كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

بحضرته ورد الحادثة إلى نظائرها ليستبرئ حاله في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ كما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أسلم بن سهل قال حدثنا محمد بن خالد بن عبدالله قال حدثنا أبي عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبي العالية عن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال اقض بينهما يا عقبة قلت يا رسول الله أقضي بينهما وأنت حاضر قال اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة فأباح له النبي صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم -

لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية وهو وقوله تعالى
فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول لأنا متى وجدنا من النبي صلى الله عليه وسلم -
حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن
وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم - كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما فقول القائل إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم - وأن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة غير صحيح وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم - فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأي لا على الوجه الذي قدمناه فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ولم يسوغ ذلك لأحد والله أعلم
باب
طاعة الرسول ص
-
قال الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال تعالى ومن يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فأكد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأبان أن طاعته إطاعة الله وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله وقال الله
تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم فأوعد على مخالفة أمر الرسول وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاك فيه خارجا من الإيمان

بقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قيل في الحرج ههنا إنه الشك روي ذلك عن مجاهد وأصل الحرج الضيق وجائز أن يكون المراد التسليم من غير شك في وجوب تسليمه ولا ضيق صدر به بل بانشراح صدر وبصيرة ويقين
وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله ص - فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والإمتناع من التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي ص - قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان
فإن قيل إذا كانت طاعة الرسول ص - طاعة الله تعالى فهلا كان أمر الرسول أمر الله تعالى قيل له إنما كانت طاعته طاعة الله بموافقتها إرادة كل واحد منهما أوامره وأما الأمر فهو قول القائل افعل ولا يجوز أن يكون أمرا وأحد الآمرين كما لا يكون فيه قول واحد من قائلين ولا فعل واحد من فاعلين
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا قيل الثبات الجماعات واحدها ثبة وقيل الثبة عصبة منفردة من عصب فأمرهم الله بأن ينفروا فرقة بعد فرقة في جهة وفرقة في جهة أو ينفروا جميعا من غير تفرق وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة
وقوله تعالى خذوا حذركم معناه خذوا سلاحكم فسمى السلاح حذرا لأنه يتقى به الحذر ويحتمل احذروا عدوكم بأخذ سلاحكم كقوله تعالى وليأخذوا حذرهم واسلحتهم فانتظمت هذه الآية الأمر بأخذ السلاح لقتال العدو على حال افتراق العصب أو اجتماعها بما هو أولى في التدبير والنفور هو الفزع نفر ينفر نفورا إذا فزع ونفر إليه إذا فزع من أمر إليه والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم والنفر جماعة تفزع إلى مثلها والنفير إلى قتال العدو والمنافرة المحاكمة للفزع إليها فيما ينوب من الأمور التي يختلف فيها ويقال إن أصلها أنهم كانوا يسئلون الحاكم أينا أعز نفرا
وقد روي في هذه الآية نسخ روى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى فانفروا ثبات أو انفروا جميعا قال عصبا وفرقا وقال في براءة انفروا خفافا وثقالا الآية وقال إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما الآية قال فنسخ هذه الآيات قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وتمكث

طائفة منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فالماكثون مع النبي ص
- هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزوات لعلهم يحذرون ما نزل من قضاء الله في كتابه وحدوده
قوله تعالى الذين يقاتلون في سبيل الله قيل في سبيل الله في طاعة الله لأنها تؤدي إلى ثواب الله في جنته التي أعدها لأوليائه وقيل دين الله الذي شرعه ليؤدي إلى ثوابه ورحمته فيكون تقديره في نصرة دين الله تعالى وقيل في الطاغوت أنه الشيطان قاله الحسن والشعبي وقال أبو العالية هو الكاهن وقيل كل ما عبد من دون الله وقوله تعالى إن كيد الشيطان كان ضعيفا الكيد هو السعي في فساد الحال على جهة الإحتيال والقصد لإيقاع الضرر قال الحسن إنما قال إن كيد الشيطان كان ضعيفا لأنه كان أخبرهم أنهم يستظهرون عليهم فلذلك كان ضعيفا وقيل إنما سماه ضعيفا لضعف نصرته لأوليائه إلى نصرة الله للمؤمنين قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا وهذان الضربان من الاختلاف منفيان عن القرآن وهو إحدى دلالات إعجازه لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت والثالث اختلاف التلاؤم هو أن يكون الجميع متلائما في الحسن كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فقد تضمنت الآية الحض على الإستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به
قوله تعالى ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى هم أهل العلم والفقه وقال السدي الأمراء والولاة
قال أبو بكر يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا
فإن قيل أولو الأمر من يملك الأمر بالولاية على الناس وليست هذه صفة أهل العلم
قيل له إن الله تعالى لم يقل من يملك الأمر بالولاية على الناس وجائز أن يسمي الفقهاء أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها فجائز أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه كما قال في آية أخرى ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم

المنذرين قبول قولهم فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه
وقوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإن الإستنباط هو الإستخراج ومنه استنباط المياه والعيون فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب والإستنابط في الشرع نظير الإستدلال والإستعلام
وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أاحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول ص -

في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته ص
- وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه فثبت بذلك أن أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى الإستدلال عليه واستنباطه فقد حوت هذه الآية معاني منها أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه بل مدلول عليه ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والإستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر
بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر ثم قال لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال فإن قيل ليس هذا استنباطا في أحكام الحوادث وإنما هو في الأمن والخوف من العدو لقوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها فأمرهم الله بترك العمل بها ورد ذلك إلى الرسول وإلى الأمراء حتى لا يفتوا في أعضاد المسلمين إن كان شيئا يوجب الخوف وإن كان شيئا يوجب الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار فلا دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث قيل له قوله تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ليس بمقصور على أمر العدو لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما يتعبدون به من أحكام الشرع فيما يباح ويحظر وما يجوز وما لا يجوز ذلك كله من الأمن والخوف فإذا ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار به على ما يتفق من

الأراجيف بالأمن والخوف في أمر العدو بل جائز أن يكون عاما في الجميع وحظر به على العامي أن يقول في شيء من حوادث الأحكام ما فيه حظر أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك وألزمهم رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص وأيضا فلو سلمنا لك أن نزول الآية مقصور على الأمن والخوف من العدو لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولي الأمر واجتهادهم فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار فلا فرق بينه وبين الاجتهاد والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة إذ كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى ويكون المانع من الاجتهاد والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومنعه في المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك وهذا خلف من القول
فإن قيل ليس الاستنباط مقصور على القياس واجتهاد الرأي دون الاستدلال بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا
قيل له الدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا لا يقطع بين أهل اللغة فيه تنازع إذ كان أمرا معقولا في اللفظ فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب وذلك عندنا نحو قوله تعالى ولا تقل لهما أف أنه لا دلالة على النهي عن الضرب والشم والقتل ونحوه وهذا لا يقع في مثله خلاف فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هذا الضرب من دلائل الخطاب فإن هذا لا تنازع فيه ولا يحتاج إلى استنباط وإن أردت بالدليل تخصيص الشيء بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه بخلافه فإن هذا ليس بدليل وقد بيناه في أصول الفقه ولو كان هذا ضربا من الدليل لما غفلته الصحابة ولا استدلت به على أحكام الحوادث ولو فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على سقوط قولك وأيضا لو كان هذا ضربا من الإستدلال لم يمنع ذلك إيجاب الاستنباط فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأي والقياس إذ ليس يوجد في كل حادثة هذا الضرب من الدلالة وقد أمرنا باستنباط سائر ما لا نص فيه فما لم نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل فعلينا استنباط حكمه من طريق القياس والاجتهاد

إذ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة
فإن قيل لما قال الله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله إذ كان القائس يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد
قيل له قولك إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله خطأ لا نقول به وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم الله عليه فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أداه إليه اجتهاده وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول القائلين بالإمامة لأنه لو كان كل شيء من أحكام الدين منصوصا عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الإستنباط وسقط الرد إلى أولي الأمر بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص
وقوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها قال أهل اللغة التحية الملك ومنه قول الشاعر ... أسير به إلى النعمان حتى ... أتيح على تحيته بجند ...
يعني عن ملكه ومعنى قولهم حياك الله أي ملكك الله ويسمى السلام تحية أيضا لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الإسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله قال أبو ذر كنت أول من حيى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بتحية الإسلام فقلت السلام عليك ورحمة الله وقال النابغة ... يحيون بالريحان يوم السباسب ...

يعني أنهم يعطون الريحان ويقال لهم حياكم الله والأصل فيه ما ذكرنا من
أنه ملكك الله فإذا حملنا قوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه مالم يثبت منه فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رحم أن له الرجوع فيها مالم يثبت منها فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أو رد لما جيء به
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا
سليمان بن

داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني أسامة بن زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء فيأكل قيئه فغذا استرد الواهب فليوقف وليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الرجل أحق بهبته مالم يثبت منها
وروى ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا يحل لرجل يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما صحة الرجوع في الهبة والآخر كراهته وأنه من لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات وذلك لأنه شبه الراجع في الهبة بالكلب يعود في قيئه وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنه شبهه بالكلب إذا عاد في قيئه ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب فما شبه به فهو مثله والثاني أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصح بحال لما شبه الراجع بالكلب العائد في القيء لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صح وجوده وهذا يدل أيضا على صحة الرجوع في الهبة مع استقباح هذا الفعل وكراهته وقد روي الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عن علي وعمر وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم عليهم
وقد روي عن جماعة من السلف أن ذلك في رد السلام منهم جابر بن عبدالله وقال الحسن السلام تطوع ورده فريضة وذكر الآية
ثم اختلف في أنه خاص في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل الكفر فقال عطاء هو في اهل الإسلام خاصة وقال ابن عباس وإبراهيم وقتادة هو عام في الفريقين وقال الحسن تقول للكافر وعليكم ولا تقل ورحمة الله لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال لا تبدؤا اليهود بالسلام فإن بدؤكم فقولوا وعليكم وقال أصحابنا
رد السلام فرض على الكفاية إذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ
وأما قوله تعالى بأحسن منها إذا أريد رد السلام فهو الزيادة في الدعاء وذلك إذا قال السلام عليكم يقول هو وعليكم السلام ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله قال هو وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
قوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا روي عن ابن عباس أنها نزلت في

قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين وروي مثله عن قتادة وقال الحسن ومجاهد نزلت في قوم قدموا بالمدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك وقال زيد بن ثابت نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يوم أحد وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم وفي نسق الآية دلالة على خلاف
هذا التأويل الأخير وأنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله وقوله تعالى أركسهم قال ابن عباس ردهم وقال قتادة أركسهم أهلكهم وقال غيرهم أركسهم نكسهم قال الكسائي أركسهم وركسهم بمعنى وإنما المعنى ردهم في حكم الكفار من الصغار والذلة وقيل من السبي والقتل لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه قبل من إضمار الكفر قاله الحسن وقال النحويون هذا يحسن مع علم التعريف وهو الألف واللام كما تقول هذه العجوز هي الشابة يعني هي التي كانت شابة ولا يجوز هذه شابة فأبان تعالى للمسلمين بهذه الآية عن أحوال هذه الطائفة من المنافقين إنهم يظهرون لكم الإسلام وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر والردة ونهى المسلمين عن أن يحسنوا بهم الظن وأن يجادلوا عنهم
قوله تعالى ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء يعني هذه الطائفة أخبر بذلك عن ضمائرهم واعتقاداتهم لئلا يحسن المؤمنون بهم الظن وليعتقدوا معاداتهم والبراءة منهم
وقوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله يعني والله أعلم حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة بعد الإسلام وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة وهو كقوله تعالى ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضا وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم اقام مع مشرك قيل ولم يا رسول الله قال لا تراءى نارهما فكانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة
حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يوم فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استننفرتم فانفروا
حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن الفضل قال حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء

ابن يزيد عن أبي سعيد الخدري أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم -

عن الهجرة فقال ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل قال نعم قال فاعمل
من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا فأباح النبي صلى الله عليه وسلم - ترك الهجرة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال حدثنا عامر قال أتى رجل عبدالله بن عمرو فقال أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال سمعت رسول الله ص
- يقول المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما
وقوله تعالى فخذوهم واقتلوهم فإنه روي عن ابن عباس فإن تولوا عن الهجرة
قال أبو بكر يعني والله أعلم فإن تولوا عن الإيمان والهجرة لأن قوله تعالى حتى يهاجروا في سبيل الله قد انتظم الإيمان والهجرة جميعا وقوله فإن تولوا راجع إليها ولأن من أسلم حينئذ ولم يهاجر لم يجب قتله في ذلك الوقت فدل على أن المراد فإن تولوا عن الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم
وقوله تعالى إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق قال أبو عبيد يصلون بمعنى ينتسبون إليهم كما قال الأعشى ... إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم ...
وقال زيد الخيل ... اتصلت تنادي يال قيس ... وخصت بالدعاء بني كلاب ...
قال أبو بكر الانتساب يكون بالرحم ويكون بالحلف وبالولاء وجائز أن يدخل فيه أيضا رجل في عهدهم علىحسب ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وبين قريش من الموادعة فدخلت خزاعة في عهد رسول الله ص
- ودخلت بنو كنانة في عهد قريش وقيل إن الآية منسوخة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلى قوله تعالى فما جعل الله لكم عليهم سبيلا وفي قوله تعالى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم قال ثم نسخت هذه الآيات براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين إلى قوله ونفضل الآيات لقوم يعلمون

وقال السدي في قوله إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلا الذين يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لهم وقال الحسن هؤلاء بنو مدلج كان بينهم وبين قريش عهد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبين قريش عهد فحرم الله تعالى من بني مدلج ما حرم من قريش قال أبو بكر إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد مالم يشرط ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش وأما قول من قال إن ذلك منسوخ فإنما أراد أن معاهدة المشركين وموادعتهم منسوخة بقوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم فهو كما قال لأن الله أعز الإسلام وأهله فأمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فهذا حكم ثابت في مشركي العرب فنسخ به الهدنة والصلح وإقرارهم على الكفر وأمرنا في أهل الكتاب بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فغير جائز للإمام أن يقر أحدا من أهل سائر الأديان على الكفر من غير جزية وأما مشركو العرب فقد كانوا أسلموا في زمن الصحابة ورجع من ارتد منهم إلى الإسلام بعد ما قتل من قتل منهم فهذا وجه صحيح في نسخ معاهدة أهل الكفر على غير جزية والدخول في الذمة على أن تجري عليهم أحكامنا فكان ذلك حكما ثابتا بعد ما أعز الله الإسلام وأظهر أهله على سائر المشركين فاستغنوا بذلك عن العهد والصلح إلا أنه إن احتيج إلى ذلك في وقت لعجز المسلمين عن مقاومتهم او خوف منهم على أنفسهم أو ذراريهم جاز لهم مهادنة العدو ومصالحته من غير جزية يؤدونها إليهم لأن حظر المعاهدة والصلح إنما كان بسبب قوتهم على العدو واستعلائهم عليهم وقد كانت الهدنة جائزة مباحة في أول الإسلام وإنما حظرت لحدوث هذا السبب فمتى زال السبب وعاد الأمر إلى الحال التي كان المسلمون عليها من خوفهم العدو على أنفسهم عاد الحكم الذي كان من جواز الهدنة وهذا نظير ما ذكرنا من نسخ

التوارث بالحلف والمعاقدة بذوي الأرحام فمتى لم يترك وارثا عاد التوارث بالمعاقدة
قوله عز و جل أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم قال الحسن والسدي ضاقت صدورهم على أن يقاتلوكم والحصر الضيق ومنه الحصر في القراءة لأنه ضاقت عليه المذاهب فلم يتوجه لقراءته ومنه المحصور في حبس أو نحوه وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال هلال بن عويمر الأسلمي هو الذي حصر صدره أن يقاتل المسلمين أو يقاتل قومه وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم -

حلف
قال أبو بكر ظاهره يدل على أن الذين حصرت صدورهم كانوا قوما مشركين محالفين للنبي ص -
ضاقت صدورهم أن يكونوا مع قومهم على المسلمين لما بينهم وبين النبي ص
- من العهد وأن يقاتلوا مع المسلمين ذوي أرحامهم وأنسابهم فأمر الله تعالى المسلمين بالكف عن هؤلاء إذا اعتزلوهم فلم يقاتلوا المسلمين وإن لم يقاتلوا المشركين مع المسلمين ومن الناس من يقول إن هؤلاء كانوا قوما مسلمين كرهوا قتال قومهم من المشركين لما بينهم وبينهم من الرحم وظاهر الآية وما روي في تفسيرها يدل على خلاف ذلك لأن المسلمين لم يقاتلوا المسلمين قط في زمان النبي صلى الله عليه وسلم -
وإن قعدوا عن القتال معهم ولا كانوا قط مأمورين بقتال أمثالهم
وقوله تعالى ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم يعني إن قاتلتموهم ظالمين لهم يدل على أنهم لم يكونوا مسلمين وقوله تعالى فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا يقتضي أن يكونوا مشركين إذ ليس ذلك من صفات أهل الإسلام فدل ذلك على أن هؤلاء كانوا قوما مشركين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم - حلف فأمر الله تعالى نبيه أن يكف عنهم إذا اعتزلوا قتال المسلمين والمشركين وأن لا يكلفهم قتال قومهم من أهل الشرك أيضا والتسليط المذكور في الآية له وجهان أحدهما تقوية قلوبهم ليقاتلوكم والثاني إباحة القتال لهم في الدفع عن أنفسهم
قوله تعالى ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم قال مجاهد نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم - فيسلمون ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا وذكر أسباط عن السدي قال نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم - والمشركين فقال ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يظهرون

الإيمان إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر لقوله تعالى
كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها والفتنة ههنا الشرك وقوله أركسوا فيها يدل على أنهم قبل ذلك كانوا مظهرين للإسلام فأمر الله تعالى المؤمنين بالكف عن هؤلاء أيضا إذا اعتزلونا وألقوا إلينا السلم وهو الصلح كما أمرنا بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق وعن الذين جاؤنا وقد حصرت صدورهم وكما قال في آية أخرى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وكما قال وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا ثم نسخ ذلك بقوله اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم على ما قدمنا من الرواية عن ابن عباس ومن الناس من يقول إن هذه الآيات غير منسوخة وجائز للمسلمين ترك قتال من لا يقاتلهم من الكفار إذ لم يثبت أن حكم هذه الآيات في النهي عن قتال من اعتزلنا وكف عن قتالنا منسوخ وممن حكي عنه أن فرض الجهاد غير ثابت ابن شبرمة وسفيان الثوري وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآيات فيها حظر قتال من كف عن قتالنا من الكفار ولا نعلم أحدا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الإتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا والله الموفق للصواب
باب
قتل الخطأ
قال الله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ قال أبو بكر قد اختلف في معنى كان ههنا فقال قتادة معناه ما كان له ذلك في حكم الله وأمره وقال آخرون ما كان له سبب جواز قتله وقال آخرون ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن واختلف أيضا في معنى إلا فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن قد يقتله فإذا وقع ذلك فحكمه كيت وكيت وهو كما قال النابغة ... وقفت فيها أصيلا لا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد ... إلا الأواري لأياما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد ...
وقال آخرون هو استثناء صحيح قد أفاد أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال وهو أن يرى عليه سيما المشركين أو يجده في حيزهم فيظنه مشركا فجائز له قتله وهو خطأ كما

روي عن الزهري عن عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم أحد فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو وكروا عليه بأسيافهم فطفق حذيفة يقول إنه أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال عند ذلك يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم - فزادت حذيفة عنده خيرا
ومن الناس من يقول معناه ولا خطأ لأن قتل المؤمن من غير مباح بحال قتال فغير جائز أن يكون الاستثناء محمولا على حقيقته وهذا ليس بشيء من وجهين أحدهما أن إلا لم توجد بمعنى ولا والثاني ما أنكره من امتناع إباحة قتل الخطأ موجود في حظره لأن الخطأ إن كان لا تصح إباحته لأنه غير معلوم عنده أنه خطأ فكذلك لا يصح حظره ولا النهي عنه
وقال آخرون قد تضمن قوله وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ إيجاب العقاب لقاتله لاقتضاء إطلاق النهي لذلك وأفاد بذلك استحقاق المأثم ثم قال إلا خطأ فإنه لا مأثم على فاعله وإنما أدخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم وأخرج منه قاتل الخطأ والاستثناء مستعمل في موضعه على هذا القول غير معدول به عن وجهه وإنما دخل على المأثم المستحق بالقتل وأخرج قاتل الخطأ منه ولم يدخل على فعل القاتل فيكون مبيحا لما حظره بلفظ الجملة
قال أبو بكر وهذا وجه صحيح سائغ وتأويل من تأوله على إباحة قتل الخطأ فيمن يظنه مشركا فإنه معلوم أنه لم يصح له ذلك إلا على الصفة المشروطة إن كان ذلك إباحة وهو أن يكون ذلك خطأ عند القاتل وإذا كان قتل المسلم الذي في حيز العدو قصد بالقتل لا يكون خطأ عند القاتل وإنما عنده أنه قتل عمد مأمور به فغير جائز أن يكون ذلك مراد الآية لأن الإباحة على قول هذا القائل لم يوجد شرطها وهو أن يكون قتل خطأ عند القاتل ألا يرى أنه إذا قال لا تقتله عمدا اقتضى النهي قتلا بهذه الصفة عند القاتل وإذا قال لا تقتله بالسيف فإنما حظر عليه قتلا بهذه الصفة فكذلك قوله إلا خطأ إذا كان قد اقتضى إباحة قتل الخطأ فواجب أن يكون شرط الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ وذلك محال لا يجوز وقوعه لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطئ فيه والحال التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حظر ولا إباحة
وقال أصحابنا القتل على أنحاء أربعة عمد وخطأ وشبه عمد وما ليس بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح مع العلم بحال المقصود به
والخطأ على ضربين أحدهما أن يقصد رمي

