كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

إنه لم يجبهم لأن المصلحة في أن يوكلوا إلى ما في عقولهم من الدلالة عليها للإرتياض باستخراج الفائدة وروي في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبي فلم يجبهم الله عز و جل مصداقا لما في كتابهم والروح قد يسمى به أشياء منها القرآن قال الله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا سماه روحا تشبيها بروح الحيوان الذي به يحيى والروح الأمين جبريل وعيسى بن مريم سمي روحا على نحو ما سمي به من القرآن وقوله قل الروح من أمر ربي أي من الأمر الذي يعلمه ربي وقوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا يعني ما أعطيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا من كثير بحسب حاجتكم إليه فالروح من المتروك الذي لا يصلح النص عليه للمصلحة وقد دلت هذه الآية على جواز ترك جواب السائل عن بعض ما يسئل عنه لما فيه من المصلحة في استعمال الفكر والتدبر والإستخراج وهذا في السائل الذي يكون من أهل النظر واستخراج المعاني فأما إن كان مستفتيا قد بلي بحادثة احتاج إلى معرفة حكمها وليس من أهل النظر فعلى العالم بحكمها أن يجيبه عنها بما هو حكم الله عنده قوله تعالى قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن الآية فيه الدلالة على إعجاز القرآن فمن الناس من يقول إعجازه في النظم على حياله وفي المعاني وترتيبها على حياله ويستدل على ذلك بتحديه في هذه الآية العرب والعجم والجن والإنس ومعلوم أن العجم لا يتحدون من طريق النظم فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام دون نظم الألفاظ ومنهم من يأبى أن يكون إعجازه إلا من جهة نظم الألفاظ والبلاغة في العبادة فإنه يقول إن إعجاز القرآن من وجوه كثيرة منها حسن النظم وجودة البلاغة في اللفظ والإختصار وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مع تعريه من أن يكون فيه لفظ مسخوط ومعنى مدخول ولا تناقض ولا اختلاف تضاد وجميعه في هذه الوجوه جار على منهاج واحد وكلام العباد لا يخلو إذا طال من أن يكون فيه الألفاظ الساقطة والمعاني الفاسدة والتناقض في المعاني وهذه المعاني التي ذكرنا من عيوب الكلام موجودة في كلام الناس من أهل سائر اللغات لا يختص باللغة العربية دون غيرها فجائز أن يكون التحدي واقعا للعجم بمثل هذه المعاني في الإتيان بها عارية مما يعيبها ويهجنها من الوجوه التي ذكرناها ومن جهة أن الفصاحة لا تختص بها لغة العرب دون سائر اللغات وإن كانت

لغة العرب أفصحها وقد علمنا أن القرآن في أعلى طبقات البلاغة فجائز أن يكون التحدي للعجم واقعا بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها قوله تعالى وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث قوله فرقناه يعني فرقناه بالبيان عن الحق من الباطل وقوله تقرأ على الناس على مكث يعني على تثبت وتوقف ليفهموه بالتأمل ويعلموا ما فيه بالتفكر ويتفقهوا باستخراج ما تضمن من الحكم والعلوم الشريفة وقد قيل إنه كان ينزل منه شيء ويمكثون ما شاء الله ثم ينزل شيء آخر وهو في معنى قوله ورتل القرآن ترتيلا وروى سفيان عن عبيد المكتب قال سئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة جلوسهما وسجودهما وركوعهما سواء أيهما أفضل قال الذي قرأ البقرة ثم قرأ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث وروى معاوية بن قرة عن عبيدالله بن المغفل قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وهو على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة بينة وروى حماد بن سلمة عن أبي حمزة الضبعي قال قال ابن عباس لأن أقرأ القرآن فأرتلها وأتدبرها أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذا وروى الأعمش عن عمارة عن أبي الأحوص عن عبدالله قال لا تقرؤا القرآن في أقل من ثلاث واقرءوا في سبع وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبدالرحمن بن يزيد إنه كان يقرأه في سبع والأسود في ست وعلقمة في خمس وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأ القرآن في ليلة وروى ابن أبي ليلى عن صدقة عن ابن عمر قال بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم - سقف في المسجد واعتكف فيه في آخر رمضان وكان يصلي فيه فأخرج رأسه فرأى الناس يصلون فقال إن المصلي إذا صلى يناجي ربه فليعلم أحدكم بما يناجيه وفي ذلك دليل على أن المستحب الترتيل لأنه به يعلم ما يناجي ربه به ويفهم عن نفسه ما يقرأه
باب

السجود على الوجه
قال الله تعالى إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا روي عن ابن عباس قال للوجوه وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى يخرون للأذقان سجدا قال للوجوه وقال معمر وقال الحسن اللحى وسئل ابن سيرين عن السجود على الأنف فقال يخرون للأذقان سجدا وروى طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعرا ولا ثوبا قال طاوس وأشار
إلى الجبهة

والأنف هما عظم واحد وروى عامر بن سعد عن العباس بن عبدالمطلب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم -

يقول إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا سجدت فمكن جبهتك وأنفك من الأرض وروى وائل بن حجر قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض وروى أبو سلمة بن عبدالرحمن عن أبي
سعيد الخدري أنه رأى الطين في أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأرنبته من أثر السجود وكانوا مطروا من الليل وروى عاصم الأحول عن عكرمة قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم -
رجلا ساجدا فقال النبي ص
- لا تقبل صلاة إلا بمس الأنف منها ما يمس الجبين وهذه الأخبار تدل على أن موضع السجود هو الأنف والجبهة جميعا وروى عبدالعزيز بن عبدالله قال قلت لوهب بن كيسان يا أبا نعيم مالك لا تمكن جبهتك وأنفك من الأرض قال ذاك لأني سمعت جابر بن عبدالله يقول رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يسجد على جبهته على قصاص الشعر وروى أبو الشعثاء قال رأيت عمر سجد فلم يضع أنفه على الأرض فقيل له في ذلك فقال إن أنفي من حر وجهي وأنا أكره أن أشين وجهي وروي عن القاسم وسالم أنهما كانا يسجدان على جباههما ولا تمس أنوفهما الأرض وأما حديث جابر فجائز أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم - يسجد على قصاص شعره لعذر كان بأنفه تعذر معه السجود عليه وتأويل من تأوله على الوجوه على اللحى يدل على جواز الاقتصار بالسجود على الأنف دون الجبهة وإن كان المستحب فعل السجود عليهما لأنه معلوم أنه لم يرد به السجود على الذقن لأن أحدا من أهل العلم لا يقول ذلك فثبت أن المراد الأنف لقربه من الذقن ومن مذهب أبي حنيفة أنه إن سجد على الأنف دون الجبهة أجزأه وقال أبو يوسف ومحمد لا يجزيه وإن سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه عندهم جميعا وروى العطاف بن خالد عن نافع عن ابن عمر قال إذا وقع أنفك على الأرض فقد سجدت وروى سفيان عن حنظلة عن طاوس قال الجبهة والأنف من السبعة في الصلاة واحد وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال إن الأنف من الجبين وقال هو خيره
باب
ما يقال في السجود
قال الله عز و جل ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا فمدحهم بهذا القول عند السجود فدل على أن المسنون في السجود من الذكر هو التسبيح وروى موسى بن

أيوب عن عمه عن عقبة بن عامر

قال
لما نزل فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
اجعلوها في ركوعكم فلما نزل سبح
اسم ربك الأعلى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
اجعلوها في سجودكم وروى ابن أبي ليلى عن الشعبي عن صلة بن زفر عن حذيفة
أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وروى قتادة عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح وروى ابن أبي ذئب
عن إسحاق بن يزيد عن عون بن عبدالله عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا فإذا فعل ذلك فقد تم ركوعه وذكر في سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال أما الركوع فعظموا فيه الرب وأم السجود فأكثروا فيه الدعاء فإنه
قمن أن يستجاب لكم وروي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوده اللهم لك سجدت وبك آمنت في كلام كثير وجائز أن يكون ما رواه علي وابن عباس إنما كان يقوله قبل نزول سبح اسم ربك الأعلى ثم لما نزل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يجعل في السجود كما رواه عقبة بن عامر وقال أصحابنا والثوري والشافعي يقول في الركوع سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا وقال الثوري يستحب للإمام أن يقولها خمسا في الركوع وفي السجود حتى يدرك الذين خلفه ثلاث تسبيحات وقال ابن القاسم عن مالك في الركوع والسجود إذا أمكن ولم يسبح فهو يجزي عنه وكان لا يوقت تسبيحا وقال مالك في السجود والركوع قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى لا أعرفه فأنكره ولم يجد فيه دعاء موقتا قال ولكن يمكن يديه من ركبتيه في الركوع ويمكن جبهته من الأرض في السجود وليس فيه عنده حد
باب البكاء في الصلاة
قال الله تعالى ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ومثله قوله تعالى خروا سجدا وبكيا وفيه الدلالة على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يقطع الصلاة لأن الله تعالى قد مدحهم بالبكاء في السجود ولم يفرق بين سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجدة الشكر وروى سفيان بن عيينة قال حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد قال سمعت

عبدالله بن شداد قال سمعت نشيج عمر رضي الله عنه وإني لفي آخر الصفوف وقرأ في صلاة الصبح سورة يوسف حتى إذا بلغ إنما أشكو بثي وحزني إلى الله نشج ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كانوا خلفه فصار إجماعا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وقوله تعالى ويزيدهم
خشوعا يعني به أن بكاءهم في حال السجود يزيدهم خشوعا إلى خشوعهم وفيه الدلالة على أن مخافتهم لله تعالى حتى تؤديهم إلى البكاء داعية إلى طاعة الله وإخلاص العبادة على ما يجب من القيام بحقوق نعمه والله الموفق
باب
الجهر بالقراءة في الصلاة والدعاء
قال الله تعالى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا روي عن ابن عباس رواية وعائشة ومجاهد وعطاء لا تجهر بدعائك ولا تخافت به وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة إن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا جهر ولا يسمع من خلفه إذا خافت وذلك بمكة فأنزل الله تعالى ولا
تجهر بصلاتك وأراد به القراءة في الصلاة وقال الحسن لا تجهر بالصلاة بإشاعتها عند من يؤذيك ولا تخافت بها عند من يلتمسها فكان ذلك عند الحسن أنه أريد ترك الجهر في حال وترك ذلك المخافتة في أخرى وقيل لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بجميعها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار على ما أمرناك به وروي عن عبادة بن نسي عن غضيف بن الحارث قال سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - يجهر بالقرآن أو يخافت قالت ربما جهر وربما خافت وروى أبو خالد الوالبي عن أبي هريرة أنه كان إذا قام من الليل يخفض طورا ويرفع طورا وقال هكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم - وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - رأى الناس في آخر رمضان فقال إن المصلي إذا صلى يناجي ربه فليعلم أحدكم بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يرفع الرجل صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه في الصلاة ورويت أخبار في الجهر بالقراءة في صلاة الليل روى كريب عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم - يقرأ في بعض حجره فيسمع قراءته من كان خارجا وروى إبراهيم عن علقمة قال صليت مع عبدالله ليلة فكان يرفع صوته بالقراءة فيسمع أهل الدار وروي أن أبا بكر إذا صلى

خفض صوته وإن عمر كان إذا صلى رفع صوته فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

لأبي بكر لم تفعل هذا قال أناجي ربي وقد علم حاجتي فقال النبي ص
- أحسنت وقال لعمر لم تفعل هذا فقال أوقظ النومان وأطرد الشيطان فقال أحسنت فلما نزل ولا تجهر بصلاتك الآية قال لأبي بكر ارفع شيئا وقال لعمر اخفض شيئا وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت سمع النبي صلى الله عليه وسلم -
صوت أبي موسى فقال لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود فهذا يدل
على أن رفع الصوت لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم - وروى عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - زينوا القرآن بأصواتكم وروى حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول حسنوا أصواتكم بالقرآن وروى ابن جريج عن طاوس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس قراءة قال الذي إذا سمعت قراءته رأيت أنه يخشى الله آخر سورة بني إسرائيل
سورة
الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا فيه بيان أن ما جعله زينة لها من النبات والحيوان وغير ذلك سيجعله صعيدا جرزا والصعيد الأرض والصعيد التراب وما ذكره الله تعالى من إحالته ما عليها مما هو زينة لها صعيدا هو مشاهد معلوم من طبع الأرض إذ كل ما يحصل فيها من نبات أو حيوان أو حديد أو رصاص أو نحوه من الجواهر يستحيل ترابا فإذا كان الله جل وعلا قد أخبر أن ما عليها يصيره صعيدا جرزا وأباح مع ذلك التيمم بالصعيد وجب بعموم ذلك جواز التيمم بالصعيد الذي كان نباتا أو حيوانا أو حديدا أو رصاصا أو غير ذلك لإطلاقه تعالى الأمر بالتيمم بالصعيد وفي ذلك دليل على صحة قول أصحابنا في النجاسات إذ استحالت أرضا أنها طاهرة لأنها في هذه الحال أرض ليست بنجاسة وكذلك قالوا في نجاسة أحرقت فصارت رمادا أنه طاهر لأن الرماد في نفسه طاهر وليس بنجاسة ولا فرق بين رماد النجاسة وبين رماد الخشب الطاهر إذ النجاسة هي التي توجد على ضرب من الإستحالة وقد زال ذلك عنها بالإحراق وصارت إلى ضرب الإستحالة التي لا توجب التنجيس وكذلك الخمر إذا استحالت خلا فهو طاهر لأنه في الحال ليس

بخمر لزوال الإستحالة الموجبة لكونها خمرا قوله تعالى إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا فيه الدلالة على أن على الإنسان أن يهرب بدينه إذا خاف الفتنة فيه وأن عليه أن لا يتعرض لإظهار كلمة الكفر وإن كان على وجه التقية ويدل على أنه إذا أراد الهرب بدينه خوف الفتنة أن يدعو بالدعاء الذي حكاه الله عنهم لأن الله قد رضي ذلك من فعلهم وأجاب دعاءهم وحكاه لنا على جهة الإستحسان لما كان منهم قوله تعالى لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا معناه ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم لما في ذلك من العبرة قوله تعالى لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا قيل فيه وجوه أحدها ما ألبسهم الله تعالى من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم وينتبهوا من رقدتهم وذلك وصفهم في حال نومهم لا بعد اليقظة والثاني إنهم كانوا في مكان موحش من الكهف أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون والثالث إن أظفارهم وشعورهم طالبت فلذلك يأخذ الرعب منهم قوله تعالى قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم لما حكى الله ذلك عنهم غير منكر لقولهم علمنا أنهم كانوا مصيبين في إطلاق ذلك لأن مصدره إلى ما كان عندهم من مقدار اللبث وفي اعتقادهم لا عن حقيقة اللبث في المغيب وكذلك هذا في قوله فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم ولم ينكر الله ذلك لأنه أخبر عما عنده وفي اعتقاده لا عن مغيب أمره وكذلك قول موسى عليه السلام للخضر أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا و لقد جئت شيئا إمرا يعني عندي كذلك ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم -

كل ذلك لم يكن حين قال ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت قوله تعالى
فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية يدل على جواز خلط دراهم الجماعة والشرى بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن كان بعضهم قد يأكل أكثر مما يأكل غيره وهذا الذي يسميه الناس المناهدة ويفعلونه في الأسفار وذلك لأنهم قالوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فأضاف الورق إلى الجماعة ونحوه قوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم فأباح لهم بذلك خلط طعام اليتيم بطعامهم وأن تكون يده مع أيديهم مع جواز أن يكون بعضهم أكثر أكلا من غيره وفي هذه الآية دلالة على جواز الوكالة بالشرى لأن الذي بعثوا به كان وكيلا لهم

باب

الإستثناء في اليمين
قال الله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله قال أبو بكر هذا الضرب من الإستثناء يدخل لرفع حكم الكلام حتى يكون وجوده وعدمه سواء وذلك لأن الله تعالى ندبه الإستثناء بمشيئة الله تعالى لئلا يصير كاذبا بالحلف فدل على أن حكمه ما وصفنا ويدل عليه أيضا قوله عز و جل حاكيا عن موسى عليه السلام ستجدني إن شاء الله صابرا فلم يصبر ولم يك كاذبا لوجود الإستثناء في كلامه فدل على أن معناه ما وصفنا من دخوله في الكلام لرفع حكمه فوجب أن لا يختلف حكمه في دخوله على اليمين أو على إيقاع الطلاق أو على العتاق وقد روى أيوب عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه وفي بعض الألفاظ فقد استثنى قال أبو بكر ولم يفرق بين شيء من الأيمان فهو على جميعها وعن عبدالله بن مسعود من قوله مثله وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم قالوا الإستثناء في كل شيء وقد روى إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا قال الرجل لعبده أنت حر إن شاء الله فهو حر وإذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فليست بطالق وهذا حديث شاذ واهي السند غير معمول عليه عند أهل العلم وقد اختلف أهل العلم بعد اتفاقهم على صحة الإستثناء في الوقت الذي يصح فيه الإستثناء على ثلاثة أنحاء فقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية إذا استثنى بعد سنة صح استثناؤه وقال الحسن وطاوس يجوز الإستثناء ما دام في المجلس وقال إبراهيم وعطاء والشعبي لا يصح الإستثناء إلا موصولا بالكلام وروي عن إبراهيم في الرجل يحلف ويستثني في نفسه قال لا يجهر بالإستثناء كما جهر بيمينه وهذا محمول عندنا على أنه لا يصدق في القضاء إذا ادعى أنه كان استثنى ولم يسمع منه وقد سمع منه اليمين وقال أصحابنا وسائر الفقهاء لا يصح الإستثناء إلا موصولا بالكلام وذلك لأن الإستثناء بمنزلة الشرط والشرط لا يصلح ولا يثبت حكمه إلا موصولا بالكلام من غير فصل مثل قوله أنت طالق إن دخلت الدار فلو قال أنت طالق ثم قال إن دخلت الدار بعد ما سكت لم يوجب ذلك تعلق الطلاق بالدخول ولو جاز هذا لجاز أن يقول لامرأته أنت طالق ثلاثا ثم يقول بعد سنة إن شاء الله فيبطل الطلاق ولا تحتاج إلى زوج ثان في إباحتها للأول وفي

تحريم الله تعالى إياها عليه بالطلاق الثلاث إلا بعد زوج دلالة على بطلان الإستثناء بعد السكوت ولما صح ذلك في الإيقاع في أنه لا يصح الإستثناء إلا موصولا بالكلام كان كذلك حكم اليمين وأيضا قال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أنه إن برأ ضربها فأمره الله تعالى أن يأخذ بيده ضغثا ويضرب به ولا يحنث ولو صح الإستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالإستثناء فيستغني به عن ضربها بالضغث وغيره ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم - من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ولو جاز الإستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالإستثناء واستغنى عن الكفارة وقال ص - إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني ولم يقل إلا قلت إن شاء الله فإن قيل روى قيس عن سماك عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا ثم سكت ساعة فقال إن شاء الله
فقد استثنى بعد السكوت قيل له رواه شريك عن سماك عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال والله لأغزون قريشا ثلاثا ثم قال في آخرهن إن شاء الله فأخبر أنه استثنى في آخرهن وذلك يقتضي اتصاله باليمين وهو أولى لما ذكرنا وفي هذا الخبر دلالة أيضا على أنه إذا حلف بأيمان كثيرة ثم استثنى في آخرهن كان الإستثناء راجعا إلى الجميع واحتج ابن عباس ومن تابعه في إجازة الإستثناء متراخيا عن اليمين بقوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت فتأولوا قوله واذكر ربك إذا نسيت على الإستثناء وهذا غير واجب لأن قوله تعالى واذكر ربك إذ نسيت يصح أن يكون كلاما مبتدأ مستقلا بنفسه من غير تضمين له بما قبله وغير جائز فيما كان هذا سبيله تضمينه بغيره وقد روى ثابت عن عكرمة في قوله تعالى واذكر ربك إذا نسيت قال إذا غضبت فثبت بذلك أنه إنما أراد الأمر بذكر الله تعالى وأن يفزع إليه عند السهو والغفلة وقد روي في التفسير أن قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله إنما نزل فيما سألت قريش عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين فقال سأخبركم فأبطأ عنه جبريل عليهما السلام أياما ثم أتاه بخبرهم وأمره الله تعالى بعد ذلك بأن لا يطلق القول على فعل يفعله في المستقبل إلا مقرونا بذكر مشيئة الله تعالى وفي نحو ذلك ما روى هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
قال سليمان بن داود والله لأطوفن

الليلة على مائة امرأة فتلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فلم تلد منهن إلا واحدة ولدت نصف إنسان قوله تعالى ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازداودا تسعا روي عن قتادة أن هذا حكاية عن قول اليهود لأنه قال قل الله أعلم بما لبثوا وقال مجاهد والضحاك وعبيد بن عمير إنه إخبار من الله تعالى بأن هذا كانت مدة لبثهم ثم قال لنبيه ص - قل إن حاجك أهل الكتاب الله أعلم بما لبثوا وقيل فيه الله أعلم بما لبثوا إلى الوقت الذي نزل فيه القرآن بها وقيل قل الله أعلم بما لبثوا إلى أن ماتوا فأما قول قتادة فليس بظاهر لأنه لا يجوز صرف إخبار الله إلى أنه حكاية عن غيره إلا بدليل ولأنه يوجب أن يكون بيان مدة لبثهم غير مذكور في الكتاب مع العلم بأن الله قد أراد منا الاعتبار والإستدلال به على عجيب قدرة الله تعالى ونفاذ مشيئته قوله تعالى ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله قيل في ما شاء الله وجهان أحدهما ما شاء الله كان فحذف كقوله تعالى فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فحذف منه فافعل والثاني هو ما شاء الله وقد أفاد أن قول القائل منا ما شاء الله ينتظم رد العين وارتباط النعمة وترك الكبر لأن فيه إخبار أنه لو قال ذلك لم يصبها ما أصاب قوله تعالى إلا إبليس كان من الجن فيه بيان أنه ليس من الملائكة لأنه أخبر انه من الجن وقال الله تعالى والجان خلقناه من قبل من نار السموم فهو جنس غير جنس الملائكة كما أن الإنس جنس غير جنس الجن وروي أن الملائكة أصلهم من الريح كما أن أصل بني آدم من الأرض وأصل الجن من النار قوله تعالى نسيا حوتهما والناسي له كان يوشع بن نون فأضاف النسيان إليهما كما يقال نسي القوم زادهم وإنما نسيه أحدهم وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم -

لمالك بن الحويرث ولابن عم له إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أحدكما
وإنما يؤذن ويقيم أحدهما وقال يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم وإنما هم من الإنس قوله تعالى لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان نصب أو تعب في سعي في قربة وأن ذلك ليس بشكاية مكروهة وما ذكره الله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع الخضر فيه بيان أن فعل الحكيم للضرر لا يجوز أن يستنكر إذا كان فيه تجويز فعله على وجه الحكمة المؤدية إلى المصلحة وإن ما يقع من الحكيم من ذلك لخلاف ما يقع من السفيه وهو مثل الصبي الذي

إذا حجم أو سقي الدواء استنكر ظاهره وهو غير عالم بحقيقة معنى النفع والحكمة فيه فكذلك ما يفعل الله من الضرر أو ما يأمر به غير جائز استنكاره بعد قيام الدلالة أنه لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة وهذا أصل كبير في هذا الباب والخضر عليه السلام لم يحتمل موسى أكثر من ثلاث مرات فدل على أنه جائز للعالم احتمال من يتعلم منه المرتين والثلاث على مخالفة أمره وأنه جائز له بعد الثلاث ترك احتماله
في

الكنز ما هو
قال الله تعالى وكان تحته كنز لهما قال سعيد بن جبير علم وقال عكرمة مال وقال ابن عباس ما كان بذهب ولا فضة وإنما كان علما صحفا وقال مجاهد صحف من علم وقد روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في قوله وكان
تحته كنز لهما قال ذهب وفضة ولما تأولوه على الصحف وعلى العلم وعلى الذهب وعلى الفضة دل على أن اسم الكنز يقع على الجميع لولاه لم يتأولوه عليه وقال الله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فخص الذهب والفضة بالذكر لأن سائر الأشياء إذا كثرت لا تجب فيها الزكاة وإنما تجب فيها الزكاة إذا كانت مرصدة للنماء والذهب والفضة تجب فيهما وإن كانا مكنوزين غير مرصدين للنماء قوله تعالى وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما الآية فيه دلالة على أن الله يحفظ الأولاد لصلاح الآباء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال إن الله ليحفظ المؤمن في أهله وولده وفي الدويرات حوله ونحوه
قوله تعالى ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما فأخبر بدفع العذاب عن الكفار لكون المؤمنين فيهم ونحوه قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم آخر سورة الكهف
ومن
سورة مريم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى إذ نادى ربه نداء خفيا فمدحه بإخفاء الدعاء وفيه الدليل على أنه إخفاءه أفضل من الجهر به ونظيره قوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية وروى سعد

ابن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم - خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي وعن الحسن إنه كان يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه وكان لا يعجبه رفع الأصوات وروى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فرأى قوما قد رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إن الذي تدعونه أقرب إليكم من حبل الوريد قوله تعالى وإني خفت الموالي من ورائي روي عن مجاهد وقتادة وأبي صالح والسدي إن الموالي العصبة وهم بنو أعمامه خافهم على الدين لأنهم كانوا شرار بني إسرائيل قوله تعالى فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب سأل الله عز و جل أن يرزقه ولدا ذكرا يلي أمور الدين والقيام به بعد موته لخوفه من بني أعمامه على تبديل دينه بعد وفاته وروى قتادة عن الحسن في قوله تعالى يرثني ويرث من آل يعقوب قال نبوته وعلمه وروى خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال كان عقيما لا يولد له ولد فسأل ربه الولد فقال يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة وعن أبي صالح مثله فذكر ابن عباس إنه يرث المال ويرث من آل يعقوب النبوة فقد أجاز إطلاق اسم الميراث على النبوة فكذلك يجوز أن يعني بقوله يرثني يرث علمي وقال النبي صلى الله عليه وسلم -

العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما
ورثوا العلم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - كونوا على مشاعركم يعني بعرفات فإنكم على إرث من إرث إبراهيم وروى الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر الصديق قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم -
يقول لا نورث ما تركنا صدقة وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال
سمعت عمر ينشد نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - فيهم عثمان وعبدالرحمن بن عوف والزبير وطلحة أنشدكم بالله الذي به تقوم السموات والأرض أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لا نورث ما تركنا صدقة قالوا نعم فقد ثبت برواية هذه الجماعة عن
النبي صلى الله عليه وسلم - أن الأنبياء لا يورثون المال ويدل على أن زكريا لم يرد بقوله يرثني المال إن نبي الله لا يجوز أن يأسف على مصير ماله بعد موته إلى مستحقه وإنه إنما خاف أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه فيحرفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه قوله تعالى إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فيه الدلالة على ترك الكلام واستعمال الصمت قد كان قربة لولا ذلك لما نذرته مريم عليها السلام ولما فعلته بعد النذر وقد روى معمر عن قتادة في قوله إني نذرت

للرحمن صوما قال في بعض الحروف صمتا ويدل على أن مرادها الصمت قولها فلن أكلم اليوم إنسيا وهذا منسوخ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن صمت يوم إلى الليل وقال السدي كان من صام في ذلك الزمان لا يكلم الناس فأذن لها في هذا المقدار من الكلام وقد كان الله تعالى حبس زكريا عن الكلام ثلاثا وجعل ذلك آية له على الوقت الذي يخلق له فيه الولد فكان ممنوعا من الكلام من غير آفة ولا خرس قوله تعالى فخرج على قومه من المحراب قال أبو عبيدة المحراب صدر المجلس ومنه محراب المسجد وقيل إن المحراب الغرفة ومنه قوله تعالى إذ تسوروا المحراب وقيل المحراب المصلى وقوله تعالى فأوحى إليهم قيل فيه إنه أشار إليهم وأومأ بيده فقامت الإشارة في هذا الموضع مقام القول لأنها أفادت ما يفيده القول وهذا يدل على أن إشارة الأخرس معمول عليها قائمة فيما يلزمه مقام القول ولم يختلف الفقهاء أن إشارة الصحيح لا تقوم مقامه قوله وإنم كان في الأخرس كذلك لأنه بالعادة والمران والضرورة الداعية إليها قد علم بها مالا يعلم بالقول وليس للصحيح في ذلك عادة معروفة فيعمل عليها ولذلك قال أصحابنا فيمن اعتقل لسانه فأومأ وأشار بوصية أو غيرها أنه لا يعمل على ذلك لأنه ليس له عادة جارية بذلك حتى يكون في معنى الأخرس قوله تعالى قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا قال قائلون إنما تمنت الموت للحال التي دفعت إليها من الولادة من غير ذكر وهذا خطأ لأن هذه حال كان الله تعالى قد ابتلاها بها وصيرها إليها وقد كانت هي راضية بقضاء الله تعالى لها بذلك مطيعة لله وتسخط فعل الله وقضائه معصية لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة فعلمنا أنها لم تتمن الموت لهذا المعنى وإنما تمنته لعلمها بأن الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها فتمنت أن تكون قد ماتت قبل أن يعصي الناس الله بسببها قوله تعالى فناداها من تحتها قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي جبريل عليه السلام وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ووهب بن منبه الذي ناداها عيسى عليه السلام وقوله تعالى وجعلني مباركا أينما كنت قال مجاهد معلما للخير وقال غيره جعلني نفاعا وقوله تعالى وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا قيل إنه عنى زكاة المال وقيل أراد التطهير من الذنوب قوله تعالى وبرا بوالدتي إلى قوله والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا يدل على أنه يجوز للإنسان أن

