كتاب : أحكام القرآن
المؤلف : أحمد بن علي الرازي الجصاص 

أنها لكم في هذه القصة ضروب من دلائل النبوة أحدها إخباره إياهم بأن إحدى الطائفتين لهم وهي عير قريش التي كانت فيها أموالهم وجيشهم الذين خرجوا لحمايتها فكان وعده على ما وعده وقوله تعالى وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم يعني أن المؤمنين كانوا يودون الظفر لما فيها الأموال وقلة المقاتلة وذلك لأنهم خرجوا مستخفين غير مستعدين للحرب لأنهم لم يظنوا أن قريشا تخرج لقتالهم وقوله تعالى ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين وهو إنجاز موعده لهم في قطع دابر الكافرين وقتلهم وقوله تعالى فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم فوجد مخبر هذه الأخبار على ما أخبر به فكان من طمأنينة قلوب المؤمنين ما أخبر به وقال تعالى إذ يغشيكم النعاس أمنة منه فألقى عليهم النعاس في الوقت الذي يطير فيه النعاس بإظلال العدو عليهم بالعدة والسلاح وهم أضعافهم ثم قال وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به يعني من الجنابة لأن فيهم من كان احتلم وهو حرز الشيطان لأنه من وسوسته في المنام وليربط على قلوبكم بما صار في قلوبهم من الأمنة والثقة بموعود الله ويثبت به الأقدام يحتمل من وجهين أحدهما صحة البصيرة والأمن والثقة الموجبة لثبات الأقدام والثاني أن موضعهم كان رملا دهسا لا تثبت فيه الأقدام فأنزل الله تعالى من المطر ما لبد الرمل وثبت عليه الأقدام وقد روي ذلك في التفسير قوله تعالى إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم أي أنصركم فثبتوا الذين آمنوا وذلك يحتمل وجهين أحدهما إلقاؤهم إلى المؤمنين بالخاطر والتنبيه أن الله سينصرهم على الكافرين فيكون ذلك سببا لثباتهم وتحزبهم على الكفار ويحتمل أن يكون التثبيت بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم -

أن الله سينصره والمؤمنين فيخبر النبي ص
- بذلك المؤمنين فيدعوهم ذلك إلى الثبات ثم قال وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ كفا من تراب ورمى به وجوههم فانهزموا ولم يبق منهم أحد إلا دخل من ذلك التراب في عينه وعنى بذلك أن الله بلغ ذلك التراب وجوههم وعيونهم إذ لم يكن في وسع أحد من المخلوقين أن يبلغ ذلك التراب عيونهم من الموضع الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم - وهذه كلها من دلالة النبوة ومنها وجود مخبرات هذه الأخبار على ما أخبر به فلا يجوز أن يتفق مثلها تخرصا وتخمينا ومنها ما أنزل من المطر الذي لبد الرمل حتى

ثبتت أقدامهم عليه وصاروا وبالأعلى عدوهم لأن في الخبر أن أرضهم صارت وحلا حتى منعهم من المسير ومنها الطمأنينة التي صارت في قلوبهم بعد كراهتهم للقاء الجيش ومنها النعاس الذي وقع عليهم في الحال التي يطير فيها النعاس ومنها رميه التراب وهزيمة الكفار به
الكلام

في الفرار من الزحف
قال الله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة روى أبو نضرة عن أبي سعيد أن ذلك إنما كان يوم بدر قال أبو نضرة لأنهم لو انحازوا يومئذ لانحازوا إلى المشركين ولم يكن يومئذ مسلم غيرهم وهذا الذي قاله أبو نضرة ليس بسديد لأنه قد كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم -
بالخروج ولم يكونوا يرون أنه يكون قتال وإنما ظنوا أنها العير فخرج رسول
الله ص - فيمن خف معه فقول أبي نضرة أنه لم يكن هناك مسلم غيرهم وأنهم لو انحازوا انحازوا إلى المشركين غلط لما وصفنا وقد قيل أنهم لم يكن جائزا لهم الانحياز يومئذ لأنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ولم يكن الانحياز جائزا لهم عنه قال الله تعالى ما
كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه فلم يكن يجوز لهم أن يخذلوا نبيهم ص -
وينصرفوا عنه ويسلموه وإن كان الله قد تكفل بنصره وعصمه من الناس كما قال
الله تعالى والله يعصمك من الناس وكان ذلك فرضا عليهم قلت أعداؤهم أو كثروا وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم -
كان فئة المسلمين يومئذ ومن كان بمنحاز عن القتل فإنما كان يجوز له
الانحياز على شرط أن يكون انحيازه إلى فئة وكان النبي صلى الله عليه وسلم - فئتهم يومئذ ولم تكن فئة غيره قال ابن عمر كنت في جيش فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة فقلنا نحن الفرارون فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
إنا فئتكم فمن كان بالبعد من النبي ص
- إذا انحاز عن الكفار فإنما كان يجوز له الانحياز إلى فئة النبي صلى الله عليه وسلم -
وإذا كان معهم في القتال لم يكن هناك فئة غيره ينحازون إليه فلم يكن يجوز
لهم الفرار وقال الحسن في قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره قال شددت على أهل بدر وقال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا وذلك لأنهم فروا عن النبي صلى الله عليه وسلم -
وكذلك يوم حنين فروا عن النبي ص
- فعاقبهم الله على

ذلك في قوله تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلن تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين فهذا كان حكمهم إذا كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم -

قل عدد العدو أو كثر إذا لم يجد الله فيه شيئا وقال الله تعالى
في آية أخرى يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا هذا والله أعلم في الحال التي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم - حاضرا معهم فكان على العشرين أن يقاتلوا المائتين ولا يهربوا عنهم فإذا كان عدد العدو أكثر من ذلك أباح لهم التحيز إلى فئة من المسلمين فيهم نصرة لمعاودة القتال ثم نسخ ذلك بقوله تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فروي عن ابن عباس أنه قال كتب عليكم أن لا يفر واحد من عشرة ثم قلت الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا الآية فكتب عليكم أن لا يفر مائة من مائتين وقال ابن عباس إن فر رجل من رجلين فقد فر وإن فر من ثلاثة فلم يفر قال الشيخ يعني بقوله فقد فر الفرار من الزحف المراد بالآية والذي في الاية إيجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة فأما إن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعلى ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - أنا فئة كل مسلم وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد بن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم رحم الله أبا عبيد لو انحاز إلي لكنت له فئة فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال أنا فئة لكم ولم يعنفهم وهذا الحكم عندنا ثابت مالم يبلغ عدد جيش المسلمين اثني عشر ألفا لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثليهم إلا متحرفين لقتال وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة إلى مضيق أو يكمنوا لعدوهم ونحو ذلك مما لا يكون فيه انصراف عن الحرب أو متحيزين إلى فئة من المسلمين يقاتلونهم معهم فإذا بلغوا اثني عشر ألفا فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم وإن كثر عددهم ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه واحتج بحديث الزهري عن

عبيدالله بن عبدالله أن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنا عشر ألفا من قلة ولن يغلب وفي بعضها ما غلب قوم يبلغون اثني عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم وذكر الطحاوي أن مالكا سئل فقيل له أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها فقال له مالك إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك لم يسعك التخلف وإلا فأنت في سعة من التخلف وكان السائل له عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز بن عبدالله بن عمر وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن والذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في اثني عشر ألفا فهو أصل في هذا الباب وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله ص -

إذا اجتمعت كلمتهم وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم قوله تعالى
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة قيل في الفتنة وجوه فروي عن عبدالله أنه من قوله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة وقال الحسن الفتنة البلية وقيل هي العذاب وقيل هي الفرح الذي يركب الناس فيه بظلم وروي عن ابن عباس أنه قال أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب ونحوه ما روي أنه قيل يا رسول الله انهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا كثر الخبث وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي وهم أكثر ممن يعمل فلم ينكروا إلا عمهم الله بعذاب فحذرنا الله من عذاب يعم الجميع من العاصين ومن لم يعص إذا لم ينكره وقيل إنها يعم من قبل أن الفرح والفتنة إذا وقعا دخل ضررهما على كل واحد منهم قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون يعني ما كان ليعذبهم عذاب الاستيصال وأنت فيهم لأنه ص -
بعث رحمة للعالمين ولا يعذبون وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة فيعمهم
بالعذاب بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم - من بينهم ألا ترى أن الأمم السالفة لما استحقوا الاستيصال أمر الله أنبياءه بالخروج من بينهم نحو لوط وصالح وشعيب صلوات الله عليهم وقوله تعالى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون قال ابن عباس لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم -
من مكة بقيت فيها بقية من المؤمنين وقال مجاهد وقتادة والسدي أن لو
استغفروا لم يعذبهم قوله تعالى وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وهذا العذاب غير العذاب المذكور في الآية الأولى لأن هذا عذاب الآخرة

والأول عذاب الاستيصال في الدنيا وقوله تعالى وما كانوا أولياءه قيل فيه وجهان أحدهما ما قال الحسن إنهم قالوا نحن أولياء المسجد الحرام فرد الله ذلك عليهم والوجه الآخر ما كانوا أولياء الله إن أولياء الله إلا المتقون فإذا أريد به أولياء المسجد ففيه دلالة على أنهم ممنوعون من دخول المسجد الحرام والقيام بعمادته وهو مثل قوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله وقوله عز و جل وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية قيل المكاء الصفير والتصدية التصفيق روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر والحسن ومجاهد وعطية وقتادة والسدي ووري عن سعيد بن جبير أن التصدية صدهم عن البيت الحرام وسمى المكاء والتصدية صلاة لأنهم كانوا يقيمون الصفير والتصفيق مقام الدعاء والتسبيح وقيل إنهم كانوا يفعلون ذلك في صلاتهم قوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله قال ابن عباس والحسن حتى لا يكون شرك وقال محمد بن إسحاق حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه والفتنة ههنا جائز أن يريد به الكفر وجائز أن يريد بها البغي والفساد لأن الكفر إنما سمي فتنة لما فيه من الفساد فتنتظم الآية قتال الكفار وأهل البغي وأهل العيث والفساد وهي تدل على وجوب قتال الفئة الباغية وقوله تعالى ويكون الدين كله لله يدل على وجوب قتال سائر أصناف أهل الكفر إلا ما خصه الدليل من الكتاب والسنة وهم أهل الكتاب والمجوس فإنهم يقرون بالجزية ويحتج به من يقول لا يقر سائر الكفار دينهم بالذمة إلا هؤلاء الأصناف الثلاثة لقيام الدلالة على جواز إقرارها بالجزية
االكلام

في قسمة الغنائم
قال الله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وقال في آية أخرى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فروي عن ابن عباس ومجاهد أن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى قل الأنفال لله والرسول وذلك لأنه قد كان جعل النبي صلى الله عليه وسلم -
ينفل ما أحرزه بالقتال لمن شاء من الناس لا حق لأحد فيه إلا من جعله
النبي صلى الله عليه وسلم - له وإن ذلك كان يوم بدر وقد ذكرنا حديث سعد في قصة السيف الذي استوهبه من النبي صلى الله عليه وسلم -
يوم بدر فقال النبي ص
- هذا السيف ليس لي ولا لك ثم لما نزل قل الأنفال لله والرسول دعاه وقال إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك وحديث أبي

هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثا بشر بن موسى قال حدثنا عبدالله بن صالح قال حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من الغنائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤس قبلكم كان النبي إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم فتنزل من السماء نار فتأكلها فأنزل الله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وقال حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو نوح قال أخبرنا عكرمة بن عمار قال حدثنا سماك الحنفي قال حدثني ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم -

الفداء فأنزل الله تعالى ما
كان لنبي أن يكون له أسرى إلى قوله لمسكم فيما أخذتم من الفداء ثم أحل لهم الغنائم فأخبر في هذين الخبرين أن الغنائم أحلت بعد وقعه بدر وهذا مرتب على قوله تعالى قل الأنفال لله والرسول وأنها إنما كانت موكلة إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم -
فهذه الآية أول آية أبيحت بها الغنائم على جهة تخيير النبي ص
- في إعطائها من رأى ثم نزل قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وقوله تعالى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وأنه فداء الأسارى كان بعد نزول قوله تعالى قل الأنفال لله والرسول وإنما كان النكير عليهم في أخذ الفداء من الأسرى بديا ولا دلالة فيه على أن الغنائم لم تكن قد أحلت قبل ذلك على الوجه الذي جعلت للنبي ص - لأنه جائز أن تكون الغنائم مباحة وفداء الأسرى محظورا وكذلك يقول أبو حنيفة إنه لا تجوز مفاداة أسرى المشركين ويدل على أن الجيش لم يكونوا استحقوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر إلا بجعل النبي ذلك لهم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يخمس غنائم بدر ولم يبين سهام الفارس والراجل إلى أن نزل قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فجعل بهذه الآية أربعة أخماس الغنيمة للغانمين والخمس للوجوه المذكورة ونسخ به ما كان للنبي ص -
من الأنفال إلا ما كان شرطه قبل إحراز الغنمية نحو أن يقول من أصاب شيئا
فهو له ومن قتل قتيلا فله سلبه لأن ذلك لم ينتظمه قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء إذ لم يحصل ذلك غنيمة لغير آخذه أو قاتله وقد اختلف في النفل بعد إحراز الغنيمة

ذكر

الخلاف فيه
قال أصحابنا والثوري لا نفل بعد إحراز الغنيمة إنما النفل أن يقول من قتل قتيلا فله سلبه ومن أصاب شيئا فهو له وقال الأوزاعي في رسول الله أسوة حسنة كان ينفل في البدأ الربع وفي الرجعة الثلث وقال مالك والشافعي يجوز أن ينفل بعد إحراز الغنيمة على وجه الاجتهاد قال الشيخ ولا خلاف في جواز النفل قبل إحراز الغنيمة نحو أن يقول من أخذ شيئا فهو له ومن قتل قتيلا فله سلبه وقد روى حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - نفل في بدأته الربع وفي رجعته الثلث بعد الخمس فأما التنفيل في البدأة فقد ذكرنا اتفاق الفقهاء عليه وأما قوله في الرجعة الثلث فإنه يحتمل وجهين أحدهما ما يصيب السرية في الرجعة بأن يقول لهم ما أصبتم من شيء فلكم الثلث بعد الخمس ومعلوم أن ذلك بلفظ عموم في سائر الغنائم وإنما هي حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم - في شيء بعينه لم يبين كيفيته وجائز أن يكون معناه ما ذكرناه من قوله للسرية في الرجعة وجعل لهم في الرجعة أكثر مما جعله في البدأة لأن في الرجعة يحتاج إلى حفظ الغنائم وإحرازها ويكون من حواليهم الكفار متأهبين مستعدين للقتال لانتشار الخبر بوقوع الجيش إلى أرضهم والوجه الآخر أنه جائز أن يكون ذلك بعد إحراز الغنيمة وكان ذلك في الوقت الذي كانت الغنيمة كلها للنبي ص -
فجعلها لمن شاء منهم وذلك منسوخ بما ذكرنا فإن قيل ذكر في حديث حبيب بن
مسلمة الثلث بعد الخمس فهذا يدل على أن ذلك كان بعد قوله واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه قيل له لا دلالة فيه على ما ذكرت لأنه لم يذكر أنه الخمس المستحق لأهله من جملة الغنيمة بقوله تعالى فأن لله خمسه وجائز أن يكون على خمس من الغنيمة لا فرق بينه وبين الثلث والنصف ولما احتمل حديث حبيب بن مسلمة ما وصفنا لم يجز الاعتراض به على ظاهر قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه إذ كان قوله ذلك يقتضي إيجاب الأربعة الأخماس للغانمين اقتضاه إيجاب الخمس لأهله المذكورين فمتى أحرزت الغنيمة فقد ثبت حق الجميع فيها بظاهر الآية فغير جائز أن يجعل شيء منها لغيره على غير مقتضى الآية إلا بما يجوز بمثله تخصيص الآية وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن عبيدالله قال حدثني نافع عن عبدالله بن عمر قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
في سرية فبلغت سهامنا اثني

عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعيرا بعيرا فبين في هذا الحديث سهمان الجيش وأخبر أن النفل لم يكن من جملة الغنيمة وإنما كان بعد السهمان وذلك من الخمس ويدل على أن النفل بعد إحراز الغنيمة لا يجوز إلا من الخمس ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الوليد بن عتبة قال حدثنا الوليد قال حدثنا عبدالله بن العلاء أنه سمع أبا سلام ابن الأسود يقول قال سمعت عمرو بن عبسة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى بعير من المغنم فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود فيكم فأخبر ص - أنه لم يكن جائز التصرف إلا في الخمس من الغنائم وإن الأربعة الأخماس للغانمين وفي ذلك دليل على أن ما أحرز من الغنيمة فهو لأهلها لا يجوز التنفيل منه وفي هذا الحديث دليل على أن ما لا قيمة له ولا يتمانعه الناس من نحو النواة والتبنة والخرق التي يرمى بها يجوز للإنسان أن يأخذه وينفله لأن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ وبرة من جنب بعير من المغنم وقال لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا يعني في أن يأخذه لنفسه وينتفع به أو يجعله لغيره دون جماعتهم إذ لم تكن لتلك الوبرة قيمة فإن قيل فقد قال لا يحل لي مثل هذا قيل له إنما أراد مثل هذا فيما يتمانعه الناس لا ذاك بعينه لأنه قد أخذه ويدل على ما ذكرنا ما رواه ابن المبارك قال حدثنا خالد الحذاء عن عبدالله بن شقيق عن رجل من بلقين ذكر قصة قال قلنا يا رسول الله ما تقول في هذا المال قال خمسه لله وأربعة أخماسه للجيش قال قلت هل أحق أحد به من أحد قال لو انتزعت سهمك من جنبك لم تكن بأحق به من أخيك المسلم وروى أبو عاصم النبيل عن وهب أبي خالد الحمصي قال حدثتني أم حبيبة عن أبيها العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ وبرة فقال مالي فيكم هذه مالي فيه إلا الخمس فأدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار على صاحبه يوم القيامة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ذكر غنائم هوازن وقال ثم دنا النبي صلى الله عليه وسلم - من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال يا أيها الناس إنه ليس لي من هذا الفيء شيء ولا هذا ورفع أصبعيه إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط فقام رجل في يده كبة من شعر فقال أخذت هذه لأصلح بها بردة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لك فقال أماذا بلغت ما أرى فلا أرب لي
فيها ونبذها

فهذه الأخبار موافقة لظاهر الكتاب فهو أولى مما يخالفه من حديث حبيب بن مسلمة مع احتمال حديثه للتأويل الذي وصفناه وجمعنا يمنع أن يكون في الأربعة الأخماس حق لغير الغانمين ويخبر النبي صلى الله عليه وسلم - فيها أنه لا حق له فيها وروى محمد بن سيرين أن أنس بن مالك كان مع عبيدالله بن أبي بكرة في غزاة فأصابوا سبيا فأراد عبيدالله أن يعطي أنسا من السبي قبل أن يقسم فقال أنس لا ولكن أقسم ثم أعطي من الخمس فقال عبيدالله لا إلا من جميع الغنائم فأبى أنس أن يقبل وأبى عبيدالله أن يعطيه من الخمس وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله حدثنا حجاج حدثنا حماد عن محمد بن عمرو عن سعيد بن المسيب أنه قال لا نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم - قال الشيخ أيده الله يجوز أن يريد به من جملة الغنيمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم -

قد كانت له الأنفال ثم نسخ بآية القسمة وهذا مما يحتج به لصحة مذهبنا لأن
ظاهره يقتضي أن لا يكون لأحد نفل بعد النبي صلى الله عليه وسلم - في عموم الأحوال إلا أنه قد قامت الدلالة في أن الإمام إذا قال من قتل قتيلا فله سلبه أنه يصير ذلك له بالاتفاق فخصصناه وبقي الباقي على مقتضاه في انه إذا لم يقل ذلك الإمام فلا شيء له وقد روي عن سعيد بن المسيب قال كان الناس يعطون النفل من الخمس فإن قيل قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم - من غنائم حنين صناديد العرب عطايا نحو الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والزبرقان بن بدر وأبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية ومعلوم أنه لم يعطهم ذلك من سهمه من الغنيمة وسهمه من الخمس إذ لم يكن يتسع لهذه العطايا لأنه أعطى كل واحد من هؤلاء وغيرهم مائة من الإبل ولم يكن ليعطيهم من بقية سهام الخمس سوى سهمه لأنها للفقراء ولم يكونوا هؤلاء فقراء فثبت أنه أعطاهم من جملة الغنيمة ولما لم يستأذنهم فيه دل على أنه أعطاهم على وجه النفل وأنه قد كان له أن ينفل قيل له إن هؤلاء القوم كانوا من المؤلفة قلوبهم وقد جعل الله تعالى للمؤلفة قلوبهم سهما من الصدقات وسبيل الخمس سبيل الصدقة لأنه مصروف إلى الفقراء كالصدقات المصروفة إليهم فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - أعطاهم من جملة الخمس كما يعطيهم من الصدقات
وقد اختلف في سلب القتيل فقال أصحابنا ومالك والثوري السلب من غنيمة الجيش إلا أن يكون الأمير قال من قتل قتيلا فله سلبه وقال الأوزاعي والليث والشافعي السلب للقاتل وإن لم يقل الأمير قال الشيخ أيده الله قوله عز و جل واعلموا أنما غنمتم من

شيء يقتضي وجوب الغنيمة لجماعة الغانمين فغير جائز لأحد منهم الاختصاص بشيء منها دون غيره فإن قيل ينبغي أن يدل على أن السلب غنيمة قيل له غنمتم هي التي جازوها باجتماعهم وتوازرهم على القتال وأخذ الغنيمة فلما كان قتله لهذا القتيل وأخذه سلبه بتظافر الجماعة وجب أن يكون غنيمة ويدل عليه أنه لو أخذ سلبه من غير قتل لكان غنيمة إذ لم يصل إلى أخذه إلا بقوتهم وكذلك من لم يقاتل وكان قائما في الصف ردأ لهم مستحق الغنيمة ويصير غانما لأن بظهره ومعاضته حصلت وأخذت وإذا كان كذلك وجب أن يكون السلب غنيمة فيكون كسائر الغنائم ويدل عليه أيضا قوله تعالى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا والسلب مما غنمه الجماعة فهو لهم ويدل على ذلك من جهة السنة ما حدثنا أحمد بن خالد الجزوري حدثنا محمد بن يحيى حدثنا محمد بن المبارك وهشام بن عمارة قالا حدثنا عمرو بن واقد عن موسى بن يسار عن مكحول عن قتادة بن أبي أمية قال نزلنا دابق وعلينا أبو عبيدة بن الجراح فبلغ حبيب بن مسلم أن صاحب قبرس قد خرج يريد طريق أذربيجان معه زبرجد وياقوت ولؤلؤ وديباج فخرج في جبل حتى قتله في الدرب وجاء بما كان معه إلى أبي عبيدة فأراد أن يخمسه فقال حبيب يا أبا عبيدة لا تحرمني رزقا رزقنيه الله فإن الله ورسوله ص -

جعل السلب للقاتل فقال معاذ بن جبل مهلا يا حبيب إني سمعت النبي ص
- يقول إنما للمرأ ما طابت به نفس إمامه فقوله ص - إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه يقتضي حظر ما لم تطب نفس إمامه ممن لم تطب نفس إمامه لم يحل له السلب لا سيما وقد أخبر معاذ أن ذلك في شأن السلب فإن قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - جماعة منهم أبو قتادة وطلحة وسمرة بن جندب وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال من قتل قتيلا فله سلبه وروى سلمة بن الأكوع وابن عباس وعوف بن مالك
وخالد بن الوليد أن النبي صلى الله عليه وسلم - جعل السلب للقاتل وهذا يدل على معنيين أحدهما إنه يقتضي أن يستحق القاتل السلب والثاني إنه فسر أن معنى قوله في حديث معاذ إنما للمرء ما طابت به نفس إمامه إن نفسه قد طابت للقاتل بذلك وهو إمام الأئمة قيل له قوله ص -
ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه المفهوم منه أميره الذي يلزمه طاعته
وكذلك عقل معاذ وهو راوي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم - ولو أراد بذلك نفسه لقال إنما للمرء ما طابت به نفسي فهذا الذي ذكره هذا السائل تأويل ساقط لا معنى له وأما الأخبار المروية في أن السلب للقاتل فإنما

ذلك كلام خرج على الحال التي حض فيها للقتال وكان يقول ذلك تحريضا لهم وتضرية على العدو كما روي أنه قال من أصاب شيئا فهو له وكما حدثنا أحمد بن خالد الجزوري حدثنا محمد بن يحيى الدهاني حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا غالب بن حجرة قال حدثتني أم عبدالله وهي ابنة الملقام بن التلب عن أبيها عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من أتى بمول فله سلبه ومعلوم أن ذلك حكم مقصور على الحال في تلك الحرب خاصة إذ لا خلاف أنه لا يستحق السلب بأخذه موليا كقوله يوم فتح مكة من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل بيته فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن ويدل على أن السلب غير مستحق للقاتل إلا أن يكون قد قال الأمير من قتل قتيلا فله سلبه ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا الوليد بن مسلم حدثني صفوان بن عمرو عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه فنحر رجل من المسلمين جزورا فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدرق ومضينا فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب فحمل الرومي يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه وخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه فلما فتح الله عز و جل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب قال عوف فأتيته فقلت يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل فقال بلى ولكن استكثرته فقلت لتردنه إليه أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فأبى أن يرد عليه قال عوف فاجتمعنا عند رسول الله ص
- فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يا خالد ما حملك على ما صنعت قال يا رسول الله استكثرته فقال رسول الله ص
- يا خالد رد عليه ما أخذت منه قال عوف فقلت دونك يا خالد ألم أف لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وما ذاك فأخبرته قال فغضب رسول الله ص
- فقال يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركوا أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا الوليد قال سألت ثورا عن هذا الحديث فحدثني عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم -
يا خالد لا ترد عليه دل ذلك على

أن السلب غير مستحق للقاتل لأنه لو استحقه لما جاز أن يمنعه ودل ذلك على أن قوله بديا ادفعه لم يكن على جهة الإيجاب وإنما كان على وجه النفل وجائز أن يكون ذلك من الخمس ويدل عليه ما روى يوسف الماجشون قال حدثني صالح بن إبراهيم عن أبيه عن عبدالرحمن بن عوف أن معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح قتلا أبا جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم - كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو فلما قضى به لأحدهما مع إخباره أنهما قتلاه دل على أنهما لم يستحقاه بالقتل ألا ترى أنه لو قال من قتل قتيلا فله سلبه ثم قتله رجلان استحقا السلب نصفين فلو كان القاتل مستحقا للسلب لوجب أن يكون لو وجد قتيل لا يعرف قاتله أن لا يكون سلبه من جملة الغنيمة بل يكون لقطة لأن له مستحقا بعينه فلما اتفق الجميع على أن سلب من لم يعرف قاتله في المعركة من جملة الغنمية دل على أن القاتل لا يستحقه وقد قال الشافعي إن القاتل لا يستحق السلب في الإدبار وإنما يستحقه في الإقبال فالأثر الوارد في السلب لم يفرق بين حال الإقبال والإدبار فإن احتج بالخبر فقد خالفه وإن احتج بالنظر فالنظر يوجب أن يكون غنيمة للجميع لاتفاقهم على أنه إذا قتله في حال الإدبار لم يستحقه وكان غنيمة والمعنى الجامع بينهما أنه قتله بمعاونة الجميع ولم يتقدم من الأمير قول في استحقاقه ويدل على أن القاتل إنما يستحقه إذا تقدم من الأمير قول قبل إحراز الغنيمة أنه لو قال من قتل قتيلا فله سلبه ثم قتله مقبلا أو مدبرا استحق سلبه ولم يختلف حال الإقبال والإدبار فلو كان السلب مستحقا بنفس القتل لما اختلف حكمه في حال الإدبار والإقبال وقد روي عن عمر في قتيل البراء بن مالك أنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا ولا أرانا إلا خامسيه واختلف في الأمير إذا قال من أصاب شيئا فهو له فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي هو كما قال ولا خمس فيه وكره مالك أن يقول من أصاب شيئا فهو له لأنه قتال يجعل وقال الشافعي يخمس ما اصابه إلا سلب المقتول قال أبو بكر لما اتفقوا على جواز أن يقول من أصاب شيئا فهو له وأنه يستحق وجب أن لا خمس فيه وأن لا يجوز قطع حقوق أهل الخمس عنه كما جاز قطع حقوق سائر الغانمين عنه وأيضا فإن قوله من اصاب شيئا فهو له بمنزلة من قتل قتيلا فله سلبه فلما لم يجب في السلب الخمس إذا قال الأمير ذلك كذلك سائر الغنيمة وأيضا فإن الله تعالى إنما أوجب الخمس فيما صار غنيمة لهم بقوله تعالى واعلموا

أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وهذا لم يصر غنيمة لهم لأن قول الأمير في ذلك جائز على الجيش فلما لم يصر غنيمة لهم وجب أن لا خمس فيه واختلف في الرجل يدخل دار الحرب وحده مغيرا بغير إذن الإمام فقال أصابنا ما غنمه فهو له خاصة ولا خمس فيه حتى تكون لهم منعة ولم يحد محمد في المنعة شيئا وقال أبو يوسف إذا كانوا تسعة ففيه الخمس وقال الثوري والشافعي يخمس ما أخذه والباقي له وقال الأوزاعي إن شاء الإمام عاقبه وحرمه وإن شاء خمس ما أصاب والباقي له قال أبو بكر قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه يقتضي أن يكون الغانمون جماعة لأن حصول الغنيمة منهم شرط في الاستحقاق وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى اقتلوا المشركين و قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر في لزوم قتل الواحد على حياله وإن لم يكن معه جماعة إذا كان مشتركا لأن ذلك أمر بقتل الجماعة والأمر بقتل الجماعة لا توجب اعتبار الجميع إذ ليس فيه شرط وقوله تعالى واعلموا أنما غنمتم فيه معنى الشرط وهو حصول الغنيمة لهم وبقتالهم فهو كقول القائل إن كلمت هؤلاء الجماعة فعبدي حر إن شرط الحنث وجود الكلام للجماعة ولا يحنث بكلام بعضها وأيضا لما اتفق الجميع على أن الجيش إذا غنموا لم يشاركهم سائر المسلمين في الأربعة الأخماس لأنهم لم يشهدوا القتال ولم تكن منهم حيازة الغنيمة وجب أن يكون هذا المغير وحده استحق ما غنمه وأما الخمس فإنما يستحق من الغنيمة التي حصلت بظهر المسلمين ونصرتهم وهو أن يكونوا فئة للغانمين ومن دخل دار الحرب وحده مغيرا فقد تبرأ من نصرة الإمام لأنه عاص له داخل بغير أمره فوجب أن لا يستحق منه الخمس ولذلك قال أصحابنا في الركاز الموجود في دار الإسلام لما كان الموضع مظهورا عليه بالإسلام وجب فيه الخمس ولو وجده في دار الحرب لم يجب فيه الخمس وإذا دخل الرجل وحده بإذن الإمام خمس ما غنم لأنه لما أذن له في الدخول فقد تضمن نصرته وحياطته والإمام قائم مقام جماعة المسلمين في ذلك فاستحق لهم الخمس وأما إذا كان المغيرون بغير إذن الإمام جماعة لهم منعة فإنه يجب فيه الخمس بقوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فهم في هذه الحال بمنزلة السرية والجيش لحصول المنعة لهم ولتوجه الخطاب إليهم بإخراج الخمس من غنائمهم واختلف في المدد يلحق الجيش في دار الحرب قبل إحراز الغنيمة