مشرك أو طائر فيصيب مسلما والثاني أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد
وشبه العمد ما تعمد ضربه بغير سلاخ من حجر أو عصا وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره إن شاء الله تعالى
وأما ما ليس بعمد ولا شبه عمد ولا خطأ فهو قتل الساهي والنائم لأن العمد ما قصد إليه بعينه والخطأ أيضا الفعل فيه مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد وقتل الساهي غير مقوصد أصلا فليس هو في حيز الخطأ ولا العمد إلا أن حكمه حكم الخطأ في الدية والكفارة
قال أبو بكر وقد ألحق بحكم القتل في الحقيقة لا عمدا ولا غير عمد وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان هذا ليس بقاتل في الحقيقة إذ ليس له فعل في قتله لأن الفعل منا إما أن يكون مباشرة أو متولدا وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل في العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولدا فلم يكن قاتلا في الحقيقة ولذلك قال أصحابنا إنه لا كفارة عليه وكان القياس أن لا تجب عليه الدية ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ولم يذكر في الآية من عليه الدية من القاتل أو العاقلة وقد وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق الفقهاء عليه منها ما روى الحجاج
عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين
وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه كتب على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتولى مولى رجل بغير إذنه
وروى مجالد عن الشعبي عن جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرىولكل واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
دية المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها وولدها فقال عاقلة المقتولة
ميراثها لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا ميراثها لزوجها وولدها قال وكانت حبلى فألقت جنينا فخاف عاقلة القاتلة أن يضمنهم فقال يا رسول الله لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
هذا سجع الجاهلية فقضى في الجنين غرة عبد أو أمة وروى محمد بن عمر عن أبي
سلمة عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين عبدا أو أمة فقال الذي قضي عليه العقل أنؤدي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل

ذلك بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

إن هذا لقول الشاعر فيه غرة عبد أو أمة
وروى عبدالواحد بن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
جعل في الجنين غرة على عاقلة القاتل وروى الأعمش عن إبراهيم أن رسول الله
ص - جعل العقل على العصبة وعن إبراهيم قال اختصم علي والزبير في ولاء موالي صفية إلى عمر فقضى بالميراث للزبير والعقل على علي رضي الله عنه وروي عن علي وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال وعن عمر في قتيل وجد بين وداعة وحي آخر أنه قضى بالدية على العاقلة فقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه فإن قيل
قال الله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه وقال لأبي رمثة وابنه أنه لا
يجني عليك ولا تجني عليه والعقول أيضا تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره
قيل له أما قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني إنما الدية عندنا على القاتل وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه بل على وجه المواساة وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك وأمر ببر الوالدين وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البين فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم به وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان ومؤجلة ثلاث سنين فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق وقد كان تحمل الديات مشهورا في العرب قبل الإسلام وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق فهذا فعل مستحسن في العقل مقبول في الأخلاق
والعادات وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم - لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه ولا يجني عليك ولا تجني عليه لا ينفي وجوب الدية على العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير أو يطالب بذنب سواه ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة

مستحسنة في العقول أحدها أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بديا بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء والثاني أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة ولذلك أوجبها أصحابنا على أهل ديوانه دون أقربائه لأنهم أهل نصرته ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذب عن الحريم فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا في حملها كما تساووا ي حماية بعضهم بعضا عند القتال والثالث أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك وهو داع إلى الألفة وصلاح ذات البين ألا ترى أن رجلين لو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة وصلاح ذات البين كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه وحماه عنه انسلت سخيمة قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة
والرابع أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل القاتل إذا جنى ايضا فلم يذهب حمله للجناية عنه ضياعا بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه إذا وقعت منه جناية فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة وإنما يؤتى الملحد المتعلق بمثله من ضيق عطنه وقلة معرفته وإعراضه عن النظر والفكر والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب دية الخطأ في ثلاث سنين قال أصحابنا كل دية وجبت من غير صلح فهي في ثلاث سنين وروى أشعث عن الشعبي والحكم عن إبراهيم قالا أول من فرض العطاء عمر بن الخطاب وفرض فيه الدية كاملة في ثلاث سنين وثلثي الدية في سنتين والنصف في سنتين وما دون ذلك في عامه قال أبو بكر استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه أحد من السلف واتفق فقهاء الأمصار عليه فصار إجماعا لا يسع خلافه واختلف فقهاء الأمصار في العاقلة من هم فقال أبو حنيفة وسائر أصحابنا الدية في قتل الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين من يوم يقضى بها والعاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل الديوان يؤخذ ذلك من أعطياتهم حتى يصيب الرجل منهم من الدية كلها ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم فإن أصابه أكثر من ذلك ضم إليهم أقرب القبائل في النسب من أهل الديوان وإن كان القاتل ليس من أهل الديوان فرضت الدية على عاقلته الأقرب فالأقرب في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي فيؤخذ في كل سنة ثلث الدية عند رأس كل حول ويضم إليهم

أقرب القبائل منهم في النسب حتى يصيب الرجل منهم الدية ثلاثة دراهم أو أربعة قال محمد بن الحسن ويعقل عن الحليف حلفاؤه ولا يعقل عنه قوله وقال عثمان البتي ليس أهل الديوان أولى بها من سائر العاقلة وقال ابن القاسم عن مالك الدية على القبائل على الغنى على قدره ومن دونه على قدره حتى يصيب الرجل من مائة درهم ونصف وحكي عنه أن ذلك يؤخذ من أعطياتهم وقال الثوري تجعل الدية ثلثا في العام الذي أصيب فيه الرجل ولكن تكون عند الأعطية على الرجال وقال الحسن بن صالح العقل على رؤس الرجال في أعطية المقاتلة وقال الليث العقل على القاتل وعلى القوم الذين يأخذون معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شيء وإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إلى ذلك أقرب القبائل إليهم وروى المزني في مختصره عن الشافعي أن العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم من بني جده ثم من بني جد أبيه فإن عجزوا عن البعض حمل الموالي المعتقون الباقي فإن عجزوا عن بعض ولهم عواقل عقلتهم عواقلهم فإن لم يكن لهم ذو نسب ولا مولى من أعلى حمل على الموالي من أسفل ويحمل من كثر ماله نصف دينار ومن كان دونه ربع دينار ولا يزاد على هذا ولا ينقص منه قال أبو بكر حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم يدل على سقوط اعتبار الأقرب فالأقرب وإن القريب والبعيد من الجاني سواء في ذلك وروي عن عمر أنه قال لسلمة بن نعيم حين قتل مسلما وهو يظنه كافرا أن عليك وعلى قومك الدية ولم يفرق بين القريب والبعيد منهم وهذا يدل على تساوي القريب والعبيد ويدل أيضا على التسوية بينهم فيما يلزم كل واحد منهم من غير اعتبار الغني والفقير ويدل على أن القاتل يدخل في العقل مع العاقلة لأنه قال عليك وعلى قومك الدية وكان أهل الجاهلية يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر فيه كذلك ثم جعل عمر الدواوين فجمع بها الناس وجعل أهل كل راية وجند يدا واحدة وجعل عليهم قتال من يليهم من الأعداء فصاروا يتناصرون بالرايات والدواوين وعليها يتعاقلون وإذا لم يكن من أهل الديوان فعلى ا لقبائل لأن التناصر في هذه الحال بالقبائل فالمعنى الذي تعاقلوا به في الجاهلية والإسلام معنى واحد وهو النصر فإذا كانت في الجاهلية النصرة بالروايات والدواوين تعاقلون بها لأنهم في هذه الحال أخص بالنصرة من القبيلة فإذا فقدت الرايات تناصروا

بالقبائل وبها يتعاقلون أيضا
والدليل على أن العقل تابع للنصرة أن النساء لا يدخلن في العقل لعدم النصرة فيهن فدل ذلك على صحة اعتبار النصرة في العقل وأما العقل بالحلف فإن سعد بن إبراهيم روى عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا
شدة فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم - حلف الجاهلية وقد كان الحلف عندهم كالقرابة في النصرة والعقل ثم أكده الإسلام وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم وقد كانت ظهرت خيل للنبي ص
- على رجل من المشركين فربطه إلى سارية من سواري المسجد فقال علام أحبس فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
بجريرة حلفائك فإن قيل فقد نفى النبي ص
- حلف الإسلام بقوله لا حلف في الإسلام
قيل له معناه نفي التوارث به مع ذوي الأرحام لأنهم كانوا يورثون الحليف دون ذوي الأرحام فأما حكم الحلف في العقل والنصرة فباق ثابت وكذلك الولاء ثابت يعقل به لم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخبار المتقدمة وإنما ألزم أصحابنا كل واحد ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم لاتفاق الجميع على لزومه هذا القدر وما زاد مختلف فيه لم تقم الدلالة عليه فلم يلزمه ويدخل القاتل معهم في العقل وهو قول أصحابنا ومالك وابن شبرمة والليث والشافعي وقال الحسن بن صالح والأوزاعي لا يدخل فيه وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبدالعزيز أنه يعقل معهم وما روي عن أحد من السلف خلافه ومن جهة النظر أن الدية إنما تلزم القاتل والعاقلة تعقل عنه على جهة المواساة والنصرة فواجب أن لا يلزم العاقلة إلا المتيقن وقد اتفقوا على أن ما عدا حصة الواحد منهم لازم العاقلة واختلفوا في المقدار الذي هو نصيب أحدهم هل تحمله العاقلة فواجب أن لا يكون لازما لعدم الدلالة على لزومه العاقلة ومن جهة أخرى أن العاقلة إنما تعقل عنه فعقله عن نفسه أولى فينبغي أن يدخل معهم وأيضا لو كان غيره هو الجاني لدخل مع سائر العاقلة للتخفيف عنهم فإذا كان هو الجاني فهو أولى بالدخول معهم للتخفيف عنهم لأنهم متساوون في التناصر والمواساة قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والأوزاعي والشافعي يجزي في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما وهو قول عطاء وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم والشعبي لا يجزي إلا من صام وصلى ولم يختلفوا في جوازه في رقبة

الظهار ويدل على صحة القول الأول قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة وهذه رقبة مؤمنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم -

كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه فأثبت له حكم ا لفطرة
عند الولادة فوجب جوازه بإطلاق اللفظ ويدل عليه أن قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ منتظم للصبي كما يتناول الكبير فوجب أن يتناوله عموم قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ولم يشرط الله عليها الصيام والصلاة فلا تجوز الزيادة فيه لأن الزيادة في النص توجب النسخ ولو أن عبدا أسلم فأعتقه مولاه عن كفارته قبل حضور وقت الصلاة والصيام كان مجزيا عن الكفارة لحصول اسم الإيمان فكذلك الصبي إذا كان داخلا في إطلاق اسم الإيمان فإن قيل العبد المعتق بعد إسلامه لا يجزي إلا أن يكون قد صام وصلى قيل له لا يختلف المسلمون في إطلاق اسم الإيمان على العبد الذي أسلم قبل حضور وقت الصلاة أو الصوم فمن أين شرطت مع الإيمان فعل الصلاة والصوم والله سبحانه لم يشرطهما ولم زدت في الآية ما ليس فيها وحظرت ما أباحته من غير نص يوجب ذلك وفيه إيجاب نسخ القرآن وأيضا لما كان حكم الصبي حكم الرجل في باب التوارث والصلاة عليه ووجوب الدية على قاتله وجب أن يكون حكمه حكمه في جوازه عن الكفارة إذ كانت رقبة تامة لها حكم الإيمان فإن قيل قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة يقتضي حقيقة رقبة بالغة معتقدة للإيمان لا من لها حكم الإيمان من غير اعتقاد ولا خلاف مع ذلك أيضا أن الرقبة التي هذه صفتها مرادة بالآية فلا يدخل فيها من لا تلحقه هذه السمة إلا على وجه المجاز وهو العقل الذي لا اعتقاد له قيل له لا خلاف بين السلف أن غير البالغ جائز في كفارة الخطأ إذا كان قد صام وصلى ولم يشرط أحد وجود الإيمان منه حقيقة ألا ترى أن من له سبع سنين مأمور بالصلاة على وجه التعليم وليس له اعتقاد صحيح للإيمان فثبت بذلك سقوط اعتبار وجود حقيقة الإيمان الرقبة ولما ثبت ذلك باتفاق السلف علمنا أن الاعتبار فيه بمن لحقته سمة الإيمان على أي وجه سمي والصبي بهذه الصفة إذا كان أحد أبويه مسلما فوجب جوازه عن الكفارة
قوله تعالى إلا أن يصدقوا قال أبو بكر يعني والله أعلم إلا أن يبرئ أولياء القتيل من الدية فسمى الإبراء منها صدقة وفيه دليل على أن من كان له على آخر دين فقال قد تصدقت به عليك أن ذلك براءة صحيحة وأنه لا يحتاج في صحة هذه البراءة إلى

قبول المبرأ منه ولذلك

قال
أصحابنا إن البراءة واقعة ما لم يردها المبرأ منه وقال زفر لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة وكذلك الصدقة وجعل بمنزلة هبة الأعيان وظاهر الآية يدل على صحة قول أصحابنا لأنه لم يشرط القبول ولأن الدين حق فيصح إسقاطه كالعفو عن دم العمد والعتق ولا يحتاج إلى قبول وقال أصحابنا إذا رد المبرأ منه البراءة من الدين عاد الدين وقال غيرهم لا يعود وجعلوه كالعتق والعفو عن دم العمد والدليل على صحة قولنا أن البراءة من الدين يلحقها الفسخ ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب برئ فإن هلك الثوب قبل القبض بطلت البراءة وعاد الدين والعتق والعفو عن الدم لا ينفسخان بحال ويدل أيضا على وقوع البراءة من الدين بلفظ التمليك أن الصدقة من ألفاظ التملك وقد حكم بصحة البراءة بها وأنه ليس بمنزلة الأعيان إذا ملكها غيره بلفظ الإبراء فلا يملك مثل أن يقول قد أبرأتك من هذا العبد فلا يملكه وإن قبل البراءة وإذا قال قد تصدقت بمالي عليك من الدين أو قد وهبت لك ما لي عليك صحت البراءة ويدل على ذلك أن من له على غيره دين وهو غني فقال قد تصدقت به عليك برئ منه لأن الله تعالى لم يفرق بين الغني والفقير في ذلك ويدل على أن الأهل يعبر به عن الأولياء والورثة لأن قوله فدية مسلمة إلى أهله معناه إلى ورثته وقال محمد بن الحسن فيمن أوصى لأهل فلان أن القياس أن يكون لزوجاته إلا أني قد تركت القياس وجعلته لكل من كان في عياله قال أبو بكر الأهل اسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله وعلى أتباع الرجل وأشياعه قال الله تعالى إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك فكان ذلك على جميع أهل منزله من أولاده وغيرهم وقال فأنجيناه وأهله أجمعين ويقع على من اتبعه في دينه كقوله ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له ونجيناه وأهله من الكرب العظيم فسمى أتباعه في دينه أهله وقال في ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فاسم الأهل يقع على معان مختلفة وقد يطلق اسم الأهل ويراد به الآل وهو قراباته من قبل الأب كما يقال آل النبي وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم - وهما سواء
باب شبه العمد
قال أبو بكر أصل أبي حنيفة في ذلك أن العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه

مثل الذبح بليطة قصبة أو شقة العصا أو بكل شيء له حد يعمل عمل السلاح أو بحرقه بالنار فهذا كله عنده عمد محض فيه القصاص ولا نعلم في هذه الجملة خلافا بين الفقهاء وقال أبو حنيفة ما سوى ذلك من القتل بالعصا والحجر صغيرا كان أو كبيرا فهو شبه العمد وكذلك التغريق في الماء وفيه الدية مغلظة على العاقلة وعليه الكفارة ولا يكون التغليظ عنده إلا في أسنان الإبل خاصة دون عددها وليس فيما دون النفس شبه عمد بل بأي شيء ضربه فعليه القصاص إذا أمكن وإن لم يكن فعليه أرشه مغلظا إذا كان من الإبل يسقط ما يجب وأصل أبي يوسف ومحمد أن شبه العمد مالا يقتل مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط ولو كرر ذلك حتىصار جملته مما يقتل كان عمدا وفيه القصاص بالسيف وكذلك إذا غرقه بحيث لا يمكنه الخلاف منه وهو قول عثمان البتي إلا أنه يجعل دية شبه العمد في ماله قال ابن شبرمة وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله يبدأ بماله فيؤخذ حتى لا يترك له شيء فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على عاقلته وقال ابن وهب عن مالك إذا ضربه بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدا فهو عمد وفيه القصاص ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما ثم ينصرف عنه وهو حي ثم يموت فتكون فيه القسامة وقال ابن القاسم عن مالك شبه العمد باطل إنما هو عمد أو خطأ وقال الأشجعي عن الثوري شبه العمد أن يضربه بعصا أو بحجر أو بيده فيموت ففيه الدية مغلظة ولا قود فيه والعمد ما كان بسلاح وفيه القود والنفس يكون فيها العمد وشبه العمد والخطأ الجراحة لا يكون فيها إلا خطأ أو عمد وروى الفضل بن دكين عن الثوري قال إذا حدد عودا أو عظما فجرح به بطن حرا فهذا شبه عمد ليس فيه قود قال أبو بكر هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه وقال الأوزاعي في شبه العمد الدية في ماله فإن لم يكن تماما فعلى العاقلة وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت فإن ثنى بالعصا فمات مكانه فهو عمد يقتل به والخطأ على العاقلة وقال الحسن بن صالح إذا ضربه بعصا ثم على فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص وإن على الثانية فلم يمت منها ثم مات بعدها فهو شبه عمد لا قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة والخطأ على العاقلة وقال الليث العمد ما تعمده إنسان فإن ضربه بأصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولي المقتول والخطأ فيه على العاقلة وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى شبه العمد وإنما يكون

خطأ أو عمدا وقال المزني في مختصره عن الشافعي إذا عمد رجل بسيف أو حجر أو سنان رمح أو ما يشق بحده فضرب به أو رمى به الجلد أو اللحم فجرحه جرحا كبيرا أو صغيرا فمات فعليه القود وإن شدخه بحجر أو تابع عليه الخنق ووالى بالسوط عليه حتى مات أو طبق عليه مطبقا بغير طعام ولا شراب أو ضربه بسوط في شدة حر أو برد مما الأغلب أنه يموت منه فمات فعليه القود وإن ضربه بعمود أو بحجر لا يشدخ أو بحد سيف ولم يجرح أو ألقاه في بحر قريب البر وهو يحسن العوم أو ما الأغلب أنه لا يموت مثله فمات فلا قود فيه وفيه الدية مغلظة على العاقلة
والدليل على ثبوت شبه العمد ما روى هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة بن جوشن عن عقبة بن أوس السدوسي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه ص
- خطب يوم فتح مكة فقال في خطبته ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها
وروى إبراهيم عن عبيد بن نضلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط فقتلتها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بالدية على عصبة القاتلة وقضى فيما في بطنها بالغرة
وروى يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقضى أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها ففي أحد
هذين الحديثين أنها ضربتها بعمود فسطاط وفي الآخر أنها ضربتها بحجر
وقد روى أبو عاصم عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب نشد الناس قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في الجنين فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال إنني كنت بين امرأتين لي وأن
إحداهما ضربت الأخرىبمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغرة وأن تقتل مكانها
وروى الحجاج بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر بمثله فذكر أبو عاصم والحجاج عن ابن جريج أنه أمر بقتل المرأة
وروى هذا الحديث هشام بن سليمان المخزومي عن ابن جريج عن ابن دينار وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار بإسناده ولم يذكرا فيه أنه أمر أن تقتل وذكر أبو عاصم والحجاج أنه أمر أن تقتل المرأة فاضطرب حديث ابن عباس في هذه القصة

وروى سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن حمل بن مالك قال كانت له امرأتان فرجمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب قلبها وهي حامل فألقت جنينا فماتت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقضى رسول الله ص
- بالدية على عاقلة القاتلة وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة فكان حديث حمل بن مالك في إيجاب القود على المرأة مختلفا متضادا وروي في بعض أخبار ابن عباس في هذه القصة بعينها القصاص ولم يذكره في بعضها قال حمل بن مالك وهو صاحب القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أوجب الدية على عاقلة القاتلة فتضادت الأخبار في قصة حمل بن مالك وسقطت
وبقي حديث المغيرة بن شعبة وأبي هريرة في نفي القصاص من غير معارض
وقد روى أبو معاوية عن حجاج عن قتادة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قتيل السوط والعصا شبه العمد
وإثبات شبه العمد ضربا من القتل دون الخطأ فيه اتفاق السلف عندنا لا خلاف بينهم فيه وإنما الاختلاف بينهم في كيفية شبه العمد فأما أن يقول مالك لا أعرف إلا خطأ أو عمدا فإن هذا قول خارج عن أقاويل السلف كلهم وروى شريك عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل وليس فيهما قود وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم وهي العصا ثم يقول لا قود علي لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا أقدته فكان هذا عنده من العمد لأن مثله يقتل في الغالب عل ما قال أبو يوسف ومحمد ومما يبين إجماع الصحابة على شبه العمد وأنه قسم ثالث ليس بعمد محض ولا خطأ محض اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أسنان الإبل في الخطأ ثم اختلافهم في أسنان شبه العمد وأنها أغلظ من الخطأ منهم علي وعمر وعبدالله بن مسعود وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وأبو موسى والمغيرة بن شعبة كل هؤلاء أثبت أسنان الإبل في شبه العمد أغلظ منها في الخطأ على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى فثبت بذلك شبه العمد
ولما ثبت شبه العمد بما قدمنا من الآثار واتفاق السلف بعد اختلاف منهم في كيفيته احتجنا أن نعتبر شبه العمد فوجدنا عليا قال شبه العمد بالعصا والحجر العظيم ومعلوم أن شبه العمد اسم شرعي لا سبيل إلى إثباته إلا من جهة التوقيف إذ ليس في اللغة هذا الاسم لضرب من القتل فعلمنا أن عليا لم يسم القتل بالحجر العظيم شبه العمد إلا توقيفا ولم يذكر الحجر العظيم إلا والصغير والكبير متساويان عنده في سقوط القود به ويدل عليه ما حدثنا عبدالباقي

ابن قانع قال حدثنا المعمري قال حدثنا عبدالرحمن بن عبدالله الرقي قال حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي وخالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها فقد حوى هذا الخبر معاني منها إثباته قتيل خطأ العمد قسما غالب العمد وغير الخطأ وهو شبه العمد ومنها إيجابه الدية في قتيل السوط والعصا من غير فرق بين ما يقتل مثله وبين مالا يقتل مثله وبين من يوالي الضرب حتى يقتله وبين من يقتل بضربة واحدة ومنها أنه جمع بين السوط والعصا والسوط لا يقتل مثله في الغالب والعصا يقتل مثلها في الأكثر فدل على وجوب التسوية بين ما يقتل وبين مالا يقتل
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عقبة بن مكرم قال حدثنا يونس بن بكير قال حدثنا قيس بن الربيع عن أبي حصين عن إبراهيم بن بنت النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن محمد العسكري قال حدثنا محمد بن المثنيى قال حدثنا يوسف بن يعقوب الضبعي قال حدثنا سفيان الثوري وشعبة عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطأ أرش وأيضا لما اتفقوا على أنه لو جرحه بسكين صغيرة لم يختلف حكمها وحكم الكبيرة في وجوب القصاص فوجب أن لا يختلف حكم الصغير والكبير من الحجر والخشب في سقوطه وهذا يدل على أن الحكم في إيجاب القصاص متعلق بالآلة وهي أن تكون سلاحا أو يعمل عمل السلاح فإن قيل على ما روينا من قوله ص -