يصف نفسه بصفات الحمد والخير إذا أراد تعريفها إلى غيره لا على جهة الإفتخار وهو أيضا مثل قول يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم فوصف نفسه بذلك تعريفا للملك بحاله قوله تعالى واهجرني مليا روي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي قالوا دهرا طويلا وعن ابن عباس وقتادة والضحاك مليا سويا سليما من عقوبتي قال أبو بكر هذا من قولهم فلان ملي بهذا الأمر إذا كان كامل الأمر فيه مضطلعا به قوله تعالى أضاعوا الصلاة قال عمر بن عبدالعزيز أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها ويدل على هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم - ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن يدعها حتى يدخل وقت الأخرى وقال محمد بن كعب أضاعوها بتركها قوله تعالى هل تعلم له سميا قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج مثلا وشبيها وقوله تعالى لم نجعل له من قبل سميا قال ابن عباس لم تلد مثله العواقر وقال مجاهد لم نجعل له من قبل مثلا وقال قتادة وغيره لم يسم أحد قبله باسمه وقيل في معنى قوله هل تعلم له سميا أن أحدا لا يستحق أن يسمى إلها غيره وقوله تعالى إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا فيه الدلالة على أن سامع السجدة وتاليها سواء في حكمها وأنهم جميعا يسجدون لأنه مدح السامعين لها إذا سجدوا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - إنه تلا سجدة يوم الجمعة على المنبر فنزل وسجدها وسجد المسلمون معه وروى عطية عن ابن عمر وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب قالوا السجدة على من سمع وروى أبو إسحاق عن سليمان بن حنظلة الشيباني قال قرأت عند ابن مسعود سجدة فقال إنما السجدة على من جلس لها وروى سعيد بن المسيب عن عثمان مثله قال أبو بكر قد أوجبا السجدة على من جلس لها ولا فرق بين أن يجلس للسجدة بعد أن يكون قد سمعها إذ كان السبب الموجب لها هو السماع ثم لا يختلف حكمها في الوجوب بالنية وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يفسدها قوله تعالى وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا فيه الدلالة على أن ملك الوالد لا يبقى على ولده فيكون عبدا له يتصرف فيه كيف شاء وأنه يعتق عليه إذا ملكه وذلك لأنه تعالى فرق بين الولد والعبد فنفى بإثباته العبودية النبوة وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه بالشرى وهو
كقوله ص - الناس غاديان فبائع

نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها ولم يرد بذلك أن يبتدئ لنفسه عتقا بعد الشرى وإنما معناه معتقها بالشرى فكذلك قوله فيشتريه فيعتقه وهو كقوله فيشتريه فيملكه وليس المراد منه استئناف ملك آخر بعد الشرى بل يملكه ويدل على أنه يعتق عليه بنفس الشرى إن ولد الحر من أمته حر الأصل ولا يحتاج إلى استئناف عتق وكذلك المشتري لابنه لأنه لو احتاج المشتري لابنه إلى استئناف عتق لاحتاج إليه أيضا الإبن المولود من أمته إذ كانت الأمة مملوكة فإن قيل إن ولد أمته منه حر الأصل فلم يحتج من أجل ذلك إلى استئناف عتق والولد المشترى مملوك فلا يعتق بالشرى حتى يستأنف له عتقا قيل له اختلافهما من هذا الوجه لا يمنع وجه الاستدلال منه على ما وصفنا في أن الإنسان لا يبقى له ملك على ولده وأنه واجب أن يعتق عليه إذا ملكه وذلك لأنه لو جاز له أن يبقى له ملك على ولده لوجب أن يكون ولده من أمته رقيقا إلى أن يعتقه وإنما اختلف الولد والمولود من أمته والولد المشترى في كون الأول حر الأصل وكون الآخر معتقا عليه ثابت الولاء منه من قبل أن الولد المشترى قد كان ملكا لغيره فلا بد إذا اشتراه من وقوع العتاق عليه حتى يستقر ملكه إذ غير جائز إيقاع العتق في ملك بائعه لأنه لو وقع العتاق في ملكه لبطل البيع لأنه بعد العتق ولا يصح أيضا وقوعه في حال البيع لأن حصول العتق ينفي صحة البيع في الحال التي يقع فيها فوجب أن يعتق في الثاني من ملكه ولا يصح ايضا وقوع العتاق في حال الملك لأنه يكون إيقاع عتق لا في ملك فلذلك وجب أن يعتق في الثاني من ملكه وأما الولد المولود في ملكه من جاريته فإنا لو أثبتنا له ملكا فيه كان هو المستحق للعتق في حال الملك فلا جائز أن يثبت ملكه مع وجود ما ينافيه وهواستحقاق العتاق في تلك الحال فكان حر الأصل ولم يثبت له ملك فيه ولو ثبت ملكه ابتداء فيه لكان مستحقا بالعتق في حال ما يريد إثباته لوجود سببه الموجب له وهو ملكه للأم وغير جائز إثبات ملك ينتفي في حال وجوده واختلافهما من هذا الوجه لا ينفي أن يكون ملكه لولده في الحالين موجبا لعتقه وحريته قوله تعالى إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا قيل فيه وجهان أحدهما في الآخرة يحب بعضهم بعضا كمحبة الوالد للولد وقال ابن عباس ومجاهد ودا في الدنيا آخر سورة مريم

ومن

سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قال الحسن استوى بلطفه وتدبيره وقيل استولى وقوله تعالى فإنه يعلم السر وأخفى قال ابن عباس السر ما حدث به العبد غيره في خفي وأخفى منه ما أضمره في نفسه مما لم يحدث به غيره وقال سعيد بن جبير وقتادة السر ما أضمره العبد في نفسه وأخفى منه مالم يكن ولا أضمره أحد قوله تعالى فاخلع نعليك قال الحسن وابن جريج أمره بخلع نعليه ليباشر بقدمه بركة الوادي المقدس قال أبو بكر يدل عليه قوله عقيب ذلك إنك بالواد المقدس طوى فتقديره اخلع نعليك لأنك بالواد المقدس وقال كعب وعكرمة كانت من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعها قال أبو بكر ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل وذلك لأن التأويل إن كان هو الأول فالمعنى فيه مباشرة الوادي بقدمه تبركا به كاستلام الحجر وتقبيله تبركا به فيكون الأمر بخلع النعل مقصورا على تلك الحال في ذلك الوادي المقدس بعينه وإن كان التأويل هو الثاني فجائز أن يكون قد كان محظورا لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغا فإن كان كذلك فهو منسوخ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال أيما إهاب دبغ فقد طهر وقد صلىالنبي ص
- في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال مالكم خلعتم نعالكم قالوا خلعت فخلعنا قال فإن جبريل أخبرني أن فيها قذرا فلم يكره النبي صلى الله عليه وسلم - الصلاة في النعل وأنكر على الخالعين خلعها وأخبرهم أنه إنما خلعها لأن جبريل أخبره أن فيها قذرا وهذا عندنا محمول على أنها كانت نجاسة يسيرة لأنها لو كانت كثيرة لاستأنف الصلاة قوله تعالى وأقم الصلاة لذكري قال الحسن ومجاهد لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم وقيل فيه لأن أذكرك بالثناء والمدح وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم - نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فصلاها بعد طلوع الشمس وقال إن الله يقول أقم الصلاة لذكري وروى همام بن يحيى عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وتلا أقم الصلاة لذكري وهذا يدل على أن قوله أقم الصلاة لذكري قد أريد به فعل الصلاة المتروكة وكون ذلك مرادا بالآية

لا ينفي أن تكون المعاني التي تأولها عليها الآخرون مرادة أيضا إذ هي غير متنافية فكأنه قال أقم الصلاة إذا ذكرت الصلاة المنسية لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم لأن أذكرك بالثناء والمدح فيكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية وهذا الذي ورد به الأثر من إيجاب قضاء الصلاة المنسية عند الذكر لا خلاف بين الفقهاء فيه وقد روي عن بعض السلف فيه قول شاذ ليس العمل عليه فروى إسرائيل عن جابر عن أبي بكر بن أبي موسى عن سعد قال من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها وليصل مثلها من الغد وروى الجريري عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب قال إذا فاتت الرجل الصلاة صلاها من الغد لوقتها فذكرت ذلك لأبي سعيد فقال صلها إذا ذكرتها وهذان القولان شاذان وهما مع ذلك خلاف ما ورد به الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم -

من أمره بقضاء الفائتة عند الذكر من غير فعل صلاة أخرى غيرها وتلاوة
النبي صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى أقم الصلاة لذكري عقيب ذكر الفائتة وبعد قوله من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها يوجب أن يكون مراد الآية قضاء الفائتة عند الذكر وذلك يقتضي الترتيب في الفوائت لأنه إذا كان مأمورا بفعل الفائتة عند الذكر وكان ذلك في وقت صلاة فهو منهي لا محالة عن فعل صلاة الوقت في تلك الحال فأوجب ذلك فساد صلاة الوقت إن قدمها على الفائتة لأن النهي يقتضي الفساد حتى تقوم الدلالة على غيره وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا الترتيب بين الفوائت وبين صلاة الوقت واجب في اليوم والليلة وما دونهما إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت فإن زاد على اليوم والليلة لم يجب الترتيب والنسيان يسقط الترتيب عندهم أعني نسيان الصلاة الفائتة وقال مالك بن أنس بوجوب الترتيب وإن نسي الفائتة إلا أنه يقول إن كانت الفوائت كثيرة بدأ بصلاة الوقت ثم صلى ما كان نسي وإن كانت الفوائت خمسا ثم ذكرهن قبل صلاة الصبح صلاهن قبل الصبح وإن فات وقت الصبح وإن صلى الصبح ثم ذكر صلوات صلى ما نسي فإذا فرغ أعاد الصبح ما دام في الوقت فإذا فات الوقت لم يعد وقال الثوري بوجوب الترتيب إلا أنه لم يرو عنه الفرق بين القليل والكثير لأنه سئل عمن صلى ركعة من العصر ثم ذكر أنه صلى الظهر على غير وضوء أنه يشفع بركعة ثم يسلم فيستقبل الظهر ثم العصر وروي عن الأوزاعي روايتان في إحداهما إسقاط الترتيب وفي الأخرى إيجابه وقال الليث إذا ذكرها وهو في صلاة وقد صلى ركعة فإن

كان مع إمام فليصل معه حتى إذا سلم صلى التي نسي ثم أعاد الصلاة التي صلاها معه وقال الحسن بن صالح إذا صلى صلوات بغير وضوء أو نام عنهن قضى الأولى فالأولى فإن جاء وقت صلاة تركها وصلى ما قبلها وإن فاته وقتها حتى يبلغها وقال الشافعي الإختيار أن يبدأ بالفائتة فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه ولا فرق بين القليل والكثير قال أبو بكر وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال من نسي صلاة وذكرها وهو خلف إمام فليصل مع الإمام فإذا فرغ صلى التي نسي ثم يصلي الأخرى وروى عباد بن العوام عن هشام عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال أقبلنا حتى دنونا من المدينة وقد غابت الشمس وكان أهل المدينة يؤخرون المغرب فرجوت أن أدرك معهم الصلاة فأتيتهم وهم في صلاة العشاء فدخلت معهم وأنا أحسبها المغرب فلما صلى الإمام قمت فصليت المغرب ثم صليت العشاء فلما أصبحت سألت عن الذي فعلت فكلهم أخبروني بالذي صنعت وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - بها يومئذ متوافرين وقال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بوجوب الترتيب فهؤلاء السلف قد روي عنهم إيجاب الترتيب

ولم
يرو عن أحد من نظرائهم خلاف فصار ذلك إجماعا من السلف ويدل على وجوب الترتيب في الفوائت ما روى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأنا والله ما صليت بعد فنزل وتوضأ ثم صلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعد ما صلى العصر وروي عنه ص - أنه فاتته أربع صلوات حتى كان هوى من الليل فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء وهذا الخبر يدل من وجهين على وجوب الترتيب أحدهما قوله ص - صلوا كما رأيتموني أصلي فلما صلاهن على الترتيب اقتضى ذلك إيجابه والوجه الآخر أن فرض الصلاة تحل من الكتاب والترتيب وصف من أوصاف الصلاة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم - إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فلما قضى الفوائت على الترتيب كان فعله ذلك بيانا للفرض المحمل فوجب أن يكون على الوجوب ويدل على وجوبه أيضا أنهما صلاتان فرضان قد جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون ذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة وقال عمر للنبي ص - إني ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فلم ينكره النبي ص

ولم يأمر بالإعادة فيه الدلالة على أن من صلى العصر عند غروب الشمس فلا إعادة عليه قوله تعالى وألقيت عليك محبة مني يعني إني جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره وأحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فثبتتك قوله تعالى ولتصنع على عيني قال قتادة لتغدى على محبتي وإرادتي قوله تعالى وفتناك فتونا قال سعيد بن جبير سألت ابن عباس عن قوله تعالى وفتناك فتونا فقال استأنف لها نهارا يا ابن جبير ثم ذكر في معناه وقوعه في محنة بعد محنة أخلصه الله منها أو لها إنها حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال ثم إلقاؤه في اليم ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الدرة فدرأ ذلك عنه قتل فرعون ثم مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره عما عزموا عليه من قتله وقال مجاهد في قوله تعالى وفتناك فتونا معناه خلصناك خلاصا وقوله تعالى واصطنعتك لنفسي فإن الإصطناع الإخلاص بالألطاف ومعنى لنفسي لتصرف على إرادتي ومحبتي قوله تعالى وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها قيل في وجه سؤال موسى عليه السلام عما في يده أنه على وجه التقرير له على أن الذي في يده عصا ليقع المعجز بها بعد التثبت فيها والتأمل لها فإذا أجاب موسى بأنها عصا يتوكأ عليها عند الإعياء وينفض بها الورق لغنمه وإن له فيها منافع أخرى فيها ومعلوم أنه لم يرد بذلك إعلام الله تعالى ذلك لأن الله تعالى كان أعلم بذلك منه ولكنه لما اقتضى السؤال منه جوابا لم يكن له بد من الإجابة بذكر منافع العصا إقرارا منه بالنعمة فيها واعتدادا بمنافعها والتزاما لما يجب عليه من الشكر له ومن أهل الجهل من يسأل عن ذلك فيقول إنما قال الله له وما تلك بيمينك يا موسى فإنما وقعت المسألة عن ماهيتها ولم تقع عن منافعها وما تصلح له فلم أجاب عما لم يسئل منه ووجه ذلك ما قدمنا وهو أنه أجاب عن المسألة بديا بقوله هي عصاي ثم أخبر عما جعل الله تعالى له من المنافع فيها على وجه الاعتراف بالنعمة وإظهار الشكر على ما منحه الله منها وكذلك سبيل أنبياء الله تعالى المؤمنين عند مثله في الإعتداد بالنعمة ونشرها وإظهار الشكر عليها وقال الله تعالى وأما بنعمة ربك فحدث

ومن

سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفست فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن قتادة نفشت فيه غنم القوم قال في حرث قوم وقال معمر قال الزهري النفش لا يكون إلا بالليل والهمل بالنهار وقال قتادة فقضى أن يأخذوا الغنم ففهمها الله سليمان فلما أخبر بقضاء داود عليه السلام قال لا ولكن خذوا الغنم فلكم ماخرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى الحول وروى أبو إسحاق عن مرة عن مسروق وداود وسليمان قال كان الحرث كرما فنفشت فيه ليلا فاجتمعوا إلى داود فقضى بالغنم لأصحاب الحرث فمروا بسليمان فذكروا ذلك له فقال أولا تدفع الغنم إلى هؤلاء فيصيبون منها قوم هؤلاء حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردوا عليهم فنزلت ففهمناها سليمان وروي عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه في قصة داود وسليمان قال أبو بكر فمن الناس من يقول إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته أن على صاحب الغنم ضمان ما أفسدت وإن كان نهارا لم يضمن شيئا وأصحابنا لا يرون في ذلك ضمانا لا ليلا ولا نهارا إذ لم يكن صاحب الغنم هو الذي أرسلها فيها واحتج الأولون بقضية داود وسليمان عليهما السلام واجتماعهما على إيجاب الضمان وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال حدثنا عبدالرزاق قال حدثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم - على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الفريابي عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل قال أبو بكر ذكر في الحديث الأول حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء وذكر

في هذا الحديث حرام بن محيصة عن البراء بن عازب ولم يذكر في الحديث الأول ضمان ما أصابت الماشية ليلا وإنما ذكر الحفظ فقط وهذا يدل على اضطراب الحديث بمتنه وسنده وذكر سفيان بن حسين عن الزهري عن حرام بن محيصة فقال ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فيه شيئا ثم قرأ رسول الله ص
- وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ وذلك لأن داود عليه السلام حكم بدفع الغنم إلى صاحب الحرث وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها ولا خلاف بين المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ولا تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان بشريعة نبينا ص - فإن قيل قد تضمنت القصة معاني منها وجوب الضمان على صاحب الغنم ومنها كيفية الضمان وإنما المنسوخ منه كيفية الضمان ولم يثبت أن الضمان نفسه منسوخ قيل له قد ثبت نسخ ذلك أيضا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم - بخبر قد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه روى أبو هريرة وهزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال العجماء جبار وفي بعض الألفاظ جرح العجماء جبار ولا خلاف بين الفقهاء في استعمال هذا الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانا أو مالا أنه لا ضمان على صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه فلما كان هذا الخبر مستعملا عند الجميع وكان عمومه ينفي ضمان ما تصيبه ليلا أو نهارا ثبت بذلك نسخ ما ذكر في قصة داود وسليمان عليهما السلام ونسخ ما ذكر في قصة البراء أن فيها إيجاب الضمان ليلا وأيضا سائر الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه فلما اتفق الجميع على نفي ضمان ما أصابت الماشية نهارا وجب ان يكون ذلك حكمها ليلا وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - إنما أوجب الضمان في حديث البراء إذا كان صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون فائدة الخبر أنه معلوم أن السائق لها بالليل بين الزروع والحوائط لا يخلو من نفش بعض غنمه في زروع الناس وإن لم يعلم بذلك فأبان النبي صلى الله عليه وسلم - عن حكمهما إذا أصابت زرعا ويكون فائدة الخبر إيجاب الضمان بسوقه وإرساله في الزروع وإن لم يعلم بذلك وبين ما تساوى حكم العلم والجهل فيه وجائز أيضا أن تكون قضية داود وسليمان كانت على هذا الوجه بأن يكون صاحبها أرسلها ليلا وساقها وهو غير عالم بنفشها في حرث القوم فأوجبا عليه الضمان وإذا كان ذلك محتملا لم تثبت فيه دلالة على موضع

الخلاف وقد تنازع الفريقان من المختلفين في حكم المجتهد في الحادثة القائلون منهم بأن الحق واحد والقائلون بأن الحق في جميع أقاويل المختلفين فاستدل كل منهم بالآية على قوله وذلك لأن الذين قالوا بأن الحق في واحد زعموا أنه لما قال تعالى ففهمناها سليمان فخص سليمان بالفهم دل ذلك على أنه كان المصيب للحق عند الله دون داود إذ لو كان الحق في قوليهما لما كان لتخصيص سليمان بالفهم دون داود معنى وقال القائلون بأن كل مجتهد مصيب لما لم يعنف داود على مقالته ولم يحكم بتخطئته دل على أنهما جميعا كانا مصيبين وتخصيصه لسليمان بالتفهيم لا يدل على أن داود كان مخطئا وذلك لأنه جائز أن يكون سليمان أصاب حقيقة المطلوب فلذلك خص بالتفهيم ولم يصب داود عين المطلوب وإن كان مصيبا لما كلف ومن الناس من يقول إن حكم داود وسليمان جميعا كان من طريق النص لا من جهة الاجتهاد ولكن داود لم يكن قد أبرم الحكم ولا أمضى القضية بما قال أو أن يكون قوله ذلك على وجه الفتيا لا على جهة إنفاذ القضاء بما افتى به أو كانت قضية معلقة بشريطة لم تفصل بعد فأوحى الله تعالى إلى سليمان بالحكم الذي حكم به ونسخ به الحكم الذي كان داود أراد أن ينفذه قالوا ولا دلالة في الآية على أنهما قالا ذلك من جهة الرأي قالوا وقوله ففهمناها سليمان يعني به تفهيمه الحكم الناسخ وهذا قول من لا يجيز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم - من طريق الاجتهاد والرأي وإنما يقوله من طريق النص آخر سورة الأنبياء
ومن سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو بكر لم يختلف السلف وفقهاء الأمصار في السجدة الأولى من الحج أنها موضع سجود واختلفوا في الثانية منها وفي المفصل فقال أصحابنا سجود القرآن أربع عشرة سجدة منها الأولى من الحج وسجود المفصل في ثلاث مواضع وهو قول الثوري وقال مالك أجمع الناس على أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء وقال الليث أستحب أن يسجد في سجود القرآن كله وسجود المفصل وموضع السجود من حم إن كنتم إياه تعبدون وقال الشافعي سجود القرآن أربع عشرة سجدة سوى سجدة ص فإنها سجدة شكر قال أبو بكر فاعتد بآخر الحج سجودا وقد روي

عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه سجد في ص وقال ابن عباس في سجدة حم أسجد بآخر الآيتين كما قال
أصحابنا وروى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في النجم وقال عبدالله بن مسعود سجد النبي صلى الله عليه وسلم -
في النجم قال أبو بكر ليس فيما روى زيد بن ثابت من ترك النبي ص
- السجود في النجم دلالة على أنه غير واجب فيه ذلك لأنه جائز أن لا يكون سجد لأنه صادف عند تلاوته بعض الأوقات المنهي عن السجود فيها فأخره إلى وقت يجوز فعله فيه وجائز أيضا أن يكون عند التلاوة على غير طهارة فأخره ليسجد وهو طاهر وروى أبو هريرة قال سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - في إذا السماء انشقت و اقرأ باسم ربك الذي خلق واختلف السلف في الثانية من الحج فروي عن عمر وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء وعمار وأبي موسى أنهم قالوا في الحج سجدتان وقالوا إن هذه السورة فضلت على غيرها من السور بسجدتين وروى خارجة بن مصعب عن أبي حمزة عن ابن عباس قال في الحج سجدة وروى سفيان بن عيينة عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال الأولى عزمة والآخرة تعليم وروى منصور عن الحسن عن ابن عباس قال في الحج سجدة واحدة وروي عن الحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد أن في الحج سجدة واحدة وقد روينا عن ابن عباس فيما تقدم أن في الحج سجدتين وبين في حديث سعيد بن جبير إن الأولى عزمة والثانية تعليم والمعنى فيه والله أعلم إن الأولى هي السجدة التي يجب فعلها عند التلاوة وإن الثانية كان فيها ذكر السجود فإنما هو تعليم للصلاة التي فيها الركوع والسجود وهو مثل ما روى سفيان عن عبدالكريم عن مجاهد قال السجدة التي في آخر الحج إنما هي موعظة وليست بسجدة قال الله تعالى اركعوا واسجدوا فنحن نركع ونسجد فقول ابن عباس هو على معنى قول مجاهد ويشبه أن يكون من روى عنه من السلف أن في الحج سجدتين إنما أرادوا أن فيه ذكر السجود في موضعين وأن الواجبة هي الأولى دون الثانية على معنى قول ابن عباس ويدل على أنه ليس بموضع سجود أنه ذكر معه الركوع والجمع بين الركوع والسجود مخصوص به الصلاة فهو إذا أمر بالصلاة والأمر بالصلاة مع انتظامها للسجود ليس بموضع سجود ألا ترى أن قوله أقيموا الصلاة ليس بموضع للسجود وقال تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين وليس ذلك سجدة وقال فسبح بحمد ربك

وكن من الساجدين وليس بموضع سجود لأنه أمر بالصلاة كقوله تعالى واركعوا مع الراكعين قوله تعالى مخلقة وغير مخلقة قال قتادة تامة الخلق وغير تامة الخلق وقال مجاهد مصورة وغير مصورة وقال ابن مسعود إذا وقعت النطفة في الرحم أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما وإن كانت مخلقة كتب رزقه وأجله ذكر أو أنثى شقي أو سعيد وقال أبو العالية غير مخلقة السقط قال أبو بكر قوله تعالى من مضغة مخلقة ظاهره يقتضي أن لا تكون المضغة إنسانا كما اقتضى ذلك في العلقة والنطفة والتراب وإنما نبهنا بذلك على تمام قدرته ونفاذ مشيئته حين خلق إنسانا سويا معدلا بأحسن التعديل من غير إنسان وهي المضغة والعلقة والنطفة التي لا تخطيط فيها ولا تركيب ولا تعديل للأعضاء فاقتضى أن لا تكون المضغة إنسانا كما أن النطفة والعلقة ليستا بإنسان وإذا لم تكن إنسانا لم تكن حملا فلا تنقضي بها العدة إذ لم تظهر فيها الصورة الإنسانية وتكون حينئذ بمنزلة النطفة والعلقة إذ هما ليستا بحمل ولا تنقضي بهما العدة بخروجهما من الرحم وقول ابن مسعود الذي قدمناه يدل على ذلك لأنه قال إذا وقعت النطفة في الرحم أخذها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما فأخبر أن الدم الذي تقذفه الرحم ليس بحمل ولم يفرق منه بين ما كان مجتمعا علقة أو سائلا وفي ذلك دليل على أن ما لم يظهر فيه شيء من خلق الإنسان فليس بحمل وإن العدة لا تنقضي به إذ ليس هو بولد كما أن العلقة والنطفة لما لم تكونا ولدا لم تنقض بهما العدة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان عن الأعمش قال حدثنا زيد بن وهب قال حدثنا عبدالله بن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله ثم يكتب شقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فأخبر ص - أنه يكون أربعين يوما نطفة وأربعين يوما علقة وأربعين يوما مضغة ومعلوم أنها لو ألقته علقة لم يعتد به ولم تنقض به العدة وإن كانت العلقة مستحيلة من النطفة إذ لم تكن له صورة الإنسانية وكذلك المضغة إذا لم تكن لها صورة الإنسانية فلا اعتبار بها وهي بمنزلة العلقة والنطفة ويدل على ذلك ايضا أن المعنى الذي به يتبين الإنسان من الحمار

وسائر الحيوان وجوده على هذا الضرب من البنية والشكل والتصوير فمتى لم يكن للسقط شيء من صورة الإنسان فليس ذلك بولد وهو بمنزلة العلقة والنطفة سواء فلا تنقضي به العدة لعدم كونه ولدا وأيضا فجائز أن يكون ما أسقطته مما لا تتبين له صورة الإنسان دما مجتمعا أو داء أو مدة فغير جائز أن نجعله ولدا تنقضي به العدة وأكثر أحواله احتماله لأن يكون مما كان يجوز أن يكون ولدا ويجوز أن لا يكون ولدا فلا نجعلها منقضية العدة به بالشك وعلى أن اعتبار ما يجوز أن يكون منه ولدا ولا يكون منه ولدا ساقط لا معنى له إذ لم يكن ولدا بنفسه في الحال لأن العلقة قد يجوز أن يكون منها ولد وكذلك النطفة وقد تشتمل الرحم عليهما وتضمهما وقد قال ص - إن النطفة تمكث أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ومع ذلك لم يعتبر أحد العلقة في انقضاء العدة وزعم إسماعيل بن إسحاق أن قوما ذهبوا إلى أن السقط لا تنقضي به العدة ولا تعتق به أم الولد حتى يتبين شيء من خلقه يدا أو رجلا أو غير ذلك وزعم أن هذا غلط لأن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخلت فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المخلقة فدل ذلك على أن كل شيء يكون من ذلك إلى أن يخرج الولد من بطن أمه فهو حمل وقال تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن والذي ذكره إسماعيل ومعلوم إغفال منه لمقتضى الآية وذلك لأن الله لم يخبر أن العلقة والمضغة ولد ولا حمل وإنما ذكر أنه خلقنا من المضغة والعلقة كما أخبر أنه خلقنا من النطفة ومن التراب ومعلوم أنه حين أخبرنا أنه خلقنا من المضغة والعلقة فقد اقتضى ذلك أن لا يكون الولد نطفة ولا علقة ولا مضغة لأنه لو كانت العلقة والمضغة والنطفة ولدا لما كان الولد مخلوقا منها إذ ما قد حصل ولدا لا يجوز أن يقال قد خلق منه ولد وهو نفسه ذلك الولد فثبت بذلك أن المضغة التي لم يستبن فيها خلق الإنسان ليس بولد وقوله إن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخلت فيما ذكر من خلق الإنسان كما ذكر المخلقة فإنه إن كان هذا استدلالا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول مثله في النطفة لأن الله قد ذكرها فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المضغة فينبغي أن تكون النطفة حملا وولدا لذكر الله لها فيما خلق الناس منه فإن قيل قد ذكر الله أنه خلقنا من مضغة مخلقة وغير مخلقة والمخلقة هي المصورة وغير المخلقة غير المصورة فإذا جاز أن يقول خلقكم من مضغة مصورة مع كون المصورة ولدا لم يمتنع أن يكون غير المصورة

ولدا مع قوله من مضغة مخلقة وغير مخلقة قيل له جائز أن يكون معنى المخلقة ما ظهر فيه بعض صورة الإنسان فأراد بقوله خلقكم منها تمام الخلق وتكميله فأما ما ليس بمخلقة فلا فرق بينه وبين النطفة لعدم الصورة فيها فيكون معنى قوله خلقكم منها أنه أنشأ الولد منها وإن لم يكن ولدا قبل ذلك هذا هو حقيقة اللفظ وظاهره وأما قوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن فإنه معلوم أن مراده وضع الولد فما ليس بولد فليس بمراد وهذا لا يشكل على أحد له أدنى تأمل وقال إسماعيل أيضا لا تخلوا هذه المضغة وما قبلها من العلقة من أن تكون ولدا أو غير ولد فإن كانت ولدا قبل أن يخلق فحكمها قبل أن يخلق وبعدها واحد وإن كانت ليست بولد إلى أن يخلق فلا ينبغي أن يرث الولد أباه إذا مات حين تحمل به أمه قبل أن يخلق قال أبو بكر وهذا إغفال ثان وكلام منتقض بإجماع الفقهاء وذلك لأنه معلوم أنه إذا مات عن امرأته وجاءت بولد لسنتين على قول من يجعل أكثر مدة الحمل سنتين أو لأربع سنين على قول من يجعل أكثر الحمل أربع سنين أو الولد يرثه ومعلوم أنه إنما كان نطفة وقت وفاة الأب وقد ورثه ومع ذلك فلا خلاف أن النطفة ليست بحمل ولا ولد وأنه لا تنقضي بها العدة ولا تعتق بها أم الولد فبان ذلك فساد اعتلاله وانتقاض قوله وليست علة الميراث كونه ولدا لأن الولد الميت هو ولد تنقضي بها العدة ويثبت به الإستيلاد في الأم وقد لا يكون من مائه فيرثه إذا كان منسوبا إليه بالفراش ألا ترى أنها لو جاءت بولد من الزنا لم يلحق نسبه بالزاني وكان ابنا لصاحب الفراش فالميراث إنما يتعلق حكمه بثبوت النسب منه لا بأنه من مائه ألا ترى أن ولد الزنا لا يرث الزاني لعدم ثبوت النسب وإن كان من مائه فعلمنا بذلك أن ثبوت الميراث ليس بمتعلق بكونه ولدا من مائه دون حصول النسبة إليه من الوجه الذي ذكرنا قال إسماعيل فإن قيل إنما ورث أباه لأنه من ذلك الأصل حين صار حيا يرث ويورث قيل له فلا ينبغي أن تنقضي به العدة وإن تم خلقه حتى يخرج حيا قال أبو بكر وهذا تخليط وكلام في هذه المسألة من غير وجهه وذلك لأن خصمه لم يجعل وجوب الميراث علة لانقضاء العدة وكون الأم به أم ولد وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين لأن الولد الميت عندهم جميعا تنقضي به العدة ولا يرث وقد يرث الولد ولا تنقضي به العدة إذا كان في بطنها ولدان فوضعت أحدهما ورث هذا الولد من أبيه ولا تنقضي به العدة حتى تضع الولد الآخر فإن وضعته ميتا