فقال أصحابنا إذا غنموا في دار الحرب ثم لحقهم جيش آخر قبل إخراجها إلى دار الإسلام فهم شركاء فيها وقال مالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي لا يشاركونهم قال أبو بكر الأصل في ذلك عند أصحابنا أن الغنيمة إنما يثبت فيها الحق بالإحراز في دار الإسلام ولا يملك إلا بالقسمة وحصولها في أيديهم في دار الحرب لا يثبت لهم فيها حقا والدليل عليه أن الموضع الذي حصل فيه الجيش من دار الحرب لا يصير مغنوما إذا لم يتفتتحوها ألا ترى أنهم لو خرجوا ثم دخل جيش آخر ففتحوها لم يصر الموضع الذي صار فيه الأولون ملكا لهم وكان حكمه حكم غيره من بقاع أرض الحرب والمعنى فيه أنهم لم يحرزوه في دار الإسلام فكذلك سائر ما يحصل في أيديهم قبل خروجهم إلى دار الإسلام لم يثبت لهم فيه حق إلا بالحيازة في دارنا فإذا لحقهم جيش آخر قبل الإحراز في دار الإسلام كان حكم ما أخذوه حكم ما في أيدي أهل الحرب فيشترك الجميع فيه وأيضا قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء يقتضي أن يكون غنيمة لجميعهم إذ بهم صار محرزا في دار الإسلام ألا ترى أنهم ما داموا في دار الحرب فإنهم يحتاجون إلى معونة هؤلاء في إحرازها كما لو لحقهم قبل أخذها شاركوهم ولو كان حصولها في أيديهم يثبت لهم فيها حقا قبل إحرازها في دار الإسلام لوجب أن يصير الموضع الذي وطئه الجيش من دار الإسلام كما لو افتتحوها لصارت دارا للإسلام وفي اتفاق الجميع على أن وطء الجيش لموضع في دار الحرب لا يجعله من دار الإسلام دلل على أن الحق لا يثبت فيه إلا بالحيازة واحتج من لم يقسم للمدد بما روى الزهري عن عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - بعث أبان بن سعيد على سرية قبل نجد فقدم أبان وأصحابه بخيبر بعد ما فتحت وأن حزم خيلهم الليف قال أبان أقسم لنا يا رسول الله قال أبو هريرة فقلت لا تقسم لهم شيئا يا نبي الله قال أبان أنت بهذا يا وبر نجد قال النبي صلى الله عليه وسلم - إجلس يا أبان فلم يقسم لهم وهذا لا حجة فيه لأن خيبر صارت دار الإسلام بظهور النبي صلى الله عليه وسلم - عليها وهذا لا خلاف فيه وقد قيل فيه وجه آخر وهو ما روى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمار ابن أبي عمار عن أبي هريرة قال ما شهدت لرسول الله مغنما إلا قسم لي إلا خيبر فإنها كانت لأهل الحديبية خاصة فأخبر في هذا الحديث أن خيبر كانت لأهل الحديبية خاصة شهدوها أو لم يشهدوها دون من سواهم لأن الله تعالى كان وعدهم إياها بقوله وأخرى

لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها بعد قوله وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه وقد روى أبو بردة عن أبي موسى

قال
قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بعد فتح خيبر بثلاث فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا فذكر في
هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم - قسم لأبي موسى وأصحابه من غنائم خيبر ولم يشهدوا الوقعة ولم يقسم فيها لأحد لم يشهد الوقعة وهذا يحتمل أن يكون لأنهم كانوا من أهل الحديبية ويحتمل أن يكون بطيبة أنفس أهل الغنيمة كما ورى جثيم بن عراك عن أبيه عن نفر من قومه أن أبا هريرة قدم المدينة هو ونفر من قومه قال فقدمنا وقد خرج رسول الله فخرجنا من المدينة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد افتتح خيبر فكلم الناس فأشركونا في سهامهم فليس في شيء من هذه الأخبار دلالة على أن المدد إذا لحق بالجيش وهم في دار الحرب أنهم لا يشركونهم في الغنيمة وقد روى قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن أهل البصرة غزوا نهاوند فأمدهم أهل الكوفة وظهروا فأراد أهل البصرة أن لا يقسموا لأهل الكوفة وكان عمار على أهل الكوفة فقال رجل من بني عطارد أيها الأجدع تريد أن تشاركنا في غنائمنا فقال جير إذ بي سبيت فكتب في ذلك إلى عمر فكتب عمر في ذلك أن الغنيمة لمن شهد الوقعة وهذا أيضا لا دلالة فيه على خلاف قولنا لأن المسلمين ظهروا على نهاوند وصارت دار الإسلام إذ لم تبق للكفار هناك فئة فإنما قال إن الغنيمة لمن شهد الوقعة منهم لأنهم لحقوهم بعد ما صارت دار الإسلام ومع ذلك فقد رأى عمار ومن معه أن يشركوهم ورأى عمر أن لا يشركوهم لأنهم لحقوه بعد حيازة الغنمية في دار الإسلام لأن الأرض صارت من دار الإسلام
باب سهمان الخيل
قال الله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه قال أبو بكر ظاهره يقتضي المساواة بين الفارس والرجل وهو خطاب لجميع الغانمين وقد شملهم هذا الاسم ألا ترى أن قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك قد عقل من ظاهره استحقاقهن للثلثين على المساواة وكذلك من قال هذا العبد لهؤلاء إنه لهم بالمساواة ما لم يذكر التفضيل كذلك مقتضى قوله تعالى غنمتم يقتضي أن يكونوا متساوين لأن قوله غنمتم عبارة عن ملكهم له وقد اختلف في سهم الفارس

ذكر

الخلاف في ذلك
قال أبو حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى ومالك والثوري والليث والأوزاعي والشافعي للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم وروي مثل قول أبي حنيفة عن المنذر بن أبي حمصة عامل عمر أنه جعل للفارس سهمين وللراجل سهما فرضية عمر ومثله عن الحسن البصري وروى شريك عن أبي إسحاق قال قدم قثم بن عباس على سعيد بن عثمان بخراسان وقد غنموا فقال اجعل جائزتك أن أضرب لك بألف سهم فقال اضرب لي بسهم ولفرسي بسهم قال أبو بكر قد بينا أن ظاهر الآية يقتضي المساواة بين الفارس والراجل فلما اتفق الجميع على تفضيل الفارس بسهم فضلناه وخصصنا به للظاهر وبقي حكم اللفظ فيما عداه وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال حدثنا محمد بن الصباح الجرجرائي قال حدثنا عبدالله بن رجاء عن سفيان الثوري عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - جعل للفارس سهمين وللراجل سهما قال عبدالباقي لم يجئ به عن الثوري غير محمد بن الصباح قال أبو بكر وقد حدثنا عبدالباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا أبو أسامة عن عبيدالله عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه وقد اختلف حديث عبيدالله بن عمر في ذلك وجائز أن يكونا صحيحين بأن يكون أعطاه بديا سهمين وهو المستحق ثم أعطاه في غنيمة أخرى ثلاثة أسهم وكان السهم الزائد على وجه النفل ومعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم - لا يمنع المستحق وجائز أن يتبرع بما ليس بمستحق على وجه النفل كما ذكر ابن عمر في حديث قد قدمنا ذكر سنده أنه كان في سرية قال فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعيرا بعيرا وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن الكميت الموصلي قال حدثنا صبح بن دينار قال حدثنا عفيف بن سالم عن عبيدالله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أسهم يوم بدر للفارس سهمين وللراجل سهما وهذا إن ثبت فلا حجة فيه لأبي حنيفة لأن قسمة يوم بدر لم تكن مستحقة للجيش لأن الله تعالى جعل الأنفال للرسول ص - وخيره في إعطائه من رأى ولو لم يعطهم شيئا لكان جائزا فلم تكن قسمة الغنيمة مستحقة يومئذ وإنما وجبت بعد ذلك بقوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء

فأن لله خمسه ونسخ بهذا الأنفال التي جعلها للرسول في جملة الغنيمة وقد روى مجمع بن جارية أن النبي صلى الله عليه وسلم -

قسم غنائم خيبر فجعل للفارس سهمين وللراجل سهما وروى ابن الفضيل عن
الحجاج عن أبي صالح عن ابن عباس قال قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما وهذا خلاف رواية مجمع بن جارية وقد يمكن الجمع بينهما بأن يكون قسم لبعض الفرسان سهمين وهو المستحق وقسم لبعضهم ثلاثة أسهم وكان السهم الزائد على وجه النفل كما روى سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم - أعطاه في غزوة ذي قرد سهمين سهم الفارس والراجل وكان راجلا يومئذ وكما روي أنه أعطى الزبير يومئذ أربعة أسهم وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن يحيى بن عباد ابن عبدالله بن الزبير أن الزبير كان يضرب له في الغنم بأربعة أسهم وهذه الزيادة كانت على وجه النفل تحريضا لهم على إيجاف الخيل كما كان ينفل سلب القتيل ويقول من اصاب شيئا فهو له تحريضا على القتال فإن قيل لما اختلفت الأخبار كان خبر الزائد أولى قيل له هذا ثبتت الزيادة كانت على وجه الاستحقاق فأما إذا احتمل أن تكون على وجه النفل فلم تثبت هذه الزيادة مستحقة وأيضا فإن في خبرنا اثبات زيادة لسهم الراجل لأنه كلما نقص نصيب الفارس زاد نصيب الراجل ويدل على ما ذكرنا من طريق النظر أن الفرس لما كان آلة كان القياس أن لا يسهم له كسائر الآلات فتركنا القياس في السهم الواحد والباقي محمول على القياس وعلى هذا لو حضر الفرس دون الرجل لم يستحق شيئا ولو حضر الرجل دون الفرس استحق فلما لم يجاوز بالرجل سهما واحدا كان الفرس به أولى وأيضا الرجل آكد أمرا في استحقاق السهم من الفرس بدلالة أن الرجال وإن كثروا استحقوا سهامهم ولو حضرت جماعة أفراس لرجل واحد لم يستحق إلا لفرس واحد فلما كان الرجل آكد أمرا من الفرس ولم يستحق أكثر من سهم فالفرس أحرى بذلك واختلف في البراذين فقال أصحابنا ومالك والثوري والشافعي البرذون والفرس سواء وقال الأوزاعي كانت أئمة المسلمين فيما سلف لا يسهمون للبراذين حتى هاجت الفتنة من بعد قتل الوليد بن يزيد وقال الليث للهجين والبرذون سهم واحد ولا يلحقان بالعراب قال أبو بكر قال الله تعالى ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وقال فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب وقال والخيل والبغال والحمير لعقل باسم

الخيل في هذه الآيات البراذين كما عقل منها العراب فلما شملها اسم الخيل وجب أن يستويا في السهمان ويدل عليه أن راكب البرذون يسمى فارسا كما يسمى به راكب الفرس العربي فيما أجري عليهما اسم الفارس وقال النبي صلى الله عليه وسلم - للفارس سهمان وللراجل سهم عم ذلك فارس البرذون كما عم فارس العراب وأيضا إن كان من الخيل فواجب أن لا يختلف سهمه وسهم العربي وإن لم يكن من الخيل فواجب أن لا يستحق شيئا فلما وافقنا الليث ومن قال بقوله إنه يسهم له دل على أنه من الخيل وأنه لا فرق بينه وبين العربي وأيضا لا يختلف الفقهاء في أنه بمنزلة الفرس العربي في جواز أكله وحظره على اختلافهم فيه فدل على أنهما جنس واحد فصار فرق ما بينهما كفرق ما بين الذكر والأنثى والهزيل والسمين والجواد وما دونه وأن اختلافهما في هذه الوجوه لم يوجب اختلاف سهامهما وأيضا فإن الفرس العربي وإن أجرى من كان البرذون فإن البرذون أقوى منه على حمل السلاح وايضا فإن الرجل العربي والعجمي لا يختلفان في حكم السهام كذلك الخيل العربي والعجمي وقال عبدالله بن دينار سألت سعيد بن المسيب عن صدقة البراذين فقال سعيد وهل في الخيل من صدقة وعن الحسن أنه قال البراذين بمنزلة الخيل وقال مكحول أول من قسم للبراذين خالد بن الوليد يوم دمشق قسم للبراذين نصف سهمان الخيل لما رأى من جريها وقوتها فكان يعطي البراذين سهما سهما وهذا حديث مقطوع وقد أخبر فيه أنه فعله من طريق الرأي والاجتهاد لما رأى من قوتها فإذا ليس بتوقيف وقد روى إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه قال أغارت الخيل بالشام وعلى الناس رجل من همدان يقال له المنذر بن أبي حمصة الوادعي فأدركت الخيل العراب من يومها وأدركت الكوادن من الغد فقال لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك فكتب إلى عمر فيه فكتب عمر هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به أمضوها على ما قال فاحتج من لم يسهم للبراذين بذلك ولا دلالة في هذا الحديث على أن ذلك كان رأي عمر وإنما أجازه لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد وقد حكم به أمير الجيش فأنفذه واختلف فيمن يغزو بأفراس فقال أبو حنيفة ومحمد ومالك والشافعي لا يسهم إلا لفرس واحد وقال أبو يوسف والثوري والأوزاعي والليث يسهم لفرسين والذي يدل على صحة القول الأول أنه معلوم أن الجيش قد كانوا يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد ما ظهر الإسلام بفتح خيبر ومكة وحنين وغيرها من

المغازي ولم يكن يخلو الجماعة منهم من أن يكون معه فرسان أو أكثر ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم - ضرب لأكثر من فرس واحد وأيضا فإن الفرس آلة وكان القياس أن لا يضرب له بسهم كسائر الآلات فلما ثبت بالسنة والاتفاق سهم الفرس الواحد أثبتناه ولم نثبت الزيادة إلا بتوقيف إذ كان القياس يمنعه
باب قسمة الخمس

قال
الله تعالى فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل واختلف السلف في كيفية قسمة الخمس في الأصل فروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس فأربعة منها لمن قاتل عليها وخمس واحد يقسم على أربعة فربع لله والرسول ولذي القربى يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم - من الخمس شيئا والربع الثاني لليتامى والربع الثالث للمساكين والربع الرابع لابن السبيل وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين وروى قتادة عن عكرمة مثله وقال قتادة في قوله تعالى فأن لله خمسه قال يقسم الخمس على خمسة أسهم لله وللرسول خمس ولقرابة النبي صلى الله عليه وسلم - خمس ولليتامى خمس وللمساكين خمس ولابن السبيل خمس وقال عطاء والشعبي خمس الله وخمس الرسول واحد قال الشعبي هو مفتاح الكلام وروى سفيان عن قيس بن مسلم قال سألت الحسن بن محمد بن الحنفية عن قوله عز و جل فأن لله خمسه قال هذا مفتاح كلام ليس لله نصيب لله الدنيا والآخرة وقال يحيى بن الجزار فأن لله خمسه قال لله كل شيء وإنما للنبي ص -
خمس الخمس وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالغنيمة فيضرب بيده فما وقع فيها من شيء جعله للكعبة وهو سهم بيت الله ثم يقسم ما بقي على خمسة فيكون للنبي ص - سهم ولذوي القربى سهم ولليتامى سهم وللمساكين سهم ولابن السبيل سهم والذي جعله للكعبة هو السهم الذي لله تعالى وروى أبو يوسف عن أشعث بن سوار عن الزبير عن جابر قال كان يحمل الخمس في سبيل الله تعالى ويعطى منه نائبة القوم فلما كثر المال جعله في غير ذلك وروى أبو يوسف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن الخمس الذي كان يقسم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - على خمسة أسهم لله وللرسول سهم ولذوي القربى سهم ولليتامى سهم وللمساكين سهم وابن السبيل سهم ثم قسم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي على ثلاثة أسهم

لليتامى والمساكين وابن السبيل قال أبو بكر فاختلف السلف في قسمة الخمس على هذه الوجوه قال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أن القسمة كانت على أربعة أسهم الله وسهم الرسول وسهم ذي القربى كان واحدا وأنه لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم -

يأخذ من الخمس شيئا وقال آخرون قوله لله
افتتاح كلام وهو مقسوم على خمسة وهو قول عطاء والشعبي وقتادة وقال أبو العالية كان مقسوما على ستة أسهم لله سهم يجعل للكعبة ولكل واحد من المسلمين في الآية سهم وأخبر ابن عباس في حديث الكلبي أن الخلفاء الأربعة قسموه على ثلاثة وقال جابر بن عبدالله كان يحمل من الخمس في سبيل الله ويعطى منه نائبة القوم ثم جعل في غير ذلك وقال محمد بن مسلمة وهو من المتأخرين من أهل المدينة جعل الله الرأي في الخمس إلى نبيه ص -
كما كانت الأنفال له قبل نزول آية قسمة الغنيمة فنسخت الأنفال في الأربعة
الأخماس وترك الخمس على ما كان عليه موكولا إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم - وكما قال ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ثم قال وما آتاكم الرسول فخذوه فذكر هذه الوجوه ثم قال وما آتاكم الرسول فخذوه فبين في آخره أنه موكول إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم -
وكذلك الخمس قال فيه أنه لله
وللرسول يعني قسمته موكولة إليه ثم بين الوجوه التي يقسم عليها على ما يرى ويختار ويدل على ذلك حديث عبدالواحد بن زياد عن الحجاج بن أرطاة قال حدثنا أبو الزبير عن جابر أنه سئل كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم - يصنع بالخمس قال كان يحمل منه في سبيل الله الرجل ثم الرجل ثم الرجل والمعنى في ذلك أنه كان يعطي منه المستحقين ولم يكن يقسمه أخماسا وأما قول من قال إن القسمة كانت في الأصل على ستة وأن سهم الله كان مصروفا إلى الكعبة فلا معنى له لأنه لو كان ذلك ثابتا لورد النقل به متواترا ولكانت الخلفاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم - أولى الناس باستعمال ذلك فلما لم يثبت ذلك عنهم علم أنه غير ثابت وأيضا فإن سهم الكعبة ليس بأولى بأن يكون منسوبا إلى الله تعالى من سائر السهام المذكورة في الاية إذ كلها مصروف في وجوه القرب إلى الله عز و جل فدل ذلك على أن قوله فأن لله خمسه غير مخصوص بسهم الكعبة فلما بطل ذلك لم يخل المراد بذلك من أحد وجهين إما أن يكون مفتاحا للكلام على ما حكيناه عن جماعة من السلف وعلى وجه تعليمنا التبرك بذكر الله وافتتاح الأمور باسمه أو أن

يكون معناه أن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى ثم بين تلك الوجوه فقال وللرسول ولذي القربى الآية فأجمل بديا حكم الخمس ثم فسر الوجوه التي أجملها فإن قيل لو أراد ما قلت لقال فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ولم يكن يدخل الواو بين اسم الله تعالى واسم رسول الله قيل له لا يجب ذلك من قبل أنه جائز في اللغة إدخال الواو والمراد إلغاؤها كما قال تعالى ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياء والواو ملغاة والفرقان ضياء وقال تعالى فلما أسلما وتله للجبين معناه لما أسلما تله للجبين لأن قوله فلما أسلما يقتضي جوابا وجوابه تله للجبين وكما قال الشاعر ... بل شيء يوافق بعض شيء ... وأحيانا وباطله كثير ...
ومعناه يوافق بعض شيء أحيانا والواو ملغاة وكما قال الآخر ... فإن رشيدا وابن مروان لم يكن ... ليفعل حتى يصدر الأمر مصدرا ...
ومعناه فإن رشيد بن مروان وقال الآخر ... إلى الملك القرم وابن الهام ... وليث الكتيبة في المزدحم ...

والواو في هذه المواضع دخولها وخروجها سواء فثبت بما ذكرنا أن قوله
فأن لله خمسه على أحد المعنيين اللذين ذكرنا وجائز أن يكون جميعا مرادين لاحتمال الآية لهما فينتظم تعليمنا افتتاح الأمور مذكر كالله تعالى وأن الخمس مصروف في وجوه القرب إلى الله تعالى فكان للنبي ص -
سهم من الخمس وكان له الصفي وسهم من الغنيمة كسهم رجل من الجند إذا شهد
القتال وروى أبو حمزة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال وفد عبدالقيس آمركم بأربع شهادة أن لا إله إلا الله وتقيموا الصلاة وتعطوا سهم الله من الغنائم والصفي واختلف السلف في سهم النبي صلى الله عليه وسلم -
بعد موته فروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن ابن محمد بن الحنفية قال
اختلف الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم - في سهم الرسول وسهم ذي القربى فقالت طائفة سهم الرسول للخليفة من بعده وقالت طائفة سهم ذي القربى لقرابة الخليفة وأجمعوا على أن جعلوا هذين السهمين في الكراع والعدة في سبيل الله قال أبو بكر سهم النبي صلى الله عليه وسلم - إنما كان له ما دام حيا فلما توفي سقط سهمه كما سقط الصفي بموته فرجع سهمه إلى جملة الغنيمة كما رجع إليها ولم يعد للنوائب واختلف في سهم ذوي القربى فقال أبو حنيفة في الجامع الصغير يقسم الخمس على ثلاثة أسهم للفقراء والمساكين

وابن السبيل وروى بشر بن الوليد عن ابي يوسف عن أبي حنيفة قال خمس الله والرسول واحد وخمس ذوي القربى لكل صنف سماه الله تعالى في هذه الآية خمس الخمس وقال الثوري سهم النبي صلى الله عليه وسلم -

من الخمس هو خمس الخمس وما بقي فللطبقات التي سمى الله تعالى وقال مالك
يعطى من الخمس أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم - على ما يرى ويجتهد قال الأوزاعي خمس الغنيمة لمن سمي في الآية وقال الشافعي يقسم سهم ذوي القربى بين غنيهم وفقيرهم قال أبو بكر قوله تعالى ولذي القربى لفظ مجمل مفتقر إلى البيان وليس بعموم وذلك لأن ذا القربى لا يختص بقرابة النبي صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الناس ومعلوم أنه لم يرد بها أقرباء سائر الناس فصار اللفظ مجملا مفتقرا إلى الببيان وقد اتفق السلف على أنه قد أريد أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم - فمنهم من قال إن المستحقين لسهم الخمس من الأقرباء هم الذين كانت لهم نصرة وأن السهم كان مستحقا بالأمرين من القرابة والنصرة وأن من ليس نصرة ممن حدث بعد فإنما يستحقه بالفقر كما يستحقه سائر الفقراء ويستدلون على ذلك بحديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم - ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان فقلنا يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم بمكانك الذي وضعك الله فيهم أرأيت بني المطلب أعطيتهم ومنعتنا وإنما هم ونحن منك بمنزلة فقال ص - إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنوا هاشم وبنوا المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه فهذا يدل من وجهين على أنه غير مستحق بالقرابة فحسب أحدهما أن بني المطلب وبني عبد شمس في القرب من النبي صلى الله عليه وسلم -
سواء فأعطى بني المطلب ولم يعط بني عبد شمس ولو كان مستحقا بالقرابة
لساوى بينهم والثاني أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك خرج مخرج البيان لما أجمل في الكتاب من ذكر ذي القربى وفعل النبي صلى الله عليه وسلم -
إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فلما ذكر النبي ص
- النصرة مع القرابة دل على أن ذلك مراد الله تعالى فمن لم يكن له منهم نصرة فإنما يستحقه بالفقر وأيضا فإن الخلفاء الأربعة متفقون على أنه لا يستحق إلا بالفقر وقال محمد بن إسحاق سألت محمد بن علي فقلت ما فعل علي رضي الله عنه بسهم ذوي القربى حين ولي فقال سلك به سبيل أبي بكر وعمر وكره أن يدعي عليه خلافهما قال أبو بكر لو لم يكن هذا رأيه لما قضى به لأنه قد خالفهما في أشياء مثل الجد والتسوية في العطايا وأشياء أخر فثبت أن رأيه ورأيهما كان سواء في

أن سهم ذوي القربى إنما يستحقه الفقراء منهم ولما أجمع الخلفاء الأربعة عليه ثبتت حجته بإجماعهم لقوله ص - عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وفي حديث يزيد بن هرمز عن ابن عباس فيما كتب به إلى نجدة الحروري حين سأله عن سهم ذي القربى فقال كنا نرى أنه لنا فدعانا عمر إلى أن نزوج منه أيمنا ونقضي منه عن مغرمنا فأبينا أن لا يسلمه لنا وأبى ذلك علينا قومنا وفي بعض الألفاظ فأبى ذلك علينا بنو عمنا فأخبر أن قومه وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - رأوه لفقرائهم دون أغنيائهم وقول ابن عباس كنا نرى أنه لنا إخبار أنه قال من طريق الرأي ولا حظ للرأي مع السنة واتفاق جل الصحابة من الخلفاء الأربعة ويدل على صحة قول عمر فيما حكاه ابن عباس عنه حديث الزهري عن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه والفضل بن العباس قالا يا رسول الله قد بلغنا النكاح فجئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنؤدي إليك ما يؤدي العمال ونصيب ما يصيبون فقال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس ثم أمر محمية أن يصدقهما من الخمس وهذا يدل على أن ذلك مستحق بالفقر إذ كان إنما اقتضى لهما على مقدار الصداق الذي احتاجا إليه للتزويج ولم يأمر لهما بما فضل عن الحاجة ويدل على أن الخمس غير مستحق قسمته على السهمان وأنه موكول إلى رأي الإمام قوله ص - مالي من هذا المال إلا الخمس والخمس مردود فيكم ولم يخصص القرابة بشيء منه دون غيرهم دل ذلك على أنهم فيه كسائر الفقراء يستحقون منه مقدار الكفاية وسد الخلة ويدل عليه قوله ص - يذهب كسرى فلا كسرى بعده أبدا ويذهب قيصر فلا قيصر بعده أبدا والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله فأخبر أنه ينفق في سبيل الله ولم يخصص به قوما من قوم ويدل على أنه كان موكولا إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أعطى المؤلفة قلوبهم وليس لهم ذكر في آية الخمس فدل على ما ذكرنا ويدل عليه أن كل من سمي في آية الخمس لا يستحق إلا بالفقر وهم اليتامى وابن السبيل فكذلك ذو القربى لأنه سهم من الخمس ويدل عليه أنه لما حرم عليهم الصدقة أقيم ذلك لهم مقام ما حرم عليهم منها فوجب أن لا يستحقه منهم إلا فقير كما أن الأصل الذي أقيم هذا مقامه لا يستحقه إلا فقير فإن قيل موالي بني هاشم لا تحل لهم الصدقة ولم يدخلوا في استحقاق السهم من الخمس قيل له هذا غلط لأن موالي بني هاشم لهم سهم من الخمس إذ

كانوا فقراء على حسب ما هو لبني هاشم فإن قيل إذا كانت قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يستحقون سهمهم بالفقر والحاجة فما وجه تخصيصه إياهم بالذكر وقد دخلوا في جملة المساكين قيل له كما خص اليتامى وابن السبيل بالذكر ولا يستحقونه إلا بالفقر وأيضا لما سمى الله الخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل كما قال إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم - إن الصدقة لا تحل لآل محمد فلو لم يسمهم في الخمس جاز أن يظن ظان أنه لا يجوز إعطاؤهم منه كما لا يجوز أن يعطوا من الصدقات فسماهم إعلاما منه لنا أن سبيلهم فيه بخلاف سبيلهم في الصدقات فإن قيل قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم - العباس من الخمس وكان ذا يسار فدل على أنه للأغنياء والفقراء منهم قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أنه أخبر أنه أعطاهم بالنصرة والقرابة لقوله ص -

إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام فاستوى فيه الفقير والغني لتساويهم
في النصرة والقرابة والثاني أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - إنما أعطى العباس لتفرقه في فقراء بني هاشم ولم يعطه لنفسه وقد اختلف في ذوي القربى من هم فقال أصحابنا قرابة النبي صلى الله عليه وسلم - الذين تحرم عليهم الصدقة هم ذو قراباته وآله وهم آل جعفر وآل عقيل وولد الحارث بن عبدالمطلب وروي نحو ذلك عن زيد بن أرقم وقال آخرون بنو المطلب داخلون فيهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم - أعطاهم من الخمس وقال بعضهم قريش كلها من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم -
الذين لهم سهم من الخمس إلا أن للنبي ص
- أن يعطيه من رأى منهم قال أبو بكر أما من ذكرناهم فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ذوو أقربائه وأما بنو المطلب فهم وبنو عبد شمس في القرب من النبي صلى الله عليه وسلم - سواء فإن وجب أن يدخلوا في القرابة الذين تحرم عليهم الصدقة فواجب أن يكون بنو عبد شمس مثلهم لمساواتهم إياهم في الدرجة فأما إعطائهم الخمس فإنما خص هؤلاء به دون بني عبد شمس بالنصرة لأنه قال لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وأما الصدقة فلم يتعلق بتحريمها بالنصرة عند جميع الفقهاء فثبت أن بني المطلب ليسوا من آل النبي صلى الله عليه وسلم - الذين تحرم الصدقة عليهم كبني عبد شمس وموالي بني هاشم تحرم عليهم الصدقة ولا قرابة لهم ولا يستحقون من الخمس شيئا بالقرابة وقد سألته فاطمة رضي الله عنها خادما من الخمس فوكلها إلى التكبير والتحميد ولم يعطها فإن قيل إنما لم يعطها لأنها ليست من ذوي قرباه لأنها أقرب إليه من ذوي قرباه قيل له فقد خاطب عليا بمثل ذلك وهو من ذوي القربى وقال لبعض بنات عمه حين ذهبت مع فاطمة

إليه تستخدمه سبقكن يتامى بدر وفي يتامى بدر من لم يكن من بني هاشم لأن أكثرهم من الأنصار ولو استحقتا بالقرابة شيئا لا يجوز منعهما إياه لما منعهما حقهما ولا عدل بهما إلى غيرهما وفي هذا دليل على معنيين أحدهما أن سهمهم من الخمس أمره كان موكولا إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم -

في أن يعطيه من شاء منهم والثاني أن إعطاءهم من الخمس أو منعه لا تعلق له
بتحريم الصدقة وأما من قال أن قرابة النبي صلى الله عليه وسلم - قريش كلها فإنه يحتج لذلك بأنه لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين قال النبي صلى الله عليه وسلم - يا بني فهر يا بني عدي يا بني فلان لبطون قريش غني نذير لكم بين يدي عذاب شديد وروي عنه أنه قال يا بني كعب بن لؤي وأنه قال يا بني هاشم يا بني قصي يا بني عبد مناف وروي عنه أنه قال لعلي اجمع لي بني هاشم وهم أربعون رجلا قالوا فلما ثبت أن قريشا كلها من أقربائه وكان إعطاء السهم من الخمس موكولا إلى رأي النبي صلى الله عليه وسلم - أعطاه من كان له منهم نصرة دون غيرهم قال أبو بكر اسم القرابة واقع على هؤلاء كلهم لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم -
إياهم عند نزول قوله تعالى
وأنذر عشيرتك الأقربين فثبت بذلك أن الاسم يتناول الجميع فقد تعلق بذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم -
أحكام ثلاثة أحدها استحقاق سهم من الخمس بقوله تعالى وللرسول
ولذي القربى وهم الفقراء منهم على الشرائط التي قدمنا ذكرها عن المختلفين فيها والثاني تحريم الصدقة عليهم وهم آل على وآل العباس وآل عقيل وآل جعفر وولد الحارث بن عبدالمطلب وهؤلاء هم أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم -
ولا حظ لبني المطلب في هذا الحكم لأنهم ليسوا أهل بيت النبي ص
- ولو كانوا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم -
لكانت بنو أمية من أهل بيت النبي ص
- ومن آله ولا خلاف أنهم ليسوا كذلك فكذلك بنو المطلب لمساواتهم إياه في نسبهم من النبي صلى الله عليه وسلم - والثالث تخصيص الله تعالى لنبيه بإنذار عشيرته الأقربين فانتظم ذلك بطون قريش كلها على ما ورد به الأثر في إنذاره إياهم عند نزول الآية وإنما خص عشيرته الأقربين بالإنذار لأنه أبلغ عند نزول الآية في الدعاء إلى الدين وأقرب إلى نفي المحاباة والمداهنة في الدعاء إلى الله عز و جل لأن سائر الناس إذا علموا انه لم يحتمل عشيرته على عبادة غير الله وأنذرهم ونهاهم أنه أولى بذلك منهم إذ لو جازت المحاباة في ذلك لأحد لكانت أقرباؤه أولى الناس بها وقوله تعالى واليتامى فإن حقيقة اليتم هو الانفراد ومنه الرابية المنفردة تسمى يتيمة والمرأة المنفردة عن الأزواج تسمى يتيمة إلا أنه قد اختص في الناس