قتيل خطأ العمد إن العمد لا يكون خطأ ولا الخطأ عمدا وهذا يدل على فساد
الحديث
قيل ليس كذلك لأنه سماه خطأ في الحكم عمد في الفعل وذلك معنى صحيح لأنه دل به على التغليظ من حيث هو عمد وعلى سقوط القود من حيث هو في حكم الخطأ
فإن قيل قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله النفس بالنفس وسائر الآي التي فيها إيجاب القصاص يوجبه على القاتل بالحجر العظيم
قيل له لا خلاف أن هذه الآي إنما أوجبت القصاص في العمد وهذا ليس بعمد ومع ذلك فإن الآي وردت في إيجاب القصاص في الأصل والآثار التي

ذكرنا واردة فيما يجب فيه القصاص فكل واحد منهما مستعمل فيما ورد فيه لا يعترض بأحدهما على الآخر وأيضا قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وسمى النبي صلى الله عليه وسلم - شبه العمد قتيل الخطأ فلما أطلق عليه اسم الخطأ وجب أن تكون فيه الدية فإن احتجوا بحديث ابن عباس في قصة المرأتين قتلت إحداهما الأخرى بمسطح فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم - عليها القصاص قيل له قد بينا اضطراب الحديث وما عارضه من رواية حمل بن مالك في إيجاب الدية دون القود ولو ثبت القود أيضا فإن ذلك إنما كان في شيء بعينه ليس بعموم في جميع من قتل بمسطح وجائز أن يكون كان فيه حديد وأصابها الحديد دون الخشب فمن أوجب النبي صلى الله عليه وسلم -

فيه القود فإن احتجوا بما روي أن يهوديا رضخ رأس جارية بالحجارة فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم - بأن يرضح رأسه قيل له جائز أن يكون كان لها مروة وهي التي لها حد يعمل عمل السكين فلذلك أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - قتله وأيضا روى عبدالرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن يهوديا قتل جارية من الأنصار على حلي لها وألقاها في نهر ورضخ رأسها بالحجارة فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم - فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات ولا خلاف أن الرجم لا يجب على وجه القود وجائز أن يكون اليهودي مستأمنا فقتل الجارية ولحق بأرضه فأخذ وهو حربي لقرب منازلهم من المدينة فقتله على أنه محارب حربي ورجمه كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا الإبل وقتلوا الراعي وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ماتوا ثم نسخ القتل على وجه المثلة
فصل وأما ما دون النفس فإنه ليس فيه شبه العمد من جهة الآلة ويجب فيه القصاص بحجر شجه أو بحديد وفيه شبه العمد من جهة التغليظ إذا تعذر فيه القصاص وإنما لم يثبت فيما دون النفس بشبه العمد لأن الله تعالى قال والجروح قصاص وقال والسن بالسن ولم يفرق بين وقوعها بحديد أو غيره والأثر إنما ورد في إثبات خطأ معمد في القتل وذلك اسم شرعي لا يجوز إثباته إلا من طريق التوقيف ولم يرد فيما دون النفس توقيف في شبه العمد وأثبتوا فيه التغليظ إذا لم يمكن فيه القصاص لأنه بمنزلة شبه العمد حين كان عمدا في الفعل وقد روي عن عمر نضر الله وجهه أنه قضى قتادة المدلجي حين حذف ابنه بالسيف فقتله بمائة من الإبل مغلظة حين كان عمدا سقط فيه القصاص

كذلك فيما دون النفس إذا كان عمدا قد سقط فيه القصاص إيجاب قسطه من الدية مغلظا ومع ذلك فلا نعلم خلافا بين الفقهاء في إيجاب القصاص في الجراحات التي يمكن القصاص فيها بأي شيء جرح قال أبو بكر قد ذكرنا الخطأ وشبه العمد في سورة البقرة والله أعلم
باب

مبلغ الدية من الإبل
قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
بمقدار الدية وأنها مائة من الإبل فمنها حديث سهل بن أبي حثمة في القتيل
الموجود بخيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم - وداه بمائة من الإبل وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمكة فقال ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون خلفة في بطونها أولادها وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي النفس مائة من الإبل وروى عمرو بن دينار عن طاوس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - دية الخطأ ماله من الإبل وذكر علي بن موسى القمي قال حدثنا يعقوب بن شيبة قال حدثنا قيس بن حفص قال حدثنا الفضل بن سليمان النميري قال حدثنا غالب بن ربيعة بن قيس النميري قال أخبرني قرة بن دعموص النميري قال أتيت أنا وعمي النبي صلى الله عليه وسلم - فقلت يا رسول الله إن لي عند هذا دية أبي فمره أن يعطينيها قال أعطه دية أبيه وكان قتل في الجاهلية قلت يا رسول الله هل لأمي فيها حق قال نعم وكان ديته مائة من الإبل فقد حوى هذا الخبر أحكاما منها أن المسلم والكافر في الدية سواء لأنه أخبر أنه قتل في الجاهلية ومنها أن المرأة ترث من دية زوجها ومنها أن الدية مائة من الإبل ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في ذلك والله أعلم
باب
أسنان الإبل في دية الخطأ
قال أبو بكر اختلف السلف في ذلك
فروى علقمة عن الأسود عن عبدالله بن مسعود في دية الخطأ أخماسا وعشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعن عمر بن الخطاب أخماسا أيضا وروى عاصم بن ضمرة وإبراهيم عن علي في دية الخطأ أرباعا خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون أربعة

أسنان مثل أسنان الزكاة وقال عثمان وزيد بن ثابت في الخطأ ثلاثون بنات لبون وثلاثون جذعة وعشرون بنو لبون وعشرون بنات مخاض وروي عنهما مكان الجذاع الحقاق قال أبو بكر واتفق فقهاء الأمصار أصحابنا ومالك والشافعي أن دية الخطأ أخماس إلا أنهم اختلفوا في الأسنان من كل صنف فقال أصحابنا جميعا عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وقال مالك والشافعي عشرون بنات مخاض وعشرون بنو لبون وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن داود بن توبة التمار قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا حجاج بن أرطارة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبدالله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل الدية في الخطأ أخماسا واتفق الفقهاء على استعمال هذا الخبر في الأخماس يدل على صحته ولم يبين فيه كيفية الأسنان فروى منصور عن إبراهيم عن ابن مسعود في دية الخطأ أخماسا وذكر الأسنان مثل قول أصحابنا فهذا يدل على أن الأخماس التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم - كانت على هذا الوجه لأنه غير جائز أن يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم -

شيئا ثم يخالفه إلى غيره
فإن قيل خشف بن مالك مجهول
قيل له استعمال الفقهاء الخبرة في إثبات الأخماس يدل على صحته واستقامته وأيضا فإن قول من جعل في الخطأ مكان بنو لبون بني مخاض أولى لأن بني لبون بمنزلة بنات مخاض لقوله ص - فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون فيصير بمنزلة من أوجب أربعين بنات مخاض إذا أوجب عشرين بني لبون وعشرين بنات مخاض وأيضا فإن بني لبون فوق بني مخاض ولا يجوز إثبات زيادة ما بين بني لبون وبنات مخاض إلا بتوقيف وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم - الدية مائة من الإبل يقتضي جواز ما يقع عليه الاسم فلا تثبت الزيادة إلا بدلالة ومذهب أصحابنا أقل ما قيل فيه فهو ثابت وما زاد فلم تقم عليه دلالة فلا يثبت وأيضا قد ثبت مثل قول أصحابنا عن عبدالله بن مسعود في كيفية الأسنان ولم يرو عن أحد من الصحابة ممن قال بالأخماس خلافه وقول مالك والشافعي لا يروى عن أحد من الصحابة وإنما يروى عن سليمان بن يسار فكان قول أصحابنا أولى لاتفاق الجميع من فقهاء الأمصار على إثبات الأخماس وثبوت كيفيتها على الوجه الذي يذهب إليه أصحابنا عن عبدالله بن مسعود
فإن قيل إيجاب

بني لبون أولى من بني مخاض لأنها تؤخذ في الزكاة ولا تؤخذ بنو مخاض
قيل له ابن اللبون يؤخذ في الزكاة على وجه البدل وكذلك ابن مخاض يؤخذ عندنا على وجه البدل فلا فرق بينهما وأيضا فإن الديات غير معتبرة بالزكاة ألا ترى أنه يجب عند المخالف أربعون خلفة في شبه العمد ولا يجب مثلها في الزكاة والله أعلم
باب

أسنان الإبل في شبه العمد
روي عن عبدالله بن مسعود في شبه العمد أرباعا خمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهي مثل أسنان الإبل في الزكاة
وروي عن علي وأبي موسى والمغيرة بن شعبة في شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنيةإلى بازل عامها كلها خلفة وعن عثمان وزيد بن ثابت ثلاثون بنات لبون وثلاثون حقة وأربعون جذعة خلفة
وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي في شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف دية شبه العمد أرباع على ما روي عن عبدالله بن مسعود وقال محمد دية شبه العمد أثلاث ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة والخلفة هي الحوامل وهو قول سفيان الثوري وروي مثله عن عمر وزيد بن ثابت ومن قدمنا ذكره من السلف
وروى ابن القاسم بن مالك أن الدية المغلظة في الرجل يحذف ابنه بالسيف فيقتله فتكون عليه الدية مغلظة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهي حالة قال والجد إذا قتل ولد ولده على هذا الوجه مثل الأب فإن قطع يد الولد وعاش ففيه نصف الدية مغلظة وقال مالك تغلظ على أهل الورق والذهب أيضا وهو أن ينظر إلى قيمة الثلاثين من الحقة والثلاثين من الجذعة والأربعين من الخلفة فيعرف كم قيمتهن ثم ينظر إلى دية الخطأ أخماسا من سنان عشرين بنت مخاض وعشرين ابن لبون وعشرين بنات لبون وعشرين حقة وعشرين جذعة ثم ينظر كم فضل ما بين دية الخطأ والدية المغلظة فيزاد في الرقة على قدر ذلك قال وهو على قدر الزيادة والنقصان في سائر الأزمان وإن صارت دية التغليظ ضعفي دية الخطأ زيد عليه من الورق بقدر ذلك وقال الثوري في دية شبه العمد من

الورق يزاد عليها بقدر ما بين دية الخطأ إلى دية شبه العمد في أسنان الإبل نحو ما قال مالك وهو قول الحسن بن صالح
قال أبو بكر لما ثبت أن دية الخطأ أخماس بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم - وبما قدمنا من الحجاج ثم اختلفوا في شبه العمد فجعله بعضهم أرباعا وبعضهم أثلاثا كان قول من قال بالأرباع أولى لأن في الأثلاث زيادة تغليظ لم تقم عليها دلالة وقول النبي صلى الله عليه وسلم - الدية مائة من الإبل يوجب جواز الكل والتغليظ بالأرباع متفق عليه والزيادة عليها غير ثابتة فظاهر الخبر ينفيها فلم نثبتها وأيضا فإن في إثبات الخلفات وهي الحوامل إثبات زيادة عدد فلا يجوز لأنها تصير أكثر من مائة لأجل الأولاد
فإن قيل في حديث القاسم بن ربيعة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في قتيل خطأ العمد مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها وقد
احتججتم به في إثبات شبه العمد فهلا أثبتم الأسنان
قيل له أثبتنا به شبه العمد لاستعمال الصحابة إياه في إثبات شبه العمد ولو كان ذلك ثابتا لكان مشهورا ولو كان كذلك لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في إثبات شبه العمد وليس يمتنع أن يشتمل خبر على معان فيثبت بعضها ولا يثبت بعض إما لأنه غير ثابت في الأصل أو لأنه منسوخ وأما التغليظ في الورق والذهب فإنه لا يخلو أصل الدية من أن يكون واجبا من الإبل وأن الورق والذهب مأخوذان عنها على أنهما قيمة لها أو أن تكون الدية في الأصل واجبة في أحد الأصناف الثلاثة من الدراهم والدنانير والإبل لا على أن بعضها بدل من بعض فإن كانت الإبل هي الدية وإنما تؤخذ الدراهم والدنانير بدلا منها فلا اعتبار بما ذكره مالك من إيجاب فضل ما بين دية الخطأ إلى الدية المغلظة وإنما الواجب أن يقال أن عليه قيمة الإبل على أسنان التغليظ وكذلك دية الخطأ ينبغي أن تعتبر فيها قيمة الإبل على أسنان الخطأ وأن لا تعتبر الدراهم والدنانير في الديات مقدرا محدودا فلا يقال أن الدية من الدراهم عشرة آلاف ولا اثنا عشر ألفا ولا من الذهب ألف دينار بل ينظر في سائر الأزمان إلى قيمة الإبل فإن كانت ستى آلاف أوجب ذلك من الدراهم بغير زيادة خمسة عشر ألفا أوجب ذلك وكذلك قيمتها من الدنانير فلما قال السلف في الدية أحد قولين إما عشرة آلاف وإما اثنا عشر الفا وقالوا أنها من الدنانير ألف دينار حصل الاتفاق من الجميع على أن الزيادة على هذه المقادير والنقصان منها غير سائغ وفي ذلك

دليل على أن الدراهم والدنانير هي ديات بأنفسها لا بدلا من غيرها وإن كان كذلك لم يجز التغليظ فيها من وجهين أحدهما أن إثبات التغليظ طريقه التوقيف أو الاتفاق ولا توقيف في إثبات التغليظ في الدراهم والدنانير ولا اتفاق والثاني أن التغليظ في الإبل إنما هو من جهة الأسنان لا من جهة زيادة العدد وفي إثبات التغليظ من جهة زيادة الوزن في الورق والذهب خروج عن الأصول ووجه آخر يدل على أن الدراهم والدنانير ليست على وجه القيمة عن الإبل وهو أنه معلوم أن القاضي يقضي على العاقلة إذا كانت من أهل الورق بالورق وإذا كانت من أهل الذهب بالدنانير فلو كانت الإبل هي الواجبة والدراهم والدنانير بدل منها لما جاز أن يقضي القاضي فيها بالدراهم والدنانير على أن تؤديها في ثلاث سنين لأنه دين بدين فلما جاز ذلك دل على أنها ديات بأنفسها ليست أبدالا عن غيرها ويدل على أن التغليظ غير جائز في الدراهم والدنانير أن عمر رضي الله عنه جعل الدية من الذهب ألف دينار ومن الورق ما اختلف عنه فيه فروى عنه أهل المدينة اثنا عشر ألفا وروى عنه أهل العراق عشرة آلاف ولم يفرق في ذلك بين دية شبه العمد والخطأ وذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف من أحد منهم عليه فدل على أن اعتبار التغليظ فيها ساقط ويدل عليه أيضا أن الصحابة قد اختلفت في كيفية التغليظ في أسنان الإبل لما كان التغليظ فيها واجبا ولو كان التغليظ في الورق والذهب واجبا لاختلفوا فيه حسب اختلافهم في الإبل فلما لم يذكر عنهم خلاف في ذلك وإنما روي عنهم في الذهب ألف دينار وفي الدراهم عشرة آلاف أو اثنا عشر الفا من غير زيادة ولا نقصان ثبت بإجماعهم على نفي التغليظ في غير الإبل
فإن قيل على ما ذكرنا من الأصول لو كان من الإبل لكان قضاء القاضي عليهم بالدية من الدراهم يوجب أن يكون دينا بدين إن هذا كما يقولون فيمن تزوج امرأة على عبد وسط أنه إن جاء بالقيمة دراهم قبلت منه ولم يكن ذلك بيع دين بدين
قيل له القاضي عندنا لا يقضي عليه بدراهم إذا تزوجها على عبد ولكنه يقول له إن شئت فأعطها عبدا وسطا وإن شئت قيمته دراهم فليس فيما قلنا بيع دين بدين والدية يقضي بها القاضي على العاقلة دراهم ولا يقبل منهم الإبل إذا قضى بذلك وعلى أنه إنما تعتبر قيمة العبد في وقت ما يعطي قيمته دراهم والإبل لا تعتبر قيمتها إذا أراد القضاء بالدراهم سواء نقصت قيمتها أو زادت
واختلف

السلف وفقهاء الأمصار في المقتول في الحرم والشهر الحرام فقال أبو حنيفة ومحمد وزفر وابن أبي ليلى ومالك القتل في الحرم والشهر الحرام كهو في غيره فيما يجب من الدية والقود وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام والحرم هل تغلظ الدية فيه بلغنا أنه إذا قتل في الحرم أو الشهر الحرام زيد العقل ثلثه ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل وذكر المزني عن الشافعي في مختصره وذكر تغليظ الدية في شبه العمد وقال الدية في هذا على العاقلة وكذلك الجراح وكذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذوي الرحم وروي عن عثمان أنه قضى في دية امرأة قتلت بمكة بدية وثلث وروى إبراهيم عن الأسود أن رجلا أصيب عند البيت فسأل عمر عليا فقال له على ديته من بيت المال فلم ير فيه على أكثر من الدية ولم يخالفه عمر وقال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وهو عام في الحل والحرم ولما كانت الكفارة في الحرم كهي في الحل لا فرق بينهما وإن كان ذلك كله حقا لله تعالى وجب أن تكون الدية كذلك إذ الدية حق لآدمي ولا تعلق لها بالحرم ولا بالشهر الحرام لأن حرمة الحرم والشهر الحرام إنما هي حق لله تعالى فلو كان لحرمة الحرم والأشهر تأثير في إلزام الغرم لكان تأثيره في الكفارة التي هي حق لله تعالى أولى ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل ولم يفرق بين الحل والحرم وقد اختلف التابعون في ذلك فروي عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبدالرحمن وخارجة بن زيد وعبيدالله بن عبدالله وسليمان بن يسار الدية في الحرم كهي في غيره وكذلك الشهر الحرام وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبدالله أن من قتل في الحرم زيد على ذلك ديته مثل ثلثها والله أعلم
باب الدية من غير الإبل

قال
أبو حنيفة الدية من الإبل والدراهم والدنانير فمن الدراهم عشرة آلاف درهم ومن الدنانير ألف دينار وأبو حنيفة لا يرى الدية إلا من الإبل والورق والذهب وقال مالك والشافعي من الورق اثنا عشر ألفا ومن الذهب ألف دينار وقال مالك أهل الذهب أهل الشام ومصر وأهل الورق أهل العراق وأهل الإبل أهل البوادي وقال مالك ولا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ومن أهل الذهب إلا الذهب ومن أهل الورق إلا الورق وقال

أبو يوسف ومحمد الدية من الورق عشرة وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الإبل مائة بعير وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الشاء ألفا شاة وعلى أهل الحلل مائتا حلة يمانية ولا يؤخذ من الغنم والبقر في الدية إلا الثني فصاعدا ولا تؤخذ من الحلل إلا اليمانية قيمة كل حلة خمسون درهما فصاعدا وروي عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبيدة السلماني عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل الإبل مائة من الإبل
قال أبو بكر الدية قيمة النفس وقد اتفق الجميع على أن لها مقدارا معلوما لا يزاد عليه ولا ينقص منه وأنها غير موكولة إلى اجتهاد الرأي كقيم المتلفات ومهور المثل ونحوهما وقد اتفق الجميع على إثبات عشرة آلاف واختلفوا فيما زاد فلم يجز إثباته إلا بتوقيف وقد روى هشيم عن يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قوم الإبل في الدية مائة من الإبل قوم كل بعير بمائة وعشرين درهما اثني عشر ألف درهم وقد روي عنه في الدية عشرة آلاف وجائز أن يكون من روى اثني عشر ألفا على أنها وزن ستة فتكون عشرة آلاف وزن سبعة وذكر الحسن في هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق قيمة الإبل لا أنه أصل في الدية وفي غير هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق وروى عكرمة عن أبي هريرة في الدية عشرة آلاف درهم
فإن احتج محتج بما روى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الدية اثنا عشر ألفا وروى ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر قضى في الدية باثني عشر الفا وروى نافع بن جبير عن ابن عباس مثله والشعبي عن الحارث عن علي مثله
قيل له أما حديث عكرمة فإنه يرويه ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يذكر فيه ابن عباس ويقال إن محمد بن مسلم غلط في وصله وعلى أنه لو ثبت جميع ذلك احتمل أن يريد بها اثني عشر الف درهم وزن ستة وإذا احتمل ذلك لم يجز إثبات الزيادة بالاحتمال ويثبت عشرة آلاف بالاتفاق وأيضا قد اتفق الجميع على أنها من الذهب ألف دينار وقد جعل في الشرع كل عشرة دراهم قيمة لدينار ألا ترى أن الزكاة في عشرين مثقالا وفي مائتي درهم فجعلت مائتا الدرهم نصابا بإزاء العشرين دينارا كذلك ينبغي أن يجعل بإزاء كل دينار من الدية عشرة دراهم
وإنما لم يجعل أبو حنيفة الدية من غير الأصناف

الثلاثة من قبل أن الدية لما كانت قيمة النفس كان القياس أن لا تكون إلا من الدراهم والدنانير كقيم سائر المتلفات إلا أنه لما جعل النبي صلى الله عليه وسلم - قيمتها من الإبل اتبع الأثر فيها ولم يوجبها من غيرها والله أعلم
باب ديات أهل الكفر

قال
أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي وسفيان الثوري والحسن بن صالح دية الكافر مثل دية المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي سواء وقال مالك بن أنس دية أهل الكتاب على دية المسلم ودية المجوسي ثمان مائة درهم وديات نسائهم على النصف من ذلك وقال الشافعي دية اليهودي والنصراني ثلث الدية ودية المجوسي ثمان مائة والمرأة على النصف
قال أبو بكر الدليل على مساواتهم المسلمين في الديات قوله عز و جل ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا إلى قوله وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله والدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلا من نفس الحر لأن الديات قد كانت متعالمة معروفة بينهم قبل الإسلام وبعده فرجع الكلام إليها في قوله في قتل المؤمن خطأ ثم لما عطف عليه قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله كانت هذه الدية المذكورة بديا إذ لو لم تكن كذلك لما كانت دية لأن الدية اسم لمقدار معلوم من بدل النفس لا يزيد ولا ينقص وقد كانوا قبل ذلك يعرفون مقادير الديات ولم يكونوا يعرفون الفرق بين دية المسلم والكافر فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم وأن يكون قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله راجعا إليها كما عقل من دية المسلم أنها المعتاد المتعارف عندهم ولولا أن ذلك كذلك لكان اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان وليس الأمر كذلك
فإن قيل فقوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله لا يدل على أنها مثل دية المسلم كما أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ولا يخرجها ذلك من أن تكون دية كاملة لها
قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن الله تعالى إنما ذكر الرجل في الآية فقال ومن قتل مؤمنا خطأ ثم قال وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فكما اقتضى فيما ذكره للمسلم كمال الدية كذلك دية المعاهد لتساويهما في اللفظ مع وجود التعارف عندهم في مقدار الدية والوجه الآخر أن دية المرأة لا يطلق عليها اسم الدية