لم يرثه وانقضت العدة به فلما كان الميراث قد يثبت للولد ولا تنقضي به العدة بوضعه وقد تنقضي به العدة ولا يرث علمنا أن أحدهما ليس بأصل للآخر ولا يصح اعتباره به ثم قال إسماعيل فإن قيل إنه حمل ولكنا لا نعلم ذلك قيل له لا يجوز أن يتعبد الله بحكم لا سبيل إلى علمه والنساء يعرفن ذلك ويفرقن بين لحم أو دم سقط من بدنها أو رحمها وبين العلقة التي يكون منها الولد ولا يلتبس على جميع النساء لحم المرأة ودمها من العلقة بل لا بد من أن يكون فيهن من يعرف فإذا شهدت امرأتان أنها علقة قبلت شهادتهما وقد قال الشافعي أيضا أنها إذا أسقطت علقة أو مضغة لم تستبن شيء من خلقه فإنه يرى النساء فإن قلن كان يجيء منها الولد لو بقيت انقضت به العدة ويثبت بها الإستيلاد وإن قلن لا يجيء من مثلها ولد لم تنقض به العدة ولم يثبت به الإستيلاد وعسى أن يكون إسماعيل إنما أخذ ما قال من ذلك عن الشافعي وهو من أظهر الكلام استحالة وفسادا وذلك لأنه لا يعلم أحد الفرق بين العلقة التي يكون منها الولد وبين مالا يكون منها الولد إلا أن يكون قد شاهد علقا كان منه الولد وعلقا لم يكن منه الولد فيعرف بالعبادة الفرق بين ما كان منه ولد وبين ما لم يكن معه ولد بعلامة توجد في أحدهما دون الآخر في مجرى العادة وأكثر الظن كما يعرف كثير من الأعراب السحابة التي يكون منها المطر والسحابة التي لا يكون منها المطر وذلك بما قد عرفوه من العلامات التي لا تكاد تخلف في الأعم الأكثر فأما العلقة التي كان منها الولد فمستحيل أن يشاهدها إنسان قبل كون الولد منها متميزة من العلقة التي لم يكن منها ولد وذلك شيء قد استأثر الله بعلمه إلا من اطلع عليه من ملائكته حين يأمره بكتب رزقه وأجله وعمله شقي او سعيد قال الله تعالى الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وقال ويعلم ما في الأرحام وهو عالم بكل شيء سبحانه وتعالى ولكنه خص نفسه بالعلم بالأرحام في هذا الموضع إعلاما لنا أن أحدا غيره لا يعلم ذلك وأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله ومن ارتضى من رسول قال الله تعالى عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول والله أعلم
باب

بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها
قال الله تعالى والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد

روى إسماعيل بن مهاجر عن أبيه عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها وروى سعيد بن جبير عن بن عباس قال كانوا يرون الحرم كله مسجدا سواء العاكف فيه والبادي وروى يزيد بن أبي زياد عن عبدالرحمن بن سابط سواء العاكف فيه والباد قال من يجيء من الحاج والمعتمرين سواء في المنازل ينزلون حيث شاءوا غير أن لا يخرج من بيته ساكنه قال وقال ابن عباس في قوله سواء العاكف فيه والباد قال العاكف فيه أهله والباد من يأتيه من أرض أخرى وأهله في المنزل سواء وليس ينبغي لهم أن يأخذوا من البادي إجارة المنزل وروى جعفر بن عون عن الأعمش عن إبراهيم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

مكة حرمها الله لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها وروى أبو معاوية عن
الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وروى عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال كانت رباع مكة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم - وزمان أبي بكر وعمر وعثمان تسمى السوائب من احتاج سكن ومن استغنى سكن وروى الثوري عن منصور عن مجاهد قال قال عمر يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء وروى عبيدالله عن نافع عن ابن عمر أن عمر نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم دون الحاج وروى ابن أبي نجيح عن عبدالله بن عمر قال من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في بطنه وروى عثمان بن الأسود عن عطاء قال يكره بيع بيوت مكة وكراؤها وروى ليث عن القاسم قال من أكل كراء بيوت مكة فإنما يأكل نارا وروى معمر عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد كانوا يكرهون أن يبيعوا شيئا من رباع مكة قال أبو بكر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما ذكرنا وروي عن الصحابة والتابعين ما وصفنا من كراهة بيع بيوت مكة وأن الناس كلهم فيها سواء وهذا يدل على أن تأويلهم لقوله تعالى والمسجد الحرام للحرم كله وقد روي عن قوم إباحة بيع بيوت مكة وكراؤها وروى ابن جريج عن هشام بن حجير كان لي بيت بمكة فكنت أكريه فسألت طاوسا فأمرني بلكه وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء سواء العاكف فيه والباد قالا سواء في تعظيم البلد وتحريمه وروى عمرو بن دينار عن عبدالرحمن بن فروخ قال اشترى نافع بن عبدالحارث دار السجن لعمر بن الخطاب من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم

فإن رضي عمر فالبيع له وإن لم يرض فلصفوان أربع مائة درهم زاد عبدالرحمن عن معمر فأخذها عمر وقال أبو حنيفة لا بأس ببيع بناء بيوت مكة وأكره بيع أراضيها وروى سليمان عن محمد عن أبي حنيفة قال أكره إجارة بيوت مكة في الموسم وفي الرجل يقيم ثم يرجع فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأسا وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن بيع دور مكة جائز قال أبو بكر لم يتأول هؤلاء السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا ولا اسم شامل له من طريق الشرع إذ غير جائز أن يتأول الآية على معنى لا يحتمله اللفظ وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على الحرم من طريق التوقيف ويدل عليه قوله تعالى إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام والمراد فيما روى الحديبية وهي بعيدة من المسجد قريبة من الحرم وروي أنها على شفير الحرم وروى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلم - كان مضربه في الحل ومصلاه في الحرم وهذا يدل على أنه أراد بالمسجد الحرام ههنا الحرم كله ويدل عليه قوله تعالى يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة فجعل المسجد الحرام عبارة عن الحرم ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم والمراد به انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه وإذا ثبت ذلك اقتضى قوله سواء العاكف فيه والباد تساوي الناس كلهم في سكناه والمقام به فإن قيل يحتمل أن يريد به إنهم متساوون في وجوب اعتقاد تعظيمه وحرمته قيل له هو على الأمرين جميعا من اعتقاد تعظيمه وحرمته ومن تساويهم في سكناه والمقام به وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يجوز بيعه لأن لغير المشتري سكناه كما للمشتري فلا يصح للمشتري تسلمه والإنتفاع به حسب الإنتفاع بالإملاك وهذا يدل على أنه غير مملوك وأما إجارة البيوت فإنما أجازها أبو حنيفة إذا كان البناء ملكا للمؤاجر فيأخذ أجرة ملكه فأما أجرة الأرض فلا تجوز وهو مثل بناء الرجل في أرض لآخر يكون لصاحب البناء إجارة البناء وقوله العاكف فيه والباد روي عن جماعة من السلف أن العاكف أهله والبادي من غير أهله قوله تعالى ومن يرد فيه بإلحاد بظلم فإن الإلحاد هو الميل عن الحق إلى الباطل وإنما سمي اللحد في القبر لأنه مائل إلى شق

القبر قال الله تعالى وذروا الذين يلحدون في أسمائه وقال لسان الذي يلحدون إليه أعجمي أي لسان الذي يؤمنون إليه والباء في قوله بإلحاد زائدة كقوله تنبت بالدهن أي تنبت الدهن وقوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم وروي عن ابن عمر أنه قال ظلم الخادم فيما فوقه بمكة إلحاد وقال عمر إحتكار الطعام بمكة إلحاد وقال غيره الإلحاد بمكة الذنوب وقال الحسن أراد بالإلحاد الإشراك بالله قال أبو بكر الإلحاد مذموم لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل عن الباطل إلى الحق فالإلحاد اسم مذموم وخص الله تعالى الحرم بالوعيد في الملحد فيه تعظيما لحرمته ولم يختلف المتأولون للآية أن الوعيد في الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد وفي ذلك دليل على أن قوله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد قد أريد به الحرم لأن قوله ومن يرد فيه بإلحاد هذه الهاء كناية عن الحرم وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله والمسجد الحرام فثبت أن المراد بالمسجد ههنا الحرم كله وقد روى عمارة بن ثوبان قال أخبرني موسى بن زياد قال سمعت يعلى بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - احتكار الطعام بمكة إلحاد وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال بيع الطعام بمكة إلحاد وليس الجالب كالمقيم وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب مرادا بقوله بإلحاد بظلم فيكون الإحتكار من ذلك وكذلك الظلم والشرك وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره ويشبه أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي تتضاعف عقوبتها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال يلحد بمكة رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله ورجل قتل بدخول الجاهلية قوله تعالى وأذن في الناس بالحج روى معتمر عن ليث عن مجاهد في قوله تعالى وأذن في الناس بالحج قال إبراهيم عليه السلام وكيف أؤذنهم قال تقول يا أيها الناس أجيبوا يا أيها الناس أجيبوا قال فقال يا أيها الناس أجيبوا فصارت التلبية لبيك اللهم لبيك وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس لما ابتنى إبراهيم عليه السلام البيت قال أوحى الله إليه أن أذن في الناس بالحج فقال إبراهيم عليه السلام إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه فاستجاب له ما سمعه من صخر أو شجر أو

أكمة أو تراب أو شيء لبيك اللهم لبيك وهذه الآية تدل على أن فرض الحج كان في ذلك الوقت لأن الله تعالى أمر إبراهيم بدعاء الناس إلى الحج وأمره كان على الوجوب وجائز أن يكون وجوب الحج باقيا إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم -

وجائز أن يكون نسخ على لسان بعض الأنبياء إلا أنه قد روي أن النبي ص
- حج قبل الهجرة حجتين وحج بعد الهجرة حجة الوداع وقد كان أهل الجاهلية يحجون على تخاليط وأشياء قد أدخلوها في الحج ويلبون تلبية الشرك فإن كان فرض الحج الذي أمر الله به إبراهيم في زمن إبراهيم باقيا حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم -
فقد حج النبي ص
- حجتين بعدما بعثه الله وقبل الهجرة والأولى فيهما هي الفرض وإن كان فرض الحج منسوخا على لسان بعض الأنبياء فإن الله تعالى قد فرضه في التنزيل بقوله ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وقيل إنها نزلت في سنة تسع وروي أنها نزلت في سنة عشر وهي السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم -
وهذا أشبه بالصحة لأنا لا نظن بالنبي ص
- تأخير الحج المفروض عن وقته المأمور فيه إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم - من أشد الناس مسارعة إلى أمر الله وأسبقهم إلى أداء فروضه ووصف الله تعالى الأنبياء السالفين فأثنى عليهم بمسابقتهم إلى الخيرات بقوله تعالى كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - ليختلف عن منزلة الأنبياء المتقدمين في المسابقة إلى الخيرات بل كان حظه منها أوفى من حظ كل أحد لفضله عليهم وعلو منزلته في درجات النبوة فغير جائز أن يظن به تأخير الحج عن وقت وجوبه لا سيما وقد أمر غيره بتعجيله فيما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال من أراد الحج فليتعجل فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم -
ليأمر غيره بتعجيل الحج ويؤخره عن وقت وجوبه فثبت بذلك أن النبي ص
- لم يؤخر الحج عن وقت وجوبه فإن كان فرض الحج لزم بقوله تعالى ولله على الناس حج البيت لأنه لم يخل تاريخ نزوله من أن يكون في سنة تسع أو سنة عشر فإن كان نزوله في سنة تسع فإن النبي صلى الله عليه وسلم - إنما أخره لعذر وهو أن وقت الحج اتفق على ما كانت العرب تحجه من إدخال النسيء فيه فلم يكن واقعا في وقت الحج الذي فرضه الله تعالى فيه فلذلك أخر الحج عن تلك السنة ليكون حجه في الوقت الذي فرض الله فيه الحج ليحضر الناس فيقتدوا به وإن كان نزوله في سنة عشر فهو الوقت الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم - وإن كان فرض الحج باقيا منذ زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمن النبي

ص -

فإن الحج الذي فعله قبل الهجرة كان هو الفرض وما عداه نفل فلم يثبت في
الوجهين جميعا أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخر الحج بعد وجوبه عن أول أحوال الإمكان
باب
الحج ماشيا
روى موسى بن عبيد عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال ما أسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لأن الله تعالى يقول يأتوك رجالا وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين وروى القاسم بن الحكم العربي عن عبدالله الرصافي عن عبدالله بن عتبة بن عمير قال قال ابن عباس ما ندمت على شيء فاتني في شبيبتي إلا أني لم أحج راجلا ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا من المدينة إلى مكة وإن النجائب لتقاد معه ولقد قاسم الله عز و جل ماله ثلاث مرات إنه ليعطي النعل ويمسك النعل ويعطي الخف ويمسك الخف وروى عبدالرزاق عن عمرو بن زرا عن مجاهد قال كانوا يحجون ولا يركبون فأنزل الله تعالى رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق وروى ابن جريج قال أخبرني العلاء قال سمعت محمد بن علي يقول كان الحسن بن علي يمشي وتقاد دوابه قال أبو بكر قوله تعالى يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يقتضي إباحة الحج ماشيا وراكبا ولا دلالة فيه على الأفضل منهما وما رويناه عن السلف في اختيارهم الحج ماشيا وتأويل الآية عليه يدل على أن الحج ماشيا أفضل وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
ما يفصح عن ذلك وهو أن أم عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالى
فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي وهذا يدل على أن المشي قربة قد لزمت بالنذر لولا ذلك لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم - عليها هديا عند تركها المشي قوله تعالى يأتين من كل فج عميق روى جويبر عن الضحاك من كل فج عميق قال بلد بعيد وقال قتادة مكان بعيد قال أبو بكر الفج الطريق فكأنه قال من طريق بعيد وقال بعض أهل اللغة العمق الذاهب على وجه الأرض والعمق الذاهب في الأرض قال رؤبة ... وقاتم الأعماق خاوي المخترق ...
فأراد بالعمق هذا الذاهب على وجه الأرض فالعميق البعيد لذهابه على وجه الأرض

قال الشاعر ... يقطعن نور النازح العميق ...

يعني البعيد وقد روت أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة زوج النبي ص
- قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول من أهل بالمسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه وروى أبو إسحاق عن الأسود أن ابن مسعود أحرم من الكوفة بعمرة وعن ابن عباس أنه أحرم من الشام في الشتاء وأحرم ابن عمر من بيت المقدس وعمران بن حصين أحرم من البصرة وروى عمرو بن مرة عن عبدالله بن سلمة قال سئل علي عن قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله قال أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقال علي وعمر ما أرى أن يعتمر إلا من حيث ابتدأ وروي عن مكحول قال قيل لابن عمر الرجل يحرم من سمرقند أو من خراسان أو البصرة أو الكوفة فقال يا ليتنا نسلم من وقتنا الذي وقت لنا فكأنه كرهه في هذا الحديث لما يخاف من مواقعة ما يحظره الإحرام لا لبعد المسافة
باب
التجارة في الحج
قال الله تعالى ليشهدوا منافع لهم روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال التجارة وما يرضى الله من أمر الدنيا والآخرة وروى عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس قال أسواق كانت ما ذكر المنافع إلا للدنيا وعن أبي جعفر المغفرة قال أبو بكر ظاهره يوجب أن يكون قد أريد به منافع الدين وإن كانت التجارة جائزة أن تراد وذلك لأنه قال وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعل كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم فاقتضى ذلك أنهم دعوا وأمروا بالحج ليشهدوا منافع لهم ومحال أن يكون المراد منافع الدنيا خاصة لأنه لو كان كذلك كان الدعاء إلى الحج واقعا لمنافع الدنيا وإنما الحج الطواف والسعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ونحر الهدي وسائر مناسك الحج ويدخل فيها منافع الدنيا على وجه التبع والرخصة فيها دون أن تكون هي المقصودة بالحج وقد قال الله تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فجعل ذلك رخصة في التجارة في الحج وقد ذكرنا ما روي فيه في سورة البقرة
باب
الأيام المعلومات
قال الله عز و جل ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة

الأنعام فروي عن علي وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها شئت قال ابن عمر المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران عن بشر بن الوليد الكندي القاضي قال كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسئله عن الأيام المعلومات فأملى علي أبو يوسف جواب كتابه اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيها فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر وإلى ذلك أذهب لأنه قال على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وذلك في أيام النحر وعن ابن عباس والحسن وإبراهيم أن المعلومات أيام العشر والمعدودات أيام التشريق وروى معمر عن قتادة مثل ذلك وروى ابن أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى واذكروا الله في أيام معلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده وذكر أبو الحسن الكرخي أن أحمد القاري روى عن محمد عن أبي حنيفة أن المعلومات العشر وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده وذكر الطحاوي أن من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد إن المعلومات العشر والمعدودات أيام التشريق والذي رواه أبو الحسن عنهم أصح وقد قيل إنه إنما قيل لأيام التشريق معدودات لأنها قليلة كما قال تعالى وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وإنه سماها معدودة لقلتها وقيل لأيام العشر معلومات حثا على علمها وحسابها من أجل أن وقت الحج في آخرها فكأنه أمرنا بمعرفة أول الشهر وطلب الهلال فيه حتى نعد عشرة ويكون آخرهن يوم النحر ويحتج لأبي حنيفة بذلك في أن تكبير التشريق مقصور على ايام العشر مفعول في يوم عرفة ويوم النحر وهما من أيام العشر فإن قيل لما قال على ما رزقهم من بهيمة الأنعام دل على أن المراد أيام النحر كما روي عن علي قيل له يحتمل أن يريد لما رزقهم من بهيمة الأنعام كما قال لتكبروا الله على ما هداكم ومعناه لما هداكم وكما تقول أشكر الله على نعمه ومعناه لنعمه وأيضا فيحتمل أن يريد به يوم النحر ويكون قوله تعالى على ما رزقهم يريد به يوم النحر وبتكرار السنين عليه تصير أياما وهذه الآية تدل على أن ذبح سائر الهدايا في أيام النحر أفضل منه في غيرها وإن كانت من تطوع أو جزاء صيد أو غيره واختلف أهل العلم في ايام النحر فقال أصحابنا والثوري هو يوم النحر ويومان بعده وقال الشافعي ثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق قال أبو بكر وروي نحو قولنا عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس

ابن مالك وأبي هريرة وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وروي مثل قول الشافعي عن الحسن وعطاء وروي عن إبراهيم النخعي أن النحر يومان وقال ابن سيرين النحر يوم واحد وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وسليمان بن يسار قالا الأضحى إلى هلال المحرم قال أبو بكر قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة واستفاض ذلك عنهم وغير جائز لمن بعدهم خلافهم إذ لم يرو عن أحد من نظرائهم خلافه فثبت حجته وأيضا فإن سبيل تقدير أيام النحر التوقيف أو الاتفاق إذ لا سبيل إليها من طريق المقاييس فلما قال من ذكرنا قوله من الصحابة بالثلاثة صار ذلك توقيفا كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق إذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته وكان ذلك توقيفا وأيضا قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق وكان ذكر أحد العددين ينوب عن الآخر فلما وجدنا الرمي في أيام النحر وأيام التشريق ووجدنا النحر في يوم النحر وقال قائلون إلى آخر ايام التشريق وقلنا نحن يومان بعده وجب أن نوجب فرقا بينهما لإثبات فائدة كل واحد من اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر أيامها واحتج من جعل النحر إلى آخر أيام التشريق بما روى سليمان بن موسى عن ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال كل عرفات موقف وارتفعوا عن عرفة وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح وهذا حديث قد ذكر عن أحمد بن حنبل أنه سئل عن هذا الحديث فقال لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن مطعم وأكثر روايته عن سهو وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن عبدالله بن الأشج عن أبيه قال سمعت أسامة بن زيد يقول سمعت عبدالله بن أبي حسين يخبر عن عطاء عن أبي رباح وعطاء يسمع قال سمعت جابر بن عبدالله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر فهذا أصل الحديث ولم يذكر فيه وكل أيام التشريق ذبح ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه لأنه لم يذكره وأيضا لما ثبت أن النحر فيما يقع عليه اسم الأيام وكان أقل ما يتناوله اسم الأيام ثلاثة وجب أن يثبت الثلاثة وما زاد لم تقم عليه

الدلالة فلم يثبت
في

التسمية على الذبيحة
قال الله تعالى ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإن كان المراد بهذا الذكر التسمية على الذبيحة فقد دل ذلك على أن ذلك من شرائط الذكاة لأن الآية تقتضي وجوبها وذلك لأنه قال وأذن في الناس بالحج إلى قوله ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات فكانت المنافع هي أفعال المناسك التي يقتضي الإحرام إيجابها فوجب أن تكون التسمية واجبة إذ كان الدعاء إلى الحج وقع لها كوقوعها لسائر مناسك الحج وإن كان المراد بالتسمية هي الذكور المفعول عند رمي الجمار أو تكبير التشريق فقد دلت الاية على وجوب هذا الذكر وليس يمتنع أن يكون المراد جميع ذلك وهو التسمية على الهدايا الموجبة بالإحرام للقران أو التمتع وما تعلق وجوبها بالإحرام ويراد بها تكبير التشريق والذكر المفعول عند رمي الجمار إذ لم تكن إرادة جميع ذلك ممتنعة بالآية وروى معمر عن أيوب عن نافع قال كان ابن عمر يقول حين ينحر لا إله إلا الله والله أكبر وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قلت كيف تقول إذا نحرت قال أقول الله أكبر لا إله إلا الله وروى سفيان عن أبي بكر الزبيدي عن عاصم بن شريف أن عليا ضحى يوم النحر بكبش فقال بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك ومن علي لك
باب
في أكل لحوم الهدايا
قال الله عز و جل ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها قال أبو بكر ظاهره يقتضي إيجاب الأكل إلا أن السلف متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب وذلك لأن قوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام لا يخلو من أن يكون المراد به الأضاحي وهدي المتعة والقران والتطوع أو الهدايا التي تجب من جنايات تقع من المحرم في الإحرام نحو جزاء الصيد وما يجب على اللابس والمتطيب وفدية الأذى وهدي الإحصار ونحوها فأما دماء الجنايات فمحظور عليه الأكل منها وأما دم القران والمتعة والتطوع فلا خلاف أيضا أن الأكل منها ليس بواجب

لأن الناس في دم القران والمتعة على قولين منهم من لا يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه ولا خلاف بين السلف ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله فكلوا منها ليس على الوجوب وقد روي عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل قال مجاهد إنما هو بمنزلة قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وقال إبراهيم كان المشركون لا يأكلون من البدن حتى نزلت فكلوا منها فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل وروى يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال كان الناس في الجاهلية إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقالوا شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله فأنزل
الله تعالى فكلوا منها وأطعموا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله وقال الحسن فلم يعزم عليهم الأكل فإن شئت فكل وإن شئت فدع وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أكل من لحم الأضحية قال أبوبكر وظاهر الآية يقتضي أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القران والمتعة وأقل أحوالها أن تكون شاملة لدم القران والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه ظاهره دم المتعة والقران والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة والقران إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة وزعم الشافعي أن دم المتعة والقران لا يؤكل منهما وظاهر الآية يقتضي بطلان قوله وقد روى جابر وأنس وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كان قارنا في حجة الوداع وروى جابر أيضا وابن عباس أن النبي ص
- أهدى في حجة الوداع مائة بدنة نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة فأكل ص -
من دم القران وأيضا لما ثبت أن النبي ص
- كان قارنا وإنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران أفضل من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص أدخله في الإحرام ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحي

والتطوع ويدل على أنه كان قارنا أن حفصة قالت يا رسول الله ما بال الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك فقال إني سقت الهدي فلا أحل إلا يوم النحر ولو استقبلت من أمري ما استدبرته ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة فلو كان هديه تطوعا لما منعه الإحلال لأن هدي التطوع لا يمنع الإحلال فإن قيل إن كان النبي صلى الله عليه وسلم - قارنا فقد كان إحرام الحج يمنعه الإحلال فلا تأثير للهدي في ذلك قيل له لم يكن إحرام الحج مانعا في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر لأن فسخ الحج كان جائزا وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه الذين أحرموا بالحج أن يتحللوا بعمل عمرة فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم بالعمرة مفردا بها فلم يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدي فيمنعه ذلك من الإحلال وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم -

في قرانه وكان المانع له من الإحلال سوق الهدي دون إحرام الحج وفي ذلك
دليل على صحة ما ذكرنا من أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم - كان هدي القران لا التطوع إذ لا تأثير لهدي التطوع في المنع من الإحلال بحال ويدل على أنه كان قارنا قوله ص -
أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة وعمرة ويمتنع أن
يخالف ما أمره به ربه ورواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم - أفرد الحج لا يعارض رواية من روى القران وذلك لأن راوي القران قد علم زيادة إحرام لم يعلمه الآخر فهو أولى وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى الله عليه وسلم - يقول لبيك اللهم لبيك ولم يسمعه يذكر العمرة أو سمعه ذكر الحج دون العمرة وظن أنه مفرد إذ جائز للقارن أن يقول لبيك بحجة دون العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبي بهما معا فلما كان ذلك سائغا وسمعه بعضهم يلبي بالحج وبعضهم سمعه يلبي بحج وعمرة كانت رواية من روى الزيادة أولى وأيضا فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفرد الحج أفعال الحج وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر للإحرامين على فعل الحج دون العمرة وأبطل بذلك قول من يجيز لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين الأكل من هدي القران والمتعة وروى عطاء عن ابن عباس قال من كل الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو جزاء أو نذر وروى عبيدالله بن عمر قال لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا لا يؤكل من الهدي كله إلا الجزاء فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا

الأكل من دم القران والتمتع ولا نعلم أحدا من السلف حظره قوله تعالى وأطعموا البائس الفقير روى طلحة بن عمرو عن عطاء وأطعموا البائس الفقير قال من سألك وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال البائس الذي يسأل بيده إذا سأل وإنما سمي من كانت هذه حاله بائسا لظهور أثر البؤس عليه يمد يده للمسئلة وهذا على جهة المبالغة في الوصف له بالفقر وهو في معنى المسكين لأن المسكين من هو في نهاية الحاجة والفقر وهو الذي قد ظهر عليه السكون للحاجة وسوء الحال وهو الذي لا يجد شيئا وقيل هو الذي يسئل وهذه الآية قد انتظمت سائر الهدايا والأضاحي وهي مقتضية لإباحة الأكل منها والندب إلى الصدقة ببعضها وقدر أصحابنا فيه الصدقة بالثلث وذلك لقوله تعالى فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير قال النبي صلى الله عليه وسلم - في لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا فجعلوا الثلث للأكل والثلث للإدخار والثلث للبائس الفقير وفي قوله تعالى فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير دلالة على حظر بيعها ويدل عليه قوله ص - فكلوا وادخروا وفي ذلك منع البيع ويدل عليه ما روى سفيان عن عبدالكريم الجزري عن مجاهد عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن علي قال أمرني النبي صلى الله عليه وسلم -

أن أقوم على بدنة وقال أقسم جلودها وحلالها ولا تعط الجازر منها شيئا
فإنا نعطيه من عندنا فمنع النبي صلى الله عليه وسلم - أن يعطي منها أجرة الجازر وفي ذلك منع من البيع لأن إعطاء الجازر ذلك من أجرته هو على وجه البيع ولما جاز الأكل منها دل على جواز الإنتفاع بجلودها من غير جهة البيع ولذلك قال أصحابنا يجوز الإنتفاع بجلد الأضحية وروي ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة وقال الشعبي كان مسروق يتخذ مسك أضحيته مصلى فيصلي عليه وعن إبراهيم وعطاء وطاوس والشعبي أنه ينتفع به قال أبو بكر ولما منع النبي صلى الله عليه وسلم - أن يعطى الجازر من الهدي شيئا في جزارتها وقال إنا نعطيه من عندنا دل ذلك على معنيين أحدهما أن المحظور من ذلك أن يعطيه منها على وجه الأجرة لأن في بعض ألفاظ حديث علي وأمرني أن لا أعطي أجر الجزار منها وفي بعضها أن لا أعطيه في جزارتها منها شيئا فدل على أنه جائز أن يعطي الجازر من غير أجرته كما يعطي سائر الناس وفي دليل على جواز الإجارة على نحر البدن لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال نحن نعطيه من عندنا وهو أصل في جواز الإجارة على كل عمل معلوم وأجاز أصحابنا الإجارة على ذبح شاة ومنع أبو حنيفة الإجارة على قتل رجل بقصاص والفرق بينهما

أن الذبح عمل معلوم والقتل مبهم غير معلوم ولا يدرى أيقتله بضربة أو ضربتين أو أكثر قوله تعالى ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم روى عبدالملك عن عطاء عن ابن عباس قال التفث الذبح والحلق والتقصير وقص الأظفار والشارب ونتف الإبط وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد مثله وكذلك عن الحسن وأبي عبيدة وقال ابن عمر وسعيد بن جبير في قوله تفثهم قال المناسك وروى أشعث عن الحسن قال نسكهم وروى حماد بن سلمة عن قيس عن عطاء ثم ليقضوا تفثهم قال الشعر والأظفار وقيل التفث قشف الإحرام وقضاؤه بحلق الرأس والإغتسال ونحوه قال أبو بكر لما تأول السلف قضاء التفث على ما ذكرنا دل ذلك على ان من قضائه حلق الرأس لأنهم تأولوه عليه ولولا أن ذلك اسم له لما تأولوه عليه إذ لا يسوغ التأويل على ما ليس اللفظ عبارة عنه وذلك دليل على وجوب االحلق لأن الأمر على الوجوب فيبطل قول من قال إن الحلق ليس بنسك في الإحرام ومن الناس من يزعم أنه إطلاق من حظر إذ كانت هذه الأشياء محظورة قبل الإحلال ولقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا وقوله فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض والأول أصح لأن أمره بقضاء التفث قد انتظم سائر المناسك على ما روي عن ابن عمر ومن ذكرنا قوله من السلف ومعلوم أن فعل سائر المناسك ليس على وجه الإباحة بل على وجه الإيجاب فكذلك الحلق لأنه قد ثبت أنه قد أريد بالأمر بقضاء التفث الإيجاب في غير الحلق فكذلك الحلق وقوله وليوفوا نذورهم قال ابن عباس نحر ما نذروا من البدن وقال مجاهد كل ما نذر في الحج قال أبو بكر إن كان التأويل نحر البدن المنذورة فإن قوله تعالى على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها لم يرد به ما نذر نحره من البدن والهدايا لأنه لو كان مرادا لما ذكره بعد ذكره الذبح بهيمة الأنعام وأمره إيانا بالأكل منها فيكون قوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها في غير المنذور به وهو دم التطوع والتمتع والقران يدل على أنه لم يرد الهدي المنذور أن دم النذر لا يؤكل منه قد أمر الله تعالى بالأكل من بهيمة الأنعام المذكور في الآية فدل على أنه لم يرد النذر واستأنف ذكر النذر وأفاد به معاني أحدها أنه لا يؤكل منه والثاني أن ذبح النذر في هذه الأيام أفضل منه في غيرها والثالث إيجاب الوفاء بنفس المنذور دون كفارة يمين وجائز أن يكون المراد سائر النذور في الحج من صدقة أو طواف ونحوه