بالصغير الذي قد مات أبوه وهو يفيد الفقر مع ذلك ايضا عند الإطلاق ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون أن الوصية جائزة لأنها للفقراء منهم ولا خلاف أنه قد أريد مع اليتم الفقر في هذه الآية وأن الأغنياء من الأيتام لا حظ لهم فيه ويدل على أن اليتم اسم يقع على الصغير الذي قد مات أبوه دون الكبير قوله ص -

لا يتم بعد حلم وقد قيل إن كل ولد يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإن يتمه
من قبل أبيه وقوله تعالى وابن السبيل فإنه المسافر المنقطع به المحتاج إلى ما يتحمل به إلى بلده وإن كان له مال في بلده فهو بمنزلة الفقير الذي لا مال له لأن المعنى في وجوب إعطائه حاجته إليه فلا فرق بين من له مالا يصل إليه وبين من لا مال له وأما المسكين فقد اختلف فيه وسنذكره في موضعه من آية الصدقات وفي اتفاق الجميع على أن ابن السبيل واليتيم إنما يستحقان حقهما من الخمس بالحاجة دون الاسم دلالة على أن المقصد بالخمس صرفه إلى المساكين فإن قي إذا كان المعنى هو الفقر فلا فائدة في ذكر وذي القربى قيل له فيه أعظم الفوائد وهو أن آل النبي صلى الله عليه وسلم - لما حرمت عليهم الصدقة كان جائزا أن يظن ظان أن الخمس محرم عليهم كتحريمها إذ كان سبيله صرفه إلى الفقراء فأبان الله تعالى بتسميتهم في الآية عن جواز إعطائهم من الخمس بالفقر ويلزم هذا السائل أن يعطي اليتامى وابن السبيل بالاسم دون الحاجة عن قضيته بان لو كان مستحقا بالفقر ما كان لتسميته ابن السبيل واليتيم معنى وهما إنما يستحقانه بالفقر قوله تعالى إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا قيل أن الفئة هي الجماعة المنقطعة عن غيرها وأصله من فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته والمراد بالفئة ههنا جماعة من الكفار فأمرهم بالثبات لهم وقتالهم وهو قبل معنى قوله تعالى إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار الآية ومعناه مرتب على ما ذكر في هذه من جواز التحرف للقتال أو الانحياز إلى فئة من المسلمين ليقاتل معهم ومرتب أيضا على ما ذكر بعد هذا من قوله تعالى آلآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله فإنما اهم مأمورون بالثبات لهم إذا كان العدو مثلهم فإن كانوا ثلاثة أضعافهم فجائز لهم الانحياز إلى فئة من المسلمين يقاتلون معهم وقوله تعالى واذكروا الله كثيرا يحتمل وجهين أحدهما ذكر الله تعالى باللسان والآخر الذكر بالقلب وذلك على وجهين أحدهما ذكر

ثواب الصبر على الثبات لجهاد أعداء الله المشركين وذكر عقاب الفرار والثاني ذكر دلائله ونعمه على عباده وما يستحقه عليهم من القيام بفرضه في جهاد أعدائه وضروب هذه الأذكار كلها تعين على الصبر والثبات ويستدعى بها النصر من الله والجرأة على العدو والاستهانة بهم وجائز أن يكون المراد بالآية جميع الأذكار لشمول الاسم لجميعها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يوافقني معنى الآية ما حدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا سفيان الثوري عن عبدالرحمن بن زياد عن عبدالله بن زيد عن عبدالله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تمنوا لقاء العدو واسئلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله كثيرا وإن أجلبوا أو ضخوا فعليكم بالصمت قوله تعالى وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم أمر الله تعالى في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله ونهى بها عن الاختلاف والتنازع وأخبر أن الاختلاف والتنازع يؤدي إلى الفشل وهو ضعف القلب من فزع يلحقه وأمر في آية أخرى بطاعة ألاة الأمر لنفي الاختلاف والتنازع المؤديين إلى الفشل في قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول وقال في آية أخرى ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر فأخبر تعالى أنه أراهم في منامهم قليلا لئلا يتنازعوا إذا رأوهم كثيرا فيفشلوا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال ولن يغلب اثني عشر الفا من قلة إذا اجتمعت كلمتهم فتضمنت هذه الآية كلها النهي عن الاختلاف والتنازع وأخبر أن ذلك يؤدي إلى الفشل وإلى ذهاب الدولة بقوله وتذهب ريحكم وقيل إن المعنى ريح النصر التي يبعثها الله مع من ينصره على من يخذله وروى ذلك عن قتادة وقال أبو عبيدة تذهب دولتهم من قولهم ذهبت ريحه أي ذهبت دولته قوله تعالى فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم تثقفنهم معناه تصادفهم وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير فشرد بهم من خلفهم إذا أسرتهم فنكل بهم تنكيلا تشرد غيرهم من ناقضي العهد خوفا منك وقال غيرهم افعل بهم من القتل ما تفرق به من خلفهم عن التعاون على قتالك ويشبه أن يكون ما أمر به أبو بكر الصديق رضي الله عنه من التنكيل بأهل الردة وإحراقهم بالنيران ورميهم من رؤس الجبال وطرحهم في الآبار ذهب فيه إلى أن تأويل الآية في تشريد سائر المرتدين

عن التعاون والاجتماع على قتال المسلمين قوله تعالى وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء الآية يعني والله أعلم إذا خفت غدرهم وخدعتهم وإيقاعهم بالمسلمين وفعلوا ذلك خفيا ولم يظهروا نقض العهد فانبذ إليهم على سواء يعني ألق إليهم فسخ ما بينك وبينهم من العهد والهدنة حتى يستوي الجميع في معرفة ذلك وهو معنى قوله على سواء لئلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب وقيل على سواء على عدل من قول الزاجر ... فاضرب وجوه الغدر للأعداء ... حتى يجيبوك إلى السواء ...
ومنه قيل للوسط سواء لاعتداله كما قال حسان ... يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحدي ...
أي في وسطه وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم -

أهل مكة بعدالهدنة من غير أن ينبذ إليهم لأنهم قد كانوا نقضوا العهد
بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة وكانت حلفاء للنبي ص - ولذلك جاء أبو سفيان إلى المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم -
تجديد العهد بينه وبين قريش فلم يجبه النبي ص
- إلى ذلك فمن أجل ذلك لم يحتج إلى النبذ إليهم إذ كانوا قد أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم -
وروي نحو معنى الآية عن النبي ص
- حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حفص بن عمروالنمري قال حدثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم وقال غيره سليم بن عامر رجل من حمير قال كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس برزون وهو يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر فنظروا فإذا عمرو بن عبسة فأرسل إليه معاوية فسأله فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها
او ينبذ إليهم على سواء فرجع معاوية وقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية بإعداد السلاح والكراع قبل وقت القتال إرهابا للعدو والتقدم في ارتباط الخيل استعدادا لقتال المشركين وقد روي في القوة إنها الرمي حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبدالله بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي علي ثمامة بن شفي الهمداني أنه سمع عقبة بن عامر الجهني يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وهو على المنبر

يقول وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا فضل بن سحتب قال حدثنا ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن عمرو عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وكل لهو المؤمن باطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه أو ملاعبته امرأته فإنهن من الحق وحدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبدالله بن المبارك قال حدثني عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال حدثني أبو سلام عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله وارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا ليس من اللهو ثلاثة تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ورميه بقوسه ونبله ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة تركها أو قال كفرها وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا حسين بن إسحاق قال حدثنا المغيرة بن عبدالرحمن قال حدثنا عثمان بن عبدالرحمن قال حدثنا الجراح بن منهال عن ابن شهاب عن أبي سليمان مولى أبي رافع عن أبي رافع قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

من حق الولد على الوالد أن يعلمه كتاب الله والسباحة والرمي ومعنى قوله ص
- ألا إن القوة الرمي أنه من معظم ما يجب إعداده من القوة على قتال العدو ولم ينف به أن يكون غيره من القوة بل عموم اللفظ الشامل لجميع ما يستعان به على العدو ومن سائر أنواع السلاح وآلات الحرب وقد حدثنا عبدالباقي قال حدثنا جعفر بن أبي القتيل قال حدثنا يحيى بن جعفر قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثنا عيسى بن إبراهيم الثمالي عن الحكم بن عمير قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن لا نحفي الأظفار في الجهاد وقال إن القوة في الأظفار وهذا يدل على أن
جميع ما يقوي على العدو فهو مأمور باستعداده وقال الله تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة فذمهم على ترك الاستعداد والتقدم قبل لقاء العدو وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ارتباط الخيل ما يواطئ معنى الآية وهو ما حدثنا عبدالباقي بن نافع قال حدثنا الحسين بن إسحاق التستري قال حدثنا أحمد بن عمر قال حدثنا ابن وهب عن ابن لهيعة عن عبيد بن أبي حكيم الأزدي عن الحصين بن حرملة البري عن أبي المصبح قال سمعت جابر بن عبدالله يقول قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم - الخيل معقود في نواصيها الخير والنيل إلى يوم القيامة وأصحابها معانون قلدوها ولا تقلدوها الأوتار قال أبو بكر بين في الخبر الأول أن الخير هو الأجر والغنيمة وفي ذلك ما يوجب أن ارتباطها قربة إلى الله تعالى فإذا أريد به الجهاد وهو يدل أيضا على بقاء الجهاد إلى يوم القيامة إذ كان الأجر مستحقا بارتباطها للجهاد في سبيل الله عز و جل وقوله ص - ولا تقلدوها الأوتار قيل فيه معنيان أحدهما خشية اختناقها بالوتر والثاني أن أهل الجاهلية كانوا إذا طلبوا بالأوتار والدخول قلدوا خيلهم الأوتار يدلون بها على أنهم طالبون بالأوتار مجتهدون في قتل من يطلبونهم بها فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم -

الطلب بدخول الجاهلية ولذلك قال النبي ص
- يوم فتح مكة ألا إن كل دم ومأثرة فهو موضوع تحت قدمي هاتين وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث
باب
الهدنة والموادعة
قال الله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها والجنوح الميل ومنه يقال جنحت السفينة إذا مالت والسلم المسألة ومعنى الآية أنهم إن مالوا إلى المسالمة وهي طلب السلامة من الحرب فسالمهم واقبل ذلك منهم وإنما قال فاجنح لها لأنه كناية عن المسالمة وقد اختلف في بقاء هذا الحكم فروى سعيد ومعمر عن قتادة أنها منسوخة بقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وروي عن الحسن مثله وروى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس وإن جنحوا للسلم فاجنح لها قال نسختها قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله وهم صاغرون وقال آخرون لا نسخ فيها لأنها في موادعة أهل الكتاب وقوله تعالى فاقتلوا المشركين في عبدة الأوثان قال أبو بكر قد كان النبي صلى الله عليه وسلم - عاهد حين قدم المدينة أصنافا من المشركين منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة وعاهد قبائل من المشركين ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم - ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك وذلك قبل أن يكثر أهل الإسلام ويقوى أهله فلما كثر المسلمون وقوي الدين أمر بقتل مشركي العرب ولم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بقوله عز و جل فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وأمر بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أن يعطوا الجزية بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله

وهم صاغرون ولم يختلفوا أن سورة براءة من أواخر ما نزل من القرآن وكان نزولها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - ابا بكر على الحج في السنة التاسعة من الهجرة وسورة الأنفال نزلت عقيب يوم بدر بين فيها حكم الأنفال والغنائم والعهود والموادعات سورة براءة مستعمل على ما ورد وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها فحكم حكم ثابت أيضا وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين فالحال التي أمر فيها بالمسألة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوتهم على عدوهم وقد قال تعالى فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم فنهى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم وكذلك قال أصحابنا إذا قدر بعض أهل الثغور على قتال العدو ومقاومتهم لم تجز لهم مسالمتهم ولا يجوز لهم إقرارهم على الكفر إلا بالجزية وإن ضعفوا عن قتالهم جاز لهم مسالمتهم كما سالم النبي صلى الله عليه وسلم - كثيرا من أصناف الكفار وهادنهم على وضع الحرب بينهم من غير جزية أخذها منهم قالوا فإن قووا بعد ذلك على قتالهم نبذوا إليهم على سواء ثم قاتلوهم قالوا وإن لم يمكنهم دفع العدو عن أنفسهم إلا بما يبذلونه لهم جاز لهم ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قد كان صالح عيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب على نصف ثمار المدينة حتى لما شاور الأنصار قالوا يا رسول الله هو أمر أمرك الله به أم الرأي والمكيدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم - لا بل هو رأي لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة فأردت أن أدفعهم عنكم إلى يوم ما فقال السعدان بن عبادة وسعد بن معاذ والله يا رسول الله إنهم لم يكونوا يطمعون فيها منا إلا قرى وشرى ونحن كفار فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام لا نعطيهم إلا بالسيف وشقاء الصحيفة فهذا يدل على أنهم إذا خافوا المشركين جاز لهم أن يدفعوهم عن أنفسهم بالمال فهذه أحكام بعضها ثابت بالقرآن وبعضها بالسنة وهي مستعملة في الأحوال التي أمر الله تعالى بها واستعملها النبي صلى الله عليه وسلم - فيها وهذا نظير ما ذكرنا في ميراث الحليف أنه حكم ثابت بقوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم في حال عدم ذوي الأنساب وولاء العتاق فإذا كان هناك ذو نسب أو ولاء عتاقة فهم أولى من الحليف كما أن الإبن أولى من الأخ ولم يخرج من أن يكون من أهل الميراث قوله تعالى وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم الآية روي أنه أراد به

الأوس والخزرج وكانوا على غاية العداوة والبغضاء قبل الإسلام فألف الله بين قلوبهم بالإسلام روي ذلك عن بشير بن ثابت الأنصاري وابن إسحاق والسدي وقال مجاهد هو كل متحابين في الله قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين إلى آخر القصة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن ابي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين قال أمر الله تعالى الرجل من المسلمين أن يقاتل عشرة من الكفار فشق ذلك عليهم فرحمهم فقال فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا الفين وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال ايما رجل فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر وإنما عنى ابن عباس ما ذكر في هذه الآية وكان الفرض في أول الإسلام على الواحد قتال العشرة من الكفار لصحة بصائر المؤمنين في ذلك الوقت وصدق يقينهم ثم لما أسلم قوم آخرون خالطهم من لم يكن لهم بصائرهم ونياتهم خفف عن الجميع وأجراهم مجرى واحدا ففرض على الواحد مقاومة الاثنين قوله تعالى الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا لم يرد به ضعف القوى والأبدان وإنما المراد ضعف النية لمحاربة المشركين فجعل فرض الجميع فرض ضعفائهم وقال عبدالله بن مسعود ما ظننت أن أحدا من المسلمين يريد بقتاله غير الله حتى أنزل الله تعالى منكم من يريد الدينا ومنكم من يريد الآخرة فكان الأولون على مثل هذه النيات فلما خالطهم من يريد الدنيا بقتاله سوى بين الجميع في الفرض وفي هذه الآية دلالة على بطلان من أبى وجود النسخ في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم -

وإن لم يكن قائله معتقدا بقوله لأنه قال تعالى الآن
خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين والتخفيف لا يكون إلا بزوال بعض الفرض أو النفل عنه إلى ما هو أخف منه فثبت بذلك أن الآية الثانية ناسخة للفرض الأول وزعم القائل بما ذكرنا من إنكار النسخ لأنه ليس في الآية أمر وإنما فيه الوعد بشريطة فمتى وفى بالشرط أنجز الوعد وإنما كلف كل قوم من الصبر على قدر استطاعتهم فكان على الأولين ما ذكر من مقاومة العشرين للمائتين والآخرون لم يكن لهم من نفاذ البصيرة مثل ما للأولين فكلفوا مقاومة الواحد للإثنين

والمائة للمائتين قال ومقاومة العشرين للمائتين غير مفروضة وكذلك المائة للمائتين وإنما الصبر مفروض على قدر الإمكان والناس مختلفون في ذلك على مقادير استطاعتهم فليس في الآية نسخ كما زعم قال أبو بكر هذا كلام شديد الاختلال والتناقض خارج عن قول الأمة سلفها وخلفها وذلك لأنه لا يختلف أهل النقل والمفسرون في أن الفرض كان في أول الإسلام مقاومة الواحد للعشرة ومعلوم أيضا أن قوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن كان لفظه لفظ الخبر فمعناه الأمر كقوله تعالى والوالدات يرضعن أولادهن وقوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن وليس هو إخبار بوقوع ذلك وإنما هو أمر بأن لا يفر الواحد من العشرة ولو كان هذا خبرا لما كان لقوله الآن خفف الله عنكم معنى لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به لا في المخبر عنه ومعلوم أيضا أن القوم الذين كانوا مأمورين بأن يقاوم الواحد منهم عشرة من المشركين داخلون في قوله الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فلا محالة قد وقع النسخ عنهم فيما كانوا تعبدوا به من ذلك ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم ولقل صبرهم وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم وهم المعنيون بقوله تعالى وعلم أن فيكم ضعفا فبطل بذلك قول هذا القائل بما وصفنا وقد اقر هذا القائل أن بعض التكليف قد زال منهم بالآية الثانية وهذا هو معنى النسخ والله أعلم بالصواب
باب

الأسارى
قال الله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض حدثنا محمد ابن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو نوح قال أخبرنا عكرمة ابن عمار قال حدثنا سماك الحنفي قال حدثني ابن عباس قال حدثني عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم -
الفداء فأنزل الله تعالى ما
كان لنبي أن يكون له أسرى إلى قوله لمسكم فيما أخذتم من الفداء ثم أحل الله الغنائم وحدثنا عبدالباقي ابن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبدالله بن صالح قال حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال كان يوم بدر تعجل ناس من المسلمين فأصابوا من الغنائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لم تحل الغنائم لقوم سود الرؤس قبلكم كان النبي

إذا غنم هو وأصحابه جمعوا غنائمهم فتنزل من السماء نار فتأكلها فأنزل الله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وروي فيه وجه آخر وهو ما رواه الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبدالله قال شاور النبي صلى الله عليه وسلم -

أصحابه في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالاستبقاء وأشار عمر بالقتل وأشار
عبدالله بن رواحة بالإحراق فقال النبي صلى الله عليه وسلم - مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم حين قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثل عيسى إذ قال إن تعذبهم فإنهم عبادك الآية ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ومثل موسى إذ قال ربنا اطمس على أموالهم الآية أنتم عالة فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضربة عنق فقال ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإنه ذكر الإسلام فسكت ثم قال إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى آخر الآيتين وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم -
استشار أبا بكر وعمر وعليا في أسارى بدر فأشار أبو بكر بالفداء وأشار عمر
بالقتل فهوى رسو الله ص - ما قال أبو بكر ولم يهوى ما قال عمر فلما كان من الغد جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فقال أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى إلى آخر القصة فذكر في حديث ابن عباس المتقدم في الباب وحديث أبي هريرة أن قوله لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم إنما نزل في أخذهم الغنائم وذكر في حديث عبدالله بن مسعود وابن عباس الآخر أن الوعيد إنما كان في عرضهم الفداء على رسول الله صلى الله عليه وسلم -
وإشارتهم عليه به والأول أولى بمعنى الآية لقوله تعالى
لمسكم فيما أخذتم ولم يقل فيما عرضتم وأشرتم ومع ذلك فإنه يستحيل أن يكون الوعيد في قوله قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ومن الناس من يجيز ذلك على
النبي صلى الله عليه وسلم - من طريق اجتهاد الرأي ويجوز أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - أباح لهم أخذ الفداء وكان ذلك معصية صغيرة فعاتبه الله والمسلمين عليها وقد ذكر في الحديث الذي في صدر الباب أن الغنائم لم تحل قبل نبينا لأحد وفي الآية ما يدل على ذلك

وهو قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض فكان في شرائع الأنبياء المتقدمين تحريم الغنائم وفي شريعة نبينا تحريمها حتى يثخن في الأرض واقتضى ظاهره إباحة الغنائم والأسرى بعد الإثخان وقد كانوا يوم بدر مأمورين بقتل المشركين بقوله تعالى فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان وقال تعالى في آية أخرى فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق وكان الفرض في ذلك الوقت القتل حتى إذا أثخن المشركون فحينئذ إباحة الفداء وكان أخذ الفداء قبل الإثخان محظورا وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - حازوا الغنائم يوم بدر وأخذوا الأسرى وطلبوا منهم الفداء وكان ذلك من فعلهم غير موافق لحكم الله تعالى فيهم في ذلك ولذلك عاتبهم عليه ولم يختلف نقلة السير ورواة المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ منهم الفداء بعد ذلك وأنه قال لا ينفلت منهم إلا بفداء أو ضربة عنق وذلك يوجب أن يكون حظر أخذ الأسرى ومفاداتهم المذكورة في هذه الآية وهو قوله تعالى ما كان لنبي أن يكون له أسرى منسوخا بقوله لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم - منهم الفداء فإن قيل كيف يجوز أن يكون ذلك منسوخا وهو بعينه الذي كانت المعاتبة من الله للمسلمين وممتنع وقوع الإباحة والحظر في شيء واحد قيل له إن أخذ الغنائم والأسرى وقع بديا على وجه الحظر فلم يملكوا ما أخذوا ثم إن الله تعالى أباحها لهم وملكهم إياها فالأخذ المباح ثانيا هو غير محظور أولا وقد اختلف في معنى قوله تعالى لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيم أخذتم عذاب عظيم فروى أبو زميل عن ابن عباس قال سبقت لهم الرحمة قبل أن يعلموا المعصية وروي مثله عن الحسن رواية وهذا يدل على أنهما رأيا ذلك معصية صغيرة وقد وعد الله غفرانها باجتنابهم الكبائر وكتب لهم ذلك قبل عملهم للمعصية الصغيرة وروي عن الحسن أيضا ومجاهد أن الله تعالى كان مطعما لهذه الأمة الغنيمة ففعلوا الذي فعلوا قبل أن تحل لهم الغنيمة قال أبو بكر حكم الله تعالى بأنه ستحل لهم الغنيمة في المستقبل لا يزيل عنهم حكم الحظر قبل إحلالها ولا يخفف من عقابه فلا يجوز أن يكون التأويل أن إزالة العقاب لأجل أنه كان في معلومه إباحة الغنائم لهم بعده وروي عن الحسن أيضا وعن مجاهد قالا سبق من الله أن لا يعذب قوما إلا بعد تقدمه ولم يكن تقدم إليهم فيها وهذا وجه صحيح وذلك لأنهم لم يعلموا

بتحريم الغنائم على أمم الأنبياء المتقدمين وبقاء هذا الحكم عليهم من شريعة نبينا ص -

فاستباحوها على ظن منهم أنها مباحة ولم يكن قد تقدم لهم من النبي ص
- قول في تحريمها عليهم ولا أخبار منه إياهم بتحريمها على الأمم السالفة فلم يكن خطؤهم في ذلك معصية يستحق عليها العقاب قوله تعالى فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا فيه إباحة الغنائم وقد كانت محظورة قبل ذلك وقد ذكرنا حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم -
قال لم تحل الغنائم لقوم سود الرءوس قبلكم وروى الزهري عن سعيد بن المسيب
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وأرسلت إلى الأحمر والأبيض وأعطيت الشفاعة فأخبر ص - في هذين الخبرين أن الغنائم لم تحل لأحد من الأنبياء وأممها قبله وقوله تعالى فكلوا مما غنمتم قد اقتضى وقوع ملك الغنائم لهم إذا أخذوا وإن كان المذكور في لفظ الآية هو الأكل وإنما خص الأكل بذلك لأنه معظم منافع الأملاك إذ به قوام الأبدان وبقاء الحياة وأراد بذلك تمليك سائر وجوه منافعها وهو كما قال تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فخص اللحم بذلك والمراد جميع أجزائه لأنه مبتغى منافعه ومعظمها في لحومه وكما قال تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فخص البيع بالحظر في تلك الحال والمراد سائر ما يشغل عن الصلاة وكان وجه تخصيصه أنه معظم منافع التصرف في ذلك الوقت فإذا كان معظمه محظورا فما دونه أولى بذلك وذلك في مفهوم اللفظ ومثله قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما فخص الأكل بالذكر ودل به على حظر الأخذ والإتلاف من غير جهة الأكل فهذا حكم اللفظ إذا ورد في مثله ولولا قيام الدلالة وكون المعنى معقولا من اللفظ على الوجه الذي ذكرنا لما كانت إباحة الأكل موجبة للتمليك ولذلك قال أصحابنا فيمن أباح لرجل أكل طعامه أنه ليس له أن يتملكه ولا يأخذه وإنما له الأكل فحسب ولكنه لما كان في مفهوم خطاب الآية التمليك على الوجه الذي ذكرنا أوجب التمليك وقد قال الله تعالى في آية أخرى اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه فجعل الأربعة الأخماس غنيمة لهم وذلك يقتضي التمليك وكذلك ظاهر قوله تعالى فكلوا مما غنمتم لما أضاف الغنيمة إليهم فقد افاد تملكها إياهم

بإطلاقه لفظ الغنيمة فيه ثم عطفه الأكل عليها لم ينف ما تضمنه من التمليك كما لو قال كلوا مما ملكتم لم يكن إطلاق لفظ الأكل مانعا من صحة الملك ويدل على ذلك دخول الفاء عليه كأنه قال قد ملكتكم ذلك فكلوا والغنيمة اسم لما أخذ من أموال المشركين بقتال فيكون خمسه لله تعالى وأربعة أخماسه للغانمين بقوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وأما الفيء فهو كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بغير قتال روي هذا الفرق بينهما عن عطاء بن السائب وعن سفيان الثوري أيضا قال أبو بكر الفيء كل ما صار من أموال المشركين إلى المسلمين بقتال أو بغير قتال إذ كان سبب أخذه الكفر قال أصحابنا الجزية فيء والخراج وما يأخذه الإمام من العدو على وجه الهدنة والموادعة فهو فيء أيضا وقال الله عز و جل ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول الآية فقيل إن هذا فيما لم يوجف عليه المسلمون مثل فدك وما أخذ من أهل نجران فكان للنبي ص - صرفه في هذه الوجوه وقيل إن هذه كانت في الغنائم فنسخت بقوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وجائز عندنا أن لا تكون منسوخة وأن تكون آية الغنيمة فيما أوجف عليه المسلمون بخيل أو ركاب وظهر عليهم بالقتال وآية الفيء التي في الحشر فيما لم يوجف عليه المسلمون وأخذ منهم على وجه الموادعة والهدنة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم - بأهل نجران وفدك وسائر ما أخذه منهم بغير قتال والله أعلم بالصواب
باب

التوارث بالهجرة
قال الله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا الآية حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيدة قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله الآية قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر فنسختها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وروى عبدالرحمن بن عبدالله بن المسعودي عن القاسم قال آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بين الصحابة وآخى بين عبدالله بن مسعود والزبير بن العوام أخوة يتوارثون
بها

لأنهم هاجروا وتركوا أقرباءهم حتى أنزل الله آية المواريث قال أبو بكر اختلف السلف في أن التوارث كان ثابتا بينهم بالهجرة والأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم -

بينهم دون الأرحام وأن ذلك مراد هذه الآية وأن قوله تعالى أولئك
بعضهم أولياء بعض قد أريد به إيجاب التوارث بينهم وأن قوله مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قد نفى إثبات التوارث بينهم بنفيه الموالاة بينهم وفي هذا دلالة على أن إطلاق الموالاة يوجب التوارث وإن كان قد يختص به بعضهم دون جميعهم على حسب وجود الأسباب المؤكدة له كما أن النسب سبب يستحق به الميراث وإن كان بعض ذوي الأنساب أولى به في بعض الأحوال لتأكد سببه وفي هذا دليل على أن قوله تعالى ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا موجب لإثبات القود لسائر ورثته وأن النساء والرجال في ذلك سواء لتساويهم في كونهم من مستحقي ميراثه ويدل أيضا على أن الولاية في النكاح مستحقة بالميراث وأن قوله ص - لا نكاح إلا بولي مثبت للولاية لجميع من كان من أهل الميراث على حسب القرب وتأكيد السبب وأنه جائز للأم تزويج أولادها الصغار إذ لم يكن لهم أب على ما يذهب إليه أبو حنيفة إذ كانت من أهل الولاية في الميراث وقد كانت الهجرة فرضا حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم - إلى أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم -
مكة فقال لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية فنسخ التوارث بالهجرة بسقوط
فرض الهجرة وأثبت التوارث بالأنساب بقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله قال الحسن كان المسلمون يتوارثون بالهجرة حتى كثر المسلمون فأنزل الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض فتوارثوا بالأرحام وروى الأوزاعي عن عبدة عن مجاهد عن ابن عمر قال انقطعت الهجرة بعد الفتح وروى الأوزاعي أيضا عن عطاء ابن أبي رباح عن عائشة مثله وزاد فيه ولكن جهاد ونية وإنما كانت الهجرة إلى الله ورسوله والمؤمنون يفرون بدينهم من أن يفتنوا عنه وقد أذاع الله الإسلام وأفشاه فتضمنت هذه الآية إيجاب التوارث بالهجرة والمؤاخاة دون الأنساب وقطع الميراث بين المهاجرين وبين من لم يهاجر واقتضى أيضا إيجاب نصرة المؤمن الذي لم يهاجر إذا استنصر المهاجر على من لم يكن بينهم وبينه عهد بقوله تعالى وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق وقد روي في قوله تعالى مالكم من ولايتهم

من شيء حتى يهاجروا ما قد بينا ذكره في نفي الميراث عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين وقيل إنه أراد نفي إيجاب النصرة فلم تكن حينئذ على المهاجر نصرة ومن لم يهاجر إلا أن يستنصر فتكون عليه نصرته إلا على من كان بينه وبينه عهد فلا ينقض عهده وليس يمتنع أن يكون نفي الولاية مقتضيا للأمرين جميعا من نفي التوارث والنصرة ثم نسخ نفي الميراث بإيجاب التوارث بالأرحام مهاجرا كان أو غير مهاجر وإسقاطه بالهجرة فحسب ونسخ نفي إيجاب النصرة بقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض وقوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض قال ابن عباس والسدي يعني في الميراث وقال قتادة في النصرة والمعاونة وهو قول ابن إسحاق قال أبو بكر لما كان قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا إلى قوله أولئك بعضهم أولياء بعض موجبا لإثبات التوارث بالهجرة وكان قوله تعالى والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا نافيا للميراث وجب أن يكون قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض موجبا لإثبات التوارث بينهم لأن الولاية قد صارت عبارة عن إثبات التوارث بينهم فاقتضى عمومه إثبات التوارث بين سائر الكفار بعضهم من بعض مع اختلاف مللهم لأن الاسم يشملهم ويقع عليهم ولم يفرق الآية بين أهل الملل بعد أن يكونوا كفارا ويدل أيضا على إثبات ولاية الكفار على أولادهم الصغار لاقتضاء اللفظ له في جواز النكاح والتصرف في المال في حال الصغر والجنون وقوله تعالى إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير يعني والله أعلم إن تفعلوا ما أمرتم به في هاتين الآيتين من إيجاب الموالاة والتناصر والتوارث بالأخوة والهجرة ومن قطعها بترك الهجرة تكن فتنة في الأرض وفساد كبير وهذا مخرجه مخرج الخبر ومعناه الأمر وذلك لأنه إذا لم يتول المؤمن الفاضل على ظاهر حاله من الإيمان والفضل بما يدعو إلى مثل حاله ولم يتبرأ من الفاجر والضال بما يصرف عن ضلاله وفجوره أدى ذلك إلى الفساد والفتنة قوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله نسخ به إيجاب التوارث بالهجرة والحلف والموالاة ولم يفرق فيه بين العصبات وغيرهم فهو حجة في إثبات ميراث ذوي الأرحام الذين لا تسمية لهم ولا تعصيب وقد ذكرنا فيما سلف في سورة النساء وذهب عبدالله بن مسعود إلى أن ذوي الأرحام أولى من مولى

العتاقة واحتج فيه بظاهر الآية وليس هو كذلك عند سائر الصحابة وقد روي أن ابنة حمزة أعتقت عبدا ومات وترك بنتا فجعل النبي صلى الله عليه وسلم -

