كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)

اختلف أهل العلم هل هي آية مستقلة في أول كل سورة كتبت في أولها ، أو هي كذلك في الفاتحة فقط دون غيرها ، أو أنها ليست بآية في الجميع وإنما كتبت للفصل؟ والأقوال وأدلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك . وقد اتفقوا على أنها بعض آية في سورة النمل . وقد جزم قرّاء مكة ، والكوفة بأنها آية من الفاتحة ومن كل سورة . وخالفهم قّراء المدينة ، والبصرة ، والشام ، فلم يجعلوها آية لا من الفاتحة ولا من غيرها من السور ، قالوا : وإنما كتبت للفصل والتبرّك .
وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه { بسم الله الرحمن الرحيم } . وأخرجه الحاكم في المستدرك . وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أم سلمة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول الفاتحة في الصلاة وغيرها آية» . وفي إسناده عمرو بن هارون البلخي ، وفيه ضعف ، وروى نحوه الدارقطني مرفوعاً عن أبي هريرة .
وكما وقع الخلاف في إثباتها وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة . وقد أخرج النسائي في سننه ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة : «أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة ، وقال بعد أن فرغ : إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم » ، وصححه الدارقطني ، والخطيب ، والبيهقي ، وغيرهم .
وروى أبو داود ، والترمذي عن ابن عباس : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح الصلاة ب { بسم الله الرحمن الرحيم } قال الترمذي : وليس إسناده بذلك . وقد أخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن عباس بلفظ : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ب { بسم الله الرحمن الرحيم } ، ثم قال : صحيح .
وأخرج البخاري في صحيحه عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت قراءتُه مدّاً ، ثم قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } يمدّ بسم الله ، ويمدّ الرحمن ، ويمدّ الرحيِّم . وأخرج أحمد في المسند ، وأبو داود في السنن ، وابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم في مستدركه عن أم سلمة أنها قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته { بسم الله الرحمن الرحيِّم الحمد لله ربّ العالمين . الرحمن الرحيِّم . مالك يوم الدين } وقال الدارقطني : إسناده صحيح .
واحتجّ من قال بأنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة بما في صحيح مسلم عن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير ، والقراءة ب { الحمد لله ربّ العالمين } . وفي الصحيحين عن أنس قال : «صليت خلف النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فكانوا يستفتحون ب { الحمد لله ربّ العالمين } .

ولمسلم لا يذكرون { بسم الله الرحمن الرحيم } في أول قراءة ، ولا في آخرها . وأخرج أهل السنن نحوه عن عبد الله بن مُغَفّل . وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة ، وجماعة من الصحابة .
وأحاديث الترك ، وإن كانت أصح ، ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجاً من مخرج صحيح ، فالأخذ به أولى ، ولا سيما مع إمكان تأويل الترك ، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي ، أعني كونها قرآناً؛ والوصفي أعني الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة . ولتنقيح البحث ، والكلام على أطرافه استدلالاً ، وردّاً ، وتعقُّباً ، ودفعاً ، ورواية ، ودراية موضعٌ غير هذا .
ومتعلق « الباء » محذوف ، وهو : أقرأ ، أو أتلو؛ لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له ، فمن قَدَّره متقدماً كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل ، ومن قدره متأخراً كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص ، مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم ، والإشارة إلى أن البداية به أهمّ ، لكون التبرّك حصل به ، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخراً في مثل هذا المقام ، ولا يعارضه قوله تعالى : { اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] لأن ذلك المقام مقام القراءة ، فكان الأمر بها أهمّ ، وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسماً أو فعلاً فلا يتعلق بذلك كثير فائدة . و « الباء » للاستعانة أو للمصاحبة ، ورجح الثاني الزمخشري .
واسم أصله : سمو ، حذفت لامه ، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة إذا نطقوا به؛ لئلا يقع الابتداء بالساكن ، وهو اللفظ الدَّالُّ على المسمَّى؛ ومن زعم أن الاسم هو : المسمى كما قاله أبو عبيدة ، وسيبويه ، والباقلاني ، وابن فورك ، وحكاه الرازي عن الحشوية والكَّرامية والأشعرية ، فقد غلط غلطاً بيَّناً ، وجاء بما لا يعقل ، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب ، ولا من السنة ، ولا من لغة العرب ، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو : أصوات مقطعة ، وحروف مؤلفة ، غير المسمى الذي هو : مدلوله ، والبحث مبسوط في علم الكلام . وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة « إن لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة » ، وقال الله عزّ وجلّ : { وَللَّهِ الاسماء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف : 180 ] وقال تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] فله الأسماء الحسنى . والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره ، وأصله : إله حذفت الهمزة ، وعُوّضت عنها أداة التعريف ، فلزمت . وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس ، يقع على كل معبود بحق ، أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق ، كالنجم ، والصعق ، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة ، وبعده من الأعلام المختصة .
{ والرحمن الرحيم } : اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من رحيِّم .

وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا ، ولذلك قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا . وقد تقررّ أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى . وقال ابن الأنباري ، والزجّاج : إن الرحمن عَبْرَاني ، والرحيِّم عربي . وخالفهما غيرهما . والرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عزّ وجل . وأما قول بني حنيفة في مسيلمة : رحمن اليمامة ، فقال في الكشاف : إنه باب من تعنتهم في كفرهم . قال أبو عليّ الفارسيّ : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة ، يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو : في جهة المؤمنين ، قال الله تعالى { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ]
وقد ورد في فضلها أحاديث . منها :
ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه ، وابن خزيمة في كتاب البسملة والبيهقي عن ابن عباس ، قال : استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : { بسم الله الرحمن الرحيم } . وأخرج نحوه أبو عبيد ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضاً . وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كان جبريلُ إذا جاءني بالوحي أوّلُ ما يلقي عليّ { بسم الله الرحمن الرحيم } » . وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره ، والحاكم في المستدرك ، وصححه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس؛ أن عثمان بن عفان سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فقال : « هو اسم من أسماء الله ، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا كما بين سواد العين ، وبياضها من القرب » . وأخرج ابن جرير وابن عديّ في الكامل ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ، والثعلبي بسند ضعيف جداً عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن عيسى ابن مريم أسلمته أمُّهُ إلى الكتاب لتعلِّمه ، فقال له المعلم : اكتب { بسم الله الرحمن الرحيم } ، فقال له عيسى : وما بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال المعلم : لا أدري ، فقال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين سناه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة » وفي إسناده إسماعيل بن يحيى ، وهو : كذاب . وقد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات .
وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال : لما نزلت { بسم الله الرحمن الرحيم } هرب الغَيْمُ إلى المشرق ، وسكنت الريحُ ، وهاج البحرُ ، وأصغت البهائمُ بآذانها ، ورُجِمَت الشياطينُ من السماء ، وحلفَ اللهُ بعزته وجلاله ألا تُسَمَّى على شيء إلا بارك فيه . وأخرج أبو نعيم ، والديلمي عن عائشة قالت : لما نزلت { بسم الله الرحمن الرحيم } ضجت الجبال حتى سمع أهل مكة دويَّها فقالوا : سَحَرَ محمد الجبالَ ، فبعث الله دخاناً حتى أظل على أهل مكة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« من قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } موقناً سبَّحت معه الجبالُ إلا أنه لا يُسْمَع ذلك منها » وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة ، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة ، ورفع له أربعة آلاف درجة » وأخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « { بسم الله الرحمن الرحيم } مفتاح كل كتاب » وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها ، والكلام عنها بما يتبين بعد البحث إن شاء الله .
وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة ، قد بينها الشارع منها عند الوضوء ، وعند الذبيحة ، وعند الأكل ، وعند الجماع وغير ذلك .

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)

{ الحمد للَّهِ } الحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الإختياري ، وبقيد الاختيار فارق المدح ، فإنه يكون على الجميل ، وإن لم يكن الممدوحُ مختاراً كمدح الرجل على جماله ، وقوّته ، وشجاعته . وقال صاحب الكشاف : إنهما أخوان ، والحمد أخصّ من الشكر مَورداً ، وأعمّ منه متعلقاً . فموردُ الحمدُ اللسان فقط ، ومتعلقه النعمةُ ، وغيرها ، ومورد الشكر اللسانُ ، والجَنَانُ ، والأركانُ ، ومتعلقه النعمة وقيل : إن مورد الحمد كمورد الشكر ، لأن كلَّ ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمدٍ بل سخرية واستهزاء . وأجيب بأن اعتبار موافقة القلب ، والجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون مورداً له بل شرطاً . وفرّق بين الشرط ، والشطر ،
وتعريفه لاستغراق أفراد الحمد ، وأنها مختصة بالربّ سبحانه وتعالى ، على معنى أنَّ حمد غيره لا اعتداد به ، لأن المنعم هو : الله عزّ وجلّ ، أو على أن حمدَه هو : الفرد الكامل ، فيكون الحصر ادّعائياً . ورجح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو : تعريف الجنس لا الاستغراق ، والصواب ما ذكرناه . وقد جاء في الحديث « اللهمّ لك الحمد كله » وهو : مرتفع بالابتداء وخبره الظرف وهو : { لله } . وأصله النصب على المصدرية بإضمار فعله ، كسائر المصادر التي تنصبها العرب ، فعُدِل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام ، والثبات المستفاد من الجمل الاسمية دون الحدوث ، والتجدد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية ، واللام الداخلة على الاسم الشريف هي لام الاختصاص .
قال ابن جرير : الحمد ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه ، فكأنه قال : قولوا الحمد لله ثم رجح اتحاد الحمد ، والشكر مستدلاً على ذلك بما حاصله : أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد ، والشكر مكان الآخر . قال ابن كثير : وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو : الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة ، والمتعدية . والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان ، واللسان ، والأركان ، انتهى .
ولا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين ، فإن ذلك لا يردّ على ابن جرير ، ولا تقوم به الحجة؛ هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية ، فإن ثبتت وجب تقديمها .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عمر : قد عَلِمْنا سبحان الله ، ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله؟ فقال عليٌّ : كلمةٌ رضيها لنفسه . وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس؛ أنه قال : الحمد لله؛ كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله قال : شكرني عبدي . وروى هو وابن جرير ، عن ابن عباس أيضاً أنه قال : الحمد لله هو : الشكر لله ، والاستخذاء له ، والإقرار له بنعمه ، وهدايته ، وابتدائه ، وغير ذلك .

وروى ابن جرير عن الحكم بن عُمَيْر ، وكانت له صحبة ، قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم " إذا قلتَ الحمد لله ربّ العالمين ، فقد شكرتَ الله ، فزادك " وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والخطابي في الغريب ، والبيهقيّ في الأدب ، والديلميّ في مسند الفردوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده " وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي قال : «الصلاة شكر والصيام شكر ، وكل خير تفعله شكر ، وأفضل الشكر الحمد» . وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النّوّاس بن سَمْعَان قال : «سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي فرجعت ، فلما رآها قال : الحمد لله " فانتظروا؛ هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوماً أو صلاة ، فظنوا أنه نسي فقالوا : يا رسول الله قد كنت قلت : لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي ، قال : " ألم أقل الحمد لله؟ " - وقد ورد في فضل الحمد أحاديث . منها : ما أخرجه أحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، والبخاري في الأدب المفرد عن الأسود بن سَريع ، قال : «قلت يا رسول الله ألا أنْشِدُك محامدَ حمدتُ بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال : " أما إن ربك يحبّ الحمد " وأخرج الترمذي وحسَّنه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله " وأخرج ابن ماجه والبيهقي بسند حسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنعم الله على عبد نعمةً فقال الحمد لله إلا كان الذي أعْطى أفضلَ مما أخذ " وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والقرطبي في تفسيره عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ، ثم قال الحمد لله ، لكان الحمد أفضل من ذلك " قال القرطبي : معناه لكان إلهامهُ الحمد أكبر نعمةٍ عليه من نعم الدنيا ، لأن ثواب الحمد لا يفنى ، ونعيم الدنيا لا يبقى . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يُنْعَمُ عليه بنعمةٍ إلا كان الحمد أفضل منها " وأخرج عبد الرزاق في المصنف نحوه ، عن الحسن مرفوعاً .
وأخرج مسلم والنسائي ، وأحمد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" الطهورُ شطرُ الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان " الحديث . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن مردويه عن رجل من بني سليم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سبحان الله نصفُ الميزان ، والحمدُ لله تملأ الميزان ، والله أكبرُ تملأ ما بين السماء ، والأرض ، والطهورُ نصف الإيمان ، والصومُ نصف الصبر " وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التسبيحُ نصف الميزان ، والحمدُ لله تملؤه ، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجابٌ حتى تخَلُص إليه " وأخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التَّأني من الله ، والعجلةُ من الشيطان ، وما شيء أكثرُ معاذير من الله ، وما شيءٍ أحبّ إلى الله من الحمد " وأخرج ابن شاهين في السنة والديلمي عن أبان بن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " التوحيدُ ثمن الجنة ، والحمد ثمن كل نعمة ، ويتقاسمون الجنة بأعمالهم "
وأخرج أهل السنن وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أمرٍ ذي بالٍ لا يُبْدَأُ فيه بحمد الله ، فهو أقطَع " وأخرج ابن ماجه في سننه عن ابن عمر : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم : " أنّ عبداً من عباد الله قال : يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك ، وعظيم سلطانك . فلم يَدرِ الملكان كيف يكتبانها ، فصعدا إلى السماء ، فقالا : يا ربنا إنَّ عبداً قد قال مقالةً لا ندري كيف نكتبها؟ قال الله وهو أعلم بما قال عبده : ماذا قال عبدي؟ قالا يا ربّ إنه قال : لكَ الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك ، وعظيم سلطانك . فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني ، وأجزيه بها " . وأخرج مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة ، فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "
{ رَبّ العالمين } قال في الصحاح : الرب اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة . وقد قالوه في الجاهلية للملك . وقال في الكشاف : الرب المالك . ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يَرُبَّني رجلٌ من قريش أحبُّ إليّ من أن يَرُبَّني رجل من هوازن . ثم ذكر نحو كلام الصحاح . قال القرطبي في تفسيره : والرب السيد ، ومنه قوله تعالى { اذكرني عند ربك } [ يوسف : 42 ] ، وفي الحديث " أن تلد الأمة ربها " ، والرب : المصلح ، والمدبر ، والجابر ، والقائم قال : والرب المعبود . ومنه قول الشاعر :
أربٌ يَبُول الثَّعْلبَان بَرأسه ... لقد هَانَ من بَالت عَلَيه الثعالبُ
و { العالمين } : جمع العالم ، وهو : كل موجود سوى الله تعالى ، قاله قتادة .

وقيل أهل كل زمان عالم ، قاله الحسين بن الفضل . وقال ابن عباس : العالمون الجنّ ، والإنس ، وقال الفراء ، وأبو عبيد : العالم عبارة عمن يعقل ، وهم أربعة أمم : الإنس ، والجن ، والملائكة ، والشياطين . ولا يقال للبهائم عالم ، لأن هذا الجمع إنما هو : جمع ما يعقل .
حكى هذه الأقوال القرطبي في تفسيره ، وذكر أدلتها ، وقال : إن القول الأول أصحّ هذه الأقوال؛ لأنه شامل لكل مخلوق وموجود . دليله قوله تعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين * قَالَ رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } [ الشعراء : 23 ، 24 ] وهو : مأخوذ من العَلم ، والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا قال الزجَّاج : وقال : العالم كل ما خلقه الله في الدنيا ، والآخرة ، انتهى . وعلى هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليباً للعقلاء على غيرهم . وقال في الكشاف : ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه ، وهي الدلالة على معنى العلم .
وقد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه . وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جريح عن مجاهد . وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جُبير . وأخرج ابن جبير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى { رَبِّ العالمينَ } قال : إله الخلق كله السموات كلهنّ ، ومن فيهنّ . والأرضون كلهنّ ، ومن فيهنّ ، ومن بينهنّ مما يعلم ومما لا يعلم .
{ الرحمن الرحيم } قد تقدم تفسيرهما . قال القرطبي : وصف نفسه تعالى بعد ربّ العالمين بأنه الرحمن الرحيم ، لأنه لما كان في اتصافه بربّ العالمين ترهيب ، قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب ، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه ، فيكون أعون على طاعته ، وأمنع ، كما قال تعالى : { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الاليم } [ الحجر : 49 ، 50 ] وقال : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } [ غافر : 3 ] . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنَط من جنته أحد » انتهى .
وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } قال : ما وصف من خلقه ، وفي قوله { الرحمن الرحيم } ، قال : مدح نفسه . ثم ذكر بقية الفاتحة
{ مالك يَوْمِ الدين } قرىء « مِلك » ، و « مالك » ، و « ملْك » بسكون اللام ، و « مَلَكَ » بصيغة الفعل . وقد اختلف العلماء أيما أبلغ مِلك ، أو مالك؟ فقيل إن ملكَ أعمّ ، وأبلغ من مالك ، إذ كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكاً ، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرّف إلا عن تدبير الملك ، قاله أبو عبيد ، والمبرّد ، ورجحه الزمحشري .

وقيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكاً للناس ، وغيرهم ، فالمالك أبلغ تصرفاً ، وأعظم . وقال أبو حاتم : إن مالكاً أبلغ في مدح الخالق من ملك ، وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك ، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك ، وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً . واختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي .
والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر؛ فالمالك يقدر على ما لا يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع ، والهبة ، والعتق ، ونحوها ، والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك ، وحياطته ، ورعاية مصالح الرعية ، فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور ، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور . والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه ، أن الملك صفة لذاته ، والمالك صفة لفعله . و { يوم الدين } ، يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والامر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الإنفطار : 17 19 ] وهذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ، ويوم الدين وإن كان متأخراً فقد يضاف اسم الفاعل وما في معناه إلى المستقبل كقولك : هذا ضارب زيداً غداً .
وقد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة؛ «أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يقرأ ملك بغير ألف . وأخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس .
وأخرج أحمد والترمذي عن أنس أيضاً : «أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر ، وعثمان كانوا يقرءون مالك بالألف» . وأخرج نحوه سعيد بن منصور ، عن ابن عمر مرفوعاً ، وأخرج نحوه أيضاً وكيع في تفسيره وعبد بن حميد ، وأبو داود وعن الزهري يرفعه مرسلاً . وأخرجه أيضاً عبد الرزاق في تفسيره وعبد بن حميد ، وأبو داود عن ابن المسيب مرفوعاً مرسلاً . وقد روي هذا من طرق كثيرة ، فهو أرجح من الأوّل . وأخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة . «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مالك يوم الدين» وكذا رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعاً .
وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب . وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : { يوم الدين } يوم يدين الله العباد بأعمالهم .
{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قراءة السبعة ، وغيرهم بتشديد الياء ، وقرأ عمر بن فايد بتخفيفها مع الكسر؛ وقرأ الفضل والرقاشي بفتح الهمزة ، وقرأ أبو السوار الغَنَوي «هَيَّاك» في الموضعين وهي : لغة مشهورة .

والضمير المنفصل هو : «إيا» وما يلحقه من الكاف ، والهاء ، والياء هي : حروف لبيان الخطاب ، والغيبة ، والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب كما ذهب إليه الجمهور ، وتقديمه على الفعل لقصد الاختصاص ، وقيل للاهتمام ، والصواب أنه لهما ، ولا تزاحم بين المقتضيات . والمعنى : نخصك بالعبادة ، ونخصك بالإستعانة لا نعبد غيرك ، ولا نستعينه ،
والعبادة أقصى غايات الخضوع ، والتذلل ، قال ابن كثير : وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة ، والخضوع ، والخوف ،
وعدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات ، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تَطريةً لنشاط السامع ، وأكثر إيقاظاً له كما تقرر في علم المعاني . والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه ، وعن جنسه من العباد ، وقيل إن المقام لما كان عظيماً لم يستقلّ به الواحد؛ استقصاراً لنفسه ، واستصغاراً لها ، فالمجىء بالنون لقصد التواضع ، لا لتعظيم النفس .
وقدمت العبادة على الإستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية ، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب ، وإطلاق الإستعانة لقصد التعميم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { إياك نَعْبُدُ } : يعني إياك نوحد ونخاف يا ربنا لا غيرك ،
{ وإياك نستعين } على طاعتك وعلى أمورنا كلها . وحكى ابن كثير عن قتادة ، أنه قال في { إياك نعبد وإياك نستعين } : يأمركم أن تخلصوا له العبادة ، وأن تستعينوه على أمركم .
وفي صحيح مسلم من حديث المعلى بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، إذا قال { العبد الحمد لله رب العالمين } قال : حمدني عبدي ، وإذا قال { الرحمن الرحيم } قال : أثنى عليّ عبدي ، فإذا قال { مالك يوم الدين } قال مجدني عبدي ، فإذا قال { إياك نعبد ، وإياك نستعين } قال : هذا بيني ، وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين } قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " وأخرج أبو القاسم البغوي ، والباوردي ، معاً في معرفة الصحابة ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة قال : «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي العدوّ فسمعته يقول : " يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين " ، قال : فلقد رأيت الرجال تُصرعُ فتضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها» .
{ اهدنا الصراط المستقيم } قرأه الجمهور بالصاد ، وقرأ السراط بالسين ، والزراط بالزاي؛ والهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا ، وكقوله : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] وقد يتعدى بإلى كقوله : { اجتباه وَهَدَاهُ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 121 ] ، { فاهدوهم إلى صراط الجحيم }

[ الصافات : 23 ] ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] وقد يتعدّى باللام كقوله { الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] { إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] قال الزمخشري : أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى . انتهى .
وهي الإرشاد ، أو التوفيق ، أو الإلهام ، أو الدلالة . وفرَّقَ كثيرٌ من المتأخرين بين معنى المتعدى بنفسه ، وغير المتعدى ، فقالوا : معنى الأوّل الدلالة ، والثاني الإيصال . وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى { والذين اهتدوا زادهم هدى } [ محمد : 17 ] { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] والصراط : الطريق ، قال ابن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعاً على أن الصراط المستقيم : هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، وهو كذلك في لغة جميع العرب . قال : ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته ، والمُعوجَّ باعوجاجه .
وقد أخرج الحاكم وصححه وتعقبه الذهبي عن أبي هريرة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { اهدنا الصراط المستقيم } بالصاد» . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه عن ابن عباس : «أنه قرأ الصراط بالسين» . وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ " السراط " بالسين . وأخرج أيضاً عن حمزة أ { اهدنا الصراط المستقيم } يقول : ألهمنا دينك الحق . وأخرج ابن جرير عنه ، وابن المنذر نحوه . وأخرج وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله أنه قال : «هو دين الإسلام ، وهو أوسع مما بين السماء ، والأرض» . وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس . وأخرج نحوه أيضاً عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة .
وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن النوّاس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضرب اللهُ مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مُفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاةٌ ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ، ولا تفرّقوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تَلجه ، فالصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله ، والداعي من فوق : واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم . " قال ابن كثير بعد إخراجه : وهو إسناد حسن صحيح . وأخرج وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو بكر بن الأنباري ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود؛ أنه قال : «هو كتاب الله» . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن عساكر ، عن أبي العالية؛ قال : هو : رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده .

وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية ، عن ابن عباس مثله .
وروي القرطبي ، عن الفضيل بن عياض ، أنه قال : الصراط المستقيم طريق الحج ، قال : وهذا خاص ، والعموم أولى . انتهى .
وجميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي ، عن الفضيل يصدق بعضه على بعض ، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبي ، فقد اتبع الحق . وقد ذكر ابن جرير نحو هذا ، فقال : والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به ، وفِّقنا للثبات على ما ارتضيته ، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول ، وعمل ، وذلك هو الصراط المستقيم ، لأن من وفَق إليه ممن أنعم اللهُ عليه من النبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين ، فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل ، والتمسك بالكتاب ، والعمل بما أمره الله به ، والانزجار عما زجره عنه ، واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهاج الخلفاء الأربعة ، وكل عبد صالح ، وكل ذلك من الصراط المستقيم . انتهى .
{ صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين } انتصب { صراط } على أنه بدل من الأوّل ، وفائدته التوكيد لما فيه من التثنية ، والتكرير ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، وفائدته الإيضاح ،
والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذلك الفضل مِنَ الله وكفى بالله عَلِيماً } [ النساء : 69 70 ] وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام ،
و { غير المغضوب عليهم } بدل من { الذين أنعمت عليهم } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سَلِمُوا من غضب الله ، والضلال ، أو صفة له على معنى أنهم جمعوا بين النعمتين نعمة الإيمان ، والسلامةِ من ذلك ، وصحَّ جعله صفةً للمعرفة مع كون { غير } لاتتعرف بالإضافة إلى المعارف ، لما فيها من الإبهام ، لأنها هنا غير مبهمة؛ لاشتهار المغايرة بين الجنسين .
والغضب في اللغة قال القرطبي : الشدة ، ورجل غضوب أي : شديد الخلق ، والغضوب : الحية الخبيثة لشدتها . قال : ومعنى الغضب في صفة الله : إرادة العقوبة ، فهو صفة ذاته ، أو نفس العقوبة ، ومنه الحديث : " إن الصدقة لتطفىء غضب الرب " ، فهو صفة فعله . قال في الكشاف : هو : إرادة الانتقام من العصاة ، وإنزال العقوبة بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده ، والفرق بين { عليهم } الأولى ، و { عليهم } الثانية ، أن الأولى في محل نصب على المفعولية ، والثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل . و«لا» في قوله : { ولا الضالين } تأكيد للنفي المفهوم من غير ، والضلال في لسان العرب قال القرطبي هو الذهاب عن سَنَن القصد ، وطريق الحق ، ومنه ضلَّ اللبن في الماء ، أي : غاب ، ومنه { أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض } [ السجدة : 10 ] أي : غبنا بالموت ، وصرنا ترابا .

وأخرج وكيع ، وأبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ : " صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ، وغير الضالين " وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد أن عبد الله بن الزبير قرأ كذلك . وأخرج الأنباري ، عن الحسن أنه كان يقرأ «عليهمي» بكسر الهاء ، والميم ، وإثبات الياء . وأخرج ابن الأنباري عن الأعرج ، أنه كان يقرأ : «عليهمو» بضم الهاء ، والميم ، وإلحاق الواو . وأخرج أيضاً عن ابن كثير ، أنه كان يقرأ : «عليهمو» بكسر الهاء ، وضم الميم مع إلحاق الواو . وأخرج أيضا عن أبي إسحاق ، أنه قرأ : «عليهم» بضم الهاء ، والميم من غير إلحاق واو . وأخرج ابن داود عن عكرمة ، والأسود أنهما كانا يقرآن كقراءة عمر السابقة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يقول : طريق من أنعمت عليهم من الملائكة ، والنبيين ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين الذين أطاعوك ، وعبدوك . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنهم المؤمنون . وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله : { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال النبيون : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ } قال اليهود : { وَلاَ الضالين } قال النصارى . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله . وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد في مسنده ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبغوي ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق؛ قال : أخبرني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسٍ له ، وسأله رجل من بني القين ، فقال : من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ " قال اليهود " ، قال : فمن الضالون؟ قال " النصارى " . وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذرّ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره . وأخرجه وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عبد الله بن شقيق قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحاصر أهل وادي القرى ، فقال له رجل إلى آخره ، ولم يذكر فيه أخبرني من سمع النبي كالأوّل ، وأخرجه البيهقي في الشعب عن عبد الله بن شقيق ، عن رجل من بني القين ، عن ابن عمّ له أنه قال : «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم » فذكره . وأخرجه سفيان بن عيينة ، في تفسيره ، وسعيد بن منصور ، عن إسماعيل بن أبي خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المغضوب عليهم : اليهود ، والضالون : النصارى " وأخرجه أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان في صحيحه عن عدي بن حاتم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" إن المغضوب عليهم هم اليهود ، وإن الضالين النصارى " وأخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والطبراني عن الشَّرِيدُ قال : «مرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا جالس هكذا ، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري ، واتكأت على ألية يدي فقال : " أتقعُدُ قِعْدَة المغضوبِ عليهم؟ " قال ابن كثير بعد ذكره لحديث عدي بن حاتم : وقد روي حديث عدي هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها . انتهى .
والمصير إلى هذا التفسير النبويّ مُتَعَيَّن ، وهو : الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف . قال ابن أبي حاتم : لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود ، والضالين بالنصارى . ويشهد لهذا التفسير النبويّ آيات من القرآن ، قال الله تعالى في خطابه لبني إسرائيل في سورة البقرة : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ على غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ البقرة : 90 ] . وقال في المائدة : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 60 ] وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل : أنه لما خرج هو ، وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف قال اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ نصيبك من غضب الله ، فقال : أنا من غضب الله أفّر ، وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله ، فقال لا أستطيعه ، فاستمرّ على فطرته ، وجانب عبادة الأوثان .
- فائدة في مشروعية التأمين بعد قراءة الفاتحة - اعلم أن السنة الصحيحة الصريحة الثابتة تواتراً ، قد دلت على ذلك ، فمن ذلك ما أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي عن وائل بن حُجر قال : «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ { غير المغضوب عليهم ، ولا الضالين } ، " فقال آمين مدّ بها صوته " ولأبي داود : «رفع بها صوته» وقد حسَّنه الترمذي . وأخرجه أيضاً النسائي ، وابن أبي شيبة ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، وفي لفظ من حديثه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " رب اغفر لي آمين " أخرجه الطبراني ، والبيهقي . وفي لفظ أنه قال : " آمين ثلاث مرات " أخرجه الطبراني . وأخرج وكيع ، وابن أبي شيبة ، عن أبي ميسرة قال : «لما أقرأ جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فبلغ ، ولا الضالين قال : «قل آمين ، فقال آمين» . وأخرج ابن ماجه عن عليّ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال ، " ولا الضالين قال آمين " وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

" إذا قرأ " يعني الإمام { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } " فقولوا آمين يحبكم الله " وأخرج البخاري ومسلم ، وأهل السنن ، وأحمد ، وابن أبي شيبة ، وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا ، فإن من وافق تأمينهُ تأمين الملائكة غفِر له ما تقدم من ذنبه " ، وأخرج أحمد ، وابن ماجه ، والبيهقي بسند قال السيوطي : صحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام ، والتأمين " وأخرج ابن عدي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن اليهود قوم حسد ، حسدوكم على ثلاثة : إفشاء السلام ، وإقامة الصف ، وآمين " وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث معاذ مثله . وأخرج ابن ماجه بسند ضعيف عن ابن عباس قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين ، فأكثروا من قول آمين " ووجه ضعفه أن في إسناده طلحة بن عمرو ، وهو : ضعيف . وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ { بسم الله الرحمن الرحيم } ثم قرأ فاتحة الكتاب ثم قال آمين لم يَبْقَ مقّرَّبٌ ملك في السماء إلا استغفر له " وأخرج أبو داود عن بلال ، أنه قال : «يا رسول الله لا تسبقني بآمين» ،
ومعنى آمين : استجب . قال القرطبي في تفسيره : معنى آمين عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب لنا ، وضع موضع الدعاء . وقال في الصحاح معنى آمين كذلك فليكن .
وأخرج جُوَيبْر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس مثله . وأخرج وكيع ، وابن أبي شيبة في المصنف عن هلال بن يساف ، ومجاهد قالا : آمين اسم من أسماء الله . وأخرج ابن أبي شيبة عن حكيم بن جبير مثله . وقال الترمذي : معناه لا تخيب رجاءنا .
وفيه لغتان ، المد على وزن فاعيل كياسين . والقصر على وزن يمين ، قال الشاعر في المدّ :
يَا رَبُّ لا تسلبني حُبَّها أبداً ... وَيَرَحمُ اللهُ عَبْداً قَالَ آمِينَاً
وقال آخر :
آمين آمين لا أرضىَ بِوَاحَِدةٍ ... حَتَّى أبَلَّغها ألفَين آمِينَاً
قال الجوهري : وتشديد الميم خطأ . وروي عن الحسن ، وجعفر الصادق ، والحسين بن فضل التشديد ، من أمّ إذا قصد : أي نحن قاصدون نحوك ، حكى ذلك القرطبي . قال الجوهري : وهو مبني على الفتح مثل : أين ، وكيف لاجتماع الساكنين ، وتقول منه : أمَّن فلان تأميناً . وقد اختلف أهل العلم في الجهر بها ، وفي أن الإمام يقولها أم لا؟ وذلك مبين في مواطنه .

الم (1)

{ الم } قال القرطبي في تفسيره : اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور ، فقال الشعبي ، وسفيان الثوري ، وجماعة من المحدثين : هي : سرّ الله في القرآن ، ولله في كل كتاب من كتبه سرّ ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ، ولا نحبّ أن نتكلم فيها ، ولكن نؤمن بها ، وتُمَرُّ كما جاءت ، وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق ، وعليّ ابن أبي طالب ، قال : وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لايفسر ، وقال أبو حاتم : لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور ، ولا ندري ما أراد الله عزّ وجل .
وقال : جمع من العلماء كثير : بل نحبّ أن نتكلم فيها ، ونلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها . واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة ، فروي عن ابن عباس ، وعليّ أيضاً أن الحروف المقطعة في القرآن اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها . وقال قُطْرُب ، والفراء ، وغيرهما : هي : إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي : التي بناء كلامهم عليها؛ ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم . قال قطرب : كانوا ينفرون عند استماع القرآن ، فلما نزل { الما ، } و { المصا } [ الأعراف : 1 ] استنكروا هذا اللفظ ، فلما أنصتوا له صلى الله عليه وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف؛ ليثبته في أسماعهم ، وآذانهم ، ويقيم الحجة عليهم . وقال قوم : روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة قالوا { وَقَالُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] فأنزلها استغربوها ، فيفتحون أسماعهم ، فيسمعون القرآن بعدها ، فتجب عليهم الحجة . وقال جماعة : هي حروف دالة على أسماء أخذت منها ، وحذفت بقيتها ، كقول ابن عباس ، وغيره الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد . وذهب إلى هذا الزجاج ، فقال : وذهبوا إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معناه! . وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله :
فقلت لها قفى ، فقالت قاف : أي وقفت . وفي الحديث : « من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة » قال شقيق : هو أن يقول فقرة في اقتل : اق ، كما قال صلى الله عليه وسلم « كفى بالسيف شا » أي شافياً ، وفي نسخة شاهداً . وقال زيد بن أسلم : هي أسماء للسور . وقال الكلبي : هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه .
ومن أدقّ ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف ، فإنه قال : وأعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء : وهي الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر ، وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف .

بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء ، ومن المجهورة نصفها الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون ، ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف ، ومن الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والياء ، والنون ، ومن المطبقة نصفها : الصاد ، والطاء ، ومن المنفتحة نصفها : الألف ، والام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والياء ، والنون ، ومن المستعلية نصفها : القاف ، والصاد ، والطاء ، ومن المنخفضة نصفها : الألف واللام والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والتاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والنون ، ومن حروف القلقة نصفها : القاف ، والطاء ، ثم إذا استقريت الكلم ، وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ، وقد علمت أن معظم الشيء وجُلَّه ينزل منزلة كله ، وهو المطابق للطائف التنزيل ، واختصاراته ، فكأن الله عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم ، وإلزام الحجة إياهم ، وما يدل على أنه تعمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها ، وقوعاً في تراكيب الكلم ، ان الألف ، واللام لما تكاثر ، وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين ، وهي فواتح سورة البقرة ، وآل عمران ، والروم ، والعنكبوت ، ولقمان ، والسجدة ، والأعراف ، والرعد ، ويونس ، وإبراهيم ، وهود ، ويوسف ، والحجر . انتهى .
وأقول : هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتدّ بها ، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة ، والتبكيت كما قال ، فهذا متيسر بأن يقال لهم : هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها ، فيكون هذا تبكيتاً ، وإلزاماً يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز ، وتعمية ، وتفريق لهذه الحروف ، في فواتح تسع وعشرين سورة ، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح ، هو أيضاً مما لا يفهمه أحد من السامعين ، ولا يتعقل شيئاً منه فضلاً عن أن يكون تبكيتاً له وإلزاماً للحجة أياً كان ، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم مترتب عليه ، ولم يفهم السامع هذا ، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن ، أنه بلغ فهمه إلى بعض هذا فضلاً عن كله . ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها ، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهلي ، ولا إسلامي ، ولا مقرّ ، ولا منكر ، ولا مسلم ، ولا معارض ، ولا يصح أن يكون مقصداً من مقاصد الرّب سبحانه ، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه ، والهداية به .

وهب أن هذه صناعة عجيبة ، ونكتة غريبة ، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ، ولا بلاغة حتى يكون مفيداً أنه كلام بليغ ، أو فصيح ، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين ، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ، ولا مدخل لذلك فيما ذكر . وأيضاً لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها ، أو بعدها لم يصح وصفها بذلك ، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز ، والتعمية ، وليس ذلك من الفصاحة ، والبلاغة في ورد ، ولا صدر بل من عكسهما ، وضد رسمهما ، وإذا عرفت هذا ، فاعلم أن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازماً بأن ذلك هو ما أراده الله عزّ وجل ، فقد غلط أقبح الغلط ، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط ، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسرها به راجعاً إلى لغة العرب ، وعلومها فهو كذب بحت ، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك ، وإذا سمعه السامع منهم كان معدوداً عنده من الرَّطَانة ، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف ، أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها ، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدمه ما يدل عليه ، ويفيد معناه ، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدم ذكره . ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم ، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب ، وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين :
الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه ، والوعيد عليه ، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه ، والصدّ عنه ، والتنكُّب عن طريقه ، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبةً لهم يتلاعبون به ، ويضعون حماقات أنظارهم ، وخُزَعْبَلات أفكارهم عليه .
الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع ، وهذا هو المهيع الواضح ، والسبيل القويم ، بل الجادة التي ما سواها مردوم ، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم ، فمن وجد شيئاً من هذا ، فغير ملوم أن يقول بملء فيه ، ويتكلم بما وصل إليه علمه ، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري ، أو الله أعلم بمراده ، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ، ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظاً عربية ، وتراكيب مفهومة ، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلاً ، ولكلام العرب فيه مدخلاً ، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير .

وانظر كيف فهم اليهود عند سماع { ألم } فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها ، كما أخرج ابن إسحاق ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : «مرّ أبو ياسر بن أخْطَبَ في رجالٍ من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة سورة البقرة { الم * ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ } فأتى أخاه حُيَيَّ بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون ، والله لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه { آلم . ذلك الكتاب } ، فقال : أنت سمعته؟ فقال نعم ، فمشى حُيَيَّ في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ألم تذكر أنك تتلو ، فيما أنزل عليك { الم * ذلك الكتاب } قال " بلى " ، قالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال " نعم " قالوا : لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بيَّن لنبي منهم ما مدّة ملكه ، وما أجَلُ أمته غيرك ، فقال حُيَيُّ بن أخطب : وأقبل على من كان معه الألف ، واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى ، وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبيّ إنما مدّة ملكه ، وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال " نعم " ، قال : وما ذاك؟ قال " { المصا } " ، قال : هذه أثقل ، وأطول الألف ، واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومائة سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال " نعم " ، قال : وما ذاك؟ قال " { الر } " قال : هذه أثقل ، وأطول الألف ، واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان ، فهل مع هذا غيره؟ قال : " نعم : { المر } " قال : فهذه أثقل ، وأطول الألف ، واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان ، ثم قال : لقد لُبِّس علينا أمرك يا مُحمدُ حتى ما ندري قليلاً أعطيت أم كثيراً ، ثم قاموا ، فقال أبو ياسر لأخيه حُييّ ، ومن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وستون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ، فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتُ } [ آل عمران : 7 ]
فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف ، مع كونه ليس من لغة العرب في شيء ، وتأمل أيّ موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الموضع ، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع { الم * ذلك الكتاب } من ذلك العدد موجباً للتثبيط عن الإجابة له ، والدخول في شريعته ، فلو كان لذلك معنى يعقل ، ومدلولٌ يفهم ، لدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ظنوه بادىء بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم .

فإن قلت : هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت : لا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم في شيء من معانيها ، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها ، فأخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي وصححه والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول ألم حرف ، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف » وله طرق عن ابن مسعود . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه مرفوعاً .
فإن قلت : هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعليّ؟ قلت : قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال : { آلم } أحرف اشتقت من حروف اسم الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : { آلم } ، و { حم} ، و { ن } قال : اسم مقطع . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضاً في قوله : { الم } ، { والمصا } ، { وآلر } ، ، و { المر } و { كهعيصا } ، و { وطه } ، و { طسما } ، و { وطس } و { ويس } ، و { وص } ، و { وحم} ، و { تَعْمَلُونَ ق } ، و { ن } ، قال : هو قسم أقسمه الله ، وهو : من أسماء الله . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله { آلم } قال : هي : اسم الله الأعظم . وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله { آلم } قال : ألف مفتاح اسمه الله ، ولام مفتاح اسمه لطيف وميم مفتاح اسمه مجيد . وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسُّدِّي وقتادة ومجاهد والحسن .
فإن قلت : هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة؟ قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولاً صح إسناده إليه . قلت : لا لما قدمنا ، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن قلت : هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه ، ولا مدخل للغة العرب ، فلم لا يكون له حكم الرفع؟ قلت : تنزيل هذا منزلة المرفوع ، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم ، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين ، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام ، وهو : التفسير لكلام الله سبحانه ، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد ، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوّغاً للوقوع في خطر الوعيد الشديد .

على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه ، كما نجده كثيراً في تفاسيرهم المنقولة عنهم ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه ،
ثم ها هنا مانع آخر ، وهو أن المروي عن الصحابة في هذا مختلف متناقض فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكماً لا وجه له ، وإن عملنا بالجميع كان عملاً بما هو مختلف متناقض ، ولا يجوز .
ثم ها هنا مانع غير هذا المانع ، وهو أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذعنه ، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه ، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها .
والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمة ألا يتكلم بشيء من ذلك ، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزّ وجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا ، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه ، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى : { مِنْهُ آيات محكمات هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ متشابهات } [ آل عمران : 7 ] كلام طويل الذيول ، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول .

ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

الإشارة بقوله { ذلك } إلى الكتاب المذكور بعده . قال ابن جرير : قال ابن عباس : { ذلك الكتاب } هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج ، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة . والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف :
أقول له والرمحُ يأطر مَتنهُ ... تأمل خِفافاً أنني أنا ذلِكا
أي : أنا هذا ، ومنه قوله تعالى : { ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم } [ السجدة : 6 ] { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] { تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } [ البقرة : 252 ، وآل عمران : 108 ، والجاثية : 6 ] { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } [ الممتحنة : 10 ] وقيل : إن الإشارة إلى غائب ، واختلف في ذلك الغائب ، فقيل : هو : الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة ، والأجل والرزق
{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا مبدل له ، وقيل ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل؛ أن رحمته سبقت غضبه ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه ، فهو موضوع عنده : إن رحمتي تغلب غضبي " وفي رواية «سبقت» . وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة ، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل ، وقيل إشارة إلى قوله قبله { آلم } ، ورجحه الزمخشري ، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدَّرناه ،
واسم الإشارة مبتدأ ، و { الكتاب } صفته ، والخبر { لا ريب فيه } ، ومن جوّز الابتداء ب { آلم } جعل { ذلك } مبتدأ ثانياً ، وخبره { الكتاب } أو هو صفته ، والخبر { لا ريب فيه } ، والجملة خبر المبتدأ . ويجوز أن يكون المبتدأ مقدّراً ، وخبره { آلم } ، وما بعده . والريب مصدر ، وهو قلق النفس واضطرابها ، وقيل إن الريب : الشك . قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافاً . وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة ، حكى ذلك القرطبي . ومعنى هذا النفي العام ، أن الكتاب ليس بمظنة للريب؛ لوضوح دلالته وضوحاً يقوم مقام البرهان المقتضى لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه ،
والوقف على { فيه } هو المشهور . وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على { لاَ رَيْبَ } ، قال في الكشاف : ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبراً ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ } [ الشعراء : 50 ] وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ، والتقدير : لا ريب فيه فيه هدى .
والهدى مصدر . قال الزمخشري : وهو : الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى . ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق . قال القرطبي : الهدى هديان : هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم ، قال الله تعالى :

{ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] وقال : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ، وتفرد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : { أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ } [ البقرة : 5 ] وقوله : { ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } [ القصص : 56 ] انتهى .
والمتقين من ثبتت لهم التقوى . قال ابن فارس : وأصلها في اللغة قلة الكلام . وقال في الكشاف : المتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ، والوقاية : الصيانة ، ومنه : فرس واقٍ ، وهذه الدابة تقي من وجاورها : إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه . وهو في الشريعة : الذي يقي نفسه تعاطى ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك . انتهى .
وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود؛ أن { الكتاب } : القرآن ، { لا ريب فيه } : لا شك فيه . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لا ريب فيه } قال : لا شك فيه . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي الدرداء قال : الريب : الشك . وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة مثله ، وكذا ابن جرير عن مجاهد . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } قال : نور للمتقين ، وهم المؤمنون . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } أي : الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق بما جاء منه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له : من المتقون؟ فقال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة .
وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة : أن رجلاً قال له : ما التقوى؟ قال : هل وجدت طريقاً ذا شوك؟ قال نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى . وأخرج أحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال : تمام التقوى أن يتقي الله العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً يكون حجاباً بينه وبين الحرام . وقد روى نحو ما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين . وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس » فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ويكون هذا معنى شرعياً للمتقي أخصّ من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعماً أنه المعنى الشرعي .