وقد روي عن ابن عباس أيضا أنه قال هو كل نذر إلى أجل قال أبو بكر وفيه الدلالة على لزوم الوفاء بالنذر لقوله تعالى وليوفوا نذورهم والأمر على الوجوب وهو يدل على بطلان قول الشافعي فيمن نذر حجا أو عمرة أو بدنة أو نحوها أن عليه كفارة يمين لأن الله أمرنا بالوفاء بنفس المنذور
باب

طواف الزيارة
قال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق فروي عن الحسن أنه قال وليطوفوا طواف الزيارة وقال مجاهد الطواف الواجب قال أبو بكر ظاهره يقتضي الوجوب لأنه أمر والأوامر على الوجوب ويدل عليه أنه أمر به معطوفا على الأمر بقضاء التفث ولا طواف مفعول في ذلك الوقت وهو يوم النحر بعد الذبح إلا طواف الزيارة فدل على أنه أراد طواف الزيارة فإن قيل يحتمل أن يريد به طواف القدوم الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه حين قدموا مكة وحلوا به من إحرام الحج وجعلوه عمرة إلا رسول الله
ص - فإنه قد كان ساق الهدي فمنعه ذلك من الإحلال ومضى على حجته قيل له لا يجوز أن يكون المراد به طواف القدوم من وجوه أحدها أنه مأمور به عقيب الذبح وذبح الهدي إنما يكون يوم النحر لأنه قال ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق وحقيقة ثم للترتيب والتراخي القدوم مفعول قبل يوم النحر فثبت أنه لم يرد به طواف القدوم والوجه الثاني أن قوله وليطوفوا بالبيت العتيق هو أمر والأمر على الوجوب حتى تقوم دلالة الندب وطواف القدوم غير واجب وفي صرف المعنى إليه صرف للكلام عن حقيقته والثالث أنه لو كان المراد الطواف الذي أمر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين قدموا مكة لكان منسوخا لأن ذلك الطواف إنما أمروا به لفسخ الحج وذلك منسوخ بقوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله وبما روى ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال قلت يا رسول الله أرأيت فسخ حجتنا لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لكم خاصة وروي عن عمر وعثمان وأبي ذر وغيرهم مثل ذلك وقال ابن عباس لا يطوف الحاج للقدوم وإنه إن طاف قبل عرفة صارت حجته عمرة وكان يحتج بقوله ثم محلها إلى البيت العتيق فذهب إلى أنه

يحل بالطواف فعله قبل عرفة أو بعده فكان ابن عباس يذهب إلى ان هذا الحكم باق لم ينسخ وإن فسخ الحج قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة فيصير حجه عمرة وقد ثبت بظاهر قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله نسخه وهذا معنى ما أراده عمر بن الخطاب بقوله متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أنا أنهى عنهما وأضرب عليهما متعة النساء ومتعة الحج وذهب فيه إلى ظاهر
هذه الآية وإلى ما علمه من توقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم - إياهم على أن فسخ الحج كان لهم خاصة وإذا ثبت أن ذلك منسوخ لم يجز تأويل قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق عليه فثبت بما وصفنا أن المراد طواف الزيارة وفيه الدلالة على وجوب تقديمه قبل مضي أيام النحر إذ كان الأمر على الفور حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير ولا خلاف في إباحة تأخيره إلى آخر أيام النحر وقد روى سفيان الثوري وغيره عن أفلح بن حميد عن أبيه أنه حج مع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيهم أبو أيوب فلما كان يوم النحر لم يزر أحد منهم البيت إلى يوم النفر إلا رجالا كانت معهم نساء فتعجلوا وإنما أراد بذلك عندنا النفر الأول وهو اليوم الثالث من يوم النحر فلو خلينا وظاهر الآية لما جاز تأخير الطواف عن يوم النحر إلا أنه لما اتفق السلف وفقهاء الأمصار على إباحة تأخيره إلى اليوم الثالث من أيام النحر أخرناه ولم يجز تأخيره إلى آخر أيام التشريق ولذلك قال أبو حنيفة من أخره إلى أيام التشريق فعليه دم وقال أبو يوسف ومحمد لا شيء عليه فإن قيل لما كانت ثم تقتضي التراخي وجب جواز تأخيره إلى أي وقت شاء الطائف قيل له لا خلاف أنه ليس بواجب عليه التأخير وظاهر اللفظ يقتضي إيجاب تأخيره إذا حمل على حقيقته فلما لم يكن التأخير واجبا وكان فعله واجبا لا محالة اقتضى ذلك لزوم فعله يوم النحر من غير تأخير وهو الوقت الذي أمر فيه بقضاء التفث فاستدلالك بظاهر اللفظ على جواز تأخيره أبدا غير صحيح مع كون ثم في هذا الموضع غير مراد بها حقيقة معناها من وجوب فعله على التراخي ولهذا قال أبو حنيفة فيمن أخر الحلق إلى آخر أيام التشريق أن عليه دما لأن قوله تعالى ثم ليقضوا تفثهم قد اقتضى فعل الحلق على الفور في يوم النحر وأباح تأخيره إلى آخر أيام النحر بالإتفاق ولم يبحه أكثر من ذلك ومما يحتج به لأبي حنيفة في ذلك أن الله تعالى قد أباح النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق وهو الثالث من النحر بقوله تعالى واذكروا الله في أيام

معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ويمتنع إباحة النفر قبل تقديم طواف الزيارة فثبت أنه مأمور به قبل النفر الأول وهو اليوم الثالث من النحر فإذا تضمن ذلك فقد تم الطواف فهو لا محالة منهي عن تأخيره فإذا أخره لزمه جبرانه بدم وقوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق لما كان لفظا ظاهر المعنى بين المراد اقتضى جواز الطواف على أي وجه أوقعه من حدث أو جنابة أو عريان أو منكوسا أو زحفا إذ ليس فيه دلالة على كون الطهارة وما ذكرنا شرطا فيه ولو شرطنا فيه الطهارة وما ذكرنا كنا زائدين في النص ما ليس فيه والزيادة في النص غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ فقد دلت الآية على وقوع الطواف موقع الجواز وإن فعله على هذه الوجوه المنهي عنها وقوله ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق يقتضي جواز أي ذلك فعله من غير ترتيب إذ ليس في اللفظ دلالة على الترتيب فإن فعل الطواف قبل قضاء التفث أو قضى التفث ثم طاف فإن مقتضى الآية أن يجزي جميع ذلك إذ الواو لا توجب الترتيب ولم يختلف الفقهاء في إباحة الحلق واللبس قبل طواف الزيارة ولم يختلفوا أيضا في حظر الجماع قبله واختلفوا في الطيب والصيد فقال قائلون هما مباحان قبل الطواف وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء وهو قول عائشة في آخرين من السلف وقال عمر بن الخطاب وابن عمر لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف للزيارة وقال قوم لا تحل له النساء والطيب والصيد حتى يطوف وروى سفيان بن عيينة عن عبدالرحمن بن القاسم عن عائشة قالت طيبت رسول الله لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على إباحة اللبس والحلق قبل الطواف وليس لهما تأثير في إفساد الإحرام فوجب أن يكون الطيب والصيد مثلهما وقوله تعالى بالبيت العتيق قال معمر عن الزهري قال قال ابن الزبير إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة وقال مجاهد أعتق من أن يملكه الجبابرة وقيل إنه أول بيت وضع للناس بناه آدم عليه السلام ثم جدده إبراهيم عليه السلام فهو أقدم بيت فسمي لذلك عتيقا قوله تعالى ذلك ومن يعظم حرمات الله يعني به والله أعلم اجتناب ما حرم الله عليه في وقت الإحرام تعظيما لله عز و جل واستعظاما لمواقعة ما نهى الله عنه في إحرامه صيانة لحجه وإحرامه فهو خير له عند ربه من ترك استعظامه والتهاون به قوله تعالى

وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم قيل فيه وجهان أحدهما إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله من الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب والثاني وأحلت لكم بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم في حال إحرامكم إلا ما يتلى عليكم من الصيد فإنه يحرم على المحرم قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان يعني اجتنبوا تعظيم الأوثان فلا تعظموها واجتنبوا الذبائح لها على ما كان يفعله المشركون وسماها رجسا استقذارا لها واستخفافا بها وإنما أمرهم باستقذارها لأن المشركين كانوا ينحرون عليها هداياهم ويصبون عليها الدماء وكانوا مع هذه النجاسات يعظمونها فنهى الله المسلمين عن تعظيمها وعبادتها وسماها رجسا لقذارتها ونجاستها من الوجوه التي ذكرنا ويحتمل أن يكون سماها رجسا للزوم اجتنابها كاجتناب الأقذار والأنجاس
باب

شهادة الزور
قال الله عز و جل واجتنبوا قول الزور والزور الكذب وذلك عام في سائر وجوه الكذب وأعظمها الكفر بالله والكذب على الله عز و جل وقد دخل فيه شهادة الزور حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد ويعلى ابنا عبيد عن سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان عن خريم بن فاتك قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
صلاة الصبح ثم قال عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله ثم تلا هذه الآية
فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به وروى وائل بن ربيعة عن عبدالله بن مسعود قال عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن العباس المؤدب قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا محمد بن الفرات التميمي قال سمعت محارب بن دثار يقول أخبرني عبدالله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول شاهد الزور لا تزول قدماه حتى توجب له النار وقد اختلف في حكم شاهد الزور فقال أبو حنيفة لا يعزر وهذا عندنا على أنه إن جاء تائبا فأما إن كان مصرا فإنه لا خلاف عندي بينهم في أنه يعزر وقال أبو يوسف ومحمد يضرب ويسخم وجهه ويشهر ويحبس وقد روى عبدالله بن عامر عن أبيه قال أتي عمر بن الخطاب بشاهد زور فجرده وأوقفه للناس يوما وقال هذا فلان بن فلان فاعرفوه ثم حبسه

وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا العباس بن الوليد البزاز قال حدثنا خلف بن هشام قال حدثنا حماد بن زيد عن الحجاج عن مكحول أن عمر بن الخطاب قال في شاهد الزور يضرب ظهره ويحلق رأسه ويسخم وجهه ويطال حبسه قوله تعالى ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب قال أهل اللغة الشعائر جمع شعيرة هي العلامة التي تشعر بما جعلت له وإشعار البدن هو أن تعلمها بما يشعر أنها هدي فقيل على هذا إن الشعائر علامات مناسك الحج كلها منها رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة وروى حبيب المعلم عن عطاء أنه سئل عن شعائر الله فقال حرمات الله اتباع طاعته واجتناب معصيته فذلك شعائر الله وروى شريك عن جابر عن عطاء ومن يعظم شعائر الله قال استسمانها واستعظامها وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس ومن يعظم شعائر الله قال في الإستحسان والاستسمان والإستعظام وعن عكرمة مثله وكذلك قول مجاهد وقال الحسن شعائر الله دين الله قال أبو بكر يجوز أن تكون هذه الوجوه كلها مرادة بالآية لاحتمالها لها
باب

في ركوب البدنة
قال الله عز و جل لكم فيها منافع إلى أجل مسمى قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة لكم فيها منافع في ألبانها وظهورها وأصوافها إلى أن تسمى بدنا ثم محلها إلى البيت العتيق وعن محمد بن كعب القرظي مثله وقال عطاء إنه ينتفع بها إلى أن تنحر وهو قول عروة بن الزبير قال ابو بكر فاتفق ابن عباس ومن تابعه على أن قوله إلى أجل مسمى أريد به إلى أن تصير بدنا فذلك هو الأجل المسمى وكرهوا بعد ذلك أن تركب وقال عطاء ومن واقفه يركبها بعد أن تصير بدنة وقال عروة بن الزبير يركبها غير فادح لها ويحلبها عن فضل ولدها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -
في ذلك أخبار يحتج بها من أباح ركوبها فروى أبو هريرة أن النبي ص
- رأى رجلا يسوق بدنة فقال له ويحك اركبها فقال إنها بدنة فقال ويحك اركبها وروى شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك وهذا عندنا إنما أباحه لضرورة علمه من حاجة الرجل إليها وقد بين ذلك في أخبار أخر منها ما روى إسماعيل بن جعفر عن حميد عن أنس قال مر النبي صلى الله عليه وسلم - برجل يسوق بدنة وهو يمشي وقد بلغ منه فقال اركبها قال إنها بدنة قال اركبها وسئل جابر عن ركوب الهدي

فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا وقد روى ابن جريج عن
أبي الزبير عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - في ركوب الهدي قال اركب بالمعروف إذا احتجت إليها حتى تجد ظهرا فبين في هذه الأخبار أن إباحة ركوبها معقودة بشريطة الضرورة إليها ويدل على أنه لا يملك منافعها أنه لا يجوز له أن يؤاجرها للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات
باب
محل الهدي
قال الله تعالى وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلى قوله لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ومعلوم أن مراده تعالى فيما جعل هديا أو بدنة فيما وجب أن تجعل هديا من واجب في ذمته فأخبر تعالى أن محل ما كان هذا وصفه إلى البيت العتيق والمراد بالبيت ههنا الحرم كله إذ معلوم أنها لا تذبح عند البيت ولا في المسجد فدل على أنه الحرم كله فعبر عنه بذكر البيت إذ كانت حرمة الحرم كله متعلقة بالبيت وهو كقوله تعالى في جزاء الصيد هديا بالغ الكعبة ولا خلاف أن المراد الحرم كله وقد روى أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عرفة كلها موقف ومنى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر وعموم الآية يقتضي أن يكون محل سائر الهدايا الحرم ولا يجزي في غيره إذ لم تفرق بين شيء منها وقد اختلف في هدي الإحصار فقال أصحابنا محله ذبحه في الحرم وذلك لأنه قال ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله وكان المحل مجملا في هذه الآية فلما قال ثم محلها إلى البيت العتيق بين فيه ما أجمل ذكره في الآية الأولى فوجب أن يكون محل هدي الإحصار الحرم ولم يختلفوا في سائر الهدايا التي يتعلق وجوبها بالإحرام مثل جزاء الصيد وفدية الأذى ودم التمتع أن محلها الحرم فكذلك هدي الإحصار لما تعلق وجوبه بالإحرام وجب أن يكون في الحرم قوله والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير قيل إن البدن الإبل المبدنة بالسمن يقال بدنت الناقة إذا سمنتها ويقال بدن الرجل إذا سمن وإنما قيل لها بدنة من هذه الجهة ثم سميت الإبل بدنا مهزولة كانت أو سمينة فالبدنة اسم يختص بالبعير في اللغة إلا أن البقرة لم صارت في حكم البدنة قامت مقامها وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم -
جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة فصار البقر في حكم البدن ولذلك كان
تقليد البقرة كتقليد البدنة في باب وقوع

الإحرام بها لسائقها ولا يقلد غيرهما فهذان المعنيان اللذان يختص بهما البدن دون سائر الهدايا وروي عن جابر بن عبدالله قال البقرة من البدن واختلف أصحابنا فيمن قال لله علي بدنة هل يجوز له نحرها بغير مكة فقال أبو حنيفةومحمد يجوز له ذلك وقال أبو يوسف لا يجوز له نحره إلا بمكة ولم يختلفوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة وأن من قال لله علي جزور أنه يذبحه حيث شاء وروي عن ابن عمر أنه قال من نذر جزورا نحرها حيث شاء وإذا نذر بدنة نحرها بمكة وكذا روي عن الحسن وعطاء وكذا روي عن عبدالله بن محمد بن علي وسالم وسعيد بن المسيب قالا إذا جعل على نفسه هديا فبمكة وإذا قال بدنة فحيث نوى وقال مجاهد ليست البدن إلا بمكة وذهب أبو حنيفة أن البدنة بمنزلة الجزور ولا يقتضي إهداءها إلى موضع فكان بمنزلة ناذر الجزور والشاة ونحوها وأما الهدي فإنه يقتضي إهداءه إلى موضع وقال الله تعالى هديا بالغ الكعبة فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي ويحتج لأبي يوسف بقوله تعالى والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فكان اسم للبدنة مفيدا لكونها قربة كالهدي إذ كان اسم الهدي يقتضي كونه قربة مجعولا لله فلما لم يجز الهدي إلا بمكة كان كذلك حكم البدنة قال أبو بكر وهذا لا يلزم من قبل أنه ليس كل ما كان ذبحه قربة فهو مختص بالحرم لأن الأصحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن فوصفه للبدن بأنها من شعائر الله لا يوجب تخصيصها بالحرم قوله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف روى يونس عن زياد قال رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ راحلته فنحرها وهي باركة فقال انحرها قياما مقيدة سنة أبي القاسم ص - وروى أيمن بن نابل عن طاوس في قوله تعالى فاذكروا اسم الله عليها صواف قياما وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال من قرأ صواف فهي قائمة مضمومة يداها ومن قرأ صوافن قيام معقولة وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قرأها صوافن قال معقولة يقول بسم الله والله أكبر وروى الأعمش عن أبي الضحى قال سمعت ابن عباس وسئل عن هذه الآية صواف قال قياما معقولة وروى جويبر عن الضحاك قال كان ابن مسعود يقرأها صوافن وصوافن أن يعقل إحدى يديهما فتقوم على ثلاث وروى قتادة عن الحسن أنه قرأها صوافي قال خالصة من الشرك وعن ابن عمر وعروة بن الزبير أنها تنحر مستقبلة القبلة قال أبو بكر حصلت قراءة السلف لذلك على ثلاثة أنحاء أحدها صواف بمعنى مصطفة قياما وصوافي

بمعنى خالصة لله تعالى وصوافن بمعنى معقلة في قيامها قوله تعالى فإذا وجبت جنوبها روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم إذا سقطت وقال أهل اللغة الوجوب هو السقوط ومنه وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب قال قيس بن الخطيم ... أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب ... يعني أول مقتول سقط على الأرض وكذلك البدن إذا نحرت قياما سقطت لجنوبها وهذا يدل على أنه قد أراد بقوله صواف قياما لأنها إذا كانت باركة لا يقال إنها تسقط إلا بالإضافة فيقال سقطت لجنوبها وإذا كانت قائمة ثم نحرت فلا محالة يطلق عليها اسم السقوط وقد يقال للباركة إذا ماتت فانقلبت على الجنب أنها سقطت لجنبها فاللفظ محتمل للأمرين إلا أن أظهرهما أن تكون قائمة فتسقط لجنبها عند النحر وقوله تعالى فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها يدل على أنه قد اريد بوجوبها لجنوبها موتها فهذا يدل على أنه ليس المراد سقوطها فحسب وأنه إنما أراد سقوطها للموت فجعل وجوبها عبارة عن الموت وهذا يدل علىأنه لا يجوز الأكل منها إلا بعد موتها ويدل عليه قوله ص - ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميتة وقوله تعالى فكلوا منها يقتضي إيجاب الأكل منها إلا أن أهل العلم متفقون على أن الأكل منها غير واجب وجائز أن يكون مستحسنا مندوبا إليه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أكل من البدن التي ساقها في حجة الوداع وكان لا يأكل يوم الأضحى حتى يصلي صلاة العيد ثم يأكل من لحم أضحيته وقال ص - كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلث فكلوا وادخروا وروى أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن علقمة قال بعث معي عبدالله بهدية فقلت له ماذا تأمرني أن أصنع به قال إذا كان يوم عرفة فعرف به وإذا كان يوم النحر فانحره صواف فإذا وجب لجنبه فكل ثلثا وتصدق بثلث وابعث إلى أهل أخي ثلثا وروى نافع عن ابن عمر كان يفتي في النسك والأضحية ثلث لك ولأهلك وثلث في جيرانك وثلث للمساكين وقال عبدالملك عن عطاء مثله قال وكل شيء من البدن واجبا كان أو تطوعا فهو بهذه المنزلة إلا ما كان من جراد صيد أو فدية من صيام أو صدقة أو نسك أو نذر مسمى للمساكين وقد روى طلحة بن عمرو عن عطاء عن ابن مسعود قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن نتصدق بثلثها ونأكل ثلثها ونعطي الجازر ثلثها والجازر غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

قال لعلي لا تعطي الجازر منها شيئا وجائز أن

يكون الجازر صحيحا وإنما أمرنا بإعطائه من غير أجرة الجزارة وإنما نهى أن يعطى الجازر منها من أجرته ولما ثبت جواز الأكل منها دل ذلك على جواز إعطائه الأغنياء لأن كل ما يجوز له أكله يجوز أن يعطى منه الغني كسائر امواله وإنما قدروا الثلث للصدقة على وجه الإستحباب لأنه لما جاز له أن يأكل بعضه ويتصدق ببعضه ويهدي بعضه على غير وجه الصدقة كان الذي حصل للصدقة الثلث وقد قدمنا قبل ذلك أنه لما قال ص -

في لحوم الاضاحي فكلوا وادخروا وقال الله تعالى فكلوا
منها وأطعموا البائس الفقير حصل الثلث للصدقة وقوله تعالى فكلوا منها عطفا على البدن يقتضي عمومه جواز الأكل من بدن القران والتمتع لشمول اللفظ لها قوله تعالى وأطعموا القانع والمعتر قال أبو بكر القانع قد يكون الراضي بما رزق والقانع السائل أخبرنا أبو عمر غلام ثعلب قال أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال القناعة الرضا بما رزقه الله تعالى ويقال من القناعة رجل قانع وقنع ومن القنوع رجل قانع لا غير قال أبو بكر وقال الشماخ في القنوع ... لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع ...
واختلف السلف في المراد بالآية فروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا القانع الذي لا يسئل والمعتر الذي يسئل وروي عن الحسن وسعيد بن جبير قالا القانع الذي يسئل وروي عن الحسن قال المعتر يتعرض ولا يسئل وقال مجاهد القانع جارك الغني والمعتر الذي يعتريك من الناس قال أبو بكر إن كان القانع هو الغني فقد اقتضت الآية أن يكون المستحب الصدقة بالثلث لأن فيها الأمر بالأكل وإعطاء الغني وإعطاء الفقير الذي يسئل قوله تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم قيل في معناه لن يتقبل الله اللحوم ولا الدماء ولكن يتقبل التقوى منها وقيل لن يبلغ رضا الله لحومها ولا دماءها ولكن يبلغه التقوى منكم وإنما قال ذلك بيانا أنهم إنما يستحقون الثواب بأعمالهم إذ كانت اللحوم والدماء فعل الله فلا يجوز أن يستحقوا بها الثواب وإنما يستحقونه بفعلهم الذي هو التقوى ومجرى موافقة أمر الله تعالى بذبحها قوله تعالى كذلك سخرها لكم يعني ذللها لتصريف العباد فيما يريدون منها خلاف السباع الممتنعة بما أعطيت من القوة والآلة قوله تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد قال مجاهد صوامع الرهبان والبيع كنائس اليهود وقال الضحاك

صلوات كنائس اليهود ويسمونها صلوتا وقيل إن الصلوات مواضع صلوات المسلمين مما في منازلهم وقال بعضهم لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع في أيام شريعة عيسى عليه السلام وبيع في أيام شريعة موسى عليه السلام ومساجد في أيام شريعة محمد ص - وقال الحسن يدفع عن هدم مصليات أهل الذمة بالمؤمنين قال أبو بكر في الآية دليل على أن هذه المواضع المذكورة لا يجوز أن تهدم على من كان له ذمة أو عهد من الكفار وأما في دار الحرب فجائز لهم أن يهدموها كما يهدمون سائر دورهم وقال محمد بن الحسن في أرض الصلح إذا صارت مصرا للمسلمين لم يهدم ما كان فيها من بيعة أو كنيسة أو بيت نار وأما ما فتح عنوة وأقر أهلها عليها بالجزية فإنه ما صار منها مصرا للمسلمين فإنهم يمنعون من فيها الصلاة في بيعهم وكنائسهم ولا تهدم عليهم ويؤمرون بأن يجعلوها إن شاؤوا بيوتا مسكونة قوله تعالى الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة قال أبو بكر هذه صفة الذين أذن لهم في القتال بقوله تعالى أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا إلى قوله الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلى قوله الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وهذه صفة المهاجرين لأنهم الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق فأخبر تعالى أنه إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وهو صفة الخلفاء الراشدين الذين مكنهم الله في الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم

وقد
مكنوا في الأرض فوجب أن يكونوا أئمة القائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه ولا يدخل معاوية في هؤلاء لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وليس معاوية من المهاجرين بل هو من الطلقاء قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس أن السبب في نزول هذه الآية إنه لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم -
أفرأيتم
اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في تلاوته ... تلك الغرانيق العلى ... وإن شفاعتهن لترتجى

وقد اختلف في معنى ألقى الشيطان فقال قائلون لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم -

هذه السورة وذكر فيها الأصنام علم الكفار أنه يذكرها بالذم والعيب فقال
قائل منهم حين بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - إلى قوله تعالى أفرأيتم اللات والعزى تلك الغرانيق العلى وذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش في المسجد الحرام فقال سائر الكفار الذين كانوا بالبعد منه إن محمدا قد مدح آلهتنا وظنوا أن ذلك كان في تلاوته فأبطل الله ذلك من قولهم وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم -
لم يتله وإنما تلاه بعض المشركين وسمى الذي القى ذلك في حال تلاوة النبي
ص - شيطانا لأنه كان من شياطين الإنس كما قال تعالى شياطين الإنس والجن والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس وقيل إنه جائز أن يكون شيطانا من شياطين الجن وقال ذلك عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم -
ومثل ذلك جائز في أزمان الأنبياء عليهم السلام كما حكى الله تعالى عنه
بقوله وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى مالا ترون وإنما قال ذلك إبليس حين تصور في صورة سراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر وكما تصور في صورة الشيخ النجدي حين تشاورت قريش في دار الندوة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم -
وكان مثل ذلك جائزا في زمن النبي ص
- لضرب من التدببر فجائز أن يكون الذي قال ذلك شيطانا فظن القوم أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قاله وقال بعضهم جائز أن يكون النبي ص
- قد تكلم بذلك على سبيل السهو الذي لا يعرى منه بشر فلا يلبث أن ينبهه الله عليه وأنكر بعض العلماء ذلك وذهب إلى أن المعنى إن الشيطان كان يلقي وساوسه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم - ما يشغله عن بعض ما يقول فيقرأ غلطا في القصص المتشابهة نحو قصة موسى عليه السلام وفرعون في مواضع من القرآن مختلفة الألفاظ فكان المنافقون والمشركون ربما قالوا قد رجع عن بعض ما قرأ وكان ذلك يكون منه على طريق السهو فنبهه الله تعالى عليه فأما الغلط في قراءة تلك الغرانيق فإنه غير جائز وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم - كما لا يجوز وقوع الغلط على بعض القرآن بإنشاد شعر في أضعاف التلاوة على أنه من القرآن وروي عن الحسن أنه لما تلا ما فيه ذكر الأصنام قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم -
إنما هي عندكم كالغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى في قولكم على جهة
النكير عليهم قوله تعالى لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر قيل إن المنسك الموضع المعتاد لعمل خير أو شر وهو المألف

لذلك ومناسك الحج مواضع العبادات فيه فهي متعبدات الحج وقال ابن عباس منسكا عيدا وقال مجاهد وقتادة متعبدا في إراقة الدم بمنى وغيره وقال عطاء ومجاهد أيضا وعكرمة ذبائح هم ذابحوه وقيل إن المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها قال أبو بكر قال النبي صلى الله عليه وسلم -

في حديث البراء بن عازب أن النبي ص
- خرج يوم الأضحى فقال إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فجعل الصلاة والذبح جميعا نسكا وهذا يدل على أن اسم النسك يقع على جميع العبادات إلا أن الأظهر الأغلب في العادة عند الإطلاق الذبح على وجه القربة قال الله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك وليس يمتنع أن يكون المراد جميع العبادات ويكون الذبح أحد ما أريد بالآية فيوجب ذلك أن يكونوا مأمورين بالذبح لقوله تعالى فلا ينازعنك في الأمر وإذ كنا مأمورين بالذبح ساغ الاحتجاج به في إيجاب الأضحية لوقوعها عامة في الموسرين كالزكاة ولو جعلناه على الذبح الواجب في الحج كان خاصا في دم القران والمتعة إذ كانا نسكين في الحج دون غيرهما من الدماء إذ كانت سائر الدماء في الحج إنما يجب على جهة جبران نقص وجناية فلا يكون إيجابه على وجه ابتداء العبادة به وقوله تعالى جعلنا منسكا هم ناسكوه يقتضي ظاهره ابتداء إيجاب العبادة به واختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب الأضحية فروى الشعبي عن أبي سريحة قال رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان وقال عكرمة كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ويقول من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس وقال ابن عمر ليست بحتم ولكن سنة ومعروف وقال أبو مسعود الأنصاري إني لأدع الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم علي وقال إبراهيم النخعي الأضحية واجبة إلا على مسافر وروي عنه أنه قال كانوا إذا شهدوا ضحوا وإذا سافروا لم يضحوا وروى يحيى بن يمان عن سعيد بن عبدالعزيز عن مكحول قال الأضحية واجبة وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر الأضحية واجبة على أهل اليسار من أهل الامصار والقرى المقيمين دون المسافرين ولا أضحية على المسافر وإن كان موسرا وحد اليسار في ذلك ما تجب فيه صدقة الفطر وروي عن أبي يوسف مثل ذلك وروي عنه أنها ليست بواجبة وهي سنة وقال مالك بن أنس على الناس كلهم أضحية المسافر والمقيم ومن تركها من غير عذر فبئس ما صنع وقال الثوري والشافعي ليست بواجبة وقال الثوري لا بأس بتركها وقال عبدالله بن

