كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

فقيرا أو مسكينا وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يستعيذ بالله من المأثم والمغرم فقيل له في ذلك فقال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف وإنما أراد إذا لزمه الدين ويجوز أن يكون مجاهد أراد من ذهب ماله وعليه دين لأنه إذا كان له مال وعليه دين أقل من ماله بمقدار مائتي درهم فليس هو من الغارمين المرادين بالآية وروى أبو يوسف عن عبدالله بن سميط عن أبي بكر الحنفي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال إن المسألة لا تحل ولا تصلح إلا لأحد ثلاثة لذي فقر مدقع أو لذي غرم مفظع أو لذي دم موجع ومعلوم أن مراده بالغرم الدين قوله تعالى وفي سبيل الله روى ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن ابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له واختلف الفقهاء في ذلك فقال قائلون هي للمجاهدين الأغنياء منهم والفقراء وهو قول الشافعي وقال الشافعي لا يعطى منها إلا الفقراء منهم ولا يعطى الأغنياء من المجاهدين فإن أعطوا ملكوها وأجزأ المعطي وإن لم يصرفه في سبيل الله لأن شرطها تمليكه وقد حصل لمن هذه صفته فأجزأ وقد روي أن عمر تصدق بفرس في سبيل الله فوجده يباع بعد ذلك فأراد أن يشتريه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تعد في صدقتك فلم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم - المحمول على الفرس في سبيل الله من بيعها وإن أعطى حاجا منقطعا به أجزأ أيضا وقد روي عن ابن عمر أن رجلا أوصى بماله في سبيل الله فقال ابن عمر إن الحج في سبيل الله فاجعله فيه وقال محمد بن الحسن في السير الكبير في رجل أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه يجوز أن يجعل في الحاج المنقطع به وهذا يدل على أن قوله تعالى وفي سبيل الله قد أريد به عند محمد الحاج المنقطع به وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال الحج والعمرة من سبيل الله وروي عن أبي يوسف فيمن أوصى بثلث ماله في سبيل الله أنه الفقراء الغزاة فإن قيل فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم - لأغنياء الغزاء أخذ الصدقة بقوله لا تحل لغني إلا في سبيل الله قيل له قد يكون الرجل غنيا في أهله وبلده بدار يسكنها وأثاث يتأثث به في بيته وخادم يخدمه وفرس يركبه وله فضل مائتي درهم أو قيمتها فلا تحل له الصدقة فإذا عزم على الخروج في سفر غزو واحتاج من آلات السفر والسلاح والعدة إلى ما لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فينفق الفضل عن أثاثه وما يحتاج إليه في مصره على السلاح والآلة والعدة فتجوز له الصدقة وجائز أن يكون الفضل عما يحتاج إليه من دابة الأرض

أو سلاحا أو شيئا من آلات السفر لا يحتاج إليه في المصر فيمنع ذلك جواز إعطائه الصدقة إذا كان ذلك يساوي مائتي درهم وإن هو خرج للغزو فاحتاج إلى ذلك جاز أن يعطى من الصدقة وهو غني في هذا الوجه فهذا معنى قوله ص - الصدقة تحل للغازي الغني قوله تعالى وابن السبيل هو المسافر المنقطع به يأخذ من الصدقة وإن كان له مال في بلده وكذلك روي عن مجاهد وقتادة وأبي جعفر وقال بعض المتأخرين هو من يعزم على السفر وليس له ما يحتمل به وهذا خطأ لأن السبيل هو الطريق فمن لم يحصل في الطريق لا يكون ابن السبيل ولا يصير كذلك بالعزيمة كما لا يكون مسافر بالعزيمة وقال تعالى ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا

قال
ابن عباس هو المسافر لا يجد الماء فيتيمم فكذلك ابن السبيل هو المسافر وجميع من يأخذ الصدقة من هذه الأصناف فإنما يأخذ صدقة بالفقر والمؤلفة قلوبهم والعاملون عليها لا يأخذونها صدقة وإنما تحصل الصدقة في يد الإمام للفقراء ثم يعطي الإمام المؤلفة منها لدفع أذيتهم عن الفقراء وسائر المسلمين ويعطيها العاملين عوضا من أعمالهم لا على أنها صدقة عليهم وإنما قلنا ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فبين أن الصدقة مصروفة إلى الفقراء فدل ذلك على أن أحدا لا يأخذها صدقة إلا بالفقر وإن الأصناف المذكورين إنما ذكروا بيانا لأسباب الفقر
باب الفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة
قال أبو بكر رحمه الله اختلف اهل العلم في المقدار الذي إذا ملكه الرجل دخل به في حد الغنى وخرج به من حد الفقير وحرمت عليه الصدقة فقال قوم إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة بذلك ومن كان عنده دون ذلك حلت له الصدقة واحتجوا بما رواه عبدالرحمن عن يزيد بن جابر قال حدثني ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي قال حدثني سهيل بن الحنظلة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم قلت يا رسول الله ما ظهر غنى قال أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم ويعشيهم وقال آخرون حتى يملك أربعين درهما أو عدلها من الذهب واحتجوا بما روى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - فسمعته يقول لرجل من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل

إلحافا والأوقية يومئذ أربعون درهما وقالت طائفة حتى يملك خمسين درهما أو عدلها من الذهب واحتجوا في ذلك بما روى الثوري عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبدالرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا يسئل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أوكدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة قيل يا رسول الله وما غناه قال خمسون درهما أو حسابها من الذهب وروى الحجاج عن الحسن بن سعد عن أبيه عن علي وعبدالله قالا لا تحل الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب وعن الشعبي قال لا يأخذ الصدقة من له خمسون درهما ولا نعطي منها خمسين درهما وقال آخرون حتى يملك مائتي درهم أو عدلها من عرض أوغيره فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرس وهو قول أصحابنا والدليل على ذلك ما روى أبو بكر الحنفي قال حدثنا عبدالله بن جعفر قال حدثني أبي عن رجل من مزينة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من سأل وله عدل خمس أواق سأل إلحافا ويدل عليه ما روى الليث بن سعد قال حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري عن شريك بن عبدالله بن أبي نمر أنه سمع أنس بن مالك يقول إن رجلا قال للنبي ص - آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا فقال اللهم نعم وروى يحيى بن عبدالله بن صيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم - حين بعث معاذا إلى اليمن قال له أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم وروى الأشعث عن ابن أبي جحيفة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

بعث ساعيا على الصدقة فأمره أن يأخذ الصدقة من أغنيائنا فيقسمها في
فقرائنا فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم - الناس صنفين فقراء وأغنياء وأوجب أخذ الصدقة من صنف الأغنياء وردها في الفقراء لم تبق ههنا واسطة بينهما ولما كان الغني هو الذي ملك مائتي درهم وما دونها لم يكن مالكها غنيا وجب أن يكون داخلا في الفقراء فيجوز له أخذها ولما اتفق الجميع على أن من كان له دون الغداء والعشاء تحل له الصدقة علمنا أنها ليست إباحتها موقوفة على الضرورة التي تحل معها الميتة فوجب اعتبار ما يدخل به في حد الغنى وهو أن يملك فضلا عما يحتاج إليه مما وصفنا مائتي درهم أو مثلها من عرض أو غيره وأما ملك الأربعين درهما والخسمين الدرهم على ما روي في الأخبار التي قدمنا فإن هذه الأخبار واردة في كراهة المسألة لا في تحريمها وقد تكره المسألة لمن عنده ما يعنيه في الوقت لا سيما في أول ما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم -
إلى المدينة

مع كثرة فقراء المسلمين وقلة ذات أيديهم فاستحب النبي صلى الله عليه وسلم -

لمن عنده ما يكفيه ترك المسألة ليأخذها من هو أولى منه ممن لا يجد شيئا
وهو نحو قوله ص - من استغنى أغناه الله ومن استعف أعفه الله ومن لا يسئلنا أحب إلينا ممن يسئلنا وقوله ص -
لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسئل الناس أعطوه أو منعوه وقد
روي عن فاطمة بنت الحسين عن الحسين بن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - للسائل حق وإن جاء على فرس فأمر النبي صلى الله عليه وسلم - بإعطاء السائل مع ملكه للفرس والفرس في أكثر الحال تساوي أكثر من أربعين درهما أو خمسين درهما وقد روى يحيى بن آدم قال حدثنا علي بن هاشم عن إبراهيم بن يزيد المكي عن الوليد بن عبيدالله عن ابن عباس قال سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن لي أربعين درهما أفمسكين أنا قال نعم وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن يوسف المطوعي قال حدثنا أبو موسى الهروي قال حدثنا المعافى قال حدثنا إبراهيم بن يزيد الجزري قال حدثنا الوليد بن عبدالله بن أبي مغيث عن ابن عباس قال قال رجل يا رسول الله عندي أربعون درهما أمسكين أنا قال نعم فأباح له الصدقة مع ملكه لأربعين درهما حين سماه مسكينا إذ كان الله قد جعل الصدقة للمساكين وروى أبو يوسف عن غالب بن عبيدالله عن الحسن قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقبل أحدهم الصدقة وله من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم وروى الأعمش عن إبراهيم قال كانوا لا يمنعون الزكاة من له من البيت والخادم وروى شعبة عن قتادة عن الحسن قال من له مسكن وخادم أعطي من الزكاة وروى جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال يعطى من له دار وخادم وفرس وسلاح يعطى من إذا لم يكن له ذلك الشيء واحتاج إليه وقد اختلف في ذلك من وجه آخر فقال قائلون من كان قويا مكتسبا لم تحل له الصدقة وإن لم يملك شيئا واحتجوا بما روى أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن سالم بن ابي الجعد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ورواه أبو بكر بن عياش أيضا عن أبي جعفر عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
مثله وروى سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبدالله بن عمرو عن النبي
ص - قال لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب وهذا عندنا على وجه الكراهة لا على جهة التحريم على النحو الذي ذكرنا في كراهة المسألة فإن قيل قوله لا تحل الصدقة لغني على

وجه التحريم وامتناع جواز إعطائه الزكاة كذلك القوي المكتسب قيل له يجوز أن يريد الغني الذي يستغني به عن المسألة وهو أن يكون له أقل من مائتي درهم لا الغني الذي يجعله في حيز من يملك ما تجب في مثله الزكاة إذ قد يجوز أن يسمى غنيا لاستغنائه بما يملكه عن المسألة ولم يرد به الغني الذي يتعلق بملك مثله وجوب الغنى فكان قوله لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي على وجه الكراهة للمسألة لمن كان في مثل حاله وعلى أن حديث أبي هريرة هذا في قوله لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي مختلف في رفعه فرواه أبو بكر بن عياش مرفوعا على ما قدمنا ورواه أبو يوسف عن حصين عن أبي حازم عن أبي هريرة من قوله غير مرفوع وحديث عبدالله بن عمرو رواه شعبة والحسن بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبدالله بن عمرو موقوفا عليه من قوله وقال لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي ورواه سفيان عن سعد بن إبراهيم عن ريحان بن يزيد عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا تحل الصدقة لغني ولا لقوي مكتسب فاختلفوا في رفعه وظاهر قوله
تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين عام في سائرهم من قدر منهم على الكسب ومن لم يقدر وكذلك قوله تعالى في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم يقتضي وجوب الحق للسائل القوي المكتسب إذ لم تفرق الآية بينه وبين غيره ويدل أيضا قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ولم يفرق بين القوي المكتسب وبين من لا يكتسب من الضعفاء فهذه الآيات كلها قاضية ببطلان قول القائل بأن الزكاة لا تعطى للفقير إذا كان قويا مكتسبا ولا يجوز تخصيصها بخبر أبي هريرة وعبدالله بن عمرو اللذين ذكرنا لاختلافهم في رفعه واضطراب متنه لأن بعضهم يقول قوي مكتسب وبعضهم لذي مرة سوي وقد رويت أخبار هي أشد استفاضة وأصح طرقا من هذين الحديثين معارضة لهما منها حديث أنس وقبيصة بن المخارق أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن الصدقة لا تحل إلا في إحدى ثلاث فذكر إحداهن فقر مدقع وقال أو رجل أصابته فاقة أو رجل أصابته جائحة ولم يشرط في شيء منها عدم القوة والعجز عن الاكتساب ومنها حديث سليمان أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - صدقة فقال لأصحابه كلوا ولم يأكل ومعلوم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
كانوا أقوياء مكتسين ولم يخص النبي ص
- بها من كان منهم زمنا أو عاجزا عن

الاكتساب ومنها حديث عروة بن الزبير عن عبيدالله بن عدي بن الخيار أن رجلين من العرب حدثاه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم - فسألاه من الصدقة فصعد فيهما البصر وصوبه فرآهما جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب فلما

قال
لهما إن شئتما أعطيتكما ولو كان محرما ما أعطاهما مع ما ظهر له من جلدهما وقوتهما وأخبر مع ذلك أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب فدل على أنه أراد بذلك كراهة المسألة ومحبة النزاهة لمن كان معه ما يغنيه أو قدر على الكسب فيستغني به عنها وقد يطلق مثل هذا على وجه التغليظ لا على وجه تحقيق المعنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - ليس بمؤمن من يبيت شبعانا وجاره جائع وقال لا دين لمن لا أمانة له وقال ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ولم يرد به نفي المسكنة عنه رأسا حتى تحرم عليه الصدقة وإنما أراد ليس حكمه كحكم الذي لا يسئل وكذلك قوله ولا حق فيها لغني ولا لقوي مكتسب على معنى أنه ليس حقه فيها كحق الزمن العاجز عن الكسب ويدل عليه قوله ص - أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فعم سائر الفقراء الزمنى منهم والأصحاء وأيضا قد كانت الصدقات والزكاة تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيعطيها فقراء الصحابة من المهاجرين والأنصار وأهل الصفة وكانوا أقوياء مكتسبين ولم يكن يخص بها الزمنى دون الأصحاء وعلى هذا أمر الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا يخرجون صدقاتهم إلى الفقراء والأقوياء والضعفاء منهم لا يعتبرون منها ذوي العاهات والزمانة دون الأقوياء الأصحاء ولو كانت الصدقة محرمة وغير جائزة على الأقوياء المكتسبين الفروض منها أو النوافل لكان من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف للكافة عليه لعموم الحاجة إليه فلما لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف للكافة على حظر دفع الزكاة إلى الأقوياء من الفقراء والمتكسبين من أهل الحاجة لأنه لو كان منه توقيف للكافة لورد النقل به مستفيضا دل ذلك على جواز إعطائها الأقوياء المتكسبين من الفقراء كجواز إعطائها الزمنى والعاجزين عن الاكتساب
باب ذوي القربى الذين تحرم عليهم الصدقة
قال أصحابنا من تحرم عليهم الصدقة منهم آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبدالمطلب جميعا وحكى الطحاوي عنهم وولد عبدالمطلب ولم أجد ذلك عنهم رواية والذي تحرم عليهم من ذلك الصدقات المفروضة وأما التطوع فلا بأس

به وذكر الطحاوي أنه روي عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أن فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقات ذكره في أحكام القرآن قال وقال أبو يوسف ومحمد لا يدخلون قال أبو بكر المشهور عن أصحابنا جميعا من قدمنا ذكره من آل عباس وآل علي وآل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبدالمطلب وأن تحريم الصدقة عليهم خاص في المفروض منه دون التطوع وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أن الزكاة من بني هاشم تحل لبني هاشم ولا يحل ذلك من غيرهم لهم وقال مالك لا تحل الزكاة لآل محمد والتطوع يحل وقال الثوري لا تحل الصدقة لبني هاشم ولم يذكر فرقا بين النفل والفرض وقال الشافعي تحرم صدقة الفرض على بني هاشم وبني عبدالمطلب ويجوز صدقة التطوع على كل أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فإنه كان لا يأخذها والدليل على أن الصدقة المفروضة محرمة على بني هاشم
حديث ابن عباس قال ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بشيء دون الناس إلا بثلاث إسباغ الوضوء وأن لا نأكل الصدقة وأن لا ننزى الحمير على الخيل وروي أن الحسن بن علي أخذ تمرة من الصدقة فجعلها في فيه فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا نصر بن علي قال حدثنا أبي عن خالد بن قيس عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم - وجد تمرة فقال لولا إني أخاف أن تكون صدقة لأكلتها وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الإبل السائمة من كل أربعين ابنة لبون من أعطاها مؤتجرا فله أجرها ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله لا يحل لآل محمد منها شيء وروي من وجوه كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة لا تحل لآل محمد إنما هي أوساخ الناس فثبت بهذه الأخبار تحريم الصدقات المفروضات عليهم فإن قيل روى شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال قدم عير المدينة فاشترى منها النبي صلى الله عليه وسلم - متاعا فباعه بربح أواق فضة فتصدق بها على أرامل بني عبدالمطلب ثم قال لا أعود أن أشتري بعدها شيئا وليس ثمنه عندي فقد تصدق على هؤلاء وهن هاشميات قيل له ليس في الخبر أنهن كن هاشميات وجائز أن لا يكن هاشميات بل زوجات بني عبدالمطلب من غير بني عبدالمطلب بل عربيات من غيرهم وكن أزواجا لبني عبدالمطلب فماتوا عنهن وأيضا فإن ذلك كان صدقة تطوع وجائز أن يتصدق عليهم بصدقة التطوع وأيضا فإن حديث عكرمة الذي ذكرناه أولى لأن حديث ابن عباس أخبر

فيه بحكمه فيهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فالحظر متأخر للإباحة فهذا أولى وأما بنوا المطلب فليسوا من أهل بيت
النبي صلى الله عليه وسلم - لأن قرابتهم منه كقرابة بني أمية ولا خلاف أن بني أمية ليسوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم -
وكذلك بنوا المطلب فإن قيل لما أعطاهم النبي ص
- من الخمس سهم ذوي القربى كما أعطى بني هاشم ولم يعط بني أمية دل ذلك على أنهم بمنزلة بني هاشم في تحريم الصدقة قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يعطهم للقربة فحسب لأنه لما قال عثمان بن عفان وجبير بن مطعم يا رسول الله أما بنوا هاشم فلا ننكر فضلهم لقربهم منك وأما بنوا المطلب فنحن وهم في النسب شيء واحد فأعطيتهم ولم تعطنا فقال ص - إن بني المطلب لم تفارقني في جاهلية ولا إسلام فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه لم يعطهم بالقرابة فحسب بل بالنصرة والقرابة ولو كانت إجابتهم إياه ونصرتهم له في الجاهلية والإسلام أصلا لتحريم الصدقة لوجب أن يخرج منها آل أبي لهب وبعض آل الحارث بن عبدالمطلب من أهل بيته لأنهم لم يجيبوه وينبغي أن لا تحرم على من ولد في الإسلام من بني أمية لأنهم لم يخالفوه وهذا ساقط وأيضا فإن سهم الخمس إنما يستحقه خاص منهم وهو موكول إلى اجتهاد الإمام ورأيه ولم يثبت خصوص تحريم الصدقة في بعض آل النبي صلى الله عليه وسلم - وأيضا فليس استحقاق سهم من الخمس أصلا لتحريم الصدقة لأن اليتامى والمساكين وابن السبيل يستحقون سهما من الخمس ولم تحرم عليهم الصدقة فدل على أن استحقاق سهم من الخمس ليس بأصل في تحريم الصدقة واختلف في الصدقة على موالي بني هاشم وهل أريدوا بآية الصدقة فقال أصحابنا والثوري مواليهم بمنزلتهم في تحريم الصدقات المفروضات عليهم وقال مالك بن أنس لا بأس بأن يعطي مواليهم والذي يدل على القول الأول حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم -
استعمل أرقم بن أرقم الزهري على الصدقة فاستتبع أبا رافع فقال رسول الله
ص - إن الصدقة حرام على محمد وآل محمد وإن مولى القوم من أنفسهم وروي عن عطاء بن السائب عن أم كلثوم بنت علي عن مولى لهم يقال له هرمز أو كيسان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال له يا أبا فلان إنا أهل بيت لا نأكل الصدقة وإن مولى القوم من أنفسهم
فلا تأكل الصدقة وأيضا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم - الولاء لحمة كلحمة النسب وكانت الصدقة محرمة على من قرب نسبه من النبي صلى الله عليه وسلم -
وهن بنوا هاشم وجب أن يكون مواليهم بمثابتهم إذ كان النبي ص
- قد جعله لحمة كالنسب واختلف في جواز أخذ بني هاشم

للعمالة من الصدقة إذا عملوا عليها فقال أبو يوسف ومحمد من غير خلاف ذكراه عن أبي حنيفة لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ولا يأخذ عمالته منها قال محمد وإنما يصنع ما كان يأخذه علي بن ابي طالب رضي الله عنه في خروجه إلى اليمن على أنه كان يأخذ من غير الصدقة قال أبو بكر يعني بقوله لا يعمل على الصدقة على معنى أنه يعملها ليأخذ عمالتها فأما إذا عمل عليها متبرعا على أن لا يأخذ شيئا فهذا لا خلاف بين أهل العلم في جوازه وقال آخرون لا بأس بالعمالة لهم من الصدقة والدليل على صحة القول الأول ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد قال حدثنا مسدد قال حدثنا معمر قال سمعت أبي يحدث عن جيش عن عكرمة عن ابن عباس قال بعث نوفل بن الحارث ابنيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقال انطلقا إلى عمكما لعله يستعملكما على الصدقة فجاءا فحدثا نبي الله ص
- بحاجتهما فقال لهما نبي الله ص - لا يحل لكم أهل البيت من الصدقات شيء لأنها غسالة الأيدي إن لكم في خمس الخمس ما يغنيكما او يكفيكما وروي عن علي أنه قال للعباس سل النبي صلى الله عليه وسلم - أن يستعملك على الصدقة فسأله فقال ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس وروى الفضل بن العباس وعبدالمطلب بن ربيعة بن الحارث سألا النبي صلى الله عليه وسلم - أن يستعملهما على الصدقة ليصيبا منها فقال إن الصدقة لا تحل لآل محمد فمنعهما أخذ العمالة ومنع أبا رافع ذلك أيضا وقال مولى القوم منهم واحتج المبيحون لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم - بعث عليا إلى اليمن على الصدقة وراه جابر وأبو سعيد جميعا ومعلوم أنه قد كانت ولايته على الصدقات وغيرها ولا حجة في هذا لهم لأنه لم يذكر أن عليا أخذ عمالته منها وقد قال الله تعالى لنبيه ص -
خذ
من أموالهم صدقة ومعلوم أنه ص - لم يكن يأخذ من الصدقة عمالة وقد كان علي بن أبي طالب حين خرج إلى اليمن فولي القضاء والحرب بها فجائز أن يكون أخذ رزقه من مال الفيء لا من جهة الصدقة فإن قيل فقد يجوز أن يأخذ الغني عمالته منها وإن لم تحل له الصدقة فكذلك بنوا هاشم قيل له لأن الغني من أهل هذه الصدقة لو افتقر أخذ منها والهاشمي لا يأخذ منها بحال فإن قيل إن العامل لا يأخذ عمالته صدقة وإنما يأخذ أجرة لعمله كما روي أن بريرة كانت تهدي للنبي ص - مما يتصدق به عليها ويقول ص -
هي لها صدقة ولنا هدية قيل له الفصل بينهما أن الصدقة كانت تحصل في ملك
بريرة ثم تهديها للنبي ص - فكان بين ملك المتصدق وبين ملك النبي

ص -

واسطة ملك آخر وليس بين ملك المأخوذ منه وبين ملك العامل واسطة لأنها لا
تحصل في ملك الفقراء حتى يأخذها العامل
باب من لا يجوز أن يعطى من الزكاة من الفقراء
قال
الله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين فاقتضى ظاهره جواز إعطائها لمن شمله الاسم منهم قريبا كان أو بعيدا لولا قيام الدلالة على منع إعطاء بعض الأقرباء وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا جميعا لا يعطى منها والد وإن علا ولا ولدا وإن سفل ولا امرأة وقال مالك والثوري والحسن بن صالح لا يعطى من تلزمه نفقته وقال ابن شبرمة لا يعطى من الزكاة قرابته الذين يرثونه وإنما يعطى من لا يرثه وليس في عياله وقال الأوزاعي لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لم يكونوا من عياله ويتصدق على مواليه من غير زكاة ماله وقال الليث لا يعطى الصدقة الواجبة من يعول وقال المزني عن الشافعي في مختصره ويعطى الرجل من الزكاة من لا تلزمه نفقته من قرابته وهم من عدا الولد والوالد والزوجة إذا كانوا أهل حاجة فهم أحق بها من غيرهم وإن كان ينفق عليهم تطوعا قال أبو بكر فحصل من اتفاقهم أن الولد والوالد والزوجة لا يعطون من الزكاة ويدل عليه أيضا قوله ص - أنت ومالك لأبيك وقال إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فإذا كان مال الرجل مضافا إلىأبيه وموصوفا بأنه من كسبه فهو متى أعطى ابنه فكأنه باق في ملكه لأن ملك ابنه منسوب إليه فلم تحصل صدقة صحيحة وإذا صح ذلك في الإبن فالأب مثله إذ كل واحد منهما منسوب إلى الآخر من طريق الولادة وأيضا قد ثبت عندنا بطلان شهادة كل واحد منهما لصاحبه فلما جعل كل واحد منهما فيما يحصله بشهادته لصاحبه كأنه يحصله لنفسه وجب أن يكون إعطاؤه إياه الزكاة كتبقيته في ملكه وقد أخذ عليه في الزكاة إخراجها إلى ملك الفقير إخراجا صحيحا ومتى أخرجها إلى من لا تجوز له شهادته فلم ينقطع حقه عنه وهو بمنزلة ما هو باق في ملكه فلذلك لم يجزه ولهذه العلة لم يجز أن يعطي زوجته منها وأما اعتبار النفقة فلا معنى له لأن النفقة حق يلزمه وليست بآكد من الديون التي ثبتت لبعضهم على بعض فلا يمنع ثبوتها من جواز دفع الزكاة إليه وعموم الآية يقتضي جواز دفعها إليه باسم الفقر ولم تقم الدلالة على تخصيصه فلم يجز إخراجها لأجل النفقة من عمومها وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم - خير الصدقة

ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول وذلك عموم في جواز دفع سائر الصدقات إلى من يعول وخرج الولد والوالد والزوجان بدلالة فإن قيل إنما لم يجز إعطاء الوالد والولد لأنه تلزمه نفقته قيل له هذا غلط لأنه لو كان الولد والوالد مستغنيين بقدر الكفاف ولم تكن على صاحب المال نفقتهما لما جاز أن يعطيهما من الزكاة لأنهما ممنوعان منها مع لزوم النفقة وسقوطها فدل على أن المانع من دفعها إليهما أن كل واحد منهما منسوب إلى الآخر بالولادة وأن واحدا منهما لا يجوز شهادته للآخر وكل واحد من المعنيين علة في منع دفع الزكاة واختلفوا في إعطاء المرأة زوجها من زكاة المال قال أبو حنيفة ومالك لا تعطيه وقال أبو يوسف ومحمد والثوري والشافعي تعطيه والحجة للقول الأول إنه قد ثبت أن شهادة كل واحد من الزوجين لصاحبه غير جائزة فوجب أن لا يعطي واحد منهما صاحبه من زكاته لوجود العلة المانعة من دفعها في كل واحد منهما واحتج المجيزون لدفع زكاتها إليه بحديث زينب امرأة عبدالله بن مسعود حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم - عن الصدقة على زوجها عبدالله وعلى أيتام لأخيها في حجرها فقال لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة قيل له كانت صدقة تطوع وألفاظ الحديث تدل عليه وذلك لأنه ذكر فيه أنها قالت لما حث النبي صلى الله عليه وسلم - النساء على الصدقة وقال تصدقن ولو بحليكن جمعت حليا لي وأردت أن أتصدق فسألت النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا يدل على أنها كانت صدقة تطوع فإن احتجوا بما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا ابن ناجية قال حدثنا أحمد بن حاتم قال حدثنا علي بن ثابت قال حدثني يحيى بن أبي أنيسة الجزري عن حماد بن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله أن زينب الثقفية امرأة عبدالله سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقالت إن لي طوقا فيه عشرون مثقالا أفأؤدي زكاته قال نعم نصف مثقال قالت فإن في حجري بني أخ لي أيتاما أفأجعله أو أضعه فيهم قال نعم فبين في هذا الحديث أنها كانت من زكاتها قيل له ليس في هذا الحديث ذكر إعطاء الزوج وإنما ذكر فيه إعطاء بني أخيها ونحن نجيز ذلك وجائز أن تكون سألته عن صدقة التطوع على زوجها وبني أخيها فأجازها وسألته في وقت آخر عن زكاة الحلي ودفعها إلى بني أخيها فأجازها ونحن نجيز دفع الزكاة إلى بني الأخ واختلف في إعطاء الذمي من الزكاة فقال أصحابنا ومالك والثوري وابن شبرمة والشافعي لا يعطى الذمي من الزكاة وقال أصحابنا ومالك والثوري وابن شبرمة والشافعي لا يعطى

من الزكاة وقال عبيدالله بن الحسن إذا لم يجد مسلما أعطى الذمي فقيل له فإنه ليس بالمكان الذي هو به مسلم وفي موضع آخر مسلم فكأنه ذهب إلى إعطائها للذمي الذي هو بين ظهرانيهم والحجة للقول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فاقتضى ذلك أن يكون كل صدقة أخذها إلى الإمام مقصورة على فقراء المسلمين ولا يجوز إعطاؤها للكفار ولما اتفقوا علىأنه إذا كان هناك مسلمون لم يعط الكفار ثبت أن الكفار لا حظ لهم في الزكاة إذ لو جاز إعطاؤها إياهم بحال لجاز في كل حال لوجود الفقر كسائر الفقراء المسلمين واختلفوا في دفع الزكاة إلى رجل واحد فقال أصحابنا يجوز أن يعطي جميع زكاته مسكينا واحدا وقال مالك لا بأس أن يعطي الرجل زكاةالفطر عن نفسه وعياله مسكينا واحدا وقال المزني عن الشافعي وأقل ما يعطي أهل السهم من سهام الزكاة ثلاثة فإن أعطى اثنين وهو يجد الثالث ضمن ثلث سهم قال أبو بكر قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء اسم للجنس في المدفوع والمدفوع إليهم وأسماء الأجناس إذا أطلقت فإنها تتناول المسميات بإيجاب الحكم فيها على أحد معنيين إما الكل وإما أدناه ولا تختص بعدد دون عدد إلا بدلالة إذ ليس فيها ذكر العدد ألا ترى إلى قوله تعالى والسارق والسارقة وقوله الزانية والزاني وقوله وخلق الإنسان ضعيفا ونحوها من أسماء الأجناس أنها تتناول كل واحد من آحادها على حياله لا على طريق الجمع ولذلك قال أصحابنا فيمن قال إن تزوجت النساء أو اشتريت العبيد أنه على الواحد منهم ولو قال إن شربت الماء أو أكلت الطعام كان على الجزء منها لا على استيعاب جميع ما تحته وقالوا لو أراد بيمينه استيعاب الجنس كان مصدقا ولم يحنث أبدا إذ كان مقتضى اللفظ أحد معنيين إما استيعاب الجميع أو أدنى ما يقع عليه الاسم منه وليس للجميع حظ في ذلك فلا معنى لاعتبار العدد فيه وإذا ثبت ما وصفنا واتفق الجميع على أنه لم يرد بآية الصدقات استيعاب الجنس كله حتى لا يحرم واحد منهم سقط اعتبار العدد فيه فبطل قول من اعتبر ثلاثة منهم وأيضا لما يكن ذلك حقا لإنسان بعينه وإنما هو حق الله تعالى يصرف في هذا الوجه وجب أن لا يختلف حكم الواحد والجماعة في جواز الإعطاء ولأنه لو وجب اعتبار العدد لم يكن بعض الأعداد أولى بالاعتبار من بعض إذ لا يختص الاسم بعدد دون عدد وأيضا لما وجب اعتبار العدد وقد علمنا تعذر استيفائه استيفائه لأنهم لا يحصون دل على

سقوط اعتباره إذ كان في اعتباره ما يؤديه إلى إسقاطه وقد اختلف أبو يوسف ومحمد فيمن أوصى بثلث ماله للفقراء فقال أبو يوسف يجزيهم وضعه في فقير واحد وقال محمد لا يجزي إلا في اثنين فصاعدا شبهه أبو يوسف بالصدقات وهو أقيس واختلف في موضع أداء الزكاة فقال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد تقسم صدقة كل بلد في فقرائه ولا يخرجها إلى غيره وإن أخرجها إلى غيره فأعطاها الفقراء جاز ويكره وروى علي الرازي عن أبي سليمان عن ابن المبارك عن أبي حنيفة قال لا بأس بأن يبعث الزكاة من بلد إلى بلد آخر إلى ذي قرابته قال أبو سليمان فحدثت به محمد بن الحسن فقال هذا حسن وليس لنا في هذا سماع عن أبي حنيفة قال أبو سليمان فكتبه محمد بن الحسن عن ابن المبارك عن أبي حنيفة وذكر الطحاوي عن ابن أبي عمران قال أخبرنا أصحابنا عن محمد بن الحسن عن أبي سليمان عن عبدالله بن المبارك عن أبي حنيفة قال لا يخرج الرجل زكاته من مدينة إلى مدينة إلا لذي قرابته وقال أبو حنيفة في زكاة الفطر يؤديها حيث هو وعن أولاده الصغار حيث هم وزكاة المال حيث المال وقال مالك لا تنقل صدقة المال من بلد إلى بلد إلا أن تفضل فتنقل إلى أقرب البلدان إليهم قال ولو أن رجلا من أهل مصر حلت زكاته عليه وماله بمصر وهو بالمدينة فإنه يقسم زكاته بالمدينة ويؤدي صدقة الفطر حيث هو وقال الثوري لا تنقل من بلد إلى بلد إلا أن لا يجد من يعطيه وكره الحسن بن صالح نقلها من بلد إلى بلد وقال الليث فيمن وجبت عليه زكاة ماله وهو ببلد غير بلده أنه إن كانت رجعته إلى بلده قريبة فإنه يؤخر ذلك حتى يقدم بلده فيخرجها ولو أداها حيث هو رجوت أن تجزي وإن كانت غيبته طويلة وأراد المقام بها فإنه يؤدي زكاته حيث هو وقال الشافعي إن أخرجها إلى غير بلده لم يبن لي أن عليه الإعادة قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين يقتضي جواز إعطائها في غير البلد الذي فيه المال وفي أي موضع شاء ولذلك قال أصحابنا أي موضع أدى فيه أجزأه ويدل عليه أنا لم نر في الأصول صدقة مخصوصة بموضع حتى لا يجوز أداؤها في غيره ألا ترى أن كفارات الأيمان والنذور وسائر الصدقات لا يختص جوازها بأدائها في مكان دون غيره وروي عن طاوس أن معاذا قال لأهل اليمن ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم في الصدقة مكان الذرة والشعير فإنه أيسر عليكم وخير لمن بالمدينة من المهاجرين والأنصار فهذا يدل على أنه كان ينقلها من اليمن