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

هو وصف للمتقين كاشف . والإيمان في اللغة : التصديق ، وفي الشرع ما سيأتي . والغيب في كلام العرب : كل ما غاب عنك . قال القرطبي : واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا ، فقالت فرقة : الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه ، وضعفه ابن العربي . وقال آخرون : القضاء والقدر . وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب . وقال آخرون : الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة ، وعذاب القبر ، والحشر والنشر ، والصراط ، والميزان ، والجنة ، والنار . قال ابن عطية : وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها ، قال : وهذا هو : الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " فأخبرني عن الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره ، وشرّه ، قال : صدقت " انتهى . وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ : «أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، والقدر خيره ، وشرّه» .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن منده ، وأبو نعيم ، كلاهما في معرفة الصحابة عن تويلة بنت أسلم قالت : «صليت الظهر ، أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيليا ، فصلينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحوّل الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أولئك قوم آمنوا بالغيب» . وأخرج البزار ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب ، قال : «كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيماناً؟ " فقالوا : يا رسول الله الملائكة ، قال : " هم كذلك ، ويحق لهم ، وما يمنعهم ، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها " قالوا : يا رسول الله الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته ، والنبوّة ، قال : " هم كذلك ، ويحق لهم ، وما يمنعهم ، وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها " ؛قالوا : يا رسول الله الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء ، قال : " هم كذلك ، وما يمنعهم ، وقد أكرمهم الله بالشهادة " ؛قالوا : فمن يا رسول الله؟ قال : " أقوام في أصلاب الرجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ، ولم يروني ، ويصدقوني ولم يروني ، يجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيماناً " وفي إسناده محمد بن أبي حميد ، وفيه ضعف .
وأخرج الحسن بن عرفة في حزبه المشهور ، والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو الحديث الأول ، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري ، وهو منكر الحديث .

وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً ، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعاً أيضاً ، والبزار عن أنس مرفوعاً .
وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا ليتني قد لقيت إخواني . قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال : بلى ، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدقوني تصديقكم وينصروني نصركم ، فيا ليتني قد لقيت إخواني " وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس ، وفي إسناده أبو هدبة ، وهو كذاب ، وزاد فيه : «ثم قرأ النبي { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة } [ البقرة : 3 ] الآية» . وأخرج أحمد ، والدارمي ، والبارودي ، وابن قانع معاً في معجم الصحابة ، والبخاري في تاريخه ، والطبراني ، والحاكم عن أبي جمعة الأنصاري قال : «قلت : يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً آمنا بك ، واتبعناك؟ قال : " ما يمنعكم من ذلك ، ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين فيؤمنون بي ، ويعملون بما فيه أولئك أعظم منكم أجراً "
وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، والحاكم ، عن أبي عبد الرحمن الجهني قال : «بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع راكبان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كنديان أو مَذْحجيان حتى أتيا ، فإذا رجلان من مذحج ، فدنا أحدهما ليبايعه ، فلما أخذ بيده قال : يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك ، واتبعك ، وصدّقك فماذا له؟ قال : طوبى له فمسح على زنده ، وانصرف ، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال : يا رسول الله أرأيت من آمن بك ، وصدّقك ، واتبعك ، ولم يرك؟ قال : طوبى له ثم طوبى له ، ثم مسح على زنده ، وانصرف " وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، والطبراني ، والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " طوبى لمن رآني ، وآمن بي ، وطوبى لمن آمن بي ، ولم يرني سبع مرات " وأخرج أحمد ، وابن حبان ، عن أبي سعيد : «أن رجلاً قال : يا رسول الله طوبى لمن رآك ، وآمن بك؟ قال : " طوبى لمن رآني ، وآمن بي ، وطوبى ، ثم طوبى ، ثم طوبى لمن آمن بي ، ولم يرني " وأخرج الطيالسي ، وعبد بن حميد ، عن ابن عمر نحوه . وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدّم . وأخرج سفيان بن عيينة ، وسعيد بن منصور ، وأحمد بن منيع في مسنده ، وابن أبي حاتم ، وابن الانباري ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود ، أنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : { الم * ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ }

إلى قوله : { المفلحون } [ البقرة : 1 5 ] وللتابعين أقوال ،
والراجح ما تقدم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا ، قال ابن جرير : والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولاً ، واعتقاداً ، وعملاً . قال : وتدل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو : تصديق القول بالعمل والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله ، وكتبه ، ورسله ، وتصديق الإقرار بالفعل . وقال ابن كثير : إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً ، وقولاً ، وعملاً ، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة ، بل قد حكاه الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبو عبيد ، وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول ، وعمل ، ويزيد وينقص . وقد ورد فيه آيات كثيرة . انتهى .
{ ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } هو معطوف على { يؤمنون } والإقامة في الأصل : الدوام والثبات . يقال قام الشيء : أي دام وثبت . وليس من القيام على الرجل ، وإنما هو من قولك قام الحق . أي : ظهر وثبت . قال الشاعر :
وقامت الحرب بنا على ساق ... وقال آخر :
وإذا يقال أقيموا لم تبرحوا ... حتى تقيم الخيل سوق طعان
وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها ، وسننها ، وهيئاتها في أوقاتها . والصلاة أصلها في اللغة : الدعاء من صلى يصلي إذا دعا . وقد ذكر هذا الجوهري ، وغيره . وقال قوم : هي مأخوذة من الصلا ، وهو عرق في وسط الظهر ، ويفترق عند العُجْب . ومنه أخذ المصلي في سبق الخيل؛ لأنه يأتي في الحلبة ، ورأسه عند صلوى السابق ، فاشتقت منه الصلاة؛ لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل ، وإما لأن الراكع يثني صلويه ، والصلا مغرز الذنب من الفرس ، والاثنان صلوان ، والمصلي تالي السابق؛ لأن رأسه عند صلوه . ذكر هذا القرطبي في تفسيره . وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف هذا المعنى اللغوي . وأما المعنى الشرعي ، فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان ، والأذكار . وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعاً شرعياً ابتدائياً . فقيل بالأوّل ، وإنما جاء الشرع بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها . وقال قوم بالثاني .
والرزق عند الجمهور ما صلح للانتفاع به حلالاً كان أو حراماً خلافاً للمعتزلة ، فقالوا : إن الحرام ليس برزق ، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا . والإنفاق : إخراج المال من اليد ، وفي المجيء ب « من » التبعيضية ههنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف .
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله : { يُقِيمُونَ الصلاة } قال : الصلوات الخمس { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } قال : زكاة أموالهم . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن إقامة الصلاة : المحافظة على مواقيتها ووضوئها ، وركوعها ، وسجودها { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } قال : أنفقوا في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله . وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } قال : هي نفقة الرجل على أهله .
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله عزّ وجل على قدر ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هنّ الناسخات المبينات . واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم وصدقة الفرض والنفل وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمى الإنفاق يشعر أتمّ إشعار بالتعميم .

وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

قيل : هم مؤمنو أهل الكتاب ، فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم ، وما أنزله على من قبله وفيهم نزلت . وقد رجح هذا ابن جرير ، ونقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ، واستشهد له ابن جرير بقوله تعالى { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } [ آل عمران : 119 ] وبقوله تعالى : { الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } الآية [ القصص : 52 54 ] . والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب . وقيل الآيتان جميعاً في المؤمنين على العموم . وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة ، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف ، ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين فيكون التقدير : هدى للمتقين وللذين يؤمنون بما أنزل إليك .
والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم : هو القرآن . وما أنزل من قبله : هو الكتب السالفة . والإيقان : إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه ، قاله في الكشاف . والمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك . والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول ، وهي صفة الدار كما في قوله تعالى { تِلْكَ الدار الاخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الارض وَلاَ فَسَاداً } [ القصص : 83 ] وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر ، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به ، والقطع بوقوعه . وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا الكل؛ تغليباً للموجود على ما لم يوجد ، أو تنبيهاً على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { والذين يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } أي يصدقونك بما جئت به من الله ، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم { وبالأخرة هُمْ يُوقِنُونَ } إيماناً بالبعث ، والقيامة ، والجنة ، والنار ، والحساب ، والميزان ، أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه .
والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها ، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفاً لمؤمني أهل الكتاب ، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك . وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية . فمن ذلك قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] وكقوله : { وَقُولُواْ ءامَنَّا بالذى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } [ العنكبوت : 46 ] ، وقوله : { آمن الرسول بما انزل إليه مِن رَّبّهِ والمؤمنون كُلٌّ ءامَنَ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] ، وقال : { والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } [ النساء : 152 ] .

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

هذا كلام مُستأنف استئنافاً بيانياً ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقيل : { أولئك على هُدًى } ويمكن أن يكون هذا خبراً عن الذين يؤمنون بالغيب الخ فيكون متصلاً بما قبله . قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله { على هُدًى } مثل لتمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه وتمسكهم به ، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل . وقد صرّحوا بذلك في قوله : جعل الغواية مركباً وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى انتهى . وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف . واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها ( الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف ) فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ويجمع بين أطراف الكلام على التمام .
قال ابن جرير : إن معنى { أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ } على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم ، و { المفلحون } أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله . هذا معنى كلامه . والفلاح أصله في اللغة : الشقّ والقطع ، قاله أبو عبيد ويقال : الذي شقت شفته أفلح ، ومنه سمي الأكَّار فلاحاً لأنه شقّ الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه . قال القرطبي : وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضاً في اللغة ، فمعنى { أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } الفائزون بالجنة والباقون . وقال في الكشاف : المفلح الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه . انتهى . وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم » . قلت : وما الفلاح؟ قال : السحور . فكأن معنى الحديث : أن السحور به بقاء الصوم فلهذا سمي فلاحاً . وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أنَّ كلاً من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم ، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزاً على حاله . وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره .
وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مُرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة أن الذين يؤمنون بالغيب : هم المؤمنون من العرب ، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما أنزل إلى من قبله : هم ، والمؤمنون من أهل الكتاب ثم جمع الفريقين فقال : { أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون } وقد قدمنا الإشارة إلى هذا ، وإلى ما هو أرجح منه كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة .

وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ فنكاد أن نيأس أو كما قال : فقال ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال " { الم * ذلك الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } إلى قوله : { لْمُفْلِحُونَ } هؤلاء أهل الجنة " قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء ، ثم قال " { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ } إلى قوله : { عظِيمٌ } هؤلاء أهل النار " قالوا : ألسنا هم يا رسول الله؟ قال : " أجل "
وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث . منها ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال «كنت عند النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابيّ فقال : يا نبيّ الله إن لي أخاً وبه وجع فقال " وما وجعه؟ " قال : به لمم ، قال : " فائتني به ، فوضعه بين يديه ، فعوّذه النبيّ بفاتحة الكتاب وأربع آيات ومن أوّل سورة البقرة ، وهاتين الآيتين " { وإلهكم إله واحد } [ البقرة : 163 ] وآية الكرسي وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من آل عمران : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] ، وآية من الأعراف { إِنَّ رَبَّكُمُ الله } [ الأعراف : 54 ] ، وآخر سورة المؤمنين { فتعالى الله الملك الحق } [ المؤمنون : 116 - 118 ] ، وآية من سورة الجنّ { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا } [ الجن : 3 ] ، وعشر آيات من أوّل الصافات ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، و { قل هو الله أحد } [ الأخلاص : 1 ] والمعوّذتين ، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ» . وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبيّ مثله .
وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال : من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة وآية الكرسي وآيتين بعد آية الكرسي وثلاثاً من آخر سورة البقرة ، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق . وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال : «من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح أربع من أوّلها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث خواتمها أوّلها متصل { للَّهِ مَا فِى السموات } [ البقرة : 284 ] . وأخرج سعيد بن منصور ، والدارمي ، والبيهقي عن المغيرة بن سبيع ، وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود بنحوه . وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ، وأسرعوا به إلى قبره ، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة " وقد ورد في ذلك غير هذا .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

ذكر سبحانه فريق الشرّ بعد الفراغ من ذكر فريق الخير ، قاطعاً لهذا الكلام عن الكلام الأوّل ، معنوناً له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم ، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان ، وأن وجود ذلك كعدمه . و { سواء } اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ، « والهمزة وأم » مجرّدتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام ، وصحّ الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله : سواء ، هجراً لجانب اللفظ إلى جانب المعنى ، كأنه قال : الإنذار وعدمه سواء ، كقولهم : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه : أي سماعك . وأصل الكفر في اللغة : الستر والتغطية ، قال الشاعر :
في ليلة كفر النجوم غمامها ... أي : سترها ، ومنه سمي الكافر كافراً؛ لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان . والإنذار : الإبلاغ والإعلام .
قال القرطبي : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره . أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً . وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما . وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصح ، فإن من عين أحداً فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر انتهى .
وقوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ } خبر مبتدأ محذوف : أي : هم لا يؤمنون ، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر كأنه قيل : هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل : لا يؤمنون : أي : هم لا يؤمنون . وقال في الكشاف : إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض . انتهى . والأولى ما ذكرناه ، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم ، وأنه لا يجدي شيئاً بل بمنزلة العدم ، فهذه الجملة هي التي وقعت خبراً لأن ، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود . وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي . وقال ابن كيسان : إن خبر إن { سواء } ، وما بعده يقوم مقام الصلة . وقال محمد بن يزيد المبرّد : { سواء } رفع بالابتداء ، وخبره { أأنذرتهم أم لم تنذرهم } ، والجملة خبر « إن » . والختم : مصدر ختمت الشيء ، ومعناه : التغطية على الشيء ، والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه ختم الكتاب ، والباب ، وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ، ولا يوضع فيه غيره . والغشاوة : الغطاء ، ومنه غاشية السرج ، والمراد بالختم والغشاوة هنا : هما المعنويان لا الحسيان ، أي : لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها ، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم ، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختماً حسياً ، والمستوثق منها استيثاقاً حقيقياً ، والمغطاة بغطاء مدرك ، استعارة أو تمثيلاً ، وإسناد الختم إلى الله قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة ، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف ، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه .

وقد اختلف في قوله تعالى { وعلى سَمْعِهِمْ } هل هو داخل في حكم الختم ، فيكون معطوفاً على القلوب؟ أو في حكم التغشية ، فقيل : إن الوقف على قوله { وعلى سَمْعِهِمْ } تامّ ، وما بعده كلام مستقلّ ، فيكون الطبع على القلوب والأسماع ، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة ، وقد قرىء « غشاوة » بالنصب . قال ابن جرير : يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ويحتمل أن يكون نصبها على الإتباع على محلّ { وعلى سمعهم } ، كقوله تعالى { وَحُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] وقول الشاعر :
علفتها تبناً وماءً بارداً ... وإنما وحد السمع مع جمع القلوب والأبصار؛ لأنه مصدر يقع على القليل والكثير والعذاب : هو ما يؤلم ، وهو مأخوذ من الحبس والمنع ، يقال في اللغة : أعذبه عن كذا : حبسه ومنعه ، ومنه عذوبة الماء؛ لأنها حبست في الإناء حتى صفت . وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ، ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أيضاً في تفسير الآية : أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فكيف يسمعون منك إنذاراً وتحذيراً ، وقد كفروا بما عندهم من علمك { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة } .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَتَ الله كُفْرًا } [ إبراهيم : 28 ] قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر ، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان والحكم بن العاص . وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله : { ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } قال : أوعظتهم أم لم تعظهم .
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال : أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم ، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون ، وجعل على أبصارهم : يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون . وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } [ الشورى : 24 ] وقال : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } [ الجاثية : 23 ] . قال ابن جرير في معنى الختم : والحق عندي في ذلك ما صحّ نظيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر إسناداً متصلاً بأبي هريرة ، قال : قال رسول الله : " إنّ المؤمن إذا أذنب ذنباً كان نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه " فذلك الران الذي قال الله : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] » . وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصححه ، والنسائي . ثم قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع ، فلا يكون إليها مسلك ، ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو : الختم الذي ذكره الله في قوله : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ } نظير الطبع ، والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلها ، فلذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضّ خاتمه ، وحلّ رباطه عنها .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص ، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص ، ثم ذكر ثالثاً المنافقين وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين ، بل صاروا فرقة ثالثة؛ لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى ، وفي الباطن الطائفة الثانية ، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار . وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفاً ، وهو من النوس ، وهو : الحركة ، يقال : ناس ينوس : أي تحرّك ، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه ، واللام الداخلة عليه للجنس ، و « من » تبعيضية : أي بعض الناس ، و « من » موصوفة : أي ومن الناس ناس يقول . والمراد باليوم الآخر : الوقت الذي لا ينقطع ، بل هو دائم أبداً . والخداع في أصل اللغة : الفساد ، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي ، وأنشد :
أبيض اللون رقيقٌ طعمه ... طيبُ الرِّيقِ إذا الرِّيقُ خدعْ
وقيل : أصله الإخفاء ، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء ، حكاه ابن فارس ، وغيره . والمراد من مخادعتهم لله : أنهم صنعوا معه صنع المخادعين ، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع . وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل ، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم . والمراد بالمخادعة من الله : أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء ، فكأنه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه . والمراد بمخادعة المؤمنين لهم : هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهراً ، وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم ، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر .
والمراد بقوله تعالى : { وَمَا يخادعون إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين لأنفسهم ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن . وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك ، ومن هذا قول من قال : من خادعته فانخدع لك فقد خدعك . وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { يخادعون } في الموضعين ، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني { يخدعون } . والمراد بمخادعتهم أنفسهم : أنهم يمنونها الأمانيّ الباطلة ، وهي كذلك تمنيهم . قال أهل اللغة : شعرت بالشيء فطنت . قال في الكشاف : والشعور علم الشيء علم حس ، من الشعار ومشاعر الإنسان : حواسه . والمعنى : أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له . والمراد بالأنفس هنا ذواتهم لا سائر المعاني التي تدخل في مسمى النفس كالروح والدم والقلب .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم .

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : والمراد بهذه الآية المنافقون . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله . وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال : لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } . وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له : ما النفاق؟ قال : أن يتكلم بالإسلام ولا يعمل به .
وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة ، «أن قائلاً من المسلمين قال : يا رسول الله ما النجاة غداً؟ " قال : لا تخادع الله " قال : وكيف نخادع الله؟ قال : " أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره ، فاتقوا الرياء فإنه الشرك بالله فإن المرائي ينادي يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء : يا كافر يا فاجر يا خاسر يا غادر ، ضلّ عملك وبطل أجرك فلا خلاق لك اليوم عند الله ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع ، وقرأ آيات من القرآن " { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا } [ الكهف : 110 ] الآية ، و { إِنَّ المنافقين يخادعون الله } [ النساء : 142 ] الآية . وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال : سألت ابن زيد عن قوله : { يخادعون الله والذين ءامَنُوا } قال : هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا أنهم مؤمنون بما أظهروه . وعن قوله : { وَمَا يخادعون إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أنهم ضرّوا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله { يخادعون الله } قال : يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك .

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

المرض : كل ما يخرج به الإنسان عن حدّ الصحة ، من علة أو نفاق أو تقصير في أمر ، قاله ابن فارس . وقيل : هو الألم ، فيكون على هذا مستعاراً للفساد الذي في عقائدهم إما شكاً ونفاقاً ، أو جحداً وتكذيباً ، وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها ، مبالغة في تعلق هذا الداء بتلك القلوب ، لما كانوا عليه من شدّة الحسد ، وفرط العداوة . والمراد بقوله { فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا } الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى الله عليه وسلم من النعم ، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية . ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق . والأليم المؤلم أي : الموجع ، و«ما» في قوله : { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } مصدرية أي : بتكذيبهم وهو : قولهم { آمنا بالله وباليوم الآخر } [ البقرة : 8 ] والقراء مجمعون على فتح الراء من قوله { مرض } ، إلا ما رواه الأصمعيّ عن أبي عمرو أنه : قرأ بإسكان الراء ، وقرأ حمزة وعاصم ، والكسائي { يَكْذِبُونَ } بالتخفيف ، والباقون بالتشديد .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قال : شكّ { فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا } قال : شكاً . وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قال : النفاق { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال : نكال موجع { بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } قال : يبدّلون ويحرفون . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أوّلاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كل شيء في القرآن أليم ، فهو الموجع . وأخرج أيضاً عن أبي العالية مثله . وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله أيضاً . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة { فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي : ريبة وشكّ في أمر الله { فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا } ريبة وشكاً { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } قال : إياكم والكذب فإنه باب النفاق . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : هذا مرض في الدين ، وليس مرضاً في الأجساد وهم المنافقون . والمرض : الشك الذي دخل في الإسلام . وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض : الرياء .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)

{ إذا } في موضع نصب على الظرف والعامل فيه { قالوا } المذكور بعده . وفيه معنى الشرط . والفساد ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها . فسد الشيء يفسد فساداً وفسوداً فهو فاسد وفسيد . والمراد في الآية : لا تفسدوا في الأرض بالنفاق ، وموالاة الكفرة ، وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الزرائع كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع .
و { إنما } من أدوات القصر ، كما هو مبين في علم المعاني . والصلاح ضد الفساد . لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة ، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو : الفساد ، إلى الاتصاف بما هو ضدّ لذلك وهو الصلاح ، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم ، فردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ؛ لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده ، ولما في إن من التأكيد ، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له ، وردّهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّاً مؤكداً مبالغاً فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من { إنما } . وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لما كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص ، ظنوا أن ذلك ينفق على النبي صلى الله عليه وسلم ، وينكتم عنه بطلان ما أضمروه ، ولم يشعروا بأنه عالم به ، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء ، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد . ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحاً لما استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : الفساد هنا هو : الكفر والعمل بالمعصية . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال : إذا ركبوا معصية فقيل لهم : لا تفعلوا كذا قالوا إنما نحن على الهدى . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن سلمان؛ أنه قرأ هذه الآية فقال : لم يجىء أهل هذه الآية بعد . قال ابن جرير : يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فساداً من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد انتهى . ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح؛ لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة .

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)

أي : وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحقّ والصواب ، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاءاً واستخفافاً فتسببوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول . وحصر السفاهة وهي : رقة الحلوم وفساد البصائر ، وسخافة العقول فيهم ، مع كونهم لا يعلمون أنهم كذلك ، إما حقيقة أو مجازاً ، تنزيلاً لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه ، وأنهم متصفون به . ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم؛ لأنه لا يتسافه إلا جاهل ، والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف ، أي : إيماناً كإيمان الناس .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءامِنُواْ كَمَا ءامَنَ الناس } أي : صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنه نبيّ ورسول ، وأن ما أنزل عليه حق ، { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء } يعنون أصحاب محمد ، { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السفهاء } يقول : الجهال { ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } يقول : لا يعقلون . وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واهٍ أنه قال : آمنوا كما آمن الناس أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : { كَمَا آمَنَ السفهاء } قال : يعنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله . وروى الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود : أي : إذا قيل لهم ، يعني اليهود { ءامنوا كما آمن الناس } عبد الله بن سلام ، وأصحابه { قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السفهاء } .

وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

{ لَقُواْ } أصله لقيوا ، نقلت الضمة إلى القاف ، وحذفت الياء ، لالتقاء الساكنين . ومعنى لقيته ولاقيته : استقبلته قريباً . وقرأ محمد بن السميفع اليماني ، وأبو حنيفة « لاقوا » ، وأصله لاقيوا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين . وخلوت بفلان وإليه : إذا انفردت به . وإنما عدي بإلى ، وهو يتعدى بالباء فيقال : خلوت به لا خلوت إليه؛ لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا . والشياطين جمع شيطان على التكسير . وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان ، فجعلها في موضع من كتابه أصلية ، وفي آخر زائدة ، فعلى الأوّل هو من شطن ، أي بعد عن الحق ، وعلى الثاني من شطّ ، أي : بعد أو شاط : أي بطل ، وشاط ، أي احترق ، وأشاط : إذا هلك قال [ الشاعر ] :
وقد يَشِيطُ علىَ أرمَاحِنا البَطَلُ ... أي يهلك .
وقال آخر :
وأبْيَضِ ذي تاجٍ أشَاطَت رِمَاحنُا ... لمَعْتَركٍ بين الفوَارِس أقتمَا
أي : أهلكت . وحكي سيبويه أن العرب تقول : تشيطن فلان : إذا فعل أفعال الشياطين . ولو كان من شاط لقالوا : تشيط ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
أيما شاطن عصاه عكا ... ه ورماه في السجن والأغلال
وقوله : { إِنَّا مَعَكُمْ } معناه مصاحبوكم في دينكم ، وموافقوكم عليه . والهزؤ : السخرية واللعب . قال الراجز :
قد هَزِئَتْ مني أُم طيْسلَه ... قَالَت أرَاهُ مُعْدمَاً لا مَال لَهُ
قال في الكشاف : وأصل الباب الخفة ، من الهزء ، وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ : مات على المكان . عن بعض العرب : مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني . وناقته تهزأ به ، أي تسرع وتخفّ . انتهى . وقيل أصله : الانتقام . قال الشاعر :
قد استهزءوا منهم بألفي مدجج ... سراتهم وسط الصحاصح جثم
فأفاد قولهم { إِنَّا مَعَكُمْ } أنهم ثابتون على الكفر ، وأفاد قولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } ردّهم للإسلام ورفعهم للحق ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ناشىء من قولهم : { إنا معكم } أي : إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا : إنما نحن مستهزءون بهم في تلك الموافقة ، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم ، فردّ الله ذلك عليهم بقوله : { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } أي : ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم؛ انتصافاً منهم لعباده المؤمنين ، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة .
وقد كانت العرب إذا وضعت لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفاً له في معناه . وورد ذلك في القرآن كثيراً ، ومنه { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] والجزاء لا يكون سيئة . والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق ، ومنه { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله } [ آل عمران : 54 ] و

{ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً } [ الطارق : 15 16 ] { يخادعون الله والذين ءامَنُوا } [ البقرة : 9 ] { يخادعون الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] . وهو في السنة كثير كقوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا يملّ حتى تملوا » وإنما قال { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } لأنه يفيد التجدّد وقتاً بعد وقت ، وهو : أشدّ عليهم وأنكأ لقلوبهم ، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت ، المستفاد من الجملة الإسمية ، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتاً بعد وقت ، والمتجددة حيناً بعد حين ، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ؛ لأنه يألفه ، ويوطن نفسه عليه . والمدّ : الزيادة . قال يونس بن حبيب : يقال مدّ في الشر ، وأمدّ في الخير ، ومنه { وأمددناكم بأموال وَبَنِينَ } [ الإسراء : 6 ] { وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ } [ الطور : 22 ] . وقال الأخفش : مددت له إذا تركته ، وأمددته : إذا أعطيته . وقال الفراء واللحياني : مددت فيما كانت زيادته من مثله ، يقال : مدّ النهر ، ومنه { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] وأمددت فيما كانت زيادته من غيره ، ومنه : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة } [ آل عمران : 125 ] والطغيان مجاوزة الحدّ ، والغلوّ في الكفر ، ومنه { إِنَّا لَمَّا طغى الماء } [ الحاقة : 11 ] أي : تجاوز المقدار الذي قدّرته الخُزَّان . وقوله في فرعون : { إِنَّهُ طغى } [ طه : 24 ، 43 ] أي : أسرف في الدعوى حيث قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] . والعمه والعامه : الحائر المتردد ، وذهبت إبله لعمهى : إذا لم يدر أين ذهبت ، والعمه في القلب كالعمى في العين . قال في الكشاف : العمه مثل العمى ، إلا أن العمى في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة انتهى . والمراد : أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم كما قال : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] . قال ابن جرير { فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلالاً يجدون إلى المخرج منه سبيلاً ، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشداً ولا يهتدون سبيلاً .
وقد أخرج الواحدي والثعلبي بسند واه ، لأن فيه محمد بن مروان وهو متروك ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو بعضهم قالوا : إنا على دينكم { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم } وهم إخوانهم قالوا : { إِنَّا مَعَكُمْ } على مثل ما أنتم عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ } بأصحاب محمد { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } قال : يسخر بهم للنقمة منهم { وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم } قال : في كفرهم { يَعْمَهُونَ } قال : يتردّدون . وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه .

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود في قوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شياطينهم } قال : رؤسائهم في الكفر . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك قال : { وَإِذَا خَلَوْاْ } أي : مضوا . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود ، وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : { وَيَمُدُّهُمْ } قال : يملي لهم { فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } قال : في كفرهم يتمادون . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون . وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد { يمدهم } يزيدهم { فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ } قال يلعبون ويتردّدون في الضلالة . وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نعوذ بالله من شياطين الإنس والجنّ » فقلت : يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال : « نعم » .

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

قال سيبويه : صحت الواو في { اشتروا } فرقاً بينها وبين الواو الأصلية في نحو { وألّوِ استقاموا } [ الجن : 16 ] . وقال الزَّجَّاج : حركت بالضم كما يفعل في نحن . وقرأ يحيى بن يَعْمُرُ بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين . وقرأ أبو السماك العدوي بفتحها لخفة الفتحة . وأجاز الكسائي همز الواو . والشراء هنا مستعار للاستبدال : أي : استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى : { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] فإما أن يكون معنى الشراء المعاوضة ، كما هو أصله حقيقة فلا ، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين ، فيبيعوا إيمانهم ، والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئاً بشيء . قال أبو ذؤيب :
فَإن تزعميني كُنتُ أجهَلُ فيِكمُو ... فَإنِي شَرِيْتُ الحِلْمَ بَعْدك بِالجَهْلِ
وأصل الضلالة : الحيرة ، والجور عن القصد ، وفقد الاهتداء ، وتطلق على النسيان ، ومنه قوله تعالى { قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } [ الشعراء : 20 ] ، وعلى الهلاك كقوله : { وَقَالُواْ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى الأرض } [ السجدة : 10 ] وأصل الربح الفضل . والتجارة : صناعة التاجر ، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم : ربح بيعك وخسرت صفقتك ، وهو من الإسناد المجازي ، وهو : إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل ، كما هو مقرّر في علم المعاني . والمراد : ربحوا وخسروا . والاهتداء قد سبق تحقيقه : أي : وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة ، وقيل في سابق علم الله .
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { اشتروا الضلالة بالهدى } أي : الكفر بالإيمان . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : آمنوا ثم كفروا . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : استحبوا الضلالة على الهدى ، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

{ مّثْلُهُمْ } مرتفع بالابتداء ، وخبره إما الكاف في قوله { كَمَثَلِ } لأنها اسم : أي مثل ، مثل كما في قول الأعشى :
أتنتهون ولن تنهى ذوى شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول
امرىء القيس :
ورحنا بِكَابنِ الماء يجنب وسطنا ... تصوّب فيه العين طوراً وترتقى
أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء ، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً ، أي مثلهم مستنير كمثل ، فالكاف على هذا حرف . والمثل : الشبه ، والمثلان : المتشابهان و { الذى } موضوع موضع الذين : أي كمثل الذين استوقدوا ، وذلك موجود في كلام العرب ، كقول الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أمّ خالد
ومنه { وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ } [ التوبة : 69 ] ومنه { والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون } [ الزمر : 33 ] . ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهيبها ، و { استوقد } بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء زائدتان ، قاله الأخفش . ومنه قول الشاعر :
ودَاعٍ دَعا يا من يُجيب إلى الندا ... فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مُجيبُ
أي : يجبه . والإضاءة فرط الإنارة ، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً . و { مَا حَوْلَهُ } قيل ما زائدة . وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضات وحوله منصوب على الظرفية ، و { ذَهَبَ } من الذهاب ، وهو زوال الشيء . و { *تركهم } أي : أبقاهم { ظلمات } جمع ظلمة . وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل . وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام ، وهي عدم النور . و { صُمٌّ } وما بعده خبر مبتدأ محذوف : أي هم . وقرأ ابن مسعود " صماً بكماً عمياً " بالنصب على الذم ، ويجوز أن ينتصب بقوله { تركهم } . والصمم : الانسداد ، يقال قناة صماء : إذا لم تكن مجوّفة ، . وصممت القارورة : إذا سددتها ، وفلان أصمّ : إذا انسدت خروق مسامعه . والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم ، فهو الأخرس . وقيل الأخرس والأبكم واحد . والعمى : ذهاب البصر . والمراد بقوله : { فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي : إلى الحق ، وجواب لما في قوله : { فَلَمَّا أَضَاءتْ } ، قيل هو : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } وقيل : محذوف تقديره : طفئت فبقوا حائرين . وعلى الثاني فيكون قوله : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر .
ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام ، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت ، فإنه يعود إلى الظلمة ، ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة ، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده . وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل ، لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت . ومنه قولهم «للباطل صولة ثم يضمحلّ» وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني ، ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ، ومواعظه .

قال ابن جرير : إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } [ البقرة : 8 ] . وقال ابن كثير : إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } [ المنافقون : 3 ] . قال ابن جرير : وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال { رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ الأحزاب : 19 ] أي : كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه { وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ } يقول : في عذاب { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } فهم لا يسمعون الهدى ، ولا يبصرونه ولا يعقلونه . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } قالوا : إن ناساً دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينما هو كذلك إذا طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى . فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك ، فأسلم فعرف الحلال من الحرام ، والخير من الشرّ ، فبينما هو كذلك إذ كفر ، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشرّ ، فهم صم بكم هم الخرس ، فهم لا يرجعون إلى الإسلام .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } قال : ضربه الله مثلاً للمنافق ، وقوله { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمة فهو ضلالهم . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه . وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة ، والحسن والسدي ، والربيع بن أنس نحو ما تقدم .

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين : أي : مثلوهم بهذا أو هذا ، وهي وإن كانت في الأصل للشك ، فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك وقيل : إنها بمعنى الواو ، قاله : الفراء وغيره ، وأنشد :
وَقَد زَعَمَت لَيْلى بأني فَاجِرٌ ... لِنَفسِي تقَاهَا أو عَلَيَها فُجُورَها
وقال آخر :
نال الخِلافَة أو كانت لَهُ قَدَراً ... كَمَا أتَى رَبَه ُموسَى على قَدَرٍ
والمراد بالصِّيب : المطر ، واشتقاقه من صاب يصوب : إذا نزل . قال علقمة :
فَلا تَعِدلِي بَيني وبَيَن مُعَمرَّ ... سَقَتْك رَوَايا الموتِ حَيْثُ تُصَوُب
وأصله صيوب ، اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعلوا في مِّيت وسِّيد . والسماء في الأصل : كل ما علاك فأظلك . ومنه قيل لسقف البيت : سماء . والسماء أيضاً : المطر؛ سمي بها لنزوله منها ، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه : لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب ، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب ، فمنه قول حسان :
ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفيها الدوامس والسماء
وقال آخر :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... والظلمات قد تقدّم تفسيرها ، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم . والرعد : اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب . وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال : «سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال : " ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله " قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : " زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر " قالت : صدقت» الحديث بطوله ، وفي إسناده مقال . قال القرطبي : وعلى هذا التفسير أكثر العلماء ، وقيل : هو : اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها ، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة ، وجهلة المتكلمين ، وقيل : غير ذلك ، والبرق : مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب ، وإليه ذهب كثير من الصحابة ، وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق . وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة : إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك .
وقوله : { يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم } جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلاً قال : فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم . وإطلاق الإصبع على بعضها مجاز مشهور ، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الإصبع لا كلها . والصواعق : - ويقال الصواقع : - هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها ، ويدلّ على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة .

ومنهم من قال : إنها نار تخرج من فم الملك . وقال الخليل : هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد ، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه . وقال أبو زيد الصاعقة : نار تسقط من السماء في رعد شديد . وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم : إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها . وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ماله مزيد فائدة وإيضاح .
ونصب { حَذَرَ الموت } على أنه مفعول لأجله . وقال الفراء : منصوب على التمييز ، والموت : ضدّ الحياة . والإحاطة ، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه . وقوله { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم } جملة مستأنفة ، كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ ويكاد : يقارب . والخطف : الأخذ بسرعة ، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته . وقرأ مجاهد { يَخْطِفُ } بكسر الطاء ، والفتح أفصح . وقوله : { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } كلام مستأنف كأنه قيل : كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق ، وسكونه؟ وهو : تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب ، { وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم } بالزيادة في الرعد ، والبرق { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } وهذا من جملة مقدوراته سبحانه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : { أَوْ كَصَيّبٍ } هو : المطر ضرب مثله في القرآن { فِيهِ ظلمات } يقول ابتلاء { وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } تخويف { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم } يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين { كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا ، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] الآية . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قالوا : كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد ، وصواعق ، وبرق ، فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا ، فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ، ووضعا أيديهما في يده ، وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء ، أو يذكروا بشيء ، فيقتلوا ، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه أي : فإذا كثرت أموالهم ، وأولادهم ، وأصابوا غنيمة ، وفتحا مشو فيه ، وقالوا : إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق ، واستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا ، فكانوا إذا هلكت أموالهم ، وأولادهم ، وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وارتدوا كفراً كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : { أَوْ كَصَيّبٍ } قال : هو ، المطر وهو : مثل للمنافق في ضوئه ، يتكلم بما معه من كتاب الله مراآة الناس ، فإذا خلا ، وحده عمل بغيره ، فهو : في ظلمة ما أقام على ذلك . وأما الظلمات : فالضلالات . وأما البرق : فالإيمان ، وهم أهل الكتاب ، وإذا أظلم عليهم : فهو : رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أيضاً نحو ما سلف . وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين .
واعلم أن المنافقين أصناف ، فمنهم من يظهر الإسلام ، ويبطن الكفر ، ومنهم من قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما " ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه ، واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : من إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " وورد بلفظ " أربع " ، وزاد «وإذا خاصم فجر» . وورد بلفظ «وإذا عاهد غدر» . وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين ، والكافرين ، والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة . و " يا " حرف نداء ، والمنادى " أيّ " : وهو اسم مفرد مبني على الضم ، و " ها " حرف تنبيه مقحم بين المنادى ، وصفته . قال سيبويه : كأنك كررت «يا» مرتين ، وصار الاسم بينهما كما قالوا : ها هو ذا . وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس ، والعبادة ، وإنما خص نعمة الخلق ، وامتنّ بها عليهم؛ لأن جميع النعم مترتبة عليها ، وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها ، وأيضاً ، فالكفار مقرُّون بأن الله هو : الخالق { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] فامتن عليهم بما يعترفون به ، ولا ينكرونه . وفي أصل معنى الخلق ، وجهان : أحدهما التقدير ، يقال : خلقت الأديم للسقاء : إذا قدّرته قبل القطع . قال زهير :
ولأنت تفرى ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفرى
الثاني : الإنشاء ، والإختراع ، والإبداع . و " لعل " أصلها الترجي ، والطمع ، والتوقع ، والإشفاق ، وذلك مستحيل على الله سبحانه ، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم : افعلوا ذلك على الرجاء منكم ، والطمع ، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه . وقيل : إن العرب استعملت " لعل " مجردة من الشك بمعنى لام " كي " . والمعنى هنا : لتتقوا ، وكذلك ما وقع هذا الموقع ، ومنه قول الشاعر :
وَقُلتْمُ لَنَا كُفُّوا الحروبَ لَعلنا ... نَكُفّ وَوَثَّقْتُم لَنَا كُلَّ مَوثِقِ
فَلَمَّا كفَفَنْاَ الحَربَ كانت عُهُودُكمُ ... كَشَبّه سَرَابٍ في المَلأ مَُتَألقِ
أي : كفوا عن الحرب لنكف ، ولو كانت " لعل " للشك لم يوثقوا لهم كل موثق ، وبهذا قال جماعة منهم قطرب . وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء كأنه قال : متعرّضين للتقوى . و { جعل } هنا بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين ، ومنه قول الشاعر :
وقد جعلت أرى الإثنين أربعة ... والأربع اثنين لما هدَّني الكبر
و { فِرَاشاً } أي : وطاء يستقرون عليها . لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم ، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ، ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم ، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم ، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال : { وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] . وأصل البناء : وضع لبنة على أخرى ، ثم امتنّ عليهم بإنزال الماء من السماء . وأصل ماء موه ، قلبت الواو لتحركها ، وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه ، فاجتمع حرفان خفيفان ، فقلبت الهاء همزة . والثمرات جمع ثمرة . والمعنى : أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات ، وأنواعاً من النبات ، ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين . والأنداد جمع ندّ ، وهو المثل والنظير . وقوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، والخطاب للكفار ، والمنافقين .

فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم ، وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال : { ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 13 ] { ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } [ البقرة : 12 ] { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ } [ البقرة : 18 ] . فيقال : إن المراد أن جهلهم ، وعدم شعورهم لا يتناول هذا ، أي : كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد ، فإنهم كانوا يعلمون هذا ، ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية . وقد يقال : المراد ، وأنتم تعلمون ، وحدانيته بالقوّة ، والإمكان لو تدبرتم ، ونظرتم . وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج ، وترك التقليد . قال ابن فُورَك : المَراد وتجعلون لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد . انتهى . وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد .
وقد أخرج البزار ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : ما كان { يا ايها الذين آمنوا } فهو أنزل بالمدينة ، وما كان { يُذْهِبْكُمْ يا أَيُّهَا الناس } فهو أنزل بمكة . وروى نحو ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وصححه . وروى نحوه أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر من قول علقمة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، وابن المنذر عن الضحاك مثله . وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران . وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة ، وابن مردويه عن عروة ، وعكرمة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَيُّهَا الناس } قال : هي للفريقين جميعاً من الكفار والمؤمنين . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { لَعَلَّكُمْ } يعني « كي » . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة؛ قال : لعل من الله واجب .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً } [ البقرة : 22 ] أي : تمشون عليها وهي : المهاد والقرار { والسماء بِنَاء } [ البقرة : 22 ] قال : كهيئة القبة وهي سقف الأرض وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل : المطر من السماء أم من السحاب؟ قال : من السماء . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن كعب قال : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض ، والبذر . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال : المطر ماء يخرج من تحت العرش ، فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا ، فيجتمع في موضع يقال له : الأبزم ، فتجيء السحاب السود ، فتدخله ، فتشربه مثل شرب الإسفنجة ، فيسوقها الله حيث يشاء .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة قال : ينزل الماء من السماء السابعة ، فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال : المطر منه من السماء ، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر ، فَيُعْذبُهُ الرعد والبرق . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال : إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف ، فكان لؤلؤاً . وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي الدنيا في كتاب المطر ، وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ساعةٍ من ليلٍ ، ولا نهارٍ إلا والسماء تمطر فيها ، يصرفه الله حيث يشاء " وأخرج ابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر ، أما لو أنكم بسطتم نطعاً لرأيتموه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : المطر . مزاجة من الجنة ، فإذا كثر المزاج عظمت البركة ، وإن قلّ المطر ، وإذا قلّ المزاج قلت البركة ، وإن كثر المطر . وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه حيث يشاء ، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر ، ومن يرزقه ، ومن يخرج منه مع كل قطرة .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } أي : لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضرّ ، ولا تنفع { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أَندَاداً } قال : أشباهاً . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود { أَندَاداً } قال : أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة { أنداداً } قال : شركاء .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في الأدب المفرد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال : «قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت ، قال : " جعلتني لله ندا ما شاء الله وحده " وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفى قالت : «جاء حبر من الأحبار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون ، قال : " وكيف؟ " قال : يقول أحدكم لا والكعبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من حلف ، فليحلف بربّ الكعبة " فقال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً ، قال : " وكيف ذلك " قال : يقول أحدكم ما شاء الله وشئت ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فمن قال منكم " ما شاء الله قال ثم شئت " وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان " وأخرج أحمد ، وابن ماجه ، والبيهقي ، وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة : «أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرّ برهط من اليهود فقال : أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله ، فقالوا : وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله ، وشاء محمد . ثم مرّ برهط من النصارى فقال : أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله ، قالوا : وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبح أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فخطب ، فقال : " إن طفيلاً رأى رؤيا ، وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم ، فلا تقولوها ، ولكن قولوا ما شاء الله وحده لا شريك له " وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله حياتك يا فلان وحياتي ، وتقول : لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص ، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل لولا الله وفلان ، هذا كله شرك . وأخرج البخاري ، ومسلم عن ابن مسعود قال : «قلت : يا رسول الله أي : الذنب أعظم؟ " قال : أن تجعل لله ندّاً ، وهو خلقك " الحديث .

وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

{ فِى رَيْبٍ } أي : شك { مما نزلنا على عبدنا } أي : القرآن أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم . والعبد مأخوذ من التعبد ، وهو التذلل . والتنزيل التدريج ، والتنجيم . وقوله : { فَاتُواْ } الفاء جواب الشرط ، وهو : أمر معناه التعجيز . لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ، ويبطل الشرك ، عقبه بما هو : الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما يدفع الشبهة في كون القرآن معجزة ، فتحدّاهم بأن يأتوا بسورة من سوره . والسورة الطائفة من القرآن المسماة باسم خاصّ ، سميت بذلك ، لأنها مشتملة على كلماتها كاشتمال سور البلد عليها . و«من» في قوله { مّن مّثْلِهِ } زائدة لقوله { فأتوا بسورة مثله } . والضمير في { مثله } عائد على القرآن عند جمهور أهل العلم . وقيل : عائد على التوراة والإنجيل ، لأن المعنى : فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدّق ما فيه . وقيل يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى من بشر مثل محمد : أي : لا يكتب ، ولا يقرأ . والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو المعاون ، والمراد هنا : الآلهة .
ومعنى { دُونِ } : أدنى مكان من الشيء ، واتسع فيه حتى استعمل في تخطي الشيء إلى شيء آخر ، ومنه ما في هذه الآية ، وكذلك قوله تعالى : { لا يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] وله معان أخر ، منها التقصير عن الغاية ، والحقارة ، يقال هذا الشيء دون : أي : حقير ، ومنه :
إذا ما علا المرءُ رامَ العُلا ... وَيقنعُ بالدون من كان دُونا
والقرب يقال : هذا دون ذاك : أي : أقرب منه ، ويكون إغراء ، تقول : دونك زيداً : أي خذه من أدنى مكان { مِن دُونِ الله } متعلق بادعوا : أي : ادعوا الذين يشهدون لكم من دون الله إن كنتم صادقين فيما قلتم ، من أنكم تقدرون على المعارضة ، وهذا تعجيز لهم ، وبيان لانقطاعهم . والصدق خلاف الكذب ، وهو مطابقة الخبر للواقع ، أو للاعتقاد أولهما على الخلاف المعروف في علم المعاني
{ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ } يعني فيما مضى { وَلَن تَفْعَلُواْ } أي : تطيقوا ذلك ، فيما يأتي ، وتبين لكم عجزكم عن المعارضة { فاتقوا النار } بالإيمان بالله ، وكتبه ، ورسله ، والقيام بفرائضه ، واجتناب مناهيه ، وعبر عن الإتيان بالفعل ، لأن الإتيان فعل من الأفعال لقصد الاختصار ، وجملة { لن تفعلوا } لا محل لها من الإعراب ، لأنها اعتراضية ، و " لن " للنفي المؤكد لما دخلت عليه ، وهذا من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها؛ لأنها لم تقع المعارضة من أحد من الكفرة في أيام النبوّة ، وفيما بعدها ، وإلى الآن . والوَقُود بالفتح : الحطب ، وبالضم : التوقد أي : المصدر ، وقد جاء فيه الفتح . والمراد بالحجارة الأصنام التي كانوا يعبدونها؛ لأنهم قرنوا أنفسهم بها في الدنيا ، فجعلت وقوداً للنار معهم .