وإنما يتناولها الاسم مقيدا ألا ترى أنه يقال دية المرأة نصف الدية وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو كمالها
فإن قيل قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يحتمل أن يريد به وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق فاكتفى بذكر الإيمان للقتيلين الأولين عن إعادته في القتيل
الثالث قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أنه قد تقدم في أول الخطاب ذكر القتيل المؤمن خطأ وحكمه وذلك عموم يقتضي سائر المؤمنين إلا ما خصه الدليل فغير جائز إعادة ذكر المؤمن بذلك الحكم في سياق الآية مع شمول أول الآية له ولغيره فعلمنا أنه لم يرد المؤمن ممن كان بيننا وبينهم ميثاق والثاني لما يقيده بذكر الإيمان وجب إجراؤه في الجميع من المؤمنين والكفار من قوم بيننا وبينهم ميثاق وغير جائز تخصيصه بالمؤمنين دون الكافرين بغير دلالة والثالث أن إطلاق القول بأنه من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أن قول القائل إن هذا الرجل من أهل الذمة يفيد أنه ذمي مثلهم وظاهر قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يوجب أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أنه لما أراد بيان حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقيده بذكر الإيمان لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه كافر مثلهم والرابع أنه لو كان كما قال هذا القائل لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه فهذه الوجوه كلها تقتضي المساواة وفساد هذا التأويل
ويدل على صحة قول أصحابنا أيضا ما رواه محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزلت فإن جاؤك فاحكم بينهم الآية قال كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم قال فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينهم في الدية
قال أبو بكر لما قال أدوا الدية ثم قال سوى بينهم في الدية دل ذلك على أنه راجع إلى الدية المعبودة المبدوء بذكرها لأنه لو كان رد بني النضير إلى نصفها لقال سوى بينهم في نصف الدية ولم يقل سوى بينهم الدية ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم -
في النفس مائة من الإبل وهو عام في الكافر والمسلم وروى مقسم عن ابن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم - ودى العامريين وكانا مشركين دية الحرين المسلمين وروى محمد بن عبدوس قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا أبو بكر قال سمعت نافعا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه ودى ذميا دية مسلم وهذان الخبران يوجبان

مساواة الكافر للمسلم في الدية لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم - وداهما بما في الآية في قوله عز و جل وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فدل على أن المراد من الآية دية المسلم وأيضا لما لم يكن مقدار الدية مبينا في الكتاب كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم -

في ذلك واردا مورد الباين وفعله ص
- إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب وروى أبو حنيفة عن الهيثم عن أبي الهيثم أن النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا دية المعاهد دية الحر المسلم وروى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال كان أبو بكر وعمر وعثمان يجعلون دية اليهودي والنصراني إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم وروى سعيد بن أبي أيوب قال حدثني يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبدالله بن الحكم أخبره أن رفاعة بن السموءل اليهودي قتل بالشام فجعل عمر ديته ألف دينار وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن مسعود قال دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين وهو قول علقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والشعبي وروى الزهري عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل كافرا من أهل العقد فقضى عليه عثمان بن عفان بدية المسلم فهذه الأخبار وما ذكرنا من أقاويل السلف مع موافقتها لظاهر الآية توجب مساواة الكافر للمسلم في الديات وقد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمان مائة قال سعيد وقضى عثمان في دية المعاهد بأربعة آلاف
قال أبو بكر وقد روي عنهما خلاف ذلك وقد ذكرناه واحتج المخالف بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة عام الفتح قال في خطبته ودية الكافر نصف دية المسلم وبما روى عبدالله بن صالح قال حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - دية المجوس ثمان مائة
قيل له قد علمنا حضور هؤلاء الصحابة الذين ذكرنا عنهم مقدار الدية خطبة النبي صلى الله عليه وسلم -
بمكة فلو كان ذلك ثابتا لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره وأيضا قد
روي عنه ص - أنه قال دية المعاهد مثل دية المسلم وأنه ودى العامريين دية الحرين المسلمين وهذا أولى لما فيه من الزيادة ولو تعارض الخبران لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر عن الرسول ص - في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل فيه بين المسلم والكافر أولى فوجب تساويهما في الديات وأما حديث عقبة بن عامر في دية المجوسي فإنه حديث واه لا يحتج بمثله لأن ابن

لهيعة ضعيف لا سيما من رواية عبدالله بن صالح عنه
فإن قيل قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله عطفا على ما ذكر في دية المسلم لا يدل على تساوي الديتين كما لو قال من قتل عبدا فعليه قيمته ومن استهلك ثوبا فعليه قيمته لم يدل على تساوي القيمتين
قيل له الفرق بينهما أن الدية اسم لمقدار من المال بدلا من نفس الحر كانت معلومة المقدار عندهم وهي مائة من الإبل فمتى أطلقت كان من مفهوم اللفظ هذا القدر فإطلاق لفظ الدية قد أنبأ عن هذا المعنى وعطفها على الدية المتقدمة مع تساوي اللفظ فيهما بأنها دية مسلمة قد اقتضى ذلك أيضا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
باب

المسلم يقيم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا
قال الله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن قال يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار فلا دية له ولكن عتق رقبة مؤمنة
قال أبو بكر هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا لأنه غير جائز أن يكون مراده في مؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال وأن كون أقربائه كفارا لا يوجب سقوط ديته لأنهم بمنزلة الأموات حيث لا يرثونه وروى عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس فإن كان من قوم عدو لكم الآية قال كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم - فيسلم ثم يرجع إلى قومه فيكون فيهم فيصيبه المسلمون خطأ في سرية أو غزاة فيعتق الذي يصيبه رقبة قال أبو بكر إذا اسلم في دار الإسلام لم تسقط ديته برجوعه إلى دار الحرب كسائر المسلمين لأن ما بينه وبين المشركين من القرابة لا تأثير له في إسقاط قيمة دمه كسائر أهل دار الإسلام إذا دخلوا دار الحرب بأمان على القاتل الدية وروي عن ابن عباس وقال قتادة هو المسلم يكون في المشركين فيقتله المؤمن ولا يدري ففيه عتق رقبة وليس فيه دية وهذا على أنه يقتل قبل الهجرة إلى دار الإسلام وروى مغيرة عن إبراهيم فإن كان من قوم عدو لكم قال هو المؤمن يقتل وقومه مشركون ليس بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم -
عهد فعليه تحرير رقبة وإن كان بينهم وبين النبي ص
-
عهد
أدى ديته إلى قرابته الذين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم - عهد
قال أبو بكر وهذا لا معنى له من قبل أن أقرباءه لا يرثونه لأنهم كفار

وهو مسلم فكيف يأخذون ديته وإن كان قومه أهل حرب وهو من أهل الإسلام فالدية واجبة لبيت المال كمسلم قتل في الإسلام ولا وارث له
وقد اختلف فقهاء الأمصار فيمن قتل في دار الحرب وهو مؤمن قبل أن يهاجر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في الرواية المشهورة ومحمد في الحربي يسلم فيقتله مسلم مستأمن قبل أن يخرج فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطأ وإن كان مستأمنين دخلا دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فعليه الدية في العمد والخطأ والكفارة في الخطأ خاصة وإن كانا أسيرين فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطأ في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد الدية في العمد والخطأ وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الحربي يسلم في دار الحرب فيقتله رجل مسلم قبل أن يخرج إلينا أن عليه الدية استحسانا ولو وقع في بئر حفرها أو وقع عليه ميزاب عمله لم يضمن شيئا وهذا خلاف المشهور من قوله وخلاف القياس ايضا
وقال مالك إذا أسلم في دار الحرب فقتل قبل أن يخرج إلينا فعلى قاتله الدية والكفارة إن كان خطأ قال وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة إنما كان في صلح النبي صلى الله عليه وسلم -

أهل مكة لأن من لم يهاجر لم يورث لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة قال الله
تعالى والذين لم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فلم يكن لمن يهاجر ورثة يستحقون ميراثه فلم تجب الدية ثم نسخ ذلك بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقال الحسن بن صالح من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه وقال الحسن إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام
وقال الشافعي إذا قتل المسلم مسلما في دار الحرب في الغارة أو الحرب وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود وعليه الكفارة وسواء كان المسلم أسيرا أو مستأمنا أو رجلا أسلم هناك وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود
قال أبو بكر لا يخلو قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة من أن يكون المراد به الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا او المسلم الذي له قرابات من أهل الحرب لأن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يحتمل المعنيين جميعا بأن يكون من

أهل دار الحرب وبأن يكون ذا نسب من أهل الحرب فلو خلينا والظاهر لأسقطنا دية من قتل في دار الإسلام من المسلمين إذا كان ذا قرابة من أهل الحرب لاقتضاء الظاهر ذلك فلما اتفق المسلمون على أن كونه ذا قرابة من أهل الحرب لا يسقط حكم دمه في إيجاب الدية أو القود إذا قتل في دار الإسلام دل ذلك على أن المراد من كان مسلما من أهل دار الحرب لم يهاجر إلى دار الإسلام فيكون الواجب على قاتله خطأ الكفارة دون الدية لأن الله تعالى إنما أوجب فيه الكفارة ولم يوجب الدية وغير جائز أن يزاد في النص إلا بنص مثله إذ كانت الزيادة في النص توجب النسخ
فإن قيل هلا أوجبت الدية بقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله قيل له غير جائز أن يكون هذا المؤمن مرادا بالمؤمن المذكور في أول الآية لأن فيها إيجاب الدية والرقبة فيمتنع أن نعطفه عليه ونشرط كونه من أهل دار الحرب ونوجب فيه الرقبة وهو قد أوجبها بديا مع الدية في ابتداء الخطاب وأيضا فإن قوله فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن استيناف كلام يتقدم له ذكر في الخطاب لأنه لا يجوز أن يقال أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه هذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في أول الخطاب
ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبدالله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إلى جثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي ص
- فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن علي بن شعيب قال حدثنا ابن عائشة قال حدثنا حماد بن سلمة عن الحجاج عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال لا ذمة له قال ابن عائشة
هو الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون فإن اصيب فلا دية له لقوله ص - فقد برئت منه الذمة
وقوله أنا بريء منه يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم ولما أمر لهم بنصف العقل في الحديث الأول كان ذلك على أحد وجهين إما أن يكون الموضع الذي قتل فيه كان مشكوكا في أنه من دار الحرب أو من دار الإسلام أو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
تبرع

به لأنه لو كان جميعه واجبا لما اقتصر على نصفه
وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا شيبان قال حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة قال حدثنا حميد بن هلال قال أتاني أبو العالية وصاحب لي فانطلقنا حتى أتينا بشر بن عاصم الليثي فقال أبو العالية حدث هذين فقال بشر حدثني عقبة بن مالك الليثي وكان من رهطه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - سرية فأغارت على قوم فشذ رجل من القوم واتبعه رجل من السرية ومعه السيف شاهره فقال الشاذ إني مسلم فضربه فقتله فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال فيه قولا شديدا فقال القاتل يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم -

مرارا تعرف المساءة في وجهه وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا ثلاث
مرات قال أبو بكر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - بإيمان المقتول ولم يوجب على قاتله الدية لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي ظبيان قال حدثنا أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله
إلا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته النبي صلى الله عليه وسلم - فقال من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ وهذا الحديث ايضا يدل على ما قلنا لأنه لم يوجب عليه شيئا
وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا
وأما قول مالك إن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم إنما كان حكما لمن أسلم ولم يهاجر وهو منسوخ بقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فإنه دعوى لنسخ حكم ثابت في القرآن بلا دلالة وليس في نسخ التوارث بالهجرة وإثباته بالرحم ما يوجب نسخ هذا الحكم بل هو حكم ثابت بنفسه لا تعلق له بالميراث وعلى أنه في حال ما كان التوارث بالهجرة قد كان من لم يهاجر من القرابات يرث بعضهم بعضا وإنما كانت الهجرة قاطعة للميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر فأما من لم يهاجر فقد كانوا يتوارثون بأسباب أخر فلو كان الأمر على ما قال مالك لوجب أن تكون ديته واجبة لمن لم يهاجر من أقربائه لأنه معلوم أنه

لم يكن ميراث من لم يهاجر مهملا لا مستحق له فلما لم يوجب الله تعالى له دية قبل الهجرة لا للمهاجرين ولا لغيرهم علمنا أنه كان مبقي على حكم الحرب لا قيمة لدمه وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يفيد أنه مالم يهاجر فهو أهل دار الحرب باق على حكمه الأول في أن لا قيمة لدمه وإن كان دمه محظورا إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم وإن لم يكن بينه وبينهم رحم بعد أن يجمعهم في الوطن بلد أو قرية أو صقع فنسبه الله إليهم بعد الإسلام إذ كان من أهل ديارهم ودل بذلك على أن لا قيمة لدمه وأما قول الحسن بن صالح في أن المسلم إذا لحق بدار الحرب فهو مرتد فإنه خلاف الكتاب والإجماع لأن الله تعالى قال والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد إسلامهم وأوجب علينا نصرتهم بقوله وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ولو كان ما قال صحيحا لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان وأن يكونوا بذلك مرتدين وليس هذا قول أحد فإن احتج محتج بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل وعبدان المروزي قالا حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ابق العبد إلى المشركين فقد حل دمه فإن هذا محمول عندنا على أنه قد لحق بهم مرتدا عن الإسلام لأن أباق العبد لا يبيح دمه واللحاق بدار الحرب كدخول التاجر إليها بأمان فلا يبيح دمه وأما قول الشافعي في أن من أصاب مسلما في دار الحارب وهو لا يعلمه مسلما فلا شيء عليه وإن علم إسلامه أقيد به فإنه متناقض من قبل أنه إذا ثبت أن لدمه قيمة لم يختلف حكم العمد والخطأ في وجوب بدله في العمد وديته في الخطأ فإذا لم يجب في الخطأ شيء كذلك حكم العمد فيه ولما ثبت بما قدمنا أنه لا قيمة لدم المقيم في دار الحرب بعد إسلامه قبل الهجرة إلينا وكان مبقي على حكم الحرب وإن كان محظور الدم أجروه أصحابنا مجرى الحربي في إسقاط الضمان عن متلف ماله لأن دمه أعظم حرمة من ماله ولا ضمان على متلف نفسه فماله أحرى أن لا يجب فيه ضمان وأن يكون كمال الحربي من هذا الوجه ولذلك أجاز أبو حنيفة مبايعته على سبيل ما يجوز مبايعته الحربي من بيع الدرهم بالدرهمين في دار الحرب وأما الأسير في دار الحرب فإن أبي حنيفة أجراه مجرى الذي أسلم هناك قبل أن يهاجر وذلك لأن

إقامته هناك لا على وجه الأمان وهو مقهور مغلوب فلما استويا من هذا الوجه استوى حكمهما في سقوط الضمان عن قاتلهما والله أعلم
ذكر

أقسام القتل وأحكامه
قال أبو بكر القتل ينقسم إلى أربعة أنحاء واجب ومباح ومحظور وما ليس بواجب ولا محظور ولا مباح فأما الواجب فهو قتل أهل الحرب المحاربين لنا قبل أن يصيروا في أيدينا بالأسر أو بالأمان أو العهد وذلك في الرجال منهم دون النساء اللاتي لا يقاتلن ودون الصغار الذين لا يقاتلون المحاربين إذا خرجوا ممتنعين وقتلوا وصاروا في يد الإمام قبل التوبة وقتل أهل البغي إذا قاتلونا وقتل من غير قصد إنسانا محظور الدم بالقتل فعلينا قتله وقتل الساحر والزاني المحصن رجما وكل قتل وجب على وجه الحد فهذه ضروب القتل الواجب وأما المباح فهو القتل الواجب لولي الدم على وجه القود فهو مخير بين القتل والعفو فالقتل ههنا مباح ليس بواجب وكذلك قتل أهل الحرب إذا صاروا في أيدينا فالإمام مخير بين القتل والاستبقاء وكذلك من دخل دار الحرب وأمكنه القتل والأسر فهو مخير بين أن يقتل وبين أن يأسر وأما المحظور فإنه ينقسم إلى أنحاء منها ما يجب فيه القود هو قتل المسلم عمدا في دار الإسلام العاري من الشبهة فعلى القاتل القود في ذلك ومنها ما تجب فيه الدية دون القود وهو قتل شبه العمد وقتل الأب ابنه وقتل الحربي المستأمن والمعاهد وما يدخله الشبهة فيسقط القود وتجب الدية ومنها ما لا يجب فيه شيء وهو قتل المسلم في دار الحرب قبل أن يهاجر وقتل الأسير في دار الحرب من المسلمين على قول أبي حنيفة وقتل المولى لعبده هذه ضروب من القتل محظورة ولا يجب على القاتل فيها شيء غير التعزير وأما ما ليس بواجب ولا مباح ولا محظور فهو قتل المخطئ والساهي والنائم والمجنون والصبي وقد بينا حكمه فيما سلف قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة قال ابن عباس والشعبي وقتادة والزهري هو الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ فتجب على قاتله الدية والكفارة وهو قول أصحابنا وقال إبراهيم والحسن وجابر بن زيد أراد وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة وكانوا لا يوجبون الكفارة على قاتل الذمي وهو مذهب مالك وقد بينا فيما سلف أن ظاهر

الآية يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية كافرا ذا عهد وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ويدل عليه أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فوصفه بالإيمان لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لنا ويدل عليه أن الكافر المعاهد تجب على قاتله الدية وذلك مأخوذ من الآية فوجب أن يكون المراد الكافر المعاهد والله أعلم
باب

القتل العمد هل فيه كفارة
قال الله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة فنص على إيجاب الكفارة في قتل الخطأ وذكر قتل العمد في قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقال النفس بالنفس وخصه بالعمد فلما كان كل واحد من القتيلين مذكورا بعينه ومنصوصا على حكمه لم يجز لنا أن نتعدى ما نص الله تعالى علينا فيهما إذ غير جائز قياس المنصوصات بعضها على بعض وهذا قول أصحابنا جميعا
وقال الشافعي على قاتل العمد الكفارة ومع ذلك ففي إثبات الكفارة في العمد زيادة في حكم النص وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فغير جائر إثبات الكفارات قياسا وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لما نص الله على حكم كل واحد من القتيلين وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد فموجب الكفارة على العامد مدخل في
أمره ما ليس منه
فإن قيل لما وجبت الكفارة في الخطأ فهي في العمد أوجب لأنه أغلظ قيل له ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيعتبر عظم المأثم فيها لأن المخطئ غير آثم فاعتبار المأثم فيه ساقط وأيضا قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - سجود السهو على الساهي ولا يجب على العامد وإن كان العمد أغلظ فإن احتجوا بحديث ضمرة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن العريف بن الديلي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار قيل له رواه ابن المبارك وهانئ بن عبدالرحمن بن أخي إبراهيم بن أبي عبلة هذا الحديث عن أبي عبلة فلم يذكر أنه أوجب بالقتل وهؤلاء أثبت من ضمرة بن ربيعة ومع ذلك لو ثبت الحديث على ما رواه ضمرة لم يدل على قول المخالف من وجوه أحدها

أنه تأويل من الراوي في قوله أوجب النار بالقتل لأنه قال يعني بالقتل والثاني أنه لو أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنة فلما لم يشرط لهم الإيمان فيها دل على أنها ليست من كفارة القتل وأيضا فإنما أمرهم بأن يعتقوا عنه ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه عن الكفارة قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة جعل الله من صفة رقبة القتل الإيمان ولا خلاف أنها لا تجزي إلا بهذه الصفة وهذا يدل على أن عتق الرقبة المؤمنة أفضل من الكافرة لأن هذه الصفة قد صارت شرطا في الفرض وكذلك من نذر أن يعتق رقبة مؤمنة لم تجزه الكافرة لأنه أوجبها مقرونة بصفة هي قربة وفي ذلك دليل على أن الصدقة على المسلمين أفضل منها على الكفار الذميين وإن كانت تطوعا وكذلك جعل الله التتابع في صوم كفارة القتل صفة زائدة ولا خلاف أنه لا يجزي إلا بهذه الصفة مع الإمكان وكذلك قال أصحابنا فيمن أوجب صوم شهر متتابع أنه لا يجزيه التفريق لإيجابه إياه بصفة هي قربة فوجبت حين أوجبها كما وجب المنذور من الصوم قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين قال أبو بكر لم ختلف الفقهاء أنه إذا صام بالأهلة أنه لا يعتبر فيه النقصان وأنها إن كانت ناقصة أو تامة أجزأته وقال النبي صلى الله عليه وسلم - صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فأمر باعتبار الشهور بالأهلة وأمر عند عدم الرؤية باعتبار الثلاثين وإن ابتدأ صيام الشهرين من بعض الشهر اعتبر الشهر الثاني بالهلال وبقية الشهر الأول بالعدد تمام ثلاثين وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر الأهلة إلا أن يكون ابتداء صومه بالهلال وروي نحوه عن الحسن البصري والأول أصح لأنه قد روي في معنى قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أنها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وبقية من ربيع الآخر فاعتبر الكسر بالأيام على التمام وسائر الشهور بالأهلة وقوله فصيام شهرين متتابعين معلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبي ص

لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وكانت المرأة إذا كان عليها صوم شهرين متتابعين لم يكن في وسعها في العادة أن تصوم شهرين لا حيض فيهما سقط حكم أيام الحيض ولم يقطع حكم التتابع وصارت أيام الحيض بمنزلة الليل الذي لا يقطع التتابع وهو قول الشافعي وروى عن إبراهيم أنها تستقبل وقال أصحابنا إذا مرض في الشهرين فأفطر استقبل وقال مالك يصل ويجزيه وفرقوا بين الحيض والمرض لأنه يمكنه في العادة صيام شهرين متتابعين بلا مرض ولا يمكنها ذلك بلا حيض ووجه آخر وهو أن حدوث المرض لا يوجب الإفطار بفعله والحيض ينافي الصوم لا يفعلها فأشبه الليل ولم يقطع التتابع
قوله تعالى توبة من الله قيل فيه إن معناه اعملوا بما أوجبه الله للتوبة من الله أي ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم وقيل إنه خاص في سبب القتل فأمر بالتوبة منه وقيل معناه توسعة ورحمة من الله كما قال فتاب عليكم وعفا عنكم والمعنى وسع عليكم وسهل عليكم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام الآية روي أن سبب نزول هذه الآية أن سرية النبي صلى الله عليه وسلم -