الحسن يؤثر بها أباه أحب إلي من أن يضحى قال أبو بكر ومن يوجبها يحتج له بهذه الآية ويحتج له بقوله قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت قد اقتضى الأمر بالأضحية لأن النسك في هذا الموضع المراد به الأضحية ويدل عليه ما روى سعيد بن جبير عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال يا فاطمة اشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه وقولي إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين وروى أن عليا رضي الله عنه كان يقول عند ذبح الأضحية إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله الآية وقال أبو بردة بن نيار يوم الأضحى يا رسول الله إني عجلت بنسكي وقال ص - إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح فدل ذلك على أن هذا النسك قد أريد به الأضحية وأخبر أنه مأمور بقه بقوله وبذلك أمرت والأمر يقتضي الوجوب ويحتج فيه بقوله فصل لربك وانحر قد روى أنه أراد صلاة العيد وبالنحر الأضحية والأمر يقتضي الإيجاب وإذا وجب على النبي صلى الله عليه وسلم - فهو واجب علينا لقوله تعالى فاتبعوه وقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ويحتج للقائلين بإيجابها من جهة الأثر بما رواه زيد بن الحباب عن عبدالله بن عياش قال حدثني الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من كان له يسار فلم يضح فلا يقربن مصلانا وقد رواه غير زيد بن الحباب مرفوعا جماعة منهم يحيى بن سعيد حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا عباس بن الوليد بن المبارك قال حدثنا الهيثم بن خارجة قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبدالله بن عياش عن الأعرج عن أبي هريرة ق قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من قدر على سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ورواه يحيى بن يعلى أيضا مرفوعا حدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن النعمان الفراء قال حدثنا يحيى بن يعلى عن عبدالله بن عياش أو عباس عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مسجدنا ورواه عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج عن أبي هريرة قال من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ويقال إن عبيد الله بن أبي جعفر فوق ابن عياش في الضبط والجلالة فوقفه على أبي هريرة ولم يرفعه ويقال إن الصحيح أنه موقوف عليه غير مرفوع ويحتج لإيجابها أيضا بحديث أبي رملة الحنفي عن مخنف بن سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال على كل أهل بيت في عام أضحية وعتيرة قال أبو بكر والعتيرة

منسوخة بالاتفاق وهي إنهم كانوا يصومون رجب ثم يعترون وهي الرجبية وقد كان ابن سيرين وابن عون يفعلانه ولم تقم الدلالة على نسخ الأضحية فهي واجبة بمقتضى الخبر إلا أنه ذكر في هذا الحديث على كل أهل بيت أضحية ومعلوم أن الواجب من الأضجية لا يجزى عن أهل البيت وإنما يجزى عن واحد فبدل ذلك على أنه لم يرد الإيجاب ومما يحتج لموجبيها ما حدثنا عبدالباقي قال حدثنا احمد بن أبي عون البزوري قال حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن مجاهد عن الشعبي عن جابر والبراء بن عازب قالا قام النبي صلى الله عليه وسلم - على منبره يوم الأضحى فقال من صلى معنا هذه الصلاة فليذبح بعد الصلاة فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله إني ذبحت ليأكل معنا أصحابنا إذا رجعنا قال ليس بنسك قال عندي جذعة من المعز قال تجزى عنك ولا تجزى عن غيرك فيستدل من هذا الخبر بوجوه على الوجوب أحدها قوله ص - من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح بعد الصلاة وهو أمر بالذبح يقتضي ظاهره الوجوب والوجه الثاني قوله ص - تجزى عنك ولا تجزى عن غيرك ومعناه تقضى عنك لأنه يقال جزى عني كذا بمعنى قضى عني والقضاء لا يكون إلا عن واجب فقد اقتضى ذلك الوجوب ومن جهة أخرى أن في بعض ألفاظ هذا الحديث فمن ذبح قبل الصلاة فليعد أضحيته وفي بعضها أنه قال لأبي بردة أعد أضحيتك ومن يأبى ذلك يقول إن قوله ص - من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح يدل على أنه لم يرد الإيجاب لأن وجوبها لا يتعلق بشهود الصلاة عند الجميع ولما عم الجميع ولم يخصص به الأغنياء دل على أنه أراد الندب وأما قوله تجزى عنك فإنما أراد به جواز قربة والجواز والقضاء على ضربين أحدهما جواز قربة والآخر جواز فرض فليس في ظاهر إطلاق لفظ الجواز والقضاء دلالة على الوجوب وأيضا يحتمل أن يكون أبو بردة قد كان أوجب الأضحية نذرا فأمره بالإعادة فإذا ليس فيما خاظب به أبو بردة دلالة على الوجوب لأنه حكم في شخص معين ليس بعموم لفظ في إيجابها على كل أحد فإن قيل لو أراد القضاء عن واجب لسأله عن قيمته ليوجب عليه مثله قيل له قد قال أبو بردة إن عندي جذعة خير من شاتي لحم فكانت الجذعة خيرا من الأولى ومما يحتج به على الوجوب من طريق النظر إتفاق الجميع على لزومها بالنذر فلولا أن لها أصلا في الوجوب لما لزمت بالنذر كسائر الأشياء التي ليس لها أصل في الوجوب فلا تلزم بالنذر ومما يحتج به للوجوب

ما روى جابر الجعفي عن أبي جعفر قال نسخت الأضحية كل ذبح كان قبلها ونسخت الزكاة كل زكاة كانت قبلها ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ونسخ غسل الجنابة كل غسل كان قبله قالوا فهذا يدل على وجوب الأضحى لأنه نسخ به ما كان قبله ولا يكون المنسوخ به إلا واجبا ألا ترى أن كل ما ذكره أنه ناسخ لما قبله فهو فرض أو واجب قال أبو بكر وهذا عندي لا يدل على الوجوب لأن نسخ الواجب هو بيان مدة الوجوب فإذا بين بالنسخ أن مدة الإيجاب كانت إلى هذا الوقت لم يكن في ذلك ما يقتضي إيجاب شيء آخر ألا ترى أنه لو قال قد نسخت عنكم العتيرة والعقيقة وسائر الذبائح التي كانت تفعل لم تكن فيه دلالة على وجوب ذبيحة أخرى فليس إذا في قوله نسخت الأضحية كل ذبيحة كانت قبلها دلالة على وجوب الأضحية وإنما فائدة ذكر النسخ في هذا الموضع بالأضحية أنه بعد ما ندبنا إلى الأضحية لم تكن هناك ذبيحة أخرى واجبة ومما يحتج به من نفي وجوبها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا عبدالعزيز بن الخطاب قال حدثنا مندل بن علي عن أبي حباب عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - الأضحى على فريضة وهو عليكم سنة وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا سعيد بن محمد أبو عثمان الأنجداني قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا عبدالرحيم بن سليم عن عبدالله بن محرز عن قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - أمرت بالأضحى والوتر ولم تعزم على وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا محمد بن علي بن العباس الفقيه قال حدثنا عبدالله بن عمر قال حدثنا محمد بن عبدالوارث قال حدثنا أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال ثلاث هن علي فريضة ولكم تطوع الأضحى والوتر والضحى ففي هذه الأخبار أنها ليست بواجبة علينا إلا أن الأخبار لو تعارضت لكانت الأخبار المقتضية للإيجاب أولى بالاستعمال من وجهين أحدهما أن الإيجاب طارىء على إباحة الترك والثاني أن فيه حظر الترك وفي نفيه إباحة الترك والحظر أولى من الإباحة ومما يحتج به في نفي الوجوب ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبدالله قال حدثنا عبدالله بن يزيد قال حدثني سعيد بن أيوب قال حدثني عياش القتباني عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أمرت بيوم الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة فقال رجل أرأيت إن لم أجد إلا منيحة إنني أفأضحي بها قال لا

ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك وتحلق عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله عز و جل فلما جعل هذه الأشياء بمنزلة الأضحية دل على أن الأضحية غير واجبة إذ كان فعل هذه الأشياء غير واجب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثني إبراهيم بن موسى الرازي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي عياش عن جابر بن عبدالله قال ذبح النبي صلى الله عليه وسلم - يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجئين فلما وجههما قال إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح قالوا ففي ذبحه عن الأمة دلالة على أنها غير واجبة لأنها لو كانت واجبة لم تجز شاة عن جميع الأمة قال أبو بكر وهذا لا ينفي الوجوب لأنه تطوع بذلك وجائز أن يتطوع عمن قد وجب عليه كما يتطوع الرجل عن نفسه ولا يسقط ذلك عنه وجوب ما يلزمه ومما يحتج من نفي الوجوب ما قدمنا روايته عن السلف من نفي إيجابه وفيه الدلالة من وجهين على ذلك أحدهما أنه لم يظهر من أحد من نظرائهم من السلف خلافه وقد استفاض عمن ذكرنا قولهم من السلف نفي إيجابه والثاني أنه لو كان واجبا مع عموم الحاجة إليه لوجب أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم - توقيف لأصحابه على وجوبه ولو كان كذلك لورد النقل به مستفيضا متواترا وكان لا أقل من أن يكون وروده في وزن ورود إيجاب صدقة الفطر لعموم الحاجة إليه وفي عدم النقل المستفيض فيه دلالة على نفي الوجوب ويحتج فيه بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما اختلف حكم المقيم والمسافر فيه كصدقة الفطر فلما لم يوجبه أبو حنيفة على المسافر دل على أنه غير واجب ويحتج فيه أيضا بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما أسقطه مضي الوقت فلما اتفق الجميع على أنه يسقط بمضي أيام النحر دل على أنه غير واجب إذ كانت سائر الحقوق الواجبة في الأموال نحو الزكاة وصدقة الفطر والعشر ونحوها لا يسقطها مضي الأوقات قوله تعالى وجاهدوا في الله حق جهاده إلى قوله ملة أبيكم إبراهيم قيل معناه جاهدوا في الله حق جهادة واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم ولذلك نصب وقال بعضهم نصب لأنه أراد كملة أبيكم إلا أنه لما حذف الجار اتصل الاسم بالفعل فنصب قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن علينا اتباع شريعة إبراهيم إلا ما ثبت

نسخه على لسان نبينا ص -

وقيل إنه إنما قال ملة أبيكم إبراهيم لأنها داخلة في ملة نبينا ص
- وإن كان المعنى أنه كملة أبيكم إبراهيم فإنه يعني أن الجهاد في الله حق جهاده كملة أبيكم إبراهيم عليه السلام لأنه جاهد في الله حق جهاده وقال ابن عباس وجاهدوا في الله حق جهاده جاهدوا المشركين وروي عن ابن عباس أيضا لا تخافوا في الله لومة لائم وهو الجهاد في الله حق جهاده وقال الضحاك يعني اعملوا بالحق لله عز و جل قوله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج قال ابن عباس من ضيق وكذلك قال مجاهد ويحتج به في كل ما اختلف فيه من الحوادث أن ما أدى إلى الضيق فهو منفي وما أوجب التوسعة فهو أولى وقد قيل وما جعل عليكم في الدين من حرج إنه من ضيق لا مخرج منه وذلك لأن منه ما يتخلص منه بالتوبة ومنه ما ترد به المظلمة فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من عقوبته وقوله ملة أبيكم إبراهيم الخطاب لجميع المسلمين وليس كلهم راجعا بنسبه إلى أولاد إبراهيم فروي عن الحسن أنه أراد أن حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد كما قال تعالى وأزواجه أمهاتكم وفي بعض القراءات وهو أب لهم قوله تعالى هو سماكم المسلمين من قبل قال ابن عباس ومجاهد يعني إن الله سماكم المسلمين وقيل إن إبراهيم سماكم المسلمين لقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وقوله تعالى من قبل وفي هذا قال مجاهد من قبل القرآن وفي القرآن وقوله تعالى هو اجتباكم يدل على أنهم عدول مرضيون وفي ذلك بطلان طعن الطاعنين عليهم إذ كان الله لا يجتبي إلا أهل طاعته واتباع مرضاته وفي ذلك مدح للصحابة المخاطبين بذلك ودليل على طهارتهم قوله تعالى ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فيه الدلالة على صحة إجماعهم لأن معناه ليكون الرسول شهيدا عليكم بطاعة من أطاع في تبليغه وعصيان من عصى وتكونوا شهداء على الناس بأعمالهم فيما بلغتموهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم وهذه الآية نظير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا فبدأبمدحهم ووصفهم بالعدالة ثم أخبر أنهم شهداء وحجة على من بعدهم كما قال هنا هو اجتباكم إلى قوله وتكونوا شهداء على الناس قوله تعالى وافعلوا الخير ربما يحتج به المحتج في إيجاب قربة مختلف في وجوبها وهذا عندنا لا يصح الاحتجاج به في إيجاب شيء ولا يصح اعتقاد العموم

فيه آخر سورة الحج
ومن

سورة المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون روى ابن عوف عن محمد بن سيرين قال كان النبي صلى الله عليه وسلم - إذا صلى رفع رأسه إلى السماء فلما نزلت الذين هم في صلاتهم خاشعون نكس رأسه وروى هشام عن محمد قال لما نزلت الذين هم في صلاتهم خاشعون خفوا أبصارهم فكان الرجل يحب أن لا يجاوز بصره موضع سجوده وروي عن جماعة الخشوع في الصلاة أن لا يجاوز بصره موضع سجوده وروي عن ابراهيم ومجاهد والزهري الخشوع السكون وروى المسعودي عن أبي سنان عن رجل منهم قال سئل علي عن قوله الذين هم في صلاتهم خاشعون قال الخشوع في القلب وأن تلين كتفك للمرء المسلم ولا تلتفت في صلاتك وقال الحسن خاشعون خائفون قال أبو بكر الخشوع ينتظم هذه المعاني كلها من السكون في الصلاة والتذلل وترك الإلتفات والحركة والخوف من الله تعالى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال اسكنوا في الصلاة وكفوا أيديكم في الصلاة وقال أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا وأنه نهى عن مس الحصى في الصلاة وقال إذا قام الرجل يصلي فإن الرحمة تواجهه فإذا التفت انصرفت عنه وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يلمح في الصلاة ولا يلتفت وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو توبة قال حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام قال حدثني السلوى أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم حنين وذكر الحديث إلى قوله من يحرسنا الليلة قال أنس بن أبي مرثد الغنوي أنا يا رسول الله قال فاركب فركب فرسا له فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم -
استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يغرن من قبلك الليلة فلما أصبحنا
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال هل أحسستم فارسكم قالوا يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال أبشروا قد جاءكم
فارسكم فأخبر في هذا الحديث أنه كان يلتفت إلى الشعب وهو في

الصلاة وهذا عندنا كان عذرا من وجهين أحدهما أنه لم يأمن من مجيء العدو من تلك الناحية والثاني اشتغال قلبه بالفارس إلى أن طلع وروي عن إبراهيم النخعي أنه كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا وروى حماد بن سلمة عن حميد عن معاوية بن قرة قال قيل لابن عمر إن كان الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا قال لكنا نقول هكذا وهكذا ونكون مثل الناس وروي عن ابن عمر أنه كان لا يلتفت في الصلاة فعلمنا أن الالتفات المنهى عنه أن يولي وجهه يمنة ويسرة فأما أن يلحظ يمنة ويسرة فإنه غير منهي عنه وروى سفيان عن الأعمش قال كان ابن مسعود إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى وروى أبو مجلز عن أبي عبيدة قال كان أبن مسعود إذا قام إلى الصلاة خفض فيها صوته وبدنه وبصره وروى علي بن صالح عن زبير اليامي قال كان أراد أن يصلي كأنه خشبة قوله تعالى والذين هم عن اللغو معرضون واللغة هو الفعل الذي لا فائدة فيه وما كان هذا وصفه من القول والفعل فهو محظور وقال ابن عباس اللغو الباطل والقول الذي لا فائدة فيه هو الباطل وإن كان الباطل قد يبتغي به فوائد عاجلة قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون يجوز أن يكون المراد عاما في الرجال والنساء لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب المذكر كقوله قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون قد أريد به الرجال والنساء ومن الناس من يقول إن قوله والذين هم لفروجهم حافظون خاص في الرجال بدلالة قوله تعالى إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وذلك لا محالة أريد به الرجال قال أبو بكر وليس يمتنع أن يكون اللفظ الأول عاما في الجميع والاستثناء خاص في الرجال كقوله ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ثم قال وإن جاهداك لتشرك بي فالأول عموم في الجميع والعطف في بعض ما انتظمه اللفظ وقوله والذين هم لفروجهم حافظون عام لدلالة الحال عليه وهو حفظها من مواقعة المحظور بها قوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون يقتضي تحريم نكاح المتعة إذ ليست بزوجة ولا مملوكة يمين وقد بينا ذلك في سورة النساء في قوله وراء ذلك معناه غير ذلك وقوله العادون يعني من يتعدى الحلال إلى الحرام فأما قوله إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم استثناء من الجملة المذكورة لحفظ الفروج وإخبار عن إباحة وطء الزوجة وملك اليمين فاقتضت الآية حظر ما عدا هذين الصنفين في الزوجات وملك الأيمان ودل بذلك على إباحة وطء الزوجات

وملك اليمين لعموم اللفظ فيهن فإن قيل لو كان ذلك عموما في إباحة وطئهن لوجب أن يجوز وطؤهن في حال الحيض ووطء الأمة ذات الزوجة والمعتدة من وطء بشبهة ونحو ذلك قيل له قد اقتضى عموم اللفظ إباحة وطئهن في سائر الأحوال إلا أن الدلالة قد قامت على تخصيص من ذكرت كسائر العموم إذا خص منه شيء لم يمنع ذلك بقاء حكم العموم فيما لم يخص وملك اليمين متى أطلق عقل به الأمة والعبد المملوكان ولا يكاد يطلق ملك اليمين في غير بني آدم لا يقال للدار والدابة ملك اليمين وذلك لأن ملك العبد والأمة أخص من ملك غيرهما ألا ترى أنه يملك التصرف في الدار بالنقض والبناء ولا يملك ذلك في بني آدم ويجوز عارية الدار وغيرها من العروض ولا يجوز عارية الفروج قوله تعالى والذين هم على صلواتهم يحافظون روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى يحافظون قالوا فعلها في الوقت وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن يترك الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى وقال مسروق الحفاظ على الصلاة فعلها لوقتها وقال إبراهيم النخعي يحافظون دائمون وقال قتادة يحافظون على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها قال أبو بكر المحافظة عليها مراعاتها للتأدية في وقتها على استكمال شرائطها وجميع المعاني التي تأول عليها السلف المحافظة هي مرادة بالآية وأعاد ذكر الصلاة لأنه مأمور بالمحافظة عليها كما هو بالخشوع فيها قوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة الآية روى وكيع عن مالك بن مغول عن عبدالرحمن بن سعيد ابن وهب عن عائشة قالت قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أهو الرجل يشرب الخمر ويسرق قال لا يا عائشة ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه وروى جرير عن ليث عمن حدثه عن عائشة وعن ابن عمر يؤتون ما آتوا قال الزكاة ويروى عن الحسن قال لقد أدركت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم أشفق منكم على سيآتكم أن تعذبوا عليها قوله تعالىأولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون الخيرات هنا الطاعات يسارع إليها أهل الإيمان بالله ويجتهدون في السبق إليها رغبة فيها وعلما بما لهم بها من حسن الجزاء وقوله وهم لها سابقون قال ابن عباس سبقت لهم السعادة وقال غيره وهم من أهل الخيرات سابقون إلى الجنة وقال آخرون وهم إلى الخيرات سابقون قوله تعالى ولهم أعمال من دون ذلك قال

قتادة وأبو العالية خطايا من دون الحق وعن الحسن ومجاهد أعمال لهم من دون ما هم عليه لا بد من أن يعملوها وقوله تعالى مستكبرين به سامرا تهجرون قرىء بفتح التاء وضم الجيم وقرىء بضم التاء وكسر الجيم فقيل في تهجرون قولان أحدهما قول ابن عباس تهجرون الحق بالإعراض عنه وقال مجاهد وسعيد بن جبير تقولون الهجر وهو السيء من القول ومن قرأ تهجرون فليس إلا من الهجر عن ابن عباس وغيره يقال اهجر المريض إذا هدأ ووحد سامرا وإن كان المراد ا لسمار لأنه في موضع المصدر كما يقال قوموا قياما وقيل إنما وحد لأنه في موضع الوقت بتقدير ليلا تهجرون وكانوا يسمرون بالليل حول الكعبة وقد اختلف في السمر فروى شعبة عن أبي المنهال عن أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وروى شعبة عن منصور عن خيثمة عن
عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا سمر إلا لرجلين مصل أو مسافر وعن ابن عمر أنه كان ينهى عن السمر بعد العشاء وأما الرخصة فيه فما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال قال عمر كان النبي صلى الله عليه وسلم - لا يزال يسمر الليلة عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وكان ابن عباس يسمر بعد العشاء وكذلك عمرو بن دينار وأيوب السختياني إلى نصف الليل آخر سورة المؤمنين
ومن سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال أبو بكر لم يختلف السلف في أن حد الزانيين في أول الإسلام ما قال الله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم إلى قوله واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فكان حد المرأة الحبس والأذى بالتعبير وكان حد الرجل التعبير ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ونسخ عن المحصن بالرجم وذلك لأن في حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم فكان ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم إلى قوله أو يجعل الله لهن سبيلا وذلك لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم - إيانا على أن ما ذكره

من ذلك هو السبيل المراد بالآية ومعلوم أنه لم تكن بينهما واسطة حكم آخر لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن متقدما لقوله ص - بحديث عبادة إن المراد بالسبيل هو ما ذكره دون غيره وإذا كان كذلك كان الأذى والحبس منسوخين عن غير المحصن بالآية وعن المحصن بالسنة وهو الرجم واختلف أهل العلم في حد المحصن وغير المحصن في الزنا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يرجم المحصن ولا يجلد ويجلد غير المحصن وليس نفيه بحد وإنما هو موكول إلى رأي الإمام إن رأى نفيه للدعارة فعل كما يجوز حبسه حتى يحدث توبة وقال ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح لا يجتمع الجلد والرجم مثل قول أصحابنا واختلفوا في النفي بعد الجلد فقال ابن أبي ليلى ينفى البكر بعد الجلد وقال مالك ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد ومن نفى حبس في الموضع الذي ينفى إليه وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح والشافعي ينفى الزاني وقال الأوزاعي ولا تنفى المرأة وقال الشافعي ينفى العبد نصف سنة والدليل على أن نفي البكر الزاني ليس بحدان قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة يوجب أن يكون هذا هو الحد المستحق بالزنا وأنه كمال الحد فلو جعلنا النفي حدا معه لكان الجلد بعض الحد وفي ذلك إيجاب نسخ الآية فثبت أن النفي إنما هو تعزيز وليس بحد ومن جهة أخرى أن الزيادة في النص غير جائزة إلا بمثلي ما يجوز به النسخ وأيضا لو كان النفي حدا مع الجلد لكان من النبي صلى الله عليه وسلم - عند تلاوته توقيف للصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حده ولو كان كذلك لكان وروده في وزن ورود نقل الآية فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد وقد روي عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل فقال عمر لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنا وروي عن علي أنه قال في البكرين إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها وقال إبراهيم النخعي كفى بالنفي فتنة فلو كان النفي ثابتا مع الجلد على أنهما حد الزاني لما خفى على كبراء الصحابة ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة وشبل وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأمة إذا زنت فليجلدها فإن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير وقد حوى هذا الخبر الدلالة من وجهين على صحة قولنا أحدهما

إنه لو كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد والثاني أن الله تعالى قال فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فإذا كان جلد الأمة نصف حد الحرة وأخبر ص - في حدها بالجلد دون النفي دل ذلك على أن حد الحرة هو الجلد ولا نفي فيه فإن قيل إنما أراد بذلك التأديب دون الحد وقد روي عن ابن عباس أن الأمة إذا زنت قبل أن تحصن أنه لا حد عليها لقوله تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قيل له قد روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها قال ذلك ثلاث
مرات ثم قال في الثالثة أو الرابعة ثم ليبعها ولو بضفير وقوله ص - بعها ولو بضفير يدل على أنها لا تنفى لأنه لو وجب نفيها لما جاز بيعها إذ لا يمكن المشتري تسلمها لأن حكمها أن تنفى فإن قيل في حديث شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبدالله عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر يجلد وينفى والثيب يجلد ويرجم وروى الحسن عن قبيصة بن ذؤيب عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى الله عليه وسلم - مثله وحديث الزهري عن عبيد الله بن عبدالله عن أبي هريرة وزيد بن خالد أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديته منه بوليدة ومائة شاة ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فاقض بيننا بكتاب الله تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الغنم والوليدة فرد عليك وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم قال لرجل من أسلم أغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها قيل له غير جائز أن تزيد في حكم الآية بأخبار الآحاد لأنه يوجب النسخ لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ فالواجب إذا كان هكذا حمله على وجه التعزير لا أنه حد مع الجلد فرأى النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت نفي البكر لأنهم كانوا حديثي عهد بالجاهلية فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر وكسر الأواني لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة وأيضا فإن حديث عبادة وارد لا محالة قبل آية الجلد وذلك لأنه قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا فلو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لكان السبيل مجعولا قبل ذلك ولما كان الحكم مأخوذا عنه بل عن الآية قثبت بذلك أن آية الجلد

إنما نزلت بعد ذلك وليس فيها ذكر النفي فوجب أن يكون ناسخا لما في حديث عبادة من النفي إن كان النفي حدا ومما يدل على أن النفي على وجه التعزير وليس بحد أن الحدود معلومة المقادير والنهايات ولذلك سميت حدودا لا تجوز الزيادة عليها ولا النقصان منها فلما لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم - للنفي مكانا معلوما ولا مقدارا من المسافة والبعد علمنا أنه ليس بحد وأنه موكول إلى اجتهاد الإمام كالتعزير لما لم يكن له مقدار معلوم كان تقديره موكولا إلى رأي الأمام ولو كان ذلك حدا لذكر النبي صلى الله عليه وسلم - مسافة الموضع الذي ينفى إليه كما ذكر توقيت السنة لمدة النفي وأما الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فإن فقهاء الأمصار متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد والدليل على صحة ذلك حديث أبي هريرة وزيد بن خالد في قصة العسيف وإن أبا الزاني قال سألت رجلا من أهل العلم فقالوا على امرأة هذا الرجم فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم - بل عليها الرجم والجلد وقال لأنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يذكر جلدا ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره له كما ذكر الرجم وقد وردت قصة ماعز من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد ولو كان الجلد حدا مع الرجم لجلده النبي صلى الله عليه وسلم - ولو جلده لنقل كما نقل الرجم إذ ليس أحدهما بأولى بالنقل من الآخر وكذلك في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد أن وضعت ولم يذكر جلدا ولو كانت جلدت لنقل وفي حديث الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس قال قال عمر قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وقد قرأنا الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم - ورجمنا بعده فأخبر أن الذي فرضه الله هو الرجم وأن النبي صلى الله عليه وسلم - رجم ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره واحتج من جمع بينهما بحديث عبادة الذي قدمناه وقوله الثيب بالثيب الجلد والرجم وبما روى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم - فجلد ثم أخبر أنه قد كان أحصن فأمر به فرجم وبما روى أن عليا جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فأما حديث عبادة فإنا قد علمنا أنه وارد عقيب كون حد الزانيين الحبس
والأذى ناسخا له واسطة بينهما بقوله ص - خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ثم كان رجم ماعز والغامدية وقوله واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها

بعد حديث عبادة فلو كان ما ذكر في حديث عبادة من الجمع بين الجلد والرجم ثابتا لا يستعمله النبي صلى الله عليه وسلم - في هذه الوجوه وأما حديث جابر فجائز أن يكون جلده بعض الحد لأنه لم يعلم بإحصانه ثم لما ثبت إحصانه رجمه وكذلك قول أصحابنا ويحتمل حديث علي رضي الله عنه في جلده شراحة ثم رجمها أن يكون على هذا الوجه واختلف الفقهاء في الذميين هل يحدان إذا زنيا فقال أصحابنا والشافعي يحدان إلا أنهما لا يرجمان عندنا وعند الشافعي يرجمان إذا كانا محصنين وقد بينا ذلك فيما سلف وقال مالك لا يحد الذميان إذا زنيا قال أبو بكر وظاهر قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة يوجب الحد على الذميين ويدل عليه حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وقوله ص -

أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ولم يفرق بين الذمي والمسلم وأيضا فإن
النبي صلى الله عليه وسلم - رجم اليهوديين فلا يخلو ذلك من أن يكون بحكم التوراة أو حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم -
فإن كان رجمهما بحكم التوراة فقد صار شريعة للنبي ص
- لأن ما كان من شرائع الأنبياء المتقدمين مبقى إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم -
فهو شريعة لنبينا ص
- مالم ينسخ وإن كان رجمهما على أنه حكم مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم -
فهو ثابت إذ لم يرد ما يوجب نسخه والصحيح عندنا أنه رجمهما على أنه شريعة
مبتدأة من النبي صلى الله عليه وسلم - لا على تبقية حكم التوراة والدليل عليه أن حد الزانيين في أول الإسلام كان الحبس والأذى المحصن وغير المحصن فيه سواء فدل ذلك على أن الرجم الذي أوجبه الله في التوراة قد كان منسوخا فإن قيل فإن النبي صلى الله عليه وسلم - رجم اليهوديين وأنت لا ترجمهما فقد خالفت الخبر الذي احتججت له في إثبات حد الزنا على الذميين قيل له استدلالنا من خبر رجم اليهوديين على ما ذكرنا صحيح وذلك لأنه لما ثبت أنه رجمهما صح أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما وإنما رجمهما النبي صلى الله عليه وسلم - لأنه لم يكن من شرط الرجم الإحصان فلما شرط الإحصان فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم -
من أشرك بالله فليس بمحصن صار حدهما الجلد فإن قيل إنما رجم النبي ص
- اليهوديين من قبل أنه لم تكن لليهوديين ذمة وتحاكموا إليه قيل له لو لم يكن الحد واجبا عليهم لما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم -
عليهما ومع ذلك فدلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا كان من لا ذمة له قد
حده النبي صلى الله عليه وسلم - في الزنا فمن له ذمة وتجري عليه أحكام المسلمين أحرى بذلك ويدل عليه أنهم لا يختلفون أن الذمي يقطع في السرقة فكذلك في الزنا إذ كان فعلا