ويدل على هذا قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] أي : حطب جهنم . وقيل المراد بها حجارة الكبريت ، وفي هذا من التهويل مالا يقدّر قدره من كون هذه النار تتقد بالناس ، والحجارة ، فأوقدت بنفس ما يراد إحراقه بها .
والمراد بقوله : { أُعِدَّتْ } جعلت عدّة لعذابهم ، وهيئت لذلك . وقد كرّر الله سبحانه تحدّي الكفار بهذا في مواضع في القرآن ، منها هذا ، ومنها قوله تعالى في سورة القصص : { قُلْ فَأْتُواْ بكتاب مّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صادقين } [ القصص : 49 ] وقال في سورة سبحان : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا } [ الإسراء : 88 ] وقال في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين } [ هود : 13 ] في سورة يونس : { وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يُفْتَرِى مِن دُونِ الله ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين * أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين } [ يونس : 37 - 38 ] .
وقد وقع الخلاف بين أهل العلم هل وجه الإعجاز في القرآن هو : كونه في الرتبة العلية من البلاغة الخارجة عن طوق البشر ، أو كان العجز عن المعارضة للصرفة من الله سبحانه لهم عن أن يعارضوه ، والحق الأول ، والكلام في هذا مبسوط في مواطنه .
وقد أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي ، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من نبيّ من الأنبياء إلا أعطى ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } قال : هذا قول الله لمن شكّ من الكفار فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ } قال : في شك { مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } قال : من مثل القرآن حقاً ، وصدقاً لا باطل فيه ، ولا كذب . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن مجاهد { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } قال : مثل القرآن { وادعوا شُهَدَاءكُم } قال : ناس يشهدون لكم إذا أتيتم بها أنها مثله . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { شُهَدَاءكُمُ } قال : أعوانكم على ما أنتم عليه { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } فقد بين لكم الحق .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } يقول : لن تقدروا على ذلك ، ولن تطيقوه .

وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد؛ أنه كان يقرأ كل شيء في القرآن ، " وقودها " برفع الواو الأولى ، إلا التي في السماء ذات البروج { النار ذَاتِ الوقود } [ البروج : 5 ] - بنصب الواو- وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إن الحجارة التي ذكرها الله في القرآن في قوله : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] حجارة من كبريت خلقها الله عنده كيف شاء . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير أيضاً عن عمرو بن ميمون مثله أيضاً . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال : «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَقُودُهَا الناس والحجارة } قال : " أوقد عليها ألف عام حتى احمرّت ، وألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة لا يطفأ لهبها " وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً مثله . وأخرج أحمد ، ومالك ، والبخاري ، ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ، قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية؟ قال ، فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهنّ مثل حرّها " وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن ماجه ، والحاكم وصححه عن أنس مرفوعاً ، نحوه أيضاً . وأخرج مالك في الموطأ ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : أترونها حمراء مثل ناركم هذه التي توقدون ، إنها لأشد سواداً من القار . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { أُعِدَّتْ للكافرين } قال : أي : لمن كان مثل ما أنتم عليه من الكفر .

وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين ليجمع بين الترغيب ، والترهيب ، والوعد ، والوعيد كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز ، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته ، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه . والتبشير : الإخبار بما يظهر أثره على البشرة ، وهي الجلدة الظاهرة ، من البشر ، والسرور . قال القرطبي : أجمع العلماء على أن المكلف إذا قال : مَن بشرني مِن عبيدي ، فهو حرّ ، فبشره واحد من عبيده ، فأكثر ، فإن أوّلهم يكون حرّاً دون الثاني ، واختلفوا إذا قال : مَنْ أخبرني مِن عبيدي بكذا ، فهو حرّ ، فقال أصحاب الشافعي : يعمّ لأن كل واحد منهم مخبر ، وقال علماؤنا : لا؛ لأن المكلف إنما قصد خبراً يكون بشارة ، وذلك مختص بالأول . انتهى . والحق أنه إن أراد مدلول الخبر عتقوا جميعاً ، وإن أراد الخبر المقيد بكونه بشارة عتق الأول ، فالخلاف لفظي . والمأمور بالتبشير قيل : هو : النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو : كل أحد كما في قوله صلى الله عليه وسلم « بشر المشائين » وهذه الجمل ، وإن كانت مصدرة بالإنشاء ، فلا يقدح ذلك في عطفها على ما قبلها ، لأن المراد عطف جملة وصف ثواب المطيعين على جملة ، وصف عقاب العاصين من دون نظر إلى ما اشتمل عليه الوصفان من الأفراد المتخالفة خبراً ، وأنشاء . وقيل : إن قوله : { وَبَشّرِ } معطوف على قوله : { فاتقوا النار } [ البقرة : 24 ] ، وليس هذا بجيد .
و { الصالحات } الأعمال المستقيمة . والمراد هنا : الأعمال المطلوبة منهم المفترضة عليهم ، وفيه ردّ على من يقول إن الإيمان بمجرده يكفي ، فالجنة تنال بالإيمان ، والعمل الصالح . والجنات : البساتين ، وإنما سميت جنات؛ لأنها تجنّ من فيها : أي : تستره بشجرها ، وهو : اسم لدار الثواب كلها ، وهي مشتملة على جنات كثيرة . والأنهار جمع نهر ، وهو : المجرى الواسع فوق الجدول ودون البحر ، والمراد : الماء الذي يجري فيها ، وأسند الجري إليها مجازاً ، والجاري حقيقة هو الماء كما في قوله تعالى { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] أي : أهلها وكما قال الشاعر :
ونبئت أن النّارَ بَعْدَكَ أوقِدَتْ ... واستب بَعدَكَ يا كُليبُ المْجلِسُ
والضمير في قوله { مِن تَحْتِهَا } عائد إلى الجنات؛ لاشتمالها على الأشجار ، أي : من تحت أشجارها . وقوله : { كُلَّمَا رُزِقُواْ } وصف آخر للجنات ، أو هو : جملة مستأنفة كأن سائلاً قال : كيف تمارها . و { مِن ثَمَرَةٍ } في معنى من أي ثمرة : أي نوع من أنواع الثمرات؟ والمراد بقوله { هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } أنه شبيهه ، ونظيره ، لا أنه هو ، لأن ذات الحاضر لا تكون عين ذات الغائب لاختلافهما ، وذلك أن اللون ، يشبه اللون ، وإن كان الحجم ، والطعم ، والرائحة ، والماوية مختلفة . والضمير في « به » عائد إلى الرزق ، وقيل : المراد أنهم أتوا بما يرزقونه في الجنة متشابهاً ، فما يأتيهم في أول النهار يشابه الذي يأتيهم في آخره ، فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل ، فإذا أكلوا وجدوا له طعماً غير طعم الأول .

و { متشابها } منصوب على الحال . والمراد بتطهير الأزواج أنه لا يصيبهن ما يصيب النساء من قذر الحيض ، والنفاس ، وسائر الأدناس التي لا يمتنع تعلقها بنساء الدنيا . والخلود : البقاء الدائم الذي لا ينقطع ، وقد يستعمل مجازاً فيما يطول ، والمراد هنا الأوّل .
وقد أخرج ابن ماجه ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، والبزار ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والبيهقي ، وابن مردويه ، عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا هل مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها ، هي : وربّ الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة خضراء » الحديث .
والأحاديث في وصف الجنة كثيرة جداً ثابتة في الصحيحين ، وغيرهما . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنهار الجنة تفجر من تحت جبال مسك » وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن حبان ، والبيهقي في البعث وصححه عن ابن مسعود نحوه ، موقوفاً .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك في قوله : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار } قال : يعني المساكن تجري أسفلها أنهارها . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً } قال : أتوا بالثمرة في الجنة ، فنظروا إليها { قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } في الدنيا { وَأُتُواْ بِهِ متشابها } في اللون والمرأى ، وليس يشبه الطعم . وأخرج عبد بن حميد ، عن علي بن زيد ، وقتادة نحوه . وأخرج مسدد في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبى حاتم ، عن ابن عباس قال : ليس في الدنيا مما في الجنة شيء إلا الأسماء . وأخرج عبد بن حميد ، عن عكرمة قال : قولهم { مِن قَبْلُ } معناه : هذا مثل الذي كان بالأمس . وأخرج ابن جرير عن يحي بن أبي كثير ، نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد قال { متشابها } في اللون مختلفاً في الطعم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الحسن في قوله { متشابها } قال : خيار كله يشبه بعضه بعضاً لا رذل فيه ، ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة مثله .
وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : « وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ »

قال : « من الحيض ، والغائط ، والبزاق ، والنخامة » . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : من القذر ، والأذى . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود قال : لا يحضن ، ولا يحدثن ، ولا يتنخمن . وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفات أهل الجنة في الصحيحين ، وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة أن أهل الجنة لا يبصقون ، ولا يتمخطون ، ولا يتغوطون . وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة في الصحيحين ، وغيرهما من صفات نساء أهل الجنة مالا يتسع المقام لبسطه ، فلينظر في دواوين الإسلام ، وغيرها .
وأخرج ابن جرير ، وابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَهُمْ فِيهَا خالدون } أي : خالدون أبداً ، يخبرهم أن الثواب بالخير ، والشرّ مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَهُمْ فِيهَا خالدون } يعني لا يموتون . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، ثم يقوم مؤذن بينهم : يا أهل النار لا موت ، ويا أهل الجنة لا موت ، كل هو : خالد فيما هو فيه » وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة نحوه .
وأخرج الطبراني ، والحاكم وصححه من حديث معاذ نحوه . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم من حديث ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو قيل لأهل النار : إنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ، ولو قيل لأهل الجنة : إنكم ماكثون عدد كل حصاة لحزنوا ، ولكن جعل لهم الأبد » .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

أنزل الله هذه الآية ردّاً على الكفار لما أنكروا ما ضربه سبحانه من الأمثال كقوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] وقوله : { أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء } [ البقرة : 19 ] فقالوا الله أجلّ ، وأعلا من أن يضرب الأمثال . وقال الرازي : إنه تعالى لما بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً أورد ها هنا شبهة أوردها الكفار قدحاً في ذلك ، وأجاب عنها ، وتقرير الشبهة أنه جاء في القرآن ذكر النحل ، والعنكبوت ، والنمل ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفصحاء فاشتمال القرآن عليها يقدح في فصاحته فضلاً عن كونه معجزاً . وأجاب الله عنها بأن صغر هذه الأشياء لا تقدح في الفصاحة إذا كان ذكرها مشتملاً على حكمة بالغة . انتهى . ولا يخفاك أن تقرير هذه الشبهة على هذا الوجه ، وإرجاع الإنكار إلى مجرد الفصاحة لا مستند له ، ولا دليل عليه ، وقد تقدّمه إلى شيء من هذا صاحب الكشاف ، والظاهر ما ذكرناه أوّلا لكون هذه الآية جاءت بعقب المثلين اللذين هما مذكوران قبلها ، ولا يستلزم استنكارهم لضرب الأمثال بالأشياء المح؛ كذا في الكشاف ، وتبعه الرازي في مفاتيح الغيب . وقال القرطبي : أصل الاستحياء الانقباض عن الشيء ، والامتناع منه؛ خوفاً من مواقعة القبيح ، وهذا محال على الله . انتهى . وقد اختلفوا في تأويل ما في هذه الآية من ذكر الحياء فقيل : ساغ ذلك لكونه ، واقعاً في الكلام المحكي عن الكفار ، وقيل : هو : من باب المشاكلة كما تقدم ، وقيل هو : جارٍ على سبيل التمثيل . قال في الكشاف : مثَّل تركه تخييب العبد ، وأنه لا يردّ يديه صفراً من عطائه لكرمه بترك من يترك ردّ المحتاج إليه حياءً منه . انتهى . وقد قرأ ابن محيصن ، وابن كثير في رواية عنه «يستحي» بياء واحدة ، وهي لغة تميم ، وبكر بن وائل ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى الحاء ، فسكنت ، ثم استثقلت الضمة على الثانية فسكنت ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين .
وضرب المثل : اعتماده وصنعه . و«ما» في قوله : { مَّا بَعُوضَةً } إبهامية أي : موجبة لإبهام ما دخلت عليه حتى يصير أعمّ مما كان عليه ، وأكثر شيوعاً في أفراده ، وهي في موضع نصب على البدل من قوله : { مَثَلاً } و { بَعُوضَةً } نعت لها لإبهامها ، قاله الفراء ، والزجاج ، وثعلب ، وقيل : إنها زائدة ، وبعوضة بدل من مثل . ونصب بعوضة في هذين الوجهين ظاهر ، وقيل : إنها منصوبة بنزع الخافض ، والتقدير : أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة ، فحذف لفظ بين . وقد روي هذا عن الكسائي ، وقيل : إن يضرب بمعنى يجعل ، فتكون بعوضة المفعول الثاني . وقرأ الضحاك ، وإبراهيم بن أبي عبلة ورؤية بن العجاج «بعوضةٌ» بالرفع ، وهي لغة تميم . قال أبو الفتح : وجه ذلك أن «ما» اسم بمنزلة الذي ، وبعوضة رفع على إضمار المبتدأ ، ويحتمل أن تكون «ما» استفهامية كأنه قال تعالى : { مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } حتى لا يضرب المثل به ، بل له أن يمثل بما هو أقلّ من ذلك بكثير ، والبعوضة فعولة من بعض : إذا قطع ، يقال : بعض وبضع بمعنى ، والبعوض : البق ، الواحدة بعوضة ، سميت بذلك لصغرها ، قاله الجوهري ، وغيره .

وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } قال الكسائي ، وأبو عبيدة ، وغيرهما : فما فوقها والله أعلم : ما دونها : أي : أنها فوقها في الصغر كجناحها . قال الكسائي ، وهذا كقولك في الكلام أتراه قصيراً ، فيقول القائل ، أو فوق ذلك أي : أقصر مما ترى . ويمكن أن يراد ، فما زاد عليها في الكبر . وقد قال بذلك جماعة . قوله : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ } " أما " حرف فيه معنى الشرط ، وقدّره سيبويه بمهما يكن من شيء ، فكذا . وذكر صاحب الكشاف أن فائدته في الكلام أنه يعطيه فضل توكيد ، وجعل تقدير سيبويه دليلاً على ذلك . والضمير في { أَنَّهُ } راجع إلى المثل . و { الحق } الثابت ، وهو المقابل للباطل ، والحق ، واحد الحقوق ، والمراد هنا الأوّل . وقد اختلف النحاة في { ماذا } فقيل : هي بمنزلة اسم واحد بمعنى : أي شيء أراد الله ، فتكون في موضع نصب بأراد . قال ابن كيسان : وهو : الجيد . وقيل «ما» اسم تام في موضع رفع بالابتداء ، و «ذا» بمعنى الذي ، وهو : خبر المبتدأ مع صلته ، وجوابه يكون على الأوّل منصوباً وعلى الثاني مرفوعاً . والإرادة نقيض الكراهة ، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز إطلاق هذا اللفظ على الله سبحانه .
و { مَثَلاً } قال ثعلب : منصوب على القطع ، والتقدير : أراد مثلا . وقال ابن كيسان : هو : منصوب على التمييز الذي وقع موقع الحال ، وهذا أقوى من الأوّل . وقوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } هو : كالتفسير للجملتين السابقتين المصدّرتين بأما ، فهو خبر من الله سبحانه . وقيل : هو : حكاية لقول الكافرين كأنهم قالوا : ما مراد الله بهذا المثل الذي يفرّق به الناس إلى ضلالة ، وإلى هدى؟ وليس هذا بصحيح ، فإن الكافرين لا يقرّون بأن في القرآن شيئاً من الهداية ، ولا يعترفون على أنفسهم بشيء من الضلالة .
قال القرطبي : ولا خلاف أن قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } من كلام الله سبحانه . وقد أطال المتكلمون الخصام في تفسير الضلال المذكور هنا ، وفي نسبته إلى الله سبحانه . وقد نقح البحث الرازيُّ في تفسيره مفاتيح الغيب في هذا الموضع تنقيحاً نفيساً ، وجوّده وطوّله ، وأوضح فروعه ، وأصوله ، فليرجع إليه فإنه مفيد جداً . وأما صاحب الكشاف ، فقد اعتمد ها هنا على عصاه التي يتوكأ عليها في تفسيره ، فجعل إسناد الإضلال إلى الله سبحانه بكونه سبباً ، فهو من الإسناد المجازي إلى ملابس للفاعل الحقيقي ، . وحكى القرطبي عن أهل الحق من المفسرين أن المراد بقوله { يُضِلَّ } يخذل .

والفسق : الخروج عن الشيء ، يقال : فسقت الرطبة : إذا خرجت عن قشرها . والفأرة من جحرها ذكر معنى هذا الفراء . وقد استشهد أبو بكر بن الأَنباري في كتاب الزاهر له على معنى الفسق بقول رؤبة بن العجاج :
يهوين في نجد وغوراً غائراً ... فواسقاً عن قصدها جوائر
قد زعم ابن الأعرابي أنه لم يسمع قط في كلام الجاهلية ، ولا في شعرهم فاسق ، وهذا مردود عليه ، فقد حكى ذلك عن العرب ، وأنه من كلامهم جماعة من أئمة اللغة كابن فارس ، والجوهري ، وابن الأنباري ، وغيرهم . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خمس فواسق " الحديث . وقال في الكشاف : الفسق الخروج عن القصد ، ثم ذكر عجز بيت رؤبة المذكور ، ثم قال : والفاسق في الشريعة : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة . انتهى . وقال القرطبي : والفسق في عرف الاستعمال الشرعي : الخروج من طاعة الله عز وجل ، فقد يقع على من خرج بكفر ، وعلى من خرج بعصيان . انتهى . وهذا هو : أنسب بالمعنى اللغوي ، ولا وجه لقصره على بعض الخارجين دون بعض . قال الرازي في تفسيره : واختلف أهل القبلة هل هو مؤمن ، أو كافر؟ فعند أصحابنا أنه مؤمن ، وعند الخوارج أنه كافر ، وعند المعتزلة لا مؤمن ، ولا كافر ، واحتج المخالف بقوله تعالى : { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } [ الحجرات : 11 ] وقوله : { إِنَّ المنافقين هُمُ الفاسقون } [ التوبة : 67 ] وقوله : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } [ الحجرات : 7 ] وهذه المسألة طويلة مذكورة في علم الكلام . انتهى . وقوله { الذين يَنقُضُونَ } في محل نصب وصفاً للفاسقين . والنقض : إفساد ما أبرم من بناء ، أو حبل ، أو عهد ، والنقاضة : ما نقض من حبل الشعر . والعهد : قيل : هو : الذي أخذه الله على بني آدم حين استخرجهم من ظهره ، وقيل : هو : وصية الله إلى خلقه ، وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه على ألسن رسله ، ونقضهم ذلك : ترك العمل به ، وقيل : بل نصب الأدلة على ، وحدانيته بالسموات ، والأرض ، وسائر مخلوقاته ، ونقضه : ترك النظر فيه ، وقيل : هو ما عهده إلى الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس . والميثاق : العهد المؤكد باليمين مفعال من الوثاقة وهي الشدّة في العقد ، والربط ، والجمع المواثيق ، والمياثيق ، وأنشد ابن الأعرابي :
حِمىّ لا يُحَلُّ الدَّهْرَ إلا بِإذنِنا ... وَلا نَسْألُ الأقوامُ عَهْدَ المياثِق
واستعمال النقض في إبطال العهد على سبيل الاستعارة ، والقطع معروف ، والمصدر في الرحم القطيعة ، وقطعت الحبل قطعاً ، وقطعت النهر قطعاً . و«ما» في قوله : { مَا أَمَرَ الله بِهِ } في موضع نصب ب { يقطعون } ، و { أَن يُوصَلَ } في محل نصب بأمر . ويحتمل أن يكون بدلاً من " ما " ، أو من الهاء في " به " .

واختلفوا ما هو : الشيء الذي أمر الله بوصله ، فقيل : الأرحام ، وقيل : أمر أن يوصل القول بالعمل ، وقيل : أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه ، فقطعوه بتصديق بعضهم ، وتكذيب البعض الآخر ، وقيل : المراد به حفظ شرائعه ، وحدوده التي أمر في كتبه المنزلة ، وعلى ألسن رسله بالمحافظة عليها ، فهي عامة ، وبه قال الجمهور ، وهو : الحق .
والمراد بالفساد في الأرض الأفعال ، والأقوال المخالفة لما أمر الله به ، كعبادة غيره ، والإضرار بعباده ، وتغيير ما أمر بحفظه ، وبالجملة ، فكل ما خالف الصلاح شرعاً أو عقلاً ، فهو فساد . والخسران : النقصان ، والخاسر ، هو : الذي نقص نفسه من الفلاح ، والفوز ، وهؤلاء لما استبدلوا النقض بالوفاء ، والقطع بالوصل ، كان عملهم ، فساداً لما نقصوا أنفسهم من الفلاح ، والربح .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قال : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] وقوله : { أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السماء } [ البقرة : 19 ] قال المنافقون : الله أعلا وأجلّ من أن يضرب هذه الأمثال ، فأنزل الله { إِنَّ الله لاَ * يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } الآية . وأخرج الواحدي في تفسيره عن ابن عباس قال : إن الله ذكر آلهة المشركين ، فقال : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً } [ الحج : 73 ] وذكر كيد الآلهة ، فجعله كبيت العنكبوت ، فقالوا : أرأيت حيث ذكر الله الذباب ، والعنكبوت ، فيما أنزل من القرآن على محمد أيّ شيء كان يصنع بهذا؟ فأنزل الله : { إِنَّ الله لاَ يستحي } وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة نحو قول ابن عباس . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : لما نزلت : { ا يأَيُّهَا الناس ضُرِبَ مَثَلٌ } [ الحج : 73 ] قال المشركون : ما هذا من الأمثال ، فيضرب؟ فأنزل الله هذه الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله تعالى : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق } قال : يؤمن به المؤمن ، ويعلمون أنه الحق من ربهم ، ويهديهم الله به ، ويعرفه الفاسقون فيكفرون به . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا } يعني المنافقين { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } يعني المؤمنين { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } قال هم المنافقون . وفي قوله : { يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه } قال : هو ما عهد إليهم في القرآن ، فأقرّوا به ، ثم كفروا ، فنقضوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } يقول : يعرفه الكافرون ، فيكفرون به . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة قال : فسقوا ، فأضلهم الله بفسقهم . وأخرج البخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعد بن أبي وقاص قال : الحرورية هم : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان يسميهم الفاسقين .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة قال : ما نعلم الله أوعد في ذنب ما أوعد في نقض هذا الميثاق ، فمن أعطى عهد الله ، وميثاقه من ثمرة قلبه ، فليُوفّ به الله . وقد ثبت عن رسول الله في أحاديث ثابتة في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة النهي عن نقض العهد ، والوعيد الشديد عليه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } قال : الرحم والقرابة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض } قال : يعملون فيها بالمعصية . وأخرج ابن المنذر عن مقاتل في قوله : { أولئك هُمُ الخاسرون } يقول : هم أهل النار . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام مثل خاسر ، ومسرف ، وظالم ، ومجرم ، وفاسق ، فإنما يعني به الكفر ، وما نسبه إلى الإسلام ، فإنما يعني به الذم .