لقيت رجلا ومعه غنيمات له فقال السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول
الله فقتله رجل من القوم فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال لم قتلته وقد أسلم فقال إنما قالها متعوذا من القتل فقال هلا شققت عن قلبه وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته قال ابن عمر وعبدالله بن أبي حدرد القاتل محلم بن جثامة قتل عامر بن الأضبط الأشجعي وروي أن القاتل مات بعد أيام فلما دفن لفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الدم عنده ثم أمر أن يلقى عليه الحجارة وهذه القصة مشهورة لمحلم بن جثامة وقد ذكرنا حديث اسامة بن زيد أنه قتل في سرية رجل قال لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم - قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها تعوذا فقال هلا شققت عن قلبه من لك بلا إله إلا الله وذكرنا أيضا حديث عقبة بن مالك الليثي في هذا المعنى وأن الرجل قال إني مسلم فقتله فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم - وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا
وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا

الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيدالله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا تقتله فقلت يا رسول الله قطع يدي قال لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك
قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها
وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا ابو النضر هاشم بن القاسم قال حدثنا المسعودي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا شرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند ثغرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرجع منه الرمح وقال أبو عبيدة جعل الله تعالى هذه الكلمة أمنة المسلم وعصمه ماله ودمه وجعل الجزية أمنة الكافر وعصمة ماله ودمه وهو نظير ما روي في آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وفي بعضها وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله رواه عمر وجرير بن عبدالله وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة وقالوا لأبي بكر الصديق حين أراد قتل العرب لما امتنعوا من أداء الزكاة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم فقال أبو بكر إلا بحقها وهذا من حقها فاتفقت الصحابة على صحة هذا الخبر وهو معنى قوله تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا فحكم الله تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين وإن كان في المغيب على خلافه وهذا مما يحتج به في قبول توبة الزنديق متى أظهر الإسلام لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره إذا أظهر الإسلام وهو يوجب أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله أو قال إني مسلم أنه يحكم له بحكم الإسلام لأن قوله تعالى لمن ألقى إليكم السلم إنما معناه لمن استسلم فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام وإذا قرئ السلام فهو إظهار تحية الإسلام وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول في الإسلام وقال النبي صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قتل الرجل الذي أسلمت والذي قال لا إله إلا الله قتلته بعد ما أسلم فحكم له بالإسلام بإظهار هذا القول وقال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير لو أن يهوديا أو نصرانيا قال أنا مسلم لم يكن بهذا القول مسلما لأن كلهم

يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون إن ديننا هو الإيمان وهو الإسلام فليس في هذا دليل على الإسلام منهم وقال محمد ولو أن رجلا من المسلمين حمل على رجل من المشركين ليقتله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كان هذا مسلما وإن رجع عن هذا ضرب عنقه لأن هذا هو الدليل على الإسلام قال أبو بكر لم يجعل اليهودي مسلما بقوله أنا مسلم أو مؤمن لأنهم كذلك يقولون ويقولون الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه فليس في هذا القول دليل على إسلامه وليس اليهودي والنصراني بمنزلة المشركين الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا عبدة أوثان فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إني مسلم وإني مؤمن تركا لما كان عليه ودخولا في الإسلام فكان يقتصر منه على هذا القول لأنه كان لا يسمح به إلا وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم - وآمن به ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وإنما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود لأن اليهود قد كانوا يقولون لا إله إلا الله وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل فيثبتونه ثلاثة فعلمنا أن قول لا إله إلا الله إنما كان علما لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم - وتصديقا له فيما دعاهم إليه ألا ترى إلى قوله تعالى إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -

فمتى أظهر منهم مظهر الإيمان بالنبي ص
- فهو مسلم
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يقل إني داخل في الإسلام ولا بريء من اليهودية ولا من النصرانية لم يكن بذلك مسلما وأحسب إني قد رأيت عن محمد مثل هذا لأن الذي ذكره محمد في السير الكبير خلاف ما رواه الحسن بن زياد ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن من هؤلاء من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه رسول إليكم ومنهم من يقول إن محمدا رسول الله لكنه لم يبعث بعد وسيبعث فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على إسلامه حتى يقول إني داخل الإسلام أو يقول إني بريء من اليهودية أو النصرانية فقوله عز و جل ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا

لو خلينا وظاهره لم يدل على ان فاعل ذلك محكوم له بالإسلام لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تنفوا عنه الإسلام ولا تثبتوه ولكن تثبتوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك ألا ترى أنه قال إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهي عن نفي سمة الإيمان عنه وليس في النهي عن نفي سمة الإيمان عنه إثبات الإيمان والحكم به ألا ترى أنا متى شككنا في إيمان رجلا لا نعرف حاله لم يجز لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نتثبت حتى نعلم حاله وكذلك لو أخبرنا مخبر بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يجز لنا أن نكذبه ولا يكون تركنا لتكذيبه تصديقا منا له كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية ليس فيه إثبات إيمان ولا كفر وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين حاله إلا أن الآثار التي قد ذكرنا قد أوجبت له الحكم بالإيمان لقوله ص - أقتلت مسلما وقتلته بعد ما أسلم وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فأثبت لهم حكم الإسلام بإظهار كلمة التوحيد وكذلك قوله في حديث عقبة بن مالك الليثي إن الله تعالى أبى علي أن أقتل مؤمنا فجعله مؤمنا بإظهار هذه الكلمة وروي أن الآية نزلت في مثل ذلك فدل ذلك على أن مراد الآية إثبات الإيمان له في الحكم بإظهار هذه الكلمة وقد كان المنافقون يعصمون دماءهم وأموالهم بإظهار هذه الكلمة مع علم الله تعالى باعتقادهم الكفر وعلم النبي صلى الله عليه وسلم - بنفاق كثير منهم فدل ذلك على أن قوله ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا قد اقتضى الحكم لقائله بالإسلام قوله تعالى تبتغون عرض الحياة الدنيا يعني به الغنيمة وإنما سمى متاع الدنيا عرضا لقلة بقائه على ما روي في الرجل الذي قتل الذي أظهر الإسلام وأخذ ما معه قوله تعالى وإذا ضربتم في سبيل الله يعني به السير فيها وقوله تعالى فتثبتوا قرئ بالتاء والنون وقيل إن الاختيار التبين لأن التثبت إنما هو للتبين والتثبت إنما هو سبب له وقوله تعالى كذلك كنتم من قبل قال الحسن كفارا مثلهم وقال سعيد بن جبير كنتم مستخفين بدينكم بين قومكم كما استخفوا
وقوله تعالى فمن الله عليكم يعني بإسلامكم كقوله تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقيل فمن الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم
قوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر الآية يعني به تفضيل

المجاهدين على القاعدين والحض على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل فذكر بديا أنهما غير متساويين ثم بين التفضيل بقوله فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وقد قرئ غير بالرفع والنصب فالرفع على أنها نعت للقاعدين والنصب على الحال ويقال إن الاختيار فيها الرفع لأن الصفة أغلب على غير من معنى الاستثناء وإن كان كلاهما جائز أو الفرق بين غير إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء أنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل نحو جاءني القوم غير زيد وليست كذلك في الصفة لأنك تقول جاءني رجل غير زيد فغير ههنا صفة وفي الأول استثناء وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي
وقوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى يعني والله أعلم المجاهدين والقاعدين من المؤمنين وهذا دليل على ان فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحا إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه
وقوله تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ذكر ههنا درجات منه وذكر في أول الآية درجة فإنه روي عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرر فضلوا عليهم درجة واحدة والثاني على غير أهل الضرر فضلوا عليهم درجات كثيرة وأجرا عظيما وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففضلوا درجة واحدة والآخر الجهاد بالنفس والمال ففضلوا درجات كثيرة وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين وأراد بالآخر درجات الجنة
فإن قيل هل في الآية دلالة على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل الله من أجل معنى الاستثناء فيها قيل له لا دلالة فيها على التساوي لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضا على الجهاد وحثا عليه فاستثنى أولي الضرر إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا بالمجاهدين قوله عز و جل إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم الآية قيل فيه تقبض أرواحهم عند الموت وقال الحسن تحشرهم إلى النار وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولا

يهاجرون إلى المدينة فبين الله تعالى بما ذكر أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وبتركهم الهجرة وهذا يدل على فرض الهجرة في ذلك الوقت لولا ذلك لما ذمهم على تركها ويدل أيضا على أن الكفار مكلفون بشرائع الإسلام معاقبون على تركها لأن الله قد ذم هؤلاء المنافقين على ترك الهجرة وهذا نظير قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى فذمهم على ترك اتباع سبيل المؤمنين كما ذمهم على ترك الإيمان ودل بذلك على صحة حجة الإجماع لأنه لولا أن ذلك لازم لما ذمهم على تركه ولما قرنه إلى مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وهذا يدل على النهي عن المقام بين أظهر المشركين لقوله تعالى
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وهذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أي أرض كانت من أرض الإسلام وروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي إن الآية نزلت في قوم من أهل مكة تخلفوا عن الهجرة وأعطوا المشركين المحبة وقتل قوم منهم ببدر على ظاهر الردة ثم استثنى منهم الذين أقعدهم الضعف بقوله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطعيون حيلة ولا يهتدون سبيلا يعني طريقا إلى المدينة دار الهجرة وقوله تعالى فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم قال الحسن عسى من الله واجبة وقيل إنها بمنزلة الوعد لأنه لا يخبر بذلك عن شك وقيل إنما هذا على شك العباد أي كونوا أنتم على الرجاء والطمع قوله تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة قيل في المراغم أنه أراد متسعا لهجرته لأن الرغم أصله الذل تقول فعلت ذلك على الرغم من فلان أي فعلته على الذل والكره والرغام التراب لأنه يتيسر لمن رامه مع احتقاره وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالتراب إذلالا له فقال تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة أي يجد في الأرض متسعا سهلا كما قال تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور فمراغم وذلول متقاربان في المعنى وقيل في المراغم إنه ما يرغم به من كان يمنعه من الهجرة وأما قوله تعالى وسعة فإنه روي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك أنه السعة في الرزق وروي عن قتادة أنه السعة في إظهار الدين لما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره وقوله عز و جل ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت

فقد وقع أجره على الله فيه إخبار بوجوب أجر من هاجر إلى الله ورسوله وإن لم تتم هجرته وهذا يدل على أن من خرج متوجها لفعل شيء من القرب إن الله يجازيه بقدر نيته وسعيه وإن اقتطع دونه كما أوجب الله أجر من خرج مهاجرا وإن لم تتم هجرته وفيه ما يدل على صحة قول أبي يوسف ومحمد فيمن خرج يريد الحج ثم مات في بعض الطريق وأوصى أن يحج عنه من الموضع الذي مات فيه وكذلك الحاج عن الميت أو عمن ليس عليه فرض الحج بنفسه أنه يحج عنه من حيث مات الذي قصد للحج لأن الله قد كتب له من الخروج والنفقة فلما كان ذلك محتبسا للأول كان الذي وجب أن يقضي عنه ما بقي وفيه الدلالة على أن من قال إن خرجت من دار إلا إلى الصلاة أو إلى الحج فعبدي حر فخرج يريد الصلاة أو الحج ثم لم يصل ولم يحج وتوجه إلى حاجة أخرى أنه لا يحنث في يمينه لأن خروجه بديا كما كان للصلاة أو للحج لمقارنة النية له كما كان خروج من خرج مهاجرا قربة وهجرة لمقارنة النبية واقتطاع الموت له عن الوصول إلى دار الهجرة لم يبطل حكم الخروج على الوجه الذي وجد بديا عليه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه فأخبر أن أحكام الأفعال متعلقة بالنيات فإذا كان خروجه على نية الهجرة كان مهاجرا وإذا كان على نية الغزو كان غازيا واستدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة لورثته وهذه الآية لا تدل على ما قالوا لأن كونها غنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد الحيازة وقال الله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه فمن مات قبل أن يغنم فهو لم يغنم شيئا فلا سهم له وقوله تعالى فقد وقع أجره على الله لا دلالة فيه على وجوب سهمه لأنه لا خلاف أنه لو خرج غازيا من بيته فمات في دار الإسلام قبل أن يدخل دار الحرب أنه لا سهم له وقد وجب أجره على الله كما وجب أجر الذي خرج مهاجرا ومات قبل بلوغه دار هجرته والله أعلم
باب

صلاة السفر
قال الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأباح الله تعالى القصر المذكور في هذه الآية بمعنيين

أحدهما السفر وهو الضرب في الأرض والآخر الخوف واختلف السلف في معنى القصر المذكور فيها ما هو فروي عن ابن عباس قال فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيكم ص - وروى يزيد الفقير عن جابر قال صلاة الخوف ركعة ركعة وروى مجاهد أنه قصر العدد من أربع إلى ثنتين وروى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال قال قصرها في الخوف والقتال الصلاة في كل حال راكبا وماشيا فأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - وصلاة الناس في السفر ركعتين فليس بقصر وروي عن ابن عباس رواية أخرى غير ما قدمنا في القصر وهي أنه قال إنما هو قصر حدود الصلاة وأن تكبر وتخفض رأسك وتومي إيماء قال ابو بكر وأولى المعاني وأشبهها بظاهر الآية ما روي عن ابن عباس وطاوس في أنه قصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء وترك القيام إلى الركوب وجائز أن يسمى المشي في الصلاة قصرا إذ كان مثله في غير الخوف يفسدها وما روي عن ابن عباس وجابر في أن صلاة الخوف ركعة فمحمول على أن الذي يصليه المأموم مع الإمام ركعة لأنه يجعل الناس طائفتين فيصلي بها بالتي معه ركعة ثم يمضون إلى تجاه العدو ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بها ركعة ويسلم بتلك فيصير لكل طائفة من المأمومين ركعة ركعة مع الإمام ثم يقضون ركعة ركعة فيكون ما روي عن ابن عباس في أنه قصر في صفة الصلاة غير مخالف لقوله إن صلاة الخوف ركعة لأن الآثار قد تواترت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم - لصلاة الخوف مع اختلافها وكلها موجبة للركعتين وليس في شيء منها أنه صلاها ركعة إلا أنها طائفة ركعة مع الإمام والقضاء لركعة دون الاقتصار على واحدة ولو كانت صلاة الخوف ركعة واحدة لما اختلف حكم النبي صلى الله عليه وسلم - وحكم المأمومين فيها فلما نقل ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم -

صلى ركعتين علمنا أن أن فرض صلاة الخائف كفرض غيره وأن ما روي من أنه كان
للقوم ركعة ركعة على معنى أنها كانت ركعة ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم - وأنهم قضوا ركعة ركعة على ما روي في سائر الأخبار والدليل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في صفة الصلاة أو المشي والاختلاف فيها على النحو الذي قدمنا ذكره دون أعداد ركعاتها وأن مذهب ابن عباس في القصر ما وصفنا دون نقصان عدد الركعات ما روى مجاهد أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال إني وصاحب لي خرجنا في سفر فكنت

أتم وكان صاحبي يقصر فقال ابن عباس أنت الذي تقصر وصاحبك الذي كان يتم فأخبر ابن عباس أن القصر ليس في عدد الركعات وأن الركعتين في السفر ليستا بقصر ويدل على ذلك ما روى سفيان عن زبير اليامي عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ص -

وقد دخل في ذلك صلاة الخوف في السفر لأنه ذكر جميع هذه الصلوات وأخبر
أنها تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم - فثبت بذلك أن القصر المذكور في الآية هو على ما وصفنا دون أعداد ركعات الصلاة فإن قيل روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب كيف تقصر وقد أمنا وقال الله تعالى فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم - فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية قيل له ما كان اللفظ محتملا للمعنيين من أعداد ركعات الصلاة ومن صفتها على الوجه الذي بينا لم يمتنع أن يكون قد سبق في وهم عمر ويعلى بن أمية ما ذكر وأن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عن القصر في حال الأمن لا على أنه ذكر للنبي ص -
أن قصر الآية هو في العدد فأجابه بما وصف ولكنه جائز أن يكون قال النبي ص
- كيف نقصر وقد أمنا من غير أن ذكر له تأويل الآية لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يقصر في مغازيه ثم قصر في الحج في حال الأمن وزوال القتال فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يعني إن الله قد أسقط عنكم في السفر فرض الركعتين في حال الخوف والأمن جميعا وقد روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صلاة السفر أنها تمام غير قصر فجائز أن يكون ظن بديا أن قصر الخوف هو في عدد الركعات فلما سمعه يقول صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر علم أن قصر الآية إنما هو في صفة الصلاة لا في عدد الركعات وإذا صح بما وصفنا أن المراد بالقصر ما ذكرنا لم تكن في الآية دلالة على فرض المسافر ولا على أنه مخير بين الإتمام والقصر إذ لا ذكر له في الآية
وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الإثنتين فسدت صلاته وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته بمنزلة من صلى الفجر أربعا بتسليمة وهو قول

الثوري وقال حماد بن أبي سليمان إذا صلى أربعا أعاد وقال الحسن بن صالح إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشيء اليسير فإذا طال في سفره وكثر لم يعد قال وإذا افتتح الصلاة على أن يصلي أربعا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين وتشهد ثم بدأ له أن يتم فصلى أربعا أعاد وإن نوى أن يصلي أربعا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزته وقال مالك إذا صلى المسافر أربعا فإنه يعيد ما دام في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه قال ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلى ركعتين بدا له فسلم أنه لا يجزيه ولو صلى المسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه وقال الأوزاعي يصلي المسافر ركعتين فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو وقال الشافعي ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام فإذا أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا
قال أبو بكر قد بينا أنه ليس في الآية حكم القصر في أعداد الركعات ولم يختلف الناس في قصر النبي صلى الله عليه وسلم -

في أسفاره كلها في حال الأمن والخوف فثبت أن فرض المسافر ركعتان بفعل
النبي صلى الله عليه وسلم - وبيانه لمراد الله تعالى قال عمر بن الخطاب سألت النبي صلى الله عليه وسلم - عن القصر في حال الأمن فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وصدقة الله علينا هي إسقاطه عنا فدل ذلك على أن الفرض ركعتان وقوله فاقبلوا صدقته يوجب ذلك لأن الأمر للوجوب فإذا كنا مأمورين بالقصر فالإتمام منهي عنه وقال عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم فأخبر ان الفرض ركعتان وأنه ليس بقصر بل هو تمام كما ذكر صلاة الفجر والجمعة والأضحى والفطر وعزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فصار ذلك بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وذلك ينفي التخيير بين القصر والإتمام
وروي عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسافرا صلى ركعتين حتى يرجع وروى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم - فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين وقال لأهل مكة صلوا أربعا فإنا قوم سفر وقال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى وقد قال الله تعالى لقد

كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وروى بقية بن الوليد قال حدثنا أبان بن عبدالله عن خالد بن عثمان عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال صلاة المسافر ركعتان حتى يؤب إلى أهله أو يموت وقال عبدالله بن مسعود
صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم - بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين وقال مورق العجلي سئل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر فهذه أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - والصحابة في فعل الركعتين في السفر لا زيادة عليهما وفي ذلك الدلالة من وجهين على أنهما فرض المسافر أحدهما أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب وفي فعله صلاة السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله كفعله لصلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات والوجه الثاني لو كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبي ص -
أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر وكان بيانه للإتمام في وزن
بيانه للقصر فلما ورد البيان إلينا من النبي صلى الله عليه وسلم - في القصر دون الإتمام دل ذلك على أنه مراد الله دون غيره ألا ترى أنه لما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم -
تارة بالإفطار وتارة بالصوم وأيضا لما صلى عثمان بمنى أربعا أنكرت عليه
الصحابة ذلك فقال عبدالله بن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم - ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان وقال ابن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر وقال عثمان أنا إنما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من تأهل بللد فهو من أهله فلم يخالفهم عثمان في منع الإتمام وإنما اعتذر بأنه قد تأهل بمكة فصار من أهلها وكذلك قولنا في أهل مكة أنهم لا يقصرون وقال ابن عباس فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعا وقالت عائشة أول ما فرضت الصلاة ركعتان ركعتان ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ما كانت عليه فأخبرت أن فرض المسافر في الأصل ركعتان وفرض المقيم أربع كفرض صلاة الفجر وصلاة الظهر فغير جائز الزيادة عليها كما لا تجوز الزيادة على سائر الصلوات ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن للمسافر ترك الأخريين

لا إلى بدل ومتى فعلهما فإنما يفعلهما على وجه الابتداء فدل على أنهما نفل لأن هذه صورة النفل وهو أن يكون مخيرا بين فعله وتركه وإذا تركه تركه لا إلى بدل
واحتج من خيره بين القصر والإتمام بما روي عن عائشة قالت قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم -

وأتم وهذا صحيح ومعناه أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم كقول عمر صلاة
السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم ص -
واحتج أيضا من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام فدل على أنه مخير في الأصل وهذا فاسد لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبنا
واختلفوا أيضا في المسافر يدخل في صلاة المقيم فقال أصحابنا والشافعي والأوزاعي يصلي صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري وقال مالك إذا لم يدرك معه ركعة صلى ركعتين والذي يدل على القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم -
ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وفي بعض الألفاظ وما فاتكم فاقضوا فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم - بقضاء الفائت من صلاة الإمام والذي فاته أربع ركعات فعليه قضاؤها وأيضا قد صح له الدخول في آخر صلاته ويلزمه سهوه وانتفى عنه سهو نفسه لأجل إمامه كذلك لزمه حكم صلاته في الإتمام وأيضا لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحال لزمه الإتمام كذلك دخوله مع الإمام ويكون دخوله معه في التشهد كدخوله في أولها كما كانت نية الإقامة في التشهد كهي في أولها والله أعلم
فصل قال أبو بكر وجميع ما قدمنا في قصر الصلاة للمسافر يدل على أن صلاة سائر المسافرين ركعتان في أي شيء كان سفرهم من تجارة أو غيرها وذلك لأن الآثار المروية فيه لم تفرق بين شيء من الأسفار وقد روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا كان يتجر إلى الحرين فقال للنبي ص - كم أصلي فقال ركعتين وعن ابن عباس وابن عمر أنهما خرجا إلى الطائف فقصر الصلاة وروي عن عبدالله بن مسعود قال لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وعن عطاء قال لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله
فإن قيل لم يقصر النبي صلى الله عليه وسلم - إلا في حج أو جهاد قيل له لأنه لم يسافر إلا في حج أو جهاد وليس في ذلك دليل على أن القصر مخصوص بالحج والجهاد وقول عمر صلاة السفر ركعتان على