إلى المدينة وذلك لأن أهل المدينة كانوا أحوج إليها من أهل اليمن وروى عدي بن حاتم أنه نقل صدقة طي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبلادهم بالبعد من المدينة ونقل أيضا عدي ابن حاتم والزبرقان بن بدر صدقات قومهما إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه من بلاد طي وبلاد بني تميم فاستعان بها على قتال أهل الردة وإنما كرهوا نقلها إلى بلد غيره إذا تساوى أهل البلدين في الحاجة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أعلمهم أن الله قد فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد في فقرائهم وذلك يقتضي ردها في فقراء المأخوذين منهم وإنما قال أبو حنيفة إنه يجوز له نقلها إلى ذي قرابته في بلد آخر لما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد قال حدثنا أبو سلمة قال حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب وهشام وحبيب عن محمد بن سيرين عن سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال صدقة الرجل على قرابته صدقة وصلة وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن زكريا قال حدثنا أحمد بن منصور قال حدثنا عثمان بن صالح حدثنا ابن لهيعة عن عطاء عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عن الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إن الصدقة على ذي القرابة تضاعف مرتين وقال النبي ص
- في حديث زينب امرأة عبدالله حين سألته عن صدقتها على عبدالله وأيتام بني أخ لها في حجرها فقال لك أجران أجر الصدقة وأجر القرابة وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا علي بن الحسين بن يزيد الصدائي قال حدثنا أبي قال حدثنا ابن نمير عن حجاج عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام قال قلت يا رسول الله أي الصدقة أفضل قال على ذي الرحم الكاشح فثبت بهذه الأخبار أن الصدقة على ذي الرحم المحرم وإن بعدت داره أفضل منها على الأجنبي فلذلك قال يجوز نقلها إلى بلد آخر إذا أعطاها ذا قرابته وإنما قال اصحابنا في صدقة الفطر إنه يؤديها عن نفسه حيث هو وعن رفيقه وولده حيث هم لأنها مؤداة عنهم فكما تؤدى زكاة المال حيث المال كذلك تؤدى صدقة الفطر حيث المؤدى عنه
فيما
يعطى مسكين واحد من الزكاة
كان أبو حنيفة يكره أن يعطي إنسان من الزكاة مائتي درهم وإن أعطيته أجزأك ولا بأس بأن تعطيه أقل من مائتي درهم قال وإن يغني بها إنسانا أحب إلي وروى هشام عن أبي يوسف في رجل له مائة وتسة وتسعون درهما فتصدق عليه بدرهمين أنه يقبل واحدا

ويرد واحدا فقد أجاز له أن يقبل تمام المائتين وكره أن يقبل ما فوقها وأما مالك بن أنس فإنه يرد الأمر فيه إلى الاجتهاد من غير توقيف وقول ابن شبرمة فيه كقول أبي حنيفة وقال الثوري لا يعطى من الزكاة أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما وهو قول الحسن بن صالح وقال الليث يعطى مقدار ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال والزكاة كثيرة ولم يحد الشافعي شيئا واعتبر ما يرفع الحاجة قال أبو بكر قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين ليس فيه تحديد مقدار ما يعطى كل واحد منهم وقد علمنا أنه لم يرد به تفريقها على الفقراء على عدد الرءوس لامتناع ذلك وتعذره فثبت أن المراد دفعها إلى بعض أي بعض كان وأقلهم واحد ومعلوم أن كل واحد من أرباب الأموال مخاطب بذلك فاقتضى ذلك جواز دفع كل واحد منهم جميع صدقته إلى فقير واحد قل المدفوع أو كثر فوجب بظاهر الآية جواز دفع المال الكثير من الزكاة إلى واحد من الفقراء من غير تحديد لمقداره وأيضا فإن الدفع والتمليك يصادفانه وهو فقير فلا فرق بين دفع القليل والكثير لحصول التمليك في الحالتين للفقير وإنما كره أبو حنيفة أن يعطي إنسانا مائتي درهم لأن المائتين هي النصاب الكامل فيكون غنيا مع تمام ملك الصدقة ومعلوم أن الله تعالى إنما أمر بدفع الزكوات إلى الفقراء لينتفعوا بها ويتملكوها فلا يحصل له التمكين من الإنتفاع إلا وهو غني فكره من أجل ذلك دفع نصاب كامل ومتى دفع إليه أقل من النصاب فإنه يملكه ويحصل له الإنتفاع بها وهو فقير فلم يكرهه إذ القليل والكثير سواء في هذا الوجه إذا لم يصر غنيا فالنصاب عند وقوع التمليك والتمكين من الإنتفاع وأما قول أبي حنيفة وأن يغني بها إنسان أحب إلي فإنه لم يرد به الغنى الذي تجب عليه به الزكاة وإنما أراد أن يعطيه ما يستغنى به عن المسئلة ويكف به وجهه ويتصرف به في ضرب من المعاش واختلف فيمن أعطى زكاته رجلا ظاهره الفقر فأعطاه على ذلك ثم تبين أنه غني فقال أبو حنيفة ومحمد يجزيه وكذلك إن دفعها إلى ابنه أو إلى ذمي وهو لا يعلم ثم علم أنه يجزيه وقال أبو يوسف لا يجزيه وذهب أبو حنيفة في ذلك إلى ما روي في حديث معن بن يزيد أن أباه أخرج صدقة فدفعها إليه ليلا وهو لا يعرفه فلما أصبح وقف عليه فقال ما إياك أردت واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال له لك ما نويت يا يزيد وقال لمعن لك ما أخذت ولم يسئله أنويتها من
الزكاة أو غيرها بل قال لك ما نويت فدل على جوازها إن نواها زكاة

وأيضا فإن الصدقة على هؤلاء فقد تكون صدقة صحيحة من وجه في غير حال الضرورة وهو أن يتصدق عليهم صدقة التطوع فأشبهت من هذا الوجه الصلاة إلى الكعبة إذا أداها باجتهاد صحيح ثم تبين أنه أخطأها كانت صلاته ماضية إذ كانت الصلاة إلى غير جهة الكعبة قد تكون صلاة صحيحة من غير ضرورة وهو المصلي تطوعا على الراحلة فكان إعطاء الزكاة باجتهاد مشبها لأداء الصلاة باجتهاد على النحو الذي ذكرنا فإن قيل إنما يشبه مسألة الزكاة من توضأ بماء يظنه طاهرا ثم علم أنه كان نجسا فلا تجزيه صلاته لأنه صار من اجتهاد إلى يقين كذلك مؤدي الزكاة إلى غني أو ابنه أو ذمي إذا علم فقد صار من اجتهاد إلى يقين فبطل حكم اجتهاده ووجبت عليه الإعادة قيل له ليس كذلك لأن الوضوء بالماء النجس لا يكون طهارة بحال فلم يكن للاجتهاد تأثير في جوازه وترك القبلة جائز في أحوال فمسئلتنا بما ذكرناه أشبه فإن قيل الصلاة قد تجوز في الثوب النجس في حال ومع ذلك فلو أداها باجتهاد منه في طهارة الثوب ثم تبين النجاسة بطلت صلاته ووجبت عليه الإعادة ولم يكن جواز الصلاة في الثوب النجس بحال موجبا لجواز أداءها بالاجتهاد متى صار إلى يقين النجاسة قيل له أغفلت معنى اعتلالنا لأنا قلنا إن ترك القبلة جائز من غير ضرورة كجواز إعطاء هؤلاء من صدقة التطوع من غير ضرورة فكانا متساويين من هذا الوجه ألا ترى أنه لا ضرورة بالمصلي على الراحلة في فعل التطوع كما لا ضرورة بالمتصدق صدقة التطوع على ما ذكرنا فلما استويا من هذا الوجه اشتبها في الحكم وأما الصلاة في الثوب النجس فغير جائزة إلا في حال الضرورة ويستوي فيه حكم مصلي الفرض أو متنفل فلذلك اختلفا
باب

دفع الصدقات إلى صنف واحد
قال الله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية فروى أبو داود الطيالسي قال حدثنا أشعث بن سعيد عن عطاء عن سعيد بن جبير عن علي وابن عباس قالا إذا أعطى الرجل الصدقة صنفا واحدا من الأصناف الثمانية أجزأه وروي مثل ذلك عن عمر بن الخطاب وحذيفة وعن سعيد بن جبير وإبراهيم وعمر بن عبدالعزيز وأبي العالية ولا يروى عن الصحابة خلافه فصار إجماعا من السلف لا يسع أحدا خلافه لظهوره واستفاضته فيهم من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم وروى الثوري عن إبراهيم بن

ميسرة عن طاوس عن معاذ بن جبل إنه كان يأخذ من أهل اليمن العروض في الزكاة ويجعلها في صنف واحد من الناس وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك ابن أنس وقال الشافعي تقسم على ثمانية أصناف إلا أن يفقد صنف فتقسم في الباقين لا يجزي غيره وهذا قول مخالف لقول من قدمنا ذكره من السلف ومخالف للآثار والسنن وظاهر الكتاب قال الله تعالى إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم وذلك عموم في جميع الصدقات لأنه اسم للجنس لدخول الألف واللام عليه فاقتضت الآية دفع جميع الصدقات إلى صنف واحد من المذكورين وهم الفقراء فدل على أن مراد الله تعالى في ذكر الأصناف إنما هو بيان أسياب الفقر لا قسمتها على ثمانية ويدل عليه أيضا قوله تعالى في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم وذلك يقتضي جواز إعطاء الصدقة هذين دون غيرهما وذلك ينفي وجوب قسمتها على ثمانية وأيضا فإن قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء عموم في سائر الصدقات وما يحصل منها في كل زمان وقوله تعالى للفقراء إلى آخره عموم أيضا في سائر المذكورين من الموجودين ومن يحدث منهم ومعلوم أنه لم يرد منهم قسمة كل ما يحصل من الصدقة في الموجودين ومن يحدث منهم لاستحالة إمكان ذلك إلى أن تقوم الساعة فوجب أن يجزي إعطاء صدقة عام واحد لصنف واحد وإعطاء صدقة عام ثان لصنف آخر ثم كذلك صدقة كل عام لصنف من الأصناف على ما يرى الإمام قسمته فثبت بذلك أن صدقة عام واحد أو رجل واحد غير مقسومة على ثمانية وأيضا لا خلاف أن الفقراء لا يستحقونها بالشركة وأنه جائز أن يحرم البعض منهم ويعطى البعض فثبت أن المقصد صرفها في بعض المذكورين فوجب أن يجوز إعطاؤها بعض الأصناف كما جاز إعطاؤها بعض الفقراء لأن ذلك لو كان حقا لهم جميعا لما جاز حرمان البعض وإعطاء البعض قال أبو بكر ويدل عليه ما روي في حديث سلمة بن صخر حين ظاهر من امرأته ولم يجد ما يطعم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم -

أن ينطلق إلى صاحب صدقة بني زريق ليدفع إليه صدقاتهم فأجاز النبي ص
- دفع صدقاتهم إلى سلمة وإنما هو من صنف واحد وفي حديث عبيدالله بن عدي بن الخيار في الرجلين اللذين سألا النبي صلى الله عليه وسلم -
من الصدقة فرآهما جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما ولم يسئلهما من أي
الأصناف هما ليحسبهما من الصنف ويدل على أنها مستحقة بالفقر قوله ص

أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم حقا في أموالهم يؤخذ من أغنيائهم ويرد في فقرائهم فأخبر أن المعنى الذي به يستحق جميع الأصناف هو الفقر لأنه عم جميع الصدقة وأخبر أنها مصروفة إلى الفقراء وهذا اللفظ مع ما تضمن من الدلالة يدل على أن المعنى المستحق به الصدقة هو الفقر وأن عمومه يقتضي جواز دفع جميع الصدقات إلى الفقراء حتى لا يعطي غيرهم بل ظاهر اللفظ يقتضي إيجاب ذلك لقوله ص - أمرت فإن قيل العامل يستحقه لا بالفقر قيل له لم يكونوا يأخذونها صدقة وإنما تحصل الصدقة للفقراء ثم يأخذها العامل عوضا من عمله لا صدقة كفقير تصدق عليه فأعطاها عوضا عن عمل عمل له وكما كان يتصدق على بريرة فتهديه للنبي ص - هدية للنبي وصدقة لبريرة فإن قيل فإن المؤلفة قلوبهم قد كانوا يأخذونها صدقة لا بالفقر قيل له لم يكونوا يأخذونها صدقة وإنما كانت تحصل صدقة للفقراء فيدفع بعضها إلى المؤلفة قلوبهم لدفع أذيتهم عن فقراء المسلمين وليسلموا فيكونوا قوة لهم فلم يكونوا يأخذونها صدقة بل كانت تحصل صدقة فتصرف في مصالح المسلمين إذ كان مال الفقراء جائزا صرفه في بعض مصالحهم إذ كان الإمام يلي عليهم ويتصرف في مصالحهم فأما ذكر الأصناف فإنما جاء به لبيان أسباب الفقر على ما بينا والدليل عليه أن الغارم وابن السبيل والغازي لا يستحقونها إلا بالحاجة والفقر دون غيرهما فدل على أن المعنى الذي به يستحقونها هو الفقر فإن قيل روى عبدالرحمن بن زياد بن أنعم عن زياد بن نعيم أنه سمع زياد بن الحارث الصدائي يقول أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم -

على قوم فقلت أعطني من صدقاتهم ففعل وكتب لي بذلك كتابا فأتاه رجل فقال
أعطني من الصدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الله عز و جل لم يرض بحكم نبي ولا غيره حتى حكم فيها من السماء فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك منها قيل له هذا يدل على صحة ما قلنا لأنه قال إن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك فبان أنها مستحقة لمن كان من أهل هذه الأجزاء وذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب للصدائي بشيء من صدقة قومه ولم يسئله من أي الأصناف هو فدل ذلك على أن قوله إن الله تعالى جزأها ثمانية أجزاء معناه ليوضع في كل جزء منها جميعها إن رأى ذلك الإمام ولا يخرجها عن جميعهم وأيضا فليس تخلو الصدقة من أن تكون مستحقة بالاسم أو بالحاجة أو بهما

جميعا وفاسد أن يقال هي مستحقة بمجرد الاسم لوجهين أحدهما أنه يوجب أن يستحقها كل غارم وكل ابن سبيل وإن كان غنيا وهذا باطل والوجه الثاني إنه كان يجب أن يكون لو اجتمع له الفقر وابن السبيل أن يستحق سهمين فلما بطل هذان الوجهان صح أنها مستحقة بالحاجة فإن قيل قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية يقتضي إيجاب الشركة فلا يجوز إخراج صنف منها كما لو أوصى بثلث ماله لزيد وعمرو وخالد لم يحرم واحد منهم قيل له هذا مقتضى اللفظ في جميع الصدقات وكذلك نقول فيعطى صدقة العام صنفا واحدا ويعطى صدقة عام آخر صنفا آخر على قدر اجتهاد الإمام ومجرى المصلحة فيه وإنما الخلاف بيننا وبينكم في صدقة واحدة هل يستحقها الأصناف كلها وليس في الآية بيان حكم صدقة واحدة وإنما فيها حكم الصدقات كلها فنقسم الصدقات كلها على ما ذكرنا فنكون قد وفينا الآية حقها من مقتضاها واستعملنا سائر الآي التي قدمنا ذكرها والآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقول السلف فذلك أولى من إيجاب قسمة صدقة واحدة على ثمانية ورد أحكام سائر الآي والسنن التي قدمنا وبهذا المعنى الذي ذكرنا انفصلت الصدقات من الوصية بالثلث لأعيان لأن المسلمين لهم محصورون وكذلك والثلث في مال معين فلا بد من أن يستحقوه بالشركة وأيضا فلا خلاف أن الصدقات غير مستحقة على وجه الشركة للمسلمين لاتفاقهم على جواز إعطاء بعض الفقراء دون بعض ولا جائز إخراج بعض الموصى لهم وأيضا لما جاز التفضيل في الصدقات لبعض على بعض ولم يجز ذلك في الوصايا المطلقة كذلك جاز بعض الأصناف كما جاز حرمان بعض الفقراء ففارق الوصايا من هذا الوجه وأيضا لما كانت الصدقة حقا لله تعالى لا لآدمي بدلالة أنه لا مطالبة لآدمي يستحقها لنفسه فأي صنف أعطى فقد وضعها موضعها والوصية لأعيان حق لآدمي لا مطالبة لغيرهم بها فاستحقوها كلهم كسائر الحقوق التي للآدميين ويدل على ذلك أن الله أوجب في الكفارة إطعام مساكين ولو أعطى الفقراء جاز فكذلك جائز أن يعطى ما سمي للمساكين في آية الصدقات للفقراء والوصية مخالفة لذلك لأنه لو أوصى لزيد لم يعط عمرو
قوله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك يقولون هو صاحب أذن يصغي إلى كل أحد وقيل إن أصله من أذن يأذن إذا سمع قول الشاعر

في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ماذي مشار ...

ومعناه أذن صلاح لكم لا أذن شر وقوله
يؤمن للمؤمنين قال ابن عباس يصدق المؤمنين ودخول اللام ههنا كدخوله في قوله قل عسى أن يكون ردف لكم ومعناه ردفكم وقيل إنما أدخلت اللام للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان فإذا قيل ويؤمن للمؤمنين لم يعقل به غير التصديق وهو كقوله تعالى قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم أي لن نصدقكم وكقوله وما أنت بمؤمن لنا ومن الناس من يحتج بذلك في قبول خبر الواحد لإخبار الله تعالى عن نبيه أنه يصدق المؤمنين فيما يخبرونه به وهذا لعمري يدل على قبوله في أخبار المعاملات فأما أخبار الديانات وأحكام الشرع فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم -
محتاجا إلى أن يسمعها من أحد إذ كان الجميع عنه يأخذون وبه يقتدون فيها
قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه قيل إنه إنما رد ضمير الواحد في قوله يرضوه لأن رضا الله ينتظم رضا الرسول إذ كل ما رضي الله فقد رضيه الرسول فترك ذكر ضمير الرسول لدلالة الحال عليه وقيل إن اسم الله تعالى لا يجمع مع اسم غيره في الكناية تعظيما بإفراد الذكر وقد روي أن رجلا خطب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال النبي ص
- قم فبئس الخطيب أنت فأنكر الجمع بين اسم الله وبين اسمه في الكناية وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
النهي عن جمع اسم غير الله إلى اسمه بحرف الجمع فقال لا تقولوا إن شاء
الله وشاء فلان ولكن قولوا إن شاء الله ثم شاء فلان قوله تعالى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم قال الحسن ومجاهد كانوا يحذرون فحملاه على معنى الإخبار عنهم بأنهم يحذرون وقال غيرهما صورته صورة الخبر ومعناه الأمر تقديره ليحذر المنافقون وقوله تعالى إن الله مخرج ما تحذرون إخبار من الله بإخراج إضمار السوء وإظهاره وهتك صاحبه بما يخذله الله به ويفضحه وذلك إخبار عن المنافقين وتحذير لغيرهم من سائر مضمري السوء وكاتميه وهو في معنى قوله والله مخرج ما كنتم تكتمون قوله تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب إلى قوله إ ن نعف فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه لأن هؤلاء المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوا لعبا فأخبر الله عن كفرهم باللعب بذلك وروي عن الحسن وقتادة أنهم قالوا في غزوة تبوك أيرجو هذا الرجل أن

يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فأخبر أن هذا القول كفر منهم على أي وجه قالوه من جد أو هزل فدل على استواء حكم الجاد والهازل في إظهار كلمة الكفر ودل أيضا على أن الاستهزاء بآيات الله وبشيء من شرائع دينه كفر فاعله قوله تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أضاف بعضهم إلى بعض باجتماعهم على النفاق فهم متشاكلون متشابهون في تعاضدهم على النفاق والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف كما يضاف بعض الشيء إليه لمشاكلته للجملة قوله تعالى ويقبضون أيديهم فإنه روي عن الحسن ومجاهد عن الإنفاق في سبيل الله وقال قتادة عن كل خير وقال غيره عن الجهاد في سبيل الله وجائز أن يكونو قبضوا أيديهم عن جميع ذلك فيكون المراد جميع ما احتمله اللفظ منه وقوله نسوا الله فنسيهم فإن معناه أنهم تركوا أمره والقيام بطاعته حتى صار ذلك عنده بمنزلة المنسي إذ لم يستعملوا منه شيئا كما لا يعمل بالمنسي وقوله فنسيهم معناه أنه تركهم من رحمته وسماه باسم الذنب لمقابلته لأنه عقوبة وجزاء على الفعل وهو مجاز كقولهم الجزاء بالجزاء وقوله وجزاء سيئة سيئة مثلها ونحو ذلك قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم روى عبدالله بن مسعود قال جاهدهم بيدك فإن لم تستطع فبلسانك وقلبك فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم وقال ابن عباس جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وقال الحسن وقتادة جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بإقامة الحدود وكانوا أكثر من يصيب الحدود قوله تعالى يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم فيه إخبار عن كفار المنافقين وكلمة الكفر كل كلمة فيها جحد لنعمة الله أو بلغت منزلتها في العظم وكانوا يطعنون في النبوة والإسلام ويقال إن القائل لكلمة الكفر الجلاس بن سويد بن الصامت قال إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن شر من الحمير ثم حلف بالله ما قال روي ذلك عن مجاهد وعروة وابن إسحاق وقال قتادة نزلت في عبدالله بن أبي بن سلول حين قال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأذل منها الأذل وقال الحسن كان جماعة من المنافقين قالوا ذلك وفيما قص الله علينا من شأن المنافقين وإخباره عنهم باعتقاد الكفر وقوله ثم تبقيته إياهم واستحياؤهم لما كانوا يظهرون للنبي ص -

والمسلمين من الإسلام دلالة على قبول توبة الزنديق المسر للكفر والمظهر
للإيمان قوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من

فضله لنصدقن إلى آخر الآيتين فيه الدلالة على أن من نذر نذرا فيه قربة لزمه الوفاء به لأن العهد هو النذر والإيجاب نحو قوله إن رزقني الله ألف درهم فعلي أن أتصدق منها بخمس مائة ونحو ذلك فانتظمت هذه الآية أحكاما منها أن من نذر نذرا لزمه الوفاء بنفس المنذر لقوله تعالى فلما آتاهم من فضله بخلوا به فعنفهم على ترك الوفاء بالمنذور بعينه وهذا يدل على بطلان قول من أوجب في شيء بعينه كفارة يمين وأبطل إيجاب إخراج المنذور بعينه ويدل أيضا على جواز تعليق النذر بشرط مثل أن يقول إن قدم فلان فلله علي صدقة أو صيام ويدل أيضا على أن النذر المضاف إلى الملك إيجاب في الملك وإن لم يكن الملك موجودا في الحال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم - لا نذر فيما لا يملك ابن آدم وجعله الله تعالى نذرا في الملك وألزمه الوفاء به فثبت بذلك أن النذر في غير ملك أن يقول لله علي أن أتصدق بثوب زيد أو نحوه وهو يدل على أن من قال لأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق أنه مطلق في نكاح لا قبل النكاح كما كان المضيف للنذر إلى الملك ناذرا في الملك ونظير ذلك في إيجاب نفس المنذور على موجبه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون فاقتضى ذلك فعل المقول بعينه وإخراج كفارة يمين ليس هو المقول بعينه ونحوه قوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم والوفاء بالعهد إنما هو فعل المعهود بعينه لا غير وقوله وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وقوله يوفون بالنذر فمدحهم على فعل المنذور بعينه ومن نظائره قوله تعالى وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها والابتداع قد يكون بالقول وبالفعل فاقتضى ذلك إيجاب كل ما ابتدعه الإنسان من قربة قولا أو فعلا لذم الله تارك ما ابتدع من القربة وقد روي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في النذر وهو قوله من نذر نذرا وسماه فعليه الوفاء به ومن نذر نذرا ولم
يسمه فعليه كفارة يمين قوله تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم قال الحسن بخلهم بما نذروه أعقبهم النفاق وقال مجاهد أعقبهم الله ذلك بحرمان التوبة كما حرم إبليس ومعناه نصب الدلالة على أنه لا يتوب أبدا ذما له على ما كسبته يده وقوله إلى يوم يلقونه قيل فيه يلقون جزاء بخلهم ومن ذهب إلى أن الله أعقبهم رد الضمير إلى اسم الله تعالى قوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم

فيه إخبار بأن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم -

لهم لا يوجب لهم المغفرة ثم قال إن
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذكر السبعين على وجه المبالغة في اليأس من المغفرة وقد روي في بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم -
لما نزلت هذه الآية قال لأزيدن على السبعين وهذا خطأ من راويه لأن الله
تعالى قد أخبر أنهم كفروا بالله ورسوله فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - ليسئل الله مغفرة الكفار مع علمه بأنه لا يغفر لهم وإنما الرواية الصحيحة فيه ما روي أنه قال لو علمت أني لو زدت على السبعين غفر لهم لزدت عليها وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -
استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير علم منه بنفاقهم فكانوا إذا
مات الميت منهم يسئلون رسول الله صلى الله عليه وسلم - الدعاء والاستغفار له فكان يستغفر لهم على أنهم مسلمون فأعلمه الله تعالى أنهم ماتوا منافقين وأخبر مع ذلك أن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم -
لهم لا ينفعهم قوله تعالى
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فيه الدلالة على معان أحدها فعل الصلاة على موتى المسلمين وحظرها على موتى الكفار ويدل أيضا على القيام على القبر إلى أن يدفن وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان يفعله وقد روى وكيع عن قيس بن مسلم عن عمير بن سعد أن عليا قام على قبر حتى دفن وروى سفيان الثوري عن أبي قيس قال شهدت علقمة قام على قبر حتى دفن وروى جرير بن حازم عن عبدالله بن عبيد بن عمير أن ابن الزبير كان إذا مات له ميت لم يزل قائما حتى ندفنه فهذا يدل على أن السنة لمن حضر عند القبر أن يقوم عليه حتى يدفن ومن الناس من يستدل بذلك على جواز الصلاة على القبر وجعل قوله ولا تقم على قبره قيام الصلاة على القبر وهذا خطأ من التأويل لأنه تعالى قال ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فنهى عن القيام على القبر كنهيه عن الصلاة على الميت عطفا عليه فغير جائز أن يكون المعطوف هو المعطوف عليه بعينه وأيضا فإن القيام ليس هو عبارة عن الصلاة وإنما يريد هذا القائل أن يجعله كناية عنها وغير جائز أن تذكر الصلاة بصريح اسمها ثم يعطف عليها القيام فيجعله كناية عنها فثبت بذلك أن القيام على القبر غير الصلاة وأيضا روى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لما توفي عبدالله بن أبي جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال هذا أبي يا رسول الله قد وضعناه على شفير قبره فقم فصل عليه فوثب
رسول الله صلى الله عليه وسلم - ووثبت معه فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وقام الناس خلفه تحولت وقمت في صدره وقلت يا رسول الله

على عبدالله بن أبي عدو الله القائل يوم كذا كذا وكذا أعد أيامه الخبيثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لتدعني يا عمر إن الله خيرني فاخترت فقال استغفر
لهم أو لا تستغفر لهم الآية فوالله لو أعلم يا عمر أني لو زدت على سبعين مرة أن يغفر له لزدت ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
معه وقام على قبره حتى دفن ثم لم يلبث إلا قليلا حتى أنزل الله ولا
تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره فوالله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - على أحد من المنافقين ولا قام على قبره بعده فذكر عمر في هذا الحديث الصلاة والقيام على القبر جميعا فدل على ما وصفنا وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم - أراد أن يصلي على عبدالله بن أبي فأخذ جبريل بثوبه فقال لا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره قوله تعالى ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله هذا عطف على ما تقدم من ذكر الجهاد في قوله لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم ثم عطف عليه قوله وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فذمهم على الاستئذان في التخلف عن الجهاد من غير عذر ثم ذكر المعذورون من المؤمنين فذكر الضعفاء وهم الذين يضعفون عن الجهاد بأنفسهم لزمانة أو عمى أو سن أو ضعف في الجسم وذكر المرضى وهم الذين بهم أعلال مانعة من النهوض والخروج للقتال وعذر الفقراء الذين لا يجدون ما ينفقون وكان عذر هؤلاء ومدحهم بشريطة النصح لله ورسوله لأن من تخلف منهم وهو غير ناصح لله ورسوله بل يريد التضريب والسعي في إفساد قلوب من بالمدينة لكان مذموما مستحقا للعقاب ومن النصح لله تعالى حث المسلمين على الجهاد وترغيبهم فيه والسعي في إصلاح ذات بينهم ونحوه مما يعود بالنفع على الدين ويكون مع ذلك مخلصا لعمله من الغش لأن ذلك هو النصح ومنه التوبة النصوح قوله ما على المحسنين من سبيل عموم في أن كل من كان محسنا في شيء فلا سبيل عليه فيه ويحتج به في مسائل مما قد اختلف فيه نحو من استعار ثوبا ليصلي فيه أو دابة ليحج عليها فتهلك فلا سبيل عليه في تضمينه لأنه محسن وقد نفى الله تعالى السبيل عليه نفيا عاما ونظائر ذلك مما يختلف في وجوب الضمان عليه بعد حصول صفة الإحسان له فيحتج به نافو الضمان ويحتج مخالفنا في إسقاط ضمان الجمل الصؤول إذا قتله من خشي ان يقتله بأنه محسن في قتله للجمل وقال الله تعالى ما على المحسنين من سبيل

ونظائره كثيرة قوله تعالى فأعرضوا عنهم إنهم رجس هو كقوله إنما المشركون نجس لأن الرجس يعبر به عن النجس ويقال رجس نجس على الاتباع وهذا يدل على وجوب مجانبة الكفار وترك موالاتهم ومخالطتهم وإيناسهم وتقويتهم وقوله تعالى يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين يدل على أن الحلف على الاعتذار ممن كان متهما لا يوجب الرضا عنه وقبول عذره لأن الآية قد اقتضت النهي عن الرضا عن هؤلاء مع أيمانهم وقال في هذه الآية يحلفون ولم يقل بالله وقال في الآية الأولى سيحلفون بالله فذكر اسم الله في الحلف في الأولى واقتصر في الآية الثانية على ذكر الحلف فدل على أنهما سواء وقال في موضع آخر يحلفون على الكذب وهم يعلمون وكذلك قال الله تعالى في القسم فقال في موضع وأقسموا بالله جهد أيمانهم وقال في موضع آخر إذ أقسموا ليصر منها مصبحين فاكتفى بذكر الحلف عن ذكر اسم الله تعالى وفي هذا دليل على أنه لا فرق بين قول القائل أحلف وبين قوله أحلف بالله وكذلك قوله أقسم وأقسم بالله قوله تعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أطلق هذا الخبر عن الأعراب ومراده الأعم الأكثر منهم وهم الذين كانوا يواطئون المنافقين على الكفر والنفاق وأخبر أنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله وذلك لقلة سماعهم للقرآن ومجالستهم للنبي ص -

فهم أجهل من المنافقين الذين كانوا بحضرة النبي ص
- لأنهم قد كانوا يسمعون القرآن والأحكام فكان الأعراب أجهل بحدود الشرائع من أولئك وكذلك هم الآن في الجهل بالأحكام والسنن وفي سائر الأعصار وإن كانوا مسلمين لأن من بعد من الأمصار وناء عن حضرة العلماء كان أجهل بالأحكام والسنن ممن جالسهم وسمع منهم ولذلك كره أصحابنا إمامة الأعرابي في الصلاة ويدل على أن إطلاق اسم الكفر والنفاق على الأعراب خاص في بعضهم دون بعض قوله تعالى في نسق التلاوة ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول الآية قال ابن عباس والحسن صلوات الرسول استغفاره لهم وقال قتادة دعاؤه لهم بالخير والبركة وقوله تعالى والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فيه الدلالة على تفضيل السابق إلى الخير على التالي لأنه داع إليه بسبقه والتالي تابع له فهو إمام له وله

مثل أجره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة وكذلك السابق إلى الشر أسوأ حالا من التابع له لأنه في معنى من سنه وقال الله تعالى وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم يعني أثقال من اقتدى بهم في الشر وقال الله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا وقال النبي صلى الله عليه وسلم - ما من قتيل ظلما إلا وعلى ابن آدم القاتل كفل من دمه لأنه أول من سن القتل وقد اختلف فيمن نزلت الآية فروي عن أبي موسى وسعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة أنها نزلت في الذين صلوا إلى القبلتين وقال الشعبي فيمن بايع بيعة الرضوان وقال غيرهم فيمن أسلم قبل الهجرة وقوله تعالى وممن حولكم من الأعراب منافقون الآية إلى قوله سنعذبهم مرتين قال الحسن وقتادة في الدنيا وفي القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم وهو عذاب جهنم وقال ابن عباس في الدنيا بالفضيحة لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