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

كيف مبنية على الفتح لخفته ، وهي في موضع نصب ب { تكفرون } ، ويسأل بها عن الحال ، وهذا الاستفهام هو للإنكار عليهم ، والتعجب من حالهم ، وهي متضمنة لهمزة الاستفهام ، والواو في { وَكُنتُمْ } للحال ، و « قد » مقدّرة كما قال الزجاج والفراء ، وإنما صح جعل هذا الماضي حالاً؛ لأن الحال ليس هو مجرد قوله { كنتم أمواتاً } بل هو وما بعده إلى قوله { تُرْجَعُونَ } كما جزم به صاحب الكشاف كأنه قال : كيف تكفرون وقصتكم هذه؟ أي : وأنتم عالمون بهذه القصة ، وبأوّلها ، وآخرها . والأموات جمع ميت ، واختلف المفسرون في ترتيب هاتين الموتتين ، والحياتين فقيل : إن المراد { كُنتُمْ أمواتا } قبل أن تخلقوا ، أي : معدومين؛ لأنه يجوز إطلاق اسم الموت على المعدوم لاجتماعهما في عدم الاحساس { فأحياكم } أي : خلقكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يوم القيامة . وقد ذهب إلى هذا جماعة من الصحابة ، فمن بعدهم . قال ابن عطية : وهذا القول هو : المراد بالآية ، وهو الذي لا محيد للكفار عنه ، وإذا أذعنت نفوس الكفار بكونهم كانوا معدومين ، ثم أحياء في الدنيا ، ثم أمواتاً فيها لزمهم الإقرار بالحياة الأخرى . قال غيره : والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم حياة الدنيا . وقيل : إن المراد كنتم أمواتاً في ظهر آدم ثم أخرجكم من ظهره كالذّر ، ثم يميتكم موت الدنيا ، ثم يبعثكم . وقيل : { كُنتُمْ * أمواتا } أي : نطفاً في أصلاب الرجال { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } حياة الدنيا . { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } بعد هذه الحياة { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } في القبور { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } في القبر { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } الحياة التي ليس بعدها موت .
قال القرطبي : فعلى هذا التأويل هي : ثلاث موتات ، وثلاث إحياءات ، وكونهم موتى في ظهر آدم ، وإخراجهم من ظهره ، والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال ، فعلى هذا يجيء أربع موتات وأربع إحياءات . وقد قيل : إن الله تعالى أوجدهم قبل خلق آدم كالبهائم ، وأماتهم ، فيكون على هذا خمس موتات ، وخمس إحياءات ، وموتة سادسة للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث : « ولكن ناساً أصابتهم النار بذنوبهم ، فأماتهم الله إماتة ، حتى إذا كانوا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ، » إلى أن قال : « فينبتون نبات الحبة في حميل السيل » وهو في الصحيح من حديث أبي سعيد .
وقوله : { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي : إلى الله سبحانه ، فيجازيكم بأعمالكم . وقد قرأ يحيى بن يعمر ، وابن أبي إسحاق ، ومجاهد ، وسلام ، ويعقوب بفتح حرف المضارعة ، وقرأ الجماعة بضمه . قال في الكشاف : عطف الأوّل بالفاء ، وما بعده بثم ، لأن الإحياء الأوّل قد تعقب الموت بغير تراخ ، وأما الموت ، فقد تراخى عن الإحياء ، والإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت إن أريد به النشور تراخياً ظاهراً ، وإن أريد به إحياء القبر ، فمنه يكتسب العلم بتراخيه ، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخ عن النشور .

انتهى . ولا يخفاك أنه إن أراد بقوله أن الإحياء الأوّل قد تعقب الموت أنه وقع على ما هو متصف بالموت ، فالموت الآخر وقع على ما هو متصف بالحياة ، وإن أراد أنه وقع الإحياء الأوّل عند أوّل اتصافه بالموت بخلاف الثاني ، فغير مسلم ، فإنه وقع عند آخر أوقات موته ، كما وقع الثاني عند آخر أوقات حياته ، فتأمل هذا . وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى : { وَكُنتُمْ أمواتا } الآية ، قال : لم تكونوا شيئاً ، فخلقكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : يميتكم ، ثم يحييكم في القبر ، ثم يميتكم . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { وَكُنتُمْ أمواتا } قال : حين لم تكونوا شيئاً ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة ، ثم يرجعون إليه بعد الحياة . وأخرج ابن جرير ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : خلقهم من ظهر آدم ، فأخذ عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ، ثم خلقهم في الأرحام ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم يوم القيامة . والصحيح الأول .

هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

قال ابن كيسان : { خَلَقَ لَكُمْ } أي : من أجلكم ، وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة ، حتى يقوم دليل يدل على النقل عن هذا الأصل ، ولا فرق بين الحيوانات ، وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر ، وفي التأكيد بقوله { جَمِيعاً } أقوى دلالة على هذا . وقد استدلَّ بهذه الآية على تحريم أكل الطين ، لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض . وقال الرازي في تفسيره : إن لقائل أن يقول : إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض ، فيكون جامعاً للوصفين ، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك ، وكذلك عروق الأرض ، وما يجري مجرى البعض لها؛ ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه . انتهى . وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال : فإن قلت : هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض ، وما فيها وجه صحة؟ قلت : إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء كما تذكر السماء ، ويراد الجهات العلوية جاز ذلك ، فإن الغبراء ، وما فيها واقعة في الجهات السفلية . انتهى . وأما التراب ، فقد ورد في السنة تحريمه ، وهو أيضاً ضارّ ، فليس مما ينتفع به أكلاً ، ولكنه ينتفع به في منافع أخرى ، وليس المراد منفعة خاصة كنفعة الأكل ، بل كل ما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه ، و { جميعاً } منصوب على الحال .
والاستواء في اللغة : الاعتدال ، والاستقامة ، قاله في الكشاف ، ويطلق على الارتفاع ، والعلوّ على الشيء ، قال تعالى { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك } [ المؤمنون : 28 ] وقال { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } [ الزخرف : 13 ] وهذا المعنى هو المناسب لهذه الآية . وقد قيل : إن هذه الآية من المشكلات . وقد ذهب كثير من الأئمة إلى الإيمان بها ، وترك التعرّض لتفسيرها ، وخالفهم آخرون . والضمير في قوله : { فَسَوَّاهُنَّ } مبهم يفسره ما بعده كقولهم : زيد رجلاً ، وقيل : إنه راجع إلى السماء؛ لأنها في معنى الجنس ، والمعنى : أنه عدل خلقهنّ ، فلا اعوجاج فيه . وقد استدل بقوله : { ثُمَّ استوى } على أن خلق الأرض متقدم على خلق السماء . وكذلك الآية التي في « حمالسجدة » . وقال في النازعات { أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها } [ النازعات : 28 ] فوصف خلقها ، ثم قال { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] فكأنّ السماء على هذا خلقت قبل الأرض ، وكذلك قوله تعالى : { الحمد للَّهِ الذى خَلَقَ السموات والأرض } [ الأنعام : 1 ] وقد قيل : إن خلق جرم الأرض متقدم على السماء ، ودحوها متأخر . وقد ذكر نحو هذا جماعة من أهل العلم ، وهذا جمع جيد لا بدّ من المصير إليه ، ولكن خلق ما في الأرض لا يكون إلا بعد الدحو ، والآية المذكورة هنا دلت على أنه خلق ما في الأرض قبل خلق السماء ، وهذا يقتضي بقاء الإشكال ، وعدم التخلص عنه بمثل هذا الجمع .

وقوله { سَبْعَ سموات } فيه التصريح بأن السموات سبع ، وأما الأرض ، فلم يأت في ذكر عددها إلا قوله تعالى : { وَمِنَ الارض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] فقيل : أي : في العدد ، وقيل : أي : في غلظهنّ ، وما بينهنّ . وقال الداودي : إن الأرض سبع ، ولكن لم يفتق بعضها من بعض . والصحيح أنها سبع كالسموات . وقد ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : « من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوّقه الله من سبع أرضين » وهو ثابت من حديث عائشة ، وسعيد بن زيد . ومعنى قوله تعالى : { سوَّاهنّ } سوّى سُطوحَهُن بالإملاس ، وقيل : جعلهنّ سواء . قال الرازي في تفسيره : فإن قيل : فهل يدل التنصيص على سبع سموات : أي : فقط؟ قلنا : الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد ، والله أعلم . انتهى . وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الحكماء من الزيادة على السبع . ونحن نقول : إنه لم يأتنا عن الله ، ولا عن رسوله إلا السبع ، فنقتصر على ذلك ، ولا نعمل بالزيادة إلا إذا جاءت من طريق الشرع ، ولم يأت شيء من ذلك ، وإنما أثبت لنفسه سبحانه أنه بكل شيء عليم ، لأنه يجب أن يكون عالماً بجميع ما ثبت أنه خالفه .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله تعالى : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } قال : سخر لكم ما في الأرض جميعاً كرامة من الله ، ونعمة لابن آدم ، وبلغة ، ومنفعة إلى أجل . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن مجاهد في قوله : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } قال : سخر لكم ما في الأرض جميعاً { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } قال : خلق الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان فذلك قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات } يقول : خلق سبع سموات بعضهنّ فوق بعض ، وسبع أرضين بعضهنّ فوق بعض . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء ، والصفات عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض } الآية ، قالوا : إن الله كان عرشه على الماء ، ولم يخلق شيئاً قبل الماء ، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً ، فارتفع فوق الماء ، فسما عليه فسماه سماء ، ثم انبسَّ الماء ، فجعله أرضاً واحدة ، ثم فتقها سبع أرضين في يومين الأحد ، والاثنين ، فخلق الأرض على حوت ، وهو : الذي ذكره في قوله : { ن والقلم } [ القلم : 1 ] والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك ، والملك على صخرة ، والصخرة في الريح ، وهي : الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ، ولا في الأرض ، فتحرّك الحوت ، فاضطرب ، فتزلزلت الأرض ، فأرسى عليها الجبال فقرّت ، فذلك قوله تعالى :

{ وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ لقمان : 10 ] وخلق الجبال فيها ، وأقوات أهلها ، وسخرها ، وما ينبغي لها في يومين في الثلاثاء ، والأربعاء ، وذلك قوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض } [ فصلت : 9 ] إلى قوله : { وبارك فِيهَا } [ فصلت : 10 ] يقول : أنبت شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } [ فصلت : 10 ] يقول : أقوات أهلها { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } [ فصلت : 10 ] يقول : من سأل ، فهكذا الأمر ، { ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] وكان ذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس ، فجعلها سماء واحدة ، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين في الخميس والجمعة؛ وإنما سمي يوم الجمعة؛ لأنه جمع فيه خلق السموات ، والأرض { وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } [ فصلت : 12 ] قال : خلق في كل أسماء خلقها ، من الملائكة ، والخلق الذي فيها ، من البحار وجبال البرد ، وما لا يعلم ، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب ، فجعلها زينة ، وحفظاً من الشياطين ، فلما فرغ من خلق ما أحبّ استوى على العرش . وأخرج البيهقي في الأسماء ، والصفات ، عن عباس في قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } يعني صعد أمره إلى السماء ، فسواهنّ : يعني خلق سبع سموات ، قال : أجرى النار على الماء ، فبخر البحر ، فصعد في الهواء ، فجعل السموات منه . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيح قال : «أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي ، فقال : " خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق فيها الجبال يوم الأحد ، وخلق الشجر يوم الأثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبثّ فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة بعد العصر " وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق عند أهل السنن ، وغيرهم ، عن جماعة من الصحابة أحاديث في وصف السموات ، وأن غلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام ، وأنها سبع سموات ، وأن الأرض سبع أرضين ، وكذلك ثبت في وصف السماء آثار عن جماعة من الصحابة ، وقد ذكر السيوطي في الدرّ المنثور بعض ذلك في تفسير هذه الآية ، وإنما تركنا ذكره ها هنا لكونه غير متعلق بهذه الآية على الخصوص ، بل هو متعلق بما هو أعمّ منها .

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

{ إِذْ } من الظروف الموضوعة للتوقيت ، وهي للمستقبل ، وإذا للماضي ، وقد توضع إحداهما موضع الأخرى . وقال المبرّد : هي مع المستقبل للمضيّ ، ومع الماضي للاستقبال . وقال أبو عبيدة : إنها هنا زائدة . وحكاه الزَّجَّاج وابن النحاس وقالا : هي ظرف زمان ليست مما يزاد ، وهي هنا في موضع نصب بتقدير اذكر ، أو بقالوا . وقيل : هو متعلق ب { خلق لكم } [ البقرة : 29 ] ، وليس بظاهر ، والملائكة : جمع ملَكَ بوزن فَعَل ، قاله ابن كيسان . وقيل : جمع مَلأك بوزن مَفْعَل ، قاله أبو عبيدة ، من لأك : إذا أرسل ، والألوكة : الرسالة . قال لبيد :
وغُلامٍ أرسَلتْهُ أمهُ ... بَألوكَ فَبَذلنَا مَا سَأل
وقال عدي بن زيد :
أبلغِ النُّعمانَ عَنِي مألكاً ... أنَّه قَدْ طَال حَبْسِي وَانتِظَاري
ويقال ألكني : أي : أرسلني . وقال النضر بن شميل : لا اشتقاق لملك عند العرب ، والهاء في الملائكة تأكيد لتأنيث الجمع ، ومثله الصلادمة ، والصلادم : الخيل الشداد واحدها صلدم . وقيل : هي للمبالغة ، كعلامة ونسَّابة و { جَاعِلٌ } هنا من جعل المتعدي إلى مفعولين . وذكر المطرزي أنه بمعنى خالق ، وذلك يقتضي أنه متعدّ إلى مفعول واحد ، والأرض هنا : هي هذه الغبراء ، ولا يختص ذلك بمكان دون مكان ، وقيل : إنها مكة . والخليفة هنا معناه : الخالف لمن كان قبله من الملائكة ، ويجوز أن يكون بمعنى المخلوف ، أي : يخلفه غيره قيل : هو آدم . وقيل : كل من له خلافة في الأرض ، ويقوى الأوّل قوله : { خليفة } دون خلائف ، واستغنى بآدم عن ذكر من بعده .
قيل : خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب؛ لا للمشورة ، ولكن لاستخراج ما عندهم . وقيل : خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال ، فيجابون بذلك الجواب ، وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم . وأما قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } فظاهره أنهم استنكروا استخلاف بني آدم في الأرض ، لكونهم مظنة للإفساد في الأرض ، وإنما قالوا هذه المقالة قبل أن يتقدم لهم معرفة ببني آدم ، بل قبل وجود آدم ، فضلاً عن ذريته ، لعلم قد علموه من الله سبحانه بوجه من الوجوه ، لأنهم لا يعلمون الغيب؛ قال بهذا جماعة من المفسرين . وقال بعض المفسرين : إن في الكلام حذفاً ، والتقدير : إني جاعل في الأرض خليفة يفعل كذا وكذا ، فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدماء } وقوله : { يُفْسِدُ } قائم مقام المفعول الثاني . والفساد ضدّ الصلاح . وسفك الدم : صبه ، قاله ابن فارس ، والجوهري ، ولا يستعمل السفك إلا في الدم . وواحد الدماء : دم ، وأصله دمى حذف لامه ، وجملة : { ونحن نسبح بحمدك } حالية . والتسبيح في كلام العرب : التنزيه ، والتبعيد من السوء على وجه التعظيم . قال الأعشى :
أقُولُ َلمَّا جَاءني فَخْرُه ... سُبْحَان مَن عَلْقَمة الفَاخِرِ
و { بِحَمْدِكَ } في موضع الحال ، أي : حامدين لك ، وقد تقدم معنى الحمد .

والتقديس : التطهير ، أي : ونطهرك عما لا يليق بك مما نسبه إليك الملحدون ، وافتراه الجاحدون . وذكر في الكشاف : « أن معنى التسبيح ، والتقديس واحد ، وهو : تبعيد الله من السوء ، وأنهما من سبح في الأرض والماء ، وقدّس في الأرض إذا ذهب فيها ، وأبعد . وفي القاموس ، وغيره من كتب اللغة ما يرشد إلى ما ذكرناه ، والتأسيس خير من التأكيد خصوصاً في كلام الله سبحانه . ولما كان سؤالهم واقعاً على صفة تستلزم إثبات شيء من العلم لأنفسهم ، أجاب الله سبحانه عليهم بقوله : { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وفي هذا الإجمال ما يغني عن التفصيل؛ لأن من علم ما لا يعلم المخاطب له كان حقيقاً بأن يسلم له ما يصدر عنه ، وعلى من لا يعلم أن يعترف لمن يعلم ، بأن أفعاله صادرة على ما يوجبه العلم ، وتقتضيه المصلحة الراجحة ، والحكمة البالغة . ولم يذكر متعلق قوله : { تَعْلَمُونَ } ليفيد التعميم ، ويذهب السامع عند ذلك كل مذهب ، ويعترف بالعجز ويقر بالقصور .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال : إن الله أخرج آدم من الجنة قبل أن يخلقه ، ثم قرأ : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً نحوه وزاد . وقد كان فيها قبل أن يخلق بألفي عام الجن بنو الجان ، فأفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فلما أفسدوا في الأرض بعث الله عليهم جنوداً من الملائكة ، فضربوهم حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فلما قال الله : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } كما فعل أولئك الجان ، فقال الله : { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر مثله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس أطول منه . وأخرج ابن جرير ، وابن عساكر ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قال : لما فرغ الله من خلق ما أحبّ استوى على العرش ، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا ، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم : الجن ، وإنما سموا الجنّ؛ لأنهم خزان الجنة وكان إبليس مع ملكه خازناً ، فوقع في صدره كبر ، وقال : ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي . فاطلع الله على ذلك منه ، فقال للملائكة { إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً } قالوا : ربنا ، وما يكون ذلك الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ، ويتحاسدون ، ويقتل بعضهم بعضاً ، قالوا : ربنا { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } قَالَ : { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في الآية قال : قد علمت الملائكة ، وعلم الله ، أنه لا شيء أكره عند الله من سفك الدماء ، والفساد في الأرض .

وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس قال : إياكم والرأي ، فإنَّ الله ردَّ الرأي على الملائكة ، وذلك أن الله قال : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً } قالت الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } قال : { إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر ، عن أبي سابط؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « دحيت الأرض من مكة وكانت الملائكة تطوف بالبيت فهي أول من طاف به ، وهي الأرض التي قال الله : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الارض خَلِيفَةً } » قال ابن كثير : وهذا مرسل في سنده ضعف ، وفيه مدرج ، وهو : أن المراد بالأرض مكة ، والظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك . انتهى .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : التسبيح ، والتقديس المذكور في الآية هو : الصلاة . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التوبة ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أوّل من لبى الملائكة » قال الله تعالى : { إِنّي جَاعِلٌ فِى الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } قال : فرادُّوه ، فأعرض عنهم ، فطافوا بالعرش ست سنين يقولون : لبيك لبيك اعتذاراً إليك ، لبيك لبيك نستغفرك ، ونتوب إليك « . وثبت في الصحيح من حديث أبي ذرّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » أحبّ الكلام إلى الله ما اصطفاه لملائكته سبحان ربي ، وبحمده « وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله { وَنُقَدّسُ لَكَ } قال : نصلي لك . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : التقديس : التطهير . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { وَنُقَدّسُ لَكَ } قال : نعظمك ونكبرك . وأخرجا عن أبي صالح قال : نعظمك ونمجدك .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال :
علم من إبليس المعصية ، وخلقه لها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في تفسيرها قال : كان في علم الله أنه سيكون من الخليقة أنبياء ، ورسل ، وقوم صالحون ، وساكنوا الجنة . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمر : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » إن آدم لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة : أي ربّ { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء } الآية ، قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله لملائكته : هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبطا إلى الأرض فننظر كيف يعملان؟ فقالوا : ربنا هاروت وماروت ، قال : فاهبطا إلى الأرض ، فتمثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر « وذكر القصة . وقد ثبت في كتب الحديث المعتبرة أحاديث من طريق جماعة من الصحابة في صفة خلقه سبحانه لآدم وهي موجودة فلا نطوّل بذكرها .