لسان نبيكم عموم في سائر الأسفار وقول النبي صلى الله عليه وسلم - صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته عام أيضا في سائر الأسفار وكذلك قوله لأهل مكة أتموا فإنا قوم سفر ولم يقل في حج دليل على أن حكم القصر عام في جميع المسافرين ولما كان ذلك حكما متعلقا بالسفر وجب أن لا يختلف حكم الأسفار فيه كالمسح على الخفين ثلاثا ومن يتأول قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على عدد الركعات يحتج بعمومه في جميع الأسفار إذا كان خائفا من العدو ثم إذا ثبت ذلك في صلاة الخوف إذا كان سفره في غير جهة القربة وجب مثله في سائر الأسفار لأن أحدا لم يفرق بينهما وقد بينا أن القصر ليس هو في عدد الركعات والذي ذكرناه في القصر في جميع الأسفار بعد أن يكون السفر ثلاثا هو قول أصحابنا والثوري والأوزاعي وقال مالك إن خرج إلى الصيد وهو معاشه قصر وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر وقال الشافعي إذا سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح السفر قال أبو بكر قد بينا أن ذلك في شأن المضطر في سورة البقرة وقد اختلف في الملاح هل يقصر في السفينة فقال أصحابنا يقصر إذا كان في سفر حتى يصير إلى قريته فيتم وهوقول مالك والشافعي وقال الأوزاعي إذا كان فيها أهله وقراره يقصر إذا أكراها حتى ينتهي إلى أكراها فإذا انتهى أتم الصلاة وقال الحسن بن صالح إذا كانت السفينة بيته وليس له منزل غيرها فهو فيها بمنزلة المقيم يتم
قال أبو بكر كون الملاح مالكا للسفينة لا يخرجه من حكم السفر كالجمال مالك للجمال التي ينتقل بها من موضع إلى موضع فلا يخرجه ذلك من حكم السفر وقد بينا الكلام في مدة السفر في سورة البقرة عند أحكام الصوم وشرط أصحابنا فيه ثلاثة أيام ولياليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح وقال مالك ثمانية وأربعون ميلا فإن لم تكن فيها أميال فمسيرة يوم وليلة للقفل وهو قول الليث وقال الأوزاعي يوم تام وقال الشافعي ستة وأربعون ميلا بالهاشمي وروي عن ابن عمر ثلاثة أيام وروي عن ابن عباس يوم وليلة واختلفوا في المدة التي يتم فيها الصلاة فقال أصحابنا والثوري إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر وقال مالك والليث والشافعي إذا نوى إقامة أربع أتم وقال الأوزاعي إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل قصر وقال الحسن بن صالح إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة مالم

يقم به عشرا أو إن أقام به عشرا أو بغيره أتم الصلاة

قال
أبو بكر وروي عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قدم مكة صبحية الرابعة من ذي الحجة فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع وكان يقصر الصلاة فلدل على سقوط اعتبار الأربع وأيضا روى أبو حنيفة عن عمر بن ذر عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر قالا إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها ولم يرو عن أحد من السلف خلاف ذلك فثبتت حجته فإن قيل روى الخراساني عن سعيد بن المسيب قال من أجمع على أربع وهو مسافر أتم الصلاة قيل له روى هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال إذا أقام المسافر خمسة عشر يوما وليلة أتم الصلاة وما كان من دون ذلك فليقصر وإن جعلنا الروايتين متعارضتين سقطتا وصار كأنه لم يرو عنه شيء ولو ثبتت الرواية عنه من غير معارضة لما جاز أن يكون خلافا على ابن عباس وابن عمر وأيضا مدة الإقامة والسفر لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وقد حصل الاتفاق في خمسة عشر يوما وما دونها مختلف فيه فيثبت الخمسة عشر أنها إقامة صحيحة ولم يثبت ما دونها وكذلك السلف قد اتفقوا على الثلاث أنها سفر صحيح يتعلق بها حكم القصر والإفطار واختلفوا فيما دونها فلم يثبت والله أعلم
باب صلاة الخوف
قال الله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك الآية قال أبو بكر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف على ضروب مختلفة واختلف فقهاء الأمصار فيها فقال أبو حنيفة ومحمد تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويسلم وينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدو فيقضون ركعة بغير قراءة وتشهدوا ويسلموا ويذهبوا إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة وقال ابن أبي ليلى إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين فيكبر ويكبرون ويركع ويركعون جميعا معه وسجد الإمام والصف الأول ويقوم الصف الآخر في وجوه العدو فإذا قاموا من السجود

سجد الصف المؤخر فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصف المؤخر 2وتأخر الصف المقدم فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك وإن كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر مستقبل العدو فيكبر ويكبرون جميعا ويركع ويركعون جميعا ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ثم يجيء الآخرون ويصلي بهم الإمام جميعا الركعة الثانية فيركعون جميعا ويسجد الصف الذي معه ثم ينلقبون إلى وجه العدو ويجيء الآخرون فيسجدون معه ويفرغون ثم يسلم الإمام وهم جميعا
قال أبو بكر وروي عن أبي يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات إحداها مثل قول أبي حنيفة ومحمد والأخرى مثل قول ابن أبي ليلى إذا كان العدو في القبلة وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبي حنيفة والثالثة أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلى بإمامين كسائر الصلوات وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة وروي أيضا مثل قول ابن ابي ليلى وقال إن فعلت كذلك جاز وقال مالك يتقدم الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائما وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى ثم يتشهدون ويسلمون ثم يذهبون إلى مكان الطائفة التي لم تصل فيقومون مكانهم وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت قال ابن القاسم كان مالك يقول لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم لحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى حديث القاسم وفيه إن الإمام يسلم ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون وقال الشافعي مثل قول مالك إلا أنه قال الإمام لا يسلم حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم وقال الحسن بن صالح مثل قول أبي حنيفة إلا أنه قال الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام وسلم الإمام قضت لأنفسها الركعة التي لم يصلوها مع الإمام ثم تنصرف وتجيء الطائفة الأولى فتقضي بقية صلاتها قال أبو بكر أشد هذه الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد ذلك لأنه تعالى قال وإذا كنت

فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وفي ضمن ذلك أن طائفة منهم بإزاء العدو لأنه قال وليأخذوا أسلحتهم وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى الطائفة التي بإزاء العدو لأنها تحرس هذه المصلية وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم -

بل يكونون جميعا معه وذلك خلاف الآية ثم قال تعالى
فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وعلى مذهب مالك يقضون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء وفي هذه الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم وذلك موافق لقولنا
ثم قال ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فدل ذلك على معنيين أحدهما أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل طائفة معه وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة لأنه قال ولتأت طائفة أخرى ونون مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا تأتيه والثاني قوله لم يصلوا فليصلوا معك وذلك يقتضي نفي كل جزء من الصلاة ومخالفنا يقول يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكون على حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة وذلك خلاف الآية بهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبي حنيفة ومحمد وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وللأصول وذلك لأن النبي ص
- قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا وقال إني امرؤ قد بدنت فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ومن مذهب المخالف أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من صلاته قبل فراغه أن يسجدوا ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فيحصل به مخالفة الإمام في الفعل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الافتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم فهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول فإن قيل جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها قيل له المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر

بالاتفاق فكان لما ذكرنا أصل متفق عليه فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبني قد ردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

روي عن ابن عباس وعائشة أن النبي ص
- قال من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته والرجل يركع ويمشي إلى الصف فلا تبطل صلاته وركع أبو بكر حين دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم - قال له زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره باستيناف الصلاة فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير فلم يجز فعله وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي ولما قامت به الدلالة سلمناه لها وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم قال أبو داود كذلك رواه نافع وخالد بن معدان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وقال أبو داود وكذلك قول مسروق ويوسف بن مهران عن ابن عباس وكذلك روى
يونس عن الحسن عن أبي موسى أنه فعله
وقول ابن عمر فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة على أنهم قضوا على وجه يجوز القضاء وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت
وقد بين ذلك في حديث خصيف عن أبي عبيدة عن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى في حرة بني سليم صلاة الخوف قام فاستقبل القبلة وكان العدو في غير القبلة فصف معه صفا وأخذ صف السلاح واستقبلوا العدو فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - والصف الذي معه ثم ركع وركع الصف الذي معه ثم تحول الصف الذين صفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -
فأخذوا السلاح وتحول الآخرون فقاموا مع النبي ص
- فركع النبي صلى الله عليه وسلم -
وركعوا وسجد وسجدوا ثم سلم النبي ص
- فذهب الذين صلوا معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح وتحول الآخرون وصلوا ركعة فكان للنبي ص -
ركعتان

وللقوم ركعة ركعة فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه وقد روي في حديث عبدالله بن مسعود من رواية ابن فضل عن خصيف عن أبي عبيدة عن عبدالله أن الطائفة الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت عليها والصحيح ما ذكرناه أولا لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول الصلاةوالثانية لم تدرك فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل الأولى ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلي الركعتين في مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد لأن سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما فيها واحتج مالك بحديث رواه عن زيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وذكر فيه أن الطائفة الأولى صلت الركعة الثانية قبل أن يصليها رسول الله
ص - وهذا لم يروه أحد إلا يزيد بن رومان وقد خولف فيه فروى شعبة عن عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصف مصاف العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تقض الركعة الثانية إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم - من صلاته وهذا أولى لما قدمناه من دلائل الأصول عليه وقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد بن رومان وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بذات الرقاع وقد روى يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن جابر قال كنا مع رسول
الله ص - بذات الرقاع فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين فصلى رسول
الله ص - أربعا وكل طائفة ركعتين وهذا يدل على اضطراب حديث يزيد بن رومان وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف على وجوه أخر فاتفق ابن مسعود وابن عمر وجابر وحذيفة وزيد بن
ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهون العدو ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة وإن أحدا منهم لم يقض بقية صلاته قبل فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وروى صالح بن خوات على ما قد اختلف عنه فيه مما قدمنا ذكره وروى أبو عياش
الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف نحو

المذهب الذي حكيناه عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف إذا كان العدو في القبلة وروى أيوب وهشام عن أبي الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس وكذلك عبدالملك عن عطاء عن جابر وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبي موسى من فعله ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك هشام بن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وقد روي عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا واختلفت الرواية عنهما
فيها
وروي فيها نوع آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا أبو عبدالرحمن المقري قال حدثنا حياة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف فقال ابو هريرة نعم قال مروان متى فقال أبو هريرة عام غزوةنجد
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ثم ركع رسول الله ص
- ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام رسول الله ص
- وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم -
قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله ص
- ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم -
قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول الله ص
- وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة
وقد روي عنه ص - نوع آخر من صلاة الخوف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيدالله بن معاذ قال حدثنا أبي قال حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم -
أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين وبذلك كان يفتي الحسن قال أبو داود وكذلك
يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه سليمان

اليشكري عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أبو بكر وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول الله ص
- ركعتان ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبي عياش
الزرقي الذي ذكرناه وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت به الروايات وذلك لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات فيها وتتنافى بل كانت صلوات في مواضع مختلفة بعسفان في حديث أبي عياش الزرقي وفي حديث جابر ببطن النخل ومنها حديث أبي هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع وصلاها في حرة بني سليم ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى وكذلك حديث أبي عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان فروى تارة نحو حديث أبي عياش وتارة على خلافه واختلاف هذه الآثار تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول وفي حديث جابر وأبي بكرة

أن النبي صلى الله عليه وسلم -

صلى بكل طائفة ركعتين فجائز أن يكون النبي ص
- قد كان مقيما حين صلاها كذلك ويكون قولهما أنه سلم في الركعتين المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر لأن الله تعالى قال فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم -
بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله
فإن قيل كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة
قيل له جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يومين فيكون مقيما عندنا إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه وذلك منسوخ عندنا وعلى أنه لو كان كذلك لم يكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن
وأما القول الذي روي عن أبي يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم -
صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين فإنه ذهب فيه إلى ظاهر
قول الله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم - فيهم وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة
قال أبو بكر فأما تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم -
بالخطاب بها بقوله وإذا
كنت فيهم فليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره لأن الذي قال وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة هو الذي قال فاتبعوه فإذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم -
قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ألا ترى أن قوله
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم لم يوجب كون النبي صلى الله عليه وسلم -
مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده وكذلك قوله
إذا جاءك المؤمنات يبايعنك وكذلك قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله فإن جاؤك فاحكم بينهم فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم -
بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم معه وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف
النبي صلى الله عليه وسلم - فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها

من فروض الصلاة لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن فرضا فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفصل فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - جائز بعده كما جاز معه وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم - منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن سمرة في آخرين منهم من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه والله أعلم
باب الاختلاف في صلاة المغرب

قال
أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة إلا أن مالكا والشافعي يقولان يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعة أخرى ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة الثانية فيقضون ركعتين وقال الشافعي إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى تتم الطائفة الأولى لأنفسهم وإن شاء كان قائما ويسلم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانية وقال الثوري يقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهم ركعة ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة ويجلسون فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا والإمام قائم لأن قراءة الإمام لهم قراءة وجلسوا ثم قاموا يصلون مع الإمام الركعة الثالثة فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك وجاء الآخرون فصلوا ركعتين وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين الطائفتين في الصلاة فيصلي بكل واحدة ركعة وقد ترك هذا المعنى حين جعل للطائفة الأولى أن يصلي مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه وقال الثوري إنه إذا كان مقيما فصلى بهم الظهر أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين فلم يقسم الصلاة بينهم على أن يصلي كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر وذلك أنه أمر الإمام أن يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية وذلك خلاف الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعي والله أعلم بالصواب

ذكر

اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يصلى في حال القتال فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته وقال مالك والثوري يصلي إيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود وقال الحسن بن صالح إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة وقال الشافعي لا بأس بأن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول بطلت صلاته قال أبو بكر الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى من الليل ثم قال ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ثم قضاهن على الترتيب فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال وقد كانت الصلاة مفروضة في حال الخوف قبل الخندق لأن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى بذات الرقاع صلاة الخوف وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة لا تصح معه وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في غير الخوف كان حكمه في الخوف كهو في غيره مثل الحدث والكلام والأكل والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة وإنما أبيح له المشي فيها لأن المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف ولأنهم متفقون على أن المشي لا يفسدها فسلمناه للإجماع وما عداه من الأفعال المنافية للصلاة فهو محمول على أصله وقوله تعالى فلقتم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع الإمام ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو لأن في الآية ضميرا للطائفة التي بإزاء العدو وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام بأخذ السلاح ولم يقل فليأخذوا حذرهم لأن في وجه العدو طائفة غير مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر ثم قال تعالى ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وفي ذلك دليل من وجهين على أن

قوله فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد به الطائفة التي مع الإمام أحدهما أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ولو كانوا مأمورين بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم والوجه الثاني قوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فجمع لهم بين الأمرين من أخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو وهي في الصلاة وذلك أولى بطمع العدو فيهم إذ قد صارت الطائفتان جميعا في الصلاة فدل ذلك على أن قوله وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد به الطائفة الأولى وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم باشتغالها بالصلاة ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم -

الظهر دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم فإذا صلوها
حملنا عليهم فصلى النبي صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا والله أعلم ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وعمل ذلك فيها دل على أن العمل اليسير معفو عنه فيها قوله تعالى ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله نبيه ص -
عليه وأمر المسلمين بأخذ الحذر منهم
قوله تعالى ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض والوحل والطين وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا في وضع السلاح وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلي بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا وأمر مع ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو قوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما

وقعودا وعلى جنوبكم قال أبو بكر أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يروى أن عبدالله بن مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال ما هذا النكر قالوا أليس الله يقول الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فقال إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع فصل على جنبك وروي عن الحسن الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم هذه رخصة من الله للمريض أن يصلي قاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة لأن الصلاة ذكر الله تعالى وفيها أيضا أذكار مسنونة ومفروضة وأما الذكر الذي في قوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فليس هو الصلاة ولكنه على أحد وجهين أما الذكر بالقلب وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه والذكر الثاني الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس وروي عن ابن عباس قال لم يعذر أحد في ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وقوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين فإنه روي عن الحسن ومجاهد وقتادة فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير قصر وقال السدي وغيره فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان قال أبو بكر من تأول القصر المذكور في قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها جعل قوله تعالى فأقيموا الصلاة أمرا بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف والله أعلم
باب

مواقيت الصلاة
قال الله تعالى إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا روي عن عبدالله بن مسعود أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج وعن ابن عباس ومجاهد وعطية مفروضا وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال موقوتا منجما كلما مضى نجم جاء نجم آخر وعن

زيد بن أسلم مثل ذلك قال أبو بكر قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته لأن قوله تعالى كتابا معناه فرضا وقوله موقوتا معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها وبين على لسان الرسول ص -

تحديدها ومقاديرها فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله أقم
الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ذكر مجاهد عن ابن عباس لدلوك الشمس قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر إلى غسق الليل قال بدو الليل لصلاة المغرب وكذلك روي عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها وروى أبو وائل عن عبدالله بن مسعود قال إن دلوكها غروبها وعن أبي عبدالرحمن السلمي نحوه قال أبوبكر لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالها لولا ذلك لما تأوله السلف عليهما والدلوك في اللغة الميل فدلوك الشمس ميلها وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته لأنه قال إلى غسق الليل وإلى غاية ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك ههنا هو الغروب وغسق الليل ههنا هو اجتماع الظلمة لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلاة وهي الظهر والعصر والمغرب فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى وأيديكم إلى المرافق والمرافق داخلة فيها وقوله حتى تغتسلوا والغسل داخل في شرط الإباحة فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات ثم قال وقرآن الفجر وهو صلاة الفجر فتنتظم الآية الصلوات الخمس وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلاة المفروضة فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه وأفرد الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلاة فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى وقرآن

الفجر ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس على الوجه الذي بينا ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله إلى غسق الليل أقم الصلاة مع غسق الليل كقوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ومعناه مع أموالكم ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبدالله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبي هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وقال الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وقال إبراهيم النخعي غسق الليل العشاء الآخرة وعن أبي جعفر غسق الليل انتصافه وروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات وقال تعالى وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل روى عمرو عن الحسن في قوله تعالى طرفي النهار قال صلاة الفجر والأخرى الظهر والعصر وزلفا من الليل قال المغرب والعشاء فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس وروى يونس عن الحسن أقم الصلاة طرفي النهار قال الفجر والعصر
وروى ليث عن الحكم عن أبي عياض قال قال ابن عباس جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر وعن الحسن مثله وروى أبو رزين عن ابن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال الصلاة المكتوبة وقال وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ووقت الزوال والغروب معلومان وقوله تعالى إلى غسق الليل ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني وقوله حين تمسون إن أراد به المغرب كان معلوما وكذلك تصبحون لأن و قت الصبح معلوم وقوله طرفي النهار لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط

النهار هو وقت الزوال فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف وجائز أن يريد به العصر لأن آخر النهار من طرفه والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر لأن طرف الشيء إما أن يكون ابتداءه ونهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا إلا أن الحسن في رواية عمر وقد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر وهو أشبه بمعنى الآية ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا
فهذه الآي دالة على أعداد الصلوات
وقوله تعالى وحافظوا على الصلوات الآية يدل على أنها وتر لأن الشفع لا وسط له وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم -

ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس وقد روى أنس بن مالك
وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بخمسين صلاة وأنه لم يزل يسئل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم - كذلك لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل وقد بيناه في أصول الفقه ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر وهو قول أبي حنيفة وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم - آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض
وقت
الفجر
فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ليس الفجر أن يقول هكذا وجمع كفه حتى يكون هكذا ومد أصبعيه السبابتين
وروى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم
الأحمر
وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وروى نافع بن جبريل في حديث المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن جبريل عليه السلام أمه عند البيت فصلى الفجر في اليوم الأول

حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم فهذا أول وقت الفجر وقد تواترت به الآثار واتفق عليه فقهاء الأمصار وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء وذكر ابن القاسم عن مالك أنه قال وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد الإسفار لا على معنى أنها تكون فائتة إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل طلوع الشمس وقد روى عبدالله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال وقت الفجر مالم تطلع الشمس وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس وورى أبو هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك فألزم
النبي صلى الله عليه وسلم - مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة مثل الحائض تطهر والصبي يبلغ والكافر يسلم فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس
وقت
الظهر
وأما أول وقت الظهر فهو من حين تزول الشمس ولا خلاف بين أهل العلم فيه وقال الله تعالى وعشيا وحين تظهرون وقال أقم الصلاة لدلوك الشمس وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبي سعيد وجابر وعبدالله بن عمر وبريدة الأسلمي وأبي هريرة وأبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في ذكر المواقيت حين أمه جبريل وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس وفي بعضها
ابتداء اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة
وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء فروي عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات إحداهن أن يصير الظل أقل من قامتين والأخرى وهي رواية الحسن بن زياد أن يصير ظل كل شيء مثله والثالثة أن يصير الظل قامتين وهي رواية الأصل وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح والثوري والشافعي هو أن يصير ظل كل شيء مثله وحكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى

غروب الشمس ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله أقم الصلاة طرفي النهار وذلك يقتضي فعل العصر بعد المثلين لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر لحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ويحتج
أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر فوجب أن يثبت إلىالمثلين بالظاهر ويحتج فيه من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي ما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي ما بين العصر إلى المغرب على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا قالوا لا قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء ودلالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين أحدهما قوله أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت وقال ص - بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى وفي خبر آخر كما بين هذه وهذه فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى وقد قدر ذلك بنصف السبع فثبت بذلك حين شبه ص - أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين والوجه الآخر من دلالة الخبر المثل الذي ضربه ص - لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة وأنهم غضبوا فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين بل كان يكون المسلمون أكثر عملا لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر فإن قيل إنما

أراد أن وقتي الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء وليسا بمجموعهما أقل عطاء لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين ويدل عليه حديث عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها فإن قيل في حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل قيل له أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين فإن قيل إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس قيل له في حديث ابن مسعود إن جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في اليوم الأول فقال قم فصل العصر وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل وهذا يسقط تأويل من تأوله وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبدالله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي حديث أبي قتادة عن النبي ص
- التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي ذكرنا منسوخ وأنه كان قبل الهجرة وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول وأن يكون الآخر منهما ثابتا والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضي أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم - حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله وقد ذكر أيضا في حديث ابن مسعود أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة منهم