ذكر رجالا منهم بأعيانهم والأخرى في القبر وقال مجاهد بالقتل والسبي
والجوع وقوله تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم والاعتراف الإقرار بالشيء عن معرفة لأن الإقرار من قر الشيء إذا ثبت والاعتراف من المعرفة وإنما ذكر الاعتراف بالخطيئة عند التوبة لأن تذكر قبح الذنب أدعى إلى أخلاص التوبة منه وأبعد من حال ما يدعى إلى التوبة ممن لا يدرى ما هو ولا يعرف موقعه من الضرر فأصح ما يكون من التوبة أن تقع مع الاعتراف بالذنب ولذلك حكى الله تعالى عن آدم وحواء عند توبتهما ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وإنما قال عسى الله أن يتوب عليهم ليكونوا بين الطمع والإشفاق فيكونوا أبعد من الإتكال والإهمال وقال الحسن عسى من الله واجب وفي هذه الآية دلالة على أن المذنب لا يجوز له اليأس من التوبة وإنما يعرض ما دام يعمل مع الشر خير لقوله تعالى خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وإنه متى كان للمذنب رجوع إلى الله في فعل الخير وإن كان مقيما على الذنب إنه مرجو الصلاح مأمون خير العاقبة وقال الله تعالى ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فالعبد وإن عظمت ذنوبه فغير جائز له الانصراف عن الخير يائسا من قبول توبته لأن التوبة

مقبولة ما بقي في حال التكليف فأما من عظمت ذنوبه وكثرت مظالمه وموبقاته فأعرض عن فعل الخير والرجوع إلى الله تعالى يائسا من قبول توبته فإنه يوشك أن يكون ممن قال الله عز و جل كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
وروي أن الحسن بن علي قال لحبيب بن مسلمة الفهري وكان من أصحاب معاوية رب مسير لك في غير طاعة الله فقال أما مسيري إلى أبيك فلا فقال الحسن بلى ولكنك اتبعت معاوية على عرض من الدنيا يسير والله لئن قام بك معاوية في دنياك لقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا كنت ممن قال الله خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ولكنك أنت ممن قال الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون وهذه الآية نزلت في نفر تخلفوا عن تبوك قال ابن عباس كانوا عشرة فيهم أبو لبابة بن عبدالمنذر فربط سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد إلى أن نزلت توبتهم وقيل سبعة فيهم أبو لبابة قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ظاهره رجوع الكناية إلى المذكورين قبله وهم الذين اعترفوا بذنوبهم لأن الكناية لا تستغني عن مظهر مذكور قد تقدم ذكره في الخطاب فهذا هو ظاهر الكلام ومقتضى اللفظ وجائز أن يريد به جميع المؤمنين وتكون الكناية جميعا لدلالة الحال عليه كقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر يعني القرآن وقوله ما ترك على ظهرها من دابة وهو يعني الأرض وقوله حتى توارت بالحجاب يعني الشمس فكنى عن هذه الأمور من غير ذكرها مظهرة في الخطاب لدلالة الحال عليها كذلك قوله خذ من أموالهم صدقة يحتمل أن يريد به أموال المؤمنين وقوله تطهرهم وتزكيهم بها يدل على ذلك فإن كانت الكناية عن المذكورين في الخطاب من المعترفين بذنوبهم فإن دلالته ظاهرة على وجوب الأخذ من سائر المسلمين لاستواء الجميع في أحكام الدين إلا ما خصه الدليل وذلك لأن كل حكم حكم الله ورسوله به في شخص أو على شخص من عباده أو غيرها فذلك الحكم لازم في سائر الأشخاص إلا قام دليل التخصيص فيه وقوله تعالى تطهرهم يعني إزالة نجس الذنوب بما يعطى من الصدقة وذلك لأنه لما أطلق اسم النجس على الكفر تشبيها له بنجاسة الأعيان أطلق في مقابلته وإزالته اسم التطهير كتطهير نجاسة الأعيان بإزالتها وكذلك حكم الذنوب في إطلاق اسم النجس عليها وأطلق اسم التطهير على إزالتها بفعل ما يوجب تكفيرها

فأطلق اسم التطهير عليهم بما أخذه النبي صلى الله عليه وسلم -

من صدقاتهم ومعناه أنهم يستحقون ذلك بأدائها إلى النبي ص
- لأنه لو لم يكن إلا فعل النبي صلى الله عليه وسلم - في الأخذ لما استحقوا التطهير لأن ذلك ثواب لهم على طاعتهم وإعطائهم الصدقة وهم لا يستحقون التطهير ولا يصيرون أزكياء بفعل غيرهم فعلمنا أن في مضمونه إعطاء هؤلاء الصدقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فلذلك صاروا بها أزكياء متطهرين وقد اختلف في مراد الآية هل هي الزكاة المفروضة أو هي كفارة الذنوب التي أصابوها فروي عن الحسن أنها ليست بالزكاة المفروضة وإنما هي كفارة الذنوب التي أصابوها وقال غيره هي الزكاة المفروضة والصحيح انها الزكوات المفروضات إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس سوى زكوات الأموال وإذا لم يثبت بذلك خبر فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات وإنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوي الناس في الأحكام إلا من خصه دليل فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة على جميع الناس غير مخصوص بها قوم دون قوم وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذ ليس في أموال سائر الناس حق سوى الصدقات المفروضة وقوله تطهرهم وتزكيهم بها لا دلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة لأن الزكاة أيضا تطهر وتزكي مؤديها وسائر الناس من المكلفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم وقوله خذ من أموالهم عموم في سائر الأصناف ومقتض لأجل البعض منها إذ كانت من مقتضى التبعيض وقد دخلت على عموم الأموال فاقتضت إيجاب الأخذ من سائر أصناف الأموال بعضها ومن الناس من يقول إنه متى أخذ من صنف واحد فقد قضى عهدة الآية والصحيح عندنا هو الأول وكذلك كان يقول شيخنا أبو الحسن الكرخي قال أبو بكر وقد ذكر الله تعالى إيجاب فرض الزكاة في مواضع من كتابه بلفظ مجمل مفتقر إلى البيان في المأخوذ والمأخوذ منه ومقادير الواجب والموجب فيه ووقته وما يستحقه وما ينصرف فيه فكان لفظ الزكاة مجمل في هذه الوجوه كلها وقال تعالى خذ من أموالهم صدقة فكان الإجمال في لفظ الصدقة دون لفظ الأموال لأن الأموال اسم عموم في مسمياته إلا أنه قد ثبت أن المراد خاص في بعض الأموال دون جميعها والوجوب في وقت من الزمان دون سائره ونظيره قوله تعالى في أموالهم حق معلوم للسائل

والمحروم وكان مراد الله تعالى في جميع ذلك موكولا إلى بيان الرسول ص -

وقال تعالى
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثني محمد بن عبدالله الأنصاري قال حدثنا صرد بن أبي المنازل قال سمعت حبيبا المالكي قال قال رجل لعمران بن حصين يا أبا نجيد إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلا في القرآن فغضب عمران وقال للرجل أوجدتم في كل أربعين درهما درهما ومن كل كذا وكذا شاة شاة ومن كذا وكذا بعيرا كذا وكذا أوجدتم هذا في القرآن قال لا قال فعمن أخذتم هذا أخذتموه عنا وأخذناه عن نبي الله ص -
وذكر أشياء نحو هذا فمما نص الله تعالى عليه من أصناف الأموال التي تجب
فيها الزكاة الذهب والفضة بقوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم فنص على وجوب الحق فيهما بأخص أسمائهما تأكيدا وتبيينا ومما نص عليه زكاة الزرع والثمار في قوله وهو الذي أنشأ جنات معروشات إلى قوله كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده فالأموال التي تجب فيها الزكاة الذهب والفضة وعروض التجارة والإبل والبقر والغنم السائمة والزرع والثمر على اختلاف من الفقهاء في بعض ذلك وقد ذكر بعض صدقة الزرع والثمر في سورة الأنعام وأما المقدار فإن نصاب الورق مائتا درهم ونصاب الذهب عشرون دينارا وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - وأما الإبل فإن نصابها خمس منها ونصاب الغنم أربعون شاة ونصاب البقر ثلاثون وأما المقدار الواجب ففي الذهب والفضة وعروض التجارة ربع العشر إذا بلغ النصاب وفي خمس من الإبل شاة وفي أربعين شاة شاة وفي ثلاثين بقرة تبيع وقد اختلف في صدقة الخيل وسنذكره بعد هذا إن شاء الله وأما الوقت فهو حول الحول على المال مع كمال النصاب في ابتداء الحول وآخره وأما من تجب عليه فهو أن يكون المالك حرا بالغا عاقلا مسلما صحيح الملك لا دين عليه يحيط بماله أو بما لا يفضل عنه مائتا درهم حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا القعنبي قال قرأت على مالك بن أنس عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال سمعت أبا سعيد الخدري يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ليس فيما دون خمس ذود صدقة وليس فيما دون خمس أواق صدقة وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود المهري قال أخبرنا ابن

وهب قال أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة والحارث الأعور عن علي بن ابي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارا فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول وهذا الخبر في الحول وإن كان من أخبار الآحاد فإن الفقهاء قد تلقته بالقبول واستعملوه فصار في حيز المتواتر الموجب للعلم وقد روي عن ابن عباس في رجل ملك نصابا أنه يزكيه حين يستفيده وقال أبو بكر وعلي وعمر وابن عمر وعائشة لا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول ولما اتفقوا على أنه لا زكاة عليه بعد الأداء حتى يحول عليه الحول علمنا أن وجوب الزكاة لم يتعلق بالملك دون الحول وأنه بهما جميعا يجب وقد استعمل ابن عباس خبر الحول بعد الأداء ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم - بينه قبل الأداء وبعده بل نفى إيجاب الزكاة في سائر الأموال نفيا عاما إلا بعد حول الحول فوجب استعماله في كل نصاب قبل الأداء وبعده ومع ذلك يحتمل أن لا يكون ابن عباس أراد إيجاب الأداء بوجود ملك النصاب وأنه أراد جواز تعجيل الزكاة لأنه ليس في الخبر ذكر الوجوب واختلف فيما زاد على المائتين من الورق فروي عن علي وابن عمر فيما زاد على المائتين بحسابه وهو قول أبي يوسف ومحمد ومالك والشافعي وروي عن عمر أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين درهما وهو قول أبي حنيفة ويحتج من اعتبر الزيادة أربعين بما روى عبدالرحمن ابن غنم عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم -

وليس فيما زاد على المائتي درهم شيء حتى يبلغ أربعين درهما وحديث علي عن
النبي صلى الله عليه وسلم - هاتوا زكاة الرقة من كل أربعين درهما درهما وليس فيما دون خمس أواق صدقة فوجب استعمال قوله في كل أربعين درهم درهما على أنه جعله مقدار الواجب فيه كقوله ص - وإذا كثرت الغنم ففي كل مائة شاة شاة ويدل عليه من جهة النظر أن هذا مال له نصاب في الأصل فوجب أن يكون له عفو بعد النصاب كالسوائم ولا يلزم أبا حنيفة ذلك في زكاة الثمار لأنه لا نصاب له في الأصل عنده وأبو يوسف ومحمد لما كان عندهما أن لزكاة الثمار نصابا في الأصل ثم لم يجب اعتبار مقدار بعده بل الواجب في القليل والكثير كذلك الدراهم والدنانير ولو سلم لهما ذلك كان قياسه على السوائم أولى منه على الثمار لأن السوائم يتكرر وجوب الحق فيها بتكرر السنين

وما تخرج الأرض لا يجب فيه الحق إلا مرة واحدة ومرور الأحوال لا يوجب تكرار وجوب الحق فيه فإن قيل فواجب أن يكون ما يتكرر وجوب الحق فيه أولى بوجوبه في قليل ما زاد على النصاب وكثيره مما لا يتكرر وجوب الحق فيه قيل له هذا منتقض بالسوائم لأن الحق يتكرر وجوبه فيها ولم يمنع ذلك اعتبار العفو بعد النصاب ومما يدل على أن قياسه على السوائم أولى من قياسه على ما تخرجه الأرض أن الدين لا يسقط العشر وكذلك موت رب الأرض ويسقط زكاة الدراهم والسوائم فكان قياسها عليها أولى منه على ما تخرجه الأرض واختلف فيما زاد من البقر على أربعين فقال أبو حنيفة فيما زاد بحسابه وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء فيه حتى يبلغ ستين وروى أسد بن عمر عن ابي حنيفة مثل قولهما وقال ابن ابي ليلى ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي كقول أبي يوسف ومحمد ويحتج لأبي حنيفة بقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وذلك عموم في سائر الأموال لا سيما وقد اتفق الجميع على أن هذا المال داخل في حكم الآية مراد بها فوجب في القليل والكثير بحق العموم وقد روى عنه الحسن بن زياد أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسين فتكون فيها مسنة وربع مسنة ويحتج لقوله المشهور أنه لا يخلو من إثبات الوقص تسعا فينتقل إليه بالكسر وليس ذلك في فروض الصدقات أو يجعل الوقص تسعة عشر فيكون خلاف أوقاص البقر فلما بطل هذا وهذا ثبت القول الثالث وهو إيجابه في القليل والكثير من الزيادة وروي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة إنهم كانوا يقولون في خمس من البقر شاة وهو قول شاذ لاتفاق أهل العلم على خلافه وورود الآثار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم - ببطلانه وروى عاصم بن ضمرة عن علي في خمس وعشرين من الإبل خمس شياه وقد أنكره سفيان الثوري وقال علي أعلم من أن يقول هذا هذا من غلط الرجال وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - بالآثار المتواترة أن فيها ابنة مخاض ويجوز أن يكون علي بن أبي طالب أخذ خمس شياه عن قيمة بنت مخاض فظن الراوي أن ذلك فرضها عنه واختلف في الزيادة على العشرين ومائة من الإبل فقال أصحابنا جميعا تستقبل الفريضة وهو قول الثوري وقال ابن القاسم عن مالك إذا زادت على عشرين ومائة واحدة فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون وإن شاء حقتين وقال ابن شهاب إذا زادت واحدة ففيها ثلاث بنات لبون إلى أن

تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون يتفق قول ابن شهاب ومالك في هذا ويختلفان فيما بين واحد وعشرين ومائة إلى تسع وعشرين ومائة وقال الأوزاعي والشافعي ما زاد على العشرين والمائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة قال أبو بكر قد ثبت عن علي رضي الله عنه من مذهبه استئناف الفريضة بعد المائة والعشرين بحيث لا يختلف فيه وقد ثبت عنه أيضا أنه أخذ أسنان الإبل عن النبي صلى الله عليه وسلم -

حين سئل فقيل له هل عندكم شيء من رسول الله ص
- فقال ما عندنا إلا ما عند الناس وهذه الصحيفة فقيل له وما فيها فقال فيها أسنان الإبل أخذتها عن النبي صلى الله عليه وسلم -
ولما ثبت قول علي باستئناف الفريضة وثبت أنه أخذ أسنان الإبل عن النبي ص
- صار ذلك توقيفا لأنه لا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم -
وأيضا قد روي عن النبي ص
- في الكتاب الذي كتبه لعمرو بن حزم استئناف الفريضة بعد المائة والعشرين وأيضا غير جائز إثبات هذا الضرب من المقادير إلا من طريق التوقيف أو الإتفاق فلما اتفقوا على وجوب الحقتين في المائة والعشرين عند الزيادة لم يجز لنا إسقاط الحقتين لأنهما فرض قد ثبت بالنقل المتواتر واتفاق الأمة إلا بتوقيف أو اتفاق فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في آثار كثيرة وإذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل خمسي حقة وفي كل أربعين ابنة لبون قيل له قد اختلفت ألفاظه فقال في بعضها وإذا كثرت الإبل ومعلوم أن الإبل لا تكثر بزيادة الواحدة فعلم أنه لم يرد بقوله وإذا زادت الإبل إلا زيادة كثيرة يطلق على مثلها أن الإبل قد كثرت بها ونحن قد نوجب ذلك عند ضرب من الزيادة الكثيرة وهو أن تكون الإبل مائة وتسعين فتكون فيها ثلاث حقاق وبنت لبون وأيضا فموجب تغيير الفرض بزيادة الواحد لا يخلو من يغيره بالواحدة الزائدة فيوجب فيها وفي الأصل أو يغيره فيوجب في المائة والعشرين ولا يوجب في الواحدة الزائدة شيئا فإن أوجب في الزيادة مع الأصل ثلاث بنات لبون فهو لم يوجب في الأربعين ابنة لبون وإنما أوجبها في أربعين وفي الواحدة وذلك خلاف قوله ص - وإن كان إنما يوجب تغيير الفرض بالواحدة فيجعل ثلاث بنات لبون في المائة والعشرين والواحدة عفو فقد خالف الأصول إذ كان العفو لا يغير الفرض واختلف في فرائض الغنم فقال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي في مائتين وشاة ثلاث شياه إلى أربعمائة فتكون فيها أربع شياه وقال

الحسن بن صالح إذا كانت الغنم ثلثمائة شاة وشاة ففيها أربع شياه وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه وروى إبراهيم نحو ذلك وقد ثبتت آثار مستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم - بالقول الأول دون قول الحسن بن صالح واختلف في صدقة العوامل من الإبل والبقر فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ليس فيها شيء وقال مالك والليث فيها صدقة والحجة للقول الأول ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حسن بن إسحاق التستري قال حدثنا حمويه قال حدثنا سوار بن مصعب عن ليث عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ليس في البقر العوامل صدقة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي قال حدثنا زهير قال حدثنا أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة وعن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه قال زهير أحسبه قيل النبي صلى الله عليه وسلم -

قال وفي البقر في كل ثلاثين تبيع وفي الأربعين مسنة وليس على العوامل شيء
وأيضا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ليس في النخة ولا في الكسعة ولا في الجبهة صدقة وقال أهل اللغة النخة البقر العوامل والكسعة الحمير والجبهة الخيل وأيضا فإن وجوب الصدقة فيما عدا الذهب والفضة متعلق بكونه مرصدا للنماء من نسلها أو من أنفسها والسائمة يطلب نماؤها إما من نسلها أو من أنفسها والعاملة غير مرصدة للنماء وهي بمنزلة دور الغلة وثياب البذلة ونحوها وأيضا الحاجة إلى علم وجوب الصدقة في العوامل كهي إلى السائمة فلو كان من النبي صلى الله عليه وسلم -
توقيف في إيجابها في العاملة لورد النقل به متواترا في وزن وروده في
السائمة فلما لم يرد بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة نقل مستفيض علمنا أنه لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم -
توقيف في إيجابها بل قد وردت آثار عن النبي ص
- في نفي الصدقة عنها منها ما قدمناه ومنها ما روى يحيى بن أيوب عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن دينار أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ليس في ثور المثيرة صدقة وروي عن علي وجابر بن عبدالله وإبراهيم ومجاهد وعمر بن عبدالعزيز والزهري نفي صدقة البقر العوامل ويدل عليه حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب لأبي بكر الصديق كتابا في الصدقات هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - على المسلمين فمن سئلها من المؤمنين على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعطه صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين فيها شاة فنفى بذلك الصدقة عن غير السائمة لأنه ذكر السائمة ونفى الصدقة عما عداها فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في خمس

من الإبل شاة وذلك عموم يوجب في السائمة وغيرها قيل له يخصه ما ذكرنا ولم يقل بقول مالك في إيجابه الصدقة في البقر العوامل أحد قبله
فصل قال أصحابنا وعامة أهل العلم في أربعين شاة مسان وصغار مسنة وقال الشافعي لا شيء فيها حتى تكون المسان أربعين ثم يعتد بعد ذلك بالصغار ولم يسبقه إلى هذا القول أحد وقد روى عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

صدقات المواشي فقال فيه ويعد صغيرها وكبيرها ولم يفرق بين النصاب وما زاد
وأيضا الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم - في أربعين شاة شاة ومتى اجتمع الصغار والكبار أطلق على الجميع الاسم فيقال عنده أربعون شاة فاقتضى ذلك وجوبها في الصغار والكبار إذا اجتمعت وأيضا لم يختلفوا في الإعتداد بالصغار بعد النصاب لوجود الكبار معها فكذلك حكم النصاب واختلف في الخيل السائمة فأوجب أبو حنيفة فيها إذا كانت إناثا أو ذكورا وإناثا في كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعي لا صدقة فيها وروى عروة السعدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في الخيل السائمة في كل فرس دينار وحديث مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح
السمان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - ذكر الخيل وقال هي ثلاثة لرجل أجر ولآخر ستر وعلى رجل وزر فأما الذي هي له ستر فالرجل يتخذها تكرما وتجملا ولا ينسى حق الله في رقابها ولا في ظهورها فأثبت في الخيل حقا وقد اتفقوا على سقوط سائر الحقوق سوى صدقة السوائم فوجب أن تكون هي المرادة فإن قيل يجوز أن يريد زكاة التجارة قيل له قد سئل عن الحمير بعد ذكره الخيل فقال ما أنزل الله علي فيها إلا الآية الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره فلم يوجب فيها شيئا ولو اراد زكاة التجارة لأوجبها في الحمير فإن قيل في المال حقوق سوى الزكاة فيجوز أن يكون أراد حقا غيرها والدليل عليه حديث الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال في المال حق سوى الزكاة وتلا قوله تعالى ليس
البر أن تولوا وجوهكم وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر الإبل فقال إن فيها حقا فسئل عن ذلك فقال إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحة سمينها فجائز أن يكون الحل المذكور في الخيل مثل ذلك قيل له لو كان كذلك لما اختلف حكم الحمير والخيل

لأن هذا الحق لا يختلفان فيه فلما فرق النبي صلى الله عليه وسلم - بينهما دل على أنه لم يرد به ذلك وأنه إنما أراد الزكاة وعلى أنه قد روي أن الزكاة نسخت كل حق كان واجبا حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حسن بن إسحاق التستري قال حدثنا علي بن سعيد قال حدثنا المسيب بن شريك عن عبيد المكتب عن عامر عن مسروق عن علي قال نسخت الزكاة كل صدقة وأيضا قد روي أن أهل الشام سألوا عمر أن يأخذ الصدقة من خيلهم فشاور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فقال له علي لا بأس ما لم تكن جزية عليهم فأخذها منهم وهذا يدل على اتفاقهم على الصدقة فيها لأنه شاور الصحابة ومعلوم أنه لم يشاورهم في صدقة التطوع فدل على أنه أخذها واجبة بمشاروة الصحابة وإنما قال علي لا بأس مالم تكن جزية عليهم لأنه لا يؤخذ على وجه الصغار بل على وجه الصدقة واحتج من لم يوجبها بحديث على رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم -

عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق وحديث أبي هريرة عن النبي ص
- ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة وهذا عند أبي حنيفة على خيل الركوب ألا ترى أنه لم ينف صدقتها إذا كانت للتجارة بهذا الخبر واختلف في زكاة العسل فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي إذا كان في أرض العشر ففيه العشر وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي لا شيء فيه وروي عن عمر بن عبدالعزيز مثله وروي عنه الرجوع عن ذلك وأنه أخذ منه العشر حين كشف عن ذلك وثبت عنده ما روي فيه وروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أنه قال بلغني أن في العسل العشر قال ابن وهب وأخبرني عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد وربيعة بذلك وقال يحيى إنه سمع من يقول فيه العشر في كل عام بذلك مضت السنة قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة يوجب الصدقة في العسل إذ هو من ماله والصدقة إن كانت مجملة فإن الآية قد اقتضت إيجاب صدقة ما وإذا وجبت الصدقة كانت العشر إذ لا يوجب أحد غيره ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني قال حدثنا موسى بن أعين عن عمرو بن الحارث المصري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء هلال أحد بني متعان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بعشور نحل له وسأله أن يحمي واديا له يقال له سلبة فحمى له رسول الله ص
- ذلك الوادي فلما ولي عمر بن الخطاب كتب سفيان بن وهب إلى عمر بن الخطاب يسأله عن ذلك فكتب

عمر أن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فأحم له سلبة وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد قال حدثنا أبي قال حدثنا وكيع عن سعيد بن عبدالعزيز عن سليمان بن موسى عن أبي سيارة المتعي قال قلت يا رسول الله إن لي نحلا قال أد العشر قال فقلت يا رسول الله أحمها لي فحماها لي وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى قال أخبرني عبدالله بن عمرو عن عبدالكريم عن عمر بن شعيب قال كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز يأمرنا أن نعطي زكاة العسل ونحن بالطواف الشعر يسند ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن يعقوب إمام مسجد الأهواز قال حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني قال حدثنا أبو حفص العبدي قال حدثنا صدقة عن موسى بن يسار عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في كل عشرة أزقاق من العسل زق ولما أوجب النبي ص
- في العسل العشر دل ذلك على أنه أجراه مجرى الثمر وما تخرجه الأرض مما يجب فيه العشر فقال أصحابنا إذا كان في أرض العشر ففيه العشر وإذا كان في أرض الخراج فلا شيء فيه لأن الثمرة في أرض الخراج لا يجب فيها شيء وإذا كان في أرض العشر يجب فيها العشر فكذلك العسل وقد استقصينا القول في هذه المسائل ونظائرها من مسائل الزكاة في شرح مختصر أبي جعفر الطحاوي وإنما ذكرنا هنا جملا منها بما يتعلق الحكم يه بظاهر الآية وقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة يدل على أن أخذ الصدقات إلى الإمام وأنه متى أداها من وجبت عليه إلىالمساكين لم يجزه لأن حق الإمام قائم في أخذها فلا سبيل له إلى إسقاطه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -
يوجه العمال على صدقات المواشي ويأمرهم بأن يأخذوها على المياه في
مواضعها وهذا معنى ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم - لوفد ثقيف بأن لا يحشروا ولا يعشروا يعني لا يكلفون إحضار المواشي إلى المصدق ولكن المصدق يدور عليهم في مياههم ومظان مواشيهم فيأخذها منهم وكذلك صدقة الثمار وأما زكوات الأموال فقد كانت تحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان فقال هذا شهر زكواتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل لهم أداؤها إلى المساكين وسقط من أجل ذلك حق الإمام في أخذها لأنه عقد عقده إمام من أئمة العدل فهو نافذ على الأمة لقوله ص - ويعقد عليهم أولهم ولم يبلغنا أنه بعث سعاة على زكوات الأموال كما بعثهم

على صدقات المواشي والثمار في ذلك لأن سائر الأموال غير ظاهرة للإمام وإنما تكون مخبوأة في الدور والحوانيت والمواضع الحريزة ولم يكن جائزا للسعاة دخول أحرازهم ولم يجز أن يكلفوهم إحضارها كما لم يكلفوا إحضار المواشي إلى العامل بل كان على العامل حضور موضع المال في مواضعه وأخذ صدقته هناك فلذلك لم يبعث على زكاة الأموال السعاة فكانوا يحملونها إلى الإمام وكان قولهم مقبولا فيها ولما ظهرت هذه الأموال عند التصرف بها في البلدان أشبهت المواشي فنصب عليها عمال يأخذون منها ما وجب من الزكاة ولذلك كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عماله أن يأخذوا مما يمر به المسلم من التجارات من كل عشرين دينارا نصف دينار ومما يمر به الذمي يؤخذ منه من كل عشرين دينارا دينار ثم لا يؤخذ منه إلا بعد حول أخبرني بذلك من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وكتب عمر ابن الخطاب إلى عماله أن يأخذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر ومن الحربي العشر وما يؤخذ من المسلم من ذلك فهو الزكاة الواجبة تعتبر فيها شرائط وجوبها من حول ونصاب وصحة ملك فإن لم تكن الزكاة قد وجبت عليه لم تؤخذ منه فاحتذى عمر بن الخطاب في ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم - في صدقات المواشي وعشور الثمار والزروع إذ قد صارت أموالا ظاهرة يختلف بها في دار الإسلام كظهور المواشي السائمة والزروع والثمار ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ولا خالفه فصار إجماعا مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في حديث عمر بن عبدالعزيز الذي ذكرناه فإن قيل روى عطاء بن السائب عن
جرير بن عبدالله عن جده أبي أمه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ليس على المسلمين عشور إنما العشور على أهل الذمة وروى حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لوفد ثقيف لا تحشروا ولا تعشروا وروى إسرائيل عن إبراهيم بن المهاجر
عن عمرو بن حريث عن سعيد بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يا معشر العرب أحمدوا الله إذ دفع عنكم العشور وروي أن مسلم بن يسار قال لابن عمر أكان عمر يعشر المسلمين قال لا قيل له ليس المراد بذكر هذه العشور الزكاة وإنما هو ما كان يأخذه أهل الجاهلية من المكس وهو الذي أريد في حديث محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن شماسة عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لا يدخل الجنة صاحب مكس يعني عاشرا وإياه عنى الشاعر بقوله

وفي كل أموال العراق أتاوة ... وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم ...

فالذي نفاه النبي ص
- من العشر هو المكس الذي كان يأخذه أهل الجاهلية فأما الزكاة فليست بمكس وإنما هو حق وجب في ماله يأخذه الإمام فيضعه في أهله كما يأخذ صدقات المواشي وعشور الأرضين والخراج وأيضا يجوز أن يكون الذي نفي أخذه من المسلمين ما يكون مأخوذا على وجه الصغار والجزية ولذلك قال إنما العشور على أهل الذمة يعني ما يؤخذ على وجه الجزية ومن الناس من يحتج للفرق بين صدقات المواشي والزروع وبين زكاة الأموال أنه قال في الزكاة وآتوا الزكا ة ولم يشرط فيها أخذ الإمام لها وقال في الصدقات خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وقال إنما الصدقات للفقراء والمساكين إلى قوله والعاملين عليها ونصب العامل يدل على أنه غير جائز له إسقاط حق الإمام في أخذها وقال ص - أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فإنما شرط أخذه في الصدقات ولم يذكر مثله في الزكوات ومن يقول هذا يذهب إلى أن الزكاة وإن كانت صدقة فإن اسم الزكاة أخص بها والصدقة اسم يختص بالمواشي ونحوها فلما خص الزكاة بالأمر بالإيتاء دون أخذ الإمام وأمر في الصدقة بأن يأخذها الإمام وجب أن يكون أداء الزكوات موكولا إلى أرباب الأموال إلا ما يمر به على العاشر فإنه يأخذها باتفاق السلف ويكون أخذ الصدقات إلى الأئمة قوله تعالى وصل عليهم إن صلاتك سكن
لهم
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي أوفى قال كان النبي صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه رجل بصدقة ماله صلى عليه قال فأتيته بصدقة مال أبي فقال اللهم صل على آل أبي أوفى وروى ثابت بن قيس عن خارجة بن إسحاق عن عبدالرحمن بن جابر عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يأتيكم ركب مبغضون فإن جاءوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبغون فإن عدلوا فلأنفسهم وإن ظلموا فعليهم وارضوهم فإن تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم وروى سلمة ابن بشير قال حدثنا البختري قال أخبرني أبي أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها قالوا وما ثوابها قال يقول اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما وهذه الأخبار تدل على أن المراد بقوله تعالى وصل عليهم هو الدعاء وقوله سكن لهم يعني والله أعلم مما تسكن قلوبهم إليه وتطيب به نفوسهم فيسارعون إلى أداء الصدقات الواجبة رغبة في ثواب الله وفيما ينالونه من بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم - لهم

وكذلك ينبغي لعامل الصدقة إذا قبضها أن يدعو لصاحبها اقتداء بكتاب الله وسنة نبيه ص -

قوله
تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا الآية روي عن جماعة من ا السلف إنهم كانوا اثني عشر رجلا من الأوس والخزرج قد سموا استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم - في بناء مسجد لليلة الشاتية والمطر والحر ولم يكن ذلك قصدهم وإنما كان مرادهم التفريق بين المؤمنين وأن يتحزبوا فيصلي حزب في مسجد وحزب في مسجد آخر لتختلف الكلمة وتبطل الألفة والحال الجامعة وأرادوا به أيضا ليكفروا فيه بالطعن على النبي صلى الله عليه وسلم - والإسلام فيتفاوضون فيما بينهم من غير خوف من المسلمين لأنهم كانوا يخلون فيه فلا يخالطهم فيه غيرهم قوله تعالى وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل قال ابن عباس ومجاهد أراد به أبا عامر الفاسق وكان يقال له أبو عامر الراهب قبل وكان شديد العداوة للنبي ص -
عنادا وحسدا لذهاب رياسته التي كانت في الأوس قبل هجرة النبي ص
- إلى المدينة فقال للمنافقين سيأتي قيصر وآتيكم بجند فأخرج به محمدا وأصحابه فبنوا المسجد إرصادا له يعني مترقبين له وقد دلت هذه الآية على ترتيب الفعل في الحسن أو القبح بالإرادة وأن الإرادة هي التي تعلق الفعل بالمعاني التي تدعو الحكمة إلى تعليقه به أو تزجر عنها لأنهم لو أرادوا ببنائه إقامة الصلوات فيه لكان طاعة لله عز و جل ولما أراد به ما أخبر الله تعالى به عنهم من قصدهم وإرادتهم كانوا مذمومين كفارا قوله تعالى لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه الدلالة على أن المسجد المبني لضرار المؤمنين والمعاصي لا يجوز القيام فيه وأنه يجب هدمه لأن الله نهى نبيه ص -
عن القيام في هذا المسجد المبني على الضرار والفساد وحرم على أهله قيام
النبي صلى الله عليه وسلم - فيه إهانة لهم واستخفافا بهم على خلاف المسجد الذي أسس على التقوى وهذا يدل على أن بعض الأماكن قد يكون أولى بفعل الصلاة فيه من بعض وأن الصلاة قد تكون منهية عنها في بعضها ويدل على فضيلة الصلاة في المسجد بحسب ما بني عليه في الأصل ويدل على فضيلتها في المسجد السابق لغيره لقوله أسس على التقوى من أول يوم وهو معنى قوله تعالى أحق أن تقوم فيه لأن معناه أن القيام في هذا المسجد لو كان من الحق الذي يجوز لكان هذا المسجد الذي أسس على التقوى أحق بالقيام فيه من غيره وذلك