لا يقر عليه فوجب أن يزجر عنه بالحد كما وجب زجر المسلم به وليس هو كالمسلم في شرب الخمر لأنهم مقرون على التخلية بينهم وبين شربها وليسوا مقرين على السرقة ولا على الزنا واختلف فيمن أكره على الزنا فقال أبو حنيفة إن أكرهه غير سلطان حد وإن أكرهه سلطان لم يحد وقال أبو يوسف ومحمد لا يحد في الوجهين جميعا وهو قول الحسن بن صالح والشافعي وقال زفر إن أكرهه سلطان حد أيضا وأما المكرهة فلا تحد في قولهم جميعا فأما إيجاب الحد عليه في حال الإكراه فإن أبا حنيفة قال القياس أن يحد سواء أكرهه سلطان أو غيره ولكنه ترك القياس في إكراه السلطان ويحتمل قوله في إكراه السلطان معنيين أحدهما أن يريد به الخليفة فإن كان قد أراد هذا فإنما أسقط الحد لأنه قد فسق وانغزل عن الخلافة بإكراهه إياه على الزنا فلم يبق هناك من يقيم الحد عليه والحد إنما يقيمه السلطان فإذا لم يكن هناك سلطان لم يقم الحد كمن زنى في دار الحرب ويحتمل أن يريد به من دون الخليفة فإن كان أراد ذلك فوجهه أن السلطان مأمور بالتوصل إلى درء الحد فإذا أكرهه على الزنا فإنما أراد التوصل إلى إيجابه فلا تجوز له إقامته إذا لأنه بإكراهه أراد التوصل إلى إيجابه فلا يجوز له ذلك ويسقط الحد وأما إذا أكرهه غير سلطان فإن الحد واجب وذلك لأنه معلوم أن الإكراه ينافي الرضا وما وقع عن طوع ورضا فغير مكره عليه فلما كانت الحال شاهدة بوجوب الرضا منه بالفعل دل ذلك على أنه لم يفعله مكرها ودلالة الحال على ما وصفنا أنه معلوم أن حال الإكراه هي حال خوف وتلف النفس والانتشار والشهوة ينافيهما الخوف والوجل فلما وجد منه الانتشار والشهوة في هذه الحال علم أنه فعله غير مكره لأنه لو كان مكرها خائفا لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة وفي ذلك دليل على أن فعله ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحد فإن قيل إن وجود الانتشار لا ينافي ترك الفعل فعلمنا حين فعل مع ظهور الإكراه أنه فعله مكرها كشرب الخمر والقذف ونحوه قيل له هذا لعمري هكذا ولكنه لما كان في العادة أن الخوف على النفس ينافي الانتشار دل ذلك على أنه فعله طائعا ألا ترى أن من أكره على الكفر فأقر أنه فعله طائعا كان كافرا مع وجود الإكراه في الظاهر كذلك الحال الشاهدة بالتطوع هي بمنزلة الإقرار منه بذلك فيحد

باب

صفة الضرب في الزنا
قال الله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله روي عن الحسن وعطاء ومجاهد وأبي مجلز قالوا في تعطيل الحدود لا في شدة الضرب وروى ابن أبي مليكة عن عبيدالله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وأحسبه قال وظهرها قال فقلت لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله قال يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها وقد أوجعت حيث ضربت وروي عن سعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي قالوا في الضرب واختلف الفقهاء في شدة الضرب في الحدود فقال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر التعزير أشد الضرب وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب وضرب الشارب أشد من ضرب القاذف وقال مالك والليث الضرب في الحدود كلها سواء غير مبرح بين الضربين وقال الثوري ضرب الزنا أشد من ضرب القذف وضرب القذف أشد من ضرب الشرب وقال الحسن بن صالح ضرب الزنا أشد من ضرب الشرب والقذف وروي عن عطاء قال حد الزانية أشد من حد الفرية وحد الفرية والخمر واحد وعن الحسن قال ضرب الزنا أشد من القذف و القذف أشد من الشرب وضرب الشرب أشد من ضرب التعزير وروي عن علي أنه ضرب رجلا قاعدا وعليه كساء قسطلاني قال أبو بكر قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله لما كان محتملا لما تأوله السلف عليه من تعطيل الحد ومن تخفيف الضرب اقتضى ظاهره أن يكون عليهما جميعا في أن لا يعطل الحد تشديد في الضرب وذلك يقتضي أن يكون أشد من ضرب القاذف والشارب وإنما قالوا إن التعزير أشد الضرب وأرادوا بذلك أنه جائز للإمام أن يزيد في شدة الضرب للإيلام على جهة الزجر والردع إذ لا يمكنه فيه بلوغ الحد ولم يعنوا بذلك أنه لا محالة أشد الضرب لأنه موكول إلى رأي الإمام واجتهاده ولو رأى أن يقتصر من الضرب في التعزير على الحبس إذا كان ذا مروءة وكان ذلك الفعل منه ذلة جاز له أن يتجافى عنه ولا يعزره فعلمت أن مرادهم بقولهم التعزير أشد الضرب إنما هو إذا رأى الإمام ذلك للزجر والردع فعل وقد روى شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال كان لرجل على ابن أخ لأم سلمة رضي الله عنها دين فمات فقضت عنه فكتب إليها يحرج عليها فيه فرفعت ذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عامله اضربه ثلاثين

ضربة كلها تبضع اللحم وتحدر الدم فهذا من ضرب التعزير وروى شعبة عن واصل عن المعرور بن سويد

قال
أتى عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال أفسدت حسبها أضربوها ولا تحرقوا عليها جلدها فهذا يدل على أنه كان يرى ضرب الزاني أخف من التعزير قال أبو بكر قد دل قوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله على شدة ضرب الزاني على ما بينا وأنه أشد من ضرب الشارب والقاذف لدلالة الآية على شدة الضرب فيه ولأن ضرب الشارب كان من النبي صلى الله عليه وسلم - بالجريد والنعال وضرب الزاني إنما يكون بالسوط وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب وإنما جعلوا ضرب القاذف أخف الضرب لأن القاذف جائز أن يكون صادقا في قذفه وإن له شهودا على ذلك والشهود مندوبون إلى الستر على الزاني فإنما وجب عليه الحد لقعود الشهود عن الشهادة وذلك يوجب تخفيف الضرب ومن جهة أخرى أن القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته فغير جائز التغليظ عليه من جهة شدة الضرب فإن قيل روى سفيان بن عيينة قال سمعت سعد بن إبراهيم يقول للزهري إن أهل العراق يقولون إن القاذف لا يضرب ضربا شديدا ولقد حدثني أبي أن أمه أم كلثوم أمرت بشاة فسلخت حين جلد أبو بكرة فألبسته مسكها فهل كان ذلك إلا من ضرب شديد قيل له هذا لا يدل على شدة الضرب لأنه جائز أن يؤثر في البدن الضرب الخفيف على حسب ما يصادف من رقة البشرة ففعلت ذلك إشفاقا عليه
باب ما يضرب من أعضاء المحدود
قال الله سبحانه وتعالى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولم يذكر ما يضرب منه ظاهره يقتضي جواز ضرب جميع الأعضاء وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار فيه فروى ابن أبي ليلى عن عدي بن ثابت عن المهاجر بن عميرة عن علي رضي الله عنه أنه أتي برجل سكران أو في حد فقال اضرب واعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير وروى سفيان بن عيينة عن أبي عامر عن عدي بن ثابت عن مهاجر بن عميرة عن علي رضي الله عنه أنه قال اجتنب رأسه ومذاكيره واعط كل عضو حقه فذكر في هذا الحديث الرأس وفي الحديث الأول الوجه وجائز أن يكون قد استثناهما جميعا وروي عن عمر أنه أمر بالضرب في حد فقال أعط كل عضو حقه ولم يستثن شيئا وروى المسعودي عن

القاسم قال أتى أبو بكر برجل انتفى من ابنه فقال أبو بكر اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس وقد روي عن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات ذروا على وجه التعنت وروي عن ابن عمر أنه لا يصيب الرأس وقال أبو حنيفة ومحمد يضرب في الحدود الأعضاء كلها إلا الفرج والرأس والوجه وقال أبو يوسف يضرب الرأس أيضا وذكر الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران عن أصحاب أبي يوسف أن الذي يضرب به الرأس من الحد سوط واحد وقال مالك لا يضرب إلا في الظهر وذكر ابن سماعة عن محمد في التعزير أنه يضرب الظهر بغير خلاف وفي الحدود يضرب الأعضاء إلا ما ذكرنا وقال الحسن بن صالح يضرب في الحد والتعزير الأعضاء كلها ولا يضرب الوجه ولا المذاكير وقال الشافعي يتقى الوجه والفرج قال أبو بكر اتفق الجميع على ترك ضرب الوجه والفرج وروي عن علي استثناء الرأس أيضا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه وإذا لم يضرب الوجه فالرأس مثله لأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه وإنما أمر باجتناب الوجه لهذه العلة ولئلا يلحقه أثر يشينه أكثر مما هو مستحق بالفعل الموجب للحد والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق الوجه أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر البدن من هذا الوجه لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه فوجب من أجل ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما ووجه آخر وهو أنه ممنوع من ضرب الوجه لما يخاف فيه من الجناية على البصر وذلك موجود في الرأس لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر وربما حدث الماء في العين وربما حدث منه أيضا اختلاط في العقل فهذه الوجوه كلها تمنع ضرب الرأس وأما اجتناب الفرج فمتفق عليه وهو أيضا مقتل فلا يؤمن أن يحدث أكثر مما هو مستحق بالفعل وقال أبو حنيفة وأصحابه والليث والشافعي الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا قائما غير ممدود إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو والفرو وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة يضرب التعزير في إزار ولا يفرق في التعزير خاصة في الأعضاء وقال أبو يوسف ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة وقال الثوري لا يجرد الرجل ولا

يمد وتضرب المرأة قاعدة والرجل قائما قال أبو بكر في حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم - اليهوديين قال رأيت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة وهذا يدل على أن الرجل كان قائما والمرأة قاعدة وروى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال أتي عمر بسوط فيه شدة فقال أريد ألين من هذا فأتي بسوط فيه لين فقال أريد أشد من هذا فأتي بسوط بين السوطين فقال اضرب ولا يرى أبطك واعط كل عضو حقه وعن ابن مسعود أنه ضرب رجلا حدا فدعا بسوط فأمر فدق بين حجرين حتى لان ثم قال اضرب ولا تخرج أبطك واعط كل عضو حقه وعن علي أنه قال للجلاد اعط كل عضو حقه وروى حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به وذلك في زمن عمر بن الخطاب وروي عن أبي هريرة أنه جلد رجلا قائما في القذف قال أبو بكر هذه الأخبار تدل على معاني منها اتفاقهم على أن ضرب الحدود بالسوط ومنها أنه يضرب قائما إذ لا يمكن إعطاء كل عضو حقه إلا وهو قائم ومنها أنه يضرب بسوط بين سوطين وإنما قالوا أنه يضرب مجردا ليصل الألم إليه ويضرب القاذف وعليه ثيابه لأن ضربه أخف وإنما قالوا لا يمد لأن فيه زيادة في الإيلام غير مستحق بالفعل ولا هو من الحد وروى يزيد بن هارون عن الحجاج عن الوليد بن مالك أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه وروى ليث عن مجاهد ومغيرة عن إبراهيم قالا يجلد القاذف وعليه ثيابه وعن الحسن قال إذا قذف الرجل في الشتاء لم يلبس ثياب الصيف ولكن يضرب في ثيابه التي قذف فيها إلا أن يكون عليه فرو أو حشو يمنعه من أن يجد وجع الضرب فينزع ذلك عنه وقال مطرف عن الشعبي مثل ذلك وروى شعبة عن عدي بن ثابت عمن شهد عليا رضي الله عنه أنه أقام على رجل الحد فضربه على قبا أو قرطق ومذهب أصحابنا موافق لما روي عن السلف في هذه الأخبار ويدل على صحته أن من عليه حشو أو فرو فلم يصل الألم أن الفاعل لذلك غير ضارب في العادة ألا ترى أنه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم يصل إليه الألم إنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه ولو وصل إليه الألم كان ضاربا

في إقامة الحدود في المسجد
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي لا تقام الحدود في المساجد وهو قول الحسن بن صالح قال أبو يوسف وأقام ابن أبي ليلى حدا في المسجد فخطأه أبو حنيفة وقال مالك لا بأس بالتأديب في المسجد خمسة أسواط ونحوها وأما الضرب الموجع والحد فلا يقام في المسجد قال أبو بكر روى إسماعيل بن مسلم المكي عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل بالولد الوالد وروي عن النبي ص
- أنه قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراكم وبيعكم وإقامة حدودكم وجمروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر ومن جهة النظر أنه لا يؤمن أن يكون من المحدود بالمسجد من خروج النجاسة ما سبيله أن ينزه المسجد عنه
في
الذي يعمل عمل قوم لوط
قال أبو حنيفة يعزر ولا يحد وقال مالك والليث يرجمان أحصنا أو لم يحصنا وقال عثمان البتي والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد والشافعي هو بمنزلة الزنا وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء قال أبو بكر قال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل
نفس بغير نفس فحصر ص - قتل المسلم إلا بإحدى هذه الثلاث وفاعل ذلك خارج عن ذلك لأنه لا يسمى زنا فإن احتجوا بما روى عاصم بن عمرو عن سهيل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموا الأعلى والأسفل وارجموهما جميعا وبما روى الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به قيل له عاصم بن عمرو وعمرو بن أبي عمرو ضعيفان لا تقوم بروايتهما حجة ولا يجوز بهما إثبات حد وجائز أن يكون لو ثبت إذا فعلاه مستحلين له وكذلك نقول فيمن استحل ذلك أنه يستحق القتل وقوله فاقتلوا الفاعل والمفعول به يدل على أنه ليس بحد وأنه بمنزلة قوله من بدل دينه فاقتلوه لأن حد فاعل ذلك ليس هو قتلا على الإطلاق وإنما هو الرجم عند من جعله كالزنا إذا كان محصنا

وعند من لا يجعله بمنزلة الزنا ممن يوجب قتله فإنما يقتله رجما فقتله على الإطلاق ليس هو قولا لأحد ولو كان بمنزلة الزنا لفرق فيه بين المحصن وغير المحصن وفي تركه ص - الفرق بينهما دليل على أنه لم يوجبه على وجه الحد
في الذي يأتي البهيمة

قال
أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتي لا حد عليه ويعزر وروي مثله عن ابن عمر وقال الأوزاعي عليه الحد قال أبو بكر قوله ص - لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس ينفي قتل فاعل ذلك إذ ليس ذلك بزنا في اللغة ولا يجوز إثبات الحدود إلا من طريق التوقيف أو الاتفاق وذلك معدوم في مسئلتنا ولا يجوز إثباته من طريق المقاييس وقد روى عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة وعمر وهذا ضعيف لا تثبت به حجة ومع ذلك فقد روى شعبة وسفيان وأبو عوانة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس فيمن أتى بهيمة إنه لا حد عليه وكذلك رواه إسرائيل وأبو بكر بن عياش وأبو الأحوص وشريك وكلهم عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس مثله ولو كان حديث عمرو بن أبي عمرو ثابتا لما خالفه ابن عباس وهو رواية إلى غيره وإن صح الخبر كان محمولا على من استحله
فصل قال أبو بكر وقد أنكرت طائفة شاذة لا تعد خلافا الرجم وهم الخوارج وقد ثبت الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم -
بفعل النبي ص
- وبنقل الكافة والخبر الشائع المستفيض الذي لا مساغ للشك فيه وأجمعت الأمة عليه فروى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبدالله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وخطب عمر فقال لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في بعض المصحف وبعض هؤلاء الرواة يروي خبر رجم ماعز وبعضهم خبر الجهينية والغامدية وخبر ماعز يشتمل على أحكام منها إنه ردده ثلاث مرات ثم لما أقر الرابعة سأل عن صحة عقله فقال هل به جنة فقالوا لا وإنه استنهكه ثم قال له لعلك لمست لعلك قبلت فلما أبى إلا التصميم على الإقرار بصريح الزنا سأل عن إحصانه ثم لما هرب حين أدركته الحجارة قال هلا تركتموه وفي ترديده ثلاث مرات ثم المسألة عن عقله بعد

الرابعة دلالة على أن الحد لا يجب إلا بعد إقراره أربعا لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد قد وجب فلو كان الحد واجبا بإقراره مرة واحدة لسأل عنه في أول إقراره ومسئلته جيرانه وأهله عن عقله يدل على أن على الإمام الاستثبات والإحتياطيات في الحد ومسئلته عن الزنا كيف هو وما هو وقوله لعلك لمست لعلك قبلت يفيد حكمين أحدهما أنه لا يقصر على إقراره بالزنا دون استثباته في معنى الزنا حتى يبينه بصفة لا يختلف فيه أنه زنا وقوله لعلك لمست لعلك قبلت تلقين له الرجوع عن الزنا وأنه إنما أراد اللمس كما روي أنه للسارق ما أخاله سرق ونظيره ما روي عن عمر أنه جيء بامرأة حبلى بالموسم وهي تبكي فقالوا زنت فقال عمر ما يبكيكي فإن المرأة ربما استكرهت على نفسها يلقنها ذلك فأخبرت أن رجل ركبها وهي نائمة فقال عمر لو قتلت هذه لخشيت أن تدخل ما بين هذين الأخشبين النار فخلى سبيلها وروي أن عليا قال لشراحة حين أقرت عنده بالزنا لعلك عصيت نفسك قالت أتيت طائعة غير مكرهة فرجمها وقوله ص - هلا تركتموه يدل على جواز رجوعه عن إقراره لأنه لما امتنع مما بذل نفسه له بديا قال هلا تركتموه ولما لم يجلده دل على أن الرجم والجلد لا يجتمعان قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال الطائفة الرجل إلى الألف وقرأ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا وقال عطاء رجلان فصاعدا وقال الحسن وأبو بريدة الطائفة عشرة وقال محمد بن كعب القرظي في قوله إن نعف عن طائفة منكم قال كان رجلا وقال الزهري وليشهد عذابهما طائفة ثلاثة فصاعدا وقال قتادة ليكون عظة وعبرة لهم وحكي عن مالك والليث أربعة لأن الشهود أربعة قال أبو بكر يشبه أن المعنى في حضور الطائفة ما قاله قتادة أنه عظة وعبرة لهم فيكون زجرا له عن العود إلى مثله وردعا لغيره عن إتيان مثله والأولى أن تكون الطائفة جماعة يستفيض الخير بها ويشيع فيرتدع الناس عن مثله لأن الحدود موضوعة للزجر والردع وبالله التوفيق
باب

تزويج الزانية
قال الله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين قال أبو بكر روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن

جده قال كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان يحمل الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكان بمكة بغي يقال لها عناق وكانت صديقة له وكان وعد رجلا أن يحمله من أسرى مكة وإن عناقا رأته فقالت له أقم الليلة عندي قال يا عناق قد حرم الله الزنا فقالت يا أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فقلت يا رسول الله أتزوج عناق فلم يرد حتى نزلت هذه الاية الزاني لا ينكح
إلا زانية أو مشركة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تنكحها فبين عمرو بن شعيب في هذا الحديث أن الآية نزلت في الزانية المشركة أنها لا ينكحها إلا زان أو مشرك وإن تزوج المسلم المشركة زنا إذ كانت لا تحل له وقد اختلف السلف في تأويل الآية وحكمها فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قد نسختها الآية التي بعدها وأنكحوا الأيامى منكم قال كان يقال هي من أيامى المسلمين فأخبر سعيد بن المسيب أن الآية منسوخة قال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في قوله الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال كان رجال يريدون الزنا بنساء زوان بغايا معلنات كن كذلك في الجاهلية فقيل لهم هذا حرام فأرادوا نكاحهن فذكر مجاهد أن ذلك كان في نساء مخصوصات على الوصف الذي ذكرنا وروي عن عبدالله بن عمر في قوله الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة إنه نزل في رجل تزوج امرأة بغية على أن تنفق عليه فأخبر عبدالله بن عمر أن النهي خرج على هذا الوجه وهو أن يزوجها على أن يخليها والزنا وروى حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال يعني بالنكاح جماعها وروى ابن شبرمة عن عكرمة الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله وقال شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس بغايا كن في الجاهلية يجعلن على أبوابهن رايات كرايات البياطرة يأتيهن ناس يعرفن بذلك وروى مغيرة عن إبراهيم النخعي الزاني لا ينكح إلا زانية يعني به الجماع حين يزني وعن عروة بن الزبير مثله قال أبو بكر فذهب هؤلاء إلى أن معنى الآية الإخبار باشتراكهما في الزنا وأن المرأة كالرجل في ذلك فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثل إذا طاوعته وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها فحكم تعالى في ذلك بمساواتهما في

الزنا ويفيد ذلك مساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة وقطع الموالاة وما جرى مجرى ذلك وروي فيه قول آخر وهو ما روى عاصم الأحول عن الحسن في هذه الآية قال المحدود لا يتزوج إلا محدودة واختلف السلف في تزويج الزانية فروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من التابعين أن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها وروي عن علي وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود أنهما لا يزالان زانيين ما اجتمعا وعن علي إذا زنى الرجل فرق بينه وبين امرأته وكذلك هي إذا زنت قال أبو بكر فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية وفقهاء الأمصار متفقون على جواز النكاح وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب الفرقة بينهما ولا يخلو قوله تعالى الزاني لا ينكح إلا زانية من أحد وجهين إما أن يكون خبرا وذلك حقيقته أو نهيا وتحريما ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو العقد وممتنع أن يحمل على معنى الخبر وإن كان ذلك حقيقة اللفظ لأنا وجدنا زانيا يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني فعلمنا أنه لم يرد مورد الخبر فثبت أنه أراد الحكم والنهي فإذا كان كذلك فليس يخلو من أن يكون المراد الوطء والعقد وحقيقة النكاح هو الوطء في اللغة لما قد بيناه في مواضع فوجب أن يكون محمولا عليه على ما روي عن ابن عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع ولا يصرف إلى العقد إلا بدلالة لأنه مجاز ولأنه إذا ثبت أنه قد أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز فيه وأيضا فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجبا للفرقة إذ كانا جميعا موصوفين بأنهما زانيان لأن الآية قد اقتضت إباحة نكاح الزاني للزانية فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زنى بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما حال في الزوجية يوجب الفرقة ولا نعلم أحدا يقول ذلك وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمراة الزانية أن تتزوج مشركا ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح المشركات وتزويج المشركين محرم منسوخ فدل ذلك على أحد المعنيين إما أن يكون المراد الجماع على ما روي عن ابن عباس ومن تابعه أو أن يكون حكم الآية منسوخا على ما روي عن سعيد بن المسيب ومن الناس من يحتج في أن الزنا لا يبطل النكاح بما روى هارون بن رياب عن عبيدالله بن عبيد ويرويه عبدالكريم الجزري عن أبي

الزبير وكلاهما يرسله أن رجلا قال للنبي ص -

إن امرأتي لا تمنع يد لامس فأمر النبي ص
- بالاستمتاع منها فيحمل ذلك على أنها لا تمنع أحد ممن يريدها على الزنا وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل قالوا لو صح هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق قالوا وهذا أولى لأنه حقيقة اللفظ وحمله على الوطء كناية ومجاز وحمله على ما ذكرنا أولى وأشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم -
كما قال علي وعبدالله إذا جاءكم الحديث عن رسول الله ص
- فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهنأ والذي هو أتقى فإن قيل قال الله تعالى أو لامستم النساء فجعل الجماع لمسا قيل له إن الرجل لم يقل للنبي ص - إنها لا تمنع لامسا وإنما قال يد لامس ولم يقل فرج لامس وقال الله تعالى ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس باليد وقال جريج الخطفي يعاتب قوما ... ألستم لئاما إذ ترومون جارهم ... ولولا همو لم تمنعوا كف لامس ...
ومعلوم أنه لم يرد به الوطء وإنما أراد إنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضيم ومنع أموالكم هؤلاء القوم فكيف ترومون جارهم بالظلم ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهي عنه ما دامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح لأن الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يعني العفائف منهن ولأنها إذا كانت كذلك لا يؤمن أن تأتي بولد من الزنا فتلحقه به وتورثه ماله وإنما يحمل قول من رخص في ذلك على أنها تائبة غير مقيمة على الزنا ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما فلو كان وجود الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاع الفرقة بقذفه إياها لاعترافه بما يوجب الفرقة ألا ترى أنه لو أقر أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول فإن قيل لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللعان دل ذلك على أن الزنا يوجب التحريم لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان قيل له لو كان كما ذكرت لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان فلما لم تقع بالقذف دل على فساد ما ذكرت فإن قيل إنما وقعت الفرقة باللعان لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها بالزنا فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل

الزنا قيل له وهذا غلط أيضا لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه إياها إذ ليست إحدى الشهادتين بأولى من الأخرى ولو كان الزوج محكوما له بقبول شهادته عليها بالزنا لوجب أن تحد حد الزنا فلما لم تحد بذلك دل على انه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج والله أعلم بالصواب
باب

حد القذف
قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة قال أبو بكر الإحصان على ضربين أحدهما ما يتعلق به وجوب الرجم على الزاني وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا ودخل بها وهما كذلك والآخر الإحصان الذي يوجب الحد على قاذفه وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى قال أبو بكر قد خص الله تعالى المحصنات بالذكر ولا خلاف بين المسلمين أن المحصنين مرادون بالآية وأن الحد واجب على قاذف الرجل المحصن كوجوبه على قاذف المحصنة واتفق الفقهاء على أن قوله والذين يرمون المحصنات قد أريد به الرمي بالزنا وإن كان في فحوى اللفظ دلالة عليه من غير نص وذلك لأنه لما ذكر المحصنات وهن العفائف دل على أن المراد بالرمي رميها بضد العفاف وهو الزنا ووجه آخر من دلالة فحوى اللفظ وهو قوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يعني على صحة ما رموه به ومعلوم أن هذا العدد من الشهود إنما هو مشروط في الزنا فدل على أن قوله والذين يرمون المحصنات معناه يرمونهن بالزنا ويدل ذلك على معنى آخر وهو أن القذف الذي يجب به الحد إنما هو القذف بصريح الزنا وهو الذي إذا جاء بالشهود عليه حد المشهود عليه ولولا ما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه لم يكن ذكر الرمي مخصوصا بالزنا دون غيره من الأمور التي يقع الرمي بها إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر وسائر الأفعال المحظورة ولم يكن اللفظ حينئذ مكتفيا بنفسه في إيجاب حكمه بل كان يكون مجملا موقوف الحكم على البيان إلا أنه كيفما تصرفت الحال فقد حصل الاتفاق على أن الرمي بالزنا مراد ولما كان كذلك صار بمنزلة قوله والذين يرمون المحصنات بالزنا إذ حصول الإجماع على أن الزنا مراد بمنزلة ذكره في اللفظ فوجب بذلك أن يكون وجوب حد القذف مقصورا

بالزنا دون غيره وقد اختلف السلف والفقهاء في التعريض بالزنا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد بن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي لا حد في التعريض بالقذف وقال مالك عليه فيه الحد وروى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال كان عمر يضرب الحد في التعريض وروى ابن وهب عن مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية فاستشار في ذلك عمر الناس فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا نرى أن يجلد الحد فجلده عمر الحد ثمانين ومعلوم أن عمر لم يشاور في ذلك إلا الصحابة الذين إذا خالفوا قبل خلافهم فثبت بذلك حصول الخلاف بين السلف ثم لما ثبت أن المراد بقوله والذين يرمون المحصنات هو الرمي بالزنا لم يجز لنا إيجاب الحد على غيره إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق المقاييس وإنما طريقها الإتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف وأنه قال اجتهادا ورأيا وأيضا فإن التعريض بمنزلة الكناية المحتملة للمعاني وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين أحدهما أن الأصل أن القائل بريء الظهر من الجلد فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك فيه ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلق امرأته البتة استحلفه النبي صلى الله عليه وسلم - ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالإحتمال ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق أنها لا تجعل طلاقا إلا بدلالة والوجه الآخر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ادرؤا الحدود بالشبهات وأقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن يكون شبهة في سقوطه وأيضا قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في العدة وبين التصريح فقال ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا يعني نكاحا فجعل التعريض بمنزلة الإضمار في النفس فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف والمعنى الجامع بينهما أن التعريض لما فيه احتمال كان في حكم الضمير لوجود الاحتمال فيه واختلف الفقهاء في حد العبد في القذف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتي والثوري والشافعي إذا قذف العبد حرا فعليه أربعون جلدة وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وروى الثوري عن جعفر بن محمد

عن أبيه أن عليا قال يجلد العبد في الفرية أربعين وروى الثوري عن ابن ذكوان عن عبدالله بن عامر بن ربيعة قال أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك في القذف الأربعين قال أبو بكر وهو مذهب ابن عباس وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء وروى ليث بن أبي سليم عن القاسم بن عبدالرحمن أن عبدالله بن مسعود قال في عبد قذف حرا أنه يجلد ثمانين وقال أبو الزناد جلد عمر بن عبدالعزيز عبدا في الفرية ثمانين ولم يختلفوا في أن حد العبد في الزنا خمسون على النصف من حد الحر لأجل الرق وقال الله تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فنص على حد الأمة وأنه نصف حد الحرة واتفق الجميع على أن العبد بمنزلتها لوجود الرق فيه كذلك يجب أن يكون حده في القذف على النصف من حد الحر لوجود الرق فيه واختلفوا في قاذف المجنون والصبي فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن صالح والشافعي لا حد على قاذف المجنون والصبي وقال مالك لا يحد قاذف الصبي وإن كان مثله يجامع إذا لم يبلغ ويحد قاذف الصبية إذا كان مثلها تجامع وإن لم تحصن ويحد قاذف المجنون وقال الليث يحذ قاذف المجنون قال أبو بكر المجنون والصبي والصبية لا يقع من واحد منهم زنا لأن الوطء منهم لا يكون زنا إذ كان الزنا فعلا مذموما يستحق عليه العقاب وهؤلاء لا يستحقون العقاب على أفعالهم فقاذفهم بمنزلة قاذف المجنون لوقوع العلم بكذب القاذف ولأنهم لا يلحقهم شين بذلك الفعل لو وقع منهم فكذلك لا يشينهم قذف القاذف لهم بذلك ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد إلى المقذوف لا تجوز ولا يجوز أن يقوم غيره مقامه فيه ألا ترى أن الوكالة غير مقبولة فيه وإذا كان كذلك لم تجب المطالبة لأحد وقت القذف فلم يجب الحد لأن الحد إذا وجب فإنما يجب بالقذف لا غير فإن قيل فللرجل أن يأخذ بحد أبيه إذا قذف وهو ميت فقد جاز أن يطالب عن الغير بحد القذف قيل له إنما يطالب عن نفسه لما حصل به من القدح في نسبه ولا يطالب عن الأب وأيضا لما اتفقوا على أن قاذف الصبي لا يحد كان كذلك قاذف الصبية لأنهما جميعا من غير أهل التكليف ولا يصح وقوع الزنا منهما فكذلك المجنون لهذه العلة واختلفوا فيمن قذف جماعة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري والليث إذا قذفهم بقول واحد فعليه حد واحد وقال ابن أبي ليلى إذا قال لهم يا زناة فعليه حد واحد وإن قال لكل

إنسان يا زاني فكل إنسان حد وهو قول الشعبي وقال عثمان البتي إذا قذف جماعة فعليه لكل واحد حد وإن قال لرجل زنيت بفلانة فعليه حد واحد لأن عمر ضرب أبا بكرة وأصحابه حدا واحدا ولم يحدهم للمرأة وقال الأوزاعي إذا قال يا زاني ابن زان فعليه حدان وإن قال لجماعة إنكم زناة فحد واحد وقال الحسن بن صالح إذا قال من كان داخل هذه الدار فهو زان ضرب لمن كان داخلها إذا عرفوا وقال الشافعي فيما حكاه المزني عنه إذا قذف جماعة بكلمة واحدة فلكل واحد حد وإن قال لرجل واحد يا ابن الزانيين فعليه حدان وقال في أحكام القرآن إذا قذف امرأته برجل لاعن ولم يحد للرجل قال أبو بكر قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ومعلوم أن مراده جلد كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة فكان تقدير الآية ومن رمى محصنا فعليه ثمانون جلدة وهذا يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين ومن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فهو مخالف لحكم الآية ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا ابن أبي عدي قال أنبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم -

بشريك بن سمحاء فقال النبي ص
- البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم - يقول البينة وإلا فحد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت والذين يرمون أزواجهم وذكر الحديث وروى محمد بن كثير قال حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن ابن سيرين عن أنس أن هلال بن أمية قذف شريك بن سمحاء بامرأته فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقال ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك قال ذلك مرارا فنزلت آية اللعان قال أبو بكر قد ثبت بهذا الخبر أن قوله تعالى والذين يرمون المحصنات الآية كان حكما عاما في الزوجات كهو في الأجنبيات لقوله ص -
لهلال بن أمية ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك ولأن عموم الآية قد
اقتضى ذلك ثم لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم - على هلال إلا حدا واحدا مع قذفه لامرأته ولشريك بن سمحاء إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات ولم ينسخ موجب الخبر من وجوب الاقتصاد على حد واحد إذا قذف

جماعة فثبت بذلك أنه لا يجب على قاذف الجماعة إلا حد واحد ويدل عليه من جهة النظر أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مرارا لا يوجب إلا حدا واحدا كمن زنى مرارا أو سرق مرارا أو شرب مرارا لم يحد إلا حدا واحدا فكان اجتماع هذه الحدود التي هي من جنس واحد موجبا لسقوط بعضها والاقتصار على واحد منها والمعنى الجامع بينهما أنها حد وإن شئت قلت إنما يسقط بالشبهة فإن قيل حد القذف حق لآدمي فإذا قذف جماعة وجب أن يكون لكل واحد منهم استيفاء حده على حياله والدليل على أنه حق لآدمي أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف قيل له الحد هو حق لله تعالى كسائر الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر وإنما المطالبة به حق لآدمي لا الحد نفسه وليس كونه موقوفا على مطالبة الآدمي مما يوجب أن يكون الحد نفسه حقا لآدمي ألا ترى أن حد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة الآدمي ولم يوجب ذلك أن يكون القطع حقا للآدمي فكذلك حد القذف ولذلك لا يجيز أصحابنا العفو عنه ولا يورث ويدل على أنه حق لله تعالى اتفاق الجميع على أن العبد يجلد في القذف أربعين ولو كان حقا لآدمي لما اختلف الحر والعبد فيه إذ كان الجلد مما ينتصف ألا ترى أن العبد والحر يستويان فيما يثبت عليهما من الجنايات على الآدميين فإذا قتل العبد ثبت الدم في عنقه فإذا كان عمدا قتل وإن كان خطأ كانت الدية في رقبته كما لو قتله حر وجبت الدية فلو كان حد القذف حقا لآدمي لما اختلف مع إمكان تنصيفه الحر العبد وكذلك العبد والحر لا يختلفان في استهلاك الأموال إذ ما يثبت على الحر فمثله يثبت على العبد وقد اختلف في إقامة حد القذف من غير مطالبة المقذوف فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والأوزاعي والشافعي لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وقال ابن أبي ليلى يحده الإمام وإن لم يطالب المقذوف وقال مالك لا يحده الإمام حتى يطالب المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه يقذف فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب فثبت بذلك أن ما
بلغ النبي صلى الله عليه وسلم - من حد لم يكن يهمله ولا يقيمه فلما قال لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سمحاء ائتني بأربعة يشهدون وإلا

فحد في ظهرك ولم يحضر شهودا ولم يحده حين لم يطالب المقذوف بالحد دل ذلك على أن حد القذف لا يقام إلا بمطالبة المقذوف ويدل عليه أيضا ما روي في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة في قصة العسيف وإن أبا الزاني

قال
إن ابني زنى بامرأة هذا فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم - بقذفها وقال اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولما كان حد القذف واجبا لما انتهك من عرضه بقذفه مع إحصانه وجب أن تكون المطالبة به حقا له دون الإمام كما أن حد السرقة لما كان واجبا لما انتهك من حرز المسروق وأخذ ماله لم يثبت إلا بمطالبة المسروق منه وأما فرق مالك بين أن يسمعه الإمام أو يشهد به الشهود فلا معنى له لأن هذا إن كان مما للإمام إقامته من غير مطالبة المقذوف فواجب أن لا يختلف فيه حكم سماع الإمام وشهادة الشهود من غير سماعه
باب شهادة القذف
قال الله عز و جل ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون قال أبو بكر حكم الله تعالى في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على ما قذفه بثلاثة أحكام أحدها جلد ثمانين والثاني بطلان الشهادة والثالث الحكم بتفسيقه إلى أن يتوب واختلف أهل العلم في لزوم هذه الأحكام له وثبوتها عليه بالقذف بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمته سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الليث بن سعد والشافعي وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك شهادته مقبولة ما لم يحد وهذا يقتض من قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد لأنه لو لزمته سمة الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها إذا كان فسقه من طريق الفعل لا من جهة التدين والإعتقاد والدليل على صحة ذلك قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا فأوجب بطلان شهادته عند عجزه عن إقامة البينة على صحة قذفه وفي ذلك ضربان من الدلالة على جواز شهادته وبقاء حكم عدالته ما لم يقع الحد به أحدهما قوله ثم لم يأتوا بأربعة شهداء وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية فكان تقديره ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون

فإنما حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود فمن حكم بفسقهم بنفس القذف فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك أن تكون شهادة القاذف غير مردودة لأجل القذف فثبت بذلك أن بنفس القذف لم تبطل شهادته وأيضا فلو كانت شهادته تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة البينة على زنا المقذوف مبطلا لشهادته وهي قد بطلت قبل ذلك والوجه الآخر أن المعقول من هذا اللفظ أنه لا تبطل شهادته ما دامت إقامة البينة على زناة ممكنة ألا ترى أنه لو قال رجل لامرأته أنت طالق إن كلمت فلان ثم لم تدخلي الدار أنها إن كلمت فلانا لم تطلق حتى تترك دخول الدار إلى أن تموت فتطلق حينئذ قبل موتها بلا فصل وكذلك لو قال أنت طالق إن كلمت فلانا ولم تدخلي الدار كان بهذه المنزلة وكان الكلام وترك الدخول إلى أن تموت شرطا لوقوع الطلاق ولا فرق بين قوله أنت طالق إن كلمت فلانا ثم دخلت الدار وبين قوله إن كلمت فلانا ثم لم تدخليها وإن افترقا من جهة أن شرط اليمين في أحدهما وجود الدخول وفي الآخر نفيه ولما كان ذلك كذلك وكان قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء مقتضيا لشرطين في بطلان شهادة القاذف أحدهما الرمي والآخر عدم الشهود على زنا المقذوف متراخيا عن القذف وفوات الشهادة عليه به فما دامت إقامة الشهادة عليه بالزنا ممكنة بخصومة القاذف فقد اقتضى لفظ الآية بقاءه على ما كان عليه غير محكوم ببطلان شهادته وأيضا لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان شهادته بنفس القذف أو أن يكون محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه فلو كان محكوما بكذبه بنفس القذف ولذلك بطلت شهادته فواجب أن لا يقبل

بعد
ذلك بينة على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقة في كون المقذوف زانيا فلما لم يختلفوا في حكم قبول بينته على المقذوف بالزنا وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه لم يوجب أن يكون كاذبا فواجب أن لا تبطل شهادته إذ لم يحكم بكذبه لأن من سمعناه بخبر يخبر لا نعلم فيه صدقه من كذبه لم تبطل به شهادته إلا ترى أن قاذف امرأته بالزنا لا تبطل شهادته بنفس القذف ولا يكون محكوما بكذبه بنفس قذفه ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته ولما أمر أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه ولما وعظ في ترك اللعان الكاذب منهما ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم - بعد

مالا عن بين الزوجين الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب فأخبر أن أحدهما بغير عينه هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف دون الزوجة وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب تفسيقه ولا الحكم بتكذيبه ويدل عليه قوله عز و جل لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط بل إذا لم يأتوا بالشهداء ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا بالشهداء عند الخصومة في القذف فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه الشريطة وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية فإن قيل لما قال الله تعالى لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين دل ذلك على أن على الناس إذا سمعوا من يقذف آخر أن يحكموا بكذبه ورد شهادته إلى أن يأتي بالشهداء قيل له معلوم أن الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها وقذفتها لأنه قال تعالى إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم الى قوله لولا إذ سمعتموه وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك وقاذفوها أيضا لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنا منهم وحسبانا حين تخلفت ولم يدع أحد منهم أنه رأى ذلك ومن أخبر عن ظن في مثله فعلينا إكذابه والنكير عليه وأيضا لما قال في نسق التلاوة فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فحكم بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة علمنا أنه لم يرد بقوله وقالوا هذا إفك مبين إيجاب الحكم بكذبهم بنفس القذف وإن معناه وقالوا هذا إفك مبين إذ سمعوه لم يأت القاذف بالشهود والشافعي يزعم أن شهود القذف إذا جاؤا متفرقين قبلت شهادتهم فإن كان القذف قد أبطل شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاث لأنه قد فسق بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه وفي قبول شهادتهم إذا جاؤا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف ويدل على صحة قولنا من جهة السنة ما روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف فأخبر ص
- ببقاء عدالة القاذف مالم يحد ويدل عليه أيضا حديث ابن منصور عباد عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -
فقال رسول الله ص
- أيجلد هلال

وتبطل شهادته في المسلمين فأخبر أن بطلان شهادته معلق بوقوع الجلد به ودل بذلك أن القذف لم يبطل شهادته واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف والثوري والحسن بن صالح لا تقبل شهادته إذا تاب وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب وقال مالك وعثمان البتي والليث والشافعي تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب وقال الأوزاعي لا تقبل شهادة محدود في الإسلام قال أبو بكر روى الحجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ثم استثنى فقال إلا الذين تابوا فتاب عليهم من الفسق وأما الشهادة فلا تجوز حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا حجاج وقد ورد عن ابن عباس أيضا ما حدثنا جعفر ابن محمد قال حدثنا ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون قال ثم قال إلا الذين تابوا قال فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله مقبولة قال أبو بكر ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفا لما روي عنه في الحديث الأول بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب والأول على أنه جلد فلا تقبل شهادته وإن تاب وروي عن شريح وسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا لا تجوز شهادته وإن تاب إنما توبته فيما بينه وبين الله وقال إبراهيم رفع عنهم بالتوبة اسم الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبدا وروي عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد وسالم والزهري أن شهادته تقبل إذا تاب وروي عن عمر بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبي بكرة إن تبت قبلت شهادتك وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان عن سعيد بن المسيت ثم شك وقال هو عمر بن قيس أن عمر قال لأبي بكرة إن تبت قبلت شهادتك فأبى أن يتوب فشك سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس ويقال إن عمر بن قيس مطعون فيه فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا القول ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبي بكرة وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف وقد روي عن سعيد بن المسيب أن شهادته غير مقبولة

بعد التوبة فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا إلى ما هو أقوى منه ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبي بكرة بعد ما جلده وجائز أن يكون قاله قبل الجلد قال أبو بكر ما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى إبطال الشهادة وسمة الفسق جميعا فيرفعهما والدليل على أن الاستثناء مقصور الحكم على ما يليه من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة والدليل عليه قوله تعالى إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فكانت المرأة مستثناة من المنجين لأنها تليهم ولو قال رجل لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم مستثنى من الثلاثة وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما يليه ويدل عليه أيضا أن قوله فإن لم تكونوا دخلتم بهن في معنى الاستثناء وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء لأنه يليهن فثبت بما وصفنا صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه وأيضا فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل عليها الاستثناء عموما وجب أن يكون حكم العموم ثابتا وأن لا نرفعه باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها فإن قيل قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا إلى قوله إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور لكونه معطوفا بعضه على بعض وقال تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا ثم قال وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحدث فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه قيل له قد بينا أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا بدلالة وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى المذكور فإن قيل إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة إلى جميعه وكان ذلك متعالما مشهورا في

اللغة فما الدلالة على وجوب الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع قيل له لو سلمنا لك ما ادعيت من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه وإلى جميع المذكور وإذ كان كذلك وكان اللفظ الأول عموما مقتضيا للحكم في سائر الأحوال لم يجز رد الاستثناء إليه بالاحتمال إذ غير جائز تخصيص العموم بالاحتمال ووجب استعمال حكمه في المتيقن وهو ما يليه دون ما تقدمه فإن قيل ما أنكرت أن لا يكون اللفظ الأول عموما مع دخول الاستثناء على آخر الكلام بل يصير في حيز الاحتمال ويبطل اعتبار العموم فيه إذ ليس اعتبار عمومه بأولى من اعتبار عموم الاستثناء في عوده إلى الجميع وإذا بطل فيه اعتبار العموم وقف موقف الاحتمال في إيجاب حكمه فسقط اعتبار عموم اللفظ فيه قيل له هذا غلط من قبل أن صيغة اللفظ الأول صيغة العموم لا تدافع بيننا فيه وليس للاستثناء صيغة عموم يقتضي رفع الجميع فوجب أن يكون حكم الصيغة الموجبة للعموم مستعملا فيه وأن لا نزيلها عنه إلا بلفظ يقتضي صيغته رفع العموم وليس ذلك بموجود في لفظ الاستثناء فإن قيل لو قال رجل عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا إن شاء الله فكان استثناؤه راجعا إلى جميع الأيمان إذ كانت معطوفة بعضها على بعض قيل له ليس هذا مما نحن فيه في شيء لأن هذا الضرب من الاستثناء مخالف للاستثناء الداخل على الجملة بحروف الاستثناء التي هي إلا وغير وسوى ونحو ذلك لأن قوله إن شاء الله يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت منه شيء والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله إلا لرفع حكم الكلام رأسا ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء ولو قال أنت طالق إلا طالق كان الطلاق واقعا والإستثناء باطلا لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام ولذلك جاز أن يكون قوله إن شاء الله راجعا إلى جميع المذكور المعطوف بعضه على بعض ولم يجب مثله فيما وصفنا فإن قيل فلو كان قال أنت طالق وعبدي حر إلا أن يقدم فلان كان الاستثناء راجعا إلى الجميع فإن لم يقدم فلان حتى مات طلقت امرأته وعتق عبده وكان ذلك بمنزلة قوله إن شاء الله قيل له ليس ذلك على ما ظننت من قبل أن قوله إلا أن يقدم فلان وإن كانت صيغته صيغة الاستثناء فإنه في معنى الشرط

كقوله إن لم يقدم فلان وحكم الشرط أن يتعلق به جميع المذكور إذا كان بعضه معطوفا على بعض وذلك لأن الشرط يشبه الإستثناء الذي هو مشيئة الله عز و جل من حيث كان وجوده عاملا في رفع الكلام حتى لا يثبت منه شيء ألا ترى أنه ما لم يوجد الشرط لم يقع شيء وجائز أن لا يوجد الشرط أبدا فيبطل حكم الكلام رأسا ولا يثبت من الجزاء شيء فلذلك جاز رجوع الشرط إلى جميع المذكور كما جاز رجوع الإستثناء بمشيئة الله تعالى قال أبو بكر وقوله إلا أن يقدم فلان هو شرط وإن دخل عليه حرف الإستثناء وأما الإستثناء المحض الذي هو قوله إلاالذين تابوا و إلا آل لوط وما جرى مجراه فإنه لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء ألا ترى أن قوله ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لا بد من أن يكون حكمه ثابتا في وقت ما وإن من رد الإستثناء إليه فإنما يرفع حكمه في بعض الأوقات بعد ثبات حكمه في بعضها وكذلك قوله إلا آل لوط غير جائز أن يكون رافعا لحكم النجاة عن الأولين وإنما عمل في بعض ما انتظمه لفظ العموم ويستدل بما ذكرنا على أن حقيقة هذا الضرب من الإستثناء رجوعه إلى ما يليه دون ما تقدمه وأن لا يرد إلى ما تقدمه إلا بدلالة وذلك لأنه لما استحال دخول هذا الإستثناء لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء وجب أن يكون مستعملا في البعض دون الكل فإذا وجب ذلك كان ذلك البعض الذي عمل فيه هو المتيقن دون غيره بمنزلة لفظ لا يصح اعتقاد العموم فيه فيكون حكمه مقصورا على الأقل المتيقن دون اعتبار لفظ العموم كذلك الإستثناء ولما جاز دخول شرط مشيئة الله تعالى وسائر شروط الأيمان لرفع حكم اللفظ رأسا وجب استعماله في جميع المذكور وأن لا يخرج منه شيء إلا بدلالة ويدل على أن الإستثناء في قوله إلا الذين تابوا مقصور على ما يليه دون ما تقدمه ان قوله فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا كل واحد منهما أمر وقوله وأولئك هم الفاسقون خبر والإستثناء داخل عليه فوجب أن يكون موقوفا عليه دون رجوعه إلى الأمر وذلك لأن الواو في قوله وأولئك هم الفاسقون للإستقبال إذ غير جائز أن يكون للجميع لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد ويدل عليه أنه لم يرجع إلى الحد إذا كان أمرا ونظيره قول القائل أعط زيدا درهما ولا تدخل الدار وفلان خارج إن شاء الله أن مفهوم الكلام رجوع الإستثناء

إلى الخروج دون ما تقدم من ذكر الأمر كذلك يجب أن يكون حكم الإستثناء في الآية لا فرق بينهما فإن قيل قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا إلى قوله ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ثم قال إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ومعلوم أن ما تقدم في أول الآية أمر وقوله ذلك لهم خزي في الدنيا خبر فرجع الإستثناء إلى الجميع ولم يختلف حكم الخبر والأمر قيل له إنما جاز ذلك لأن قوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله وإن كان أمرا في الحقيقة فإن صورته صورة الخبر فلما كان الجميع في صورة الخبر جاز رجوع الإستثناء إلى الجميع ولما كان قوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا أمرا على الحقيقة ثم عطف عليه الخبر وجب أن لا يرجع إلى الجميع ومع ذلك فإنا نقول متى اختلف صيغ المعطوف بعضه على بعض لم يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم مما ليس في مثل صيغته إلا بدلالة فإن قامت الدلالة جاز رده إليه وقد قامت الدلالة في آية المحاربين ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه فهو مبقي على حكمه في الأصل فإن قيل لما كانت الواو للجمع ثم قال فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون صار الجميع كأنه مذكور معا لا تقدم لواحد منهما على الآخر فلما أدخل عليه الإستثناء لم يكن رجوع الإستثناء إلى شيء من المذكور بأولى من رجوعه إلى الآخر إذ لم يكن تقديم بعضها على بعض حكم في الترتيب فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معا فليس رجوع الإستثناء إلى سمة الفسق بأولى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحد ولولا قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحد لاقتضى ذلك رجوعه أيضا وزواله عنه بالتوبة وقيل له إن الواو قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للإستئناف وهي في قوله وأولئك هم الفاسقون للإستئناف لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة واحدة فيصير الكل كالمذكور معا وذلك في نحو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى آخر الآية لأن الجميع أمر كأنه قال فاغسلوا هذه الأعضاء لأن الجميع قد تضمنه لفظ الأمر فصارت كالجملة الواحدة المنتظمة لهذه الأوامر وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر ولا يجوز أن ينتظمهما جملة واحدة فلذلك كانت الواو للإستئناف إذ غير جائز دخول معنى الخبر في لفظ الأمر وقوله إنما جزاء الذين

يحاربون الله ورسوله الإستثناء فيه عائدا إلى الأمر بالقتل وما ذكر معه وغير عائد إلى الخبر الذي يليه لأن قوله إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم لا يجوز أن يكون عائدا إلى قوله ولهم في الآخرة عذاب عظيم لأن التوبة تزيل عذاب الآخرة قبل القدرة عليهم وبعدها فعلمنا أن هذه التوبة مشروطة للحد دون عذاب الآخرة ودليل آخر وهو أن قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لا يخلو من أن يكون بطلان هذه الشهادة متعلقا بالفسق أو يكون حكما على حياله تقتضي الآية تأبيده فلما كان حمله على بطلانها بلزوم سمة الفسق يبطل فائدة ذكره إذ كان ذكر التفسيق مقتضيا لبطلانها إلا بزواله والتوبة منه وجب حمله على أنه حكم برأسه غير متعلق بسمة الفسق ولا بترك التوبة وأيضا فإن كل كلام فحكمه قائم بنفسه وغير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة وفي حمله على ما ادعاه المخالف تضمينه بغيره وإبطال حكمه بنفسه وذلك خلاف مقتضى اللفظ وأيضا فإن حمله على ما ادعى يوجب أن يكون الفسق المذكور في الآية علة لما ذكر من إبطال الشهادة فيكون تقديره ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا لأنهم فاسقون وفي ذلك إزالة اللفظ عن حقيقته وصرفه إلى مجاز لا دلالة عليه لأن حكم اللفظ أن يكون قائما بنفسه في إيجاب حكمه وأن لا يجعل علة لغيره مما هو مذكور معه ومعطوف عليه فثبت بذلك أن بطلان الشهادة بعد الجلد حكم قائم بنفسه على وجه التأبيد المذكور في الآية غير موقوف على التوبة فإن قيل رجوع الإستثناء إلى الشهادة أولى منه إلى الفسق لأنه معلوم أن التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية فلا يكون رده إلى الفسق مفيدا ورده إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة إذ كان جائزا أن تكون الشهادة مردودة مع وجود التوبة فأما بقاء سمة الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في عقل ولا سمع إذ كانت سمة الفسق ذما وعقوبة وغير جائز أن يستحق التائب الذم وليس كذلك بطلان الشهادة ألا ترى أن العبد والأعمى غير جائزي الشهادة لا على وجه الذم والتعنيف لكن عبادة فكان رجوع الإستثناء إلى الشهادة أولى بإثبات فائدة الآية منه إلى الفسق قيل أن التوبة المذكورة في هذه الآية إنما هي التوبة من القذف وإكذاب نفسه فيه لأنه به استحق سمة الفسق وقد كان جائزا أن تبقى سمة الفسق عليه إذا تاب من سائر الذنوب ولم يكذب نفسه فأخبر الله تعالى بزوال سمة الفسق عنه إذا أكذب نفسه ووجه آخر وهو أن سمة الفسق إنما لزمته بوقوع الجلد

به ولم يكن يمتنع عند إظهار التوبة أن لا تكون مقبولة في ظاهر الحال وإن كانت مقبولة عند الله لأنا لا نقف على حقيقة توبته فكان جائزا أن يتعبدنا بأن لا نصدقه على توبته وأن نتركه على الجملة لا نتولاه على حسب ما نتولى سائر أهل التوبة فلما كان ذلك جائزا ورود العبادة به أفادتنا الآية قبول توبته ووجوب موالاته وتصديقه على ما ظهر من توبته فإن قيل لما اتفقا على أن الذمي المحدود في القذف تقبل شهادته إذا أسلم وتاب دل ذلك من وجهين على قبول شهادة المسلم المحدود في القذف أحدهما أنه قد ثبت أن الإستثناء راجع إلى بطلان الشهادة إذ كان الذمي مرادا بالآية وقد أريد به كون بطلان الشهادة موقوفا على التوبة والثاني أنه لما رفعت التوبة الحكم ببطلان شهادته كان المسلم في حكمه لوجود التوبة منه قيل له ليس الأمر فيه على ما ظننت وذلك لأن الذمي لم يدخل في الآية وذلك لأن الآية إنما اقتضت بطلان شهادة من جلد وحكم بفسقه من جهة القذف والذمي قد تقدمت له سمة الفسق فلما لم يستحق هذه السمة بالجلد لم يدخل في الآية وإنما جلدناه بالإتفاق ولم يحصل الإتفاق على بطلان شهادته بعد إسلامه بالجلد الواقع في حال كفره فأجزناها كما نجيز شهادة سائر الكفار إذا أسلموا فإن قيل فيجب على هذا أن لا يكون الفاسق من أهل الملة مرادا بالآية إذ لم يتحدث سمة الفسق بوقوع الحد به قيل له هو كذلك وإنما دخل في حكمها بالمعنى لا باللفظ وإنما أجاز أصحابنا شهادة الذمي المحدود في القذف بعد إسلامه وتوبته من قبل أن الحد في القذف يبطل العدالة من وجهين أحدهما عدالة الإسلام والآخر عدالة الفعل والذمي لم يكن مسلما حين حد فيكون وقوع الحد به مبطلا لعدالة إسلامه وإنما بطلت عدالته من جهة الفعل فإذا أسلم فأحدث توبة فقد حصلت له عدالة من جهة الإسلام ومن طريق الفعل أيضا فالتوبة فلذلك قبلت شهادته وأما المسلم فإن الحد قد أسقط عدالته من طريق الدين ولم يتحدث بالتوبة عدالة أخرى من جهة الدين إذ لم يتحدث دينا بتوبته وإنما استحدث عدالة من طريق الفعل فلذلك لم تقبل شهادته إذ كان شرط قبول الشهادة وجود العدالة من جهة الدين والفعل جميعا فإن قيل لما اتفقنا على قبول شهادته إذا تاب قبل وقوع الحد به دل ذلك على أن الإستثناء راجع إلى الشهادة كرجوعه إلى التفسيق فوجب على هذا أن يكون مقتضيا لقبولها بعد الحد كهو قبله قيل له إن شهادته لم تبطل بالقذف قبل وقوع الحد به ولا وجب الحكم

بتفسيقه لما بيناه في المسألة المتقدمة ولو لم يتب وأقام على قذفه كانت شهادته مقبولة وإنما بطلان الشهادة ولزومه سمة الفسق مرتب على وقوع الحد به فالإستثناء إنما رفع عنه سمة الفسق التي لزمه بعد وقوع الحد فأما قبل ذلك فغير محتاج إلى الإستثناء في الشهادة ولا في الحكم بالتفسيق ودليل آخر على صحة قولنا وهو أنا قد اتفقنا على أن التوبة لا تسقط الحد ولم يرجع الإستثناء إليه فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله لأنهما جميعا أمران قد تعلقا بالقذف فمن حيث لم يرجع الإستثناء إلى الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة وأما التفسيق فهو خبر ليس بأمر فلا يلزم على ما وصفنا ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد حق لآدمي فكذلك بطلان الشهادة حق لآدمي ألا ترى أن الشهادات إنما هي حق للمشهود له وبمطالبة يصح أداؤها وإقامتها كما تصح إقامة حد القذف بمطالبة المقذوف فوجب أن يكونا سواء في أن التوبة لا ترفعهما وأما لزوم سمة الفسق فلا حق فيه لأحد فكان الإستثناء راجعا إليه ومقصورا عليه فإن قيل إذا كان التائب من الكفر مقبول الشهادة فالتائب من القذف أحرى به قيل له التائب من الكفر يزول عنه القتل ولا يزول عن التائب من القذف حد القذف فكما جاز أن تزيل التوبة من الكفر القتل عن الكفار جاز أن تقبل توبته ولا يلزم عليه التائب من القذف لأن توبته لا تزيل الجلد عنه وأيضا فإن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الإجرام ألا ترى أن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحد والقاذف بالزنا يجب عليه الحد فغلظ أمر القذف من هذا الوجه بما لم يغلظ به أمر القذف في أحكام الدنيا وإن كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم فإن قيل فإذا تاب وأصلح فهو عدل ولي لله تعالى وقد كان بطلان شهادته بديا على وجه العقوبة والتوبة تزيل العقوبة وتوجب العدالة والولاية فغير جائز بطلان شهادته بعد توبته قيل له لا يكون بطلان شهادته بعد توبته على وجه العقوبة بل على جهة المحنة كما لا تكون إقامة الحد عليه بعد التوبة على جهة العقوبة بل على جهة المحنة ولله أن يمتحن عباده بما شاء على وجه المصلحة ألا ترى أن العبد قد يكون عدلا مرضيا عند الله وليا لله تعالى وهو غير مقبول الشهادة وكذلك الأعمى وشهادة الوالد لولده ومن جرى مجراه فليس بطلان الشهادة في الأصول موقوفا على الفسق وعلى وجه العقوبة حتى يعارض فيه بما ذكرت ومما يدل على أن توبة القاذف لا توجب جواز شهادته أن شهادته إنما بطلت بحكم الحاكم عليه بالجلد وجلده إياه ولم تبطل بقذفه

لما قد بينا فيما سلف فلما تعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم لم يجز إجازتها إلا بحكم الحاكم بجوازها لأن في الأصول أن كل ما تعلق ثبوته بحكم الحاكم لم يزل ذلك الحكم عنه إلا بما يجوز ثبوته من طريق الحكم كالإملاك والعتاق والطلاق وسائر الحقوق فلما لم تكن توبته مما تصح الحصومة فيه ولا يحكم بها الحاكم لم يجز لنا إبطال ما قد ثبت بحكم الحاكم فإن قيل فرقة اللعان والعنين وما جرى مجراها متعلقة بحكم الحاكم وقد يجوز أن يتزوجها فيعود النكاح فكذلك بطلان شهادة القاذف وإن كان متعلقا بحكم الحاكم فإن ذلك لا يمنع إطلاق شهادته عند توبته ويكون حكم الحاكم بديا ببطلانها مقصورا على الحال التي لم تحدث فيها توبة كما أن الفرقة الواقعة بحكم الحاكم إنما هي مقصورة على الحال التي لم يكن منهما فيها عقد مستقبل قيل له لأن النكاح الثاني مما يجوز وقوع الحكم به فجاز أن تبطل به الفرقة الواقعة بحكم الحاكم والتوبة ليست مما يحكم به الحاكم فلا تثبت فيه الخصومات فلم يجز أن يبطل به حكم الحاكم ببطلان شهادته ولكنه لو شهد الفاذف بشهادة عند حاكم يرى قبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة فحكم بجواز شهادته بعد حكمه جازت شهادته فإن قيل فلو أن رجلا زنى فحده الحاكم ثم تاب جازت شهادته بعد التوبة ولم يكن حكم الحاكم مانعا من قبولها بعد التوبة قيل له الزاني لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم وإنما بطلت بزناه قبل أن يحده الحاكم لظهور فسقه فلما لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم بل بفعله جازت عند ظهور توبته وشهادة القاذف لم تبطل بقذفه لما بينا فيما سلف لأنه جائز أن يكون صادقا وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلد الحاكم إياه فأما قبل ذلك فهو في حكم من لم يقذف ويدل على ذلك من جهة السنة حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين وذكر الحديث فأخبر رسول الله ص
- أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها وقد روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف قال أبو بكر ولم يستثن فيه وجود التوبة منه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا مروان عن يزيد بن أبي خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ص