نصف ميراثه لإبنته ونصفه لإبنة حمزة بالولاية فجعلها عصبة والعصبة أولى
بالميراث من ذوي الأرحام وقال النبي صلى الله عليه وسلم - الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب وقوله تعالى في كتاب الله قيل فيه وجهان أحدهما في اللوح المحفوظ كما قال ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها والثاني في حكم الله تعالى
سورة
براءة
قال الله تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين قال أبو بكر البراءة هي قطع الموالاة وارتفاع العصمة وزوال الأمان وقيل إن معناه هذه براءة من الله ورسوله ولذلك ارتفع وقيل هو ابتداء وخبره الظرف في إلى فاقتضى قوله عز و جل براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين نقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم -
وبينهم ورفع الأمان وإعلام نصب الحرب والقتال بينه وبينهم وهو على نحو
قوله تعالى وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فكان ما ذكر في هذه الآية من البراءة نبذا إليهم ورفعا للعهد وقيل إن ذلك كان خاصا فيمن أضمروا الخيانة وهموا بالغدر وكان حكم هذا اللفظ أن يرفع العهد في حال ذكر ذلك لهم إلا أنه لما عقبه بقوله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر بين به أن هذه البراءة وهذا النبذ إليهم إنما هي بعد أربعة أشهر وأن عهد ذوي العهد من هذا القبيل منهم باق إلى آخر هذه المدة قال الحسن فمن كان منهم عهده أكثر من أربعة أشهر حط إليها ومن ان منهم عهده أقل رفع إليها وقيل إن هذه الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد أولها من عشرين من ذي القعدة وذو الحجة والمحرم وصفر وعشرة أيام من شهر ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة التي حج فيها أبو بكر وقرأ فيها علي بن أبي طالب سورة براءة على الناس بمكة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم -
كان في ذي القعدة ثم صار الحج في السنة الثانية وهي السنة التي حج فيها
النبي صلى الله عليه وسلم - في ذي الحجة وهو الوقت الذي وقته الله تعالى للحج لأن المشركين كانوا ينسئون الشهور فاتفق عود الحج في السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم -
إلى الوقت الذي فرضه الله تعالى فيه بديا على إبراهيم وأمره فيه بدعاء
الناس إليه بقوله وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - وهو واقف بعرفات ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض فثبت الحج في اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة والنحر وهو اليوم العاشر منه فهذا قول من يقول إن الأربعة الأشهر التي جعلها للسياحة وقطع بمضيها عصمة المشركين وعهدهم وقد قيل في جواز نقض العهد قبل مضي مدته على جهة النبذ إليهم وإعلامهم نصب الحرب وزوال الأمان وجوه أحدها أن يخاف غدرهم وخيانتهم والآخر أن يثبت غدرهم سرا فينبذ إليهم ظاهرا والآخر أن يكون في شرط العهد أن يقرهم على الأمان ما يشاء وينقضه متى شاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - لأهل خيبر أقركم ما أقركم الله والآخر أن العهد المشروط إلى مدة معلومة فيه ثبوت الأمان من حربهم وقتالهم من غير علمهم وأن لا يقصدوا وهم غارون وأنه متى أعلمهم رفع الأمان من حربهم فذلك جائز لهم وذلك معلوم في مضمون العهد وسواء خاف غدرهم أو لم يخف وكان في شرط العهد أن لناقضه متى شئنا أو لم يكن فإن لنا متى رأينا ذلك حظا للإسلام أن ننبذ إليهم وليس ذلك بغدر منا ولا خيانة ولا خفر للعهد لأن خفر الأمان والعهد أن يأتيهم بعد الأمان وهم غارون بأماننا فأما متى نبذنا إليهم فقد زال الأمان وعادوا حربا ولا يحتاج إلى رضاهم في نبذ الأمان إليهم ولذلك قال أصحابنا أن للإمام أن يهادن العدو إذا لم تكن بالمسلمين قوة على قتالهم فإن قوي المسلمون وأطاقوا قتالهم كان له أن ينبذ إليهم ويقاتلهم وكذلك كل ما كان فيه صلاح للمسلمين فللإمام أن يفعله وليس جواز رفع الأمان موقوفا على خوف الغدر والخيانة من قبلهم وقد روي عن ابن عباس أن هذه الأربعة الأشهر الحرم هي رجب وذو القعدة وذو الحجة إلى آخر المحرم وقد كانت سورة براءة نزلت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم - أبا بكر على الحج وكان الحج في تلك السنة في ذي القعدة فكأنهم على هذا القول إنما بقي عهدهم إلى آخر الأربعة الأشهر التي هي أشهر الحرم وقد روى جرير عن مغيرة عن الشعبي عن المحرر بن أبي هريرة عن أبيه قال كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم - ببراءة إلى المشركين فكنت أنادي حتى صحل صوتي وكان أمرنا أن نقول لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فأجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله وجائز أن تكون هذه الأربعة الأشهر من وقت

ندائه وإعلامهم إياه وجائز أن يريد بها تمام أربعة أشهر من الأشهر الحرم وقد روى سفيان عن أبي إسحاق عن زيد بن يثيع عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم -

بعثه يوم الحج الأكبر أن لا يطوف أحد بالبيت عريانا ولا يدخل الجنة إلا
نفس مسلمة ولا يحج مشرك بعد عامه هذا ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم - عهد فاجعله إلى مدته فجمل في حديث علي من له عهد عهده إلى أجله ولم يخصص أربعة أشهر من غيره وقال في حديث أبي هريرة فعهده إلى أربعة أشهر وجائز أن يكون المعنيان صحيحين وأن يكون جعل أجل بعضهم أربعة أشهر أو تمام أربعة أشهر التي هي أشهر الحرم وجعل أجل بعضهم إلى مدته طالت المدة أو قصرت وذكر الأربعة الأشهر في حديث أبي هريرة موافق لقوله تعالى فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وذكر إثبات المدة التي أجلها في حديث علي موافق لقوله تعالى إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم فكان أجل بعضهم وهم الذين خيف غدرهم وخيانتهم أربعة أشهر وأجل من لم يخش غدرهم إلى مدته وقد روى يونس عن أبي إسحاق قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم -
أميرا على الحج من سنة تسع فخرج أبو بكر ونزلت براءة في نقض ما بين رسول
الله ص - والمشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم أن لا يصد عن البيت أحدا ولا يخاف أحد في الشهر الحرام وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين أهل الشرك وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبين قبائل العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين أهل العهد العام من أهل الشرك من العرب فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أن الله بريء من المشركين بعد هذه الحجة وقوله إلا الذين عاهدتم من المشركين يعني العهد الخاص إلى الأجل المسمى فإذا انسلخ الأشهر الحرم يعني الأربعة التي ضربه لهم أجلا وقوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام من قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبين قريش فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الدئل فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم -
بإتمام العهد لمن لم يكن نقضه من بني بكر إلى مدته فما
استقاموا لكم فاستقيموا لهم وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر قال جعل الله للذين عاهدوا رسول

الله ص - أربعة أشهر يسيحون فيها حيث شاؤا وأجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم خمسين ليلة وأمره إذا انسلخ الأشهر الحرم أن يضع السيف فيمن عاهدوا ولم يدخلوا في الإسلام ونقض ما سمى لهم من العهد والميثاق قال أبو بكر جعل ابن عباس في هذا الحديث الأربعة الأشهر التي هي أشهر العهد لمن كان له منهم عهد ومن لم يكن له منهم عهد جعل أجله انسلاخ المحرم وهو تمام خمسين ليلة من وقت الحج وهو العشر من ذي الحجة وذلك آخر وقت أشهر الحرم وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين إلى أهل العهد من خزاعة ومدلج ومن كان له عهد من غيرهم قال ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعليا فآذنوا أصحاب العهود أن يأمنوا أربعة أشهر وهي الأشهر الحرم المتواليات من عشر من ذي الحجة إلى عشر يخلو من شهر ربيع الآخر ثم لا عهد لهم قال وهي الحرم من أجل أنهم آمنوا فيها قال أبو بكر فجعل مجاهد الأشهر الحرم في أشهر العهد وذهب إلى أنها إنما سميت بذلك لتحريم القتال فيها وليست هي الأشهر التي قال الله فيها أربعة حرم وقال ويسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه لأنه لا خلاف أن هذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - والذي قاله مجاهد في ذلك محتمل وقال السدي فسيحوا في الأرض أربعة أشهر قال عشرون يبقى من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الاخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلا الإسلام أو السيف وحدثنا عبدالله بن إسحاق المروزي حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر قال نزلت في شوال وهي أربعة اشهر شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم قال قتادة عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر كان ذلك في العهد الذي بينهم قال أبو بكر قول قتادة موافق لقول مجاهد الذي حكيناه أما قول الزهري فأظنه وهما لأن الرواة لم يختلفوا أن سورة براءة نزلت في ذي الحجة في الوقت الذي بعث النبي صلى الله عليه وسلم -

أبا بكر على الحج ثم نزلت بعد خروجه سورة براءة فبعث بها مع علي ليقرأها
على الناس فثبت بما ذكرنا من هذه الأخبار أنه قد كان بين النبي صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين عهد عام وهو أن لا يصد أحدا منهم عن البيت ولا يخاف أحد في الشهر الحرام فجعل الله تعالى عهدهم أربعة أشهر بقوله تعالى فسيحوا في الأرض

أربعة أشهر وكان بينه وبين خواص منهم عهود إلى آجال مسماة وأمر بالوفاء لهم وإتمام عهودهم إلى مدتهم إذا لم يخش غدرهم وخيانتهم وهو قوله تعالى إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهذا يدل على أن مدتهم إما أن تكون إلى آخر الأشهر الحرم التي كان الله تعالى حرم القتال فيها وجائز أن تكون مدتهم إلى آخر الأربعة الأشهر من وقت النبذ إليهم وهو يوم النحر وأخره عشر مضين من شهر ربيع الاخر فسماها الأشهر الحرم على ما ذكره مجاهد لتحريم القتال فيها فلم يكن لأحد منهم بعد ذلك عهد وأوجب بمضي هذه المدة دفع العهود كلها سواء من كان له منهم عهد خاص أو سائر المشركين الذين عمهم عهده في ترك منعهم من البيت وحظره قتلهم في أشهر الحرم وجائز أن يكون مراده انسلاخ المحرم الذي هو آخر الأشهر الحرم التي كان الله تعالى حظره القتال فيها وقد رويناه عن ابن عباس قوله تعالى وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر يعني إعلام من الله ورسوله يقال آذنني بكذا أي أعلمني فعلمت واختلف في يوم الحج الأكبر فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

في بعض الأخبار أنه يوم عرفة وعن علي وعمر وابن عباس وعطاء ومجاهد نحو
ذلك على اختلاف من الرواية فيه وروي أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه يوم النحر وعن علي وابن عباس وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن أبي أوفى وإبراهيم وسعيد بن جبير على اختلاف فيه من الرواة وعن مجاهد وسفيان الثوري أيام الحج كلها وهذا شائع كما يقال يوم صفين وقد كان القتال في أيام كثيرة وروى حماد عن مجاهد أيضا قال الحج الأكبر القران والحج الأصغر الإفراد وقد ضعف هذا التأويل من قبل أنه يوجب أن يكون للإفراد يوم بعينه وللقران يوم بعينه وقد علم أن يوم القران هو يوم الإفراد للحج فتبطل فائدة تفضيل اليوم للحج الأكبر فكان يجب أن يكون النداء بذلك في يوم القران وقوله تعالى يوم الحج الأكبر لما كان يوم عرفة أو يوم النحر وكان الحج الأصغر العمرة وجب أن يكون أيام الحج غير أيام العمرة فلا تفعل العمرة في أيام الحج وقد روي عن ابن سيرين أنه قال إنما قال يوم الحج الأكبر لأن أعياد الملل اجتمعت فيه وهو العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم -
فقيل هذا غلط لأن الإذن بذلك كانت في السنة التي حج فيها أبو بكر ولأنه
في السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم - لم يحج فيها المشركون لتقدم النهي عن ذلك في السنة

الأولى وقال عبدالله بن شداد الحج الأكبر يوم النحر والحج الأصغر العمرة وعن ابن عباس العمرة هي الحجة الصغرى وعن عبدالله بن مسعود مثله قال أبو بكر قوله الحج الأكبر قد اقتضى أن يكون هناك حج أصغر وهو العمرة على ما روي عن عبدالله بن شداد وابن عباس وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

أنه قال العمرة الحجة الصغرى وإذا ثبت أن اسم الحج يقع على العمرة ثم قال
النبي صلى الله عليه وسلم - للأقرع بن حابس حين سأله فقال الحج في كل عام أو حجة واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
لا بل حجة واحدة وهذا يدل على نفي وجوب العمرة لنفي النبي الوجوب إلا في
حجة واحدة وقال النبي صلى الله عليه وسلم - الحج عرفة وهذا يدل على أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة ويحتمل أن يكون يوم النحر لأن فيه تمام قضاء المناسك والتفث ويحتمل أيام منى على ما روي عن مجاهد وخصه بالأكبر لأنه مخصوص بفعل الحج فيه دون العمرة وقد قيل إن يوم النحر أولى بأن يكون يوم الحج الأكبر من يوم عرفة لأنه اليوم الذي يجتمع فيه الحج لقضاء المناسك وعرفة قد يأتيها بعضهم ليلا وبعضهم نهارا وأما النداء بسورة براءة فجائز أن يكون يوم عرفة وجائز يوم النحر قال الله تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله لست عليهم بمسيطر وقوله وما أنت عليهم بجبار وقوله تعالى فاعف عنهم واصفح وقوله قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله قال نسخ هذا كله قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية وقال موسى بن عقبة قد كان النبي صلى الله عليه وسلم -
قبل ذلك يكف عمن لم يقاتله بقوله تعالى وألقوا
إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ثم نسخ ذلك بقوله براءة من الله ورسوله ثم قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين قال أبو بكر عمومه يقتضي قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف إلا أنه تعالى خص أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية بقوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم -
الجزية من مجوس هجر وقال في حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا بعث سرية قال إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام فإن أبوا فادعوهم إلى أداء الجزية فإن فعلوا فخذوه منهم وكفوا عنهم وذلك عموم في سائر المشركين

فخصصنا منه لم يكن من مشركي العرب بالآية وصار قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم خاصا في مشركي العرب دون غيرهم وقوله تعالى وخذوهم واحصروهم يدل على حبسهم بعد الأخذ والاستبقاء بقتلهم انتظارا لإسلامهم لأن الحصر هو الحبس ويدل أيضا على جواز حصر الكفار في حصونهم ومدنهم إن كان فيهم من لا يجوز قتله من النساء والصبيان وأن يلقوا بالحصار قوله تعالى فاقتلوا المشركين يقتضي عمومه جواز قتلهم على سائر وجوه القتل إلا أن السنة قد وردت بالنهي عن المثلة وعن قتل الصبر بالنبل ونحوه وقال النبي صلى الله عليه وسلم - أعف الناس قتلة أهل الإيمان وقال إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وجائز أن يكون أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قتل أهل الردة بالإحراق والحجارة والرمي من رءوس الجبال والتنكيس في الآبار إنما ذهب فيه إلى ظاهر الآية وكذلك علي بن ابي طالب رضي الله عنه حين أحرق قوما مرتدين جائز أن يكون اعتبر عموم الآية
قوله عز و جل فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم لا يخلوا قوله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة من أن يكون وجود هذه الأفعال منهم شرطا في زوال القتل عنهم ويكون قبول ذلك والانقياد لأمر الله تعالى فيه هو الشرط دون وجود الفعل ومعلوم أن وجود التوبة من الشرك شرط لا محالة في زوال القتل ولا خلاف أنهم لو قبلوا أمر الله في فعل الصلاة والزكاة ولم يكن الوقت وقت صلاة أنهم مسلمون وأن دمائهم محظورة فعلمنا أن شرط زوال القتل عنهم هو قبول أوامر الله والاعتراف بلزومها دون فعل الصلاة والزكاة ولأن إخراج الزكاة لا يلزم بنفس الإسلام إلا بعد حول فغير جائز أن يكون إخراج الزكاة شرطا في زوال القتل وكذلك فعل الصلاة ليس بشرط فيه وإنما شرطه قبول هذه الفرائض والتزامها والاعتراف بوجوبها فإن قيل لما قال الله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فشرط مع التوبة قبل الصلاة والزكاة ومعلوم أن التوبة إنما هي الإقلاع عن الكفر والرجوع إلى الإيمان فقد عقل بذكره التوبة التزام هذه الفرائض والاعتراف بها إذ لا تصح التوبة إلا به ثم لما شرط مع التوبة الصلاة والزكاة دل على أن المعنى المزيل للقتل هو اعتقاد الإيمان بشرائطه وفعل الصلاة والزكاة فأوجب ذلك قتل تارك الصلاة والزكاة في وقت وجوبهما

وإن كان معتقدا للإيمان معترفا بلزوم شرائعه قيل له لو كان فعل الصلاة والزكاة من شرائط زوال القتل لما زال القتل عمن أسلم في غير وقت الصلاة وعمن لم يؤد زكاته مع إسلامه فلما اتفق الجميع على زوال القتل عمن وصفنا أمره بعد اعتقاده للإيمان للزوم شرائعه ثبت بذلك أن فعل الصلاة والزكاة ليس من شرائط زوال القتل وأن شرطه إظهار الإيمان وقبول شرائعه ألا ترى أن قبول الإيمان والتزام شرائعه لما كان شرطا في ذلك لم يزل عنه القتل عند إخلاله ببعض ذلك وقد كانت الصحابة سبت ذراري مانعي الزكاة وقتلت مقاتلتهم وسموهم أهل الردة لأنهم امتنعوا من التزام الزكاة وقبول وجوبها فكانوا مرتدين بذلك لأن من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله وعلى ذلك أجري حكمهم أبو بكر الصديق مع سائر الصحابة حين قاتلوهم ويدل على أنهم مرتدون بامتناعهم من قبول فرض الزكاة ما روى معمر عن الزهري عن أنس قال لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ارتدت العرب كافة فقال عمر يا أبا بكر أتريد أن تقاتل العرب كافة فقال
أبو بكر إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة منعوني دماءهم وأموالهم والله لو منعوني عقالا مما كانوا يعطون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لقاتلتهم عليه وروى مبارك بن فضالة عن الحسن قال لما قبض رسول الله ص
- ارتدت العرب عن الإسلام إلا أهل المدينة فنصب أبو بكر لهم الحرب فقالوا فإذا نشهد أن لا إله إلا الله ونصلي ولا نزكي فمشى عمر والبدريون إلى أبى بكر وقالوا دعهم فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدوا فقال والله لو منعوني عقالا مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم -
لقاتلتهم عليه وقاتل رسول الله ص
- على ثلاث شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقال الله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم والله لا أسئل فوقهن ولا أقصر دونهن فقالوا له يا أبا بكر نحن نزكي ولا ندفعها إليك فقال لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأضعها مواضعها وروى حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين مثله وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله عن أبي هريرة قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم - واستخلف أبو بكر وارتد من ارتد من العرب بعث أبو بكر لقتال من ارتد عن الإسلام فقال له عمر يا أبا بكر ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا فعلوا ذلك
عصموا

مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فقال لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه فأخبر جميع هؤلاء الرواة إن الذين ارتدوا من العرب إنما كان ردتهم من جهة امتناعهم من أداء الزكاة وذلك عندنا على أنهم امتنعوا من أداء الزكاة على جهة الرد لها وترك قبولها فسموا مرتدين من أجل ذلك وقد أخبر أبو بكر الصديق أيضا في حديث الحسن أنه يقاتلهم على ترك الأداء إليه وإن كانوا معترفين بوجوبها لأنهم قالوا بعد ذلك نزكي ولا نؤديها إليك فقال لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك ضربان من الدلالة أحدهما أن مانع الزكاة على وجه ترك التزامها والاعتراف بوجوبها مرتد وأن مانعها من الإمام بعد الاعتراف بها يستحق القتال فثبت أن من أدى صدقة مواشيه إلى الفقراء إن الإمام لا يحتسب له بها وأنه متى امتنع من دفعها إلى الإمام قاتله عليها وكذلك قال أصحابنا في صدقات المواشي وأما زكاة الأموال فإن النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر قد كانوا يأخذونها كما يأخذون صدقات المواشي فلما كان أيام عثمان خطب الناس فقال هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده ثم ليزك بقية ماله فجعل الأداء إلى أرباب الأموال وصاروا بمنزلة الوكلاء للإمام في أدائها وهذا الذي فعله أبو بكر في مانعي الزكاة بموافقة الصحابة إياه كان من غير خلاف منهم بعد ما تبينوا صحة رأيه واجتهاده في ذلك ويحتج من أوجب قتل تارك الصلاة ومانع الزكاة عامدا بهذه الآية وزعم أنها توجب قتل المشرك إلا أن يؤمن ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وقد بينا المعنى في قوله تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأن المراد قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما وأيضا فليس في الآية ما ادعوا من الدلالة على ما ذهبوا إليه من قبل أنها إنما أوجبت قتل المشركين ومن تاب من الشرك ودخل في الإسلام والتزم فروضه وأقربها فهو غير مشرك باتفاق فلم تقتض الآية قتله إذ كان حكمها مقصورا في إيجاب القتل على من كان مشركا وتارك الصلاة ومانع الزكاة ليس بمشرك فإن قالوا إنما أزال القتل عنه بشرطين أحدهما التوبة وهي الإيمان وقبول شرائعه والوجه الثاني فعل الصلاة وأداء الزكاة قيل له إنما أوجب بديا قتل المشركين بقوله تعالى فاقتلوا المشركين فمتى زالت عنهم سمة الشرك فقد وجب زوال القتل ويحتاج في إيجابه إلى دلالة أخرى من غيره فإن قال هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر الشرطين في الآية قيل له ليس الأمر على ما ظننت وذلك

لأن الله تعالى إنما جعل هذين القربين من فعل الصلاة وإيتاء الزكاة شرطا في وجوب تخلية سبيلهم لأنه قال فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم وذلك بعد ذكره القتل للمشركين بالحصر فإذا زال القتل بزوال سمة الشرك فالحصر والحبس باق لترك الصلاة ومنع الزكاة لأن من ترك الصلاة عامدا وأصر عليه ومنع الزكاة جاز للإمام حبسه فحينئذ لا يجب تخليته إلا بعد فعل الصلاة وأداء الزكاة فانتظمت الآية حكم إيجاب قتل المشرك وحبس تارك الصلاة ومانع الزكاة بعد الإسلام حتى يفعلهما قوله تعالى وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله قد اقتضت هذه الآية جواز أمان الحربي إذا طلب ذلك منا ليسمع دلالة صحة الإسلام لأن قوله تعالى استجارك معناه استأمنك وقوله تعالى فأجره معناه فأمنه حتى يسمع كلام الله الذي فيه الدلالة على صحة التوحيد وعلى صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - وهذا يدل على أن الكافر إذا طلب منا إقامة الحجة عليه وبيان دلائل التوحيد والرسالة حتى يعتقدهما لحجة ودلالة كان علينا إقامة الحجة وبيان توحيد الله وصحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - وأنه غير جائز لنا قتله إذا طلب ذلك منا إلا بعد بيان الدلالة وإقامة الحجة لأن الله قد أمرنا بإعطائه الأمان حتى يسمع كلام الله وفيه الدلالة أيضا على أن علينا تعليم كل من التمس منا تعريفه شيئا من أمور الدين لأن الكافر الذي استجارنا ليسمع كلام الله إنما قصد التماس معرفة صحة الدين وقوله تعالى ثم أبلغه مأمنه يدل على أن على الإمام حفظ هذا الحربي المستجير وحياطته ومنه الناس من تناوله بشر لقوله فأجره وقوله ثم أبلغه مأمنه وفي هذا دليل أيضا على أن على الإمام حفظ أهل الذمة والمنع من أذيتهم والتخطي إلى ظلمهم وفيه الدلالة على أنه لا يجوز أقرار الحربي في دار الإسلام مدة طويلة وأنه لا يترك فيها إلا بمقدار قضاء حاجته لقوله تعالى حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه فأمر برده إلى دار الحرب بعد سماعه كلام الله وكذلك قال أصحابنا لا ينبغي للإمام أن يترك الحربي في دار الإسلام مقيما بغير عذر ولا سبب يوجب إقامته وأن عليه أن يتقدم إليه بالخروج إلى داره فإن أقام بعد التقدم إليه سنة في دار الإسلام صار ذميا ووضع عليه الخراج قوله تعالى كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام قال أبو بكر ابتداء السورة يذكر قطع العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم -

وبين المشركين بقوله براءة من

الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين وقد قيل إن هؤلاء قد كان بينهم وبين النبي عهد فغدروا وأسروا وهموا به فأمر الله نبيه بالنبذ إليهم ظاهرا وفسح لهم في مدة أربعة أشهر بقوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر وقيل إنه أراد العهد الذي كان بينه وبين المشركين عامة في أن لا يمنع أحا من المشركين من دخوله مكة للحج وأن لا يقاتلوا ولا يقتلوا في الشهر الحرام فكان قول براءة من الله ورسوله في أحد هذين الفريقين ثم استثنى من هؤلاء قوما كان بينهم وبين رسول الله عهد خاص ولم يغدروا ولم يهموا به فقال إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ففرق بين حكم هؤلاء الذين ثبتوا على عهدهم ولم ينقصوهم ولم يعاونوا أعداءهم عليهم وأمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم وأمر بالنبذ إلى الأولين وهم أحد فريقين من غادر قاصدا إليه أو لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم - عهد خاص في سائر أحواله بل في دخول مكة للحج والأمان في الأشهر الحرم الذي كان يأمن فيه جميع الناس وقوله تعالى ولم يظاهروا عليكم أحدا يدل على أن المعاهد متى عاون علينا عدوا لنا فقد نقض عهده ثم قال تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين فرفع بعد انقضاء أشهر الحرم عهد كل ذي عهد من خاص ومن عام ثم قال تعالى كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله لأنهم غدروا ولم يستقيموا ثم استثنى منهم الذين عاهدوهم عند المسجد الحرام قال أبو إسحاق هم قوم من بني كنانة وقال ابن عباس هم من قريش وقال مجاهد هم من خزاعة فأمر المسلمين بالوفاء بعهدهم ما استقاموا لهم في الوفاء به وجائز أن تكون مدة هؤلاء في العهد دون مضي أشهر الحرم لأنه قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وعمومه يقتضي رفع سائر العهود التي كانت بين المسلمين والكفار وجائز أن تكون مدة عهدهم بعد انقضاء الأشهر الحرم وكانوا مخصوصين ممن أمروا بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم وأن ذلك إنما كان خاصا في قوم منهم كانوا أهل غدر وخيانة لأنه قال فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ولم يحصره بمدة قوله تعالى فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين يدل على ان من أظهر لنا الإيمان وأقام الصلاة وآتى الزكاة فعلينا موالاته في الدين على ظاهر أمره مع وجود أن يكون اعتقاده في المغيب خلافه قوله تعالى وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم

فقاتلوا أئمة الكفر فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئا مما عوهدوا عليه وطعنوا في ديننا فقد نقضوا العهد وذلك لأن نكث الأيمان يكون بمخالفة بعض المحلوف عليه إذا كانت اليمين فيه على وجه النفي كقوله والله لا كلمت زيدا ولا عمرو ولا دخلت هذه الدار ولا هذه أيهما فعل حنث ونكث يمينه ثم لما ضم إلى ذلك الطعن في الدين دل على أن أهل العهد من شروط بقاء عهدهم تركهم للطعن في ديننا وإن أهل الذمة ممنوعون من إظهار الطعن في دين المسلمين وهو يشهد لقول من يقول من الفقهاء إن من أظهر شتم النبي صلى الله عليه وسلم - من أهل الذمة فقد نقض عهده ووجب قتله وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا يعزر ولا يقتل وهو قول الثوري وروى ابن القاسم عن مالك فيمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى قتل إلا أن يسلم وروى الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك فيمن سب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالا هي ردة يستتاب فإن تاب نكل وإن لم يتب قتل قال يضرب مائة ثم يترك حتى إذا هو برئ ضرب مائة ولم يذكر فرقا بين المسلم والذمي وقال الليث في المسلم يسب النبي صلى الله عليه وسلم - إنه لا يناظر ولا يستتاب ويقتل مكانه وكذلك اليهود والنصارى وقال الشافعي ويشترط على المصالحين من الكفار أن من ذكر كتاب الله أومحمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بما لا ينبغي أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع عليه طريقا أو أعان أهل الحرب بدلالة على المسلمين أو آوى عينا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله وذمة رسوله وظاهر الآية يدل على أن من أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم - من أهل العهد فقد نقض عهده لأنه قال تعالى وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر فجعل الطعن في ديننا بمنزلة نكث الأيمان إذ معلوم أنه لم يرد أن يجعل نكث الأيمان والطعن في الدين بمجموعهما شرطا في نقض العهد لأنهم لو نكثوا الأيمان بقتال المسلمين ولم يظهروا الطعن في الدين لكانوا ناقضين للعهد وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -

معاونة قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء النبي ص
- نقضا للعهد وكانوا يفعلون ذلك سرا ولم يكن منهم إظهار طعن في الدين فثبت بذلك أن معنى الآية وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر فإذا ثبت ذلك كان من أظهر سب النبي صلى الله عليه وسلم -
من أهل العهد ناقضا للعهد إذ سب رسول الله ص
- من أكثر الطعن في الدين فهذا وجه يحتج به القائلون

بما وصفنا ومما يحتج به لذلك ما روى أبو يوسف عن حصين بن عبدالرحمن عن رجل عن أبي عمران أن رجلا قال له إني سمعت راهبا سب النبي صلى الله عليه وسلم -

فقال لو سمعته لقتلته إنا لم نعطهم العهد على هذا وهو إسناد ضعيف وجائز
أن يكون قد شرط عليهم أن لا يظهروا سب النبي صلى الله عليه وسلم - وقد روى سعيد عن قتادة عن أنس أن يهوديا مر على النبي صلى الله عليه وسلم -
فقال السام عليك فقال رسول الله ص
- أتدرون ما قال فقالوا نعم ثم رجع فقال مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك وروى الزهري عن عروة عن
عائشة قالت دخل رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا السام عليك قالت ففهمتها فقالت وعليكم السام واللعنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم -
مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم
تسمع ما قالوا قال النبي صلى الله عليه وسلم - قلت عليكم ومعلوم أن مثله لو كان من مسلم لصار به مرتدا مستحقا للقتل ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم -
بذلك وروى شعبة عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك أن امرأة يهودية أتت
النبي صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها فقالوا ألا تقتلها قال لا قال فما زلت أعرفها في سهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم -
ولا خلاف بين المسلمين أن من قصد النبي ص
- بذلك فهو ممن ينتحل الإسلام أنه مرتد يستحق القتل ولم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم -
مبيحة لدمها بما فعلت فكذلك إظهار سب النبي ص
- من الذمي مخالف لإظهار المسلم له وقوله فقاتلوا أئمة الكفر روى ابن عباس ومجاهد أنهم رؤساء قريش وقال قتادة أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وسهيل بن عمرو وهم الذين هموا بإخراجه قال أبو بكر ولم يختلف في أن سورة براءة نزلت بعد فتح مكة وأن النبي صلى الله عليه وسلم - بعث بها مع علي بن ابي طالب ليقرأها على الناس في سنة تسع وهي السنة التي حج فيها أبو بكر وقد كان أبو جهل وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة قد كانوا قتلوا يوم بدر ولم يكن بقي من رؤساء قريش أحد يظهر الكفر في وقت نزول براءة وهذا يدل على أن رواية من روى ذلك في رؤساء قريش وهم اللهم إلا أن يكون المراد قوما من قريش قد كانوا أظهروا الإسلام وهم الطلقاء من نحو أبي سفيان وأحزابه ممن لم ينق قلبه من الكفر فيكون مراد الآية هؤلاء دون أهل العهد من المشركين الذين لم يظهروا الإسلام وهم الذين كانوا هموا بإخراج الرسول من مكة وبدرهم بالقتال والحرب بعد الهجرة وجائز أن يكون مراده هؤلاء الذين ذكرنا وسائر رؤساء العرب الذين كانوا