أن مسجد الضرار لم يكن مما يجوز القيام فيه لنهي الله تعالى نبيه عن ذلك فلو لم يكن المعنى ما ذكرنا لكان تقديره لمسجد أسس على التقوى أحق أن تقوم فيه من مسجد لا يجوز القيام فيه ويكون بمنزلة قوله فعل الفرض أصلح من تركه وهذا قد يسوغ إلا أن المعنى الأول هو وجه الكلام وقد اختلف في المسجد الذي أسس على التقوى ما هو فروي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب أنه مسجد المدينة وروي عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال هو مسجدي هذا وروي عن ابن عباس والحسن وعطية أنه مسجد قباء قوله
تعالى فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين فيه دلالة على أن فضيلة أهل المسجد فضيلة للمسجد وللصلاة فيه وقوله يحبون أن يتطهروا روي عن الحسن قال يتطهرون من الذنوب وقيل فيه التطهر بالماء حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال نزلت هذه الآية في أهل قباء
فيه رجال يحبون أن يتطهروا قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء والثاني أن الاستنجاء بالماء أفضل منه بالأحجار وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم -
بالاستنجاء بالأحجار قولا وفعلا وقد روي عن النبي ص
- أنه استنجى بالماء قوله تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم أطلق الشرى فيه على طريق المجاز لأن المشتري في الحقيقة هو الذي يشتري مالا يملك والله تعالى مالك أنفسنا وأموالنا ولكنه كقوله تعالى من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فسماه شرى كما سمى الصدقة قرضا لضمان الثواب فيهما به فأجرى لفظه مجرى ما لا يملكه العامل فيه استدعاء إليه وترغيبا فيه قوله تعالى السائحون قيل إنهم الصائمون روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال سياحة أمتي الصوم وروي عن عبدالله بن مسعود وابن عباس وسعيد بن
جبير ومجاهد أنه الصوم وقوله تعالى والحافظون لحدود الله هو أتم ما يكون من المبالغة في الوصف بطاعة الله والقيام بأوامره والانتهاء عن زواجره وذلك لأن لله تعالى حدودا في أوامره وزواجره وما ندب إليه ورغب فيه أو أباحه وما خير فيه وما هو الأولى في تحري موافقة أمر الله وكل هذه حدود الله فوصف تعالى هؤلاء القوم بهذا الوصف

ومن كان كذلك فقد أدى جميع فرائضه وقام بسائر ما أراده منه وقد بين في الآية التي قبلها المرادين بها وهم الصحابة الذين بايعوه تحت الشجرة وهي بيعة الرضوان بقوله تعالى فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ثم عطف عليه التائبون فقد بينت هذه الآية منزلة هؤلاء رضي الله عنهم من الدين والإسلام ومحلهم عند الله تعالى ولا يجوز أن يكون في وصف العبيد بالقيام بطاعة الله كلام أبلغ ولا أفخم من قوله تعالى والحافظون لحدود الله قوله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة والعسرة هي شدة الأمر وضيقه وصعوبته وكان ذلك في غزة تبوك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - خرج في شدة الحر وقلة من الماء والزاد والظهر فخص الذين اتبعوه في ساعة العسرة بذكر التوبة لعظم منزلة الاتباع في مثلها وجزيل الثواب الذي يستحق بها لما لحقهم من المشقة مع الصبر عليها وحسن البصيرة واليقين منهم في تلك الحال إذ لم تغيرهم عنها صعوبة الأمر وشدة الزمان وأخبر تعالى عن فريق منهم بمقاربة ميل القلب عن الحق بقوله من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم والزيغ هو ميل القلب عن الحق فقارب ذلك فريق منهم ولما فعلوا ولم يؤاخذهم الله به وقبل توبتهم وبمثل الحال التي فضل بها متبعية في حال العسرة على غيرهم فضل بها المهاجرين على الأنصار وبمثلها فضل السابقين على الناس لما لحقهم من المشقة ولما ظهر منهم من شدة البصيرة وصحة اليقين بالاتباع في حال قلة عدد من المؤمنين واستعلاء أمر الكفار وما كان يلحقهم من قبلهم من الأذى والتعذيب قوله تعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا قال ابن عباس وجابر ومجاهد وقتادة هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع قال مجاهد خلفوا عن التوبة وقال قتادة خلفوا عن غزوة تبوك وقد كانوا هؤلاء الثلاثة تخلفوا عن غزوة تبوك فيمن تخلف وكانوا صحيحي الإسلام فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم -

من تبوك جاء المنافقون فاعتذروا وحلفوا بالباطل وهم الذين أخبر الله عنهم
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم وقال يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين فأمر تعالى بالإعراض عنهم ونهى عن الرضا عنهم إذ كانوا كاذبين في اعتذارهم مظهرين لغير ما يبطنون وأما الثلاثة فإنهم كانوا مسلمين صدقوا عن أنفسهم وقالوا للنبي ص -
إنا تخلفنا من غير عذر وأظهروا التوبة والندم فقال لهم رسول

الله ص -

إنكم صدقتم عن أنفسكم فامضوا حتى أنظر ما ينزل الله تعالى فيكم فأنزل
الله في أمرهم التشديد عليهم وأمر نبيه ص - أن لا يكلمهم وأن يأمر المسلمين أن لا يكلموهم فأقاموا على ذلك نحو خمسين ليلة ولم يكن ذلك على معنى رد توبتهم لأنهم قد كانوا مأمورين بالتوبة وغير جائز في الحكمة أن لا تقبل توبة من يتوب في وقت التوبة إذا فعلها على الوجه المأمور به ولكنه تعالى أراد تشديد المحنة عليهم في تأخير إنزال توبتهم ونهى الناس عن كلامهم وأراد به استصلاحهم واستصلاح غيرهم من المسلمين لئلا يعودوا ولا غيرهم من المسلمين إلى مثله لعلم الله فيهم بموضع الاستصلاح وأما المنافقون الذين اعتذروا فلم يكن فيهم موضع استصلاح بذلك فلذلك أمر بالإعراض عنهم فثبت بذلك أن أمر الناس بترك كلامهم وتأخير إنزال توبتهم لم يكن عقوبة وإنما كان محنة وتشديدا في أمر التكليف والتعبد وهو مثل ما نقوله في إيجاب الحد الواجب على التائب مما قارب أنه ليس بعقوبة وإنما هو محنة وتعبد وإن كان الحد الواجب بالفعل بديا كان يكون عقوبة لو أقيم عليه قبل التوبة قوله تعالى حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت يعني مع سعتها وضاقت عليهم أنفسهم يعني ضاقت صدورهم بالهم الذي حصل فيها من تأخير نزول توبتهم ومن ترك النبي صلى الله عليه وسلم -
والمسلمين كلامهم ومعاملتهم وأمر أزواجهم باعتزالهم قوله تعالى
وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه يعني أنهم أيقنوا أن لا مخلص لهم ولا معتصم في طلب الفرج مما هم فيه إلا إلى الله وأنه لا يملك ذلك غيره ولا يجوز لهم أن يطلبوا ذلك إلا من قبله العبادة له والرغبة إليه فحينئذ انزل الله تعالى على نبيه قبول توبتهم وكذلك عادة الله تعالى فيمن انقطع إليه وعلم أنه لا كاشف لهمه غيره أنه سنيجيه ويكشف عنه غمه وكذلك حكى جل وعلا عن لوط عليه السلام في قوله ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب إلى أن قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد فتبرأ من الحول والقوة من قبل نفسه ومن قبل المخلوقين وعلم أنه لا يقدر على كشف ما هو فيه إلا الله تعالى حينئذ جاءه الفرج فقالوا إنا رسل ربك لن يصلوا إليك وقال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ومن ينو الانقطاع إليه وقطع العلائق دونه فمتى صار العبد بهذه المنزلة فقد جعل الله له مخرجا لعلمه بأنه لا ينفك من إحدى منزلتين إما أن يخلصه مما هو فيه وينجيه كما حكي عن الأنبياء عند بلواهم مثل قول أيوب

أني مسني الشيطان بنصب وعذاب فالتجأ إلى الله في الخلاص مما كان يوسوس إليه الشيطان بأنه لو كان له عند الله منزلة لما ابتلاه بما ابتلاه به ولم يكن صلوات الله عليه قابلا لوساوسه إلا أنه كان يشغل خاطره وفكره عن التفكر فيما هو أولى به فقال الله له عند ذلك اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب فكذلك كل من اتقى الله بأن التجأ إليه وعلم أنه القادر على كشف ضره دون المخلوقين كان على إحدى الحسنيين من فرج عاجل أو سكون قلب إلى وعد الله وثوابه الذي هو خير له من الدنيا وما فيها قوله تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا يعني والله أعلم تاب على هؤلاء الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيه ص -

ليتوب المؤمنون من ذنوبهم لعلمهم بأن الله تعالى قابل توبتهم قوله تعالى
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين روى ابن مسعود قال يعني لازم الصدق ولا تعدل عنه إذ ليس في الكذب رخصة وقال نافع والضحاك مع النبيين والصديقين بالعمل الصالح في الدنيا وقال تعالى في سورة البقرة ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر إلى قوله أولئك الذين صدقوا وهذه صفة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -
المهاجرين والأنصار ثم قال في هذه الآية وكونوا
مع الصادقين فدل على لزوم اتباعهم والاقتداء بهم لإخباره بأن من فعل ما ذكر في الآية فهم الذين صدقوا وقال في هذه الآية وكونوا مع الصادقين فدل على قيام الحجة علينا بإجماعهم وأنه غير جائز لنا مخالفتهم لأمر الله إيانا باتباعهم وقوله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة فيه مدح لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - الذين غزوا معه من المهاجرين والأنصار وإخبار بصحة بواطن ضمائرهم وطهارتهم لأن الله تعالى لا يخبر بأنه قد تاب عليهم إلا وقد رضي عنهم ورضي أفعالهم وهذا نص في رد قول الطاعنين عليهم والناسبين بهم إلى غير ما نسبهم الله إليه من الطهارة ووصفهم به من صحة الضمائر وصلاح السرائر رضي الله عنهم قوله تعالى ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله قد بينت هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته إلا المعذورين ومن أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في القعود ولذلك ذم المنافقين الذين كانوا يستأذنون رسول الله ص
- في القعود في الآيات المتقدمة وقوله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه أي يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه بل كان الفرض عليهم

أن يقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بأنفسهم وقد كان من المهاجرين والأنصار من فعل ذلك وبذل نفسه للقتل ليقى
بها رسول الله - قوله تعالى ولا يطؤن موطأ يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا فيه الدلالة على أن وطء ديارهم بمنزلة النيل منهم وهو قتلهم أو أخذ أموالهم أو إخراجهم عن ديارهم هذا كله نيل منهم وقد سوى بين وطء موضع يغيظ الكفار وبين النيل منهم فدل ذلك على أن وطء ديارهم وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم هو بمنزلة نيل الغنيمة والقتل والأسر وفي ذلك دليل على أن الاعتبار فيما يستحقه الفارس والراجل من سهامهما بدخول أرض الحرب لانحيازه الغنيمة والقتال إذ كان الدخول بمنزلة حيازة الغنائم وقتلهم وأسرهم ونظيره في الدلالة على ما ذكرنا قوله تعالى وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب فاقتضى ذلك اعتبار إيجاف الخيل والركاب في دار الحرب ولذلك قال علي رضي الله عنه ما وطئ قوم في عقر دارهم إلا ذلوا قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين روي عن ابن عباس أنه نسخ قوله انفروا ثبات أو انفروا جميعا وقوله انفروا خفافا وثقالا فقال تعالى ما كان لهم أن ينفروا في السرايا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وحده ولكن تبقى بقية لتتفقه ثم تنذر النافرة إذا رجعوا إليهم وقال الحسن لتتفقه الطائفة النافرة ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها المتخلفة وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية لأنه قال تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه وتنذر قومها إذا رجعت إليهم وعلى التأويل الأول الفرقة التي نفرت منها الطائفة هي التي تتفقه وتنذر الطائفة إذا رجعت إليها وهو بعيد من وجهين أحدهما أن حكم العطف أن يتعلق بما يليه دون ما يتقدمه فوجب على هذا أن يكون قوله منهم طائفة ليتفقهوا أن تكون الطائفة هي التي تتفقه وتنذر ولا يكون معناه من كل فرقة تتفقه في الدين تنفر منهم طائفة لأنه يقتضي إزالة ترتيب الكلام عن ظاهره وإثبات التقديم والتأخير فيه والوجه الثاني أن قوله ليتفقهوا في الدين الطائفة أولى منه بالفرقة النافرة منها الطائفة وذلك لأن نفر الطائفة للتفقه معنى مفهوم يقع النفر من أجله والفرقة التي منها الطائفة ليس تفقهها لأجل خروج الطائفة منها لأنها إنما تتفقه بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم -
ولزوم حضرته لا لأن الطائفة نفرت

منها فحمل الكلام على ذلك يبطل فائدة قوله تعالى ليتفقهوا في الدين فثبت أن التي تتفقه هي الطائفة النافرة من الفرقة المقيمة في بلدها وتنذر قومها إذا رجعت إليها وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم وأنه مع ذلك فرض على الكفاية لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه وأمر الباقين بالقعود لقوله وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقد روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - طلب العلم فريضة على كل مسلم وهذا عندنا ينصرف على معنيين أحدهما طلب العلم فيما يبتلى به الإنسان من أمور دينه فعليه أن يتعلمه مثل من لا يعرف حدود الصلاة وفروضها وحضور وقتها فعليه أن يتعلمها ومثل من ملك مائتي درهم فعليه أن يتعلم ما يجب عليه فيها وكذلك الصوم والحج وسائر الفروض والمعنى الآخر أنه فرض على كل مسلم إلا أنه على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين وفيه دلالة على لزوم خبر الواحد في أمور الديانات التي لا تلزم الكافة ولا تعم الحاجة إليها وذلك لأن الطائفة لما كانت مأمورة بالإنذار انتظم فحواه الدلالة عليه من وجهين أحدهما أن الإنذار يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذارا والثاني أمره إيانا بالحذر عند إنذار الطائفة لأن قوله تعالى لعلهم يحذرون معناه ليحذروا وذلك يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد لأن الطائفة اسم يقع على الواحد وقد روي في تأويل قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين أنه أراد واحدا وقال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ولا خلاف أن الإثنين إذا اقتتلا كانا مرادين بحكم الآية ولأن الطائفة في اللغة كقولك البعض والقطعة من الشيء وذلك موجود في الواحد فكان قوله من كل فرقة منهم طائفة بمنزلته لو قال بعضها أو شيء منها فدلالة الآية ظاهرة في وجوب قبول الخبر المقصر عن إيجاب العلم وإن كان التأويل ما روي عن ابن عباس أن الطائفة النافرة إنما تنفر من المدينة والتي تتفقه إنما هي القاعدة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم - فدلالتها أيضا قائمة في لزوم خبر الواحد لأن النافرة إذا رجعت أنذرتها التي لم تنفر وأخبرتها بما نزل من الأحكام وهي تدل أيضا على لزوم قبول خبر الواحد بالمدينة مع كون النبي صلى الله عليه وسلم - بها لإيجابها الحذر على السامعين بنذارة القاعدين قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة خص الأمر بالقتال للذين يلونهم من الكفار وقال في أول السورة فاقتلوا

المشركين حيث وجدتموهم وقال في موضع آخر وقاتلوا المشركين كافة فأوجب قتال جميع الكفار ولكنه خص بالذكر الذين يلوننا من الكفار إذ كان معلوما أنه لا يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد وإن الممكن منه هو قتال طائفة فكان من قرب منهم أولى بالقتال ممن بعد لأن الاشتغال بقتال من بعد منهم مع ترك قتال من قرب لا يؤمن معه هجم من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال من بعد وأيضا لا يصح تكليف قتال الأبعد إذ لا حد للأبعد يبتدأ منه القتال كما للأقرب وأيضا فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتال من قرب وقهرهم وإذلالهم فهذه الوجوه كلها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب وقوله تعالى وليجدوا فيكم غلظة فيه أمر بالغلظة على الكفار الذين أمرنا بقتالهم في القول والمناظرة والرسالة إذ كان ذلك يوقع المهابة لنا في صدورهم والرعب في قلوبهم ويستشعرون منا به شدة الاستبصار في الدين والجد في قتال المشركين ومتى أظهروا لهم اللين في القول والمحاورة استجرءوا عليهم وطمعوا فيهم فهذا حد ما أمر الله به المؤمنين من السيرة في عدوهم آخر سورة التوبة
سورة

يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي قيل في قوله تعالى لا يرجون لقاءنا وجهان أحدهما لا يخافون عقابنا لأن الرجاء يقام مقام الخوف ومثله قوله ما لكم لا ترجون لله وقارا قيل معناه لا تخافون لله عظمة والوجه الآخر لا تطمعون في ثوابنا كقولهم تاب رجاء لثواب الله وخوفا من عقابه والفرق بين الإتيان بغيره وبين تبديله أن الإتيان بغيره لا يقتضي رفعه بل يجوز بقاؤه معه وتبديله لا يكون إلا برفعه ووضع آخر مكانه أو شيء منه وكان سؤالهم لذلك على وجه التعنت والتحكم إذ لم يجدوا سببا آخر يتعلقون به ولم يجز أن يكون الأمر موقوفا على اختيارهم وتحكمهم لأنهم غير عالمين بالمصالح ولو جاز أن يأتي بغيره أو يبدله بقولهم لقالوا في الثاني مثله في الأول وفي الثالث مثله في الثاني فكان يصير دلائل الله تعالى تابعة لمقاصد السفهاء وقد قامت الحجة عليهم

بهذا القرآن فإن لم يكن يقنعهم ذلك مع عجزهم فالثاني والثالث مثله وربما احتج بهذه الآية بعض من يأبى جواز نسخ القرآن بالسنة لأنه قال قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي ومجيز نسخ القرآن بالسنة مجيز لتبديله من تلقاء نفسه وليس هذا كما ظنوا وذلك لأنه ليس في وسع النبي صلى الله عليه وسلم - تبديل القرآن بقرآن مثله ولا الإتيان بقرآن غيره وهذا الذي سأله المشركون ولم يسئلوه تبديل الحكم دون اللفظ والمستدل بمثله في هذا الباب مغفل وأيضا فإن نسخ القرآن لا يجوز عندنا إلا بسنة هي وحي من قبل الله تعالى قال الله عز و جل وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فنسخ حكم القرآن بالسنة إنما هو نسخ بوحي الله لا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم -

قوله تعالى قل
أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم الآية ربما احتج بعض الأغبياء من نفاة القياس بهذه الآية في إبطاله لأنه زعم أن القائس يحرم بقياسه ويحل وهذا جهل من قائله لأن القياس دليل الله تعالى كما أن حجة العقل دليل الله تعالى وكالنصوص والسنن كل هذه دلائل فالقائس إنما يتبع موضع الدلالة على الحكم فيكون الله هو المحلل والمحرم بنصبه الدليل عليه فإن خالف في أن القياس دليل الله عز و جل فليكن كلامه معنا في إثباته فإذا ثبت ذلك سقط سؤاله وإن لم يقم الدليل على إثباته فقد اكتفى في إيجاب بطلانه بعدم دلالة صحته فلا يعتقد أحد صحة القياس إلا وهو يرى أنه دليل الله تعالى وقد قامت بصحته ضروب من الشواهد ولا نعلق للآية في نفي القياس ولا إثباته وربما احتجوا أيضا في نفيه بقوله تعالى وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وهذا شبيه بما قبله لأن القائسين يقولون القول بالقياس مما أتانا الرسول به وأقام الله الحجة عليه من دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة فليس لهذه الآية تعلق بنفي القياس قوله تعالى ربنا ليضلوا عن سبيلك قيل فيه وجهان أحدهما أنها لام العاقبة كقوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا والآخر لئلا يضلوا عن سبيلك فحذفت لا كقوله تعالى ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما أي لئلا تضل وقوله أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أي لئلا تقولوا وقوله يبين الله لكم أن تضلوا معناه أن لا تضلوا قوله تعالى قد أجيبت دعوتكما أضاف الدعاء إليهما وقال أبو العالية وعكرمة ومحمد بن كعب والربيع بن موسى كان موسى يدعو وهرون يؤمن فسماهما الله داعيين وهذا يدل

على أن آمين دعاء وإذا ثبت أنه دعاء فإخفاؤه أفضل من الجهر به لقوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية آخر سورة يونس عليه السلام
ومن

سورة هود
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار فيه إخبار أن من عمل عملا للدنيا لم يكن له به في الآخرة نصيب وهو مثل قوله من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال بشر أمتي بالسناء والتمكين في الأرض فمن عمل منهم عملا للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب وهذا يدل على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمتى أخذ عليه الأجرة فقد خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة وقيل في قوله نوف إليهم أعمالهم فيها وجهان أحدهما أن يصل الكافر رحما أو يعطي سائلا أو يرحم مضطرا أو نحو ذلك من أعمال البر فيجعل الله له جزاء عمله في الدنيا بتوسعة الرزق وقرة العين فيما خول ودفع مكاره الدنيا روي عن مجاهد والضحاك والوجه الثاني من كان يريد الحياة الدنيا بالغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم - للغنيمة دون ثواب الآخرة فإنه يستحق نصيبه وسهمه من المغنم وهذا من صفة المنافقين فإن كان التأويل هو الثاني فإنه يدل على أن الكافر إذا شهد القتال مع المسلمين استحق من الغنيمة نصيبا وهذا يدل أيضا على أنه جائز الاستعانة بالكفار في قتال غيرهم من الكفار وكذلك قال أصحابنا إذا كانوا متى غلبوا كان حكم الإسلام هو الجاري عليهم دون حكم الكفر ومتى حضروا رضخ لهم وليس في الآية دلالة على أن الذي يستحقه الكافر بحضور القتال هو السهم أو الرضخ قوله تعالى ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم يحتج به في أن الشرط المعترض حكمه أن يكون مقدما على ما قبله في المعنى وهو قول القائل إن دخلت الدار إن كلمت زيدا فعبدي حر أنه لا يحنث حتى يكلم ثم يدخل لأن قوله إن كلمت شرط معترض على الشرط الأول قبل استتمام جوابه كقوله إن كان الله يريد أن يغويكم شرط اعترض على قوله

إن أردت أن أنصح لكم قبل استتمام الجواب فصار تقديره ولا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم إن أردت أن أنصح لكم وهذا المعنى فيه خلاف بين أبي يوسف ومحمد والفراء في مسائل قد ذكرناها في شرح الجامع الكبير وقوله يريد أن يغويكم أي يخيبكم من رحمته يقال غوى يغوي غيا ومنه فسوف يلقون غيا وقال الشاعر ... فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم من الغي لائما ...
وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال يقال غوىالرجل يغوي غيا إذا فسد عليه أمره أو فسد هو في نفسه قال ومنه قوله تعالى في قصة آدم وعصى آدم ربه فغوى أي فسد عليه عيشه في الجنة قال أبو بكر وهذا يؤول إلى المعنى الأول وذلك أن الخيبة فيها فساد العيش فقوله يغويكم يفسد عليكم عيشكم وأمركم بأن يخيبكم من رحمته قوله تعالى واصنع الفلك بأعيننا ووحينا يعني بحيث نراها فكأنها ترى بأعين على طريق البلاغة والمعنى بحفظنا إياك حفظ من يراك ويملك دفع السوء عنك وقيل بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بك وقوله ووحينا يعني على ما أوحينا إليك من صفتها وحالها ويجوز بوحينا إليك أن اصنعها وقوله تعالى فإنا نسخر منكم كما تسخرون مجاز وإنما أطلق ذلك لأن جزاء الذم على السخرية بالمقدار المستحق كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها وقوله تعالى قالوا إنما نحن مستهزءون الله يستهزئ بهم وقال بعضهم معناه فإنا نستجهلكم كما تستجهلون قوله تعالى ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي سمى ابنه من أهله وهذا يدل على أن من أوصى لأهله بثلث ماله أنه على من هو في عياله ابنا كان أو زوجة أو أخا أو أجنبيا وكذلك قال أصحابنا والقياس أن يكون للزوجة خاصة ولكن استحسن فجعله لجميع من تضمنه منزله وهو في عيال وقول نوح عليه السلام يدل على ذلك وقال الله تعالى في آية أخرى ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم فسمى جميع من ضمه منزله وسفينته من أهله وقول نوح عليه السلام إن ابني من أهلي يعني من أهلي الذي وعدتني أن تنجيهم فأخبر الله تعالى أنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم قوله تعالى إنه عمل غير صالح قيل فيه معناه ذو عمل غير صالح فجاء على المبالغة في الصفة كما قالت الخنساء ... ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار

تعني ذات إقبال وإدبار أو مقبلة ومدبرة وروي عن ابن عباس ومجاهد وإبراهيم قال سؤالك هذا عمل غير صالح وقرأ الكسائي إنه عمل غير صالح على الفعل ونصب غير وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك إنه كان ابنه لصلبه لأنه قال تعالى ونادى نوح ابنه وقال إنه ليس من أهلك يعني ليس من أهل دينك وروي عن الحسن ومجاهد أنه لم يكن ابنه لصلبه وكان لغير رشدة وقال الحسن وكان منافقا يظهر الإيمان ويسر الكفر وقيل إنه كان ابن امرأته وإنما كان نوح يدعوه إلى الركوب مع نهي الله عز و جل إياه أن يركب فيها كافر لأنه كان ينافق بإظهار الإيمان وقيل إنه دعاه على شريطة الإيمان كأنه قال آمن واركب معنا قوله تعالى هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها نسبهم إلى الأرض لأن أصلهم وهو آدم خلق من تراب الأرض والناس كلهم من آدم عليه السلام وقيل إن معناه إنه خلقكم في الأرض وقوله واستعمركم فيها يعني أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية وروي عن مجاهد معناه أعمركم بان جعلها لكم طول أعماركم وهذا كقول القائل أعمرتك داري هذه يعني ملكتك طول عمرك وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

من أعمر عمرى فهي له ولورثته من بعده والعمرى هي العطية إلا أن معناها
راجع إلى تمليكه طول عمره فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم - العمرى والهبة وأبطل الشرط في تمليكه عمره لأنهم كانوا يعقدون ذلك على أنه بعد موته يرجع إلى الواهب قوله تعالى قالوا سلاما قال سلام معنى الأول سلمت سلاما ولذلك نصبه والثاني جوابه عليكم سلام وكذلك رفعه ومعناهما واحد إلا أنه خولف بينهما لئلا يتوهم متوهم الحكاية وفيه الدلالة على أن السلام قد كان تحية أهل الإسلام وإنه تحية الملائكة وقوله تعالى قالت يا ويلتى ءألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب فإنها مع علمها بأن ذلك في مقدور الله تعجبت بطبع البشرية قبل الفكر والروية كما ولى موسى عليه السلام مدبرا حين صارت العصا حية حتى قيل له أقبل ولا تخف إنك من الآمنين وإنما تعجبت لأن إبراهيم عليه السلام يقال إنه كان له في ذلك الوقت مائة وعشرون سنة ولسارة تسعون سنة قوله تعالى أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت يدل على أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -
من أهل بيته لأن الملائكة قد سمت امرأة إبراهيم من أهل بيته وكذلك قال
الله تعالى في مخاطبة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم - في قوله

ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا إلى قوله وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت قد دخل فيه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -

لأن ابتداء الخطاب لهن قوله تعالى
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط يعني لما ذهب عنه الفزع جادل الملائكة حتى قالوا إنا إرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم فقال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله يروى ذلك عن الحسن وقيل إنه سألهم فقال أتهلكونهم إن كان فيها خمسون من المؤمنين قالوا لا ثم نزلهم إلى عشرة فقالوا لا يروى ذلك عن قتادة ويقال جادلهم ليعلم بأي شيء استحقوا عذاب الإستئصال وهل ذلك واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليقبلوا إلى الطاعة ومن الناس من يحتج بذلك في جواز تأخير البيان لأن الملائكة أخبرت أنها تهلك قوم لوط ولم تبين المنجين منهم ومع ذلك فإن إبراهيم عليه السلام جادلهم وقال لهم أتهلكونهم وفيهم كذا رجلا فيستدلون بذلك على جواز تأخير البيان وهذا ليس بشيء لأن إبراهيم سألهم عن الوجه الذي به استحقوا عذاب الإستئصال وهل ذلك واقع بهم لا محالة أو على سبيل التخويف ليرجعوا إلى الطاعة قوله تعالى أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء وإنما قيل أصلوتك تأمرك لأنها بمنزلة الآمر بالخير والناهي عن الشر كما قال تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر وجائز أن يكون أخبرهم بذلك في حال الصلاة فقال أصلوتك تأمرك بما ذكرت وعن الحسن أدينك يأمرك أي فيه الأمر بهذا قوله تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار والركون إلى الشيء هو السكون إليه بالأنس والمحبة فاقتضى ذلك النهي عن مجالسة الظالمين ومؤانستهم والإنصات إليهم وهو مثل قوله تعالى فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وقوله تعالى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون قيل فيه لا يهلكهم بظلم صغير يكون منهم وقيل بظلم كبير يكون من قليل منهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -
إن الله لا يهلك العامة بذنوب الخاصة وقيل لا يهلكهم وهو ظالم لهم كقوله
إن الله لا يظلم الناس شيئا وفيه إخبار بأنه لا يهلك القرى وأهلها مصلحون وقال تعالى في آية أخرى وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة فدل ذلك على أن الناس يصيرون إلى غاية الفساد عند اقتراب الساعة ولذلك يهلكهم الله وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم -
لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق قوله تعالى

ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة قال قتادة يجعلهم مسلمين وذلك بالإلجاء إلى الإيمان وإنما يكون الإلجاء بالمنع لأنهم لو راموا خلافه منعوا منه مع الاضطرار إلى حسنه وعظم المنفعة به قوله تعالى ولا يزالون مختلفين قال مجاهد وعطاء وقتادة والأعمش أي مختلفين في الأديان يهودي ونصراني ومجوسي ونحو ذلك من اختلاف المذاهب الفاسدة وروي عن الحسن في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض قوله تعالى إلا من رحم ربك إنما هو استثناء من المختلفين بالباطل بالإطلاق في الإيمان المؤدي إلى الثواب فإنه ناج من الاختلاف بالباطل قوله تعالى ولذلك خلقهم روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك خلقهم للرحمة وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وعطاء خلقهم على علم منه باختلافهم وهي لام العاقبة قالوا وقد تكون اللام بمعنى على كقولك أكرمتك على برك ولبرك بي آخر سورة هود عليه السلام
ومن

سورة يوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين فيه بيان صحة الرؤيا من غير الأنبياء لأن يوسف عليه السلام لم يكن نبيا في ذلك الوقت بل كان صغيرا وكان تأويل الكواكب أخوته والشمس والقمر أبويه وروي ذلك عن الحسن قوله تعالى لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا علم إنه إن قصها عليهم حسدوه وطلبوا كيده وهو أصل في جواز ترك إظهار النعمة وكتمانه عند من يخشى حسده وكيده وإن كان الله قد أمر بإظهاره بقوله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث قوله تعالى ويعلمك من تأويل الأحاديث فإن التأويل ما يؤول إليه بمعنى ويرجع إليه وتأويل الشيء هو مرجعه وقال مجاهد وقتادة تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا وقيل تأويل الأحاديث في آيات الله ودلائله على توحيده وغير ذلك من أمور دينه قوله تعالى إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا الآية تفاوضوا فيما بينهم وأظهروا الحسد الذي كانوا يضمرونه لقرب منزلته عند أبيهم دونهم وقالوا إن أبانا لفي ضلال مبين يعنون عن صواب الرأي لأنه كان أصغر منهم وكان عندهم أن الأكبر أولى بتقديم المنزلة من الأصغر ومع ذلك فإن الجماعة من البنين أولى بالمحبة

من الواحد وهو معنى قوله ونحن عصبة ومع إنهم كانوا أنفع له بتدبير أمر الدنيا لأنهم كانوا يقومون بأمواله ومواشيه فذهبوا إلى أن اصطفاءه إياه بالمحبة دونهم وتقديمه عليهم ذهاب عن الطريق الصواب قوله تعالى اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم الآية فإنهم تآمروا فيما بينهم على أحد هذين من قتل أو تبعيد له عن أبيه وكان الذي استجازوا ذلك واستجرءوا من أجله عليه قولهم وتكونوا من بعده قوما صالحين فرجوا التوبة بعد هذا الفعل وهو نحو قوله تعالى بل يريد الإنسان ليفجر أمامه قيل في التفسير أنه يعزم على المعصية رجاء التوبة بعدها فيقول أفعل ثم أتوب وفي ذلك دليل على أن توبة القاتل مقبولة لأنهم قالوا وتكونوا من بعده قوما صالحين وحكاه الله عنهم ولم ينكره عليهم قوله تعالى قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب لما تآمروا على أحد شيئين من قتل أو إبعاد عن أبيه أشار عليهم هذا القائل حين قالوا لا بد من أحد هذين بأنقص الشرين وهو الطرح في جب قليل الماء ليأخذه بعض السيارة وهم المسافرون فلما أبرموا التدبير وعزموا عليه نابوا للتلطف في الوصول إلى ما أرادوا فقالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف إلى آخر الآيتين وقوله تعالى أرسله معنا غدا يرتع ويلعب قيل في يرتع يرعى وقيل إن الرتع الإتساع في البلاد ويقال يرتع في المال أي هو يتسع به في البلاد واللعب هو الفعل المقصود به التفرج والراحة من غيره عاقبة له محمودة ولا قصد فيه لفاعله إلا حصول اللهو والفرح فمنه ما يكون مباحا وهو ما لا إثم فيه كنحو ملاعبة الرجل أهله وركوبه فرسه للتطرب والتفرج ونحو ذلك ومنه ما يكون محظورا وفي الآية دلالة على أن اللعب الذي ذكروه كان مباحا لولا ذلك لأنكره يعقوب عليه السلام عليهم فلما سألوه إرساله معهم قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون فذكر لهم حزنه لذهابهم به لبعده عن مشاهدته وإنه خائف مع ذلك أن يأكله الذئب فاجتمع عليه في هذه الحال شيآن الحزن والخوف فأجابوه بأنه يمتنع أن يأكله الذئب وهم جماعة وإن ذلك لو وقع لكانوا خاسرين قوله تعالى وأوحينا إليه لتنبئهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون قال ابن عباس لا يشعرون بأنه يوسف في وقت ينبئهم وكذلك قال الحسن أوحى الله إليه وهو في الجب فأعطاه النبوة وأخبره أنه ينبئهم بأمرهم هذا قوله تعالى وجاؤا أباهم عشاء يبكون
روي أن الشعبي كان جالسا

