقررت معرفته عند المخاطب وكقوله تعالى فأصبح من النادمين ولم يرد به أول النهار دون آخره وقال الشاعر ... أصبحت عاذلتي معتلة ... ولم يرد به الصباح دون المساء وقال لبيد ... وأمسى كأحلام النيام نعيمهم ... وأي نعيم خلته لا يزايل ... ولم يرد به المساء دون الصباح وإنما أراد وقتا مبهما وهذا أشهر في اللغة من أن يحتاج فيه إلى الإكثار من الشواهد فلما انقسم اسم الأيام إلى هذين المعنيين قلنا فيما تقررت معرفته إذا أضيف إليه الأيام فمعناه الوقت وما كان منه حكما مبتدأ فهو محمول على ما تصح إضافة الأيام إليه فمعناها إذا عين وهو ما بين الثلاثة إلى العشرة ووجه آخر وهو أنه لما كان في مفهوم لسان العرب أن اسم الأيام إذا أضيف إلى عدد لم يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا يفارق هذا العدد اسم الأيام بحال لأنك إذا قلت أحد عشر لم تقل أياما وإنما تقول أحد عشر يوما وكذلك إذا أطلقت أيام الشهر فقلت ثلاثين لم يحسن عليه اسم الأيام وقلت ثلاثين يوما فلما كان اسم الأيام مع ذكر العدد المضاف لا يقع إلا على ما بين الثلاثة إلى العشرة علمنا أنها حقيقة فيه محمولة على حقيقته ولا تصرف عنه إلى غيره إلا بدلالة لأنه مجاز من حيث جاز أن ينفى عنه اسم الأيام بحال وهو إذا عين عدده أضيفت الأيام إليه فإن قيل لما قال دعي الصلاة أيام إقرائك فجعل الأيام وأقلها ثلاثة للإقراء وهي جمع أقله ثلاثة حصل لكل يوم قرء قيل له المراد بقوله أيام إقرائك حيضة واحدة بدلالة أن من كانت عادتها في الحيض ما بين الثلاثة إلى العشرة مراده ذلك لا محالة ومعلوم أن المراد في مثلهما بقوله إقرائك حيضة واحدة فكذلك من لا عادة لها ويدل على ذلك قوله ثم اغتسلي وتوضأي لكل صلاة ومعلوم أن مراده عند مضي كل حيضة فعلمنا أن المراد بقوله ايام إقرائك أيام حيضة وأيضا قال في حديث الأعمش الذي ذكرنا أيام محيضك وفي غيره أيام حيضك وقال فلتدع الصلاة الأيام والليالي التي كانت

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19