لا تجوز في الإسلام شهادة مجرب عليه شهادة زور ولا خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر لأخيه ولا الصانع لأهل البيت ولا ظنين ولا قرابة فأبطل ص - القول بإبطال شهادة المحدود فظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حد قذف أو غيره إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب مما حد فيه ولم تقم الدلالة في المحدود في القذف لهو على عموم لفظه تاب أو لم يتب وإنما قبلنا شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب لأن بطلان شهادته متعلق بالفسق فمتى زالت عنه سمة الفسق كانت شهادته مقبولة والدليل على ذلك أن الفعل الذي استحق به الحد من زنا أو سرقة أو شرب خمر قد أوجب تفسيقه قبل وقوع الحد به فلما لم يتعلق بطلان شهادته بالحد كان بمنزلة سائر الفساق إذا تابوا فتقبل شهاداتهم وأما المحدود في القذف فلم يوجب القذف بطلان شهادته قبل وقوع الحد به لأنه جائز أن يكون صادقا في قذفه وإنما بطلت شهادته بوقوع الحد به فلم تزل ذلك عنه بتوبته قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء قال أبو بكر قد اقتضت هذه الآية أن يكون شهود الزنا أربعة كما أوجب قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقوله وأشهدوا ذوي عدل منكم قبول شهادة العدد المذكور فيه وامتناع جواز الاقتصار على أقل منه وقال تعالى في سياق التلاوة عند ذكر أصحاب الإفك لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فجعل عد الشهود المبرئ للقاذف من الحد أربعة وحكم بكذبه عند عجزه عن إقامة أربعة شهداء وقد بين تعالى عدد شهود الزنا في قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم الآية وأعاد ذكر الشهود الأربعة عند القذف إعلاما لنا أن القاذف لا تبرئه من الجلد إلا شهادة أربعة واختلف الفقهاء في القاذف إذا جاء بأربعة شهداء فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا فقال أصحابنا وعثمان البتي والليث بن سعد لا حد على الشهود وإن كانوا فساقا وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف في رجل قذف رجلا بالزنا ثم جاء بأربعة فساق يشهدون أنه زان أنه يحد القاذف ويدرأ عن الشهود وقال زفر يدرأ عن القاذف وعن الشهود وقال مالك وعبيدالله بن الحسن يحد الشهود قال أبو بكر ولم يختلف أصحابنا لو جاء بأربعة كفار أو محدودين في قذف أو عبيدا أو عميان أن القاذف والشهود جميعا يحدون للقذف فأما إذا

كانوا فساقا فإن ظاهر قوله ثم لم يأتوا بأربعة شهداء قد تناولهم إذ لم يشرط في سقوط الحد عن القاذف العدول دون الفساق فوجب بمقتضى الآية زوال الحد عن القاذف إذ جعل شرط وجوب الحد أن لا يأتي بأربعة شهداء وهو قد أتى بأربعة شهداء إذ كان الشهداء اسما لمن أقام الشهادة فإن قيل يلزمك مثله في الكفار والمحدودين في القذف ونحوهم قيل له قد اقتضى الظاهر ذلك وإنما خصصناه بدلالة وأيضا فإن الفساق إنما ردت شهادتهم للتهمة وكان ذلك شبهة في ردها فغير جائز إيجاب الحد عليهم بالشبهة التي ردت من أجلها شهادتهم ووجب سقوط الحد عن القاذف أيضا بهذه الشهادة كما أسقطناها عنهم إذ كان سبيل الشبهة أن يسقط بها الحد ولا يجب بها الحد وأما المحدود في القذف والكافر والعبد والأعمى فلم نرد شهادتهم للتهمة ولا لشبهة فيها وإنما رددناها لمعان متيقنة فيهم تبطل الشهادة وهي الحد والكفر والرق والعمى فلذلك حددناهم ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عنهم وعن القاذف ووجه آخر وهو أن الفساق من أهل الشهادة وإنما رددناها اجتهادا وقد يسوغ الاجتهاد لغيرنا في قبول شهادتهم إذا كان ما نحكم نحن بأنه فسق يوجب رد الشهادة قد يجوز أن يراه غيرنا غير مانع من قبول الشهادة فلما كان كذلك لم يكن لنا إيجاب الحد على الشهود ولا على القاذف بالاجتهاد وأما الحد في القذف والكفر ونظائرهما فليس طريق إثباتها الاجتهاد بل الحقيقة فلذلك جاز أن يحدوا ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عن القاذف وأيضا فإن الفاسق غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق ليس بمعنى يحكم به الحاكم ولا يسمع عليه البينات فلما لم يحكم بطلان شهادتهم ولا كان الفسق مما تقوم به البينات ويحكم به الحاكم لم يجز الحكم ببطلان شهادتهم في إيجاب الحد عليهم ولما كان حد القذف والكفر والرق والعمى مما يقع الحكم به وتقوم عليه البينات كان محكوما ببطلان شهادتهم وخرجوا بذلك من أن يكونوا من أهل الشهادة فوجب أن يحدوا لوقوع الحكم بالسبب الموجب لخروجهم من أن يكونوا من أهل الشهادة وأيضا فإن الفسق من الشاهد غير متيقن في حال الشهادة إذ جائز أن يكون عدلا بتوبته في الحال فيما بينه وبين الله وأما الكفر والحد والعمى والرق فقد علمنا أنه غير زائل وهو المانع له من كونه شاهدا فلذلك اختلفا فإن قيل جائز أن يكون الكافر قد أسلم أيضا فيما بينه وبين الله قيل له لا يكون مسلما باعتقاده الإسلام دون إظهاره في الموضع الذي يمكنه

إظهاره فإذا لم يظهره فهو باق على كفره فقول زفر في هذه المسألة أظهر لأنه إن جاز أن يكون فسق الشهود غير مخرج لهم من أن يكونوا من أهل الشهادة في باب سقوط الحد عنهم فكذلك حكمهم في سقوطه عن القاذف قال أبو بكر اختلف الفقهاء في شهود الزنا إذا جاؤا متفرقين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح يحدون وقال عثمان البتي والشافعي لا يحدون وتقبل شهادتهم ثم قال الشافعي إذا كان الزنا واحدا قال أبو بكر لما شهد الأول وحده كان قاذفا بظاهر قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاقتضى أن يكون الأربعة غيره إذ غير جائز أن يكون المعقول منه دخوله في الأربعة لأنه لا يقال ائت بنفسك بعد الشهادة أو القذف كما لا يجوز أن يقال ائت بأربعة سواك ولأنهم لم يختلفوا أنه إذا قال لها أنت زانية أنه مكلف لأن يأتي بأربعة غيره يشهدون بالزنا وليس هو منهم فكذلك قوله أشهد إنك زانية وإذا كان كذلك فقد اقتضى ظاهر الآية إيجاب الحد على كل قاذف سواء كان قذفه بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة فلما كان ذلك حكم الأول كان كذلك حكم الثاني والثالث والرابع إذ كان كل واحد منهم قاذف محصنة قد أوجب الله عليه الحد ولم يبرئه منه إلا بشهادة أربعة غيره فإن قيل إنما أوجب الله عليه الحد إذا كان قاذفا ولم يجئ مجيء الشهادة فأما إذا جاء مجيء الشهادة بأن يقول أشهد أن فلانا زنى فليس هذا بقاذف قيل له قذفه إياها بلفظ الشهادة لا يخرجه من حكم القاذفين ألا ترى أنه لو لم يشهد معه غيره لكان قاذفا وكان الحد له لازما فلما كان كذلك علمنا أن إيراده القذف بلفظ الشهادة لا يخرجه من أن يكون قاذفا بعد أن يكون وحده وأيضا فقد تناوله عموم قوله والذين يرمون المحصنات إذ كان راميا وإنما ينفصل حكم الرامي من حكم الشاهد إذا جاء أربعة مجتمعين وهم العدد المشروط في قبول الشهادة فلا يكونون مكلفين لأن يأتوا بغيرهم فأما من دون الأربعة إذا جاؤا قاذفين بلفظ الشهادة أو بغير لفظها فإنهم قذفة إذ هم مكلفين للإتيان بغيرهم في صحة قذفهم فإن قيل قد روي أن نافع بن الحارث كتب إلى عمر رضي الله عنه أن أربعة جاؤا يشهدون على رجل وامرأة بالزنا فشهد ثلاثة أنهم رأوه كالميل في المكحلة ولم يشهد الرابع بمثل ذلك فكتب إليه عمر إن شهد الرابع على مثل ما شهد عليه الثلاثة فاجلدهما وإن كانا محصنين فارجمهما وإن لم يشهد إلا بما كتبت به إلي فاجلد الثلاثة وخل

سبيل الرجل والمرأة وهذا يدل على أنه لو شهد مع الثلاثة آخر أنهم لا يحدون وقبلت شهادتهم مع كون الثلاثة بديا منفردين قيل له ليس في ذلك دلالة على ما ذكرت وذلك لأن الرجل الذي لم يشهد بما شهد به الآخرون لم ينفرد عنهم بل جاؤا مجتمعين مجيء الشهادة وجائز أن يكون الجميع شهدوا بالزنا فلما استثبتوا بالرجل أن يصرح بما صرح به الثلاثة فأمر عمر بأن يوقف الرجل فإن أتى بالتفسير على ما أتى به القوم حد المشهود عليهما وإن هو لم يأت بالتفسير أبطل شهادته وجعل الثلاثة منفردين فحدهم ولم يقل عمر إن جاء رابع فشهد معهم فاقبل شهادتهم فيكون قابلا لشهادة الثلاثة المنفردين مع واحد جاء بعدهم وقد جلد أبا بكرة وأصحابه لما نكل زيادة عن الشهادة ولم يقل لهم ائتوا بشاهد آخر يشهد بمثل شهادتكم وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكره عليه أحد منهم ولو كان قبول شهادة شاهد واحد منهم لو شهد معهم جائزا لوقف الأمر واستثبتهم وقال هل يشهد بمثل شهادتكم شاهد آخر وإذا لم يقل ذلك ولم يوقف أمرهم بما عزم عليه من حدهم دل على أنهم قد صاروا قذفة قد لزمهم الحد وأنه لم يكن يبرئهم من الحد إلا شهادة أربعة آخرين فإن قيل فهو لم يقل لهم هل معكم أربعة يشهدون بمثل شهادتكم ولم يوقف أمر الحد عليهم لجواز ذلك فكذلك في الشاهد الواحد لو شهد بمثل شهادتهم قيل له لأنه لم يكن يخفى عليهم أنهم لو جاؤا بأربعة آخرين يشهدون لهم بذلك لكانت شهادتهم مقبولة وكان الحد عنهم زائلا فلو كانوا قد علموا أن هناك شهودا أربعة يشهدون بذلك لسألوه التوقيف فلذلك لم يحتج أن يعلمهم ذلك وأما الشاهد الواحد لو شهد معه فإنه جائز أن يخفى حكمه عليهم في جواز شهادته معهم أو بطلانها فلو كان ذلك مقبولا لوقفهم عليه وأعلمهم إياه حتى يأتوا به إن كان
فيمن

يقيم الحد على المملوك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد يقيمه الإمام دون المولى وذلك في سائر الحدود وهو قول الحسن بن صالح وقال مالك يحده المولى في الزنا وشرب الخمر والقذف إذا شهد عنده الشهود ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام وهو قول الليث بن سعد وقال الشافعي يحده المولى ويقطعه وقال الثوري يحده المولى في الزنا رواية الأشجعي وذكر عنه الفريابي إن المولى إذا حد عبده ثم أعتقه جازت شهادته وقال الأوزاعي يحده المولى

وروي عن الحسن قال ضمن هؤلاء أربعا الصلاة والصدقة والحدود والحكم رواه عنه ابن عون وروي عنه بدل الصلاة الجمعة وقال عبدالله بن محيريز الحدود والفيء والجمعة والزكاة إلى السلطان وقد روى حماد بن سلمة عن يحيى البكاء عن مسلم بن يسار عن أبي عبدالله رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وكان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه وهو عالم فخذوا عنه فسمعته يقول الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان وقد قيل إن أبا عبدالله هذا يظن أنه أخو أبي بكرة واسمه نافع فهؤلاء والسلف قد روي عنهم ذلك ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلافه وقد روي عن الأعمش أنه ذكر إقامة عبدالله بن مسعود حدا بالشام وقال الأعمش هم أمراء حيث كانوا وجائز أن يكون عبدالله بن مسعود قد كان ولي ذلك لأنه لم يذكر إن المحدود كان عبده فإن قيل روي عن ابن أبي ليلى أنه قال أدركت بقايا الأنصار يضربون الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم قيل له يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك على وجه التعزير لا على وجه إقامة الحد لأنهم لم يكونوا مأمورين برفعها إلى الإمام بل كانوا مأمورين بالستر عليها وترك رفعها إلى الإمام والدليل على أن إقامة الحد على المملوك إلى الإمام دون المولى قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا وقال الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقال في آية أخرى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب وقد علم من قرع سمعه هذا الخطاب من أهل العلم أن المخطابين بذلك هم الأئمة دون عامة الناس فكان تقديره فليقطع الأئمة والحكام أيديهما وليجلدهما الأئمة والحكام ولما ثبت باتفاق الجميع أن المأمورين بإقامة هذه الحدود على الأحرار هم الأئمة ولم تفرق هذه الآيات بين المحدودين من الأحرار والعبيد وجب أن يكون فيهم جميعا وأن يكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي ويدل على ذلك أيضا أنه لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه ثم يرجع الشهود عن شهادتهم أن يكون له تضمين الشهود ومعلوم أن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة لأنه لو لم يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئا فكان يصير حاكما لنفسه بإيجاب الضمان عليهم ومعلوم أن أحدا من الناس لا يجوز له أن يحكم لنفسه فعلمنا أن المولى لا يملك استماع البينة على عبده بذلك ولا قطعه وأيضا فإن المولى والأجنبي سواء في حد العبد والأمة بدلالة أن إقراره عليه غير مقبول وأن

إقرار العبد على نفسه بذلك مقبول وإن جحده المولى فلما كان في ذلك في حكم الأجنبيين وجب أن يكون المولى بمنزلة الأجنبي في إقامة الحد وإنما جاز للحاكم أن يسمع البينة ويقيم الحد لأن قوله مقبول في ثبوت ما يوجب الحد عنه فلذلك سمع البينة وحكم بالحد فإن قيل يجوز إقرار الإنسان على نفسه بما يوجب الحد ولا يملك مع ذلك إقامة الحد على نفسه قيل له إذا كان من يجوز إقراره على نفسه ولا يقيم الحد على نفسه فمن لا يجوز إقراره على عبده أحرى بأن لا يقيم الحد عليه فإن قيل فلا نجعل قول الحاكم عليه علة جواز إقامة الحد عليه قيل له إن قول الحاكم قد ثبت عندي لا يوجب عليه الحد وليس بإقرار منه وإنما هو حكم وكذلك البينة إذا قامت عنده فإنه يقيم الحد من طريق الحكم فمن لا يقبل قوله في الحكم فهو لا يملك سماع البينة ولا إقامة الحد فإن قيل إن أبا حنيفة وأبا يوسف لا يقبلان قول الحاكم بما يوجب الحد لأنهما يقولان لا يحكم بعلمه في الحدود قيل له ليس معنى ذلك أن قول الحاكم غير مقبول إذا قال ثبت ذلك عندي ببينة أو بإقرار لأن من قولهما إن ذلك مقبول وإنما معنى قولهما إنه لا يحكم بعلمه في الحدود أنه لو شاهد رجلا على زنا أو سرقة أو شرب خمر لم يقم عليه الحد بعلمه فأما إذا قال قد شهد عندي شهود بذلك أو قال أقر عندي بذلك فإن قوله مقبول منه في ذلك ويسع من أمره الحاكم بالرجم والقطع أن يرجم ويقطع واحتج المخالف لنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وقوله إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها وإن عادت فليجلدها وإن عادت فليجلدها ولا يثرب عليها فإن عادت فليبعها ولو بضفير وقد روي في بعض ألفاظ هذا الحديث فليقم عليها الحد قال أبو بكر لا دلالة في هذه الأخبار على ما ذهبوا إليه وذلك لأن قوله أقيموا الحدود على ما مبكت أيمانكم هو كقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وقوله الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ومعلوم أن المراد رفعه إلى الإمام لإقامة الحد فالمخاطبون بإقامة الحد هم الأئمة وسائر الناس مخاطبون برفعهم إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود فكذلك قوله ص - أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم هو على هذا المعنى وأما قوله ص - إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها فإنه ليس كل جلد حدا لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير فإذا عزرناها فقد قضينا عهدة الخبر ولا يجوز أن نجلدها بعد ذلك ويدل على أنه أراد التعزير قوله لا يثرب عليها يعني ولا

يعيرها ومن شأن إقامة الحد أن يكون بحضرة الناس ليكون أبلغ في الزجر والتنكيل فلما

قال
ولا يثرب عليها دل ذلك أنه أراد التعزير لا الحد ويدل عليه قوله ص - في الرابعة فليبعها ولو بضفير ولم يأمر بجلدها ولو كان ذلك حدا لذكره وأمر به كما أمر به الأول والثاني والثالث لأنه لا يجوز تعطيل الحدود بعد ثبوتها عند من يقيمها وقد يجوز ترك التعزير على حسب ما يرى الإمام فيه من المصلحة فإن قيل التعزير لوجب أن يكون لو عزرها المولى ثم رفع إلى الإمام بعد التعزير أن يقيم عليها الحد لأن التعزير لا يسقط الحد فيكون قد اجتمع عليها الحد والتعزير قيل له لا ينبغي لمولاها أن يرفعها إلى الإمام بعد ذلك بل هو مأمور بالستر عليها لقول النبي صلى الله عليه وسلم - لهزال حين أشار على ما عز بالإقرار بالزنا لو سترته بثوبك كان خيرا لك وقال ص - من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب الله وأيضا فليس يمتنع اجتماع الحد والتعزير وقد يجب النفي عندنا مع الجلد على وجه التعزير وروي أن النجاشي الشاعر شرب الخمر في رمضان فضربه علي كرم الله وجهه ثمانين وقال هذا لشربك الخمر ثم جلده عشرين وقال هذا لإفطارك في رمضان فجمع عليه الحد والتعزير فلما كان ذلك جائزا لم يمتنع لو رفعت هذه الأمة بعد تعزير المولى إلى الإمام أن يحدها حد الزنا
باب اللعان
قال الله عز و جل والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم إلى آخر القصة قال ابو بكر كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات الجلد والدليل عليه قوله ص - لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك وقال الأنصار أيجلد هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فثبت بذلك أن حد قاذف الزوجات كان كحد قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان ائتني بصاحبتك فقد أنزل الله فيك وفيها قرآنا ولاعن بينهما وروي نحو ذلك في حديث عبدالله بن مسعود في الرجل الذي قال أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فإن تكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ فدلت هذه الأخبار على أن حد قاذف الزوجة كان الجلد وإن الله تعالى نسخه باللعان ومن أجل ذلك قال أصحابنا إن الزوج

إذا كان عبدا أو محدودا في قذف فلم يجب اللعان بينهما أن عليه الحد كما أنه إذا أكذب نفسه فسقط اللعان من قبله كان عليه الحد وقالوا لو كانت المرأة هي المحدودة في القذف أو كانت أمة أو ذمية أنه لا حد على الزوج لأنه قد سقط اللعان من قبلها فكان بمنزلة تصديقها الزوج بالقذف لما سقط اللعان من جهتها لم يجب على الزوج الحد واختلف الفقهاء فيمن يجب بينهما اللعان من الزوجين فقال أصحابنا جميعا أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد يسقط اللعان بأحد معنيين أيهما وجد لم يجب معه اللعان وهو أن يكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا كان أجنبيا نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية أو قد وطئت وطئا حراما في غير ملك والثاني أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون محدودا في قذف أو كافرا أو عبدا فأما إذا كان أحدهما أعمى أو فاسقا فإنه يجب اللعان وقال ابن شبرمة يلاعن المسلم زوجته اليهودية إذا قذفها وقال ابن وهب عن مالك الأمة المسلمة والحرة والنصرانية واليهودية تلاعن الحر المسلم وكذلك العبد يلاعن زوجته اليهودية وقال القاسم عن مالك ليس بين المسلم والكافر لعان إذا قذفها إلا أن يقول رأيتها تزني فتلا عن سواء ظهر الحمل أو لم يظهر لأنه يقول أخاف أن أموت فيلحق نسب ولدها بي وإنما يلاعن المسلم الكافر في دفع الحمل ولا يلاعنها فيما سوى ذلك وكذلك لا يلاعن زوجته الأمة إلا في نفي الحمل قال والمحدود في القذف يلاعن وإن كان الزوجان جميعا كافرين فلا لعان بينهما والمملوكان المسلمان بينهما لعان إذا أراد أن ينفي الولد وقال الثوري والحسن بن صالح لا يجب اللعان إذا كان أحد الزوجين مملوكا أو كافرا ويجب إذا كان محدودا في قذف وقال الأوزاعي لا لعان بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته وقال الليث في العبد إذا قذف امرأته الحرة وادعى أنه رأى عليها رجلا يلاعنها لأنه يحد لها إذا كان أجنبيا فإن كانت أمة أو نصرانية لاعنها في نفي الولد إذا ظهر بها حمل ولا يلاعنها في الرؤية لأنه لا يحد لها والمحدود في القذف يلاعن امرأته وقال الشافعي كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض يلاعن إذا كانت ممن يلزمها الفرض قال أبو بكر فأما الوجه الأول من الوجهين الذين يسقطان اللعان فإنما وجب ذلك به من قبل أن اللعان في الأزواج أقيم مقام الحد في الأجنبيات وقد كان الواجب على قاذف الزوجة والأجنبية جميعا الجلد بقوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا

بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ثم نسخ ذلك عن الأزواج وأقيم اللعان مقامه والدليل عليه قوله ص - لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك وقول الرجل الذي قال أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت عن غيظ فأنزلت آية اللعان فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لهلال بن أمية قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك قرآنا فائتني بها فلما كان اللعان في الأزواج قائما مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على قاذف من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي وأيضا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم - اللعان حدا حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الخراساني قال حدثنا عبدالرحمن بن موسى قال حدثنا روح بن دراج عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين المرأة وزوجها فرق بينهما وقال إن جاءت به أرح القدمين يشبه فلانا فهو منه قال فجاءت به يشبهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

لولا ما مضى من الحد لرجمتها فأخبر النبي ص
- أن اللعان حد ولما كان حدا لم يجز إيجابه على الزوج إذا كانت المرأة مملوكة إذ كان حدا مثل حد الجلد لما كان حدا لم يجب على قاذف المملوك فإن قيل لو كان حدا لما وجب على الزوج إذا قذف امرأته الحرة الجلد إذا أكذب نفسه بعد اللعان إذ غير جائز أن يجتمع حدان بقذف واحد وفي إيجاب حد القذف عليه عند إكذابه نفسه دليل على أن اللعان ليس بحد قيل له قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم - حدا وغير جائز استعمال النظر في دفع الأثر ومع ذلك فإنما يمتنع اجتماع الحدين عليه إذا كان جلدا فأما إذا كان أحدهما جلدا والآخر لعانا فإنا لم نجد في الأصول خلافه وأيضا فإن اللعان إنما هو حد من طريق الحكم فمتى أكذب نفسه وجلد الحد خرج اللعان من أن يكون حدا إذ كان ما يصير حدا من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة حدا وتارة ليس بحد فكذلك كل ما تعلق بالشيء من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة على وصف وأخرى على وصف آخر وإنما قلنا إن من شرط اللعان أن يكون الزوجات جميعا من أهل الشهادة لقوله تعالى والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إلى آخر القصة فلما سمى الله لعانهما شهادة ثم قال في المحدود في القذف ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وجب بمضمون الآيتين انتفاء اللعان عن المحدود في القذف وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في سائر

من خرج أن يكون من أهل الشهادة مثل العبد والكافر ونحوهما ومن جهة أخرى أنه إذا ثبت أن المحدود في القذف لا يلاعن وجب مثله في سائر من ليس هو من أهل الشهادة إذ لم يفرق أحد بينهما لأن كل من لا يوجب اللعان على المحدود لا يوجبه على من ذكرنا ووجه آخر من دلالة الاية وهو قوله تعالى ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فلا يخلو المراد به من أن يكون الأيمان فحسب من غير اعتبار معنى الشهادة فيه أو أن يكون أيمانا ليعتبر فيها معنى الشهادة على ما نقوله فلما قال تعالى ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم علمنا أنه أراد أن يكون الملاعن من أهل الشهادة إذ غير جائز أن يكون المراد ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم إذ كل أحد لا يحلف إلا على نفسه ولا يجوز إحلاف الإنسان عن غيره ولو كان المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم لاستحال وزالت فائدته فثبت أن المراد أن يكون الشاهد في ذلك من أهل الشهادة وإن كان ذلك يمينا ويدل على ذلك قوله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فلم يخل المراد من أن يكون الإتيان بلفظ الشهادة في هذه الأيمان أو الحلف من كل واحد منهما سواء كان بلفظ الشهادة أو بغيرها بعد أن يكون حلفا فلما كان قول القائل بجواز قبول اليمين منهما على أي وجه كانت كان مخالفا للآية وللسنة لأن الله تعالى قال فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله كما قال تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقال فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ولم يجز الاقتصار على الأخبار دون إيراده بلفظ الشهادة وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم - حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين دونها ولما كان ذلك كذلك علمنا أن شرط هذه الأيمان أن يكون الحالف بها من أهل الشهادة ويلاعنان فإن قيل الفاسق والأعمى ليسا من أهل الشهادة ويلاعنان قيل له الفاسق من أهل الشهادة من وجوه أحدها أن الفسق الموجب لرد الشهادة قد يكون طريقه الاجتهاد في الرد والقبول والثاني إنه غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق لا يجوز أن يحكم به الحاكم فلما لم تبطل شهادته من طريق الحكم لم يخرج من أن يكون من أهل الشهادة والثالث إن فسقه في حال لعانه غير متيقن إذ جائز أن يكون تائبا فيما بينه وبين الله تعالى فيكون عدلا مرضيا عند الله وليس هذه الشهادة يستحق بها على الغير فترد من أجل ما علم من ظهور فسقه بديا فلم يمنع فسقه من قبول لعانه وإن كان من شروطه كونه من أهل الشهادة وليس كذلك

الكفر لأن الكافر لو اعتقد الإسلام لم يكن مسلما إلا بإظهاره إذا أمكنه ذلك فكان حكم كفره باقيا مع اعتقاده لغيره ما لم يظهر الإسلام وأيضا فإن العدالة إنما تعتبر في الشهادة التي يستحق بها على الغير فلا يحكم بها للتهمة والفاسق إنما ردت شهادته في الحقوق للتهمة واللعان لا تبطله التهمة فلم يجب اعتبار الفسق في سقوطه وأما الأعمى فإنه من أهل الشهادة كالبصير لا فرق بينهما إلا أن شهادته غير مقبولة في الحقوق لأن بينه وبين المشهود عليه حائلا وليس شرط شهادة اللعان أن يقول رأيتها تزني إذ لو

قال
هي زانية ولم أر ذلك لاعن فلما لم يحتج إلى الإخبار عن معاينة المشهود به لم يبطل لعانه لأجل عماه وقد روي في معنى مذهب أصحابنا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أخبار منها ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن داود السراج قال حدثنا الحكم بن موسى قال حدثنا عتاب بن إبراهيم عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أربع من النساء ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا أحمد بن حمويه بن سيار قال حدثنا أبو سيار التستري قال حدثنا الحسن بن إسماعيل عن مجالد المصيصي قال أخبرنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن صدقة أبي توبة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أربع ليس بينهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت المملوك فإن قيل اللعان إنما يجب في نفي الولد لئلا يلحق به نسب ليس منه وذلك موجود في الأمة وفي الحرة قيل له لما دخل في نكاح الأمة لزمه حكمه ومن حكمه أن لا ينتفي منه نسب ولدها كما لزمه حكمه في رق ولده
باب القذف الذي يوجب اللعان
قال الله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية ولا خلاف بين الفقهاء أن المراد به قذف الأجنبيات المحصنات بالزنا سواء قال زنيت أو قال رأيتك تزنين ثم قال تعالى والذين يرمون أزواجهم ولا خلاف أيضا أنه قد أريد به رميها بالزنا ثم اختلف الفقهاء في صفة القذف الموجب للعان فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي إذا قال لها يا زانية وجب اللعان وقال مالك بن أنس لا يلاعن إلا أن يقول رأيتك تزنين أو ينفي حملا بها أو ولدا منها والأعمى يلاعن

إذا قذف امرأته وقال الليث لا تكون ملاعنة إلا أن يقول رأيت عليها رجلا أو يقول قد كنت استبرأت رحمها وليس هذا الحمل مني ويحلف بالله ما علي ما قال وقال عثمان البتي إذا قال رأيتها تزني لاعنها وإن قذفها وهي بخراسان وإنما تزوجها قبل ذلك بيوم لم يلاعن ولا كرامة قال أبو بكر ظاهر الآية يقتضي إيجاب اللعان بالقذف سواء قال رأيتك تزنين أو لم يقل لأنه إذا قذفها بالزنا فهو رام لها سواء ادعى معاينة ذلك أو أطلقه ولم يذكر العيان وأيضا لم يختلفوا أن قاذف الأجنبية لا يختلف حكمه في وجوب الحد عليه بين أن يدعي المعاينة أو يطلقه كذلك يجب أن يكون حكم الزوج في قذفه إياها إذ كان اللعان متعلقا بالقذف كالجلد ولأن اللعان في قذف الزوجات أقيم مقام الجلد في قذف الأجنبيات فوجب أن يستويا فيما يتعلقان به من لفظ القذف وأيضا فقد قال مالك إن الأعمى يلاعن وهو لا يقول رأيت فعلمنا أنه ليس شرط اللعان رميها برؤية الزنا منها وأيضا قد أوجب مالك اللعان في نفي الحمل من غير ذكر رؤية فكذلك نفي غير الحمل يلزمه أن لا يشرط فيه الرؤية
باب

كيفية اللعان
قال الله تعالى فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين واختلف أهل العلم في صفة اللعان إذا لم يكن ولد فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والثوري يشهد الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا وتشهد هي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنا والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها به من الزنا فإن كان هناك ولد نفاه يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من نفي هذا الولد وذكر أبو الحسن الكرخي إن الحاكم يأمر الزوج أن يقول أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتك به من نفي ولدك هذا فيقول ذلك أربع مرات ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتك به من نفي ولدك هذا ثم يأمرها القاضي فتقول أشهد بالله إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من نفي ولدي هذا فتقول ذلك أربع مرات ثم تقول في الخامسة وغضب الله علي إن كنت من الصادقين فيما رميتني به من نفي ولدي هذا وروى حيان بن بشر عن أبي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19