للقضاء فجاءه رجل يبكي ويدعي أن رجلا ظلمه فقال رجل بحضرته يوشك أن يكون هذا مظلوما فقال الشعبي أخوة يوسف خانوا وظلموا كذبوا وجاءوا أباهم عشاء يبكون فأظهروا البكاء لفقد يوسف ليبرئوا أنفهسم من الخيانة وأوهموه أنهم مشاركون له في المصيبة ويلقنوا ما كان أظهره يعقوب عليه السلام لهم من خوفه على يوسف أن يأكله الذئب فقالوا إنا ذهبنا نستبق يقال ننتضل من السباق في الرمي وقيل نستبق بالعدو على الرجل وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا يعني بمصدق وجاءوا بقميص عليه دم فزعموا أنه دم يوسف قوله تعالى بدم كذب يعني مكذوب فيه قال ابن عباس ومجاهد قال لو كان أكله الذئب لخرقه فكانت علامة الكذب ظاهرة فيه وهو صحة القميص من غير تخريق وقال الشعبي كان في قميص يوسف ثلاث آيات الدم والشق وإلقاءوه على وجه أبيه فارتد بصيرا وقال الحسن لما رأى القميص صحيحا قال يا بني والله ما عهدت الذئب حليما قوله تعالى قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا يدل على أن يعقوب عليه السلام قطع بخيانتهم وظلمهم وأن يوسف لم يأكله الذئب لما استدل عليه من صحة القميص من غير تخريق وهذا يدل على أن الحكم بما يظهر من العلامة في مثله في التكذيب أو التصديق جائز لأنه عليه السلام قطع بأن الذئب لم يأكله بظهور علامة كذبهم قوله تعالى فصبر جميل يقال إنه صبر لا شكوى فيه وفيه البيان عما تقتضيه المصيبة من الصبر الجميل والإستعانة بالله عندما يعرض من الأمور القطعية المجزية فحكى لنا حال نبيه يعقوب عليه السلام عندما ابتلي بفقد ولده العزيز عنده وحسن عزائه ورجوعه إلى الله تعالى والإستعانة به وهو مثل قوله تعالى الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة الآية ليقتدى به عند نزول المصائب قوله تعالى قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة قال قتادة والسدي لما أرسل دلوه تعلق بها يوسف فقال المدلي يا بشراي هذا غلام قال قتادة بشر أصحابه بأنه وجد عبدا وقال السدي كان اسم الرجل الذي ناداه بشرى وقوله وأسروه بضاعة قال مجاهد والسدي أسره المدلي ومن معه في باقي التجار لئلا يسئلوهم الشركة فيه برخص ثمنه وقال ابن عباس أسره أخوته وكتموا أنه أخوهم وتابعهم على ذلك لئلا يقتلوه والبضاعة القطعة من المال تجعل للتجارة وقيل في معنى أسروه بضاعة أنهم اعتقدوا فيه التجارة

وروى شعبة عن يونس عن عبيد عن الحسن عن علي أنه قضى باللقيط أنه حر وقرأ وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين وروى الزهري عن سنين أبي جميلة قال وجدت منبوذا على عهد عمر فقال عمر عسى الغويرا بؤسا فقيل إنه لا يتهم فقال هو حر ولك ولاؤه وعلينا رضاعه فمعنى قوله عسى الغويرا بؤسا الغوير تصغير غار وهو مثل معناه عسى أن يكون جاء البأس من قبل الغار فاتهم عمر الرجل وقال عسى أن يكون الأمر جاء من قبلك في هذا الصبي اللقيط بأن يكون من مائك فلما شهدوا له بالستر أمره بإمساكه وقال ولاؤه لك وجائز أن يريد بالولاء ههنا إمساكه والولاية عليه وإثبات هذا الحق له كما لو كان عبدا له فأعتقه لأنه تبرع بأخذه وإحيائه والإحسان إليه وقد أخبر عمر أنه حر فلا يخلو من أن يكون ذلك على وجه الإخبار بأنه حر الأصل ولا رق عليه أو إيقاع حرية عليه من قبله ومعلوم أن عمر لم يملكه ولم يكن عبدا له فيعتقه فعلمنا أنه أراد الإخبار بأنه حر لا يجرى عليه رق وإذا كان حر الأصل لم يجز أن يثبت ولاؤه لإنسان فعلمنا أنه أراد بقوله لك ولاؤه أي لك ولايته في الإمساك والحفظ وما روي عن عمر وعائشة أنهما قالا في أولاد الزنا اعتقوهم وأحسنوا إليهم فإنما معناه احكموا بأنهم أحرار وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه وذلك إخبار منه بوقوع العتاق بالملك لا يحتاج إلى استئنافه وقد روى المغيرة عن إبراهيم في اللقيط يجده الرجل قال إن نوى أن يسترقه كان رقيقا وإن نوى الحسبة عليه كان عتيقا وهذا لا معنى له لأنه إن كان حرا لم يصر رقيقا بنية الملتقط وإن كان عبدا لم يصر عتيقا بنيته أيضا وأيضا إن الأصل في الناس الحرية وهو الظاهر ألا ترى أن من وجدناه يتصرف في دار الإسلام أنا نحكم بحريته ولا نجعله عبدا إلا ببينة تشهد بذلك أو بإقراره وأيضا فإن اللقيط لا يخلو من أن يكون ولد حرة أو أمة فإن كان ولد حرة فهوحر وغير جائز استرقاقه وإن كان ولد أمة فهو عبد لغير الملتقط فلا يجوز لنا أن نتملكه ففي الوجوه كلها لا يجوز أن يكون اللقيط عبدا للملتقط وأيضا فإن الرق طارئ والأصل الحرية كشيء علمناه ملكا لإنسان وادعى غيره زواله إليه فلا تصدقه لأنه يدعي معنى طارئا كذلك حكم الملتقط فيما يثبت له من رق اللقيط وأيضا لما كان لقطة المال لا توجب للملتقط ملكا فيها مع العلم بأنه ملك في الأصل كان التقاط اللقيط الذي لا يعلم رقه أحرى أن

لا يوجب للملتقط ملكا وقد روى حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أن رجلا تزوج امرأة فولدت لأربعة أشهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لها صداقها بما استحل من فرجها وولدها مملوك له وهو حديث شاذ غير معمول عليه لأن أكثر ما فيه أنه ولد زنا إذا كان من حرة فهو حر ولا خلاف بين الفقهاء في أن ولد الزنا واللقيط حران قوله تعالى وشروه بثمن بخس دراهم معدودة قال الفراء الثمن ما يثبت في الذمة بدلا من البياعات من الدراهم والدنانير قال أبو بكر ظاهر الكلام يدل عليه لأنه سمى الدراهم ثمنا بقوله وشروه بثمن وقول الفراء مقبول من طريق اللغة فإذا أخبر أن الثمن اسم لما يثبت في الذمة من الوجه الذي ذكرنا ثم سمى الله تعالى الدراهم ثمنا اقتضى ذلك ثبوتها في الذمة متى جعلت بدلا في عقود البياعات سواء عينها أو أطلقها ولم يعينها لأنها لو تعينت بالتعيين لخرجت من أن تكون ثمنا إذ كانت الأعيان لا تكون أثمانا في الحقيقة إلا أن يجريها الإنسان مجرى الإبدال فيسميها ثمنا على معنى البدل تشبيها بالثمن وإذا ثبت ذلك وجب أن لا تتعين الدراهم والدنانير لأن في تعيينها سلب الصفة التي وصفها الله بها من كونها ثمنا إذ الأعيان لا تكون أثمانا والبخس النقص يقال بخسه حقه إذا نقصه وقوله دراهم معدودة روي عن ابن مسعود وابن عباس وقتادة قالوا كانت عشرين درهما وعن مجاهد اثنان وعشرون درهما وقيل إنما سماها معدودة لقلتها وقيل عدوها ولم يزنوها وقيل كانوا لا يزنون الدراهم حتى تبلغ أوقية وأوقيتهم أربعون درهما وقال ابن عباس ومجاهد إخوته كانوا حضورا فقالوا هذا عبد لنا أبق فاشتروه منهم وقال قتادة باعه السيارة قوله تعالى وكانوا فيه من الزاهدين قيل إن إخوته كانوا في الثمن من الزاهدين وإنما كان غرضهم أن يغيبوه عن وجه أبيهم وقوله تعالى وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا روي عن عبدالله قال أحسن الناس فراسة ثلاثة العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا وابنة شعيب حين قالت في موسى يا أبت استأجره وأبو بكر الصديق حين ولى عمر قوله تعالى ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما قيل في معنى الأشد أنها القوة من ثماني عشرة إلى ستين سنة وقال ابن عباس الأشد ابن عشرين سنة وقال مجاهد ابن ثلاث وثلاثين سنة قوله تعالى ولقد همت به وهم بها روي عن الحسن به بالعزيمة وهم بها من جهة الشهوة ولم يعزم وقيل هما جميعا بالشهوة

لأن الهم بالشيء مقاربته من غير مواقعة والدليل على أن هم يوسف بها لم يكن من جهة العزيمة وإنما كان من جهة دواعي الشهوة قوله معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي وقوله كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فكان ذلك إخبارا ببراءة ساحته من العزيمة على المعصية وقيل إن ذلك على التقديم والتأخير ومعناه لولا أن رأى برهان ربه هم بها وذلك لأن جواب لولا لا يجوز أن يتقدمه لأنهم لا يجيزون أن نقول قد أتيتك لولا زيد وجائز أن يكون على تقديره تقديم لولا قوله تعالى لولا أن رأى برهان ربه قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد رأى صورة يعقوب عاضا على أنامله وقال قتادة نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء وروي عن ابن عباس أنه رأى الملك وقال محمد بن كعب هو ما علمه من الدلالة على عقاب الزنا قوله تعالى وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل الآية روي عن ابن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وهلال بن يسار أنه صبي في المهد وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وابن أبي مليكة وعكرمة قالوا هو رجل وقال عكرمة إن الملك لما رأى يوسف مشقوق القميص على الباب قال ذلك لابن عم له فقال إن كان قميصه قد من قبل فإنه طلبها فامتنعت منه وإن كان من دبر فإنه فر منها وطلبته ومن الناس من يحتج بهذه الآية في الحكم بالعلامة في اللقطة إذا ادعاها مدع ووصفها وقد اختلف الفقهاء في مدعي اللقطة إذا وصف علامات فيها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والشافعي لا يستحقها بالعلامة حتى يقيم البينة ولا يجبر الملتقط على دفعها إليه بالعلامة ويسعه أن يدفعها وإن لم يجبر عليه في القضاء وقال ابن القاسم في قياس قول مالك يستحقها بالعلامة ويجبر على دفعها إليه فإن جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا وقال مالك وكذلك اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة أن السلطان يتلوم في ذلك فإن لم يأت غيرهم دفعه إليهم وكذلك الآبق وقال الحسن بن حي يدفعها إليه بالعلامة وقال أصحابنا في اللقط إذا ادعاه رجلان ووصف أحدهما علامة في جسده إنه أولى من الآخر وقال أبو حنيفة ومحمد في متاع البيت إذا اختلف فيه الرجل والمرأة إن ما يكون للرجال فهو للرجل وما كان للنساء فهو للمرأة وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل فحكموا فيه بظاهر هيئة المتاع وقالوا في المستأجر والمؤاجر إذا اختلفا في مصراع

باب موضوع في الدار أنه إن كان وفقا لمصراع معلق في البناء فالقول قول رب الدار وإن لم يكن وفقا له فالقول قول المستأجر وكذلك إن كان جذع مطروح في دار وعليه نقوش وتصاوير موافقة لنقوش جذوع السقف ووفقا لها فالقول قول رب الدار وإن كانت مخالفة لها فالقول قول المستأجر وهذه مسائل قد حكموا في بعضها بالعلامة ولم يحكموا بها في بعض ولا خلاف بين أصحابنا أن رجلين لو تنازعا على قربة وهما متعلقان بها وأحدهما سقاء والآخر عطار أنه بينهما نصفين ولا يقضى للسقاء بذلك على العطار فأما قولهم في اللقطة فإن الملتقط له يد صحيحة والمدعي لها يريد إزالة يده وقال النبي صلى الله عليه وسلم - البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وكون الذي في يده ملتقطا لا يخرج المدعي من أن يكون مدعيا فلا يصدق على دعواه إلا ببينة إذ ليست له يد والعلامة ليست ببينة لأن رجلا لو ادعى مالا في يد رجل وأعطى علامته والذي في يده غير ملتقط لم يكن ذكر العلامة بينة يستحق بها شيئا وأما قول أصحابنا في الرجلين يدعيان لقيطا كل واحد يدعي أنه ابنه ووصف أحدهما علامة في جسده فإنما جعلوه أولى استحسانا من قبل أن مدعي اللقيط يستحقه بدعواه من غير علامة ويثبت النسب منه بقوله وتزول يد من هو في يده فلما تنازعه اثنان صار كأنه في أيديهما لأنهما قد استحقا أن يقضى بالنسب لهما لو لم يصف أحدهما علامة في جسده فلما زالت يد من هو في يده صار بمنزلته لو كان في أيديهما من طريق الحكم جميعه في يد هذا وجميعه في يد هذا فيجوز حينئذ اعتبار العلامة ونظيره الزوجان إذا اختلفا في متاع البيت لما كان لكل واحد يد في الجميع اعتبر أظهرهما تصرفا وآكدهما يدا وكذلك المستأجر له يد في الدار والمؤاجر أيضا له يد في جميع الدار فلما استويا في اليد في الجميع كان الذي تشهد له العلامة الموافقة لصحة دعواه أولى وكان ذلك ترجيحا لحكم يده لا أنه يستحق به الحكم له بالملك كما يستحق بالبينات فهذه المواضع التي اعتبروا فيها العلامة إنما اعتبروها مع ثبوت اليد لكل واحد من المدعيين في الجميع فصارت العلامة من حجة اليد دون استحقاق الملك بالعلامة وأما المدعيان إذا كان في أيديهما شيء من المتاع وأحدهما ممن يعالج مثله وهو من آلته التي يستعملها في صناعته فإنه معلوم أن في يد كل واحد منهما النصف وأن ما في يد هذا ليس في يد الآخر منه شيء فلو حكمنا لأحدهما بظاهر صناعته أو بعلامة معه لكنا قد استحققنا عليه يدا هي له دونه فهما فيه بمنزلة

رجل إسكاف ادعى قالب خف في يد صيرفي فلا يستحق يد الصيرفي لأجل أن ذلك من صناعته ومسألة اللقطة هي هذه بعينها لأن المدعي لا يد له وإنما يريد استحقاق يد الملتقط بالعلامة ومعلوم أنه لا يستحقها بالدعوى إذا لم تكن معه علامة فكذلك العلامة لا يجوز أن يستحق بها يد الغير وأما ما روي في حديث زيد بن خالد أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم - عن اللقطة فقال اعرف عفاصها ووعاءها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها فإنه لا دلالة فيه على أن مدعيها يستحقها بالعلامة لأنه يحتمل أن يكون إنما أمره بمعرفة العفاص والوعاء والوكاء لئلا يختلط بماله وليعلم أنها لقطة وقد يكون يستدل به على صدق المدعي فيسعه دفعها إليه وإن لم يلزم في الحكم وقد يكون لذكر العلامة ولما يظهر من الحال تأثير في القلب يغلب في الظن صدقه ولكنه لا يعمل عليه في الحكم وقد استدل يعقوب عليه السلام على كذب أخوة يوسف بأنه لو أكله الذئب لخرق قميصه وقد روي عن شريح وأياس بن معاوية أشياء نحو هذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال اختصم إلى شريح امرأتان في ولد هرة فقالت إحداهما هذه ولد هرتي وقالت الأخرى هذه ولد هرتي فقال ألقوها مع هذه فإن درت وقرت واسبطرت فهي لها وإن هرت وفرت وازبأرت فليس لها وروى حماد بن سلمة قال أخبرني مخبر عن إياس بن معاوية أن امرأتين ادعتا كبة غزل فخلا بإحداهما وقال علام كببت غزلك فقالت على جوزة وخلا بالأخرى فقالت على كسرة خبز فنقضوا الغزل فدفعوه إلى التي أصابت وهذا الذي كان يفعله شريح وإياس من نحو هذا لم يكن على وجه إمضاء الحكم به وإلزام الخصم إياه وإنما كان على جهة الإستدلال بما يغلب في الظن منه فيقرر بعد ذلك المبطل منهما وقد يستحي الإنسان إذا ظهر مثل هذا من الإقامة على الدعوى فيقر بحكم عليه بالإقرار قوله تعالى قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا قيل فيه إضمار عصير العنب للخمر وذلك لأن الخمر المائعة لا يتأتى فيها العصر وقيل معناه أعصر ما يؤول إلى الخمر فسماه باسم الخمر وإن لم يكن خمرا على وجه المجاز وجائز أن يعصر من العنب خمرا بأن يطرح العنب في الخابية ويترك حتى ينش ويغلي فيكون ما في العنب خمرا فيكون العصر للخمر على وجه الحقيقة وقال الضحاك في لغة تسمى العنب خمرا قوله تعالى نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال قتادة كان يداوي مريضهم ويعزي حزينهم ويجتهد في عبادة

ربه وقيل كان يعين المظلوم وينصر الضعيف ويعود المريض وقيل من المحسنين في عبارة الرؤيا لأنه كان يعبر لغيرهما قوله تعالى قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله الآية قال ابن جريج عدل عن تأويل الرؤيا إلى الإخبار بهذا لما رأى على أحدهما فيه من المكروه فلم يدعاه حتى أخبرهما به وقيل إنما قدم هذا ليعلما ما خصه الله تعالى من النبوة وليقبلا إلى طاعة الله وقد كان يوسف عليه السلام فيما بينهم قبل ذلك زمانا فلم يحك الله عنه أنه ذكر لهم شيئا من الدعاء إلى الله وكانوا قوما يعبدون الأوثان وذلك لأنه لم يطمع منهم في الإستماع والقبول فلما رآهم مقبلين إليه عارفين بإحسانه أمل منهم القبول والإستماع فقال يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار الآية وهو من قوله تعالى ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وترقب وقت الإستماع والقبول من الدعاء إلى سبيل الله بالحكمة وإنما حكى الله ذلك لنا لنقتدي به فيه قوله تعالى وقال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه الظن ههنا بمعنى اليقين لأنه علم يقينا وقوع ما عبر عليه الرؤيا وهو كقوله تعالى إني ظننت أني ملاق حسابيه ومعناه أيقنت وقوله فأنساه الشيطان هذه الهاء تعود على يوسف على ما روي عن ابن عباس وقال الحسن وابن إسحاق على الساقي وفيه بيان أن لبثه في السجن بضع سنين إنما كان لأنه سأل الذي نجا منهما أن يذكره عند الملك وكان ذلك منه على جهة الغفلة فإن كان التأويل على ما قال ابن عباس إن الشيطان أنسى يوسف عليه السلام ذكر ربه يعني ذكر الله تعالى وأن الأولى كان في تلك الحال أن يذكر الله ولا يشتغل بمسئلة الناجي منهما أن يذكره عند صاحبه فصار اشتغاله عن الله تعالى في ذلك الوقت سببا لبقائه في السجن بضع سنين وإن كان التأويل إن الشيطان أنسى الساقي فلأن يوسف ما سأل الساقي ذلك لم يكن من الله توفيق للساقي وخلاه ووساوس الشيطان وخواطره حتى أنساه ذكر ربه أمر يوسف وأما البضع فقال ابن عباس هو من الثلاث إلى العشر وقال مجاهد وقتادة إلى التسع وقال وهب لبث سبع سنين قوله تعالى قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين فإنا قد علمنا أن الرؤيا كانت صحيحة ولم تكن أضغاث أحلام لأن يوسف عليه السلام عبرها على سني الخصب والجدب وهو يبطل قول من يقول إن الرؤيا على أول ما تعبر لأن القوم قالوا هي أضغاث أحلام ولم

تقع كذلك ويدل على فساد الرواية بان الرؤيا على رجل طائر فإذا عبرت وقعت قوله تعالى وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك الآية يقال إن يوسف عليه السلام إنما لم يجبهم إلى الذهاب إلى الملك حتى رد الرسول إليه بأن يسئل عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن لتظهر براءة ساحته فيكون أجل في صدره عند حضوره وأقرب إلى قبول ما يدعوه إليه من التوحيد وقبول ما يشير به عليه قوله تعالى ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب قال الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك هذا من قول يوسف يقول إني إنما رددت الرسول إليه في سؤال النسوة ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب وإن كان ابتداء الحكاية عن المرأة فإنه رد الكلام إلى الحكاية عن قول يوسف لظهور الدلالة على المعنى وذلك نحو قوله وكذلك يفعلون وقبله حكاية عن المرأة وجعلوا أعزة أهلها أذلة وقوله فماذا تأمرون وقبله حكاية قول الملأ يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره قوله تعالى إن النفس لأمارة بالسوء يعني إن النفس كثيرة النزاع إلى السوء فلا يبرئ نفسه وإن كان لا يطاوعها وقد اختلف الناس في قائل هذا القول فقال قائلون هو من قول يوسف وقال آخرون هو من قول المرأة الأمارة الكثيرة الأمر بالشيء والنفس بهذه الصفة لكثرة ما تشتهيه وتنازع إليه مما يقع الفعل من أجله وقد كانت إضافة الأمر بالسوء إلى النفس مجازا في أول استعماله ثم كثر حتى سقط عنه اسم المجاز وصار حقيقة فيقال نفسي تأمرني بكذا وتدعوني إلى كذا من جهة شهوتي له وإنما لم يصح أن يأمر الإنسان نفسه في الحقيقة لأن في الأمر ترغيبا للمأمور بتمليك مالا يملك ومحال أن يملك الإنسان نفسه مالا يملكه لأن من ملك شيئا فإنما يملك ما هو مالكه قوله تعالى وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين هذا الملك لما كان من أهل العقل والدراية لم يرعه من يوسف منظره الرائع البهج كما راع النساء لقلة عقولهن وضعف أحلامهن وأنهن إنما نظرن إلى ظاهر حسنه وجماله دون علمه وعقله وإن الملك لم يعبأ بذلك ولكنه لما كلمه ووقف على كماله ببيانه وعلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين فقال يوسف اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فوصف نفسه بالعلم والحفظ وفي هذا دلالة على أنه جائز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه وإنه ليس من المحظور من تزكية النفس في قوله تعالى فلا تزكوا أنفسكم قوله تعالى ائتوني بأخ

لكم من أبيكم إلى قوله فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي يقال إن الذي اقتضى طلبه للأخ من أبيهم مفاوضته لهم بالسؤال عن أخبارهم فلما ذكروا إيثار أبيهم له عليهم بمحبته إياه مع حكمته أظهر أنه يحب أن يراه وأن نفسه متطلعة إلى علم السبب في ذلك وكان غرضه في ذلك التوصل إلى حصوله عنده وكان قد خاف أن يكتموا أباه أمره إن ظهر لهم أنه يوسف وأن يتوصلوا إلى أن يحولوا بينه وبين الاجتماع معه ومع أخيه فأجرى تدبيره على تدريج لئلا يهجم عليهم ما يشتد اضطرابهم معه قوله تعالى يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة قال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي كانوا ذوي صورة وجمال فخاف عليهم العين وقال غيرهم خاف عليهم حسد الناس لهم وأن يبلغ الملك قوتهم وبطشهم فيقتلهم خوفا على ملكه وما قالته الجماعة يدل على أن العين حق وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال العين حق قوله تعالى جعل
السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قيل أمر يوسف بعض أصحابه بأن يجعل الصاع في رحل أخيه ثم قال قائل من الموكلين بالصيعان وقد فقدوه ولم يدروا من أخذه أيتها العير إنكم لسارقون على ظن منهم أنهم كذلك ولم يأمرهم يوسف بذلك فلم يكن قول هذا القائل كذبا إذ كان مرجعه إلى غالب ظنه وما هو عنده وفيما توصل يوسف عليه السلام به إلى أخذ أخيه دلالة على أنه جائز للإنسان التوصل إلى أخذ حقه من غيره بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا من عليه الحق قوله تعالى ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم روي عن يحيى بن يمان عن يزيد بن زريع عن عطاء الخراساني وأنا به زعيم قال كفيل قال أبو بكر ظن بعض الناس أن ذلك كفالة عن إنسان وليس كذلك لأن قائل ذلك جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله أنا به زعيم يعني ضامن قال الشاعر ... وإني زعيم إن رجعت مسلما ... بسير يرى منه الفرانق أزورا ...
أي ضامن لذلك فهذا القائل لم يضمن عن إنسان شيئا وإنما ألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع وهذا أصل في جواز قول القائل من حمل هذا المتاع إلى موضع كذا فله درهم وأن هذه إجارة جائزة وإن لم يكن يشارط على ذلك رجلا بعينه وكذلك قال محمد بن الحسن في السير الكبير إذا قال أمير الجيش من ساق هذه الدواب إلى موضع كذا أو قال من حمل هذا المتاع إلى موضع كذا فله كذا إن هذا جائز ومن حمله استحق الأجر

وهذا معنى ما ذكر في هذه الآية وقد ذكر هشام عن محمد أيضا فيمن كانت في يده دار لرجل يسكنها فقال إن أقمت فيها بعد يومك هذا فأجره كل يوم عشرة دراهم عليك أن هذا جائز وإن أقام فيها بعد هذا القول لزمه كل يوم ما سمى فجعل سكناه بعد ذلك رضا وكان ذلك إجارة وإن لم يقاوله باللسان وفي الآية دلالة على ذلك لأنه قد أخبر أن من رد الصاع استحق الأجر وإن لم يكن بينهما عقد إجارة بل فعله لذلك بمنزلة قبول الإجارة وعلى هذا قالوا فيمن قال لآخر قد استأجرتك على حمل هذا المتاع إلى موضع كذا بدرهم أنه إن حمله استحق الدرهم وإن لم يتكلم بقبولها فإن قيل إن هذا لم يكن إجارة لأن الإجارة لا تصح على حمل بعير وإن كانت إجارة فهي منسوخة لأن الإجارة لا تجوز في شريعة نبينا ص - إلا بأجر معلوم قيل له هو أجر معلوم لأن حمل بعير اسم لمقدار ما من الكيل والوزن كقولهم كارة ووقر ووسق ونحو ذلك ولما لم ينكر يوسف عليه السلام ذلك دل على صحته وشرائع من قبلنا من الأنبياء حكمها ثابت عندنا ما لم تنسخ قوله تعالى قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه قال الحسن وأبو إسحاق ومعمر والسدي كان من عادتهم أن يسترقوا السارق فكان تقديره جزاؤه أخذ من وجد في رحله رقيقا فهو جزاء عندنا كجزائه عندكم فلما وجد في رحل أخيه أخذه على ما شرط أنه جزاء سرقته فقالوا خذ أحدنا مكانه عبدا روي ذلك عن الحسن وهذا يدل على أنه قد كان يجوز في ذلك الوقت استرقاق الحر بالسرقة وكان يجوز للإنسان أن يرق نفسه لغيره لأن إخوة يوسف عليه السلام بذلوا واحدا منهم ليكون عبدا بدل أخي يوسف وقد روي عن عبد سرق أن النبي صلى الله عليه وسلم -

باعه في دين عليه وكان حرا فجائز أن يكون هذا الحكم قد كان ثابتا إلى أن
نسخ على لسان نبينا ص - وفيما قص الله علينا من قصة يوسف وحفظه للأطعمة في سني الجدب وقسمته على الناس بقدر الحاجة دلالة على أن للأئمة في كل عصر أن يفعلوا مثل ذلك إذا علموا هلاك الناس من القحط قوله تعالى ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا إنما أخبروا عن ظاهر الحال لا عن باطنها إذ لم يكونوا عالمين بباطنها ولذلك قالوا وما كنا للغيب حافظين فكان في الظاهر لما وجد الصاع في رحله أنه هو الآخذ له فقالوا وما شهدنا إلا بما علمنا يعني من الأمر الظاهر لا من الحقيقة وهذا يدل على جواز إطلاق اسم العلم من طريق الظاهر

وإن لم يعلم حقيقة وهو كقوله فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ومعلوم أنا لا نحيط بضمائرهن علما وإنما هو على ما يظهر من إيمانهن وقد قيل في قوله وما كنا للغيب حافظين معنيان أحدهما ما روي عن الحسن ومجاهد وقتادة ما كنا نشعر أن ابنك سيسرق والآخر ما قدمنا وهو أنا لا ندري باطن الأمر في السرقة فإن قيل لم جاز له استخراج الصاع من رحل أخيه على حال يوجب تهمته عند الناس مع براءة ساحته وغم أبيه وإخوته به قيل له لأنه كان في ذلك ضروب من الصلاح وقد كان ذلك عن مواطأة من أخيه له على ذلك وتلطف في إعلام أبيه بسلامتهما ولم يكن لأحد أن يتهمه بالسرقة مع إمكان أن يكون غيره جعله في رحله ولأن الله تعالى أمره بذلك تعريضا ليعقوب عليه السلام للبلوى بفقده أيضا ليصبر فيتضاعف ليعقوب عليه السلام الثواب الجزيل بصبره على فقدهما وفيما حكى الله تعالى من أمر يوسف وما عامل به إخوته في قوله فلما جهزهم بجهازهم إلى قوله كذلك كدنا ليوسف دلالة على إجازة الحيلة في التوصل إلى المباح واستخراج الحقوق وذلك لأن الله تعالى رضي ذلك من فعله ولم ينكره وقال في آخر القصة كذلك كدنا ليوسف ومن نحو ذلك قوله تعالى وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وكان حلف أن يضربها عددا فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وضربها به ليبر في يمينه من غير إيصال ألم كبير إليها ومن نحوه النهي عن التصريح بالخطبة وإباحة التوصل إلى إعلامها رغبته بالتعريض ومن جهة السنة حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه استعمل رجلا على خيبر فأتاه بتمر فقال له رسول الله ص
- أكل تمر خيبر هكذا فقال لا والله إنما نأخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة قال فلا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم تمرا كذا روى ذلك مالك بن أنس عن عبدالمجيد بن سهيل عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد وأبي هريرة فحظر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
التفاضل في التمر وعلمه كيف يحتال في التوصل إلى أخذ هذا التمر ويدل عليه
قوله ص - لهند خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف فأمرها بالتوصل إلى أخذ حقها وحق ولدها وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد سفرا ورى بغيره وروى يونس ومعمر عن الزهري قال أرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان بن حرب أن ائتونا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم فسمع ذلك نعيم بن مسعود وكان موادعا للنبي ص

وكان عند عيينة حين أرسلت بذلك بنو قريظة إلى الأحزاب أبي سفيان وأصحابه فأقبل نعيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فأخبره خبرها وما أرسلت بنوا قريظة إلى الأحزاب فقال رسول الله ص
- لعلنا أمرنا بذلك فقام نعيم يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بذلك من عند رسول الله ص
- قال وكان نعيم رجلا لا يكتم الحديث فلما ولى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذاهبا إلى غطفان قال عمر يا رسول الله ما هذا الذي قلت إن كان أمرا من أمر الله فامضه وإن كان هذا رأيا رأيته من قبل نفسك فإن شأن بني قريظة أهون من أن تقول شيئا يؤثر عنك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - بل هذا رأي إن الحرب خدعة وروى أبو عثمان النهدي عن عمر قال إن في معاريض الكلام لمندوحة عن الكذب وروى الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال ما يسرني بمعاريض الكلام حمر النعم وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه للملك حين سأله عن سارة فقال من هي منك قال هي أختي لئلا يأخذها وإنما أراد أختي في الدين وقال للكفار إني سقيم حين تخلف ليكسر آلهتهم وكان معناه إني سأسقم يعني أموت كما قال الله تعالى إنك ميت فعارض بكلامه عما سألوه عنه إلى غيره على وجه لا يلحق فيه الكذب فهذه وجوه أمر النبي صلى الله عليه وسلم - فيها بالاحتيال في التوصل إلى المباح وقد كان لولا وجه الحيلة فيه محظورا وقد حرم الله الوطء بالزنا وأمرنا بالتوصل إليه بعقد النكاح وحظر علينا أكل المال بالباطل وأباحه بالشرى والهبة ونحوها فمن أنكر التوصل إلى استباحة ما كان محظورا من الجهة التي أباحته الشريعة فإنما يرد أصول الدين وما قد ثبتت به الشريعة فإن قيل حظر الله تعالى على اليهود صيد السمك يوم السبت فحبسوا السمك يوم السبت وأخذوه يوم الأحد فعاقبهم الله عليه قيل له قد أخبر الله تعالى أنهم اعتدوا في السبت وهذا يوجب أن يكون حبسها في السبت قد كان محظورا عليهم ولو لم يكن حبسهم لها في السبت محرما لما قال اعتدوا في السبت قوله تعالى يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر إلى قوله وتصدق علينا لما ترك يوسف عليه السلام النكير عليهم في قوله مسنا وأهلنا الضر دل ذلك على جواز إظهار مثل ذلك عند الحاجة إليه وأنه لا يجري مجرى الشكوى من الله تعالى وقوله فأوف لنا الكيل فدل على أن أجرة الكيال على ا لبائع لأن عليه تعيين المبيع للمشتري ولا يتعين إلا بالكيل وقد قالوا له فأوف لنا الكيل فدل على أن الكيل قد كان عليه فإن قيل نهى النبي صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام

حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري وهذا يدل على أن الكيل على المشتري لأن مراده الصاع الذي اكتال به البائع من بائعه وصاع المشتري هو ما اكتاله المشتري الثاني من البائع قيل له قوله صاع البائع لا دلالة فيه على أن البائع هو الذي اكتال وجائز أن يريد به الصاع الذي كال البائع به بائعه وصاع المشتري الذي كاله له بائعه فلا دلالة فيه على الاكتيال على المشتري وإذا صح ذلك فيما وصفنا من الكيل فواجب أن يكون أجرة الوزان على المشتري لأن عليه تعيين الثمن للبائع ولا يتعين إلا بوزنه فعليه أجرة الوزان وأما أجرة الناقد فإن محمد بن سماعة روى عن محمد

أنه
قبل أن يستوفيه البائع فهو على المشتري لأن عليه تسليم الثمن إليه صحيحا وإن كان قد قبضه البائع فأجرة الناقد على البائع لأنه قد قبضه وملكه فعليه أن يبين أن شيئا منه معيب يجب رده قوله تعالى وتصدق علينا قال سعيد بن جبير إنما سألوا التفضل بالنقصان في السعر ولم يسئلوا الصدقة وقال سفيان بن عيينة سألوا الصدقة وهم أنبياء وكانت حلالا وإنما حرمت على النبي صلى الله عليه وسلم -
وكره مجاهد أن يقول في دعائه اللهم تصدق علي لأن الصدقة إنما هي ممن
يبتغي الثواب قوله تعالى قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون فيه إخبار إنهم كانوا جاهلين عند وقوع الفعل منهم وإنهم لم يكونوا جاهلين في هذا الوقت فمن الناس من يستدل بذلك على أنهم فعلوا ذلك قبل البلوغ لأنهم لو فعلوه بعد البلوغ مع أنهم لم تظهر منهم توبة لكانوا جاهلين في الحال وإنما أراد جهالة الصبا لا جهالة المعاصي وقول يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم يدل على أنهم فعلوه بعد البلوغ وأن ذلك كان ذنبا منهم يجب عليهم الاستغفار منه وظاهر الكلام يدل على أنهم تابوا بقولهم لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ويدل عليه قولهم يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين ولا يقول مثله من فعل شيئا في حال الصغر قبل أن يجري عليه القلم وقوله يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنما جاز لهم مسألة الاستغفار مع حصول التوبة لأجل المظلمة المعلقة بعفو المظلوم وسؤال ربه أنلا يؤاخذه بما عامله ويجوز أن يكون إنما سأله أن يبلغه بدعائه منزلة من لم يكن في جناية قوله تعالى سوف أستغفر لكم ربي روي عن ابن مسعود وإبراهيم التيمي وابن جريج وعمرو بن قيس أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأنه أقرب إلى إجابة الدعاء وروي عن ابن عباس عن النبي ص

أنه أخر ذلك إلى ليلة الجمعة وقيل إنما سألوه أن يستغفر لهم دائما في دعائه قوله تعالى وخروا له سجدا يقال إن التحية للملوك كانت السجود وقيل إنهم سجدوا لله شكرا له على ما أنعم به عليهم من الإجتماع مع يوسف على الحال السارة وأرادوا بذلك التعظيم ليوسف فأضاف السجود إلى يوسف مجازا كما يقال صلى للقبلة وصلى إلى غير القبلة يعني إلى تلك الجهة وقول يوسف هذا تأويل رؤياي من قبل يعني سجود الشمس والقمر والكواكب فكان السجود في الرؤيا هو السجود في اليقظة وكان الشمس والقمر والكواكب أبويه وإخوته ويقال في قوله ورفع أبويه على العرش أن أمه كانت ماتت وتزوج خالته روي ذلك عن السدي وقال الحسن وابن إسحاق كانت أمه باقية وروي عن سليمان وعبيدالله بن شداد كانت المدة بين الرؤيا وبين تأويلها أربعين سنة وعن الحسن كانت ثمانين سنة وقال ابن إسحاق ثماني عشرة سنة فإن قيل إذا كانت رؤيا الأنبياء صادقة فهلا تسلى يعقوب بعلمه بوقوع تأويل رؤيا يوسف قيل له لأنه رآها وهو صبي وقيل لأن طول الغيبة عن الحبيب يوجب الحزن كما يوجبه مع الثقة بالإلتقاء في الآخرة قوله تعالى وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون يعني وكم من آية فيهما لا يفكرون فيها ولا يستدلون بها على توحيد الله وفيه حث على الإستدلال على الله تعالى بآياته ودلائله والفكر فيما يقتضيه من تدبير مدبرها العالم بها القادر عليها وأنه لا يشبهها وذلك في تدبير الشمس والقمر والنجوم والرياح والأشجار والنبات والنتاج والحيوان وغير ذلك مما هو ظاهر للحواس ومدرك بالعيان قوله تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وما يؤمن أكثرهم بالله في إقرارهم بأن الله خلقه وخلق السموات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الوثن وقال الحسن هم أهل الكتاب معهم شرك وإيمان وقيل ما يصدقون بعبادة الله إلا وهم يشركون الأوثان في العبادة وقد دلت الآية على أن مع اليهودي إيمانا بموسى وكفرا بمحمد ص - لأنها قد دلت على أن الكفر والإيمان لا يتنافيان من وجهين مختلفين فيكون فيه كفر من وجه وإيمان من وجه إلا أنه لا يحصل اجتماعهما على جهة إطلاق اسم المؤمن واستحقاق ثواب الإيمان لأن ذلك ينافيه الكفر وكذلك قوله أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض قد أثبت لهم الإيمان ببعض

الكتاب والكفر ببعض آخر فثبت بذلك جواز أن يكون معه كفر من وجه وإيمان من وجه آخر وغير جائز أن يجتمع له صفة مؤمن وكافر لأن صفة مؤمن على الإطلاق صفة مدح وصفة كافر صفة ذم ويتنافى استحقاق الصفتين معا على الإطلاق في حال واحدة قوله تعالى قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فيه بيان أنه مبعوث بدعاء الناس إلى الله عز و جل على بصيرة من أمره كأنه يبصره بعينه وأن من اتبعه فذلك سبيله في الدعاء إلى الله عز و جل وفيه الدلالة على أن على المسلمين دعاء الناس إلى الله تعالى كما كان على النبي صلى الله عليه وسلم -

ذلك قوله تعالى وما
أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى قيل من أهل الأمصار دون البوادي لأن أهل الأمصار أعلم وأحكم وأحرى بقبول الناس منهم وقال الحسن لم يبعث الله نبيا من أهل البادية قط ولا من الجن ولا من النساء قوله تعالى حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا اليأس انقطاع الطمع وقوله كذبوا قرئ بالتخفيف وبالتثقيل فإذا قرئ بالتخفيف كان معناه ما روي عن ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك قالوا ظن الأمم أن الرسل كذبوهم فيما أخبروهم به من نصر الله تعالى لهم وإهلاك أعدائهم وروي عن حماد بن زيد عن سعيد بن الحبحاب قال حدثني إبراهيم بن أبي حرة الجزري قال صنعت طعاما فدعوت ناسا من أصحابنا فيهم سعيد بن جبير وأرسلت إلى الضحاك بن مزاحم فأبى أن يجيء فأتيته فلم أدعه حتى جاء قال فسأل فتى من قريش سعيد ابن جبير فقال له يا أبا عبدالله كيف تقرأ هذا الحرف فإني إذا أتيت عليه تمنيت أني لا أقرأ هذه السورة حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا قال نعم حتى إذا استيئس الرسل من قومهم أن يصدقوهم وظن المرسل إليهم أن الرسل كذبوا مخففة فقال الضحاك ما رأيت كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكأ لو رحلت في هذا إلى اليمن كان قليلا وفي رواية أخرى أن مسلم بن يسار سأل سعيدا عنه فأجابه بذلك فقام إليه مسلم فاعتنقه وقال فرج الله عنك كما فرجت عني ومن قرأ كذبوا بالتشديد كان معناه أيقنوا أن الأمم قد كذبوهم فكذبنا عمهم حتى لا يفلح أحد منهم روي ذلك عن عائشة والحسن وقتادة آخر سورة يوسف

ومن

سورة الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى وفي الأرض قطع متجاورات قال ابن عباس ومجاهد والضحاك الأرض السبخة والأرض العذبة ونخيل صنوان قال ابن عباس والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة النخلات أصلها واحد قوله تعالى يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض
في
الأكل فيه أوضح دلالة على بطلان مذهب أصحاب الطبائع لأنه لو كان حدوث ما يحدث من الثمار بطبع الأرض والهواء والماء لوجب أن يتفق ما يحدث من ذلك لاتفاق ما يوجب حدوثه إذ كانت الطبيعة الواحدة توجب عندهم اتفاق ما يحدث منها ولا يجوز أن توجب فعلين مختلفين متضادين فلو كان حدوث هذه الأشياء المختلفة الألوان والطعوم والأراييح والأشكال من إيجاب الطبيعة لاستحال اختلافها وتضادها مع اتفاق الموجب لها فثبت أن المحدث لها قادر مختار حكيم قد أحدثها على اختلافها على علم منه بها وهو الله تعالى قوله تعالى إنما أنت منذر ولكل قوم هاد روي عن ابن عباس وسعيد ومجاهد والضحاك الهادي هو الله تعالى وروي عن مجاهد أيضا وقتادة الهادي نبي كل أمة وعن ابن عباس أيضا الهادي الداعي إلى الحق وعن الحسن وقتادة وأبي الضحى وعكرمة الهادي محمد ص -
وهذا هو الصحيح لأن تقديره إنما أنت منذر وهاد لكل قوم والمنذر هو الهادي
والهادي أيضا هو المنذر قوله تعالى وما تغيض الأرحام وما تزداد قال ابن عباس والضحاك وما تنقص من الأشهر التسعة وما تزداد فإن الولد يولد لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين فيعيش وقال الحسن وما تنقص بالسقط وما تزداد بالتمام وقال الفراء الغيض النقصان ألا تراهم يقولون غاضت المياه إذا نقصت وقال عكرمة إذا غاضت وقال ما غاضت الرحم بالدم يوما إلا زاد في الحمل وقال مجاهد الغيض ما رأت الحامل من الدم في حملها وهو نقصان من الولد والزيادة ما زاد على تسعة أشهر وهو تمام النقصان وهو الزيادة وزعم إسماعيل بن إسحاق أن التفسير إن كان على ما روي عن مجاهد وعكرمة فهو حجة منه في أن الحامل تحيض قال لأن كل دم يخرج من الرحم فليس يخلو من أن يكون حيضا أو نفاسا وأما دم الإستحاضة فهو من عرق وهذا الذي ذكره ليس بشيء لأن الدم الخارج من الرحم قد يكون حيضا ونفاسا وقد يكون غيرهما وقوله ص - في

دم الإستحاضة أنه دم عرق غير مانع أن يكون بعض ما يخرج من الرحم من الدم قد يكون دم الإستحاضة لأنه ص - قال إنما هو دم عرق انقطع أو داء عرض فأخبر أن دم الإستحاضة قد يكون من داء عرض وإن لم يكن من عرق وأيضا فما الذي يحيل أن يكون دم العرق خارجا من الرحم بأن ينقطع العرق فيسيل الدم إليها ثم يخرج فلا يكون حيضا ولا نفاسا ثم قال فلا يقال إن الحامل لا تحيض إلا بخبر عن الله أو عن رسوله لأنه حكاية عن غيب ونسي أن قضيته توجب أن لا يقال أنها تحيض إلا بخبر عن الله وعن الرسول لأنه حكاية عن غيب على حسب موضوعه وقاعدته بل قد يسوغ لمن نفى الحيض عن الحامل ما لا يسوغ لمن أثبته لأنا قد علمنا أنها كانت غير حائض فإذا رأت الدم واختلفوا أنه حيض أو غير حيض وفي إثبات الحيض إثبات أحكام فغير جائز إثباته حيضا إلا بتوقيف وواجب أن تكون باقية على ما كانت عليه من عدم الحيض حتى يثبت الحيض بتوقيف أو اتفاق إذ كان في إثبات الدم حيضا إثبات حكم لا سبيل إلى علمه إلا من طريق التوقيف وأيضا فإن قولنا حيض هو حكم الدم خارجا من الرحم وقد يوجد الدم خارجا من الرحم على هيئة واحدة فيحكم لما رأته في أيامها بحكم الحيض ولما رأته في غير أيامها بحكم ا لإستحاضة وكذلك النفاس فإذا كان الحيض ليس بأكثر من إثبات أحكام الدم يوجد في أوقات ولم يكن الحيض عبارة عن الدم فحسب دون ما يتعلق به من الحكم وإثبات الحكم بخروج دم لا يعلم إلا من طريق التوقيف فلم يجز أن يجعل هذا الحكم ثابتا لدم الحامل إذ لم يرد به توقيف ولا حصل عليه اتفاق ثم قال إسماعيل عطفا على قوله لا يقال إن الحامل لا تحيض إلا بخبر عن الله أو عن رسوله لأنه حكاية عن غيب ولا يلزم ذلك من قال أنها تحيض لأن الله تعالى قد قال ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض فلما قيل للنساء لزم في ذلك العموم لأن الدم إذا خرج من فرجها فالحيض أولى به حتى يعلم غيره قال أبو بكر قوله ويسئلونك عن المحيض ليس فيه بيان صفة الحيض بمعنى يتميز به عن غيره وقوله تعالى قل هو أذى إنما هو إخبار عما يتعلق بالمحيض من ترك الصلاة والصوم واجتناب الرجل جماعها وإخبار عن نجاسة دم الحيض ولزوم اجتنابه ولا دلالة فيه على وجوده في حال الحمل وعدمه وقوله لما قيل النساء لزم في ذلك العموم لا معنى له لأنه قال فاعتزلوا النساء في المحيض

وقوله في المحيض ليس فيه بيان أن الحيض ما هو ومتى ثبت المحيض وجب الإعتزال وإنما اختلفا في أن الدم الخارج في وقت الحمل هل هو حيض أم لا وقول الخصم لا يكون حجة لنفسه وقوله إن الدم إذا خرج من فرجها فالحيض أولى به دعوى مجردة من البرهان ولخصمه أن يقول إن الدم إذا خرج من فرجها فغير الحيض أولى به حتى يقوم الدليل على أنه حيض لوجودنا دما خارجا من الرحم غير حيض فلم يحصل من جميع هذا الكلام إلا دعاوى مبنية بعضها على بعض وجميعها مفتقر إلى دليل يعضدها وقد روى مطر الوراق عن عطاء عن عائشة أنها قالت في الحامل ترى الدم إنها لا تدع الصلاة وروى حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال لا يختلف فيه عندنا عن عائشة أنها كانت تقول في الحامل ترى الدم أنها تمسك عن الصلاة حتى تطهر وهذا يحتمل أن تريد به الحامل التي في بطنها ولدان فولدت أحدهما أن النفاس من الأول وأنها تدع الصلاة حتى تطهر على ما يقول أبو حنيفة وأبو يوسف في ذلك حتى يصحح الخبرين جميعا عنها وعند أصحابنا أن الحامل لا تحيض وإن ما رأته من دم فهو استحاضة وعند مالك والشافعي تحيض فالحجة لقولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في سبايا أرطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة والإستبراء هو معرفة براءة الرحم فلما جعل الشارع وجود الحيض علما لبراءة الرحم لم يجز وجوده مع الحبل لأنه لو جاز وجوده معه لم يكن وجود الحيض علما لبراءة الرحم ويدل عليه أيضا قوله ص - في طلاق السنة فليطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها فلو كانت الحامل تحيض لفصل بين جماعها وطلاقها بحيضة كغير الحامل وفي إباحته ص -

إيقاف الطلاق على الحامل بعد الجماع من غير فصل بينه وبين الطلاق بحيضة
دلالة على أنها لا تحيض آخر سورة الرعد
ومن سورة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال غدوة وعشية وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال هي النخلة تطعم في كل ستة أشهر وكذلك روي عن مجاهد وعامر وعكرمة وروى الليث بن سعد وسليمان بن أبي كثير عن علي قال أرى الحين سنة وكذلك روي عن الحكم وحماد من قولهما وكذلك روي

عن عكرمة في رواية من قوله وقال سعيد بن المسيب الحين شهران من حين تصرم النخل إلى أن تطلع وروي عنه أن النخلة لا تكون فيها أكلها إلا شهرين وروي عنه أن الحين ستة أشهر وروى القاسم بن عبدالله عن أبي حازم عن ابن عباس أنه سئل عن الحين فقال تؤتي أكلها كل حين ستة أشهر ليسجننه حتى حين ثلاث عشرة سنة لتعلمن نبأه بعد حين يوم القيامة وروى هشام بن حسان عن عكرمة أن رجلا قال إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه حر فأتى عمر بن عبدالعزيز فسأله فسألني عنها فقلت إن من الحين حين لا يدرك قوله وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين فأرى أن يمسك ما بين صرام النخل إلى حملها فكأنه أعجبه وروى عبدالرزاق عن معمر عن الحسن تؤتي أكلها كل حين قال ما بين ستة الأشهر أو السبعة قال أبو بكر الحين اسم يقع على وقت مبهم وجائز أن يراد به وقت مقدر قال الله تعالى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ثم قال وحين تظهرون فهذا على وقت صلاة الفجر ووقت الظهر ووقت المغرب على اختلاف فيه لأنه قد أريد به فعل الصلاة المفروضة في هذه الأوقات فصار حين في هذا الموضع اسما لأوقات هذه الصلوات ويشبه أن يكون ابن عباس في الرواية التي رويت عنه في الحين أنه غدوة وعشية ذهب إلى معنى قوله تعالى حين تمسون وحين تصبحون ويطلق ويراد به أقصر الأوقات كقوله تعالى وسوف يعلمون حين يرون العذاب هذا على وقت الرؤية وهو وقت قصير غير ممتد ويطلق ويراد به أربعون سنة لأنه روي في تأويل قوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر أنه أراد أربعين سنة والسنة والستة الأشهر والثلاث عشرة سنة والشهران على ما ذكرنا من تأويل السلف للآية كله محتمل فلما كان ذلك كذلك ثبت أن الحين اسم يقع على وقت مبهم وعلى أقصر الأوقات وعلى مدد معلومة بحسب قصد المتكلم ثم قال أصحابنا فيمن حلف أن لا يكلم فلانا حينا أنه على ستة أشهر وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به أقصر الأوقات إذ كان هذا القدر من الأوقات لا يحلف عليه في العادة ومعلوم أنه لم يرد به أربعين سنة لأن من أراد الحلف على أربعين سنة حلف على التأبيد من غير توقيت ثم كان قوله تعالى تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها لما اختلف السلف فيه على ما وصفنا كان أقصر الأوقات فيه ستة أشهر لأن من حين الصرام إلى وقت أوان الطلع ستة أشهر وهو أولى من اعتبار

السنة لأن وقت الثمرة لا يمتد سنة بل ينقطع حتى لا يكون فيه شيء وإذا اعتبرنا ستة أشهر كان موافقا لظاهر اللفظ في أنها تطعم ستة أشهر وتنقطع ستة أشهر وأما الشهران فلا معنى لاعتبار من اعتبرهما لأنه معلوم أن من وقت الصرام إلى وقت خروج الطلع أكثر من شهرين فإن اعتبر بقاء الثمرة شهرين فإنا قد علمنا أن من وقت خروج الطلع إلى وقت الصرام أكثر من شهرين أيضا فلما بطل اعتبار السنة واعتبار الشهرين بما وصفنا ثبت أن اعتبار الستة الأشهر أولى آخر سورة إبراهيم عليه السلام تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله سورة النحل

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة

النحل
قال الله تعالى والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع روي عن ابن عباس قال الدفء اللباس وقال الحسن الدفء ما استدفئ به من أوبارها وأصوافها وأشعارها قال أبو بكر وذلك يقتضي جواز الانتفاع بأصوافها وأوبارها في سائر الأحوال من حياة أو موت قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها روى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن نافع عن علقمة أن ابن عباس كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير وكان يقول في والأنعام خلقها لكم إن هذه للأكل وهذه للركوب والخيل والبغال والحمير لتركبوها وروى أبو حنيفة عن الهيثم عن عكرمة عن ابن عباس أنه كره لحوم الخيل وتأول والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة قال أبو بكر فهذا دليل ظاهر على حظر لحومها وذلك لأن الله تعالى ذكر الأنعام وعظم منافعها فذكر منها الأكل بقوله تعالى والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ثم ذكر الخيل والبغال والحمير وذكر منافعها الركوب والزينة فلو كان الأكل من منافعها وهو من أعظم المنافع لذكره كما ذكر من منافع الأنعام وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيه أخبار متضادة في الإباحة والحظر فروى عكرمة بن عمارة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال لما كان يوم خيبر أصاب الناس مجاعة فذبحوها فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأنسية ولحوم الخيل والبغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرم الخلسة والنهبة وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله قال أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر ولم يسمع عمرو بن دينار هذا الحديث من جابر وذلك لأن ابن جريج رواه عن عمرو بن دينار عن رجل عن جابر وجابر لم يشهد خيبر لأن محمد بن إسحاق روى عن سلام بن كركرة عن عمرو بن دينار عن جابر ولم يشهد جابر خيبر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الحمر وأذن لهم في لحوم الخيل فوردت أخبار جابر في ذلك متعارضة فجائز حينئذ أن يقال فيها وجهان أحدهما أنه إذا ورد

خبران أحدهما حاظر والآخر مبيح فالحظر أولى فجائز أن يكون الشارع أباحه في وقت ثم حظره وذلك لأن الأصل كان الإباحة والحظر طاريء عليها لا محالة ولا نعلم إباحة بعد الحظر فحكم الحظر ثابت لا محالة إذ لم تثبت إباحة بعد الحظر وقد روي عن جماعة من السلف هذا المعنى وذلك لأن ابن وهب روى عن الليث بن سعد قال خسفت الشمس بعد العصر ونحن بمكة سنة ثلاث عشر ومائة وبها يومئذ رجال من أهل العلم كثير منهم ابن شهاب وأبو بكر بن حزم وقتادة وعمرو بن شعيب قال فقمنا قياما بعد العصر ندعو الله فقلت لأيوب بن موسى القرشي ما لهم لا يصلون وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم - قال النهي قد جاء في الصلاة بعد العصر أن لا تصلى فلذلك لا يصلون وأن النهي يقطع الأمر فهذا أحد الوجهين في حديث جابر والوجه الآخر إن يتعارض خبرا جابر فيسقطا كأنهما لم يردا وقد روى إسرائيل بن يونس عن عبدالكريم الجزري عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال كنا نأكل لحوم الخيل قال عطاء فقلت له فالبغال قال أما البغال فلا وروى هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء ابنة أبي بكر قالت نحرنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأكلناه وهذا لا حجة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -

علم به وأقرهم عليه ولو ثبت أن النبي ص
- علم به وأقرهم عليه كان محمولا على أنه كان قبل الحظر وقد روى بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نهى عن لحوم الخيل وقال الزهري ما علمنا الخيل أكلت إلا في حصار وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا بأس بلحوم الخيل وروي نحوه عن الأسود بن زيد والحسن البصري وشريح وأبو حنيفة لا يطلق فيه التحريم وليس هو عنده كلحم الحمار الأهلي وإنم يكرهه لتعارض الأخبار الحاظرة والمبيحة فيه ويحتج له من طريق النظر أنه ذو حافر أهلي فأشبه الحمار والبغل ومن جهة أخرى اتفاق الجميع على أن لحم البغل لا يؤكل وهو من الفرس فلو كانت أمه حلالا لكان حكمه حكم أمه لأن حكم الولد حكم الأم إذ هو كبعضها ألا ترى أن حمارة أهلية لو ولدت من حمار وحشي لم يؤكل ولدها ولو ولدت حمارة وحشية من حمار أهلي أكل ولدها فكان الولد تابعا لأمه دون أبيه فلما كان لحم البغل غير مأكول وإن كانت أمه فرسا دل ذلك على أن الخيل غير مأكولة قوله تعالى وتستخرجوا منه حلية تلبسونها يحتج به أبو يوسف

ومحمد فيمن حلف لا يلبس حليا فلبس لؤلؤا أنه يحنث لتسمية الله إياه حليا وأبو حنيفة يقول لا يحنث لأن الأيمان محمولة على التعارف وليس في العرف تسمية اللؤلؤ وحده حليا ألا ترى أن بائعه لا يسمى بائع حلي وأما الآية فإن فيها أيضا لتأكلوا منه لحما طريا ولا خلاف بينهم أنه لو حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا أنه لا يحنث مع تسمية الله تعالى إياه لحما طريا
باب

السكر
قال الله تعالى ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا اختلف السلف في تأويل السكر فروي عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما قالا السكر ما حرم منه والرزق الحسن ما أحل منه وروي عن إبراهيم والشعبي وأبي رزين قالوا السكر خمر وروى جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن عبدالله قال السكر خمر وروى ابن شبرمة عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال السكر خمر إلا أنه من التمر وقال هؤلاء إنه منسوخ بتحريم الخمر وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالرحمن عن سفيان عن الأسود بن قيس عن عمرو بن سفيان عن ابن عباس قال هو ما حرم من ثمرتيهما وما أحل من ثمرتيهما قال أبو بكر هذا نحو قول الأولين وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس تتخذون منه سكرا قال السكر النبيذ والرزق الحسن الزبيب قال أبو بكر لما تأوله السلف على الخمر وعلى النبيذ وعلى الحرام منه ثبت أن الاسم يقع على الجميع وقولهم إنه منسوخ بتحريم الخمر يدل على أن الآية اقتضت إباحة السكر وهو الخمر والنبيذ والذي ثبت نسخه من ذلك إنما هو الخمر ولم يثبت تحريم النبيذ فوجب تحليله بظاهر الآية إذ لم يثبت نسخه ومن ادعى أنه منسوخ بتحريم الخمر لم يصح له ذلك إلا بدلالة إذ كان اسم الخمر لا يتناول النبيذ وروى سعيد عن قتادة قال السكر خمور الأعاجم والرزق الحسن ما ينبذون ويخللون ويأكلون أنزلت هذه الآية ولم تحرم الخمر وإنما جاء تحريمها في سورة المائدة وقد روى أبو يوسف قال حدثنا أيوب بن جابر الحنفي عن أشعث بن سليمان عن أبيه عن معاذ بن جبل قال لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إلى اليمن أمره أن ينهاهم عن السكر قال

أبو بكر وهذا السكر المحرم عندنا هو نقيع التمر قوله تعالى نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين فيه الدلالة على طهارة اللبن المحلوب من الشاة الميتة من وجهين أحدهما عموم اللفظ في إباحة اللبن من غير فرق بين ما يؤخذ منه حيا أو ميتا والثاني إخباره تعالى أنه خارج من بين فرث ودم وحكمه بطهارته مع ذلك إذ كان ذلك موضع الخلقة فثبت أن اللبن لا ينجس بنجاسة موضع الخلقة وهو ضرع الميتة كما لم ينجس بمجاورته للفرث والدم قوله تعالى يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس فيه بيان طهارة العسل ومعلوم أنه لا يخلو من النحل الميت وفراخه فيه وحكم الله تعالى مع ذلك بطهارته فأخبر عما فيه من الشفاء للناس فدل ذلك على أن مالا دم له لا يفسد ما يموت فيه قوله تعالى والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة إنهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم حتى يكونوا فيه سواء وهم لا يرضون بذلك لأنفسهم وهم يشركون عبيدي في ملكي وسلطاني وقيل معناه إنهم سواء في أني رزقت الجميع وأنه لا يمكن أحد أن يرزق عبده إلا برزقي إياه قال أبو بكر قد تضمنت الآية انتفاء المساواة بين المولى وبين عبده في الملك وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك من وجهين أحدهما أنه لو جاز أن يملك العبد ما يملكه المولى إياه لجاز أن يملكه ماله فيملكه حتى يكون مساويا له ويكون ملك العبيد مثل ملك المولى بل كان يجوز أن يكون العبد أفضل في باب الملك وأكثر ملكا وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك وإن ملكه المولى إياه لأن الآية قد اقتضت نفي المساواة له في الملك وأيضا لما جعله مثلا للمشركين في عباداتهم الأوثان وكان معلوما أن الأوثان لا تملك شيئا دل على أن العبد لا يملك فنفيه الشركة بينه وبين الحر كما نفى الشركة بين الله وبين الأوثان قوله تعالى وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة روي عن ابن عباس أن الحفدة الخدم والأعوان وقال الحسن من أعانك فقد حفدك وقال مجاهد وقتادة وطاوس الحفدة الخدم وروي عن عبدالله وأبي الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا الحفدة الأختان ويقال إن أصل الحفد الإسراع في العمل ومنه وإليك نسعى ونحفد والحفدة جمع حافد كقولك كامل وكملة قال أبو بكر لما تأوله السلف على هذين المعنيين من الخدم والأعوان ومن الأختان وجب أن يكون عليهما وفيه

دلالة على أن الأب يستحق على ابنه الخدمة والمعونة لقوله تعالى وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ولذلك قال أصحابنا إن الأب إذا استأجر ابنه لخدمته أن لا يستحق الأجر إن خدمه لأنها مستحقة عليه بغير الإجارة قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء روي عن ابن عباس وقتادة أنه مثل ضرب للكافر الذي لا خير عنده والمؤمن الذي يكتسب الخير وقال الحسن ومجاهد هو مثل ضرب لعبادتهم الأوثان التي لا تملك شيئا والعدول عن عبادة الله الذي يملك كل شيء قال أبو بكر قد حوت هذه الآية ضروبا من الدلالة على أن العبد لا يملك أحدها قوله عبدا مملوكا نكرة فهو شائع في جنس العبيد كقول القائل لا تكلم عبدا وأعط هذا عبدا أن ذلك ينتظم كل من يسمى بهذا الاسم وكذلك قوله يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة فكل من لحقه هذا الاسم قد انتظمه الحكم إذ كان لفظا منكورا كذلك قوله عبدا مملوكا قد انتظم سائر العبيد ثم قال لا يقدر على شيء لا يخلو من أن يكون المراد نفي القدرة أو نفي الملك أو نفيهما ومعلوم أنه لم يرد به نفي القدرة إذ كان العبد والحر لا يختلفان في القدرة من حيث اختلفا في الرق والحرية لأن العبد قد يكون أقدر من الحر فعلمنا أنه لم يرد به نفي القدرة فثبت أنه أراد نفي الملك فدل على أن العبد لا يملك ووجه آخر وهو أنه تعالى جعله مثلا للأصنام فشبهها بالعبيد المملوكين في نفي الملك ومعلوم أن الأصنام لا تملك شيئا فوجب أن يكون من ضرب المثل به لا يملك شيئا وإلا زالت فائدة ضرب المثل به وكان يكون حينئذ ضرب المثل بالعبد الحر سواء وأيضا لو أراد عبدا بعينه لا يملك شيئا وجاز أن يكون من العبيد من يملك لقال ضرب الله مثلا رجلا لا يقدر على شيء فلما خص العبد بذلك دل على أن وجه تخصيصه أنه ليس ممن يملك فإن قيل روى إبراهيم عن عكرمة عن يعلى بن منبه عن ابن عباس في هذه الآية انها نزلت في رجل من قريش وعبده ثم أسلما فنزلت الأخرى في رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء إلى قوله صراط مستقيم قال كان مولى لعثمان وكان عثمان يكفله وينفق عليه الذي ينفق بالعدل وهو على صراط مستقيم والآخر أبكم وهذا يوجب أن يكون في عبد بعينه وقد يجوز أن يكون في العبيد من لا يملك شيئا كما يكون في الأحرار من لا يملك قيل له هذه الرواية ضعيفة عن ابن عباس وظاهر اللفظ ينفيها لأنه لو أراد عبدا بعينه لعرفه بالألف واللام ولم يذكره بلفظ

منكور وأيضا معلوم أن الخطاب في ذكر عبدة الأوثان والاحتجاج عليهم ألا ترى إلى قوله ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال ثم قال ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فأخبر أن مثل ما يعبدون مثل العبيد المماليك الذين لا يملكون شيئا ولا يستطيعون أن يملكوا تأكيدا لنفي أملاكهم ولو كان المراد عبدا بعينه وكان ذلك العبد ممن يجوز أن يملك ما كان بينه وبين الحر فرق وكان تخصيصه العبد بالذكر لغوا فثبت أن المعنى فيه نفي ملك العبيد رأسا فإن قيل فقد قال وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه ولم يدل على أن الأبكم لا يملك شيئا قيل له إنما أراد به عبدا أبكم ألا ترى إلى قوله وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير فذكر المولى وتوجيهه يدل على أن المراد العبد كأنه ذكر أولا عبدا غير أبكم وجعله مثلا للصنم في نفي الملك ثم زاده نقصا بقوله أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير فدل على أنه أراد عبدا أبكم مبالغة في وصف الأصنام بالنقص وقلة الخير وإنه مملوك متصرف فيه فإن قيل أراد بقوله وهو كل على مولاه ابن عمه لأن ابن العم يسمى مولى قيل له هذا خطأ لأن ابن العم لا تلزمه نفقة ابن عمه ولا أن يكون كلا عليه وليس له توجيهه في أموره فلما ذكر الله تعالى هذين المعنيين للأبكم علمنا أنه لم يرد به الحر الذي له ابن عم وأنه أراد عبدا مملوكا أبكم وعلى أنه لا معنى لذكر ابن العم ههنا لأن الأب والأخ والعم أقرب إليه من ابن العم وأولى به فحمله على ابن العم يزيل فائدته وأيضا فإن المولى إذا أطلق يقتضي مولى الرق أو مولى النعمة ولا يصرف إلى ابن العم إلا بدلالة فإن قيل لا يجوز أن يكون المراد الأصنام لأنه قال عبدا مملوكا ولا يقال ذلك للصنم قيل له قد أغفلت موضع الدلالة لأنه إنما ذكر عبدا مملوكا لنا وجعله مثلا للأصنام التي كانوا يعبدونها وأخبر أنه بمنزلة مماليكنا الذين لا يملكون شيئا فكما أن الصنم لا يملك بحال كذلك العبد وعلى أن الله تعالى قد سمى الأصنام عبادا بقوله إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم وقد اختلف الفقهاء في ملك العبد فقال أصحابنا والشافعي العبد لا يملك ولا يتسرى وقال مالك يملك ويتسرى وقد روى أبو حنيفة قال حدثنا إسماعيل بن أمية المكي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن ابن عمر قال لا يحل