مالك والليث وشعيب ومعمر وغيرهم ورواه أيوب عن عتبة عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عروة فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا فحديث ابن مسعود يروى على هذين الوجهين فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شيء مثله فقال قم فصل الظهر وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شيء مثليه فقال قم فصل العصر وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة
وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل وفيها احتمال لما قالوه ولغيره فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره إذ لا حجة في المحتمل منها حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة وورى أبو واقد الليثي قال حدثنا أبو أروى قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم - العصر بالمدينة ثم أمشي إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس وفي حديث أسامة بن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي
الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس وروي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر لم يفئ الفيء بعد
وليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل بقوله ص - أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم على أن ما بعد المثل وقت للظهر لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عند ما يصير ظل كل شيء مثله ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بالهجير عند الزوال والفيء قليل في ذلك الوقت فكان منهم من يصلي في الشمس أو بالقرب منها وكذلك قال خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
حر الرمضاء فلم يشكنا ثم قال أبردوا بالظهر فأمرهم أن يصلوها بعد ما يفيء
الفيء فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل
وأما ما حكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
صلى في

اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وأبي موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال ما بين هذين وقت وفي حديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم - أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وقد نقل الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم -

هذه الأوقات عملا وقولا كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب وعقلوا
بتوقيفه ص - أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي قتادة التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الآخر ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا وكذلك العصر وإن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلي العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها
فإن احتجوا بقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وأن الدلوك هو الزوال وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس لأنه روي في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب
قيل له ظاهره يقتضي إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة فيكون تقدير الآية أقم الصلاة لزوال الشمس وأقمها أيضا إلى غسق الليل وهي صلاة أخرى غير الأولى فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس
وقد وافق الشافعي مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه وذلك أنه يقول من أسلم قبل غروب الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا وكذلك الحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أويجعل العصر فيصليها في وقت الظهر معها فجعل من أجل ذلك الوقت

وقتا لهما في حال العذر والضرورة فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا كما أنها إذا طهرت في آخر وقت

العصر
لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر وهذا لا يقوله أحد فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر
وقت العصر
قال أبو بكر أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر على اختلافهم فيه والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر واسطة وقت من غيرهما وما روي عن أبي حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن يصير الظل أقل قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين فهو رواية شاذة وهي أيضا مخالفة للآثار الوارد في أن وقت الظهر مالم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وفي حديث أبي قتادة التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى والصحيح من مذهب أبي حنيفة أحد قولين إما المثلان وإما المثل وإن بخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر
واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس ومن الناس من يقول إن آخر وقتها حين تصفر الشمس ويحتج فيه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم -
عن الصلاة عند غروب الشمس قال أبو بكر والدليل على أن آخر وقتها الغروب
قول النبي صلى الله عليه وسلم - من فاته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله وماله فجعل فواتها بالغروب وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وهذا يدل على أن وقتها إلىالغروب فإن احتج محتج بحديث عبدالله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال آخر وقت العصر حين تصفر الشمس
فإن هذا عندنا على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب كما روي في حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل ومراده الوقت المستحب لأنه لا خلاف أن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة وأن مدركه بالإحتلام أو الإسلام

يلزمه فرضها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إن الرجل ليصلي الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله فقد يكون وقت يلزمه به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير إليه من أن يكون وقتا لها فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم - خيرا له من أهله وماله
وقت

المغرب
أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك وقال الله عز و جل أقم الصلاة لدلوك الشمس وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى وزلفا من الليل وهو ما قرب منه من النهار وهو أول أوقاته والله أعلم وقال تعالى فسبحان الله حين تمسون قيل فيه إنه وقت الغروب وفي أخبار المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم -
من طريق ابن عباس وجابر وأبي سعيد وغيرهم أن النبي ص
- صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس وقال سلمة بن الأكوع كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا تواترت بالحجاب
وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبي بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس وقد روي ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبدالله وعثمان وأبي هريرة
ويحتمل أن يكون خبر أبي بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رؤي النجم لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل ا لغروب ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل

الغروب مع رؤية الشاهد فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد
وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات وقال الشافعي ليس للمغرب إلا وقت واحد ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح آخر وقتها أن يغيب الشفق ثم اختلفوا في الشفق فقال أبو حنيفة الشفق البياض وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليل ومالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي الشفق الحمرة وقال مالك وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر
قال أبو بكر وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو فقال بعضهم هو البياض وقال بعضهم الحمرة فممن قال أنه الحمرة ابن عباس وابن عمر وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس
وحدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال حدثنا أبو عمران موسى بن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا أبو سفيان عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال الشفق الحمرة
قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عن ثور بن يزيد عن مكحول قال كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق فهؤلاء الذين روى عنهم الحمرة وممن روي عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبدالعزيز حدثنا يوسف بن شعيب قال حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعي قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إن أول وقت العشاء مغيب الشفق ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع فذلك أول وقتها قال هشام حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيدالله عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال الشفق البياض
قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يقول الشفق البياض
فصل وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد ذكرنا من

قال من السلف أنه الغروب واحتمال اللفظ له فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر لأن قوله تعالى إلى غسق الليل غاية وقد روي عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة وفي ذلك ما يقضي ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وأن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي
حديث أبي بكرة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة فذكر الحديث وقال فيه وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال الوقت فيما بين هذين وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل أن يغيب الشفق وكذلك في حديث جابر فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال وقت المغرب مالم يغب الشفق وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقرأ في صلاة المغرب بأطوال الطول وهي المص
وهذا يدل على امتداد الوقت ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ المص قد أخرها عن وقتها فإن قيل روي في حديث ابن عباس وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم - صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس قيل له هذا لا يعارض ما ذكرنا لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت فهو أولى لأن فيه استعمال الخبرين ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أنه لا وقت لها غيره كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها

مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا ومما يلزم الشافعي في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذ كان بينهما وقت ليس منهما فإن قيل ليست علة الجمع تجاور الوقتين لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاور الوقتين قيل له لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع وإنما ألزمناه المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب
ذكر

القول في الشفق والاحتجاج له
قال أبو بكر لما اختلف الناس في الشفق فقال منهم قائلون هو الحمرة وقال آخرون البياض علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لولا ذلك لما تأولوه عليهما إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى ا لقرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال سئل ثعلب عن الشفق ما هو فقال البياض فقال له السائل الشواهد على الحمرة أكثر فقال ثعلب إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفي فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد قال أبو بكر ويقال إن اصل الشفق الرقة ومنه يقال ثوب شفق ومنه الشفقة وهي رقة القلب وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس وهو في البياض أرق منه في الحمرة ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبي النجم ... حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلي ... بين سماطي شفق مهول ... فهي على الأفق كعين الأحول ...
ومعلوم أنه أراد الحمرة لأنه وصفها عند الغروب ومما يحتج به البياض قوله
تعالى فلا أقسم بالشفق قال مجاهد هو النهار ويدل عليه قوله والليل وما وسق فأقسم

بالليل والنهار فهذا يوجب أن يكون الشفق البياض لأن أول النهار هو طلوع بياض الفجر وهذا يدل على أن الباقي من البياض بعد غروب الشمس هو الشفق ومما يستدل به على أن المراد البياض قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد بينا أن الدلوك هو اسم يقع على الغروب ثم جعل غسق الليل غايته وروي عن ابن عباس في غسق الليل أنه اجتماع الظلمة وذلك لا يكون إلا مع غيبوبة البياض لأن البياض ما دام باقيا فالظلمة متفرقة في الأفق فثبت بذلك أن وقت المغرب إلى غيبوبة البياض فثبت أن المراد البياض فإن قيل روي عن ابن مسعود وأبي هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس قيل له المشهور عن ابن مسعود أو دلوك الشمس هو غروبها ومحال إذا كان الدلوك عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا لأن الله تعالى قال أقم الصلاة لدلوك الشمس فجعل الدلوك أول الوقت وغسق الليل آخره ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله غاية وإذا كان ذلك كذلك فالراوي عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب الشمس غالط في روايته ومع ذلك فقد روي عن ابن مسعود رواية مشهورة أن دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق وهذه الرواية مستقيمة على ما ثبت عنه من تأويل الآية وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أن دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس وهذا غير بعيد على ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال إلا أنه قد روى عنه مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته وهذا ينفي أن يكون غسق الليل وقت الغروب من قبل أن وقت الغروب لا تكون ظلمة مجتمعة وقد روي عن أبي جعفر في غسق الليل أنه انتصافه وعن إبراهيم غسق الليل العشاء الآخرة وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض وذلك لأنه لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود الليل فحسب فيصير تقدير الآية أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل ولما وجب حمل كل لفظ منه على فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد مالم يفدناه لو قال إلى الليل عاريا من اجتماعها ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق

وربما أخرها حتى يجتمع الناس فأخبر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - في أوائل أوقاتها وأخبر عنها في أواخرها وذكر في أول الوقت العشاء الآخرة اسوداد الأفق ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه بذلك فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض ومن يأبى هذا القول يقول إن قوله حين اسود الأفق لا ينفي بقاء البياض لأنه إنما أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها ولو أراد غيبوبة البياض لقال حين اسودت الآفاق وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق غير موضع البياض مسودة ويحتج القائلون بالبياض أيضا بحديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء الآخرة حين يستوي الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس وهذا اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول حين اسود الأفق ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبدالله قال سأل رجل نبي الله ص - عن وقت الصلاة فقال صل معي فصلى في اليوم الأول العشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق قالوا ومعلوم أنه لم يصلها قبل غيبوبة الحمرة فوجب أن يكون أراد البياض ولا تكون رواية من روى أنه صلاها بعد ما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا من قبل ما غاب الشفق الذي هو الحمرة إذا كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق الحديثان ولا يتضادا ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على نحو ما روي في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى ا لظهر في اليوم الثاني وقت العصر بالأمس ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة الشفق وفي بعض أخبار عبدالله بن عمر إذا غابت الشمس فهو وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق وفي لفظ آخر وقت المغرب مالم يسقط ثور الشفق قالوا فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة ومن يقول البياض يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضي غيبوبة جميعه وهو بالبياض فيدل ذلك على اعتبار البياض دون الحمرة لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا بعد غيبوبة جميعه كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون بعضها ولمن قال بالحمرة أن يقول إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا بل هما شفقتان فيتناول الاسم أولهما غيبوبة كما أن

الفجر الأول والثاني هما فجران وليسا فجرا واحدا فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق ومما يحتج به القائلين بالبياض حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة وظاهر ذلك يقتضي غيبوبة البياض قال أبو بكر وهذا لا يعتمد عليه لأن ذلك يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه قال أبو بكر وحكى ابن قتيبة عن الخليل بن أحمد قال راعيت البياض فرأيته لا يغيب البتة وإنما يستدير حتى يرجع إلى مطلع الفجر قال أبو بكر وهذا غلط والمحنة بيننا وبينهم وقد راعيته في البوادي في ليالي الصيف والجو نقي والسماء مصحية فإذا هو يغيب قبل أن يمضي من الليل ربعه بالتقريب ومن اراد أن يعرف ذلك فليجرب حتى يتبين له غلط هذا القول ومما يستدل به على أن المراد بالشفق البياض أنا وجدنا قبل طلوع الشمس حمرة وبياضا قبلها وكان جميعا من وقت صلاة واحدة إذ كانا جميعا من ضياء الشمس دون ظهور جرمها كذلك يجب أن تكون الحمرة والبياض جميعا بعد غروبها من وقت صلاة واحدة للعلة التي ذكرناها
وقت العشاء الآخرة

وأول
وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق على اختلافهم فيه إلى أن يذهب نصف الليل في الوقت المختار وفي رواية أخرى حتى يذهب ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر الثاني وقال الثوري والحسن بن صالح وقت العشاء إذا سقط الشفق إلى ثلث الليل والنصف أبعده قال أبو بكر ويحتمل أن يكونا أرادا الوقت المستحب لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر

وإن من أدرك أو أسلم قبل طلوع الفجر أنه تلزمه العشاء الآخرة وكذلك المرأة إذا طهرت من الحيض قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون الآية هو حث على الجهاد وأمر به ونهي عن الضعف عن طلبهم ولقائهم لأن الابتغاء هو الطلب يقال بغيت وابتغيت إذا طلبت والوهن ضعف القلب والجبن الذي يستشعره الإنسان عند لقاء العدو واستدعاهم إلى نفي ذلك واستشعار الجرأة والإقدام عليهم بقوله إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون فأخبر أنهم يساوونكم فيما يلحق من الألم بالقتال وإنكم تفضلونهم فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون فأنتم أولى بالإقدام والصبر على ألم الجراح منهم إذ ليس لهم هذا الرجاء وهذه الفضيلة قوله تعالى وترجون من الله ما لا يرجون قيل فيه وجهان أحدهما ما وعدكم الله من النصر إذا نصرتم دينه والآخر ثواب الآخرة ونعيم الجنة فدواعي المسلمين على التصبر على القتال واحتمال ألم الجراح أكثر من دواعي الكفار وقيل فيه ترجون من الله مالا يرجون تؤملون من ثواب الله مالا يؤملون روي ذلك عن الحسن وقتادة وابن جريج وقال آخرون وتخافون من الله ما لا يخافون كما قال تعالى مالكم لا ترجون لله وقارا يعني لا تخافون لله عظمة وبعض أهل اللغة يقول لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي وذلك حكم لا يقبل إلا بدلالة قوله تعالى إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله الآية فيه إخبار أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد
قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما روي أنه أنزل في رجل سرق درعا فلما خاف أن تظهر عليه رمى بها في دار يهودي فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها وذكر السارق أن اليهودي أخذها فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى قولهم فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق
وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه وهذه الآية وما بعدها من النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا يعلمه حقا
وقوله تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله ربما احتج

به من يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وأن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن
النصوص وأنه كقوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وليس في الآيتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وذلك لأنا نقول ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله فليس في الآية دلالة على نفي الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم - في الأحكام وقد قيل في قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - دفع عنهم وجائز أن يكون هم بالدفع عنهم ميلا منه إلى المسلمين دون اليهودي إذ لم يكن عنده أنهم غير محقين وإذا كان ظاهر الحال وجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أولى بالتهمة والمسلم أولى ببراءة الساحة فأمره الله تعالى بترك الميل إلى أحد الخصمين والدفع عنه وإن كان مسلما والآخر يهوديا فصار ذلك أصلا في أن الحاكم لا يكون له ميل إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر علىخلافه وهذا يدل أيضا على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده إذ كان جاحدا أن يكون هو الآخذ وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز وكانوا يسترقون السارق فاحتبسه عنده وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يسترقه ولا قال أنه سرق وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقا وقد نهى الله عن الحكم بالظن والهوى بقوله اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله
ولا تكن للخائنين خصيما وقوله ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم جائز أن يكون صادف ميلا من النبي صلى الله عليه وسلم - على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره وجائز أن يكون هم بذلك فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبي ص - أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادعى عليه فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم -
أظهر معاونته لما ظهر من الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم
بمثله فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك بمسئلتهم معونة هذا الخائن وقد قيل

أن هذه الطائفة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضا على يقين من أمر الخائن وسرقته ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزا على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره
فإن قيل كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالا إذا كان في الباطن خلافه وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن
قيل له لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلال وإنما الضلال إبراء الخائن من غير حقيقة علم فإنما اجتهدوا أن يضلوه عن هذا المعنى
قوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما فإنه قد قيل في الفرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة قد تكون من غير تعمد والإثم ما كان عن عمد فذكرهما جميعا ليبين حكمهما وأنه سواء كان تعمد أو غير تعمد فإنه إذا رمى به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا إذ غير جائز له رمي غيره بما لا يعلمه منه
قوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة الآية قال أهل اللغة النجوى هو الإسرار فأبان تعالى أنه لا خير في كثير ما يتسارون به إلا أن يكون ذلك أمرا بصدقة أو أمرا بمعروف أو إصلاح بين الناس وكل أعمال البر معروف لاعتراف العقول بها لأن العقول تعترف بالحق من جهة إقرارها به والتزامها له وتنكر الباطل من جهة زجرها عنه وتبريها منه ومن جهة أخرى سمى أعمال البر معروفا وهو أن أهل الفضل والدين يعرفون الخير لملابستهم إياه وعلمهم به ولا يعرفون الشر بمثل معرفتهم بالخير لأنهم لا يلابسونه ولا يعلمون به فسمى أعمال البر معروفا والشر منكرا
حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا عبدالسلام أبو الخليل عن عبيدة الهجيمي قال قال أبو جري جابر بن سليم ركبت قعودي ثم انطلقت إلى مكة فأنخت قعودي بباب المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم - جالس عليه بردان من صوف فيها طرائق حمر فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك السلام قلت إنا معشر أهل البادية فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها فقال أدن ثلاثا فدنوت فقال أعد علي فأعدت عليه فقال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل

دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله قال أبو جري والذهب ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن محمد المسلم الدقاق قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا سعيد بن مسلمة عن جعفر عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس أهله فإن أصبت أهله فهو أهله
وإن لم تصب أهله فأنت أهله
وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحماني والحسين بن إسحاق قالا حدثنا شيبان قال حدثنا عيسى بن شعيب قال حدثنا حفص بن سليمان عن يزيد بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل معروف صدقة وأول أهل الجنة دخولا أهل المعروف صنائع المعروف تقي مصارع السوء وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري يعني عبدالله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق وأما الصدقة فعلى وجوه منها الصدقة بالمال علىالفقراء فرضا تارة ونفلا أخرى ومنها معونة المسلم بالجاه والقول كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال كل معروف صدقة وقال ص
- على كل سلامي من ابن آدم صدقة وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم قال رجل ممن كان قبلكم كان إذا خرج من بيته قال اللهم أني قد تصدقت بعرضي على من شتمه فجعل احتماله أذى الناس صدقة بعرضه عليهم
قوله عز و جل أو إصلاح بين الناس هو نظير قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما وقوله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وقال فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وقال تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله
قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة
وإنما قيد الكلام بشرط فعله ابتغاء مرضاة الله لئلا يتوهم أن من فعله للترأس على الناس والتأمر عليهم يدخل في هذا الوعد قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الآية فإن مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - مباينته ومعاداته بأن يصير في شق غير الشق الذي هو فيه وكذلك قوله تعالى إن الذين يحادون الله ورسوله هو أن يصير في حد غير حد الرسول وهو يعني مباينته في الاعتقاد والديانة وقال من بعد ما تبين له الهدى تغليظا في الزجر عنه وتقبيحا لحاله وتبيينا للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول ص - وقرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد فدل على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير سبيلهم وقوله نوله ما تولى إخبار عن براءة الله منه وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان واعتضد به ولا يتولى الله نصره ومعونته قوله تعالى ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام التبتيك التقطيع يقال بتكه يبتكه تبتيكا والمراد به في هذا الموضع شق أذن البحيرة روي ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي وقوله ولأمنينهم يعني والله أعلم أنه يمنيهم طول البقاء في الدنيا ونيل نعيمها ولذاتها ليركنوا إلى ذلك ويحرصوا عليه ويؤثروا الدنيا على الآخرة ويأمرهم أن يشقوا آذان الأنعام ويحرموا على أنفسهم وعلى الناس بذلك أكلها وهي البحيرة التي كانت ا لعرب تحرم أكلها وقوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله فإنه روي فيه ثلاثة أوجه أحدها عن ابن عباس رواية إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك والسدي دين الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام ويشهد له قوله تعالى لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم والثاني ما روي عن أنس وابن عباس رواية شهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أنه الخصاء والثالث ما روي عن عبدالله والحسن أنه الوشم وروى قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بإخصاء الدابة وعن طاوس وعروة مثله وروي عن ابن عمر أنه نهى عن الإخصاء وقال ما أنهى إلا في الذكور وقال ابن عباس إخصاء البهيمة مثله ثم قرأ ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وروى عبدالله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
عن إخصاء الجمل قوله تعالى
واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا هو نظير قوله ثم أوحينا

إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وهذا يوجب أن كل ما ثبت من ملة إبراهيم عليه السلام فعلينا اتباعه فإن قيل فواجب أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم -

هي شريعة إبراهيم عليه السلام قيل له إن ملة إبراهيم داخلة في ملة النبي
ص - وفي ملة نبينا ص -
زيادة على ملة إبراهيم فوجب من أجل ذلك اتباع ملة إبراهيم إذ كانت داخلة
في ملة النبي صلى الله عليه وسلم - فكان متبع ملة النبي صلى الله عليه وسلم - متبعا لملة إبراهيم وقيل في الحنيف أنه المستقيم فمن سلك طريق الاستقامة فهو على الحنيفية وإنما قيل للمعوج الرجل أحنف تفاؤلا كما قيل للمهلكة مفازة وللديغ سليما وقوله واتخذ الله إبراهيم خليلا فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما الاصطفاء بالمحبة والاختصاص بالأسرار دون من ليس له تلك المنزلة والثاني أنه من الخلة وهي الحاجة فخليل الله المحتاج إليه المنقطع إليه بحوائجه فإذا أريد به الوجه الأول جاز أن يقال إن إبراهيم خليل الله والله تعالى خليل إبراهيم وإذا أريد به الوجه الثاني لم يجز أن يوصف الله بأنه خليل إبراهيم وجاز أن يوصف إبراهيم بأنه خليل الله وقوله تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن قال أبو بكر روي أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق
وقوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء يعني به ما ذكر في أول السورة من قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقد بيناه في مواضعه والله الموفق
باب
مصالحة المرأة وزوجها
قال الله تعالى وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا قيل في معنى النشوز أنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة وقوله أو إعراضا يعني لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح فروي علن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها وقال عمر ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم -
فقالت يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت هذه
الآية وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز وقال هشام

ابن عروة عن أبيه عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى فلا جناح عليهما إلى قوله تعالى والصلح خير وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم - يقسم به لها قال أبو بكر فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحا على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء لأن ذلك أكل مال بالباطل أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه لأنه لا يسقط مع وجوب السبب الموجب له وهو عقد النكاح وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد فإن قيل فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة قيل له لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه أو بعضه أو على الزيادة عليه لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه وقوله تعالى والصلح خير قال بعض أهل العلم يعني خير من الإعراض والنشوز وقال آخرون من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل ويدل على جواز الصلح عن إنكار والصلح من