معاضدين لقريش على حرب النبي صلى الله عليه وسلم - وقتال المسلمين فأمر الله تعالى بقتالهم وقتلهم إن هم نكثوا أيمانهم وطعنوا في دين المسلمين وقوله تعالى أنهم لا أيمان لهم معناه لا أيمان لهم وافية موثوقا بها ولم ينف به وجود الأيمان منهم لأنه قد قال بديا وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وعطف على ذلك ايضا قوله ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم فثبت أنه لم يرد بقوله لا أيمان لهم نفي الأيمان أصلا وإنما أراد به نفي الوفاء بها وهذا يدل على جواز إطلاق لا والمراد نفي الفضل دون نفي الأصل ولذلك نظائر موجودة في السنن وفي كلام الناس كقوله ص - لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد وليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله ونحو ذلك فأطلق الإمامة في الكفر لأن الإمام هو المقتدى به المتبع في الخير والشر قال الله تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وقال في الخير وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا فالإمام في الخير هاد مهتد والإمام في الشر ضال مضل قد قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود الذين كانوا غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم -

ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان على أن لا يعينوا عليه أعداءه
من المشركين وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي صلى الله عليه وسلم - من المدينة وأخبر أنهم بدؤا بالغدر ونكث العهد وامر بقتالهم بقوله قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم وجائز أن يكون جميع ذلك مرتبا على قوله وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وجائز أن يكون قد كانوا نقضوا العهد بقوله ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم قوله تعالى أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فإن معناه أم حسبتم أن تتركوا ولم تجاهدوا لأنهم إذا جاهدوا علم الله ذلك منهم فأطلق اسم العلم وأراد به قيامهم بفرض الجهاد حتى يعلم الله وجود ذلك منهم وقوله ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة يقتضي لزوم اتباع المؤمنين وترك العدول عنهم كما يلزم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم - وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع وهو كقوله ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى والوليجة المدخل يقال ولج إذا دخل كأنه قال لا يجوز أن يكون له مدخل غير مدخل المؤمنين ويقال إن الوليجة بمعنى الدخيلة والبطانة وهي من المداخلة والمخالطة والمؤانسة فإن كان المعنى هذا فقد دل على النهي عن مخالطة غير المؤمنين ومداخلتهم

وترك الاستعانة بهم في أمور الدين كما قال لا تتخذوا بطانة من دونكم
قوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله عمارة المسجد تكون بمعنيين أحدهما زيارته والسكون فيه والآخر ببنائه وتجديد ما استرم منه وذلك لأنه يقال اعتمر إذا زار ومنه العمرة لأنها زيارة البيت وفلان من عمار المساجد إذا كان كثير المضي إليها والسكون فيها وفلان يعمر مجلس فلان إذا أكثر غشيانه له فاقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد ومن بنائها وتولي مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ للأمرين قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان فيه نهي للمؤمنين عن موالاة الكفار ونصرتهم والاستنصار بهم وتفويض أمورهم إليهم وإيجاب التبري منهم وترك تعظيمهم وإكرامهم وسواء بين الآباء والإخوان في ذلك إلا أنه قد أمر مع ذلك بالإحسان إلى الأب الكافر وصحبته بالمعروف بقوله تعالى ووصينا الإنسان بوالديه إلى قوله وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا وإنما أمر المؤمنين بذلك ليتميزوا من المنافقين إذ كان المنافقون يتولون الكفار ويظهرون إكرامهم وتعظيمهم إذا لقوهم ويظهرون لهم الولاية والحياطة فجعل الله تعالى ما أمر به المؤمن في هذه الاية علما يتميز به المؤمن من المنافق وأخبر أن من لم يفعل ذلك فهو ظالم لنفسه مستحق للعقوبة من ربه قوله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا إطلاق إسم النجس على المشرك من جهة أن الشرك الذي يعتقده يجب اجتنابه كما يجب اجتناب النجاسات والأقذار فلذلك سماهم نجسا والنجاسة في الشرع تنصرف على وجهين أحدهما نجاسة الأعيان والآخر نجاسة الذنوب وكذلك الرجس والرجز ينصرف على هذين الوجهين في الشرع قال الله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان وقال في وصف المنافقين سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس فسماهم رجسا كا سمى المشركين نجسا وقد أفاد قوله إنما المشركون نجس منعهم عن دخول المسجد إلا لعذر إذ كان علينا تطهير المساجد من الأنجاس وقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا قد تنازع معناه أهل العلم فقال مالك والشافعي لا يدخل المشرك المسجد الحرام قال مالك

ولا غيره من المساجد إلا لحاجة من نحو الذمي يدخل إلى الحاكم في المسجد للخصومة وقال الشافعي يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة وقال أصحابنا يجوز للذمي دخول سائر المساجد وإنما معنى الآية على أحد وجهين إما أن يكون النهي خاصا في المشركين الذين كانوا ممنوعين من دخول مكة وسائر المساجد لأنهم لم تكن لهم ذمة وكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وهم مشركوا العرب أو أن يكون المراد منعهم من دخول مكة للحج ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم - بالنداء يوم النحر في السنة التي حج فيها أبو بكر فيما روى الزهري عن حميد بن عبدالرحمن عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه فيمن يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك فنبذ أبو بكر إلى الناس فلم يحج في العام الذي حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم - مشرك فأنزل الله تعالى في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس الآية وفي حديث علي حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم - بأن يبلغ عنه سورة براءة نادى ولا يحج بعد العام مشرك وفي ذلك دليل على المراد بقوله فلا يقربوا المسجد الحرام ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء وإنما كانت خشية العيلة لانقطاع تلك المواسم بمنعهم من الحج لأنهم كانوا ينتفعون بالتجارات التي كانت تكون في مواسم الحج فدل ذلك على أن مراد الآية الحج ويدل عليه اتفاق المسلمين على منع المشركين من الحج والوقوف بعرفة والمزدلفة وسائر أفعال الحج وإن لم يكن في المسجد ولم يكن أهل الذمة ممنوعين من هذه المواضع ثبت أن مراد الآية هو الحج دون قرب المسجد لغير الحج لأنه إذا حمل على ذلك كان عموما في سائر المشركين وإذا حمل على دخول المسجد كان خاصا في ذلك دون قرب المسجد والذي في الآية النهي عن قرب المسجد فغير جائز تخصيص المسجد به دون ما يقرب منه وقد روى حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص أن وفد ثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم قبة في المسجد فقالوا يا رسول الله قوم أنجاس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إنه ليس على الأرض من أنجاس الناس شيء إنما أنجاس الناس على أنفسهم وروى يونس عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان كان يدخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم - وهو كافر غير أن ذلك لا يحل في المسجد الحرام لقول الله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام قال أبو بكر فأما وفد ثقيف فإنهم جاؤا بعد فتح مكة

إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

والآية نزلت في السنة التي حج فيها أبو بكر وهي سنة تسع فأنزلهم النبي ص
- في المسجد وأخبر أن كونهم أنجاسا لا يمنع دخولهم المسجد وفي ذلك دلالة على أن نجاسة الكفر لا يمنع الكافر من دخول المسجد وأما أبو سفيان بأنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم - لتجديد الهدنة وذلك قبل الفتح وكان أبو سفيان مشركا حينئذ والآية وإن كان نزولها بعد ذلك فإنما اقتضت النهي عن قرب المسجد الحرام ولم تقتض المنع من دخول الكفار سائر المساجد فإن قيل لا يجوز للكافر دخول الحرم إلا أن يكون عبدا أو صبيا أو نحو ذلك لقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام ولما روى زيد بن يثيع عن علي رضي الله عنه أنه نادى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الحرم مشرك قيل له إن صح هذا اللفظ فالمراد أن لا يدخله للحج وقد روي في أخبار عن علي أنه نادى أن لا يحج بعد العام مشرك وكذلك في حديث أبي هريرة فثبت أن المراد دخول الحرم للحج وقد روى شريك عن أشعث عن الحسن عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لا يقرب المشركون المسجد الحرام بعد عامهم هذا إلا أن يكون عبدا أو أمة يدخله لحاجة فأباح دخول العبد والأمة للحاجة لا للحج وهذا يدل على أن الحر الذمي له دخوله لحاجة إذ لم يفرق أحد بين العبد والحر وإنما خص العبد والأمة والله أعلم بالذكر لأنهما لا يدخلانه في الأغلب الأعم للحج وقد حدثنا عبدالله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول في قوله تعالى إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام إلا أن يكون عبدا أو واحدا من أهل الذمة فوقفه أبو الزبير على جابر وجائز أن يكون صحيحين فيكون جابر قد رفعه تارة وأفتى بها أخرى وروى ابن جريج عن عطاء قال لا يدخل المشرك وتلا قوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا قال عطاء المسجد الحرام الحرم كله قال ابن جريج وقال لي عمرو بن دينار مثل ذلك قال أبو بكر والحرم كله يعبر عنه بالمسجد إذ كانت حرمته متعلقة بالمسجد وقال الله تعالى والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد والحرم كله مراد به وكذلك قوله تعالى ثم محلها إلى البيت العتيق قد أريد به الحرم كله لأنه في أي الحرم نحر البدن أجزأه فجائز على هذا أن يكون المراد بقوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام الحرم كله للحج إذ

كان أكثر أفعال المناسك متعلقا بالحرم كله في حكم المسجد لما وصفنا فعبر عن الحرم بالمسجد وعبر عن الحج بالحرم ويدل على أن المراد بالمسجد ههنا الحرم قوله تعالى إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ومعلوم أن ذلك كان بالحديبية وهي على شفير الحرم وذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن بعضها من الحل وبعضها من الحرم فأطلق الله تعالى عليها أنها عند المسجد الحرام وإنما هي عند الحرم وإطلاقه تعالى اسم النجس على المشركين يقتضي اجتنابهم وترك مخالطتهم إذ كانوا مأمورين باجتناب الأنجاس وقوله تعالى بعد عامهم هذا فإن قتادة ذكر أن المراد العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق فتلا علي سورة براءة وهو لتسع مضين من الهجرة وكان بعده حجة الوداع سنة عشر قوله تعالى وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء فإن العيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر قال الشاعر ... وما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل ...
وقال مجاهد وقتادة كانوا خافوا انقطاع المتاجر بمنع المشركين فأخبر الله تعالى أنه يغنيهم من فضله فقيل إنه أراد الجزية المأخوذة من المشركين وقيل أراد الإخبار بإبقاء المتاجر من جهة المسلمين لأنه كان عالما أن العرب وأهل بلدان العجم سيسلمون ويحجون فيستغنون بما ينالون من منافع متاجرهم من حضور المشركين وهو نظير قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد الآية فأخبر تعالى عما في حج البيت والهدي والقلائد من منافع الناس ومصالحهم في دنياهم ودينهم وأخبر في قوله وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله عما ينالون من الغنى بحج المسلمين وإن كانوا قليلين في وقت نزول الآية وإنما علق الغنى بالمشيئة المعنيين كل واحد منهما جائز أن يكون مرادا أحدهما إنه لما كان منهم من يموت ولا يبلغ هذا الغنى الموعود به علقه بشرط المشيئة والثاني لينقطع الآمال إلى الله في إصلاح أمور الدنيا والدين كما قال الله تعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين
باب

أخذ الجزية من أهل الكتاب
قال الله عز و جل قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم

الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع إظهارهم الإيمان بالنشور والبعث وذلك يحتمل وجوها أحدها أن يكون مراده لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي يجري حكم الله فيه من تخليد أهل الكتاب في النار وتخليد المؤمنين في الجنة فلما كانوا غير مؤمنين بذلك أطلق القول فيهم بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ومراده حكم يوم الآخر وقضاؤه فيه كما تقول أهل الكتاب غير مؤمنين بالنبي والمراد بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم - وقيل فيه إنه أطلق ذلك فيهم على طريق الذم لأنهم بمنزلة من لا يقربه في عظم الحرم كما أنهم بمنزلة المشركين في عبادة الله تعالى بكفرهم الذي اعتقدوه وقيل أيضا لما كان إقرارهم عن غير معرفة لم يكن ذلك إيمانا وأكثرهم بهذه الصفة وقوله تعالى ولا يدينون دين الحق فإن دين الحق هو الإسلام قال الله تعالى إن الدين عند الله الإسلام وهو التسليم لأمر الله وما جاءت به رسله والانقياد له والعمل به والدين ينصرف على وجوه منها الطاعة ومنها القهر ومنها الجزاء قال الأعشى ... هو دان الرباب أذكر هو الد ... دين دراكا بغزوة وصيال ...
يعني قهر الرباب أذكر هو إطاعته وأبوا الانقياد له وقوله تعالى مالك يوم الدين قيل إنه يوم الجزاء ومنه كما تدين تدان ودين اليهود والنصارى غير دين الحق لأنهم غير منقادين لأمر الله ولا طائعين له لجحودهم نبوة نبينا ص - فإن قيل فيهم يدينون بدين التوراة والإنجيل معترفون به منقادين له قيل له في التوراة والإنجيل ذكر نبينا وأمرنا بالإيمان واتباع شرائعه وهم غير عاملين بذلك بل تاركون له فهم غير متبعين دين الحق وأيضا فإن شريعة التوراة والإنجيل قد نسخت والعمل بها بعد النسخ ضلال فليس هو إذا دين الحق وأيضا فهم قد غيروا المعاني وحرفوها عن مواضعها وأزالوها إلى ما تهواه أنفسهم دون ما أوجبه عليهم كتاب الله تعالى فهم غير دائنين دين الحق قوله تعالى من الذين أوتوا الكتاب فإن أهل الكتاب من الكفار هم اليهود والنصارى لقوله تعالى أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فلو كان المجوس أو غيرهم من أهل الشرك من أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف وقد اقتضت الآية أن أهل الكتاب طائفتان وقد بيناه فيما سلف وتقدم الكلام أيضا في حكم الصابئين وهل هم أهل الكتاب

أم لا وهم فريقان أحدهما بنوا حي كسكر والبطائح وهم فيما بلغنا صنف من النصارى وإن كانوا مخالفين لهم في كثير من ديانتهم لأن النصارى فرق كثيرة منهم المرقونية والأريوسية والمارونية والفرق الثلاث من النسطورية والملكية واليعقوبية يبرءون منهم ويحرمون وهم ينتمون إلى يحيى بن زكريا وشيث وينتحلون كتبا يزعمون أنها كتب الله التي أنزلها على شيث بن آدم ويحيى بن زكريا والنصارى تسميهم يوحناسية فهذه الفرقة يجعلها أبو حنيفة رحمه الله من أهل الكتاب ويبيح أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم وفرقة أخرى قد تسمت بالصابئين وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة الأوثان ولا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينحلون شيئا من كتب الله فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب ولا خلاف أن هذه النحلة لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم فمذهب أبي حنيفة في جعله الصابئين من أهل الكتاب محمول على مراده الفرقة الأولى وأما أبو يوسف ومحمد فقالا إن الصابئين ليسوا أهل الكتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وقد روي في ذلك اختلاف بين التابعين وروى هشيم أخبرنا مطرف قال كنا عند الحكم بن عيينة فحدثه رجل عن الحسن البصري أنه كان يقول في الصابئين هم بمنزلة المجوس فقال الحسن أليس قد كنت أخبرتكم بذلك وروى عباد بن العوام عن الحجاج عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد قال الصابئون قوم من المشركين والنصارى ليس لهم كتاب وكذلك قول الأوزاعي ومالك ابن أنس وروى يزيد بن هارون عن حبيب بن أبي حبيب عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد أنه سئل عن الصابئين أمن أهل الكتاب هم وطعامهم ونساؤهم حل للمسلمين فقال نعم وأما المجوس فليسوا أهل كتاب بدلالة الآية ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وفي ذلك دلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب وقد اختلف أهل العلم فيمن تؤخذ منهم الجزية من الكفار بعد اتفاقهم على جواز إقرار اليهود والنصارى بالجزية فقال أصحابنا لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف وتقبل من أهل الكتاب من العرب من سائر كفار العجم الجزية وذكر ابن القاسم عن مالك أنه تقبل من الجميع الجزية إلا من مشركي العرب وقال مالك في الزنج ونحوهم إذا سبوا يجبرون على الإسلام وروي عن مجاهد أنه قال يقاتل أهل الكتاب على الجزية وأهل الأوثان على الصلاة ويحتمل أن يريد به أهل الأوثان من العرب وقال الثوري العرب لا يسبون وهو إذا سبوا ثم

تركهم النبي صلى الله عليه وسلم -

وقال الشافعي لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما قال
أبو بكر قوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم يقتضي قتل سائر المشركين فمن الناس من يقول إن عمومه مقصور على عبدة الأوثان دون أهل الكتاب والمجوس لأن الله تعالى قد فرق في اللفظ بين المشركين وبين أهل الكتاب والمجوس بقوله تعالى إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعطف بالمشركين على هذه الأصناف فدل ذلك على أن إطلاق هذا اللفظ يختص بعبدة الأوثان وإن كان الجميع من النصارى والمجوس والصابئين والمشركين وذلك لأن النصارى قد أشركت بعبادة الله وعبادة المسيح والمجوس مشركون من حيث جعلوا لله ندا مغالبا والصابئون فريقان أحدهما عبدة الأوثان والآخر لا يعبدون الأوثان ولكنهم مشركون في وجوه أخر إلا أن إطلاق لفظ المشرك يتناول عبدة الأوثان فلم يوجب قوله تعالى فاقتلوا المشركين إلا قتل عبدة الأوثان دون غيرهم وقال آخرون لما كان معنى الشرك موجودا في مقالات هذه الفرق من النصارى والمجوس والصابئين فقد انتظمهم اللفظ ولولا ورود آية التخصيص في أهل الكتاب خصوا من الجملة ومن عداهم محمولون على حكم الآية عربا كانوا أو عجما ولم يختلفوا في جواز إقرار المجوس بالجزية وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - في ذلك أخبار وروى سفيان بن عيينة عن عمرو أنه سمع مجالدا يقول لم يكن عمر بن الخطاب يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر وروى مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم فقال عبدالرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب وروى يحيى بن آدم عن المسعودي عن قتادة عن
أبي مجلز قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم - إلى المنذر أنه من استقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله ورسوله ومن أحب ذلك من المجوس فهو آمن ومن أبى فعليه الجزية وروى قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مجوس البحرين يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم منهم قبل منه ومن أبى ضربت عليه الجزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة وروى الطحاوي عن بكار بن قتيبة قال حدثنا عبدالرحمن ابن عمران قال حدثنا عوف كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة أما بعد فاسئل

الحسن ما يقع من قبلنا من الأئمة أن يحولوا بين المجوس وبين ما يجمعون من النساء اللاتي لا يجمعهن أحد غيرهم فسأله فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -

قبل من مجوس البحرين الجزية وأقرهم على مجوسيتهم وعامل رسول الله ص
- يومئذ على البحرين العلاء بن الحضرمي وفعله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أبو بكر وعمر وعثمان وروى معمر عن الزهري أن النبي ص
- صالح أهل الأوثان على الجزية إلا من كان منهم من العرب وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أخذ الجزية من مجوس هجر وأن عمر بن الخطاب أخذها من مجوس السواد وأن
عثمان أخذها من بربر وفي هذه الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من المجوس وفي بعضها أنه أخذها من عبدة الأوثان من غير العرب ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في جواز أخذ الجزية من المجوس وقد نقلت الأمة أخذ عمر بن الخطاب الجزية من مجوس السواد فمن الناس من يقول إنما أخذها لأن المجوس أهل كتاب ويحتج في ذلك بما روى سفيان بن عيينة عن أبي سعيد عن نصر بن عاصم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان أخذوا الجزية من المجوس وقال علي أنا أعلم الناس بهم كانوا أهل كتاب يقرءونه وأهل علم يدرسونه فنزع ذلك من صدورهم وقد ذكرنا فيما تقدم من الدلالة على أنهم ليسوا أهل كتاب من جهة الكتاب والسنة وأما ما روي عن علي في ذلك أنهم كانوا أهل كتاب فإنه إن صحت الرواية فإن المراد أن أسلافهم كانوا أهل كتاب لإخباره بأن ذلك نزع من صدورهم فإذا ليسوا أهل كتاب في هذا الكتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب ما روي في حديث الحسن بن محمد أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في مجوس البحرين إن من أبى منهم الإسلام ضربت عليه الجزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة ولو كانوا أهل كتاب لجاز أكل ذبائحهم ومناكحة نسائهم لأن الله تعالى قد أباح ذلك من أهل الكتاب ولما ثبت أخذ النبي صلى الله عليه وسلم -
الجزية من المجوس وليسوا أهل كتاب ثبت جواز أخذها من سائر الكفار أهل
كتاب كانوا أو غير أهل كتاب إلا عبدة الأوثان من العرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وبقوله تعالى فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وهذا في عبدة الأوثان من العرب ويدل على جواز أخذ الجزية من سائر المشركين سوى مشركي العرب حديث علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم -
كان إذا بعث سرية قال إذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمدا

رسول الله فإن أبوا فادعوهم إلى إعطاء الجزية وذلك عام في سائر المشركين وخصصنا منهم مشركي العرب بالآية وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم - فيهم
باب حكم نصارى بني تغلب

قال
الله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله من الذين أوتوا الكتاب ونصارى بني تغلب منهم لأنهم ينتحلون نحلتهم وإن لم يكونوا متمسكين بجميع شرائعهم وقال الله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم فجعل الله تعالى من يتولى قوما منهم فهو في حكمهم ولذلك قال ابن عباس في نصارى بني تغلب أنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم لقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وذلك حين قال علي رضي الله عنه إنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر قال ابن عباس ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم -
لعدي بن حاتم حين جاءه فقال له أما تقول إلا أن يقال لا إله إلا الله
فقال إن لي دينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم - أنا أعلم به منك ألست ركوسيا قال نعم قال ألست تأخذ المرباع قال نعم قال فإن ذلك لا يحل لك في دينك فنسبه إلى صنف من النصارى مع إخباره بأنه غير متمسك به فأخذه المرباع وهو ربع الغنيمة غير مباحة في دين النصارى فثبت بذلك أن انتحال بني تغلب لدين النصارى يوجب أن يكون حكمهم حكمهم وأن يكونوا أهل كتاب وإذا كانوا من أهل الكتاب وجب أخذ الجزية منهم والجزاء والجزية واحد وهو أخذ المال منهم عقوبة وجزاء على إقامتهم على الكفر ولم يذكر في الآية لها مقدارا معلوما ومهما أخذ منهم على هذا الوجه فإن اسم الجزية يتناوله وقد وردت أخبار متواترة عن أئمة السلف في تضعيف الصدقة في أموالهم على ما يأخذ من المسلمين وهو قول أهل العراق وأبي حنيفة وأصحابه والثوري وهو قول الشافعي وقال مالك في النصراني إذا أعتقه المسلم فلا جزية عليه ولو جعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضر به ولم ينفعه شيئا ولا تحفظ عن مالك في بني تغلب شيئا وروى يحيى بن آدم قال حدثنا عبدالسلام عن أبي إسحاق الشيباني عن السفاح عن داود بن كردوس عن عمارة بن النعمان أنه قال لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قد علمت شوكتهم وأنهم بإزاء العدو فإن ظاهروا عليك العدو اشتدت مؤنتهم فإن رأيت أن تعطيهم شيئا فافعل فصالحهم على أن لا يقسموا أولادهم في النصرانية وتضاعف عليهم الصدقة قال وكان عمارة يقول قد فعلوا فلا عهد لهم وهذا

خبر مستفيض عند أهل الكوفة وقد وردت به الرواية والنقل الشائع عملا وهو مثل أخذ الجزية من أهل السواد على الطبقات الثلاث ووضع الخراج على الأرضين ونحوها من العقود التي عقدها على كافة الأمة فلم يختلفوا في نفاذها وجوازها وقد روي عن علي أنه قال لئن بقيت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة ولأسبين الذرية وذلك إني كتبت الكتاب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم -

أن لا ينصروا أولادهم ولم يخالف عمر في ذلك أحد من الصحابة فانعقد به
إجماعهم وثبت به اتفاقهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم - في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويعتقد عليهم أولهم ومعناه والله يعلم جواز عقود أئمة العدل على الأمة فإن قيل أمر الله بأخذ الجزية منهم فلا يجوز لنا الاقتصار بهم على أخذ الصدقة منهم وإعفاؤهم من الجزية قيل له الجزية ليس لها مقدار معلوم فيما يقتضيه ظاهر لفظها وإنما هي جزاء وعقوبة على إقامتهم على الكفر والجزاء لا يختص بمقدار دون غيره ولا بنوع من المال دون ما سواه والمأخوذ من بني تغلب هو عندنا جزية ليست بصدقة وتوضع موضع الفيء لأنه لا صدقة لهم إذ كان سبيل الصدقة وقوعها على وجه القربة ولا قربة لهم وقد قال بنو تغلب نؤدي الصدقة ومضاعفة ولا نقبل أداء الجزية فقال عمر هو عندنا جزية وسموها أنتم ما شئتم فأخبر عمر أنها جزية وإن كانت حقا مأخوذا من مواشيهم وزرعهم فإن قيل لو كانت جزية لما أخذت من نسائهم لأن النساء لا جزية عليهم قيل له يجوز أخذ الجزية من النساء على وجه الصلح كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بعض أمرائه على بعض بلدان اليمن أن يأخذ من كل حالم أو حالمة دينارا أو عدله من المعافر وقال أصحابنا تؤخذ من موالي بني تغلب إذا كانوا كفارا الجزية ولا تضاعف عليهم الحقوق في أموالهم لأن عمر إنما صالح بني تغلب على ذلك ولم يذكر فيه الموالي فمواليهم باقون على حكم سائر أهل الذمة في أخذ جزية الرؤس منهم على الطبقات المعلومة وليس بواجب أن يكونوا في حكم مواليهم كما أن المسلم إذا أعتق عبدا نصرانيا لا يكون في حكم مولاه في باب سقوط الجزية عنه فإن قيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - موالي القوم من أنفسهم قيل له مراده أنه منهم في الانتساب إليهم نحو مولى بني هاشم يسمى هاشميا ومولى بني تميم يسمى تميميا وفي النصرة والعقل كما يعقل عنه ذوي الأنساب فهذا معنى قوله مولي القوم منهم ولا دلالة فيه على أن حكمه

حكمهم في إيجاب الجزية وسقوطها وأما شرط عمر عليهم أن لا يغمسوا أولادهم في النصرانية فإنه قد روي في بعض الأخبار أنه شرط أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية إذا أرادوا الإسلام فإنما شرط عليهم بذلك أنه ليس لهم أن يمنعوا أولادهم الإسلام إذا أرادوه وقد حدثنا مكرم بن أحمد بن مكرم قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي قال سمعت أبا عبيد يقول كنا مع محمد بن الحسن إذ أقبل الرشيد فقام الناس كلهم إلا محمد بن الحسن فإنه لم يقم وكان الحسن بن زياد معتل القلب على محمد بن الحسن فقام ودخل ودخل الناس من أصحاب الخليفة فأمهل الرشيد يسيرا ثم خرج الإذن فقام محمد بن الحسن فجزع أصحابه له فأدخل فأمهل ثم خرج طيب النفس مسرورا قال قال لي مالك لم تقم مع الناس قال كرهت أن أخرج عن الطبقة التي جعلتني فيها إنك أهلتني للعلم فكرهت أن أخرج إلى طبقة الخدمة التي هي خارجة منه وإن ابن عمك ص - قال من أحب أن يميل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار وأنه إنما أراد بذلك العلماء فمن قام بحق الخدمة وإعزاز الملك فهو هبة للعدو ومن قعد اتباعا للسنة التي عنكم أخذت فهو زين لكم قال صدقت يا محمد ثم شاورني فقال إن عمر بن الخطاب صالح بني تغلب على أن لا ينصروا أولادهم وقد نصروا أبناءهم وحلت بذلك دماءهم فما ترى قال قلت إن عمر أمرهم بذلك وقد نصروا أولادهم بعد عمر واحتمل ذلك عثمان وابن عمك وكان من العلم بما لا خفا به عليك وجرت بذلك السنن فهم أصلح من الخلفاء بعده ولا شيء يلحقك في ذلك وقد كشفت لك العلم ورأيك أعلى قال لا ولكنا نجريه على ما أجروه إن شاء الله إن الله جل اسمه أمر نبيه بالمشهور تمام المائة التي جعلها الله له فكان يشاور في أمره فيأتيه جبريل بتوفيق الله ولكن عليك بالدعاء لمن ولاه الله أمرك ومر أصحابك بذلك وقد أمرت لك بشيء تفرقه على اصحابك قال فخرج له مال كثير ففرقه قال أبو بكر فهذا الذي ذكره محمد في إقرار الخلفاء بني تغلب على ما هم عليه من صبغهم أولادهم في النصرانية حجة في تركهم على ما هم عليه وأنهم بمنزلة سائر النصارى فلا تخلوا مصالحة عمر إياهم أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية من أحد معنيين إما أن يكون مراده وأن لا يكرهوهم على الكفر إذا أرادوا الإسلام وأن ينشئوهم على الكفر من صغرهم فإن اراد الأول فإنه لم يثبت أنهم منعوا أحدا من أولادهم التابعين من الإسلام وأكرهوهم على الكفر فيصيروا به ناقضين للعهد وخالعين للذمة وإن كان المراد

الوجه الثاني فإن عليا وعثمان لم يعترضوا عليهم ولم يقتلوهم وأما قول مالك في العبد النصراني إذا أعتقه المسلم أنه لا جزية عليه فترك لظاهر الآية بغير دلالة إذ لا فرق بين من أعتقه مسلم وبين سائر الكفار الذين لم يعتقوا وأما قوله لو جعلت عليه الجزية لكان العتق قد أضر به ولم ينفعه شيئا فليس كذلك لأنه في حال الرق إنما لم تلزمه الجزية لأن ماله لمولاه والمولى المسلم لا يجوز أخذ الجزية منه والجزية إنما تؤخذ من مال الكفار عقوبة لهم على إقامتهم على الكفر والعبد لا مال له فتؤخذ منه فإذا عتق وملك المال وجبت الجزية وأخذنا الجزية منه لم يسلبه منافع العتق في جواز التصرف على نفسه وزوال ملك المولى وأمره عنه وتمليكه سائر أمواله وإنما الجزية جزء يسير من ماله قد حقن بها دمه فمنفعة العتق حاصلة له
باب

من تؤخذ منه الجزية
قال الله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فكان معقولا من فحوى الآية ومضمونها أن الجزية مأخوذة ممن كان منهم من أهل القتال لاستحالة الخطاب بالأمر بقتال من ليس من أهل القتال إذ القتال لا يكون إلا بين اثنين ويكون كل واحد منهما مقاتلا لصاحبه وإذا كان كذلك ثبت أن الجزية مأخوذة ممن كان من أهل القتال ومن يمكنه أداؤه من المحترفين ولذلك قال أصحابنا إن من لم يكن من أهل القتال فلا جزية عليه فقالوا من كان أعمى أو زمنا أو مفلوجا أو شيخا كبيرا فانيا وهو موسر فلا جزية عليه وهو قولهم جميعا في الرواية المشهورة وروي عن أبي يوسف في الأعمى والزمن والشيخ الكبير أن عليهم الجزية إذا كانوا موسرين وروي عنه مثل قول أبي حنيفة وروى ابن رستم عن محمد في نوادره قال قلت أرأيت أهل الذمة من بني تغلب وغيرهم ليس لهم حرفة ولا مال ولا يقدرون على شيء قال لا شيء عليهم قال محمد وإنما يوضع الخراج على الغني والمعتمل منهم وقال محمد في النصراني يكتسب ولا يفضل له شيء عن عياله إنه لا يؤخذ بخراج رأسه وقالوا في أصحاب الصوامع والسياحين إذا كانوا لا يخالطون الناس فعليهم الجزية وكذلك النساء والصبيان لا جزية عليهم إذ ليسوا من أهل

القتال وروى أيوب وغيره عن نافع عن أسلم قال كتب عمر إلى أمراء الجيوس أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم ولا يقتلوا النساء والصبيان ولا يقتلوا إلا من جرت عليه المواسي وكتب إلى أمراء الأجناد أن يضربوا الجزية ولا يضربوها على النساء والصبيان ولا يضربوها إلا على من جرت عليه المواسي وروى عاصم عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم -

إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر وأما
مقدار الجزية قال الله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلم تكن في ظاهر الآية دلالة على مقدار منها بعينه وقد اختلف الفقهاء في مقدارها فقال أصحابنا على الموسر منهم ثمانية وأربعون درهما وعلى الوسط أربعة وعشرون درهما وعلى الفقير المعتمل اثنا عشر درهما وهو قول الحسن بن صالح وقال مالك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق الغني والفقير سواء لا يزاد ولا ينقص وقال الشافعي دينار على الغني والفقير وروى أبو إسحاق عن حارثة بن مضرب قال بعث عمر بن الحطاب عثمان بن حنيف فوضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين درهما واثني عشر درهما وروى الأعمش عن إبراهيم بن مهاجر عن عمرو بن ميمون قال بعث عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان على ما وراء دجلة وبعث عثمان بن حنيف على ما دون دجلة فأتياه فسألهما كيف وضعتما على أهل الأرض قالا وضعنا على كل رجل أربعة دراهم في كل شهر قال ومن يطيق هذا قالا إن لهم فضولا فذكر عمرو بن ميمون ثمانية وأربعون درهما ولم يفصل الطبقات وذكر حارثة بن مضرب تفصيل الطبقات الثلاث فالواجب أن يحمل ما في حديث عمرو بن ميمون على ان مراده أكثر ما وضع من الجزية وهو ما على الطبقة العليا دون الوسطى والسفلى وروى مالك عن نافع عن أسلم أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة ايام وهذا نحو رواية عمرو بن ميمون لأن أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام مع الأربعين يفي ثمانية وأربعون درهما فكان الخبر الذي فيه تفصيل الطبقات الثلاث أولى بالاستعمال لما فيه من الزيادة وبيان حكم كل طبقة ولأن من وضعها على الطبقات فهو قائل بخبر الثمانية والأربعين ومن اقتصر على الثمانية والأربعين فهو تارك للخبر الذي فيه ذكر تمييز الطبقات وتخصيص كل واحد بمقدار منها واحتج من قال

بدينار على الغني والفقير بماروى معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - حين بعثه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافر وهذا عندنا فيما كان منه على وجه الصلح أو يكون ذلك جزية الفقراء منهم وذلك عندنا جائز والدليل عليه ما روي في بعض أخبار معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ من كل حالم أو حالمة دينارا ولا خلاف أن المرأة لا تأخذ منها الجزية إلا أن يقع الصلح عليه وروى أبو عبيد عن جرير عن منصور عن الحكم قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ وهو باليمن أن في الحالم والحالمة دينارا أو عدله من المعافر قال أبو عبيد وحدثنا عثمان بن صالح عن عبدالله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن أنه من كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا ينقل عنها وعليه الجزية وعلى كل حالم ذكر أو أنثى عبدا أو أمة دينار أو قيمته من المعافر ويدل على أن الجزية على الطبقات الثلاث أن خراج الأرضين جعل على مقدار الطاقة واختلف بحسب اختلافها في الأرض وغلتها فجعل على بعضها قفيزا ودرهما وعلى بعضها خمسة دراهم وعلى بعضها عشرة دراهم فوجب على ذلك أن يكون كذلك حكم خراج الرؤس على قدر الإمكان والطاقة ويدل على ذلك قول عمر لحذيفة وعثمان بن حنيف لعلكما حملتما أهل الأرض مالا يطيقون فقالا بل تركنا لهم فضلا وهذا يدل على أن الاعتبار بمقدار الطاقة وذلك يوجب اعتبار حالي الإعسار واليسار وذكر يحيى بن آدم أن الجزية على مقدار الاحتمال بغير توقيت وهو خلاف الإجماع وحكي عن الحسن بن صالح أنه لا تجوز الزيادة في الجزية على وظيفة عمر ويجوز النقصان على حسب الطاقة وقد روى الحكم عن عمرو بن ميمون أنه شهد عمر يقول لعثمان بن حنيف والله لئن وضعت على كل جريب من الأرض قفيزا ودرهما وعلى كل رأس درهمين لا يشق ذلك عليهم ولا يجهدهم قال وكانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين واحتج من قال بجواز الزيادة بهذا الحديث وهذا ليس بمشهور ولم تثبت به رواية واحتجوا أيضا بما روى أبو اليمان عن صفوان بن عمرو عن عمرو بن عبدالعزيز أنه فرض على رهبان الديارات على كل راهب دينارين وهذا عندنا على أنه ذاهب من الطبقة الوسطى فأوجب ذلك عليهم على ما رأى من احتمالهم له كما روى سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال سألت مجاهدا لم وضع عمر على أهل الشام من الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن قال لليسار

في

تمييز الطبقات
قال أبو يوسف في كتاب الخراج تؤخذ منهم على الطبقات على ما وصفت ثمانية وأربعين على الموسر مثل الصيرفي والبزاز وصاحب الصنعة والتاجر والمعالج والطبيب وكل من كان في يده منهم صنعة وتجارة يحترف بها أخذ من أهل كل صناعة وتجارة على قدر صناعتهم وتجارتهم ثمانية وأربعون على الموسر وأربعة وعشرون من المتوسط من احتملت صناعته ثمانية وأربعون أخذ منه ذلك ومن احتملت أربعة وعشرين أخذ ذلك منه واثنا عشر على العامل بيده مثل الخياط والصباغ والجزار والإسكاف ومن أشبههم فلم يعتبر الملك واعتبر الصنعات والتجارات على ما جرت به عادة الناس في الموسر والمعسر منهم وذكر علي بن موسى القمي من غير أن عزي ذلك إلى أحد من أصحابنا أن الطبقة الأولى من يحترف وليس له ما يجب في مثله الزكاة على المسلمين وهم الفقراء المحترفون فمن كان له أقل من مائتي درهم فهم من أهل هذه الطبقة قال والطبقة الثانية أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم فما زاد إلى أربعة آلاف درهم لأن من له مائتا درهم غني تجب عليه الزكاة لو كان مسلما فهو خارج عن طبقة الفقراء قال وإنما أخذنا اعتبار الأربعة الآلاف من قول علي رضي الله عنه وابن عمر أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوق ذلك فهو كثير قال وقد يجوز أن تجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة آلاف درهم وما زاد على ذلك فهو من الطبقة الثالثة لما روى حماد بن سلمة عن طلحة بن عبدالله بن كريز عن أبي الضيف عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال من ترك عشرة آلاف درهم جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة وهذا الذي ذكره علي بن موسى القمي هو اجتهاد يسوغ القول به لمن غلب في ظنه صوابه وقوله تعالى عن يد قال قتادة عن قهر كأنه ذهب في اليد إلى القوة والقدرة والاستعلاء فكأنه قال على استعلاء منكم عليهم وقهرهم وقيل عن يد يعني عن يد الكافر وإنما ذكر اليد ليفارق حال الغضب لأنه يعطيها بيده راضيا بها حاقنا بها دمه فكأنه قال حتى يعطيها وهو راض بها ويحتمل عن يد عن نعمة فيكون تقديره حتى يعطوا الجزية عن اعتراف منهم بالنعمة فيها بقبولها منهم وقال بعضهم عن يد يعني عن نقد من قولهم يدا بيد وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى كل من أطاع لقاهر بشيء أعطاه عن طيب نفس وقهر له من يد في يده فقد أعطاه عن يد قال والصاغر الذليل الحقير وقوله وهم صاغرون قال ابن عباس يمشون

بها ملبين وقال سلمان مذمومين غير محمودين وقيل إنما كان صغارا لأنها مستحقة عليهم يؤخذون بها ولا يثابون عليها وقال عكرمة الصغار إعطاء الجزية قائما والآخذ جالس وقيل الصغار الذل ويجوز أن يكون المراد به الذلة التي ضربها الله عليهم بقوله ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس والحبل الذمة التي عهدها الله لهم وأمر المسلمين بها فيهم وروى عبدالكريم الجزري عن سعيد بن المسيب أنه كان يستحب أن يتعب الأنباط في الجزية إذا أخذت منهم قال أبو بكر ولم يرد بذلك تعذيبهم ولا تكليفهم فوق طاقتهم وإنما أراد الإستخفاف بهم وإذلالهم وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسن حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا لقيتم المشركين في الطريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقه وحدثنا عبدالباقي قال حدثنا مطير قال حدثنا يوسف الصفار قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تصافحوا اليهود والنصارى فهذا كله من الصغار الذي ألبس الله الكفار بكفرهم ونحوه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية وقال لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم فنهى في هذه الآيات عن موالاة الكفار وإكرامهم وأمر بإهانتهم وإذلالهم ونهى عن الإستعانة بهم في أمور المسلمين لما فيه من العز وعلو اليد وكذلك كتب عمر إلى أبي موسى ينهاه أن يستعين بأحد من أهل الشرك في كتابته وتلا قوله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا وقال لا تردوهم إلى العز بعد إذلالهم الله وقوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون قد اقتضى وجوب قتلهم إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة فغير جائز على هذه القضية أن تكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولايات ونفاذ الأمر والنهي إذ كان الله إنما جعل لهم الذمة وحقن دماءهم بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغصوب وأخذ الضرائب والظلم سواء كان السلطان ولاه ذلك أو فعله بغير أمر السلطان وهذا يدل على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان وظهر منهم ظلم واستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة وإن كان آخذ الضرائب ممن ينتحل الإسلام والقعود على المراصيد لأخذ أموال

الناس يوجب إباحة دمائهم إذ كانوا بمنزلة قطاع الطريق ومن قصد إنسانا لأخذ ماله فلا خلاف بين الفقهاء أن له قتله وكذلك

قال
النبي صلى الله عليه وسلم - من طلب ماله فقاتل فقتل فهو شهيد وفي خبر آخر من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شيهد فإذا كان هذا حكم من طلب أخذ مال غيره غصبا وهو ممن ينتحل الإسلام فالذمي إذا فعل ذلك استحق القتل من وجهين أحدها ما اقتضاه ظاهر الآية من وجوب قتله والآخر قصده المسلم بأخذ ماله ظلما
باب وقت وجوب الجزية
قال الله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فأوجب قتالهم وجعل إعطاء الجزية غاية لرفعه عنهم لأن حتى غاية هذا حقيقة اللفظ والمفهوم من ظاهره ألا ترى أن قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن قد حظر إباحة قربهن إلا بعد وجود طهرهن وكذلك المفهوم من قول القائل لا تعط زيدا شيئا حتى يدخل الدار منع الإعطاء إلا بعد دخوله فثبت بذلك أن الآية موجبة لقتال أهل الكتاب مزيلة ذلك عنهم بإعطاء الجزية وهذا يدل على أن الجزية قد وجبت بعقد الذمة وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف قال لا تؤخذ من الذمي الجزية حتى تدل السنة ويمضي شهران منها بعض ما عليه بشهرين ونحو ذلك يعامل في الجزية بمنزلة الضريبة كلما كان يمضي شهران أو نحو ذلك أخذت منه قال أبو بكر يعني بالضريبة الأجرة في الإجارات قال أبو يوسف ولا يؤخذ ذلك منه حين تدخل السنة ولا يؤخذ ذلك منه حتى تتم السنة ولكن يعامل ذلك على سنته قال أبو بكر ذكره للشهرين إنما هو توفية وهي واجبة بإقرارنا إياها على الذمة لما تضمنه ظاهر الآية وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال في الذمي يؤخذ منه خراج رأسه في سنته ما دام فيها فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه وهذا يدل من قول أبي حنيفة على أنه رآها واجبة بعقد الذمة لهم وأن تأخيرها بعض السنة إنما هو توفية للواجب وتوسعة ألا ترى أنه قال فإذا انقضت السنة لم يؤخذ منه لأن دخول السنة الثانية يوجب جزية أخرى فإذا اجتمعتا سقطت إحداهما وعن أبي يوسف ومحمد اجتماعهما لا يسقط إحداهما وجه قول أبي حنيفة أن الجزية واجبة على وجه العقوبة لإقامتهم على الكفر مع

كونهم من أهل القتال وحق الأخذ فيها إلى الإمام فأشبهت الحدود إذ كانت مستحقة في الأصل على وجه العقوبة وحق الأخذ إلى الإمام فلما كان اجتماع الحدود من جنس واحد يوجب الاقتصار على واحد منهما مثل أن يزني مرارا أو يسرق مرارا ثم يرفع إلى الإمام فلا يجب إلا حد واحد بجميع الأفعال كذلك حكم الجزية إذ كانت مستحقة على وجه العقوبة بل هي أخف أمرا وأضعف حالا من الحدود لأنه لا خلاف بين أصحابنا إن إسلامه يسقطها ولا تسقط الحدود بالإسلام فإن قيل لما كان ذلك دينا وحقا في مال المسلمين لم يسقطه اجتماعه كالديون وخراج الأرضين قيل له خراج الأرضين ليس بصغار ولا عقوبة والدليل عليه أنه يؤخذ من المسلمين والجزية لا تؤخذ من مسلم وقد روي نحو قول أبي حنيفة عن طاوس وروى ابن جريج عن سليمان الأحول عن طاوس قال إذا تداركت صدقات فلا تؤخذ الأولى كالجزية وقد اختلف الفقهاء في الذمي إذا أسلم وقد وجبت عليه جزية هل يؤخذ بها فقال أصحابنا لا يؤخذ وهو قول مالك وعبيدالله بن الحسن وقال ابن شبرمة والشافعي إذا أسلم في بعض السنة أخذ منه بحساب ذلك والدليل على أن الإسلام يسقط ما وجب من الجزية قوله تعالى قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فانتظمت هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة ما قلنا أحدهما الأمر بأخذ الجزية ممن يجب قتاله لإقامته على الكفر إن لم يؤدها ومتى أسلم لم يجب قتاله فلا جزية عليه والوجه الثاني قوله تعالى عن يد وهم صاغرون فأمر بأخذها منهم على وجه الصغار والذلة وهذا المعنى معدوم بعد الإسلام إذ غير ممكن أخذها على هذا الوجه ومتى أخذناها على غير هذا الوجه لم تكن جزية لأن الجزية هي ما أخذ على وجه الصغار وقد روى الثوري عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

ليس على مسلم جزية فنفى ص
- أخذها من المسلم ولم يفرق بين ما وجب عليه في حال الكفر وبين ما لم يجب بعد الإسلام فوجب بظاهر ذلك إسقاط الجزية عنه بالإسلام ويدل على سقوطها أن الجزية والجزاء واحد ومعناه جزاء الإقامة على الكفر ممن كان من أهل القتال فمتى أسلم سقط عنه بالإسلام المجازاة على الكفر إذ غير جائز عقاب التائب في حال المهلة وبقاء التكليف ولهذا الاعتبار أسقطها أصحابنا بالموت لفوات أخذها منه على وجه الصغار بعد موته فلا يكون ما يأخذه جزية وعلى هذا قالوا فيمن وجبت

عليه زكاة ماله ومواشيه فمات أنها تسقط ولا يأخذها الإمام منه لأن سبيل أخذها وموضوعها في الأصل سبيل العبادات يسقطها الموت وقالوا فيمن وجبت عليه نفقة امرأته بفرض القاضي فمات أو ماتت أنها تسقط لأن موضوعها عندهم موضوع الصلة إذ ليست بدلا عن شيء ومعنى الصلة لا يتأتى بعد الموت فأسقطوها لهذه العلة فإن قيل الحدود واجبة على وجه العقوبة والتوبة لا تسقطها وكذلك لو أن ذميا اسلم وقد زنى أو سرق في حال كفره لم يكن إسلامه وتوبته مسقطين لحده وإن كان وجوب الحد في الأصل على وجه العقوبة والتائب لا يستحق العقاب على فعل قد صحت منه توبته قيل له أما الحد الذي كان واجبا على وجه العقوبة فقد سقط بالتوبة وما توجبه بعدها ليس هو الحد المستحق على وجه العقوبة بل هو حج واجب على وجه المحنة بدلالة قامت لنا على وجوبه غير الدلالة الموجبة للحد الأول على وجه العقوبة فإن قامت دلالة على وجوب أخذ المال منه بعد إسلامه لا على وجه الجزية والعقوبة لما ناب إيجابه إلا أنه لا يكون جزية لأن اسم الجزية يتضمن كونها عقوبة وأنت فإنما تزعم أنه تؤخذ منه الجزية بعد إسلامه فإن اعترفت بأن المأخوذ منه غير جزية وأن الجزية التي كانت واجبة قد سقطت وإنما يجب مال آخر غير الجزية فإنما أنت رجل سمتنا إيجاب مال على مسلم من غير سبب يقتضي إيجابه وهذا لا نسلم لك به إلا بدلالة وقد روى المسعودي عن محمد بن عبدالله الثقفي أن دهقانا أسلم فقام إلى علي رضي الله عنه فقال له علي أما أنت فلا جزية عليك وأما أرضك فلنا وفي لفظ آخر إن تحولت عنها فنحن أحق بها وروى معمر عن أيوب عن محمد قال أسلم رجل فأخذ بالخراج وقيل له إنك متعود بالإسلام فقال إن في الإسلام لمعاذا إن فعلت فقال عمر أجل والله إن في الإسلام معاذا إن فعل فرفع عنه الجزية وروى حماد بن سلمة عن حميد قال كتب عمر بن عبدالعزيز من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتن فلا تأخذوا منه الجزية فلم يفرق هؤلاء السلف بين الجزية الواجبة قبل الإسلام وبين حاله بعد الإسلام في نفيها عن كل مسلم وقد كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة ويذهبون إلى أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فلا يسقط إسلام العبد ضريبته وهذا خلل في جنب ما ارتكبوه من المسلمين ونقض الإسلام عروة عروة إلى أن ولي عمر بن عبدالعزيز فكتب إلى عامله بالعراق عبدالحميد بن عبدالرحمن أما بعد فإن الله

بعث محمدا ص - داعيا ولم يبعثه جابيا فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فلما ولي هشام بن عبدالملك أعادها على المسلمين وكان أحد الأسباب التي لها استجاز القراء والفقهاء قتال عبدالملك بن مروان والحجاج لعنهما الله أخذهم الجزية من المسلمين ثم صار ذلك ايضا أحد أسباب زوال دولتهم وسلب نعمتهم وروى عبدالله بن صالح

قال
حدثنا حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب قال أعظم ما أتت هذه الأمة بعد نبيها ثلاث خصال قتلهم عثمان وأحراقهم الكعبة وأخذهم الجزية من المسلمين وأما قولهم أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فليس ببدع هذا من جهلهم إذ قد جهلوا من أمور الإسلام ما هو أعظم منه وذلك لأن أهل الذمة ليسوا عبيدا ولو كانوا عبيدا لما زال عنهم الرق بإسلامهم لأن إسلام العبد لا يزيل رقه وإنما الجزية عقوبة عوقبوا بها لإقامتهم على الكفر فمتى أسلموا لم يجز أن يعاقبوا بأخذها منهم ألا ترى أن العبد النصراني لا تؤخذ منه الجزية فلو كان أهل الذمة عبيدا لما أخذ منهم الجزية
في خراج الأرض هل هو جزية
قال أبو بكر اختلف أهل العلم في خراج الأرضين هل هوصغار وهل يكره للمسلم أن يملك أرض الخراج فروي عن ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين كراهته ورواه داخلا في آية الجزية وهو قول الحسن بن حي وشريك وقال آخرون الجزية إنما هي خراج الرءوس ولا يكره للمسلم أن يشتري أرض خراج وليس ذلك بصغار وهو قول أصحابنا وابن أبي ليلى وروي عن عبدالله بن مسعود ما يدل على أنه لم يكرهه وهو ما روى شعبة عن الأعمش عن شمر بن عطية عن رجل من طي عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لا تتخذوا الضيعة فترغبوا في الدنيا قال عبدالله وبراذان ما براذان وبالمدينة ما بالمدينة يعني أن له ضيعة براذان وضيعة بالمدينة ومعلوم أن راذان من الأرض الخراج فلم يكره عبدالله ملك أرض الخراج وروي عن عمر بن الخطاب في دهقانة نهر الملك حين أسلمت إن أقامت على أرضها أخذنا منها الخراج وروي أن ابن الرفيل أسلم فقال مثل ذلك وعن علي في رجل من أهل الأرض أسلم فقال إن أقمت على ارضك أخذنا منك الخراج وإلا فنحن أولى بها وروي عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد مثل ذلك وروى سهيل بن ابي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال منعت

العراق قفيزها ودرهمها ومنعت الشام مداها ودينارها ومنعت مصرا أردبها وعدتم كما بدأتم ثلاث مرات يشهد على ذلك لحم أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ودمه وهذا يدل على أن خراج الأرض ليس بصغار من وجهين أحدهما أنه لم يكره لهم ملك أرض الخراج التي عليها قفيز ودرهم ولو كان ذلك مكروها لذكره والثاني أنه أخبر عن منعهم لحق الله المفترض عليهم بالإسلام وهو معنى قوله عدتم كما بدأتم يعني في منع حق الله فدل على أنه كسائر الحقوق اللازمة لله تعالى مثل الزكوات والكفارات لا على وجه الصغار والذلة وأيضا لم يختلفوا أن الإسلام يسقط جزية الرءوس ولا يسقط عن الأرض فلو كان صغارا لأسقطه الإسلام فإن قيل لما كان خراج الأرضين فيا وكذلك جزية الرءوس دل على أنه صغار قيل له ليس كذلك لأن من الفيء ما يصرف إلى الغانمين ومنه ما يصرف إلى الفقراء والمساكين وهو الخمس وهذا كلام في الوجه الذي يصرف فيه وليس يوجب ذلك أن يكون صغارا لأن الصغار في الفيء هو ما يبتدأ به الذي يجب عليه فأما ما قد وجب في الأرض من الحق ثم ملكها مسلم فإن ملك المسلم له لا يزيله إذ كان وجوبه فيها متقدم لملكه وهو حق لكافة المسلمين ولم تكن الجزية صغارا من حيث كانت فيا وإنما كانت عقوبة وليس خرج الأرضين على وجه العقوبة ألا ترى أن ارض الصبي والمعتوه يجب فيهما الخراج ولا تؤخذ منهما الجزية لأن الجزية عقوبة وخراج الأرضين ليس كذلك
فصل إن قال قائل من الملحدين كيف جاز إقرار الكفار على كفرهم بأداء الجزية بدلا من الإسلام قيل له ليس أخذ الجزية منهم رضا بكفرهم ولا إباحة لبقائهم على شركهم وإنما الجزية عقوبة لهم لإقامتهم على الكفر وتبقيتهم على كفرهم بالجزية كهي لو تركناهم بغير جزية تؤخذ منهم إذ ليس في العقل إيجاب قتلهم لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يبقى الله كافرا طرفة عين فإذا بقاهم لعقوبة يعاقبهم بها مع التبقية استدعاء لهم إلى التوبة من كفرهم واستمالة لهم إلى الإيمان لم يكن ممتنعا إمهاله إياهم إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن ومنهم من يكون من نسله من يؤمن بالله فكان في ذلك أعظم المصلحة مع ما للمسلمين فيها من المرفق والمنفعة فليس إذا في إقرارهم على الكفر وترك قتلهم بغير جزية ما يوجب الرضا بكفرهم ولا الإباحة لاعتقادهم وشركهم فكذلك إمهالهم بالجزية جائز في العقل إذ ليس فيه أكثر من تعجيل بعض عقابهم المستحق بكفرهم وهو ما يلحقهم من

الذل والصغار بأدائها قوله تعالى وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله قيل إنه أراد فرقة من اليهود قالت ذلك والدليل على ذلك أن اليهود قد سمعت ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم - فلم تنكره وهو كقول القائل الخوارج ترى الاستعراض وقتل الأطفال والمراد فرقة منهم لا جميعهم وكقولك جاءني بنو تميم والمراد بعضهم قال ابن عباس قال ذلك جماعة من اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم - فقالوا ذلك وهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فأنزل الله تعالى هذه الآية وليس في اليهود من يقول ذلك الآن فيما نعلم وإنما كانت فرقة منهم قالت ذلك فانقرضت قوله تعالى يضاهئون قول الذين كفروا من قبل يعني يشابهونهم ومنه امرأة ضهياء للتي لا تحيض لأنها أشبهت الرجال من هذا الوجه فساوى المشركين الذين جعلوا الأصنام شركاء لله سبحانه وتعالى لأن هؤلاء جعلوا المسيح وعزيرا اللذين هما خلقان لله ولدين له وشريكين كما جعل أولئك الأصنام المخلوقة شركاء لله تعالى قال ابن عباس الذين كفروا من قبل يعني به عبدة الأوثان الذين عبدوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وقيل إنهم يضاهئونهم لأن أولئك قالوا الملائكة بنات الله وقال هؤلاء عزير ومسيح ابنا الله وقيل يضاهئونهم في تقليد أسلافهم وقوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم يعني أنه لا يرجع إلى معنى صحيح ولا حقيقة له ولا محصول أكثر من وجوده في أفواههم وقوله قاتلهم الله قال ابن عباس لعنهم الله وقيل إن معناه قتلهم الله كقولهم عافاه الله أي أعفاه الله من السوء وقيل إنه جعل كالقاتل لغيره في عداوة الله عز و جل قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم قيل إن الحبر العالم الذي صناعته تحبير المعاني بحسن البيان عنها يقال فيه حبر وحبير والراهب الخاشي الذي يظهر عليه لباس الخشية يقال راهب ورهبان وقد صار مستعملا في متنسكي النصارى وقوله أربابا من دون الله قيل فيه وجهان أحدهما أنهم كانوا إذا حرموا عليهم شيئا حرموه وإذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وروي في حديث عدي بن حاتم لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم -

قال فتلا النبي ص
- اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال قلت يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم قال أليس كانوا إذا حرموا عليهم شيئا حرموه وإذا أحلوا لهم شيئا أحلوه قال قلت نعم قال فتلك عبادتهم إياهم ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلا من جهة العالم

بالمصالح ثم قلدوا أحبارهم هؤلاء أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم وقبلوه منهم وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلل صاروا متخذين لهم أربابا إذ نزلوهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب وقيل إن معناه إنهم عظموهم كتعظيم الرب لأنهم يسجدون لهم إذا رأوهم وهذا الضرب من التعظيم لا يستحقه غير الله تعالى فلما فعلوا ذلك فهم كانوا متخذين لهم أربابا قوله تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فيه بشارة للنبي ص - وللمؤمنين بنصرهم وإظهار دينهم على سائر الأديان وهو إعلاؤه بالحجة والغلبة وقهر أمته لسائر الأمم وقد وجد مخبره على ما أخبر به بظهور أمته وعلوها على سائر الأمم المخالفة لدين الإسلام وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم - وعلى أن القرآن كلام الله ومن عنده وذلك لأن مثله لا يتفق للمتخرصين والكذابين مع كثرة ما في القرآن من الإخبار عن الغيوب إذ لا يعلم الغيب إلا الله فهو إذا كلامه وخبره ولا ينزل الله كلامه إلا على رسوله قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل أكل المال بالباطل هو تملكه من الجهة المحظورة وروي عن الحسن إنهم كانوا يأخذون الرشى في الحكم وذكر الأكل والمراد وجوه المنافع والتصرف إذ كان أعظم منافعه الأكل والشرب وهو كقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والمراد سائر وجوه المنافع وكقوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم و إن الذين يأكلون أموال اليتامى قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله الآية يقتضي ظاهره إيجاب إنفاق جميع المال لأن الوعيد لاحق بتارك إنفاق الجميع لقوله ولا ينفقونها ولم يقل ولا ينفقون منها فإن قيل لو كان المراد الجميع لقال ولا ينفقونهما قيل له لأن الكلام رجع إلى مدلول عليه كأنه قال ولا ينفقون الكنوز والآخر أن يكتفى بأحدهما عن الآخر للإيجاز كقوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها قال الشاعر ... نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف ... والمعنى راضون والدليل على أنه راجع إليهما جميعا أنه لو رجع إلى أحدهما دون الآخر لبقي أحدهما عاريا من خبره فيكون كلاما منقطعا لا معنى له إذ كان قوله والذين يكنزون الذهب والفضة مفتقرا إلى خبر ألا ترى أنه يجوز الاقتصار عليه وقد روى في معنى

ظاهر الآية أخبار روى موسى بن عبيدة قال حدثني عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدثان عن أبي ذر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم - يقول في الإبل صدقتها من جمع دينارا أو درهما أو تبرا أو فضة لا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهي كي يكوى بها يوم القيامة قال قلت أنظر ما يجيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فإن هذه الأموال قد فشت في الناس فقال أما تقرأ القرآن والذين يكنزون الذهب والفضة الآية فاقتضى ظاهره أن في الإبل صدقتها لا جميعها وهي الصدقة المفروضة وفي الذهب والفضة إخراج جميعهما وكذلك كان مذهب أبي ذر رحمة الله عليه أنه لا يجوز ادخار الذهب والفضة وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا يمر على ثلاثة وعندي منه شيء أن لا أجد أحدا يقبله مني صدقة إلا أن أرصده لدين علي فذكر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم - لم يحب ذلك لنفسه واختار إنفاقه ولم يذكر وعيد تارك إنفاقه وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال توفي رجل من أهل الصفة فوجد معه دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

كية وجائز أن يكون النبي ص
- علم أنه أخذ الدينار من غير حله أو منعه من حقه أو سأله غيره بإظهار الفاقة مع غناه عنه كما روي عنه ص - من سأل عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم فقلنا وما غناه يا رسول الله قال أن يكون عند أهله ما يغديهم ويعشيهم وكان ذلك في وقت شدة الحاجة وضيق العيش ووجوب المواساة من بعضها لبعض وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنها منسوخة بقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم قال أبو بكر قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم - بالنقل المستفيض إيجابه في مائتي درهم خمسة دراهم وفي عشرين دينارا نصف دينار كما أوجب فرائض المواشي ولم يوجب الكل فلو كان إخراج الكل واجبا من الذهب والفضة لما كان للتقدير وجه وأيضا فقد كان في الصحابة قوم ذوو يسار ظاهر وأموال جمة مثل عثمان وعبدالرحمن بن عوف وعلم النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك منهم فلم يأمرهم بإخراج الجميع فثبت أن إخراج الجميع الذهب والفضة غير واجب وأن المفروض إخراجه هو الزكاة إلا أن تحدث أمور توجب المواساة والإعطاء نحو الجائع المضطر والعاري المضطر أو ميت ليس له من يكفنه أو يواريه وقد روى شريك عن أبي حمزة عن عامر عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم -
أنه قال في المال حق سوى الزكاة وتلا قوله تعالى ليس
البر أن تولوا وجوهكم قبل

المشرق والمغرب الآية وقوله تعالى ولا ينفقونها في سبيل الله يحتمل أن يريد به ولا ينفقون منها فحذف من وهو يريدها وقد بينه بقوله خذ من أموالهم صدقة فأمر بأخذ بعض المال لا جميعه وليس في ذلك ما يوجب نسخ الأول إذ جائز أن يكون مراده ولا ينفقون منها وأما الكنز فهو في اللغة كبس الشيء بعضه على بعض قال الهذلي ... لا در درى إن أطعمت نازلكم ... قرف الحتى وعندي البر مكنوز ...
ويقال كنزت التمر إذا كبسته في القوصرة وهو في الشرع لما لم يؤد زكاته وروى عن عمر وابن عباس وابن عمر والحسن وعامر والسدي قالوا ما لم يؤد زكاته فهو كنز فمنهم من قال وإن كان ظاهرا وما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا ومعلوم أن أسماء الشرع لا تؤخذ إلا توقيفا فثبت أن الكنز اسم لما لم يؤد زكاته المفروضة وإذا كان كذلك كان تقدير قوله والذين يكنزون الذهب والفضة الذين لا يؤدون زكاة الذهب والفضة ولا ينفقونها يعني الزكاة في سبيل الله فلم تقتض الآية إلا وجوب الزكاة فحسب وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبي حدثنا غيلان عن جعفر بن إياس عن مجاهد عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية والذين يكنزون الذهب والفضة كبر ذلك على المسلمين فقال عمر أنا أفرج عنكم فانطلق فقال يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم -

إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث
لتكون لمن بعدكم قال فكبر عمر ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته فأخبر في هذا الحديث أن المراد إنفاق بعض المال لا جميعه وأن قوله والذين يكنزون المراد به منع الزكاة وروي ابن لهيعة قال حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت الحق الذي يجب عليك فأخبر في هذا الحديث أيضا أن الحق الواجب في المال هو الزكاة وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيحمى به جنبه وجبينه حتى يحكم الله بين عباده فأخبر في هذا الحديث أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيره وإنه لا يجب جميعه وقوله فيحمى بها جنبه وجبهته يدل على أنه أراد معنى قوله

والذين يكنزون الذهب والفضة الى قوله فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم يعني لم تؤدوا زكاته وحدثنا عبدالباقي حدثنا بشر بن موسى حدثنا عبدالله بن صالح حدثنا عبدالعزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن الذي لا يؤدي زكاته يمثل له شجاع أقرع له زبيبتان يلزمه أو يطوقه فيقول أنا كنزك أنا كنزك فأخبر أن المال الذي لا تؤدى زكاته هو الكنز ولما ثبت بما وصفنا أن قوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله مراده منع الزكاة أوجب عمومه إيجاب الزكاة في سائر الذهب والفقضة إذ كان الله إنما علق الحكم فيهما بالاسم فاقتضى إيجاب الزكاة فيهما بوجود الاسم دون الصنعة فمن كان عنده ذهب مصوغ أو مضروب أو تبر أو فضة كذلك فعليه زكاته بعموم اللفظ ويدل أيضا على وجوب ضم الذهب إلى الفضة لإيجابه الحق فيهما مجموعين في قوله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله وقد اختلف الفقهاء في زكاة الحلى فأوجب أصحابنا فيه الزكاة وروى مثله عن عمر وابن مسعود رواه سفيان الثوري عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود وروي عن جابر وابن عمر وعائشة لا زكاة في الحلى وهو قول مالك والشافعي وروي عن أنس بن مالك أن الحلى تزكى مرة واحدة ولا تزكى بعد ذلك وقد ذكرنا وجه دلالة الآية على وجوبها في الحلى لشمول الاسم له وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم -

آثار في إيجاب زكاة الحلى منها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي صلى الله عليه وسلم - رأى امرأتين في أيديهما سواران من ذهب فقال أتعطين زكاة هذا قالت لا قال أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار فأوجب الزكاة في السوار وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا عتاب عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو فقال ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس يكنز وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما وجوب زكان الحلى والآخر أن الكنز ما لم تؤد زكاته وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن إدريس الرازي حدثنا عمرو بن الربيع بن طارق حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره عن عبدالله ابن شداد بن الهاد أنه قال دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم -
فقالت دخل علي رسول الله

ص - فرأى في يدي فتحات من ورق فقال ما هذا يا عائشة فقلت صنعتهن أتزين لك يا رسول الله قال أتؤدين زكاتهن قلت لا أو ما شاء الله قال هو حسبك من النار فانتظم هذا الخبر معنيين أحدهما وجوب زكاة الحلي والآخر أن المصوغ يسمى ورقا لأنها قالت فتحات من ورق فاقتضى ظاهر قوله في الرقة ربع العشر إيجاب الزكاة في الحلي لأن الرقة والورق واحد ويدل عليه من جهة النظر أن الذهب والفضة يتعلق وجوب الزكاة فيهما بأعيانهما في ملك من كان من أهل الزكاة لا بمعنى ينضم إليهما والدليل عليه أن النقر والسبائك تجب فيهما الزكاة وإن لم تكن مرصدة للنماء وفارقا بهذا غيرهما من الأموال لأن غيرهما لا تجب الزكاة فيهما بوجود الملك إلا أن تكون مرصدة للنماء فوجب أن لا يختلف حكم المصوغ والمضروب وأيضا لم يختلفوا أن الحلي إذا كان في ملك الرجل تجب فيه الزكاة فكذلك إذا كان في ملك المرأة كالدراهم والدنانير وأيضا لا يختلف حكم الرجل والمرأة فيما يلزمهما من الزكاة فوجب أن لا يختلفا في الحلي فإن قيل الحلي كالنقر العوامل وثياب البذلة قيل له قد بينا أن ما عداهما يتعلق وجوب الزكاة فيهما بأن يكون مرصدا للنماء فما لم يوجد هذا المعنى لم تجب والذهب والفضة لأعيانهما بدلالة الدراهم والدنانير والنقر والسبائك إذا أراد بهما القنية والتبقية لا طلب النماء وأيضا لما لم يكن للصنعة تأثير فيهما ولم يغير حكمهما في حال وجب أن لا يختلف الحكم بوجود الصنعة وعدمها فإن قيل زكاة الحلي عاريته قيل له هذا غلط لأن العارية غير واجبة والزكاة واجبة فبطل أن تكون العارية زكاة وأما قول أنس بن مالك أن الزكاة تجب في الحلي مرة واحدة فلا وجه له لأنه إذا كان من جنس ما تجب فيه الزكاة وجبت في كل حول
فصل وقد دلت الآية على وجوب الزكاة في الذهب والفضة بمجموعهما فاقتضى ذلك وجوب ضم بعضها إلى بعض وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أصحابنا يضم أحدهما إلى الآخر فإذا كمل النصاب بها زكي واختلف أصحابنا في كيفيته فقال أبو حنيفة يضم بالقيمة كالعروض وقال أبو يوسف ومحمد يضم بالأجزاء وقال ابن أبي ليلى والشافعي لا يضمان وروي الضم عن الحسن وبكير بن عبدالله بن الأشج وقتادة والدليل على وجوب الزكاة فيهما مجموعين قوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فأوجب الله تعالى فيهما الزكاة مجموعين لأن قوله ولا ينفقونها قد

أراد به إنفاقهما جميعا ويدل على وجوب الضم أنهما متفقان

في
وجوب الحق فيهما وهو ربع العشر فكانا بمنزلة العروض المختلفة إذا كانت للتجارة لما كان الواجب فيها ربع العشر ضم بعضها إلى بعض مع اختلاف أجناسها وقد قال الشافعي فيمن له مائة درهم وعرض للتجارة يساوي مائة درهم أن الزكاة واجبة عليه فضم العرض إلى المائة مع اختلاف الجنسين لاتفاقهما في وجوب ربع العشر وليس الذهب والفضة كالجنسين من الإبل والغنم لأن زكاتهما مختلفة فإن قيل زكاة خمس من الإبل مثل زكاة أربعين شاة ولم يكن اتفاقهما في الحق الواجب موجبا لضم أحدهما إلى الآخر قيل له لم نقل أن اتفاقهما في المقدار الواجب يوجب ضم أحدهما إلى الآخر وإنما قلنا أن اتفاقهما في وجوب ربع العشر فيهما هوالمعنى الموجب للضم كعروض التجارة عند اتفاقهما في وجوب ربع العشر وقت الضم والإبل والغنم ليس الواجب فيهما ربع العشر لأن الشاة ليست ربع العشر من خمس من الإبل ولا ربع العشر من أربعين شاتا أيضا لأنه جائز أن يكون الغنم خيارا ويكون الواجب فيها شاة وسطا فيكون أقل من ربع عشرها فهذا إلزام ساقط فإن احتجوا بقوله ص - ليس فيما دون خمس أواق صدقة وذلك يوجب الزكاة فيها سواء كان معها ذهب أو لم يكن قيل له كما لم يمنع قوله ليس فيما دون خمس أواق صدقة وجوب ضم المائة إلى العروض وكان معناه عندك إذا لم يكن معه غيره من العروض كذلك نقول نحن في ضمه إلى الذهب قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا إلى قوله حرم لما قال تعالى في مواضع أخر الحج أشهر معلومات وقال يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج فعلق بالشهور كثيرا من مصالح الدنيا والدين وبين في هذه الآية هذه الشهور وإنما تجري على منهاج واحد لا يقدم المؤخر منها ولا يؤخر المقدم وقال إن عدة الشهور عند الله وذلك يحتمل وجهين أحدهما أن الله وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة وهو معنى قوله إن عدة الشهور عند الله وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر وتأخير المقدم في الأسماء منها وذكر ذلك لنا لنتبع أمر الله فيها ونرفض ما كان عليه أمر الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها ولذلك قال النبي ص

في حجة الوداع ما رواه ابن عمر وأبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته بالعقبة أيها الناس إن الزمان قد استدار قال ابن عمر فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وقال أبو بكرة قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وأن النسيء زيادة في الكفر الآية قال ابن عمر وذلك إنهم كانوا يجعلون صفر عاما حراما وعاما حلالا ويجعلون المحرم عاما حلالا وعاما حراما وكان النسيء من الشيطان فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن الزمان يعني زمان الشهور قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وأن كل شهر قد عاد إلى الموضع الذي وضعه الله به على ترتيبه ونظامه وقد ذكر لي بعض أولاد بني المنجم أن جده وهو أحسب محمد بن موسى المنجم الذي ينتمون إليه حسب شهور الأهلة منذ ابتداء خلق الله السموات والأرض فوجدها قد عادت في موقع الشمس والقمر إلى الوقت الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قد عاد إليه يوم النحر من حجة الوداع لأن خطبته هذه كانت بمنى يوم النحر عند العقبة وإنه حسب ذلك في ثماني سنين فكان ذلك اليوم العاشر من ذي الحجة على ما كان عليه يوم ابتداء الشهور والشمس والقمر في ذلك اليوم في الموضع الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قد عاد الزمان إليه مع النسيء بالذي قد كان أهل الجاهلية ينسئون وتغيير أسماء الشهور ولذلك لم تكن السنة التي حج فيها أبو بكر الصديق هي الوقت الذي وضع الحج فيه وإنما قال رجب مضر بين جمادى وشعبان دون رمضان الذي يسميه ربيعة رجب وأما الوجه الآخر في معنى قوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله فهو أن الله قسم الزمان اثني عشر قسما فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الإثني عشر قسما منها فيكون قطعها للفلك في ثلثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام ثلاثين يوما وكسر قسم الأزمنة أيضا على مسير القمر فصار القمر يقطع الفلك في تسعة وعشرين يوما ونصف يوم وجعل السنة القمرية ثلثمائة وأربعة وخمسين يوما وربع يوم فكان قطع الشمس للبرج مقاربا لقطع القمر للفلك كله وهذا معنى قوله تعالى الشمس والقمر بحسبان وقال تعالى وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب فلما

كانت السنة مقسومة على نزول الشمس في البروج الإثني عشر وان شهورها اثني عشر واختلفت السنة الشمسية والقمرية في البروج الإثني عشر وكانت شهورها اثني عشر واختلفت السنة الشمسية والقمرية في الكسر الذي بينهما وهو أحد عشر يوما بالتقريب وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين فيما يتعلق بها من أحكام الشرع ولم يكن لنصف اليوم الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوما حكم فكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى السنة في ابتداء وضع الخلق ثم غيرت الأمم العادلة عن كثير من شرائع الأنبياء هذا الترتيب فكانت شهور الروم بعضها ثمانية وعشرين وبعضها ثمانية وعشرين ونصفا وبعضها واحدا وثلاثين وذلك على خلاف ما أمر الله تعالى من اعتبار الشهور في الأحكام التي تتعلق بها ثم كانت الفرس شهورها ثلاثين إلا شهرا واحدا وهو بادماه فإنه خمسة وثلاثون ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهرا كاملا فتصير السنة ثلاثة عشر أخبر الله تعالى أن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرا لا زيادة فيها ولا نقصان وهي الشهور القمرية التي إما أن تكون تسعة وعشرين وإما أن تكون ثلاثين ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم - الشهر تسع وعشرون والشهر ثلاثون وقال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فجعل الشهر برؤية الهلال فإن اشتبه لغمام أو قترة فثلاثون فأعلمنا الله بقوله إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يم خلق السموات والأرض يعني إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرا لا زيادة عليها وأبطل به الكبيسة التي كانت تكبسها الفرس فتجعلها ثلاثة عشر شهرا في بعض السنة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم - أن انقضاء الشهور برؤية الهلال فتارة تسعة وعشرون وتارة ثلاثون فأعلمنا الله في هذه الآية أنه كذلك وضع الشهور والسنين في ابتداء الخلق أخبر النبي صلى الله عليه وسلم - عود الزمان إلى ما كان عليه وأبطل به ما غيره المشركون من ترتيب الشهور ونظامها وما زاد به في السنين والشهور وإن الأمر قد استقر على ما وضعه الله تعالى في الأصل لما علم تبارك وتعالى من تعلق مصالح الناس في عبادتهم وشرائعهم بكون الشهور والسنين على هذا الوجه فيكون الصوم تارة في الربيع وتارة في الصيف وأخرى في الخريف وأخرى في الشتاء وكذلك الحج لعلمه بالمصلحة في ذلك وقد روي في الخبر أن صوم النصارى كان كذلك فلما رأوه يدور في بعض السنين إلى الصيف اجتمعوا إلى أن نقلوه إلى زمان الربيع وزادوا في

العدد وتركوا ما تعبدوا به من اعتبار شهور القمر مطلقة على ما يتفق من وقوعها في الأزمان وهذا ونحوه مما ذمهم الله تعالى به وأخبر أنهم اتخذزا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله في اتباعه أوامرهم واعتقادهم وجوبها دون أوامر الله تعالى فضلوا وأضلوا وقوله تعالى منها أربعة حرم وهي التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم - بأنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب والعرب تقول ثلاثة سرد وواحد فرد وإنما سماها حرما لمعنيين أحدهما تحريم القتال فيها وقد كان أهل الجاهلية أيضا يعتقدون تحريم القتال فيها وقال الله تعالى يسئلونك عن ا لشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير والثاني تعظيم انتهاك المحارم فيها بأشد من تعظيمه في غيرها وتعظيم الطاعات فيها أيضا وإنما فعل الله تعالى ذلك لما فيه من المصلحة في ترك الظلم فيها لعظم منزلتها في حكم الله والمبادرة إلى الطاعات من الاعتمار والصلاة والصوم وغيرها كما فرض صلاة الجمعة في يوم بعينه وصوم رمضان في وقت معين وجعل بعض الأماكن في حكم الطاعات ومواقعة المحظورات أعظم من حرمة غيره نحو بيت الله الحرام ومسجد المدينة فيكون ترك الظلم والقبائح في هذه الشهور والمواضع داعيا إلى تركها في غيره ويصير فعل الطاعات والمواظبة عليها في هذه الشهور وهذه المواضع الشريفة داعيا إلى فعل أمثالها في غيرها للمرور والاعتياد وما يصحب الله العبد من توفيقه عند إقباله إلى طاعته وما يلحق العبد من الخذلان عند إكبابه على المعاصي واشتهاره وأنسه بها فكان في تعظيم بعض الشهور وبعض الأماكن أعظم المصالح في الاستدعاء إلى الطاعات وترك القبائح ولأن الأشياء تجر إلى أشكالها وتباعد من أضدادها فالإستكثار من الطاعة يدعو إلى أمثالها والاستكثار من المعصية يدعو إلى أمثالها قوله تعالى فلا تظلموا فيهن أنفسكم الضمير في قوله فيهن عند ابن عباس راجع إلى الشهور وقال قتادة هو عائد إلى الأربعة الحرم وقوله وقاتلوا المشركين كافة يحتمل وجهين أحدهما الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة وأداء الجزية على ما بينه في غير هذه الآية والآخر الأمر بأن تقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين ولما احتمل الوجهين كان عليهما إذ ليسا متنافيين فتضمن ذلك الأمر بالقتال لجميع المشركين وأن يكونوا مجتمعين متعاضدين على القتال وقوله كما يقاتلونكم كافة يعني أن جماعتهم يرون ذلك فيكم ويعتقدونه ويحتمل كما يقاتلونكم مجتمعين وهذه الآية في

معنى قوله فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم متضمنة لرفع العهود والذمم التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين وفيها زيادة معنى وهو الأمر بأن نكون مجتمعين في حال قتالنا إياهم قوله تعالى إنما النسيء زيادة في الكفر فالنسيء التأخير ومنه البيع بنسيئة وأنسأت البيع أخرته وما ننسخ من آية أو ننسأها أي نؤخرها ونسئت المرأة إذا حبلت لتأخر حيضها ونسأت الناقة إذا دفعتها في السير لأنك زجرتها عن التأخر والمنسأة العصا التي ينسأ بها الأذى ويزجر ويساق بها فيمنع من التأخر ومراد الله تعالى ذكره النسيء في هذا الموضع ما كانت العرب تفعله من تأخير الشهور فكان يقع الحج في غير وقته واعتقاد حرمة الشهور في غير زمانه فقال ابن عباس كانوا يجعلون المحرم صفرا وقال ابن أبي نجيح وغيره كانت قريش تدخل في كل ستة أشهر أياما يوافقون ذا الحجة في كل ثلاث عشر سنة فوفق الله تعالى لرسوله في حجته استدارة زمانهم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض فاستقام الإسلام على عدد الشهور ووقف الحج على ذي الحجة وقال ابن إسحاق كان ملك من العرب يقال له القلمس واسمه حذيفة أول من أنسأ النسيء أنسأ المحرم فكان يحله عاما ويحرمه عاما فكان إذا حرمه كانت ثلاث حرمات متواليات وهي العدة التي حرم الله في عهد إبراهيم صلوات الله عليه فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم لتواطئ العدة يقول قد أكملت الأربعة كما كانت لأني لم أحل شهرا إلا قد حرمت مكانه شهرا فحج النبي صلى الله عليه وسلم - وقد عاد المحرم إلى ما كان عليه في الأصل فأنزل الله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا فأخبر الله أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر لأن الزيادة في الكفر لا تكون إلا كفرا لاستحلالهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله فكان القوم كفارا باعتقادهم الشرك ثم ازدادوا كفرا بالنسيء
باب

فرض النفير والجهاد
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض إلى قوله إلا تنفروا ايعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم اقتضى ظاهر الآية وجوب النفير على من لم يستنفر وقال في آية بعدها انفروا خفافا وثقالا فأوجب النفير مطلقا غير مقيد بشرط الإستنفار فاقتضى ظاهره وجوب الجهاد على كل مستطيع له وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد

قال حدثنا أبو اليمان وحجاج كلاهما عن جرير بن عثمان عن عبدالرحمن بن ميسرة وابن أبي بلال عن راشد الحبراني أنه وافى المقداد بن الأسود وهو يجهز قال فقلت يا أبا الأسود قد أعذر الله إليك أو قال قد عذرك الله يعني في القعود عن الغزو فقال أتت علينا سورة براءة انفروا خفافا وثقالا قال أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن سيرين أن أبا أيوب شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ثم لم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا فإنه استعمل على الجيش رجل شاب ثم قال بعد ذلك وما على من استعمل علي فكان يقول قال الله انفروا خفافا وثقالا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا وبإسناده قال أبو عبيد حدثنا يزيد عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أن أبا طلحة قرأ هذه الآية انفروا خفافا وثقالا قال ما أرى الله إلا يستنفرنا شبانا وشيوخا جهزوني فجهزناه فركب البحر ومات في غزاته تلك فما وجدنا له جزيرة ندفنه فيها أوقال يدفنونه فيها إلا بعد سابعه قال أبو عبيد حدثنا حجاج عن أبي جريج عن مجاهد في هذه الآية قال قالوا فينا الثقيل وذو الحاجة والصنعة والمنتشر عليه أمره قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا فتأول هؤلاء هذه الآية على فرض النفير ابتداء وإن لم يستنفروا والآية الأولى يقتضي ظاهرها وجوب فرض النفير إذا استنفروا وقد ذكر في تأويله وجوه أحدها أن ذلك كان في غزوة تبوك لما ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم - الناس إليها فكان النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - فرضا على من استنفر وهو مثل قوله ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه قالوا وليس كذلك حكم النفير مع غيره وقيل إن هذه الآية منسوخة حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال حدثنا علي بن الحسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم وما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله نسختها الآية التي تليها وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقال آخرون ليس في واحدة منهما نسخ وحكمهما ثابت في حالين فمتى لم يقاوم أهل الثغور العدو واستنفروا ففرض على الناس النفير إليهم حتى يستحيوا الثغور وإن استغني عنهم باكتفائهم بمن هناك سواء استنفروا أو لم يستنفروا ومتى قام الذين في وجه العدو بفرض الجهاد واستغنوا بأنفسهم عمن

وراءهم فليس على من وراءهم فرض الجهاد إلا أن يشاء من شاء منهم الخروج للقتال فيكون فاعلا للفرض وإن كان معذورا في القعود بديا لأن الجهاد فرض على الكفاية ومتى قام به بعضهم سقط عن الباقين وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يوم الفتح فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإن استنفرتم فانفروا فأمر
بالنفير عند الإستنفار وهو موافق لظاهر قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض وهو محمول على ما ذكرنا من الإستنفار للحاجة إليهم لأن أهل الثغور متى اكتفوا بأنفسهم ولم تكن لهم حاجة إلى غيرهم فليس يكادون يستنفرون ولكن لو استنفرهم الإمام مع كفاية من في وجه العدو من أهل الثغور وجيوش المسلمين لأنه يريد أن يغزو أهل الحرب ويطأ ديارهم فعلى من استنفر من المسلمين أن ينفروا وهذا هو موضع الخلاف بين الفقهاء في فرض الجهاد فحكي عن ابن شبرمة والثوري في آخرين أن الجهاد تطوع وليس بفرض وقالوا كتب عليكم القتال ليس على الوجوب بل على الندب كقوله تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين وقد روي فيه عن ابن عمر نحو ذلك وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه وهو ما حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا علي بن معبد عن أبي المليح الرقي عن ميمون بن مهران قال كنت عند ابن عمر فجاء رجل إلى عبدالله بن عمرو بن العاص فسأله عن الفرائض وابن عمر جالس حيث يسمع كلامه فقال الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان والجهاد في سبيل الله قال فكان ابن عمر غضب من ذلك ثم قال الفرائض شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان قال وترك الجهاد وروي عن عطاء وعمرو بن دينار نحوه حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال قلت لعطاء أواجب الغزو على الناس فقال هو وعمرو بن دينار ما علمناه وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار إن الجهاد فرض إلى يوم القيامة إلا أنه فرض على الكفاية إذا

قام به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه وقد ذكر أبو عبيد أن سفيان الثوري كان يقول ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على تركه ويجزي فيه بعضهم على بعض فإن كان هذا قول سفيان فإن مذهبه أنه فرض على الكفاية وهو موافق لمذهب أصحابنا الذي ذكرناه ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ولم تكن فيهم مقاومة لهم فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين وهذا لا خلاف فيه بين الأمة إذ ليس من قول أحد من المسلمين إباحة القعود عنهم حتى يستبيحوا دماء المسلمين وسبي ذراريهم ولكن موضع الخلاف بينهم أنه متى كان بإزاء العدو مقاومين له ولا يخافون غلبة العدو عليهم هل يجوز للمسلمين ترك جهادهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية فكان من قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار وابن شبرمة أنه جائز للإمام والمسلمين أن لا يغزوهم وأن يقعدوا عنهم وقال آخرون على الإمام والمسلمين أن يغزوهم أبدا حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية وهو مذهب أصحابنا ومن ذكرنا من السلف المقداد بن الأسود وأبو طلحة في آخرين من الصحابة والتابعين وقال حذيفة بن اليمان الإسلام ثمانية أسهم وذكر سهما منها الجهاد وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال قال معمر كان مكحول يستقبل القبلة ثم يحلف عشر أيمان أن الغزو واجب ثم يقول إن شئتم زدتكم وحدثنا جعفر قال حدثا جعفر حدثنا أبو عبيد حدثنا عن عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث أو غيره عن ابن شهاب قال كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعودا فمن قعد فهو عدة إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغني عنه قعد وهذا مثل قول من يراه فرضا على الكفاية وجائز أن يكون قول ابن عمر وعطاء وعمرو بن دينار في أن الجهاد ليس بفرض يعنون به أنه ليس فرضه متعينا على كل أحد كالصلاة والصوم وأنه فرض على الكفاية والآيات الموجبة لفرض الجهاد كثيرة فمنها قوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فاقتضى ذلك وجوب قتالهم حتى يجيبوا إلى الإسلام وقال قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم الآية وقال قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية وقال فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم وقال فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم

وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقال انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله وقال إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم وقال فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وقال يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم فأخبر أن النجاة من عذابه إنما هي بالإيمان بالله ورسوله وبالجهاد في سبيله بالنفس والمال فتضمنت الآية الدلالة على فرض الجهاد من وجهين أحدهما أنه قرنه إلى فرض الإيمان والآخر الإخبار بأن النجاة من عذاب الله به وبالإيمان والعذاب لا يستحق إلا بترك الواجبات وقال كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومعناه فرض كقوله كتب عليكم الصيام فإن قيل هو كقوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين وإنما هي ندب ليست بفرض قيل له قد كانت الوصية واجبة بهذه الآية وذلك قبل فرض الله المواريث ثم نسخت بعد الميراث ومع ذلك فإن حكم ماللفظ الإيجاب إلا أن تقوم دلالة للندب ولم تقم الدلالة في الجهاد أنه ندب قال أبو بكر فأكد الله تعالى فرض الجهاد على سائر المكلفين بهذه الآية وبغيرها على حسب الإمكان فقال لنبيه ص - فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين فأوجب عليه فرض الجهاد من وجهين أحدهما بنفسه ومباشرة القتال وحضوره والآخر بالتحريض والحث والبيان لأنه ص - لم يكن له مال فلم يذكر فيما فرضه عليه إنفاق المال وقال لغيره انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فألزم من كان من أهل القتال وله مال فرض الجهاد بنفسه وماله ثم قال في آية أخرى وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله فلم يخل من أسقط عنه فرض الجهاد بنفسه وماله للعجز والعدم من إيجاب فرضه بالنصح لله ورسوله فليس أحد من المكلفين إلا وعليه فرض الجهاد على مراتبه التي وصفنا وقد روي في تأكيد فرضه أخبار كثيرة فمنها ما حدثنا عن عمرو بن حفص السدوسي قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا قيس بن الربيع عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن عفازة عن بشير بن الخصاصية قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم -

أبايعه فقلت له علام

تبايعني يا رسول الله فمد رسول الله يده فقال على أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وتصلي الصلوات الخمس المكتوبات لوقتهن وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان وتحج البيت وتجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله كلا لا أطيق إلا اثنتين إيتاء الزكاة فمالي إلا حمولة أهلي وما يقومون به وأما الجهاد فإني رجل جبان فأخاف أن تخشع نفسي فأفر فأبوء بغضب من الله فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم - يده وقال يا بشير لاجهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة فقلت يا رسول الله أبسط يدك فبسط يده فبايعته عليهن وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبدالله قال حدثنا حجاج قال حدثنا حماد أخبرنا حميد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم فأوجب الجهاد بكل ما أمكن الجهاد به وليس بعد الإيمان بالله ورسوله فرض آكد ولا أولى بالإيجاب من الجهاد وذلك أنه بالجهاد يمكن إظهار الإسلام وأداء الفرائض وفي ترك الجهاد غلبة العدو ودروس الدين وذهاب الإسلام إلا أن فرضه على الكفاية على ما بينا فإن احتج محتج بما روى عاصم بن زيد بن عبدالله بن عمر عن واقد بن محمد عن أبيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني الإسلام على خمس فذكر الشهادتين والصلاة والزكاة والحج وصوم رمضان فذكر هذه الخمس ولم يذكر فيه الجهاد وهذا يدل على أنه ليس بفرض قال أبو بكر وهذا حديث في الأصل موقوف على ابن عمر رواه وهب عن عمر بن محمد عن زيد عن أبيه عن ابن عمر أنه قال وجدت الإسلام بني على خمس وقوله وجدت دليل على أنه قاله من رأيه وجائز أن يجد غيره ما هو أكثر منه وقول حذيفة بني الإسلام على ثمانية أسهم أحدها الجهاد يعارض قول ابن عمر فإن قيل فقد روى عبيدالله بن موسى قال أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان قال سمعت عكرمة بن خالد يحدث طاوسا قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال يا أبا عبدالرحمن لا تغزوا فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول بني الإسلام على خمسة فهذا حديث مستقيم السند مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم - قيل له جائز أن يكون إنما اقتصر على خمسة لأنه قصد إلى ذكر ما يلزم الإنسان في نفسه دون ما يكون منه فرضا على الكفاية ألا ترى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود وتعلم علوم الدين وغسل الموتى وتكفينهم ودفنهم كلها فروض ولم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم - فيما بني عليه الإسلام ولم يخرجه ترك ذكره من أن يكون

فرضا لأنه ص - إنما قصد إلى بيان ذكر الفروض اللازمة للإنسان في خاصة نفسه في أوقات مرتبة ولا ينوب غيره عنها فيه والجهاد فرض على الكفاية على الحد الذي بينا فلذلك لم يذكره وقد روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - ما يدل على وجوبه وهو ما حدثنا عن عبدالله بن شيرويه قال حدثني إسحاق بن راهويه قال أخبرنا جرير عن ليث بن أبي سليم عن عطاء عن ابن عمر قال لقد أتى علينا زمان وما نرى أن أحدا منا أحق بالدنيار والدرهم من أخيه المسلم حتى أن الدينار والدرهم اليوم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه عنهم حتى يراجعوا دينهم وحدثنا عن خلف بن عمرو العكبري قال حدثنا المعلى بن مهدي حدثنا عبدالوارث حدثنا ليث عن عبدالملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحوه فقد اقتضى هذا اللفظ وجوب الجهاد لإخباره بإدخال الله الذل عليهم بذكر عقوبة على الجهاد والعقوبات لا تستحق إلا على ترك الواجبات وهذا يدل على أن مذهب ابن عمر في الجهاد فرض على الكفاية وإن الرواية التي رويت عنه في نفي فرض الجهاد إنما هي على الوجه الذي ذكرنا من أنه غير متعين على كل حال في كل زمان ويدل على أنه فرض على الكفاية قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة وقوله فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وقوله لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى فلو كان الجهاد فرضا على كل أحد في نفسه لما كان القاعدون موعودين بالحسنى بل كانوا يكونوا مذمومين مستحقين للعقاب بتركه وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان حدثنا أبو عبيد حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله عز و جل فانفروا ثبات أو انفروا جميعا وفي قوله انفروا خفافا وثقالا قال نسختها وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون قال تنفر طائفة وتمكث طائفة مع النبي صلى الله عليه وسلم - قال فالماكثون هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو بما نزل من قضاء الله وكتابه وحدوده وحدثنا جعفر بن محمد قال أخبرنا جعفر

ابن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبدالله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال يعني من السرايا كانت ترجع وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم -

فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على النبي ص
- بعدهم ويبعث سرايا أخر قال فذلك قوله ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم فثبت بما قدمنا لزوم فرض الجهاد وأنه فرض على الكفاية وليس بلازم لكل أحد في خاصة نفسه وماله إذا كفاه ذلك غيره قوله تعالى انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم الآية روي عن الحسن ومجاهد والضحاك شبانا وشيوخا وعن أبي صالح أغنياء وفقراء وعن الحسن مشاغيل وغير مشاغيل وعن ابن عباس وقتادة نشاطا وغير نشاط وعن ابن عمر ركبانا ومشاة وقيل ذا صنعة وغير ذي صنعة قال أبو بكر كل هذه الوجوه يحتمله اللفظ فالواجب يعمها إذ لم تقم دلالة التخصيص وقوله وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله فأوجب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعا فمن كان له مال وهو مريض أو مقعد أو ضعيف لا يصلح للقتال فعليه الجهاد بماله بأن يعطيه غيره فيغزو به كما أن من له قوة وجلد وأمكنه الجهاد بنفسه كان عليه الجهاد بنفسه وإن لم يكن ذا مال ويسار بعد أن يجد ما يبلغه ومن قوي على القتال وله مال فعليه الجهاد بالنفس والمال ومن كان عاجزا بنفسه معدما فعليه الجهاد بالنصح لله ولرسوله بقوله ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله وقوله تعالى ذلكم خير لكم مع أنه لا خير في ترك الجهاد قيل فيه وجهان أحدهما خير من تركه إلى المباح في الحال التي لا يتعين عليه فرض الجهاد والآخر أن الخير فيه لا في تركه وقوله تعالى إن كنتم تعلمون قيل فيه إن كنتم تعلمون الخير في الجملة فاعلموا أن هذا خير وقيل إن كنتم تعلمون صدق الله فيما وعد به من ثوابه وجنته قوله تعالى سيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم الآية لما أكذبهم الله في قوله لو استطعنا لخرجنا معكم دل على أنهم كانوا مستطيعين ولم يخرجوا وهذا يدل على بطلان مذهب الجبر في أن المكلفين غير مستطيعين لما كلفوا في حال التكليف قبل وقوع الفعل منهم لأن الله تعالى قد أكذبهم في نفيهم الاستطاعة عن أنفسهم قبل الخروج وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم -
لأنه أخبر أنهم سيحلفون فجاؤا فحلفوا كما أخبر أنه سيكون منهم قوله تعالى
عفا

الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا العفو ينصرف عن وجوه أحدها التسهيل والتوسعة كقوله ص -

أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله والعفو الترك كقوله ص
- احفوا الشوارب واعفوا اللحى والعفو الكثرة كقوله تعالى حتى عفوا يعني كثروا وأعفيت فلانا من كذا وكذا إذا سهلت له تركه والعفو الصفح عن الذنب وهو إعفاؤه من تبعته وترك العقاب عليه وهو مثل الغفران في هذا الموضع وجائز أن يكون أصله التسهيل فإذا عفا عن ذنبه فلم يستقص عليه وسهل عليه الأمر وكذلك سائر الوجوه التي تنصرف عليها هذه الكلمة يجوز أن يكون أصلها الترك والتوسعة ومن الناس من يقول إنه كان من النبي صلى الله عليه وسلم - ذنب صغير في إذنه لهم ولهذا قال الله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم إذ لا يجوز أن تقول لم فعلت ما جعلت لك فعله كما لا يجوز أن تقول لم فعلت ما أمرتك بفعله قالوا فغير جائز إطلاق العفو عما قد جعل له فعله كما لا يجوز أن يعفو عنه ما أمره به وقيل إنه جائز أن لا تكون منه معصية في الإذن لهم لا صغيرة ولا كبيرة وإنما عاتبه بأن قال لم فعلت ما جعلت لك فعله مما غيره أولى منه إذ جائز أن يكون مخيرا بين فعلين وأحدهما أولى من الآخر قال الله تعالى فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن فأباح الأمرين وجعل أحدهما أولى وقد روى شعبة عن قتادة في قوله عفا الله عنك لم أذنت لهم كانت كما تسمعون ثم أنزل الله في سورة النور وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إلى قوله فأذن لمن شئت منهم فجعله الله تعالى رخصة في ذلك وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله إلى قوله يترددون هذا بعينه للمنافقين حين استأذنوه للقعود عن الجهاد من غير عذر وعذر الله المؤمنين فقال وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قوله إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله قال نسخها قوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إلى قوله فأذن لمن شئت منهم فجعل الله تعالى رسوله بأعلى النظرين قال أبو بكر جائز أن يكون قوله تعالى عفا الله عنك لم أذنت لهم في قوم من المنافقين لحقتهم تهمة فكان يمكن للنبي ص - استبراء أمرهم بترك الإذن لهم فينظر نفاقهم إذا لم يخرجوا بعد الأمر بالخروج ويكون ذلك حكما ثابتا في أولئك ويدل عليه

قوله حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ويكون قوله وإذا كانو معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه وقوله فأذن لمن شئت منهم في المؤمنين الذين لو لم يأذن لهم لم يذهبوا فلا تكون إحدى الآيتين ناسخة للأخرى قوله تعالى لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر إلى قوله بأموالهم الآية يعني لا يستأذنك المؤمنون في التخلف عن الجهاد لأن لا يجاهدوا وأضمر لا في قوله أن يجاهدوا لدلالة الكلام عليه وهذا يدل على أن الاستيذان في التخلف كان محظورا عليهم ويدل على صحة تأويل قوله عفا الله عنك على أنه عفو عن ذنب وإن كان صغيرا وروي عن الحسن في قوله أن يجاهدوا أنه على تقدير كراهة أن يجاهدوا وهو يؤل إلى المعنى الأول لأن إضمار لا فيه وإضمار الكراهة سواء وهذه الاية أيضا عدل على وجوب فرض الجهاد بالمال والنفس جميعا لأنه قال تعالى أن يجاهدوا بأموالهم وأنفهسم فذمهم على الإستئذان في ترك الجهاد بهما والجهاد بالمال يكون على وجهين أحدهما إنفاق المال في إعداد الكراع والسلاح والآلة والراحلة والزاد وما جرى مجراه مما يحتاج إليه لنفسه والثاني إنفاق المال على غيره مما يجاهد ومعونته بالزاد والعدة ونحوها والجهاد بالنفس على ضروب منها الخروج بنفسه ومباشرة القتال ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قام به والعقاب لمن قعد عنه ومنها التحريض والأمر ومنها الإخبار بعورات العدو وما يعلمه من مكايد الحرب وسداد الرأي وإرشاد المسلمين إلى الأولى والأصلح في أمر الحروب كما قال الحباب بن المنذر حين نزل النبي صلى الله عليه وسلم - ببدر فقال يا رسول الله أهذا رأي رأيته أم وحي فقال بل رأي رأيته قال فإني ارى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك وتعور الآبار التي في ناحية العدو ففعل النبي صلى الله عليه وسلم - ذلك ونحو ذلك من كل قول يقوي أمر المسلمين ويوهن أمر العدو فإن قيل فأي الجهادين أفضل أجهاد النفس والمال أم جهاد العلم قيل له الجهاد بالسيف مبني على جهاد العلم وفرع عليه لأنه غير جائز أن يعدوا في جهاد السيف ما يوجبه العلم فجهاد العلم أصل وجهاد النفس فرع والأصل أولى بالتفضيل عن الفرع فإن قيل تعلم العلم أفضل أم جهاد المشركين قيل له إذا خيف معرة العدو وإقدامهم على المسلمين ولم يكن بإزائه من يدفعه فقد تعين فرض الجهاد على كل أحد فالاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم لأن ضرر العدو إذا وقع

بالمسلمين لم يمكن تلافيه وتعلم العلم ممكن في سائر الأحوال ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية لا على كل أحد في خاصة نفسه ومتى لم يكن بإزاء العدو من يدفعه عن المسلمين فقد تعين فرض الجهاد على كل أحد وما كان فرضا معينا على الإنسان غير موسع عليه في التأخير فهو أولى من الفرض الذي قام به غيره وسقط عنه بعينه وذلك مثل الاشتغال بصلاة الظهر في آخر وقتها هو أولى من تعلم علم الدين في تلك الحال إذ كان الفرض قد تعين عليه في هذا الوقت فإن قام بفرض الجهاد من فيه كفاية وغنى فقد عاد فرض الجهاد إلى حكم الكفاية كتعلم العلم إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أولى وأفضل من الجهاد لما قدمنا من علو مرتبة العلم على مرتبة الجهاد فإن ثبات الجهاد بثبات العلم وأنه فرع له ومبني عليه فإن قيل هل يجوز الجهاد مع الفساق قيل له إن كل أحد من المجاهدين فإنما يقوم بفرض نفسه فجائز له أن يجاهد الكفار وإن كان أمير الجيش وجنوده فساقا وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق وغزا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد اللعين وقد ذكرنا حديث أبي أيوب أنه لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا عاما واحدا فإنه استعمل على الجيش رجل شاب ثم قال بعد ذلك وما على من استعمل علي فكان يقول قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا فدل على أن الجهاد واجب مع الفساق كوجوبه مع العدول وسائر الآي الموجبة لفرض الجهاد لم يفرق بين فعله مع الفساق ومع العدول الصالحين وأيضا فإن الفساق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك كما هم مطيعون لله في الصلاة والصيام وغير ذلك من شرائع الإسلام وأيضا فإن الجهاد ضرب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو رأينا فاسقا يأمر بمعروف وينهى عن منكر كان علينا معاونته على ذلك فكذلك الجهاد فالله تعالى لم يخص بفرض الجهاد العدول دون الفساق فإذا كان الفرض عليهم واحدا لم يختلف حكم الجهاد مع العدول ومع الفساق قوله تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة والعدة ما يعده الإنسان ويهيئه لما يفعله في المستقبل وهو نظير الأهبة وهذا يدل على وجوب الاستعداد للجهاد قبل وقت وقوعه وهو كقوله وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل وقوله تعالى ولكن كره الله انبعاثهم يعني خروجهم كان يقع على وجه الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو والتضريب بينهم والخروج

على هذا الوجه معصية وكفر فكرهه الله تعالى وثبطهم عنه إذ كان معصية والله لا يحب الفساد وقوله تعالى وقيل اقعدوا مع القاعدين أي مع النساء والصبيان وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم - قال لهم اقعدوا مع القاعدين وجائز أن يكون قال بعضهم لبعض قوله تعالى لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا الآية فيه بيان وجه خروجهم لو خرجوا وإخبار أن المصلحة للمسلمين كانت في تخلفهم وهذا يدل على أن معاتبة الله لنبيه ص - في قوله لم أذنت لهم أن الله علم أنه لو لم يأذن لهم لم يخرجوا أيضا فيظهر للمسلمين كذبهم ونفاقهم وقد أخبر الله تعالى أن خروجهم لو خرجوا على هذا الوجه كان يكون معصية وفسادا على المؤمنين وقوله ما زادوكم إلا خبالا والخبال الاضطراب في الرأي فأخبر الله تعالى أنهم لو خرجوا لسعوا بين المؤمنين في التضريب وإفساد القلوب والتخذيل عن العدو فكان ذلك يوجب اضطراب آرائهم فإن قال قائل لم قال ما زادوكم إلا خبالا ولم يكونوا على خبال يزاد فيه قيل له يحتمل وجهين أحدهما أنه استثناء منقطع تقديره ما زادوكم قوة لكن طلبوا لكم الخبال والآخر أنه يحتمل أن يكون قوم منهم قد كانوا على خبال في الرأي لما يعرض في النفوس من التلون إلى أن استقر على الصواب فيقويه هؤلاء حتى يصير خبالا معدولا به عن صواب الرأي قوله تعالى ولأوضعوا خلالكم قال الحسن ولأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات بينكم وقوله تعالى يبغونكم الفتنة فإن الفتنة ههنا المحنة باختلاف الكلمة والفرقة ويجوز أن يريد به الكفر لأنه يسمى بهذا الاسم لقوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة وقوله والفتنة أشد من القتل وقوله وفيكم سماعون لهم قال الحسن ومجاهد عيون منهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم وقال قتادة وابن إسحاق قابلون منهم عند سماع قولهم قوله تعالى لقد ابتغوا الفتنة من قبل يعني طلبوا الفتنة وهي ههنا الاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة وقوله تعالى وقلبوا لك الأمور يعني به تصريف الأمور وتقليبها ظهرا لبطن طلبا لوجه الحيلة والمكيدة في إطفاء نوره وإبطال أمره فأبى الله تعالى إلا إظهار دينه وإعزاز نبيه وعصمه من كيدهم وحيلهم قوله تعالى ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني قال ابن عباس ومجاهد نزلت في الجد بن قيس قال ائذن لي ولا تفتني ببنات بني الأصفر فإني مستهتر بالنساء وكان ذلك حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم -

إلى غزوة تبوك وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة لا تؤثمني بالعصيان

في المخالفة التي توجب الفرقة قوله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا روي عن الحسن كل ما يصيبنا من خير وشر فهو مم اكتبه في اللوح المحفوظ فليس على ما يتوهمه الكفار من إهمالنا من غير أن يرجع أمرنا إلى تدبير ربنا وقيل لن يصيبنا في عاقبة أمرنا إلا ما كتب الله لنا من النصر الذي وعدنا قوله تعالى قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم صيغته صيغة الأمر والمراد البيان عن التمكن من الطاعة والمعصية كقوله فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وقيل معناه الخبر الذي يدخل فيه إن الجزاء كما قال كثير ... أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت ...
ومعناه إن أحسنت أو أسأت لم تلامي قوله تعالى فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا قيل فيه ثلاثة أوجه قال ابن عباس وقتادة فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة فكان ذلك عندهما على تقديم الكلام وتأخيره وقال الحسن ليعذبهم في الزكاة بالإنفاق في سبيل الله وقال آخرون يعذبهم بها بالمصائب وقيل قد يكون صفة الكفار بالسبي وغنيمة الأموال وهذه الام التي في قوله ليعذبهم هي لام العاقبة كقوله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا قوله تعالى ويحلفون بالله إنهم لمنكم الحلف تأكيد الخبر بذكر المعظم على منهاج والله وبالله والحروف الموضوعة للقسم واليمين إلا أن الحلف من إضافة الخبر إلى المعظم وقوله ويحلفون بالله إخبار عنهم باليمين بالله وجائزأن يكون أراد الخبر عن المستقبل في أنهم سيحلفون بالله وقول القائل أحلف بالله هو يمين بمنزلته لو حذف ذكر الحلف وقال بالله لأنه بمنزلة قوله أنا حالف بالله إلا أن يريد به العدة فلا يكون يمينا فهو ينصرف على المعنى والظاهر منه إيقاع الحلف بهذا القول كقولك أنا أعتقد الإسلام ويحتمل العدة وأما قوله بالله فهو إيقاع لليمين وإن كان فيه إضمار أحلف بالله أو قد حلفت بالله وقيل إنما حذف ذكر الحلف ليدل على وقوع الحلف ويزول احتمال العدة كما حذف في والله لأفعلن ليدل على أن القائل حالف لا واعد وقوله تعالى إنهم لمنكم معناه في الإيمان والطاعة والدين والملة فأكذبهم الله تعالى والإضافة منهم جائزة إذا كان على دينهم كما قال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض و المنافقون والمنافقات

بعضهم من بعض فنسب بعضهم إلى بعض لاتفاقهم في الدين والملة قوله تعالى ومنهم من يلمزك في الصدقات قال الحسن يعيبك وقيل اللمز العيب سرا والهمز العيب بكثرة العيب وقال قتادة يطعن عليك ويقال إن هؤلاء كانوا قوما منافقين أرادوا أن يعطيهم رسول الله من الصدقات ولم يكن جائزا أن يعطيهم منها لأنهم ليسوا من أهلها فطعنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم -

في قسمة الصدقات وقالوا يؤثر بها أقرباءه وأهل مودته ويدل عليه قوله
تعالى فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون وأخبر أنه لا حظ لهؤلاء في الصدقات وإنما هي للفقراء والمساكين ومن ذكر قوله تعالى ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله فيه ضمير جواب لو تقديره ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله لكان خيرا لهم أو أعود عليهم وحذف الجواب في مثله أبلغ لأنه لتأكيد الخبر به استغني عن ذكره مع أن النفس تذهب إلى كل نوع منه والذكر يقصره على المذكور منه دون غيره وفيه إخبار على أن الرضا بفعل الله يوجب المزيد من الخير جزاء للراضي على فعله قوله تعالى إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية قال الزهري الفقير الذي لا يسئل والمسكين الذي يسئل وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في حد الفقير والمسكين مثل هذا وهذا يدل على أنه رأى المسكين أضعف حالا وأبلغ في جهد الفقر والعدم من الفقير وروي عن ابن عباس والحسن وجابر بن زيد والزهري ومجاهد قالوا الفقير المتعفف الذي لا يسأل والمسكين الذي يسأل فكان قول أبي حنيفة موافقا لقول هؤلاء السلف ويدل على هذا قوله تعالى للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا
فسماه
م فقراء ووصفهم بالتعفف وترك المسألة وروي عن قتادة قال الفقير ذو الزمانة من أهل الحاجة والمسكين الصحيح منهم وقيل إن الفقير هو المسكين إلا أنه ذكر بالصفتين لتأكيد أمره في استحقاق الصدقة وكان شيخنا أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول المسكين هو الذي لا شيء له والفقير هو الذي له أدنى بلغة ويحكى ذلك عن أبي العباس ثعلب قال وقال أبو العباس حكي عن بعضهم أنه قال قلت لأعرابي أفقير أنت قال لا بل مسكين وأنشد عن ابن الأعرابي ... أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له سبد

فسماه فقيرا مع وجود الحلوبة قال وحكى محمد بن سلام الجمحي عن يونس النحوي أنه قال الفقير يكون له بعض ما يغنيه والمسكين الذي لا شيء له قال أبو بكر قوله تعالى يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف يدل على أن الفقير قد يملك بعض ما يغنيه لأنه لا يحسبه الجاهل بحاله غنيا إلا وله ظاهر جميل وبزة حسنة فدل على أن ملكه لبعض ما يغنيه لا يسلبه صفة الفقر وكان أبو الحسن يستدل على ما قال في صفة المسكين بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال إن المسكين ليس بالطواف الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ولكن المسكين الذي لا يجد ما يغنيه قال فلما نفى المبالغة في المسكنة عمن ترده التمرة والتمرتان وأثبتها لمن لا يجد ذلك وسماه مسكينا دل ذلك على أن المسكين أضعف حالا من الفقير قال ويدل عليه قوله تعالى أو مسكينا ذا متربة روي في التفسير أنه الذي قد لزق بالتراب وهو جائع عار لا يواريه عن التراب شيء فدل ذلك على أن المسكين في غاية الحاجة والعدم فإن قيل قال الله تعالى أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأثبت لهم ملك السفينة وسماهم مساكين قيل له قد روي أنهم كانوا أجراء فيها وأنهم لم يكونوا ملاكا لها وإنما نسبها إليهم بالتصرف والكون فيها كما قال الله تعالى لا تدخلوا بيوت النبي وقال في موضع آخر وقرن في بيوتكن فأضاف البيوت تارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - وتارة إلى أزواجه ومعلوم أنها لم تخل من أن تكون ملكا له أو لهن لأنه لا يجوز أن تكون لهن وله في حال واحدة لاستحالة كونها ملكا لكل واحد منهم على حدة فثبت أن الإضافة إنما صحت لأجل التصرف والسكنى كما يقال هذا منزل فلان وإن كان ساكنا فيه غير مالك له وهذا مسجد فلان ولا يراد به الملك وكذلك قوله أما السفينة فكانت لمساكين هو على هذا المعنى ويقال إن الفقير إنما سمي بذلك لأنه من ذوي الحاجة بمنزلة من قد كسرت فقاره يقال منه فقر الرجل فقرا وأفقره الله إفقارا وتفاقر تفاقرا والمسكين الذي قد أسكنته الحاجة وروي عن إبراهيم النخعي والضحاك في الفرق بين الفقير والمسكين أن الفقراء المهاجرين والمساكين من غير المهاجرين كأنهما ذهبا إلى قوله تعالى للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وروى سعيد عن قتادة قال الفقير الذي به زمانة وهو فقير إلى بعض جسده وبه حاجة والمسكين المحتاج الذي لا زمانة به وروى معمر عن أيوب عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب قال ليس المسكين بالذي لا مال له ولكن

المسكين الذي لا يصيب المكسب وهذا الذي قدمنا يدل على أن الفقير أحسن حالا من المسكين وأن المسكين أضعف حالا منه وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة فيمن قال ثلث مالي للفقراء والمساكين ولفلان أن لفلان الثلث والثلثان للفقراء والمساكين فهذا موافق لما روي عنه في الفرق بين الفقير والمسكين وأنهما صنفان وروي عن أبي يوسف في هذه المسألة أن نصف الثلث لفلان ونصفه للفقراء والمساكين وهذا يدل على أنه جعل الفقراء والمساكين صنفا واحدا وقوله تعالى والعاملين عليها فإنهم السعاة لجباية الصدقة روي عن عبدالله بن عمر أنهم يعطون بقدر عمالتهم وعن عمر بن عبدالعزيز مثله ولا نعلم خلافا بين الفقهاء أنهم لا يعطون الثمن وأنهم يستحقون منها بقدر عملهم وهذا يدل على بطلان قول من أوجب قسمة الصدقات على ثمانية ويدل أيضا علىأن أخذ الصدقات إلى الإمام وأنه لا يجزي أن يعطي رب الماشية صدقتها الفقراء فإن فعل أخذها الإمام ثانيا ولم يحتسب له بما أدى وذلك لأنه لو جاز لأرباب الأموال أداؤها إلى الفقراء لما احتيج إلى عامل لجبايتها فيضر بالفقراء والمساكين فدل ذلك على أن أخذها إلى الإمام وأنه لا يجوز له إعطاؤها الفقراء قوله تعالى والمؤلفة قلوبهم فإنهم كانوا قوما يتألفون على الإسلام بما يعطون من الصدقات وكانوا يتألفون بجهات ثلاث إحداها للكبار لدفع معرتهم وكف أذيتهم عن المسلمين والإستعانة بهم على غيرهم من المشركين والثانية لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول في الإسلام ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام ونحو ذلك من الأمور والثالثة إعطاء قوم من المسلمين حديثي العهد بالكفر لئلا يرجعوا إلى الكفر وقد روى الثوري عن أبيه عن أبي نعيم عن أبي سعيد الخدري قال بعث علي بن أبي طالب بذهبة في أديم مقروظ فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم - بين زيد الخير والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة فغضبت قريش والأنصار وقالوا يعطي صناديد أهل نجد قال إنما أتألفهم وروى ابن أبي ذئب عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إني لأعطي الرجل العطاء وغيره أحب إلي منه وما أفعل ذلك إلا مخافة أن يكبه الله في نار جهنم على وجهه وروى عبدالرزاق أخبرنا معمر عن الزهري قال أخبرني أنس بن مالك أن ناسا من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله أموال هوازن وطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم -

يعطي رجالا

من قريش المائة من الإبل كل رجل منهم فذكر حديثا فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم أصانعهم أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون برسول الله إلى رحالكم وهذا يدل على أنه قد كان يتألف بما يعطي قوما من المسلمين حديثي عهد بالإسلام لئلا يرجعوا كفارا وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإنه لأبغض الناس إلي فما زال يعطيني حتى أنه لأحب الخلق إلي وروى محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري قال لما اصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -

الغنائم بحنين وقسم للمتألفين من قريش وفي سائر العرب ما قسم وجد هذا
الحي من الأنصار في أنفسهم وذكر الحديث وقال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لهم أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام ففي هذا الحديث أنه تألفهم ليسلموا وفي الأول إني لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر فدل على أنه قد كان يتألف بذلك المسلمين والكفار جميعا وقد اختلف في المؤلفة قلوبهم فقال أصحابنا إنما كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أول الإسلام في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم وقد أعز الله الإسلام وأهله واستغنى بهم عن تألف الكفار فإن احتاجوا إلى ذلك فإنما ذلك لتركهم الجهاد ومتى اجتمعوا وتعاضدوا لم يحتاجوا إلى تألف غيرهم بمال يعطونه من أموال المسلمين وقد روي نحو قول أصحابنا عن جماعة من السلف روى عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن حجاج بن دينار عن ابن سيرين عن عبيدة قال جاء عيينة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر فقالا يا خليفة رسول الله إن عندنا أرضا سبخة ليس فيها كلأ ولا منفعة فإن رأيت أن تعطيناها فأقطعها إياهما وكتب لهما عليها كتابا وأشهد وليس في القوم عمر فانطلقا إلى عمر ليشهد لهما فلما سمع عمر ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تفل فمحاه فتذمرا وقالا مقالة سيئة فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل وإن الله قد أغنى الإسلام اذهبا فاجهدا جهدكما لا يرعى الله عليكما إن رعيتما قال أبو بكر رحمه الله فترك أبو بكر الصديق رضي الله عنه النكير على عمر فيما فعله بعد إمضائه الحكم يدل على أنه عرف مذهب عمر فيه حين نبهه عليه وأن سهم المؤلفة قلوبهم كان مقصورا على الحال التي كان عليها أهل الإسلام من قلة العدد وكثرة عدد الكفار وأنه لم يرد الاجتهاد سائغا في

ذلك لأنه لو سوغ الاجتهاد فيه لما أجاز فسخ الحكم الذي أمضاه فلما أجاز له ذلك دل على أنه عرف بتنبيه عمر إياه على ذلك امتناع جواز الاجتهاد في مثله وروى إسرائيل عن جابر عن أبي جعفر قال ليس اليوم مؤلفة قلوبهم وروى إسرائيل أيضا عن جابر بن عامر في المؤلفة قلوبهم قال كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -

فلما استخلف أبو بكر انقطع الرشا وروى ابن أبي زائدة عن مبارك عن الحسن
قال ليس المؤلفة قلوبهم كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروى معقل بن عبيدالله قال سألت الزهري عن المؤلفة قال من أسلم من يهودي أو نصراني قلت وإن كان غنيا قال وإن كان غنيا قوله تعالى وفي الرقاب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال إبراهيم النخعي والشعبي وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين لا يجزي أن تعتق من الزكاة رقبة وهو قول أصحابنا والشافعي وقال ابن عباس أعتق من زكاتك وكان سعيد بن جبير لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء وقال في الرقاب إنها رقاب يبتاعون من الزكاة ويعتقون فيكون ولاؤهم لجماعة المسلمين دون المعتقين قال مالك والأوزاعي لا يعطى المكاتب من الزكاة شيئا ولا عبدا موسرا كان مولاه أو معسرا ولا يعطون من الكفارات أيضا قال مالك لا يعتق من الزكاة إلا رقبة مؤمنة قال أبو بكر لا نعلم خلافا بين السلف في جواز إعطاء المكاتب من الزكاة فثبت أن إعطاءه مراد بالآية والدفع إليه صدقة صحيحة وقال الله تعالى إنما الصدقات للفقراء إلى قوله وفي الرقاب وعتق الرقبة لا يسمى صدقة وما أعطي في ثمن الرقبة فليس بصدقة لأن بائعها أخذه ثمنا لعبده فلم تحصل بعتق الرقبة صدقة والله تعالى إنما جعل الصدقات في الرقاب فما ليس بصدقة فهو غير مجزئ وأيضا فإن الصدقة تقتضي تمليكا والعبد لم يملك شيئا بالعتق وإنما سقط عن رقبته هو ملك للمولى ولم يحصل ذلك الرق للعبد لأنه لوحصل له لوجب أن يقوم فيها مقام المولى فيتصرف في رقبته كما يتصرف المولى فثبت أن الذي حصل للعبد إنما هو سقوط ملك المولى وأنه لم يملك بذلك شيئا فلا يجوز أن يكون ذلك مجزيا من الصدقة إذ شرط الصدقة وقوع الملك للمتصدق عليه وأيضا فإن العتق واقع في ملك المولى غير منتقل إلى الغير ولذلك ثبت ولاؤه منه فغير جائز وقوعه عن الصدقة ولما قامت الحجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -
أن الولاء لمن أعتق وجب أن لا يكون الولاء لغيره فإذا انتفى أن يكون
الولاء إلا لمن أعتق ثبت أن المراد به المكاتبون وأيضا روى عبدالرحمن

ابن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال من أعان مكاتبا في رقبته أو غازيا في عسرته أو مجاهدا في سبيل الله أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فثبت بذلك أن الصدقة على المكاتبين معونة لهم في رقابهم حتى يعتقوا وذلك موافق لقوله تعالى وفي الرقاب وروى طلحة اليماني عن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال قال أعرابي للنبي ص - علمني عملا يدخلني الجنة قال لئن كنت أقصرت الخطبة لقد عرضت المسألة أعتق النسمة وفك الرقبة قال أو ليسا سواء قال لا عتق النسمة أن تفوز بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها والمنحة الركوب والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير فجعل عتق النسمة غير فك الرقبة فلما قال وفي الرقاب كان الأولى أن يكون في معونتها بأن يعطى المكاتب حتى يفك العبد رقبته من الرق وليس هو ابتياعها وعتقها لأن الثمن حينئذ يأخذه البائع وليس في ذلك قربة وإنما القربة في أن يعطى العبد نفسه حتى يفك به رقبته وذلك لا يكون إلا بعد الكتابة لأنه قبلها يحصل للمولى وإذا كان مكاتبا فما يأخذه لا يملكه المولى وإنما يحصل للمكاتب فيجزي من الزكاةوأيضا فإن عتق الرقبة يسقط حق المولى عن رقبه من غير تمليك ولا يحتاج فيه إلى إذن المولى فيكون بمنزلة من قضى دين رجل بغير أمره فلا يجزي من زكاته وإن دفعه إلى الغارم فقضى به دين نفسه جاز كذلك إذا دفعه إلى الغارم فقضى به دين نفسه جاز كذلك إذا دفعه إلى المكاتب فملكه أجزأه عن الزكاة وإذا أعتقه لم يجزه لأنه لم يملكه وحصل العتق بغير قبوله ولا إذنه قوله تعالى والغارمين قال أبو بكر لم يختلفوا أنهم المدينون وفي هذا دليل على أنه إذا لم يملك فضلا عن دينه مائتي درهم فإنه فقير تحل له الصدقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم فحصل لنا بمجموع الآية والخبر أن الغارم فقير إذ كانت الصدقة لا تعطى إلا الفقراء بقضية قوله ص - وأردها في فقرائكم وهذا يدل أيضا على أنه إذا كان عليه دين يحيط بماله وله مال كثير أنه لا زكاة عليه إذ كان فقيرا يجوز له أخذ الصدقة والآية خاصة في بعض الغارمين دون بعض وذلك لأنه لو كان له ألف درهم وعليه دين مائة درهم لم تحل له الزكاة ولم يجز معطيه إياها وإن كان غارما فثبت أن المراد الغريم الذي لا يفضل له عما في يده بعد قضاء دينه

مقدار مائتي درهم أو ما يساويها فيجعل المقدار المستحق بالدين مما في يده كأنه في غير ملكه وما فضل عنه فهو فيه بمنزلة من لا دين عليه وفي جعله الصدقة للغارمين دليل أيضا على أن الغارم إذا كان قويا مكتسبا فإن الصدقة تحل له إذ لم تفرق بين القادر على الكسب والعاجز عنه وزعم الشافعي أن من تحمل حمالة عشرة آلاف درهم وله مائة ألف درهم أن الصدقة تحل له وإن كان عليه دين من غير الحمالة لم تحل له واحتج فيه بحديث قبيصة ابن المخارق أنه تحمل حمالة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم - فيها فقال إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة رجل تحمل حمالة فيسئل فيها حتى يؤديها ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فيسئل حتى يصيب قواما من عيش ورجل أصابته فاقة وحاجة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إن فلانا أصابته فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش ثم يمسك وما سوى ذلك فهو سحت ومعلوم أن الحمالة وسائر الديون سواء لأن الحمالة هي الكفالة والحميل هو الكفيل فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم - أجاز له المسألة لأجل ما عليه من دين الكفالة وقد علم مساواة دين الكفالة وقد علم لسائر الديون فلا فرق بين شيء منها فينبغي أن تكون إباحة المسألة لأجل الحمالة محمولة على أنه لم يقدر على أدائها وكان الغرم الذي لزمه بإزاء ما في يده من ماله كما نقول في سائر الديون وروى إسرائيل عن جابر بن أبي جعفر في قوله تعالى والغارمين قال المستدين في غير سرف حق على الإمام يقضي عنه وقال سعيد في قوله والغارمين قال ناس عليهم دين من غير فساد ولا إتلاف ولا تبذير فجعل الله لهم فيها سهما وإنما ذكر هؤلاء في الدين أنه من غير سرف ولا إفساد لأنه إذا كان مبذرا مفسدا لم يؤمن إذا قضى دينه أن يستدين مثله فيصرفه في الفساد فكرهوا قضاء دين مثله لئلا يجعله ذريعة إلى السرف والفساد ولا خلاف في جواز قضاء دين مثله ودفع الزكاة إليه وإنما ذكر هؤلاء عدم الفساد والتبذير فيما استدان على وجه الكراهة لا على وجه الإيجاب وروى عبيدالله بن موسى عن عثمان بن الأسود عن مجاهد في قوله والغارمين قال الغارم من ذهب السيل بماله أو أصابه حريق فأذهب ماله أو رجل له عيال لا يجد ما ينفق عليهم فيستدين قال أبو بكر أما من ذهب ماله وليس عليه دين فلا يسمى غريما لأن الغرم هو اللزوم والمطالبة فمن لزمه الدين يسمى غريما ومن له الدين أيضا يسمى غريما لأن له اللزوم والمطالبة فأما من ذهب ماله فليس بغريم وإنما يسمى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19