فرج المملوك إلا لمن باع أووهب أو تصدق أو أعتق جاز يعني بذلك الملوك وكذلك روى يحيى بن سعيد عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر وروي عن إبراهيم وابن سيرين والحكم أن العبد لا يتسرى وروي عن ابن عباس أن العبد يتسرى وروى يعمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرى بعض رقيقه يتخذ السرية فلا ينكر عليه وقال الحسن والشعبي يتسرى العبد بإذن سيده وروى أبو يوسف عن العلاء بن كثير عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال العبد لا يتسرى وهذا يدل على أنه لا يملك لأنه لو ملك لجاز التسري
بقوله والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ويدل عليه قوله ص - من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع وذلك لأنه لما أن جعله للبائع أو للمشتري أخرج العبد منه صفرا بلا شيء ويدل عليه أن المولى أخذ ما في يده وهو أولى به منه لأجل ملكه لرقبته فلو كان العبد ممن يملك لما كان له أخذ ما في يده لأن ما بان به العبد عن مولاه فلا سبل للمولى عليه فيه ألا ترى أن العبد لما ملك طلق امرأته ووطء زوجته فهي أمة للمولى لم يملكه المولى وكذلك سائر ما يملكه العبد من نفسه لم يملكه المولى منه فلو ملك العبد المال لما كان للمولى أخذه منه لأجل ملكه له كما لم يملك طلاق امرأته لأجل ملكه فإن قيل جواز أخذ المولى ماله لا يدل على أنه غير مالك لأن للغريم أن يأخذ ما في يد المدين بدينه ولم يدل على أن المدين غير مالك قيل له لأنه يأخذه لا لأنه مالك للمدين بل لأجل دينه الذي عليه والمولى يستحقه لأجل ملكه لرقبته فلو كان العبد مالكا لم يستحق المولى لأجل ملكه لرقبته كما لم يملك طلاق امرأته لأجل ملكه لرقبته وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك ودليل آخر وهو أنه لا خلاف أن من كاتب عبده على مال فأداه أنه يعتق ويكون الولاء للمولى وأنه معتق على ملك مولاه فلو كان ممن يملك لملك رقبته بالمال الذي أداه ولا ينتقل إليه كما ينتقل إلى غيره لو أمره بأن يعتقه عنه على مال ولو ملك رقبته لعتق على نفسه لكان لا يكون الولاء للمولى بل كان يكون ولاؤه لنفسه فلما لم يصح انتقال ملك رقبته إليه بالمال وعتق على ملك المولى دل ذلك على أنه لا يملك لأنه لو كان ممن يملك لكان يملك رقبته أولى إذ كانت رقبته مما يجوز فيه التمليك فإن قيل قوله ص - من باع عبدا وله مال فماله للبائع يدل على أن العبد يملك لإضافته المال إليه قيل له قد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم -
المال للبائع في حال البيع ومعلوم أنه

لا يجوز أن يكون ملكا للمولى وملكا للعبد لاستحالة أن يملك وإلا لكان لكل واحد جميع المال ففي هذا الخبر بعينه إثبات ما أضاف إلى العبد ملكا للبائع فثبت أن إضافته إلى العبد على وجه اليد كما تقول هذه دار فلان وهو ساكن فيها وليس بمالك وكقوله ص -

أنت ومالك لأبيك ولم يرد إثبات ملك الأب فإن قيل قد روى عبيدالله بن أبي
جعفر عن بكير بن عبدالله بن الأشج عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من أعتق عبدا فماله له إلا أن يشترط السيد ماله فيكون له وهذا يدل على أن العبد يملك لأنه لو لم يملكه قبل العتق لم يملكه بعده قيل له لا دلالة في هذا على أن العبد يملك لأنه جائز أن يكون جريان العادة بأن ما على العبد من الثياب ونحو ذلك لا يؤخذ منه عند العتق جعله كالمنطوق به وجعل ترك المولى لأخذه منه دلالة على أنه قد رضي منه بتمليكه إياه بعد العتق وأيضا فقد روي عن جماعة من أهل النقل تضعيفه وقد قيل أن عبيدالله بن أبي جعفر غلط في رفع هذا الحديث وفي متنه وإن أصله ما رواه أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أعتق عبدا لم يعرض لماله فهذا هو أصل الحديث فأخطأ عبيدالله في رفعه وفي لفظه وقد روي خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ما رواه أبو مسلم الكجي قال حدثنا محمد بن عبدالله الأنصاري قال حدثنا عبدالأعلى بن أبي المساور عن عمران بن عمير عن أبيه قال وكان مملوكا لعبدالله بن مسعود قال له عبدالله يا عمير بين لي مالك فإني أريد أن أعتقك إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول من أعتق عبدا فماله للذي أعتق وكذلك رواه يونس بن إسحاق عن ابن عمير عن ابن مسعود مرفوعا وقد بلغنا أن المسعودي رواه موقوفا على ابن مسعود وذلك لا يفسده عندنا فإن احتج محتج بقوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وذلك عائد على جميع المذكورين من الأيامى والعبيد والإماء فأثبت للعبد الغنى والفقر فدل على أنه يملك إذ لو لم يملك لكان أبدا فقيرا قيل له لا يخلو قوله إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله من أن يكون المراد به الغنى بالوطء الحلال عن الحرام أو الغنى بالمال فلما وجدنا كثيرا من المتزوجين لا يستغنون بالمال ومعلوم أن مخبر أخبار الله لا محالة كائن على ما أخبر به علمنا أنه لم يرد به الغني بالمال وإنما أراد الغني بالوطء الحلال عن الحرام وأيضا فإنه إن أراد الغني بالمال فإنه مقصور على الأيامى والأحرار المذكورين في الآية دون العبيد

الذين لا يملكون بما ذكرنا من الدليل وأيضا فإن العبد لا يستغني بالمال عند مخالفنا لأن المولى أولى بجميع ماله منه فأي غنى في مال يحصل له وغيره أولى به منه فالغنى في هذا الموضع إنما يحصل للمولى دون العبد والدليل على أن العبد لا يكون غنيا بالمال قول النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم وعند مخالفنا إنه لا يؤخذ من العبد فلو كان غنيا لوجب في ماله الزكاة إذ هو مسلم غني من أهل التكليف فإن قيل لما كان العبد يملك الطلاق وجب أن يملك المال كالحر قيل له إنما ملك العبد الطلاق لأن المولى لا يملكه منه فلو ملك العبد المال وجب أن لا يملك المولى منه وأن لا يجوز له أخذه منه لأن كل ما يملكه المولى من عبده فإن العبد لا يملكه منه ألا ترى أن العبد المحجور عليه لو أقر بدين لم يلزمه في الرق ولو أقر المولى عليه به لزمه وكذلك للمولى أن يزوج عبده وليس للعبد أن يزوج نفسه لما كان ذلك معنى يملكه المولى منه ولو أقر المولى عليه بقصاص أو حد لم يلزمه لأن العبد يملك ذلك من نفسه وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك إذ لو ملكه لما جاز للمولى أن يتصرف عليه في ماله كما لا يتصرف عليه في الطلاق حين كان العبد يملكه قوله تعالى ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين فيه الدلالة على جواز الانتفاع بما يؤخذ منها من ذلك بعد الموت إذ لم يفرق بين أخذها بعد الموت وقبله قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء يعني به والله أعلم تبيان كل شيء من أمور الدين بالنص والدلالة فما من حادثة جليلة ولا دقيقة إلا ولله فيها حكم قد بينه في الكتاب نصا أو دليلا فما بينه النبي صلى الله عليه وسلم -

فإنما صدر عن الكتاب بقوله تعالى وما
آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله وقوله من يطع الرسول فقد أطاع الله فما بينه الرسول فهو عن الله عز و جل وهو من تبيان الكتاب له لأمر الله إيانا بطاعته واتباع أمره وما حصل عليه الإجماع فمصدره أيضا عن الكتاب لأن الكتاب قد دل على صحة حجة الإجماع وإنهم لا يجتمعون على ضلال وما أوجبه القياس واجتهاد الرأي وسائر ضروب الإستدلال من الإستحسان وقبول خبر الواحد جميع ذلك من تبيان الكتاب لأنه قد دل على ذلك أجمع فما من حكم من أحكام الدين إلا وفي الكتاب تبيانه من الوجوه التي ذكرنا وهذه الآية دالة على صحة القول بالقياس وذلك لأنا إذا لم نجد للحادثة حكما

منصوصا في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع وقد أخبر الله تعالى أن في الكتاب تبيان كل شيء من أمور الدين ثبت أن طريقة النظر والإستدلال بالقياس على حكمه إذ لم يبق هناك وجه يوصل إلى حكمها من غير هذه الجهة ومن قال بنص خفي أو بالإستدلال فإنما خالف في العبارة وهو موافق في المعنى ولا ينفك من استعمال اجتهاد الرأي والنظر القياس من حيث لا يشعر قوله تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي أما العدل فهو الإنصاف وهو واجب في نظر العقول قبل ورود السمع وإنما ورد السمع بتأكيد وجوبه والإحسان في هذا الموضع التفضل وهو ندب والأول فرض وإيتاء ذي القربى فيه الأمر بصلة الرحم وقوله تعالى يأمر بالعدل قد انتظم العدل في الفعل والقول قال الله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا فأمر بالعدل في القول وهذه الآية تنتظم الأمرين وأما قوله تعالى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي فإنه قد انتظم سائر القبائح والأفعال والأقوال والضمائر المنهي عنها والفحشاء قد تكون بما يفعله الإنسان في نفسه مما لا يظهر أمره وهو مما يعظم قبحه وقد تكون مما يظهر من الفواحش وقد تكون لسوء العقيدة والنحل لأن العرب تسمي البخيل فاحشا والمنكر ما يظهر للناس مما يجب إنكاره ويكون أيضا في الإعتقادات والضمائر وهو ما تستنكره العقول وتأباه والبغي ما يتطاول به من الظلم لغيره فكل واحد من هذه الأمور الثلاثة له في نفسه معان خاصة تنفصل بها من غيره
في

الوفاء بالعهد
قال الله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها قال أبو بكر العهد ينصرف على وجوه فمنها الأمر قال الله تعالى ولقد عهدنا إلى بني آدم من قبل وقال ألم أعهد إليكم يا بني آدم والمراد الأمر وقد يكون العهد يمينا ودلالة الآية على أن المراد في هذا الموضع اليمين ظاهرة لأنه قال ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ولذلك قال أصحابنا أن من قال علي عهد الله إن فعلت كذا إنه حالف وقد روي في حديث حذيفة حين أخذه المشركون وأباه فأخذوا منه عهد الله أن لا يقاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -
فلما قدما المدينة ذكرا ذلك للنبي ص
- فقال تفي لهم بعهدهم وتستعين الله عليهم وروي عن عطاء والحسن وابن سيرين وعامر وإبراهيم النخعي ومجاهد إذا قال علي عهد الله إن فعلت

كذا فهو يمين قوله تعالى ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا شبه الله تعالى من عقد على نفسه شيئا لله تعالى فيه قربة ثم فسخه ولم يتمه بالمرأة التي تغزل شعرا أو ما أشبهه ثم نقضت ذلك بعد أن فتلته فتلا شديدا وهو معنى قوله من بعد قوة لأن العرب تسمي شدة الفتل قوة فمن عقد على نفسه عقدا أو أوجب قربة أو دخل فيها أن لا يتمها فيكون بمنزلة التي نقضت غزلها بعد قوة وهذا يوجب إن كل من دخل في صلاة تطوع أو صوم نفل أو غير ذلك من القرب أن لا يجوز له الخروج منه قبل إتمامه فيكون بمنزلة من نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا
باب

الإستعاذة
قال الله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم روى عمرو بن مرة عن عبادة بن عاصم عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم -
حين افتتح الصلاة قال اللهم أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه وروى
أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ في صلاته قبل القراءة وروي عن عمرو بن عمر الإستعاذة قبل القراءة في الصلاة وروى ابن جريج عن عطاء قال الإستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة وغيرها وقال محمد بن سيرين إذا تعوذت مرة أو قرأت مرة بسم الله الرحمن الرحيم أجزأ عنك وكذلك روي عن إبراهيم النخعي وكان يستعيذ في الصلاة حين يستفتح قبل أن يقرأ أم القرآن وروي عن ابن سيرين رواية أخرى قال كلما قرأت فاتحة الكتاب حين تقول آمين فاستعذ وقال أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي يتعوذ قبل القراءة وقال مالك لا يتعوذ في المكتوبة قبل القراءة ويتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ قال أبو بكر قوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله يقتضي ظاهره أن تكون الإستعاذة بعد القراءة كقوله فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا ولكنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وعن السلف الذين ذكرناهم الاستعاذة قبل القراءة وقد جرت العادة بإطلاق
مثله والمراد إذا أردت ذلك كقوله تعالى وإذا قلتم فاعدلوا وقوله فإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب وليس المراد أن تسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم وكقوله تعالى إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة وكذلك قوله فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله معناه إذا قرأت فقدم الإستعاذة قبل

القراءة وحقيقة معناه إذا أردت القراءة فاستعذ وكقول القائل إذا قلت فاصدق وإذا أحرمت فاغتسل يعني قبل الإحرام والمعنى في جميع ذلك إذا أردت ذلك كذلك قوله فإذا قرأت القرآن معناه إذا أردت القراءة وقول من قال الإستعاذة بعد الفراغ من القراءة شاذ وإنما الإستعاذة قبل القراءة لنفي وساوس الشيطان عند القراءة قال الله تعالى وما أرسلنا من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان فإنما أمر الله بتقديم الإستعاذة قبل القراءة لهذه العلة والإستعاذة ليست بفرض لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة ولو كانت فرضا لم يخله من تعليمها
قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان روى معمر عن عبدالكريم عن أبي عبيد بن محمد بن عمار بن ياسر إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان قال أخذ المشركون عمارا وجماعة معه فعذبوهم حتى قاربوهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال كيف كان قلبك قال مطمئن بالإيمان قال فإن عادوا فعد قال أبو بكر هذا اصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمره به فأبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر ويعارض بها غيره إذا خطر ذلك بباله فإن لم يفعل ذلك مع خطوره بباله كان كافرا قال محمد بن الحسن إذا أكرهه الكفار على أن يشتم محمدا ص - فخطر بباله أن يشتم محمدا آخر غيره فلم يفعل وقد شتم النبي صلى الله عليه وسلم - كان كافرا وكذلك لو قيل له لتسجدن لهذا الصليب فخطر بباله أن يجعل السجود لله فلم يفعل وسجد للصليب كان كافرا فإن أعجلوه عن الروية ولم يخطر بباله شيء وقال ما أكره عليه أو فعل لم يكن كافرا إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان قال أبو بكر وذلك لأنه إذا خطر بباله ما ذكرنا فقد أمكنه أن يفعل الشتيمة لغير النبي صلى الله عليه وسلم - إذا لم يكن مكرها على الضمير وإنما كان مكرها على القول وقد أمكنه صرف الضمير إلى غيره فمتى لم يفعله فقد اختار إظهار الكفر من غير إكراه فلزمه حكم الكفر وقوله ص - لعمار إن عادوا فعد إنما هو على وجه الإباحة لا على وجهة الإيجاب ولا على الندب وقال أصحابنا الأفضل أن لا يعطى التقية ولا يظهر الكفر حتى يقتل وإن كان غير ذلك مباحا له وذلك لأن خبيب بن عدي لما أراد أهل مكة أن يقتلوه لم يعطهم التقية حتى قتل فكان عند النبي صلى الله عليه وسلم - وعند المسلمين أفضل من عمار في

إعطائه التقية ولأن في ترك إعطاء التقية إعزازا للدين وغيظا للمشركين فهو بمنزلة من قاتل العدو حتى قتل فحظ الإكراه في هذا الموضع إسقاط المأثم عن قائل هذا القول حتى يكون بمنزلة من لم يقل وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فجعل المكره كالناسي والمخطئ في إسقاط المأثم عنه فلو أن رجلا نسي أو أخطأ فسبق لسانه بكلمة الكفر لم يكن عليه فيها مأثم ولا تعلق بها حكم وقد اختلف الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه وأيمانه فقال أصحابنا ذلك كله لازم وقال مالك والشافعي لا يلزمه شيء من ذلك والذي يدل على لزوم حكم هذه الأشياء ظاهر قوله تعالى فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ولم يفرق بين طلاق المكره والطائع وقال تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا لأيمان بعد توكيدها ولم يفرق بين عهد المكره وغيره وقال ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه ويدل عليه أيضا ما روى يونس بن بكير عن الوليد بن جميع الزهري عن أبي الطفيل عن حذيفة قال أقبلت أنا وأبي ونحن نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد توجه إلى بدر فأخذنا كفار قريش فقال إنكم لتريدون محمدا فقلنا لا نريده إنما نريد المدينة قال فأعطونا عهد الله وميثاقه لتنصرفن إلى المدينة ولا تقاتلون معه فأعطيناهم عهد الله فمررنا برسول الله صلى الله عليه وسلم -

وهو يريد بدرا فأخبرناه بما كان منا وقلنا ما تأمر يا رسول الله فقال
النبي صلى الله عليه وسلم - تفي لهم بعهدهم وتستعين الله عليهم فانصرفنا إلى المدينة فذلك منعنا من الحضور معهم فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم - إحلاف المشركين إياهم على وجه الإكراه وجعلها كيمين الطوع فإذا ثبت ذلك في اليمين فالطلاق والعتاق والنكاح مثلها لأن أحدا لم يفرق بينهما ويدل عليه حديث عبدالرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة فلما سوى النبي صلى الله عليه وسلم - فيهن بين الجاد والهازل ولأن الفرق بين الجد والهزل أن الجاد قاصد إلى اللفظ وإلى إيقاع حكمه والهازل قاصد إلى اللفظ غير مريد لإيقاع حكمه علمنا أنه لا حظ للإرادة في نفي الطلاق وأنهما جميعا من حيث كانا قاصدين للقول أن يثبت حكمه عليهما وكذلك المكره قاصد للقول غير مريد لإيقاع حكمه فهو كالهازل سواء فإن قيل لما كان المكره علىالكفر لا تبين منه امرأته واختلف حكم الطوع والإكراه فيه وكان الكفر يوجب

الفرقة كالطلاق وجب أن يختلف حكم طلاق المكره والطائع قيل له ليس لفظ الكفر من ألفاظ الفرقة لا كناية ولا تصريحا وإنما تقع به الفرقة إذا حصل والمكره على الكفر لا يكون كافرا فلما لم يصر كافرا بإظهاره كلمة الكفر على وجه الإكراه لم تقع الفرقة وأما الطلاق فهو من ألفاظ الفرقة والبينونة وقد وجد إيقاعه في لفظ مكلف فوجب أن لا يختلف حكمه في حال الإكراه والطوع فإن قال قائل تساوى حال الجد والهزل في الطلاق لا يوجب تساوي حال الإكراه والطوع فيه لأن الكفر يستوي حكم جده وهزله ولم يستو حال الإكراه والطوع فيه قيل له نحن لم نقل إن كل ما يستوي جده وهزله يستوي حال الإكراه والطوع فيه وإنما قلنا إنه لما سوى النبي صلى الله عليه وسلم - بين الجاد والهازل في الطلاق علمنا أنه لا اعتبار فيه بالقصد للإيقاع بعد وجود القصد منه إلى القول فاستدللنا بذلك على أنه لا اعتبار فيه للقصد للإيقاع بعد وجود لفظ الإيقاع من مكلف وأما الكفر فإنما يتعلق حكمه بالقصد لا بالقول ألا ترى أن من قصد إلى الجد بالكفر أو الهزل إنه يكفر بذلك قبل أن يلفظ به وأن القاصد إلى إيقاع الطلاق لا يقع طلاقه إلا باللفظ ويبين لك الفرق بينهما أن الناسي إذا تلفظ بالطلاق وقع طلاقه ولا يصير كافرا بلفظ الكفر على وجه النسيان وكذلك من غلط بسبق لسانه بالكفر لم يكفر ولو سبق لسانه بالطلاق طلقت امرأته فهذا يبين الفرق بين الأمرين وقد روي عن علي وعمر وسعيد بن المسيب وشريح وإبراهيم النخعي والزهري وقتادة قالوا طلاق المكره جائز وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير والحسن وعطاء وعكرمة وطاوس وجابر بن زيد قالوا طلاق المكره لا يجوز وروى سفيان عن حصين عن الشعبي قال إذا أكرهه السلطان على الطلاق فهو جائز وإن أكرهه غيره لم يجز وقال أصحابنا فيمن أكره بالقتل وتلف بعض الأعضاء على شرب الخمر أو أكل الميتة لم يسعه أن لا يأكل ولا يشرب وإن لم يفعل حتى قتل كان آثما لأن الله تعالى قد أباح ذلك في حال الضرورة عند الخوف على النفس فقال إلا ما اضطررتم إليه ومن لم يأكل الميتة عند الضرورة حتى مات جوعا كان آثما بمنزلة تارك أكل الخبز حتى يموت وليس ذلك بمنزلة الإكراه على الكفر في أن تارك إعطاء التقية فيه أفضل لأن أكل الميتة وشرب الخمر تحريمه من طريق السمع فمتى أباحه السمع فقد زال الحظر وعاد إلى حكم سائر المباحات وإظهار الكفر محظور

من طريق العقل لا يجوز استباحته للضرورات وإنما يجوز له إظهار اللفظ على معنى المعاريض والتورية باللفظ إلى غير معنى الكفر من غير اعتقاد لمعنى ما أكره عليه فيصير اللفظ بمنزلة لفظ الناسي والذي يسبقه لسانه بالكفر فكان ترك إظهاره أولى وأفضل وإن كان موسعا عليه إظهاره عند الخوف وقالوا فيمن أكره على قتل رجل أو على الزنا بامرأة لا يسعه الإقدام عليه لأن ذلك من حقوق الناس وهما متساويان في الحقوق فلا يجوز إحياء نفسه بقتل غيره بغير استحقاق وكذلك الزنا بالمرأة فيه انتهاك حرمتها بمعنى لا تبيحه الضرورة وإلحاقها بالشين والعار وليس كذلك عندهم الإكراه على القذف فيجوز له أن يفعل من قبل أن القذف الواقع على وجه الإكراه لا يؤثر في المقذوف ولا يلحقه به شيء فأحكام الإكراه مختلفة على الوجوه التي ذكرنا منها ما هو واجب فيه إعطاء التقية وهو الإكراه على شرب الخمر وأكل الميتة ونحو ذلك مما طريق حظره السمع ومنها مالا يجوز فيه إعطاء التقية وهو الإكراه على قتل من لا يستحق القتل ونحو الزنا ونحو ذلك مما فيه مظلمة لآدمي ولا يمكن استدراكه ومنها ما هو جائز له فعل ما أكره عليه والأفضل تركه كالإكراه على الكفر وشبهه قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين روي عن الشعبي وقتادة وعطاء بن يسار أن المشركين لما مثلوا بقتلى أحد قال المسلمون لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم أعظم مما مثلوا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال مجاهد وابن سيرين هو في كل من ظلم بغضب او نحوه فإنما يجازى بمثل ما عمل قال أبو بكر نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا اعتبار عمومها في جميع ما انتظمه الاسم فوجب استعمالها في جميع ما انطوى تحتها بمقتضى ذلك أن من قتل رجلا قتل به ومن جرح جراحة جرح به جراحة مثلها وإن قطع يد رجل ثم قتله أن للولي قطع يده ثم قتله واقتضى أيضا أن من قتل رجلا برضخ رأسه بالحجر أو نصبه غرضا فرماه حتى قتله أنه يقتل بالسيف إذ لا يمكن المعاقبة بمثل ما فعله لأنا لا نحيط علما بمقدار الضرب وعدده ومقدار ألمه وقد يمكننا المعاقبة بمثله في باب إتلاف نفسه قتلا بالسيف فوجب استعمال حكم الآية فيه من هذا الوجه دون الوجه الأول وقد دلت أيضا على أن من استهلك لرجل مالا فعليه مثله وإذا غصبه ساجة فأدخلها في بنائه أو غصبه حنطة فطحنها أن عليه المثل فيهما جميعا لأن المثل في الحنطة بمقدار كيلها من جنسها وفي الساجة

قيمتها لدلالة قد دلت عليه وقد دلت على أن العفو عن القاتل والجاني أفضل من استيفاء القصاص بقوله تعالى ولئن صبرتم لهو خير للصابرين آخر سورة النحل
سورة

بني إسرائيل
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز و جل سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام روي عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم -
أسري به من بيتها تلك الليلة فقال تعالى من
المسجد الحرام لأن الحرم كله مسجد وقد تقدم ذكر ذلك فيما سلف وقال الحسن وقتادة معناه كان في نفسه فأسري به قوله عز و جل وإن أسأتم فلها قيل معناه فإليها كما يقال أحسن إلى نفسه وأساء إلى نفسه وحروف الإضافة يقع بعضها موضع بعض إذا تقاربت وقال تعالى بأن ربك أوحى لها والمعنى أوحى إليها قوله تعالى فمحونا آية الليل يعني جعلناها لا يبصر بها كما لا يبصر بما يمحى من الكتاب وهو في نهاية البلاغة وقال ابن عباس محونا آية الليل السواد الذي في القمر قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه قيل إنما أراد به عمله من خير أو شر على عادة العرب في الطائر الذي يجيء من ذات اليمين فيتبرك به والطائر الذي يجيء من ذات الشمال فيتشاءم به فجعل الطائر اسما للخير والشر جميعا فاقتصر على ذكره دون ذكر كل واحد منهما على حياله لدلالته على المعنيين وأخبر أنه في عنقه كالطوق الذي يحيط به ويلازمه مبالغة في الوعظ والتحذير واستدعاء إلى الصلاح وزجرا عن الفساد قوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا قيل فيه وجهان أحدهما إنه لا يعذب فيما كان طريقه السمع دون العقل إلا بقيام حجة السمع فيه من جهة الرسول وهذا يدل على أن من أسلم من أهل الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها من الشرائع السمعية إنه لا يلزمه قضاء شيء منها إذا علم لأنه لم يكن لازما له إلا بعد قيام حجة السمع عليه وبذلك وردت السنة في قصة أهل قباء حين أتاهم آت أن القبلة قد حولت وهم في الصلاة فاستداروا إلى الكعبة ولم يستأنفوا لفقد قيام الحجة عليهم بنسخ القبلة وكذلك قال أصحابنا فيمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب الصلاة عليه إنه لا قضاء عليه فيما ترك قالوا ولو أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بفرض الصلاة عليه فعليه القضاء

استحسانا والقياس أن يكون مثل الأول لعدم قيام حجة السمع عليه وحجة الاستحسان إنه قد رأى الناس يصلون في المساجد بأذان وإقامة وذلك دعاء إليها فكان ذلك بمنزلة قيام الحجة عليه ومخاطبة المسلمين إياه بلزوم فرضها فلا يسقطها عنه تضييعه إياه والوجه الثاني إنه لا يعذب عذاب الإستئصال إلا بعد قيام حجة السمع بالرسول وإن مخالفة موجبات أحكام العقول قبل ورود السمع من جهة الرسول لا توجب في حكم الله عذاب الإستئصال قوله تعالى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها قال سعيد أمروا بالطاعة فعصوا وعن عبدالله قال كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية قد أمر بنو فلان وعن الحسن وابن سيرين وأبي العالية وعكرمة ومجاهد أمرنا أكثرنا ومعناه على هذا إنا إذا كان في معلومنا منا إهلاك قرية أكثرنا مترفيها وليس المعنى وجود الإرادة منه لإهلاكهم قبل المعصية لأن الإهلاك عقوبة والله تعالى لا يجوز أن يعاقب من لم يعص وهو كقوله تعالى جدارا يريد أن ينقض ليس المعنى وجود الإرادة منه وإنما هو أنه في المعلوم إنه سينقض وخص المترفين بالذكر لأنهم الرؤساء ومن عداهم تبع لهم وكما أمر فرعون وقومه تبع له وكما كتب النبي صلى الله عليه وسلم -

إلى قيصر أسلم وإلا فعليك إثم الأريسين وكتب إلى كسرى فإن لم تسلم فعليك
إثم الأكارين قوله تعالى من القرون روي عن عبدالله بن أبي أوفى إن القرن مائة وعشرون سنة وقال محمد بن القاسم المازني مائة سنة وقيل القرن أربعون سنة قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد العاجلة الدنيا كقوله كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة أخبر الله تعالى أن من كان همه مقصورا على طلب الدنيا دون الآخرة عجل له منها ما يريد فعلق ما يؤتيه منها بمعنيين أحدهما قوله عجلنا له فيها ما نشاء فلذلك استثنى في المعطى وذلك يتضمن مقداره وجنسه وإدامته أو قطعه ثم أدخل عليه استثناء آخر فقال لمن نريد فلذلك استثنى في المعطين وإنه لا يعطي الجميع ممن يسعى للدنيا بل يعطي من شاء منهم ويحرم من شاء فأدخل على إرادة العاجلة في إعطاء المريد منها استثنائين لئلا يثق الطالبون للدنيا بأنهم لا محالة سينالون بسعيهم ما يريدون ثم قال تعالى ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا فلم يستثن شيئا بعد وقوع السعي منهم علىالوجه المأمور به وشرط في السعي للآخرة أن يكون مؤمنا ومريدا لثوابها قال محمد

ابن عجلان من لم يكن فيه ثلاث خلال لم يدخل الجنة نية صحيحة وإيمان صادق وعمل مصيب قال فقلت عمن هذا فقال عن كتاب الله قال الله تعالى ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فعلق الآخرة في استحقاق الثواب له بأوصاف ولم يستثن في المقصود شيئا ولم يخصص إرادة العاجلة بوصف بل أطلقها واستثنى في العطية والمعطى ما قدمنا قوله تعالى كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك قد تقدم ذكر مريد العاجلة والساعي للآخرة وحكم ما يناله كل واحد منهما بقصده وإرادته ثم أخبر أن نعمه جل وعلا مبسوطة على البر والفاجر في الدنيا وإنها خاصة للمتقين في الآخرة ألا ترى أن سائر نعم الله تعالى من الشمس والقمر والسماء والأرض بما فيها من المنافع والهواء والماء والنبات والحيوانات المأكولة والأغذية والأدوية وصحة الجسم والعافية إلا مالا يحصى من النعم شاملة للبر والفاجر والله الموفق
باب

بر الوالدين
قال الله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا وقضى ربك معناه أمر ربك وأمر بالوالدين إحسانا وقيل معناه وأوصى بالوالدين إحسانا والمعنى واحد لأن الوصية أمر وقد أوصى الله تعالى ببر الوالدين والإحسان إليهما في غير موضع من كتابه وقال ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا وقال أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا فأمر بمصاحبة الوالدين المشركين بالمعروف مع النهي عن طاعتهما في الشرك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
إن من الكبائر عقوق الوالدين قوله تعالى إما
يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما قيل فيه إن بلغت حال الكبر وهو حال التكليف وقد بقي معك أبواك أو أحدهما فلا تقل لهما أف وذكر ليث عن مجاهد قال لا تقل لهما إذا بلغا من الكبر ما كان يليا منك في الصغر فلا تقل لهما أف قال أبو بكر اللفظ محتمل للمعنيين فهو عليهما ولا محالة أن بلوغ الولد شرط في الأمر إذ لا يصح تكليف غير البالغ فإذا بلغ حال التكليف وقد بلغا هما حال الكبر والضعف إذ لم يبلغا فعليه الإحسان إليهما وهو مزجور أن يقول لهما أف وهي كلمة تدل على الضجر والتبرم بمن يخاطب بها قوله تعالى ولا تنهرهما معناه لا تزجرهما على وجه الإستخفاف

بهما والإغلاظ لهما قال قتادة في قوله وقل لهما قولا كريما قولا لينا سهلا وقال هشام بن عروة عن أبيه واخفض لهما جناح الذل من الرحمة قال لا تمنعهما شيئا يريدانه وروى هشام عن الحسن أنه سئل ما بر الوالدين قال أن تبذل لهما ما ملكت وأطعهما فيما أمراك ما لم يكن معصية وروى عمرو بن عثمان عن واصل بن السائب واخفض لهم جناح الذل من الرحمة قال لا تنفض يدك عليهما وقال عروة بن الزبير ما بر والده من أحد النظر إليه وعن أبي الهياج قال سألت سعيد بن المسيب عن قوله قولا كريما قال قول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ وعن عبدالله الرصافي قال حدثني عطاء في قوله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة قال يداك لا ترفعهما على أبويك ولا تحد بصرك إليهما إجلالا وتعظيما قال أبو بكر قوله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة هو مجاز لأن الذل ليس له جناح ولا يوصف بذلك ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع لهما وهو كقول امرئ القيس في وصف الليل ... فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف إعجازا وناء بكلكل ...