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

{ آدم } أصله : أأدم بهمزتين ، إلا أنهم ليَّنُوا الثانية ، وإذا حركت قلبت واو ، كما قالوا في الجمع أوادم ، قاله الأخفش . واختلف في اشتقاقه؛ فقيل : من أديم الأرض ، وهو وجهها . وقيل : من الأدمة ، وهي : السمرة . قال في الكشاف : وما آدم إلا اسم عجميّ ، وأقرب أمره أن يكون على فاعل كآزر ، وعازر ، وعابر ، وشالخ ، وفالغ ، وأشباه ذلك . و { الأسماء } هي العبارات ، والمراد : أسماء المسميات ، قال بذلك أكثر العلماء ، وهو المعنى الحقيقي للاسم . والتأكيد بقوله : { كُلَّهَا } يفيد أنه علمه جميع الأسماء ، ولم يخرج عن هذا شيء منها كائناً ما كان . وقال ابن جرير : إنها أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم ، ثم رجع هذا ، وهو غير راجح . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أسماء الذرية . وقال الربيع بن خيثم : أسماء الملائكة .
واختلف أهل العلم : هل عرض على الملائكة المسميات ، أو الأسماء؟ والظاهر الأوّل؛ لأن عرض نفس الأسماء غير واضح . وعرض الشيء : إظهاره ، ومنه عرض الشيء للبيع . وإنما ذكر ضمير المعروضين تغليباً للعقلاء على غيرهم . وقرأ ابن مسعود : «عَرضهنّ» وقرأ أبَي : «عرضها» وإنما رجع ضمير " عرضهم " إلى مسميات مع عدم تقدم ذكرها؛ لأنه قد تقدّم ما يدل عليها ، وهو : أسماؤها . قال ابن عطية : والذي يظهر أن الله علَّم آدم الأسماء ، وعرض عليه مع ذلك الأجناس أشخاصاً ، ثم عرض تلك على الملائكة ، وسألهم عن أسماء مسمياتها التي قد تعلمها آدم ، فقال لهم آدم : هذا اسمه كذا ، وهذا اسمه كذا . قال الماوردي : فكان الأصح توجه العرض إلى المسمين . ثم في زمن عرضهم قولان : أحدهما : أنه عرضهم بعد أن خلقهم . الثاني أنه صوّرهم لقلوب الملائكة ، ثم عرضهم .
وأما أمره سبحانه للملائكة بقوله : { أَنبِئُونِى بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين } فهذا منه تعالى لقصد التبكيت لهم مع علمه بأنهم يعجزون عن ذلك . والمراد { إِن كُنتُمْ صادقين } أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبؤني ، كذا قال المبرد ، . وقال أبو عبيد ، وابن جرير : إن بعض المفسرين قال : معنى { إِن كُنتُمْ صادقين } إذ كنتم ، قالا : وهذا خطأ . ومعنى { أنبئوني } أخبروني . فلما قال لهم ذلك اعترفوا بالعجز ، والقصور : { سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } . وسبحان منصوب على المصدرية عند الخليل وسيبويه ، وقال الكسائي : هو منصوب على أنه منادى مضاف ، وهذا ضعيف جداً . والعليم للمبالغة والدلالة على كثرة المعلومات . والحكيم : صيغة مبالغة في إثبات الحكمة له . ثم أمر الله سبحانه آدم أن يعلمهم بأسمائهم بعد أن عرضهم على الملائكة فعجزوا ، واعترفوا بالقصور ، ولهذا قال سبحانه { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } الآية . قال فيما تقدم { أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 30 ] ثم قال هنا { أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض } تدرّجاً من المجمل إلى ما هو مبين بعض بيان ، ومبسوط بعض بسط ، وفي اختصاصه بعلم غيب السموات ، والأرض ردّ لما يتكلفه كثير من العباد من الإطلاع على شيء من علم الغيب كالمنجمين ، والكهان ، وأهل الرمل ، والسحر ، والشعوذة .

والمراد بما يبدون ، وما يكتمون : ما يظهرون ، ويسرّون كما يفيده معنى ذلك عند العرب ، ومن فسره بشيء خاص فلا يقبل منه ذلك إلا بدليل .
وقد أخرج الفريابي ، وابن سعد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس ، قال : إنما سمي آدم ، لأنه خلق من أديم الأرض . وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن سعيد بن جبير . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسماء كُلَّهَا } قال : علمه اسم الصحفة ، والقدر ، وكل شيء . وأخرج ابن جرير ، عنه نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عنه في تفسير الآية قال : عرض عليه أسماء ولده إنساناً إنساناً ، والدواب ، فقيل هذا الجمل ، هذا الحمار ، هذا الفرس . وأخرج الحاكم في تاريخه ، وابن عساكر ، والديلمي عن عطية بن بُشر مرفوعاً في قوله : { وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا } قال : علم الله آدم في تلك الأسماء ألف حرفة من الحرف ، وقال له : قل لأولادك ، ولذريتك إن لم تصبروا عن الدّنيا ، فاطلبوها بهذه الحرف ، ولا تطلبوها بالدين ، فإن الدين لي وحدي خالصاً ، ويل لمن طلب الدنيا بالدين ويل له . وأخرج الديلمي عن أبي رافع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثلت لي أمتي في الماء والطين ، وعلمت الأسماء كلها كما علم آدم الأسماء كلها » وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في تفسير الآية قال : أسماء ذريته أجمعين { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } قال : أخذهم من ظهره . وأخرج عن الربيع بن أنس قال : أسماء الملائكة .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس { ثُمَّ عَرَضَهُمْ } يعني عرض أسماء جميع الأشياء التي علمها آدم من أصناف الخلق . { فَقَالَ أَنبِئُونِى } يقول أخبروني { بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صادقين } إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة { قَالُواْ سبحانك } تنزيها الله من أن يكون يعلم الغيب أحد غيره تبنا إليك { لاَ عِلْمَ لَنَا } تبرؤا منهم من علم الغيب { إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } كما علمت آدم . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : عرض أصحاب الأسماء على الملائكة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم } قال : العليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في حكمه . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : { إِن كُنتُمْ صادقين } أن بني آدم يفسدون في الأرض ، ويسفكون الدماء { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } قال : قولهم { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } ، { وَمَا كُنْتَم تَكْتُمُونَ } يعني : ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : { مَا تُبْدُونَ } ما تظهرون { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } يقول : أعلم السرّ كما أعلم العلانية .

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

" إِذْ " متعلق بمحذوف تقديره : واذكر إذ قلنا . وقال أبو عبيدة : " إذ " زائدة ، وهو ضعيف . وقد تقدم الكلام في الملائكة ، وآدم . السجود معناه في كلام العرب : التذلل والخضوع . وغايته وضع الوجه على الأرض . قال ابن فارس : سجد إذا تطامن ، وكل ما سجد ، فقد ذلّ ، والإسجاد : إدامة النظر . وقال أبو عمر : وسجد إذا طأطأ رأسه . وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته . وقيل : إن السجود كان لله ولم يكن لآدم ، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود ، ولا ملجىء لهذا ، فإن السجود للبشر قد يكون جائزاً في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح . وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم ، وكذلك الآية الأخرى أعني قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } [ الحجر : 29 ] وقال تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } [ يوسف : 100 ] فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك في سائر الشرائع . ومعنى السجود هنا : هو وضع الجبهة على الأرض ، وإليه ذهب الجمهور . وقال قوم : هو مجرد التذلل ، والانقياد . وقد وقع الخلاف هل كان السجود من الملائكة لآدم قبل تعليمه الأسماء أم بعده؟ وقد أطال البحث في ذلك البقاعي في تفسيره . وظاهر السياق أنه وقع التعليم ، وتعقبه الأمر بالسجود ، وتعقبه إسكانه الجنة ، ثم إخراجه منها ، وإسكانه الأرض .
وقوله { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناء متصل؛ لأنه كان من الملائكة على ما قاله الجمهور . وقال شهر بن حوشب ، وبعض الأصوليين : كَانَ مِنَ الجن الذين كانوا في الأرض . فيكون الاستثناء على هذا منقطعاً . واستدلوا على هذا بقوله تعالى : { لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] وبقوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] والجنّ غير الملائكة ، وأجاب الأوّلون بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة ، لما سبق في علم الله من شقائه عدلاً منه { لا يُسْألُ * عَمَّا يَفْعَلُ } [ الأنبياء : 23 ] وليس في خلقه من نار ولا تركيب الشهوة فيه حين غضب عليه ما يدفع بأنه من الملائكة وأيضاً على تسليم ذلك لا يمتنع أن يكون الاستثناء متصلاً ، تغليباً للملائكة الذين هم ألوف مؤلفة على إبليس الذي هو فرد واحد بين أظهرهم . ومعنى { أبى } امتنع من فعل ما أمر به . والاستكبار : الاستعظام للنفس ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " أن الكبر بطَرَ الحق ، وغمط الناس " وفي رواية «غمص» بالصاد المهملة { وَكَانَ مِنَ الكافرين } أي : من جنسهم . قيل : إن { كان } هنا بمعنى صار . وقال ابن فورك : إنه خطأ ترده الأصول . وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كانت السجدة لآدم ، والطاعة لله .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : سجدوا كرامة من الله أكرم بها آدم . وأخرج ابن عساكر عن إبراهيم المزني قال : إن الله جعل آدم كالكعبة . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن عباس قال : كان إبليس اسمه عزازيل ، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة ، ثم أبلس بعد . وروى ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : إنما سمي إبليس؛ لأن الله أبلسه من الخير كله : أي : آيسه منه . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن الأنباري ، عنه ، قال : كان إبليس قبل أن يرتكب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً ، وأكثرهم علماً ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمون جناً . وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في الشعب عنه قال : كان إبليس من خزان الجنة ، وكان يدبر أمر سماء الدنيا .
وأخرج محمد بن نصر عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله أمر آدم بالسجود ، فسجد ، فقال : لك الجنة ، ولمن سجد من ولدك ، وأمر إبليس بالسجود ، فأبى أن يسجد ، فقال : لك النار ، ولمن أبى من ولدك أن يسجد » وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } قال : جعله الله كافراً لا يستطيع أن يؤمن . وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي ، قال : ابتدأ الله خلق إبليس على الكفر ، والضلالة ، وعمل بعمل الملائكة ، فصيره إلى ما ابتدىء إليه خلقه من الكفر؛ قال الله : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } .

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)

{ اسكن } أي : اتخذ الجنة مسكناً وهو محل السكون . وأما ما قاله بعض المفسرين من أن في قوله : { اسكن } تنبيهاً على الخروج؛ لأن السكنى لا تكون ملكاً ، وأخذ ذلك من قول جماعة من العلماء أن من أسكن رجلاً منزلاً له ، فإنه لا يملكه بذلك ، وإن له أن يخرجه منه ، فهو : معنى عرفي ، والواجب الأخذ بالمعنى العربي ، إذا لم تثبت في اللفظ حقيقة شرعية . و { أَنتَ } تأكيد للضمير المستكن في الفعل ، ليصح العطف عليه ، كما تقرّر في علم النحو ، أنه لا يجوز العطف على الضمير المرفوع المستكنّ إلا بعد تأكيده بمنفصل . وقد يجيء العطف نادراً بغير تأكيد كقول الشاعر :
قلتُ إذَا أقْبَلتْ وزُهْرُ تَهَادى ... كَنِعاج المَلا تَعسَّفْنَ رَمْلا
وقوله؛ { وَزَوْجُكَ } أي : حوّاء ، وهذه هي اللغة الفصيحة زوج بغير هاء ، وقد جاء بها قليلاً كما في صحيح مسلم من حديث أنس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه ، فمرّ به رجل ، فدعاه وقال : يا فلان هذه زوجتي فلانة " الحديث ، ومنه قول الشاعر :
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستميلها
و { رَغَدًا } بفتح المعجمة ، وقرأ النخعي ، وابن وثاب بسكونها ، والرغد : العيش الهنيء الذي لا عناء فيه ، وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف . و { حَيْثُ } مبنية على الضم ، وفيها لغات كثيرة مذكورة في كتب العربية . والقرب : الدنّو ، قال في الصحاح : قرب الشيء بالضم يَقْرُب قُرْباً أي دنا ، وقَرِبته بالكسر أقربه قرباناً أي : دنوت منه ، وقَرَبْتُ أقْرب قِرِابَةً مثل كتبت أكتب كتابة : إذا سرت إلى الماء ، وبينك ، وبينه ليلة . والاسم القرب . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب؟ قال : سير الليل لورود الغد . والنهي عن القرب فيه سدّ للذريعة ، وقطع للوسيلة ، ولهذا جاء به عوضاً عن الأكل ، ولا يخفى أن النهي عن القرب لا يستلزم النهي عن الأكل ، لأنه قد يأكل من ثمر الشجرة من هو بعيد عنها إذا يحمل إليه ، فالأولى أن يقال : المنع من الأكل مستفاد من المقام . والشجر : ما كان له ساق من نبات الأرض ، وواحده شجرة ، وقرىء بكسر الشين ، وبالياء المثناة من تحت مكان الجيم . وقرأ ابن محيصن : «هذي» بالياء بدل الهاء وهو الأصل . واختلف أهل العلم في تفسير هذه الشجرة ، فقيل : هي : الكرم . وقيل : السنبلة ، وقيل التين ، وقيل الحنطة ، وسيأتي ما روى عن الصحابة ، فمن بعدهم في تعيينها .
وقوله : { فَتَكُونَا } معطوف على { تَقْرَبَا } في الكشاف ، أو نصب في جواب النهي ، وهو الأظهر . والظلم أصله : وضع الشيء في غير موضعه . والأرض المظلومة : التي لم تحفر قط ، ثم حفرت ، ورجل ظليم : شديد الظلم . والمراد هنا { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } لأنفسهم بالمعصية ، وكلام أهل العلم في عصمة الأنبياء ، واختلاف مذاهبهم في ذلك مدوّن في مواطنه ، وقد أطال البحث في ذلك الرازي في تفسيره في هذا الموضع ، فليرجع إليه ، فإنه مفيد .

وأزلهَّما من الزلة ، وهي الخطيئة ، أي استزلهما ، وأوقعهما فيها . وقرأ حمزة : «فأزالهما» بإثبات الألف من الإزالة ، وهي التنحية ، أي نحاهما . وقرأ : الباقون بحذف الألف . قال ابن كيسان : هو : من الزوال ، أي : صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية . قال القرطبي : وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى ، إلاّ أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى؛ يقال منه : أزللته فزّل و { عَنْهَا } متعلق بقوله { أزلهما } على تضمينه معنى أصدر ، أي أصدر الشيطان زلتهما عنها ، أي بسببها ، يعني الشجرة . وقيل : الضمير للجنة ، وعلى هذا ، فالفعل مضمن معنى أبعدهما : أي : أبعدهما عن الجنة .
وقوله : { فَأَخْرَجَهُمَا } تأكيد لمضمون الجملة الأولى أي : أزلهما ، إن كان معناه زال عن المكان ، وإن لم يكن معناه كذلك ، فهو تأسيس ، لأن الإخراج فيه زيادة على مجرد الصرف ، والإبعاد ، ونحوهما : لأن الصرف عن الشجرة ، والإبعاد عنها قد يكون مع البقاء في الجنة ، بخلاف الإخراج لهما عما كانا فيه من النعيم ، والكرامة ، أو من الجنة ، وإنما نسب ذلك إلى الشيطان؛ لأنه الذي تولى إغواء آدم حتى أكل من الشجرة . وقد اختلف أهل العلم في الكيفية التي فعلها الشيطان في إزلالهما ، فقيل : إنه كان ذلك بمشافهة منه لهما ، وإليه ذهب الجمهور ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى { وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] والمقاسمة ظاهرها المشافهة . وقيل : لم يصدر منه إلا مجرد الوسوسة ، وقيل غير ذلك مما سيأتي في المروي عن السلف .
وقوله : { اهبطوا } خطاب لآدم وحواء ، وخوطبا بما يخاطب به الجمع؛ لأن الاثنين أقلّ الجمع عند البعض من أئمة العربية ، وقيل إنه خطاب لهما ، ولذريتهما؛ لأنهما لما كانا أصل هذا النوع الانساني جعلا بمنزلته ، ويدل على ذلك قوله { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } فإن هذه الجملة الواقعة حالاً مبيناً للهيئة الثابتة للمأمورين بالهبوط تفيد ذلك . والعدوّ خلاف الصديق ، وهو من عدا إذا ظلم ، ويقال ذئب عدوان ، أي يعدو على الناس ، والعدوان : الظلم الصراح وقيل : إنه مأخوذ من المجاوزة ، يقال عداه : إذا جاوزه ، والمعنيان متقاربان ، فإن من ظلم ، فقد تجاوز . وإنما أخبر عن قوله : { بَعْضُكُمْ } بقوله : { عَدُوٌّ } مع كونه مفرداً؛ لأن لفظ بعض ، وإن كان معناه محتملاً للتعدد ، فهو مفرد فروعي جانب اللفظ ، وأخبر عنه بالمفرد ، وقد يراعى المعنى ، فيخبر عنه بالمتعدد . وقد يجاب بأن { عَدُوٌّ } وإن كان مفرداً ، فقد يقع موقع المتعدد كقوله تعالى : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } [ الكهف : 50 ] وقوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العدو } [ المنافقون : 4 ] قال ابن فارس : العدوّ اسم جامع للواحد ، والاثنين ، والثلاثة . والمراد بالمستقرّ موضع الاستقرار ، ومنه :

{ أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] وقد يكون بمعنى الاستقرار ، ومنه : { إلى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } [ القيامة : 12 ] فالآية محتملة للمعنيين ، ومثلها قوله : { جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً } [ غافر : 64 ] والمتاع : ما يستمتع به من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، ونحوها .
واختلف المفسرون في قوله : { إلى حِينٍ } فقيل إلى الموت ، وقيل إلى قيام الساعة . وأصل معنى الحين في اللغة : الوقت البعيد ، ومنه { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] والحين الساعة ، ومنه : { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب } [ الزمر : 58 ] والقطعة من الدهر ، ومنه : { فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ } [ المؤمنون : 54 ] أي : حتى تفنى آجالهم ، ويطلق على السنة ، وقيل على ستة أشهر ، ومنه { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } [ إبراهيم : 25 ] ويطلق على الصباح ، والمساء ، ومنه { حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] وقال الفراء : الحين حينان : حين لا يوقف على حده ، ثم ذكر الحين الآخر ، واختلافه بحسب اختلاف المقامات كما ذكرنا . وقال ابن العربي : الحين المجهول لا يتعلق به حكم ، والحين المعلوم سنة .
ومعنى تلقي آدم للكلمات : أخذه لها ، وقبوله لما فيها ، وعمله بها ، وقيل : فهمه لها ، وفطانته لما تضمنته . وأصل معنى التلقي : الاستقبال ، أي : استقبل الكلمات الموحاة إليه . ومن قرأ بنصب «آدم» جعل معناه استقبلته الكلمات . وقيل : إن معنى تلقي تلقن . ولا وجه له في العربية . واختلف السلف في تعيين هذه الكلمات وسيأتي . والتوبة : الرجوع ، يقال : تاب العبد : إذا رجع إلى طاعة مولاه ، وعبد توّاب : كثير الرجوع ، فمعنى تاب عليه : رجع عليه بالرحمة ، فقبل توبته ، أو وفَقَّه للتوبة . واقتصر على ذكر التوبة على آدم دون حواء مع اشتراكهما في الذنب؛ لأن الكلام من أوّل القصة معه ، فاستمر على ذلك ، واستغنى بالتوبة عليه عن ذكر التوبة عليها؛ لكونها تابعة له ، كما استغنى بنسبة الذنب إليه عن نسبته إليها في قوله : { وعصىءادم * رَبَّهُ فغوى } [ طه : 121 ] . وأما قوله : { قُلْنَا اهبطوا } بعد قوله : { قُلْنَا اهبطوا } ، فكررّه للتوكيد ، والتغليظ . وقيل إنه لما تعلق به حكم غير الحكم الأوّل كرره ، ولا تزاحم بين المقتضيات . فقد يكون التكرير للأمرين معاً . وجواب الشرط في قوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } هو الشرط الثاني مع جوابه قاله سيبويه . وقال الكسائي : إن جواب الشرط الأوّل ، والثاني قوله : { فَلاَ خَوْفٌ } واختلفوا في معنى الهدى المذكور ، فقيل : هو كتاب الله . وقيل : التوفيق للهداية . والخوف : هو الذعر ، ولا يكون إلا في المستقبل . وقرأ : الزهري ، والحسن وعيسى بن عمار ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب : «فلا خوف» بفتح الفاء ، والحزن ضد السرور . قال اليزيدي : حزنه لغة قريش ، وأحزنه لغة تميم . وقد قرىء بهما . وصحبة أهل النار لها بمعنى الاقتران ، والملازمة . وقد تقدّم ذكر تفسير الخلود .
وقد أخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي ذر قال : " قلت يا رسول الله أرأيت آدم نبياً كان؟ قال : نعم كان نبياً رسولاً كلمه الله ، قال له { يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } "

وأخرج ابن أبي شيبة ، والطبراني ، عن أبي ذر قال : «قلت يا رسول الله ، من أوّل الأنبياء؟ قال : " آدم " قلت : نبي؟ قال : " نعم " . قلت : ثم من؟ قال : " نوح وبينهما عشرة آباء " وأخرج أحمد ، والبخاري في تاريخه ، والبيهقي في الشعب نحوه من حديث أبي ذر مرفوعاً وزاد : «كم كان المرسلون؟ قال : " ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً " وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، عن أبي أمامة الباهلي ، أن رجلاً قال : «يا رسول الله أنبيّ كان آدم؟ قال : " نعم " قال : كم بينه وبين نوح؟ قال : " عشرة قرون " قال : كم بين نوح ، وبين إبراهيم؟ قال : " عشرة قرون " قال : يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " قال : يا رسول الله كم كانت الرسل من ذلك؟ قال : " ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً " وأخرج أحمد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه من حديث أبي أمامة نحوه ، وصرح بأن السائل أبو ذرّ .
وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : ما سكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي عنه ، قال : «ما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى أهبط من الجنة» . وأخرج الفريابي ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الحسن قال : لبث آدم في الجنة ساعة من نهار ، تلك الساعة مائة وثلاثون سنة من أيام الدنيا . وقد روي تقدير اللُّبث في الجنة عن سعيد بن جبير بمثل ما تقدّم ، عن ابن عباس كما رواه أحمد في الزهد .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة قالوا : لما سكن آدم الجنة كان يمشي فيها وحشاً ليس له زوج يسكن إليها ، فنام نومة فاستيقظ ، وإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه . وأخرج البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيراً ، فإن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء من الضلع رأسه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن تركته تركته ، وفيه عوج " وروى أبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن ابن عباس قال : إنما سميت حواء؛ لأنها أمّ كل حي . وأخرج ابن عدي ، وابن عساكر ، عن النخعي قال : لما خلق الله آدم ، وخلق له زوجه بعث إليه ملكاً ، وأمره بالجماع ففعل ، فلما فرغ قالت له حواء : يا آدم هذا طيب زدنا منه . وأخرج ابن جرير ، وابن عساكر ، عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة قال : الرغد الهنيء .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الرغد : سعة المعيشة . وأخرجا عنه في قوله : { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا } قال : لا حساب عليكم .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر من طرق ، عن ابن عباس قال : الشجرة التي نهى الله عنها آدم السنبلة وفي لفظ : البرّ . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عنه قال : هي الكرم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود مثله . وأخرج أبو الشيخ ، عنه قال : هي : اللوز . وأخرج ابن جرير ، عن بعض الصحابة قال : هي : التينة . وروى مثله أبو الشيخ عن مجاهد وابن أبي حاتم عن قتادة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن وهب بن منبه قال : هي : البرّ . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي مالك قال : هي : النخلة . وأخرج أبو الشيخ ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيْط قال : هي الأترجّ . وأخرج أحمد في الزهد ، عن شعيب الجبائي قال : هي تشبه البرّ ، وتسمى الدّعة ،
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَأَزَلَّهُمَا } قال : فأغواهما . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عاصم بن بهدلة قال : { فَأَزَلَّهُمَا } فنحاهما . وأخرج أبو داود في المصاحف ، عن الأعمش قال : قراءتنا في البقرة مكان { فأزلهما } « فوسوس » . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : أراد إبليس أن يدخل عليهما الجنة ، فمنعته الخزنة ، فأتى الحية ، وهي دابة لها أربع قوائم ، كأنها البعير ، وهي : كأحسن الدواب ، فكلمها أن تدخله في فمها حتى تدخل به إلى آدم ، فأدخلته في فمها ، فمرّت الحية على الخزنة فدخلت ، ولا يعلمون لما أراد الله من الأمر ، فكلمه من فمها فلم يبال بكلامه ، فخرج إليه فقال : { يا آدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] وحلف لهما بالله { إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدّمت حواء ، فأكلت ، ثم قالت : يا آدم كل ، فإني قد أكلت ، فلم يضرني ، فلما أكلا { بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } [ الأعراف : 22 ] . وقد أخرج قصة الحية ، ودخول إبليس معها ، عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن ابن عباس .
وأخرج ابن سعد ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن آدم كان رجلاً طوالاً كأنه نخلة سحوق طوله ستون ذراعاً كثير شعر الرأس ، فلما ركب الخطيئة بدت له عورته » الحديث . وأخرج ابن منيع ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس . قال : قال الله لآدم : ما حملك على أن أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال : يا ربّ زينته لي حوّاء ، قال : فإني عاقبتها بألا تحمل إلا كرهاً ، ولا تضع إلا كرهاً ، وأدميتها في كل شهر مرتين .