المجهول وقوله تعالى وأحضرت الأنفس الشح

قال
ابن عباس وسعيد بن جبير الشح على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهن وقال الحسن تشح نفس كل واحد من الرجل والمرأة بحقه قبل صاحبه والشح البخل وهو الحرص على منع الخير قوله تعالى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية روي عن أبي عبيدة قال يعني المودة وميل الطباع وكذلك روي عن ابن عباس والحسن وقتادة
وقوله تعالى فلا تميلوا كل الميل يعني والله أعلم إظهاره بالفعل حتى ينصرف عنها إلى غيرها يدل عليه قوله فتذروها كالمعلقة قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة لا أيم ولا ذات زوج وقد روى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط وهذا الخبر يدل أيضا على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أولى لقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فقال تعالى بعد ذكره ما يجب لها من العدل في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته تسلية لكل واحد منهما عن الآخر وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما يجريه منه على أيدي عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه وبالله التوفيق
باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم الآية روى قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله قال هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه عن الآخر وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبدالله بن مهران الدينوري قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا عباد بن كثير بن أبي عبدالله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر قال أبو بكر قوله تعالى كونوا قوامين بالقسط قد

أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل وذلك موجب على كل أحد إنصاف الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصاف المظلوم من ظالمه ومنع الظالم من ظلمه لأن جميع ذلك من القيام بالقسط ثم أكد ذلك بقوله شهداء لله يعني والله أعلم فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب الحق لاستخراج حقه منه وأيضا له إليه وهو مثل قوله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه بقوله تعالى ولو على أنفسكم لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخصمه فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يقر إذا طالبه صاحب الحق وقوله تعالى أو الوالدين والأقربين فيه أمر بإقامة الشهادة علىالوالدين والأقربين ودل على جواز شهادة الإنسان على والديه وعلى سائر أقربائه لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما وأن ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك لأن ذلك منع لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قال ص -

أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف
ننصره ظالما قال ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه وهو مثل قوله ص - لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك
وقوله تعالى إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا عليه فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم بمصالح الجميع فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم
وقوله تعالى فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا يعني لا تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء وهو نظير قوله تعالى إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما بفقره وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي لفقد علمه بعدمه
وقوله تعالى وإن تلووا أو تعرضوا فإنه يحتمل ما روي عن ابن عباس أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون

ليه وإعراضه على أحدهما واللي هو الدفع ومنه قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يعني مطله ودفع الطالب عن حقه فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم والشاهد جميعا لاحتمال اللفظ لهما فيفيد ذلك الأمر بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر والكلام وترك إسرار احدهما والخلوة به كما روي عن علي كرم الله وجهه قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن نضيف أحد الخصمين دون الآخر
وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله قيل فيه يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء آمنوا بالله وبمحمد وما أتى به من عند الله لأنهم من حيث آمنوا بالمتقدمين من الأنبياء لما كان معهم من الآيات فقد ألزمهم الإيمان بمحمد ص -
لهذه العلة بعينها ومن جهة أخرى أن في كتب الأنبياء المتقدمين البشارة
بمحمد ص - فمن حيث آمنوا بهم وصدقوا بما اخبروا به عن الله تعالى وقد أخبروهم نبوة محمد ص -
فعليهم الإيمان به وهم محجوجون بذلك وقيل إنه خطاب للمؤمنين بمحمد ص
- وأمر لهم بالمداومة على الإيمان والثبات عليه والله أعلم
باب
استتابة المرتد
قال الله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا قال قتادة يعني به أهل الكتابين من اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته ثم ازدادوا كفرا بمخالفة الفرقان ومحمد ص - وقال مجاهد هي في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم وقال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك أهل الإسلام وكانوا يظهرون الإيمان به والكفر به وقد بين الله أمرهم في قوله
وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون
قال أبو بكر هذا يدل على أن المرتد متى تاب تقبل توبته وإن توبة الزنديق مقبولة إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار وقبول توبته بعد الكفر مرة بعد

أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان واختلف الفقهاء في استتابة المرتد والزنديق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر في الأصل لا يقتل المرتد حتى يستتاب ومن قتل مرتدا قبل أن يستتاب فلا ضمان عليه وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق الذي يظهر الإيمان قال أبو حنيفة أستتيبه كالمرتد فإن أسلم خليت سبيله وإن أبى قتلته وقال أبو يوسف كذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال أرى إذا أتيت بزنديق آمر بضرب عنقه ولا أستتيبه فإن تاب قبل أن أقتله خليته وذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف قال إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حبسته حتى أعلم توبته وذكر محمد في السير عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إن المرتد يعرض عليه السلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام ولم يحك خلافا
قال أبو جعفر الطحاوي وحدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال قال أبو حنيفة أقتل الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف ولم يحك أبو يوسف خلافه وقال ابن القاسم عن مالك المرتد يعرض عليه الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما يقتل الزنادقة وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه قال مالك يقتل الزنادقة ولا يستتابون فقيل لمالك فكيف يستتاب القدرية قال يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا وإن أقر القدرية بالعلم لم يقتلوا
وروى مالك عن زيد بن أسلم قال قال النبي صلى الله عليه وسلم - من غير دينه فاضربوا عنقه قال مالك هذا فيمن ترك الإسلام ولم يقربه لا فيمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية قال مالك وإذا رجع المرتد إلى الإسلام فلا ضرب عليه وحسن أن يترك المرتد ثلاثة أيام ويعجبني وقال الحسن بن صالح يستتاب المرتد وإن تاب مائة مرة وقال الليث الناس لا يستتيبون من ولد في الإسلام إذا شهد عليه بالردة ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة وقال الشافعي يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق وإن لم يتب قتل وفي الاستتابة ثلاثا قولان أحدهما حديث عمر والآخر أنه لا يؤخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بأناة وهذا ظاهر الخبر قال أبو بكر روى سفيان عن جابر عن الشعبي قال يستتاب المرتد ثلاثا ثم قرأ إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية وروي

عن عمر أنه أمر باستتابته ثلاثا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من بدل دينه فاقتلوه ولم يذكر فيه استتابته إلا أنه يجوز أن يكون محمولا على أنه قد استحق القتل وذلك لا يمنع دعاءه إلى الإسلام والتوبة لقوله تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآيةوقال تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فأمر بالدعاء إلى دين الله تعالى ولم يفرق بين المرتد وبين غيره فظاهره يقتضي دعاء المرتد إلى الإسلام كدعاء سائر الكفار ودعاؤه إلى الإسلام هو الاستتابة وقال تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقد تضمن ذلك الدعاء إلى الإيمان ويحتج بذلك أيضا في استتابة الزنديق لاقتضاء عموم اللفظ له وكذلك قوله إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا لم يفرق فيه بين الزنديق وغيره فظاهره يقتضي قبول إسلامه فإن قيل قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف لا دلالة فيه على زوال القتل عنه لأنا نقول هو مغفور له ذنوبه ويجب مع ذلك قتله كما يقتل الزاني المحصن وإن كان تائبا ويقتل قاتل النفس مع التوبة
قيل له قوله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف يقتضي غفران ذنوبه وقبول توبته لو لم تكن مقبولة لما كانت ذنوبه مغفورة وفي ذلك دليل على صحة استتابته وقبولها منه في أحكام الدنيا والآخرة وأيضا فإن قتل الكافر إنما هو مستحق بإقامته على الكفر فإذا انتقل عنه إلى الإيمان فقد زال المعنى الذي من أجله وجب قتله وعاد إلى حظر دمه ألا ترى أن المرتد ظاهرا متى أظهر الإسلام حقن دمه كذلك الزنديق وقد روي عن ابن عباس في المرتد الذي لحق بمكة وكتب إلى قومه سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

هل لي من توبة فأنزل الله
كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم إلى قوله تعالى إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فكتبوا بها إليه فرجع فأسلم فحكم له بالتوبة بما ظهر من قوله فوجب استعمال ذلك والحكم له بما يظهر منه دون ما في قلبه
وقول من قال إني لا أعرف توبته إذا كفر سرا فإنا لا نؤاخذ باعتبار حقيقة اعتقاده لأن ذلك لا نصل إليه وقد حظر الله علينا الحكم بالظن بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقال تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقال
إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ومعلوم أنه لم يرد حقيقة العلم بضمائرهن

واعتقادهن وإنما أراد ما ظهر من إيمانهن بالقول وجعل ذلك علما فدل على أنه لا اعتبار بالضمير في أحكام الدنيا وإنما الاعتبار بما يظهر من القول وقال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا وذلك عموم في جميع الكفار وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها
متعوذا قال هلا شققت عن قلبه
وروى الثوري عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبدالله فقال ما بيني وبين أحد من العرب أحنة وأني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبدالله فجاء بهم واستتابهم غير ابن النواحة قال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول أبن ما كنت تظهر من الإسلام قال كنت أتقيكم به فأمر به قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا بالسوق فهذا مما يحتج به من لم يقبل توبة الزنديق وذلك لأنه استتاب القوم وقد كانوا مظهرين لكفرهم وأما ابن النواحة فلم يستتبه لأنه أقر أنه كان مسرا للكفر مظهرا للإيمان على وجه التقية وقد كان قتله إياه بحضرة الصحابة لأن في الحديث أنه شاور الصحابة فيهم وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله قال أخذ بالكوفة رجال يؤمنون بمسيلمة الكذاب فكتب فيهم إلى عثمان فكتب عثمان أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن قالها وتبرأ من دين مسيلمة فلا تقتلوه ومن لزم دين مسيلمة فاقتله فقبلها رجال منهم ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا
قوله تعالى بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين قيل في معنى قوله أولياء من دون المؤمنين إنهم اتخذوهم أنصارا واعتضادا لتوهمهم أن لهم القوة والمنعة بعداوتهم للمسلمين بالمخالفة جهلا منهم بدين الله وهذا من صفة المنافقين المذكورين في الآية وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار إذ كانوا متى غلبوا كان حكم الكفر هو الغالب وبذلك قال أصحابنا
وقوله أيبتغون عندهم العزة يدل على صحة هذا الاعتبار وأن الاستعانة بالكفار لا تجوز إذ كانوا متى غلبوا كان الغلبة والظهور للكفار وكان حكم الكفر هو الغالب
فإن قيل إذا كانت الآية في شأن المنافقين وهم كفار فكيف يجوز الاستدلال به على المؤمنين قيل له لأنه قد ثبت أن هذا الفعل محظور فلا يختلف

حكمه بعد ذلك أن يكون من المؤمنين أو من غيرهم لأن الله تعالى متى ذم قوما على فعل فذلك الفعل قبيح لا يجوز لأحد من الناس فعله إلا أن تقوم الدلالة عليه وقيل إن أصل العزة هو الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز وقيل قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه ومنه قول القائل عز علي كذا إذا اشتد عليه وعز الشيء إذا قل لأنه يشتد مطلبه وعازه في الأمر إذا شاده فيه وشاة عزوز إذا كانت تحلب بشدة لضيق أحاليلها والعزة القوة منقولة عن الشدة والعزيز القوي المنيع فتضمنت الآية النهي عن اتخاذ الكفار أولياء وأنصارا أو الاعتزاز بهم والالتجاء إليهم للتعزز بهم
وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبدالله بن إسحاق بن إبراهيم الدوري قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثنا عبدالله بن عبدالله الأموي عن الحسن بن الحر عن يعقوب بن عتبة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من اعتز بالعبيد أذله الله تعالى وهذا محمول علىمعنى الآية فيمن اعتز بالكفار والفساق ونحوهم فأما أن يعتز بالمؤمنين فذلك غير مذموم قال الله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقوله تعالى أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا تأكيد للنهي عن الاعتزاز بالكفار وإخبار بأن العزة لله دونهم وذلك منصرف على وجوه أحدها امتناع إطلاق العزة لله عز و جل لأنه لا يعتد بعزة أحد مع عزته لصغرها واحتقارها في صفة عزته والآخر أنه المقوي لمن له القوة من جميع خلقه فجميع العزة له إذ كان عزيزا لنفسه معزا لكل من نسب إليه شيء من العزة والآخر أن الكفار أذلاء في حكم الله فانتفت عنهم صفة العزة وكانت لله ومن جعلها له في الحكم وهم المؤمنون فالكفار وإن حصل لهم ضرب من القوة والمنعة فغير مستحق لإطلاق اسم العزة لهم
قوله تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فيه نهي عن مجالسة من يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال تعالى فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وحتى ههنا تحتمل معنيين أحدهما أنها تصير غاية لحظر القعود معهم حتى إذا تركوا إظهار الكفر والاستهزاء بآيات الله زال الحظر عن مجالستهم والثاني أنهم كانوا إذا رأوا هؤلاء أظهروا الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال لا تقعدوا معهم لئلا يظهروا ذلك ويزدادوا كفرا واستهزاء بمجالستكم لهم والأول أظهر وروي عن الحسن أن ما اقتضته الآية من

إباحة المجالسة إذا خاضوا في حديث غيره منسوخ بقوله فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين قيل إنه يعني مشركي العرب وقيل أراد به المنافقين الذين ذكروا في هذه الآية وقيل بل هي عامة في سائر الظالمين
وقوله إنكم إذا مثلهم قد قيل فيه وجهان أحدهما في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر والثاني إنكم مثلهم في الرضى بحالهم في ظاهر أمركم والرضى بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفر ولكن من قعد معهم ساخطا لتلك الحال منهم لم يكفر وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم وفي هذه الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن من إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها فإن قيل فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه قيل له قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي وترك حضور الجنازة لما معها من النوح وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أولى وإذا كان هناك حق يقوم به ولم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره وكراهته وقال قائلون إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله لأن في مجالستهم تأنيسا لهم ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب أنه لا ينبغي له أن يخرج وقال لقد ابتليت به مرة وروي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نوح فانصرف ابن سيرين فذكر ذلك للحسن فقال إنا كنا متى رأينا باطلا وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره وكذلك حضور الوليمة قد ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم - فلم يجز أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبدالله الغداني قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر مزمارا فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا فقلت لا فرفع أصبعيه من أذنيه وقال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم - فسمع

مثل هذا فصنع مثل هذا وهذا هو اختيار لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره فأما أن يكون واجبا فلا قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا روي عن علي وابن عباس قالا سبيلا في الآخرة وعن السدي ولن يجعل الله لهم عليهم حجة يعني فيما فعلوا بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضه عقد النكاح كما قال تعالى الرجال قوامون على النساء فاقتضى قوله تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وقوع الفرقة بردة الزوج وزوال سبيله عليها لأنه ما دام النكاح باقيا فحقوقه ثابتة وسبيله باق عليها
فإن قيل إنما قال على المؤمنين فلا تدخل النساء فيه
قيل له إطلاق لفظ التذكير يشتمل على المؤنث والمذكر كقوله إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقد أراد به الرجال والنساء وكذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ونحوه من الألفاظ ويحتج بظاهره أيضا في الكافر الذمى إذا أسلمت امرأته أنه يفرق بينهما إن لم يسلم وفي الحربي كذلك أيضا فإنه لا يجوز إقرارها تحته أبدا ويحتج به أصحاب الشافعي في إبطال شرى الذمي للعبد المسلم لأنه بالملك يستحق السبيل عليه وليس ذلك كما قالوا لأن الشرى ليس هو المنفي بالآية لأن ا لشرا ليس هو الملك الملك إنما يتعقب الشرى وحينئذ يملك السبيل عليه فإذا ليس في الآية نفي الشرى وإنما فيها نفي السبيل
فإن قيل إذا كان الشرى هو المؤدي إلى حصول السبيل وجب أن يكون منتفيا كما كان السبيل منتفيا قيل له ليس الأمر كذلك لأنه ليس يمتنع أن يكون السبيل عليه منتفيا ويكون الشرى المؤدي إلى حصول السبيل جائزا وإنما أردت نفي الشرى بالآية نفسها فإن ضممت إلى الآية معنى آخر في نفي الشرى فقد عدلت عن الاحتجاج بها وثبت بذلك أن الآية غير مانعة صحة الشرىوأيضا فإنه لا يستحق بصحة الشرى السبيل عليه لأنه ممنوع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع وإخراجه عن ملكه فلم يحصل له ههنا سبيل عليه وقوله تعالى إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم قيل فيه وجهان أحدهما يخادعون نبي الله والمؤمنين بما يظهرون من الإيمان لحقن دمائهم ومشاركة المسلمين في غنائمهم والله تعالى يخادعهم بالعقاب على خداعهم فسمى الجزاء

على الفعل باسمه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه والآخر أنهم يعملون عمل المخادع لمالكه بما يظهرون من الإيمان ويبطنون خلافه وهو يعمل عمل المخادع بما أمر به من قبول إيمانهم من علمهم بأن الله عليم بما يبطنون من كفرهم
وقوله تعالى ولا يذكرون الله إلا قليلا قيل فيه إنما سماه قليلا لأنه لغير وجهه فهو قليل في المعنى وإن كثر الفعل منهم وقال قتادة إنما سماه قليلا لأنه على وجه الرياء فهو حقير غير متقبل منهم بل هو وبال عليهم وقيل إنه أراد إلا يسيرا من الذكر نحو ما يظهرونه للناس دون ما أمروا به من ذكر الله في كل حال أمر به المؤمنين في قوله تعالى فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وأخبر أيضا أنهم يقومون إلى الصلاة كسالى مراآة للناس والكسل هو التثاقل عن الشيء للمشقة فيه مع ضعف الدواعي إليه فلما لم يكونوا معتقدين للإيمان لم يكن لهم داع إلى الصلاة إلا مراآة للنا خوفا منهم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين فإن الولي هو الذي يتولى صاحبه بما يجعل له من النصرة والمعونة على أمره والمؤمن ولي الله بما يتولى من إخلاص طاعته والله ولي المؤمنين بما يتولى من جزائهم على طاعته واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدا كان أو غيره ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية وهو نظير قوله لا تتخذوا بطانة من دونكم وقد كره أصحابنا توكيل الذمي في الشرى والبيع ودفع المال إليه مضاربة وهذه الآية دالة على صحة هذا القول
قوله تعالى وأخلصوا دينهم لله يدل على أن كل ما كان من أمر الدين على منهاج القرب فسبيله أن يكون خالصا لله سالما من شوب الرياء أو طلب عرض من الدنيا أو ما يحبطه من المعاصي وهذا يدل على امتناع جواز أخذ شيء من أعراض الدنيا على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة من نحو الصلاة والأذان والحج
قوله عز و جل لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ابن عباس وقتادة إلا أن يدعو على ظالمه وعن مجاهد رواية إلا أن يخبر بظلم ظالمه له وقال الحسن والسدي إلا أن ينتصر من ظالمه وذكر الفرات بن سليمان قال سئل عبدالكريم عن قول الله لا يحب الله الجهر

بالسوء من القول إلا من ظلم قال هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفتري عليه وهو مثل قوله ولمن انتصر بعد ظلمه وروى ابن عيينة عن أبي نجيح عن إبراهيم بن أبي بكر عن مجاهد في قوله لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ذاك في الضيافة إذا جئت الرجل فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه
قال أبو بكر إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة وجائز أن يكون فيمن لا يجد ما يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه فهذا مذموم يجوز أن يشكى وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يحب ذلك وما لا يحبه فهو الذي لا يريده فعلينا أن نكرهه وننكره وقال إلا من ظلم فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه
وقوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم قال قتادة عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل لله والذي حرم عليهم ما بينه تعالى في قوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وقوله وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه
قوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم روي عن قتادة أن لكن ههنا استثناء وقيل أن لا ولكن قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق إلا ويراد بها لكن كقوله تعالى وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومعناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة فأقيمت إلا في هذا الموضع مقام لكن وتنفصل لكن من إلا بأن إلا لإخراج بعض من كل ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك ما جاءني زيد لكن عمرو وحقيقة لكن الاستدراك ولا للتخصيص قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم روي عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت

في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة فغلا الفريقان جميعا في أمره والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار قال فناولته إياها مثل حصا الخذف فجعل يقلبهن بيده ويقول بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في دينهم ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي

قوله
تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه أحدها ما روي عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله وهو قوله كن فيكون لا على سبيل ما أجري العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا والثاني أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله والثالث ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه
وأما قوله تعالى وروح منه فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله والنفخ يسمى روحا كقول ذي الرمة ... فقلت له أرفعها إليك وأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا ...
أي بنفختك وقيل إنما سماه روحا لأنه يحيى الناس به كما يحيون بالأرواح
ولهذا المعنى سمي القرآن روحا في قوله وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقيل لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له كما يقال بيت الله وسماء الله
قوله يبين الله لكم أن تضلوا قيل فيه إنه بمعنى لئلا تضلوا فحذف لا كما تحذف مع القسم في قولك والله أبرح قاعدا أي لا أبرح قال الشاعر ... تالله يبقى على الأيام ذو حيد ...
معناه لا يبقى وقيل يبين الله لكم كراهة أن تضلوا كقوله واسئل القرية
يعني أهل القرية
سورة المائدة
بسم
الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود روي عن ابن عباس ومجاهد ومطرف

والربيع والضحاك والسدي وابن جريج والثوري قالوا العقود في هذا الموضع أراد بها العهود وروى معمر عن قتادة قال هي عقود الجاهلية الحلف وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فقال
حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال ابن عيينة إنما آخى بين المهاجرين والأنصار قال أبو بكر قال الله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أولى من الحليف بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فقد كان حلف الإسلا على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا وأما قوله لا حلف في الإسلام فإنه جائز أن يريد به الحلف علىالوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف وقد كان حلف الجاهلية على وجوه منها الحلف في التناصر فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهم صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوي ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه مكروه منهم فجائز أن يكون أراد بقوله لا حلف في الإسلام هذا الضرب من الحلف وكانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام

لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -

باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من
الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال النبي صلى الله عليه وسلم - المؤمنون يد على من سواهم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا حلف في الإسلام وأما قوله وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبدالمطلب قال النبي صلى الله عليه وسلم - ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وإني أغدر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسي في المعاش فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك وهو شيء مستحسن في العقول بل واجب فيها قبل ورود الشرع فعلمنا أن قوله لا حلف في الإسلام إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة وقد روي عنه ص - أنه قال حضرت حلف المطيبين وأنا غلام وما أحب أن أنكثه وأن لي حمر النعم وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه وأما قوله وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة والعقد في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل إذا شددته واليمين على المستقبل تسمى عقدا قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان والحلف يسمىعقدا قال الله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم وقال أبو عبيدة في قوله أوفوا بالعقود قال هي العهود والأيمان وروي عن

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19