وليس لليل صلب ولا إعجاز ولا كلكل وهو مجاز وإنما أراد به تكامله
واستواءه قوله تعالى وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا فيه الأمر بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة إذا كانا مسلمين لأنه قال في موضع آخر ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى فعلمنا أن مراده بالدعاء للوالدين خاص في المؤمنين وبين الله تعالى بهذه الآية تأكيد حق الأبوين فقرن الأمر بالإحسان إليهما إلى الأمر بالتوحيد فقال وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ثم بين صفة الإحسان إليهما بالقول والفعل والمخاطبة الجميلة على وجه التذلل والخضوع ونهى عن التبرم والتضجر بهما بقوله ولا تقل لهما أف ونهى عن الإغلاظ والزجر لهما بقوله ولا تنهرهما فأمر بلين القول والإستجابة لهما إلى ما يأمرانه به ما لم يكن معصية ثم عقبه بالأمر بالدعاء لهما في الحياة وبعد الوفاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
إنه عظم حق الأم على الأب وروى أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة
قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أمك قال ثم من قال ثم أبوك قوله تعالى فإنه كان للأوابين غفورا قال سعيد

ابن المسيب الأواب الذي يتوب مرة بعد مرة كلما أذنب بادر بالتوبة وقال سعيد بن جبير ومجاهد هو الراجع عن ذنبه بالتوبة منه وروى منصور عن مجاهد قال الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلاء ويستغفر الله منها وروى قتادة عن القاسم بن عوف الشيباني عن زيد بن أرقم قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم -

على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من
الضحى قوله تعالى وآت ذا القربى حقه قال أبو بكر الحق المذكور في هذه الآية مجمل مفتقر إلى البيان وهو مثل قوله تعالى وفي أموالهم حق للسائل والمحروم وقول النبي صلى الله عليه وسلم - أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فهذا الحق غير ظاهر المعنى في الآية بل هو موقوف على البيان فجائز أن يكون هذا الحق هو حقهم من الخمس إن كان المراد قرابة الرسول ص - وجائز أن يكون مالهم من الحق في صلة رحمهم وقد اختلف في ذوي القربى المذكورين في هذه الآية فقال ابن عباس والحسن هو قرابة الإنسان وروي عن علي بن الحسين أنه قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد قيل إن التأويل هو الأول لأنه متصل بذكر الوالدين ومعلوم أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين عام في جميع الناس فكذلك ما عطف عليه من إيتاء ذي القربى حقه قوله تعالى والمسكين وابن السبيل يجوز أن يكون مراده الصدقات الواجبة في قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية وجائز أن يكون الحق الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إليه وقد روى ابن حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال في المال حق سوى الزكاة وتلا ليس
البر أن تولوا وجوهكم الآية وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه ذكر الإبل فقال إن فيها حقا فسئل عن ذلك فقال إطراق فحلها وإعارة
دلوها ومنيحة سمينها قوله تعالى ولا تبذر تبذيرا روي عن عبدالله بن مسعود وابن عباس وقتادة قالوا التبذير إنفاق المال في غير حقه وقال مجاهد لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا قال أبو بكر من يرى الحجر للتبذير يحتج بهذه الاية إذ كان التبذير منهيا عنه فالواجب على الإمام منعه منه بالحجر والحيلولة بينه وبين ماله إلا بمقدار نفقة مثله وأبو حنيفة لا يرى الحجر وإن كان من أهل التبذير لأنه من أهل التكليف فهو جائز التصرف على نفسه فيجوز إقراره وبياعاته كما يجوز إقراره بما يوجب الحد والقصاص وذلك مما تسقطه الشبهة فإقراره

وعقوده بالجواز أولى إذ كانت مما لا تسقطه الشبهة وقد بينا ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا قوله تعالى إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين قيل فيه وجهان أحدهما أنهم إخوانهم باتباعهم آثارهم وجريهم على سنتهم والثاني إنهم يقرنون بالشياطين في النار قوله تعالى وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها الآية قيل فيه وجهان أحدهما انه علمنا ما يفعله عند مسألة السائلين لنا من المسلمين وابن السبيل وذي القربى مع عوز ما يعطي وقلة ذات أيدينا فقال إن أعرضت عنهم لأنك لا تجد ما تعطيهم وكنت منتظر الرزق ورحمة ترجوها من الله لتعطيهم منه فقل لهم عند ذلك قولا حسنا لينا سهلا فتقول لهم يرزق الله وقد روي ذلك عن الحسن ومجاهد وإبراهيم وغيرهم قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط يعني والله أعلم لا تبخل بالمنع من حقوقهم الواجبة لهم وهذا مجاز ومراده ترك الإنفاق فيكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه فلا يعطي من ماله شيئا وذلك لأن العرب تصف البخيل بضيق اليد فتقول فلان جعد الكفين إذا كان بخيلا وقصير الباع ويقولون في ضده فلان رحب الذراع وطويل اليدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم - لنسائه أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا وإنما أراد كثرة الصدقة فكانت زينب بنت جحش لأنها كانت أكثرهن صدقة وقال الشاعر ... وما إن كان أكثرهم سواما ... ولكن كان أرحبهم ذراعا ...
قوله تعالى ولا تبسطها كل البسط يعني ولا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك إليه فتقعد ملوما محسودا يعني ذا حسرة على ما خرج من يدك وهذا الخطاب لغير النبي صلى الله عليه وسلم -

لأن النبي ص
- لم يكن يدخر شيئا لغد وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أملاكهم فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم - لصحة يقينهم وشدة بصائرهم وإنما نهى الله تعالى عن الإفراط في الإنفاق وإخراج جميع ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما خرج عن يده فأما من وثق بموعود الله وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية وقد روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم - بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله أصبت هذه من معدن والله ما أملك غيرها فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم -
فعاد ثانيا فأعرض عنه فعاد ثالثا فأخذها النبي ص
- فرمى

بها فلو أصابته لعقرته فقال يأتيني أحدهم بجميع ما يملك ثم يقعد يتكفف الناس وروي أن رجلا دخل المسجد وعليه هيئة رثة والنبي صلى الله عليه وسلم -

على المنبر فأمر الرجل بأن يقوم فقام فطرح الناس ثيابا للصدقة فأعطاه
النبي صلى الله عليه وسلم - منها ثوبين ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم -
الناس على الصدقة فطرح أحد ثوبيه فقال النبي ص
- انظروا إلى هذا أمرته أن يقوم ليفطن له فيتصدق عليه فأعطيته ثوبين ثم قد طرح أحدهما ثم قال له خذ ثوبك فإنما منع أمثال هؤلاء من إخراج جميع أموالهم فأما أهل البصائر فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم -
يمنعهم من ذلك وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذا مال كثير فأنفق
جميع ماله على النبي صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الله حتى بقي في عباءة فلم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم -
ولم ينكر ذلك عليه والدليل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي ص
- وإنما خوطب به غيره قوله تعالى فتقعد ملوما محسورا ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم -
ممن يتحسر على إنفاق ما حوته يده في سبيل الله فثبت أن المراد غير النبي
ص - وهو نحو قوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك الخطاب للنبي ص -
والمراد غيره وقوله تعالى فإن
كنت في شك مما أنزلنا إليك لم يرد به النبي صلى الله عليه وسلم -
لأنه لم يشك قط فاقتضت هذه الآيات من قوله وقضى
ربك ألا تعبدوا إلا إياه الأمر بتوحيد الله والإحسان إلى الوالدين والتذلل لهما وطاعتهما وإعطاء ذي القربى حقه والمساكين وابن السبيل حقوقهم والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية الله والأمر بالإقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط والتقصير في الإعطاء والمنع وتعليم ما يجيب به السائل والمسكين عند تعذر ما يعطى قوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق هو كلام يتضمن ذكر السبب الخارج عليه وذلك لأن من العرب من كان يقتل بناته خشية الفقر لئلا يحتاج إلى النفقة عليهن وليوفر ما يريد إنفاقه عليهن على نفسه وعلى بيته وكان ذلك مستفيضا شائعا فيهم وهي الموءودة التي ذكرها الله في قوله وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت والموءودة هي المدفونة حيا وكانوا يدفنون بناتهم أحياء وقال عبدالله بن مسعود سئل النبي صلى الله عليه وسلم -
فقيل ما أعظم الذنوب قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك وأن تقتل ولدك خشية أن
يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك قوله تعالى نحن نرزقهم وإياكم فيه إخبار بأن رزق الجميع على الله تعالى والله سيسبب لهم ما ينفقون على الأولاد وعلى أنفسهم وفيه بيان أن الله تعالى سيرزق كل حيوان خلقه ما دامت حياته باقية وأنه إنما يقطع رزقه بالموت وبين الله تعالى

ذلك لئلا يتعدى بعضهم على بعض ولا يتناول مال غيره إذ كان الله قد سبب له من الرزق ما يغنيه عن مال غيره قوله تعالى ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا فيه الإخبار بتحريم الزنا وأنه قبيح لأن الفاحشة هي التي قد تفاحش قبحها وعظم وفيه دليل على أن الزنا قبيح في العقل قبل ورود السمع لأن الله سماه فاحشة ولم يخصص به حاله قبل ورود السمع أو بعده ومن الدليل على ان الزنا قبيح في العقل أن الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب إذ ليس بعض الزناة أولى به لحاقه به من بعض ففيه قطع الأنساب ومنع ما يتعلق بها من الحرمات في المواريث والمناكحات وصلة الأرحام وإبطال حق الوالد على الولد وما جرى مجرى ذلك من الحقوق التي تبطل مع الزنا وذلك قبيح في العقول مستنكر في العادات ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - الولد للفراش وللعاهر الحجر لأنه لو لم يكن النسب مقصورا على الفراش وما هو في حكم الفراش لما كان صاحب الفراش بأولى من النسب من الزاني وكان ذلك يؤدي إلى إبطال الأنساب وإسقاط ما يتعلق بها من الحقوق والحرمات قوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق إنما قال تعالى إلا بالحق لأن قتل النفس قد يصير حقا بعد أن لم يكن حقا وذلك قتله على وجه القود وبالردة والرجم للمحصن والمحاربة ونحو ذلك قوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد في قوله سلطانا قالوا حجة كقوله أو ليأتيني بسلطان مبين وقال الضحاك السلطان أنه مخير بين القتل وبين أخذ الدية وعلى السلطان أن يطلب القتل حتى يدفعه إليه قال أبو بكر السلطان لفظ مجمل غير مكتف بنفسه في الإبانة عن المراد لأنه لفظ مشترك يقع على معان مختلفة فمنها الحجة ومنها السلطان الذي يلي الأمر والنهي وغير ذلك إلا أن الجميع مجمعون على أنه قد أريد به القود فصار القود كالمنطوق به في الآية وتقديره فقد جعلنا لوليه سلطانا أي قودا ولم يثبت أن الدية مرادة فلم نثبتها ولما ثبت أن المراد القود دل ظاهره على أنه إذا كانت الورثة صغارا أو كبارا أن يقتصوا قبل بلوغ الصغار لأن كل واحد منهم ولي والصغير ليس بولي ألا ترى أنه لا يجوز عفوه وهذا قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يقتص الكبار حتى يبلغ الصغار فيقتصوا معهم أو يعفوا وروي عن محمد الرجوع إلى قول أبي حنيفة قوله تعالى فلا يسرف في القتل روي عن عطاء والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير

والضحاك وطلق بن حبيب لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به وذلك لأن العرب كانت تتعدى إلى غير القاتل من الحميم والقريب فلما جعل الله له سلطانا نهاه أن يتعدى وعلى هذا المعنى قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى لأنه كان لبعض القبائل طول على الأخرى فكان إذا قتل منهم العبد لا يرضون إلا أن يقتلوا الحر منهم وقال في الآية لا يسرف في القتل بأن يعتدى إلى غير القاتل وقال أبو عبيدة لا يسرف في القتل جزمه بعضهم على النهي ورفعه بعضهم على مجاز الخبر يقول ليس في قتله سرف لأن قتله مستحق قوله تعالى إنه كان منصورا قال قتادة هو عائد على الولي وقال مجاهد على المقتول وقيل هو منصور إما في الدنيا وإما في الآخرة ونصره هو حكم الله بذلك أعني للولي وقيل نصره أمر النبي صلى الله عليه وسلم -

والمؤمنين أن يعينوه وقوله تعالى فقد
جعلنا لوليه سلطانا قد اقتضى إثبات القصاص للنساء لأن الولي هنا هو الوارث كما قال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقال إن الذين آمنوا إلى قوله بعضهم أولياء بعض وقال والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا فنفى بذلك إثبات التوارث بينهم إلا بعد الهجرة ثم قال وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فأثبت الميراث بأن جعل بعضهم أولياء بعض وقال والذين كفروا بعضهم أولياء بعض فأثبت التوارث بينهم بذكر الولاية فلما قال فقد جعلنا لوليه سلطانا اقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة ويدل على أن الدم موروث عن المقتول أن الدية التي هي بدل من القصاص موروثة عنه للرجال والنساء ولو لم تكن النساء قد ورثن القصاص لما ورثن بدله الذي هو المال وكيف يجوز أن يرث بعض الورثة من بعض ميراث الميت ولا يرث من البعض الآخر هذا القول مع مخالفته لظاهر الكتاب مخالف للأصول وقول مالك إن النساء ليس إليهن من القصاص شيء وإنما القصاص للرجال فإذا تحول مالا ورثت النساء مع الرجال وروي عن سعيد بن المسيب والحسن وقتادة والحكم ليس إلى النساء شيء من العفو والدم ومن قول أصحابنا إن القصاص واجب لكل وارث من الرجال والنساء والصبيان بقدر مواريثهم قوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده قال مجاهد التي هي أحسن التجارة وقال الضحاك يبتغي به من فضل الله ولا يكون للذي يبتغي فيه شيء قال أبو بكر

إنما خص اليتيم بالذكر وإن كان ذلك واجبا في أموال سائر الناس لأن اليتيم إلى ذلك أحوج والطمع في مثله أكثر وقد انتظم قوله إلا بالتي هي أحسن جواز التصرف في مال اليتيم للوالي عليه من جد أو وصي أب لسائر ما يعود نفعه عليه لأن الأحسن ما كان فيه حفظ ماله وتثميره فجائز على ذلك أن يبيع ويشتري لليتيم بما لا ضرر على اليتيم فيه وبمثل القيمة وأقل منها مما يتغابن الناس فيه لأن الناس قد يرون ذلك حطا لما يرجون فيه من الربح والزيادة ولأن هذا القدر من النقصان مما يختلف المقومون فيه فلم يثبت هناك حطيطة في الحقيقة ولا يجوز أن يشتري بأكثر من القيمة بما لا يتغابن الناس فيه لأن فيه ضررا على اليتيم وذلك ظاهر متيقن وقد نهى الله أن يقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وقد دلت الآية على جواز إجارة مال اليتيم والعمل به مضاربة لأن الربح الذي يستحقه اليتيم إنما يحصل له بعمل المضارب فذلك أحسن من تركه وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال ابتغوا بأموال الأيتام خيرا لا تأكلها الصدقة قيل معناه النفقة
لأن النفقة تسمى صدقة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما انفق الرجل على نفسه وعياله فهو له صدقة وقد روي عن عمر وابن عمر وعائشة وجماعة من التابعين أن للوصي أن يتجر بمال اليتيم وأن يدفعه مضاربة ويدل على أن للأب أن يشتري مال الصغير لنفسه ويبيع منه وعلى أن للوصي أن يشتري مال اليتيم لنفسه إذا كان ذلك خيرا لليتيم وهوقول أبي حنيفة قال وإن اشترى بمثل القيمة لم يجز حتى يكون ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة لقوله تعالى إلا بالتي هي أحسن وقال أبو يوسف ومحمد لا يجوز ذلك بحال وقوله حتى يبلغ أشده قال زيد بن اسلم وربيعة الحلم قال أبو بكر وقال في موضع آخر ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا فذكر الكبر ههنا وذكر الأشد في هذه الآية وقال وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فذكر في إحدى الآيات الكبر مطلقا وفي الأخرى الأشد وفي الأخرى بلوغ النكاح مع إيناس الرشد وروى عبدالله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن ابن عباس حتى إذا بلغ أشده ثلاث وثلاثون سنة واستوى أربعون سنة أو لم نعمركم قال العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة وقال تعالى حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني فذكر في قصة موسى بلوغ الأشد والإستواء وذكر في هذه الآية بلوغ الأشد

وفي الأخرى بلوغ الأشد وبلوغ أربعين سنة وجائز أن يكون المراد ببلوغ الأشد قبل أربعين سنة وقبل الاستواء وإذا كان كذلك فالأشد ليس له مقدار معلوم في العادة لا يزيد عليه ولا ينقص منه وقد يختلف أحوال الناس فيه فيبلغ بعضهم الأشد في مدة لا يبلغه غيره في مثلها لأنه إن كان بلوغ الأشد هو اجتماع الرأي واللب بعد الحلم فذلك مختلف في العادة وإن كان بلوغه اجتماع القوى وكمال الجسم فهو مختلف أيضا وكل ما كان حكمه مبنيا على العادات فغير ممكن القطع به على وقت لا يتجاوزه ولا يقصر عنه إلا يتوقيف أو إجماع فلما قال في آية ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده اقتضى ذلك دفع المال إليه عند بلوغ الأشد من غير شرط إيناس الرشد ولما قال في آية أخرى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم شرط فيها بعد بلوغ النكاح إيناس الرشد ولم يشرط ذلك في بلوغ حد الكبر في قوله ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا فقال أبو حنيفة لا يدفع إليه ماله بعد البلوغ حتى يؤنس منه رشدا ويكبر ويبلغ الأشد وهو خمس وعشرون سنة ثم يدفع إليه ماله بعد أن يكون عاقلا فجائز أن تكون هذه مدة بلوغ الأشد عنده قوله تعالى وأوفوا بالعهد يعني والله أعلم إيجاب الفاء بما عاهد الله على نفسه من النذور والدخول في القرب فألزمه الله تعالى إتمامها وهو كقوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم وقيل أوفوا بالعهد في حفظ مال اليتيم مع قيام الحجة عليكم بوجوب حفظه وكل ما قامت به الحجة من أوامره وزواجره فهو عهد وقوله تعالى إن العهد كان مسئولا معناه مسئولا عنه للجزاء فحذف اكتفاء بدلالة الحال وعلم المخاطب بالمراد وقيل إن العهد يسئل فيقال لم نقضت كما تسئل الموؤدة بأي ذنب قتلت وذلك يرجع إلى معنى الأول لأنه توقيف وتقرير لناقض العهد كما أن سؤال الموؤدة توقيف وتقرير لقائلها بانه قتلها بغير ذنب قوله تعالى وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم فيه دلالة على أن من اشترى شيئا من المكيلات مكايلة أو من الموزونات موازنة واجب عليه أن لا يأخذ المشتري كيلا إلا بكيل ولا المشتري وزنا إلا بوزن وإنه غير جائز له أن يأخذه مجازفة وفي ذلك دليل على أن الاعتبار في التحريم التفاضل هو بالكيل والوزن إذ

لم يخصص إيجاب الكيل في المكيل وإيجاب الوزن في الموزون بالمأكول منه دون غيره فوجب أن يكون سائر المكيلات والموزونات إذا اشترى بعضها ببعض من جنس واحد أنه غير جائز أخذه مجازفة إلا بكيل سواء كان مأكولا أو غير مأكول نحو الجص والنورة وفي الموزون نحو الحديد والرصاص وسائر الموزونات وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد وإن كل مجتهد مصيب لأن إيفاء الكيل والوزن لا سبيل لنا إليه إلا من طريق الاجتهاد وغلبة الظن ألا ترى أنه لا يمكن أحدا أن يدعي إذا كال لغيره القطع بأنه لا يزيد حبة ولا ينقص وإنما مرجعه في إيفاء حقه إلى غلبة ظنه ولما كان الكائل والوازن مصيبا لحكم الله تعالى إذا فعل ذلك ولم يكلف إصابة حقيقة المقدار عند الله تعالى كان كذلك حكم مسائل الاجتهاد وقيل في القسطاس أنه الميزان صغر أو كبر وقال الحسن هو القبان ولما ذكرنا من المعنى في المكيل والموزون قال أصحابنا فيمن له على آخر شيء من المكيل أو الموزون أنه غير جائز له أن يقبضه مجازفة وإن تراضيا وظاهر الأمر بالكيل والوزن يوجب أن لا يجوز تركهما بتراضيهما وكذلك لا تجوز قسمتهما إذا كان بين شريكين مجازفة للعلة التي ذكرنا ولو كانت ثيابا أو عروضا من غير المكيل والموزون جاز أن يقبضه مجازفة بتراضيهما وجاز أن يقتسما مجازفة إذ لم يوجد علينا فيه إيفاء الكيل والوزن قوله تعالى ذلك خير وأحسن تأويلا معناه أن ذلك خير لكم وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة والتأويل هو الذي إليه مرجع الشيء وتفسيره من قولهم آل يؤل أولا إذا رجع قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم القفو اتباع الأثر من غير بصيرة ولا علم بما يصير إليه ومنه القافة وكانت العرب فيها من يقتاف الأثر وفيها من يقتاف النسب وقد كان هذا الاسم موضوعا عندهم لما يخبر به الإنسان عن غير حقيقة يقولون تقوف الرجل إذا قال الباطل قال جرير ... وطال حذاري خيفة البين والنوى ... وأحدوثة من كاشح متقوف ...
قال أهل اللغة أراد بقوله الباطل وقال آخر ... ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا ...
أي التقاذف وإنما سمي التقاذف بهذا الاسم لأن أكثره يكون عن غير حقيقة وقد حكم الله بكذب القاذف إذا لم يأت بالشهود بقوله لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات

بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين قال قتادة في قوله ولا تقف ما ليس لك به علم لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تره ولا علمت ولم تعلم وقد اقتضى ذلك نهي الإنسان عن أن يقول في أحكام الله مالا علم له به على جهة الظن والحسبان وأن لا يقول في الناس من السوء مالا يعلم صحته ودل على أنه إذا أخبر عن غير علم فهو آثم في خبره كذبا كان خبره أو صدقا لأنه قائل بغير علم وقد نهاه الله عن ذلك قوله تعالى إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا فيه بيان أن لله علينا حقا في السمع والبصر والفؤاد والمرء مسئول عما يفعله بهذه الجوارح من الإستماع لما لا يحل والنظر إلى ما لا يجوز والإرادة لما يقبح ومن الناس من يحتج بقوله ولا تقف ما ليس لك به علم في نفي القياس في فروع الشريعة وإبطال خبر الواحد لأنهما لا يفضيان بنا إلى العلم والقائل بهما قائل بغير علم وهذا غلط من قائله وذلك لأن ما قامت دلالة القول به فليس قولا بغير علم والقياس وأخبار الآحاد قد قامت دلائل موجبة للعلم بصحتهما وإن كنا غير عالمين بصدق المخبر وعدم العلم بصدق المخبر غير مانع جواز قبوله ووجوب العمل به كما أن شهادة الشاهدين يجب قبولها إذا كان ظاهرهما العدالة وإن لم يقع لنا العلم بصحة مخبرهما وكذلك أخبار المعاملات مقبولة عند جميع أهل العلم مع فقد العلم بصحة الخبر وقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم غير موجب لرد أخبار الآحاد كما لم يوجب رد الشهادات وأما القياس الشرعي فإن ما كان منه من خبر الإجتهاد فكل قائل بشيء من الأقاويل التي يسوغ فيها الإجتهاد فهو قائل بعلم إذ كان حكم الله عليه ما أداه اجتهاده إليه ووجه آخر وهو أن العلم على ضربين علم حقيقي وعلم ظاهر والذي تعبدنا به من ذلك هو العلم الظاهر ألا ترى إلى قوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار وإنما هو العلم الظاهر لا معرفة مغيب ضمائرهن وقال أخوة يوسف وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين فأخبروا أنهم شهدوا بالعلم الظاهر قوله تعالى وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا قيل إنه على معنى التشبيه لهم بمن بينه وبين ما يأتي به من الحكمة في القرآن فكان بينه وبينهم حجابا عن أن يدركوه فينتفعوا به وروى نحوه عن قتادة وقال غيره نزل في قوم كانوا يؤذونه بالليل إذا تلا القرآن فحال الله تعالى بينهم وبينه حتى لا يؤذوه وقال الحسن منزلتهم فيما أعرضوا عنه منزلة من بينك

وبينه حجاب قوله تعالى وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه قيل فيه إنه منعهم من ذلك ليلا في وقت مخصوص لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم -

وقيل جعلناها بالحكم إنهم بهذه المنزلة ذما لهم على الإمتناع من تفهم
الحق والإستماع إليه مع إعراضهم ونفورهم عنه قوله تعالى وتظنون إن لبثتم إلا قليلا قال الحسن أن لبثتم إلا قليلا في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة كما قيل كأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل وقال قتادة أراد به احتقار الدنيا حين عاينوا يوم القيامة قوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس روي عن ابن عباس رواية سعيد بن جبير والحسن وقتادة وإبراهيم ومجاهد والضحاك قالوا رؤيا غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس فلما أخبر المشركين بما رأى كذبوا به وروي عن ابن عباس أيضا انه أراد برؤياه أنه سيدخل مكة قوله تعالى والشجرة الملعونة في القرآن روي عن ابن عباس والحسن والسدي وإبراهيم وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك أنه أراد شجرة الزقوم التي ذكرها في قوله إن شجرة الزقوم طعام الأثيم فأراد بقوله ملعونة إنه ملعون أكلها وكانت فتنتهم بها قول أبي جهل لعنه الله ودونه النار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها قوله تعالى واستفزز من استطعت منهم بصوتك هذا تهديد واستهانة بفعل المقول له ذلك وإنه لا يفوته الجزاء عليه والإنتقام منه وهو مثل قول القائل اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك ومعنى استفزز استزل يقال استفزه واستزله بمعنى واحد وقوله بصوتك روي عن مجاهد أنه الغناء واللهو وهما محظوران وأنهما من صوت الشيطان وقال ابن عباس هو الصوت الذي يدعو به إلى معصية الله وكل صوت دعي به إلى الفساد فهو من صوت الشيطان قوله تعالى وأجلب عليهم فإن الإجلاب هو السوق بجلبة من السائق والجلبة الصوت الشديد وقوله تعالى بخيلك ورجلك روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة كل راجل أو ماش إلى معصية الله من الإنس والجن فهو من رجل الشيطان وخيله والرجل جمع راجل كالتجر جمع تاجر والركب جمع راكب قوله تعالى وشاركهم في الأموال والأولاد قيل معناه كن شريكا في ذلك فإن منه ما يطلبونه بشهوتهم ومنه ما يطلبونه لإغرائك بهم وقال مجاهد والضحاك وشاركهم في الأولاد يعني الزنا وقال ابن عباس الموءودة وقال الحسن وقتادة من هودوا ونصروا وقال ابن عباس رواية تسميتهم عبدالحارث وعبد شمس قال أبو بكر لما احتمل هذه الوجوه كان محمولا عليها وكان جميعها

مرادا إذ كان ذلك مما للشيطان نصيب في الإغراء به والدعاء إليه قوله تعالى ولقد كرمنا بني آدم أطلق ذلك على الجنس وفيهم الكافر المهان على وجهين أحدهما أنه كرمهم بالإنعام عليهم وعاملهم معاملة المكرم بالنعمة على وجه المبالغة في الصفة والوجه الآخر أنه لما كان فيهم من على هذا المعنى أجرى الصفة على جماعتهم كقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس لما كان فيهم من هو كذلك أجرى الصفة على الجماعة قوله تعالى يوم ندعو كل أناس بإمامهم قيل إنه يقال هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد ص - فيقوم الذين اتبعوا الأنبياء واحدا واحدا فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثم يدعو بمتبعي أئمة الضلال على هذا المنهاج قال مجاهد وقتادة إمامه نبيه وقال ابن عباس والحسن والضحاك إمامه كتاب عمله وقال أبو عبيدة بمن كانوا يأتمون به في الدنيا وقيل بإمامهم بكتابهم الذي إنزل الله عليهم فيه الحلال والحرام والفرائض قوله تعالى ومن كان في هذه أعمى روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة من كان في أمر هذه الدنيا وهي شاهدة له من تدبيرها وتصريفها وتقليب النعم فيها أعمى عن اعتقاد الحق الذي هو مقتضاها وهو في الآخرة التي هي غائبة عنه أعمى وأضل سبيلا قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل روي عن ابن مسعود وأبي عبدالرحمن السلمي قالا دلوكها غروبها وعن ابن عباس وأبي برزة الأسلمي وجابر وابن عمر دلوك الشمس ميلها وكذلك روي عن جماعة من التابعين قال أبو بكر هؤلاء الصحابة قالوا إن الدلوك الميل وقولهم مقبول فيه لأنهم من أهل اللغة وإذا كان كذلك جاز أن يراد به الميل للزوال والميل للغروب فإن كان المراد الزوال فقد انتظم صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة إذ كانت هذه أوقات متصلة بهذه الفروض فجاز أن يكون غسق الليل غاية لفعل هذه الصلوات في مواقيتها وقد روي عن أبي جعفر أن غسق الليل انتصافه فيدل ذلك على أنه آخر الوقت المستحب لصلاة العشاء الآخرة وأن تأخيرها إلى ما بعده مكروه ويحتمل أن يريد به غروب الشمس فيكون المراد بيان وقت المغرب أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل وقد اختلف في غسق الليل فروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته وروى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول الشمس إلى غسق الليل حين تجب

الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب الشمس إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبدالله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبي هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وعن الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وعن إبراهيم غسق الليل العشاء الآخرة وقال أبو جعفر غسق الليل انتصافه قال أبو بكر من تأول دلوك الشمس على غروبها فغير جائز أن يكون تأويل غسق الليل عنده غروبها أيضا لأنه جعل الإبتداء الدلوك وغسق الليل غاية له وغير جائز أن يكون الشيء غاية لنفسه فيكون هو الإبتداء وهو الغاية فإن كان المراد بالدلوك غروبها فغسق الليل هو إما الشفق الذي هو آخر وقت المغرب أو اجتماع الظلمة وهو أيضا غيبوبة الشفق لأنه لا يجتمع إلا بغيبوبة البياض وأما أن يكون آخر وقت العشاء الآخرة المستحب وهو انتصاف الليل فينتظم اللفظ حينئذ المغرب والعشاء الآخرة قوله تعالى وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال أبو بكر هو معطوف على قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس وتقديره أقم قرآن الفجر وفيه الدلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن الأمر على الوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة فإن قيل معناه صلاة الفجر قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أنه غير جائز أن تجعل القراءة عبارة عن الصلاة لأنه صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل والثاني قوله في نسق التلاوة ومن الليل فتهجد به نافلة لك ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلا والهاء في قوله به كناية عن قرآن الفجر المذكور قبله فثبت أن المراد حقيقة القراءة لإمكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد بصلاة الفجر وعلى أنه لو صح أن المراد ما ذكرت لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة وذلك لأنه لم يجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها وفروضها قوله تعالى ومن الليل فتهجد به نافلة لك روي عن حجاج بن عمرو الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال يحسب احدكم إذا قام أول الليل إلى آخره أنه قد تهجد لا ولكن التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة وكذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعن الأسود وعلقمة قالا التهجد بعد النوم والتهجد في اللغة السهر للصلاة أو لذكر الله والهجود النوم وقيل التهجد التيقظ بما ينفي النوم وقوله نافلة لك قال مجاهد وإنما كانت نافلة للنبي ص -

لأنه قد غفر له ما تقدم

من ذنبه وما تأخر فكانت طاعاته نافلة أي زيادة في الثواب ولغيره كفارة لذنوبه وقال قتادة نافلة تطوعا وفضيلة وروى سليمان بن حيان قال حدثنا أبو غالب قال حدثنا أبو أمامة قال إذا وضعت الطهور مواضعه فعدت مغفورا وإن قمت تصلي كانت لك فضيلة وأجرا فقال له رجل يا أبا أمامة أرأيت إن قام يصلي يكون له نافلة قال لا إنما النافلة للنبي ص -

كيف يكون ذلك نافلة وهو يسعى في الذنوب والخطايا يكون لك فضيلة وأجرا
فمنع أبو أمامة أن تكون النافلة لغير النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روى عبدالله بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة قال قلت فما تأمرني قال صل الصلاة لوقتها فإن أدركتهم فصلها معهم لك نافلة وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال الوضوء يكفر ما قبله ثم تصير الصلاة نافلة قيل له أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال نعم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس فأثبت النبي ص
- بهذين الخبرين النافلة لغيره والنافلة هي الزيادة بعد الواجب وهي التطوع والفضيلة ومنه النفل في الغنيمة وهو ما يجعله الإمام لبعض الجيش زيادة على ما يستحقه من سهامها بأن يقول من قتل قتيلا فله سلبه ومن أخذ شيئا فهو له قوله تعالى قل كل يعمل على شاكلته قال مجاهد على طبيعته وقيل على عادته التي ألفها وفيه تحذير من إلف الفساد والمساكنة إليه فيستمر عليه وقيل على أخلاقه قال أبو بكر شاكلته ما يشاكله ويليق به ويشبهه فالذي يشاكل الخير من الناس الخير والصلاح والذي يشاكل الشرير الشر والفساد وهو كقوله الخبيثات للخبيثين يعني الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس والطيبات للطيبين يعني الطيبات من الكلام للطيبين من الناس ويروى أن عيسى عليه السلام مر بقوم فكلموه بكلام قبيح ورد عليهم ردا حسنا فقيل له في ذلك فقال إنما ينفق كل إنسان ما عنده قوله تعالى ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي اختلف في الروح الذي سألوا عنه فروي عن ابن عباس أنه جبريل وروي عن علي أنه ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميع ذلك وقيل إنما أراد روح الحيوان وهو ظاهر الكلام قال قتادة الذي سأله عن ذلك قوم من اليهود وروح الحيوان جسم رقيق على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة وفيه خلاف بين أهل العلم وكل حيوان فهو روح إلا أن منهم من الأغلب عليه البدن وقيل

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19