وأخرج البخاري ، والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم ، ولولا حوّاء لم تخن أنثى زوجها " وقد ثبتت أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين ، وغيرهما في محاجة آدم ، وموسى ، وحجّ آدم موسى بقوله : أتلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن أخلق؟
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } قال : آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية { وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ } قال : القبور { ومتاع إلى حِينٍ } قال : الحياة . وروى نحو ذلك عن مجاهد ، وأبي صالح وقتادة . كما أخرجه عن الأول ، والثاني أبو الشيخ ، وعن الثالث عبد بن حميد . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن مسعود في قوله { وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ } قال : القبور { ومتاع إلى حِينٍ } قال : إلى يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال : أهبط آدم بالصفا ، وحوّاء بالمروة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : أوّل ما أهبط الله آدم إلى أرض الهند وفي لفظ «بدجنى أرض الهند» . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه أهبط إلى أرض بين مكة ، والطائف . وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عنه ، قال : قال عليّ بن أبي طالب : أطيب ريح الأرض الهند ، هبط بها آدم ، فعلق شجرها من ريح الجنة . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر ، عن ابن عباس قال : أهبط آدم بالهند ، وحواء بجدّة ، فجاء في طلبها حتى أتى جمعاً ، فازدلفت إليه حواء ، فلذلك سميت المزدلفة ، واجتمعا بجمع .
وأخرج الطبراني ، وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزل آدم عليه السلام بالهند ، فاستوحش ، فنزل جبريل ، فنادى بالأذان ، فلما سمع ذكر محمد قال له : ومن محمد هذا؟ قال : هذا آخر ، ولدك من الأنبياء " وقد روى عن جماعة من الصحابة أن آدم أهبط إلى أرض الهند ، منهم جابر أخرجه ابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، وابن عساكر ، ومنهم : ابن عمر أخرجه الطبراني . وأخرج ابن عساكر ، عن عليّ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله لما خلق الدنيا لم يخلق فيها ذهباً ، ولا فضة ، فلما أهبط آدم ، وحواء أنزل معهما ذهبا ، وفضة ، فسلكه ينابيع في الأرض ، منفعة لأولادهما من بعدهما ، وجُعِل ذلك صداقاً لحواء فلا ينبغي لأحد أن يتزوج إلا بصداق "

وأخرج ابن عساكر بسند ضعيف ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هبط آدم ، وحواء عريانين جميعاً عليهم ورق الجنة ، قعد يبكي ، ويقول لها : يا حوّاء قد آذاني الحر ، فجاءه جبريل بقطن ، وأمرها أن تغزل ، وعلمها ، وأمر آدم بالحياكة ، وعلمه " وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعاً : «أوّل من حاك آدم عليه السلام» .
وقد روى عن جماعة من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم حكايات في صفة هبوط آدم من الجنة ، وما أهبط معه ، وما صنع عند وصوله إلى الأرض ، ولا حاجة لنا ببسط جميع ذلك .
وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : { فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال : أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال : بلى ، قال : أي ربّ ألم تنفخ فيّ من روحك؟ بلى قال : بلى . قال : أي رب ألم تسبق إليّ رحمتك قبل غضبك؟ قال : بلى . قال : أي ربّ ألم تسكني جنتك؟ قال : بلى . قال : أي رب أرأيت إن تبتُ وأصلحتُ أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال : نعم . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن عساكر بسند ضعيف ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لما أهبط الله آدم إلى الأرض قام وجاه الكعبة فصلى ركعتين " الحديث . وقد روى نحوه بإسناد لا بأس به أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدعوات ، وابن عساكر من حديث بريدة مرفوعاً . وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في قوله : { فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال : قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ] . وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جرير عنه مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن محمد بن كعب القرظي في قوله : { فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } مثله : وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد مثله . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، والضحاك مثله .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قيل له : ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال : علم شأن الحج ، فهي الكلمات . وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن زيد في قوله : { فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ } قال : لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، عملت سوءاً ، وظلمت نفسي ، فاغفر لي إنك أنت خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك ، وبحمدك ، رب عملت سوءاً ، وظلمت نفسي ، فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك ، وبحمدك رب عملت سوءاً ، وظلمت نفسي ، فتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم .

وأخرج نحوه البيهقي في شعب الإيمان ، وابن عساكر ، عن أنس . وأخرج نحوه هنا ، وفي الزهد عن سعيد بن جبير . وأخرج نحوه ابن عساكر من طريق جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس . وأخرج نحوه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن عليّ مرفوعاً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } قال الهدى : الأنبياء ، والرسل ، والبيان . وأخرج ابن الأنباري ، في المصاحف عن أبي الطفيل قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَمَن تَبِعَ * هُدِىَ } بتثقيل الياء ، وفتحها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } يعني في الآخرة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني لا يحزنون للموت .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف ، وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته ، واستغرقوا أوقاتهم في فنّ لا يعود عليهم بفائدة ، بل أوقعوا أنفسهم في التكلف بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه ، وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية ، المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف ، فجاءوا بتكلفات ، وتعسفات يتبرأ منها الإنصاف ، ويتنزه عنها كلام البلغاء ، فضلاً عن كلام الرب سبحانه ، حتى أفردوا ذلك بالتصنيف ، وجعلوه المقصد الأهمّ من التأليف ، كما فعله البقاعي في تفسيره ، ومن تقدّمه ، حسبما ذكر في خطبته ، وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال ينزل مفرّقاً على حسب الحوادث المقتضية لنزوله ، منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبضه الله - عزّ وجل - إليه ،
وكل عاقل فضلاً ، عن عالم ، لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها ، بل قد تكون متناقضة ، كتحريم أمرٍ كان حلالاً ، وتحليل أمر كان حراماً ، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله ، وتارة يكون الكلام مع المسلمين ، وتارة مع الكافرين ، وتارة مع من مضى ، وتارة مع من حضر ، وحيناً في عبادة ، وحيناً في معاملة ، ووقتاً في ترغيب ، ووقتاً في ترهيب ، وآونة في بشارة ، وآونة في نذارة ، وطوراً في أمر دنيا ، وطوراً في أمر آخرة ، ومرة في تكاليف آتية ، ومرة في أقاصيص ماضية ، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ، ومتباينة هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف ، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها ، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب ، والنون ، والماء والنار ، والملاح ، والحادي؟
وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك ، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض ، أو كان مرضه مجرد الجهل ، والقصور ، فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن ، ويفردون ذلك بالتصنيف ، تقرّر عنده أن هذا أمر لا بد منه ، وأنه لا يكون القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضى للمناسبة ، وتبين الأمر الموجب للارتباط ، فإن وجد الاختلاف بين الآيات ، فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك ، فوجده تكلفاً محضاً ، وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية ، وسلامة ، هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف؛ فكيف ، وكل من له أدنى علم بالكتاب ، وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك ، ومن شك في هذا ، وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم ، رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول ، المطلعين على حوادث النبوّة ، فإنه ينثلج صدره ، ويزول عنه الريب ، بالنظر في سورة من السور المتوسطة ، فضلاً عن المطوّلة؛ لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة ، وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزل فيها في الترتيب ، بل يكفي المقصر أن يعلم أن أوّل ما نزل :

{ اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وبعده { يأَيُّهَا المدثر } [ المدثر : 1 ] { يأَيُّهَا المزمل } [ المزمل : 1 ] وينظر أين موضع هذه الآيات ، والسور في ترتيب المصحف؟
وإذا كان الأمر هكذا ، فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدّم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً ، وتأخر ما أنزله الله متقدماً ، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن ، بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ، ممن تصدّى لذلك من الصحابة ، وما أقل نفع مثل هذا ، وأنزر ثمرته ، وأحقر فائدته ، بل هو عند من يفهم ما يقول ، وما يقال له من تضييع الأوقات ، وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ، ولا على من يقف عليه من الناس ، وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ، ورسائله وإنشاءاته ، أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً ، وأخرى هجاء ، وحيناً نسيباً ، وحيناً رثاءً ، وغير ذلك من الأنواع المتخالفة ، فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع ، فناسب بين فقره ومقاطعه ، ثم تكلَّف تكلفاً آخر ، فناسب بين الخطبة التي خطبها في الجهاد ، والخطبة التي خطبها في الحج ، والخطبة التي خطبها في النكاح ، ونحو ذلك ، وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء ، والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك ، لعدّ هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله ، متلاعباً بأوقاته ، عابثاً بعمره الذي هو رأس ماله .
وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر ، فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب ، وأبكمت فصاحته فصحاء عدنان ، وقحطان؟ وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربيّ ، وأنزله بلغة العرب ، وسلك فيه مسالكهم في الكلام ، وجرى به مجاريهم في الخطاب . وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة ، وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين ، فضلاً عن المقامات ، فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حياً ، وكذلك شاعرهم . ولنكتف بهذا التنبيه على هذه المفسدة التي تعثَّر في ساحتها كثير من المحققين ،
وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن؛ لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام ، فإذا قال متكلف : كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا : لا كيف :

فَدعْ عَنْكَ نَهباً صِيح في حُجَراته ... وَهات حَدِيثاً مَا حَدِيثُ الرواحِل
قوله : { يا بَنِى إسراءيل } اتفق المفسرون على أن إسرائيل هو يعقوب بن إبراهيم عليهم السلام ، ومعناه : عبد الله؛ لأن " إسر " في لغتهم هو : العبد ، " وإيل " هو : الله ، قيل : إن له اسمين . وقيل : إسرائيل لقب له ، وهو اسم عجمي غير منصرف . وفيه سبع لغات : إسرائيل بزنة إبراهيم ، وإسرائِيل بمدّة مهموزة مختلسة رواها ابن شنبوذ ، عن ورش ، وإسرائيل بمدّة بعد الياء من غير ، همز وهي : قراءة الأعمش ، وعيسى بن عمر ، وقرأ الحسن من غير همز ، ولا مدّ ، وإسرائل بهمزة مكسورة . وإسراءَل بهمزة مفتوحة ، وتميم يقولون : إسرائين . والذكر هو ضد الإنصات ، وجعله بعض أهل اللغة مشتركاً بين ذكر القلب واللسان . وقال الكسائي : ما كان بالقلب ، فهو مضموم الذال ، وما كان باللسان ، فهو مكسور الذال . قال ابن الأنباري : والمعنى في الآية : اذكروا شكر نعمتي ، فحذف الشكر اكتفاءً بذكر النعمة ، وهي اسم جنس ، ومن جملتها أنه جعل منهم أنبياء ، وأنزل عليهم الكتب ، والمنّ والسلوى ، وأخرج لهم الماء من الحجر ، ونجاهم من آل فرعون وغير ذلك .
والعهد قد تقدم تفسيره . واختلف أهل العلم في العهد المذكور في هذه الآية ما هو؟ فقيل هو : المذكور في قوله تعالى : { خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } [ البقرة : 63 ] وقيل هو : ما في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً } [ المائدة : 12 ] وقيل : هو قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب } [ آل عمران : 187 ] . وقال الزجاج : هو ما أخذ عليهم في التوراة من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هو أداء الفرائض ، ولا مانع من حمله على جميع ذلك . ومعنى قوله : { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي : بما ضمنت لكم من الجزاء ، والرهب ، والرهبة : الخوف ، ويتضمن الأمر به معنى التهديد ، وتقديم معمول الفعل يفيد الاختصاص كما تقدّم في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] وإذا كان التقديم على طريقة الإضمار ، والتفسير ، مثل زيداً ضربته { وإياى فارهبون } كان أوكد في إفادة الاختصاص ، ولهذا قال صاحب الكشاف : وهو أوكد في إفادة الاختصاص من { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] وسقطت الياء من قوله : { فارهبون } لأنها رأس آية و { مُصَدّقًا } حال من «ما» في قوله : { مَا أُنزِلَتْ } أو من ضميرها المقدّر بعد الفعل ، أي : أنزلته . وقوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } إنما جاء به مفرداً ، ولم يقل كافرين حتى يطابق ما قبله؛ لأنه وصف لموصوف محذوف مفرد اللفظ ، متعدد المعنى نحو فريق ، أو فوج . وقال الأخفش ، والفراء : إنه محمول على معنى الفعل؛ لأن المعنى أوّل من كفر . وقد يكون من باب قولهم هو ، أظرف الفتيان ، وأجمله ، كما حكى ذلك سيبويه ، فيكون هذا المفرد قائماً مقام الجمع ، وإنما قال : { أوّل } مع أنه قد تقدّمهم إلى الكفر به كفار قريش؛ لأن المراد أوّل كافر به من أهل الكتاب؛ لأنهم العارفون بما يجب للأنبياء ، وما يلزم من التصديق ، والضمير في " به " عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي : لا تكونوا أوّل كافر بهذا النبي مع كونكم قد وجدتموه مكتوباً عندكم في التوراة ، والإنجيل ، ميسراً به في الكتب المنزلة عليكم ، وقد حكى الرازي في تفسيره في هذا الموضع ما وقف عليه من البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب السابق .

وقيل : إنه عائد إلى القرآن المدلول عليه بقوله : { بِمَا أَنزَلْتُ } وقيل : عائد إلى التوراة المدلول عليها بقوله : { لّمَا مَعَكُمْ }
وقوله : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي } أي : بأوامري ونواهيّ { ثَمَناً قَلِيلاً } أي : عيشاً نزراً ، ورئاسة لا خطر لها ، جعل ما اعتاضوه ثمناً ، وأوقع الاشتراء عليه ، وإن كان الثمن هو المشترى به ، لأن الاشتراء هنا مستعار للاستبدال ، أي لا تستبدلوا بآياتي ثمناً قليلاً ، وكثيراً ما يقع مثل هذا في كلامهم ، وقد قدّمنا الكلام عليه في تفسير قوله تعالى : { اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] ، ومن إطلاق اسم الثمن على نيل عرض من أعراض الدنيا قول الشاعر :
إن كُنتَ حَاوْلتَ دُنْيَا أوْ ظَفِرتَ بِها ... فَمَا أصَبْت بترك الحج مِنْ ثَمن
وهذه الآية ، وإن كانت خطاباً لبني إسرائيل ، ونهياً لهم ، فهي متناولة لهذه الأمة بفحوى الخطاب ، أو بلحنه ، فمن أخذ من المسلمين رشوة على إبطال حق أمر الله به ، أو إثبات باطل نهى الله عنه ، أو امتنع من تعليم ما علمه الله ، وكتم البيان أخذ الله عليه ميثاقه به ، فقد اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ، وقوله : { وإياى فاتقون } الكلام فيه كالكلام في قوله تعالى : { وإياى فارهبون } [ البقرة : 40 ] وقد تقدم قريباً . واللبس : الخلط ، يقال لبست عليه الأمر ألبسه : إذا خلطت حقه بباطله ، وواضحه بمشكله ، قال الله تعالى : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } [ الأنعام : 9 ] قالت الخنساء :
ترى الجليس يقول الحقَّ تحسبه ... رُشْداً وهيهات فانظر ما به التبسا
صدق مقالته واحذَر عداوته ... والبس عليه أموراً مثلَ ما لَبَسا
وقال العجاج :
لَما لَبَسنَ الحقَّ بِالتَّجَنيّ ... غَنِين فاسْتبدلن زيداً منيّ
ومنه قول عنترة :
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وقيل : هو مأخوذ من التغطية : أي لا تغطوا الحق بالباطل ، ومنه قول الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ... تثنت عليه وكانت لباسا
وقول الأخطل :
فوقد لبست لهذا الأمر أعصره ... حتى تجلل رأسي الشيب فاشتعلا
والأوّل أولى . والباطل في كلام العرب : الزائل ، ومنه قو لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وبطل الشيء يبطل بطولاً أو بطلاناً ، وأبطله غيره ، ويقال ذهب دمه بطلاً : أي هدراً ، والباطل : الشيطان ، وسمي الشجاع بطلاً؛ لأنه يبطل شجاعة صاحبه ، والمراد به هنا خلاف الحق .

والباء في قوله : بالباطل يحتمل أن تكون صلة ، وأن تكون للاستعانة ذكر معناه في الكشاف ، ورجّح الرازي في تفسيره الثاني . وقوله : { وَتَكْتُمُواْ } يجوز أن يكون داخلاً تحت حكم النهي ، أو منصوباً بإضمار أن ، وعلى الأوّل يكون كل واحد من اللبس ، والكتم منهياً عنه ، وعلى الثاني يكون المنهي عنه هو : الجمع بين الأمرين ، ومن هذا يلوح رجحان دخوله تحت حكم النهي ، وأن كل واحد منهما لا يجوز فعله على انفراده ، والمراد النهي عن كتم حجج الله التي أوجب عليهم تبليغها ، وأخذ عليهم بيانها ، ومن فسر اللبس أو الكتمان بشيء معين ، ومعنى خاص ، فلم يصب أن أراد أن ذلك هو : المراد دون غيره ، لا إن أراد أنه مما يصدق عليه . وقوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية ، وفيه أن كفرهم كفر عناد لا كفر جهل ، وذلك أغلظ للذنب ، وأوجب للعقوبة ، وهذا التقييد لا يفيد جواز اللبس ، والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل يجب عليه أن لا يقدم على شيء حتى يعلم بحكمه خصوصاً في أمور الدين ، فإن التكلم فيها ، والتصدّي للإصدار ، والإيراد في أبوابها إنما أذن الله به لمن كان رأساً في العلم فرداً في الفهم ، وما للجهال ، والدخول فيما ليس من شأنهم ، والقعود في غير مقاعدهم . وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { مَعِىَ بَنِى إسراءيل } قال للأحبار من اليهود { اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي بلائي عندكم ، وعند آبائكم لما كان نجاهم به من فرعون ، وقومه { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى } الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه ، واتباعه بوضع ما كان عليكم من الإصر ، والأغلال { وإياى فارهبون } أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات { وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم { وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي ، وبما جاءكم به وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { أَوْفُواْ * بِعَهْدِى } يقول : ما أمرتكم به من طاعتي ، ونهيتكم عنه من معصيتي في النبي صلى الله عليه وسلم ، وغيره { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } يقول : أرض عنكم ، وأدخلكم الجنة . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود مثله . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { أَوْفُواْ * بِعَهْدِى } قال : هو : الميثاق الذي أخذه عليهم في سورة المائدة { لَقَدْ أَخَذْنَا * الله ميثاق بَنِى إسراءيل } [ المائدة : 12 ] الآية .

وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : أوفوا لي بما افترضت عليكم أوف لكم بما وعدتكم . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { وإياى فارهبون } قال : فاخشون . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جريج ، عن مجاهد في قوله : { وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ } قال القرآن : { مُصَدّقاً لّمَا مَعَكُمْ } قال التوراة والإنجيل . وأخرج ابن جريج ، عن ابن جرير في قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } قال : بالقرآن . وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في الآية قال : يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت على محمد مصدقاً لما معكم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، والإنجيل { وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } أي : أوّل من كفر بمحمد { وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي } يقول : لا تأخذا عليه أجراً ، قال : وهو : مكتوب عندهم في الكتاب الأوّل : يابن آدم علم مجاناً كما علمت مجاناً . وأخرج أبو الشيخ عنه قال : لا تأخذ على ما علمت أجراً ، إنما أجر العلماء ، والحكماء ، والحلماء على الله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } قال : لا تخلطوا الصدق بالكذب { وَتَكْتُمُواْ الحق } قال : لا تكتموا الحق ، وأنتم قد علمتم أن محمداً رسول الله . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ } الآية ، قال : لا تلبسوا اليهودية ، والنصرانية بالإسلام { وَتَكْتُمُواْ الحق } قال : كتموا محمداً وهم يعلمون أنه رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، والإنجيل . وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : الحق التوراة ، والباطل الذي كتبوه بأيديهم .

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

قد تقدم الكلام في تفسير إقامة الصلاة ، واشتقاقها ، والمراد هنا : الصلاة المعهودة ، وهي صلاة المسلمين ، على أن التعريف للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس ، ومثلها الزكاة . والإيتاء : الإعطاء ، يقال : آتيته . أي أعطيته . والزكاة مأخوذة من الزكاء ، وهو : النماء ، زكا الشيء : إذا نما ، وزاد ، ورجل زكي ، أي : زائد الخير ، وسمي إخراج جزء من المال زكاة ، أي : زيادة مع أنه نقص منه؛ لأنها تكثر بركته بذلك ، أو تكثر أجر صاحبه . وقيل الزكاة مأخوذة من التطهير ، كما يقال زكا فلان : أي : طهر .
والظاهر أن الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصوم ، ونحوها قد نقلها الشرع إلى معان شرعية هي : المرادة بما هو مذكور في الكتاب والسنة منها . وقد تكلم أهل العلم على ذلك بما لا يتسع المقام لبسطه . وقد اختلف أهل العلم في المراد بالزكاة هنا ، فقيل المراد المفروضة ، لاقترانها بالصلاة . وقيل صدقة الفطر ، والظاهر أن المراد ما هو أعم من ذلك .
والركوع في اللغة : الانحناء ، وكل منحن راكع ، قال لبيد :
أخَبِّرُ أخبارَ القرون التي مضت ... أدِبُّ كأني كلما قمت راكعُ
وقيل : الانحناء يعم الركوع والسجود ، ويستعار الركوع أيضاً للانحطاط في المنزلة ، قال الشاعر :
لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه
وإنما خص الركوع بالذكر هنا؛ لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم . وقيل : لكونه كان ثقيلاً على أهل الجاهلية . وقيل : إنه أراد بالركوع جميع أركان الصلاة . والركوع الشرعي : هو أن ينحني الرجل ، ويمد ظهره وعنقه ، ويفتح أصابع يديه ، ويقبض على ركبتيه ، ثم يطمئن راكعاً ، ذاكراً بالذكر المشروع . وقوله : { مَعَ الراكعين } فيه الإرشاد إلى شهود الجماعة ، والخروج إلى المساجد ، وقد ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما ما هو معروف . وقد أوجب حضور الجماعة بعض أهل العلم ، على خلاف بينهم في كون ذلك عيناً أو كفاية ، وذهب الجمهور إلى أنه سنة مؤكدة مرغب فيها ، وليس بواجب . وهو الحق للأحاديث الثابتة الصحيحة عن جماعة من الصحابة ، من أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة ، أو بسبع وعشرين درجة . وثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم « الذي يصلي مع الإمام أفضل من الذي يصلي وحده ، ثم ينام » والبحث طويل الذيول كثير النقول .
والهمزة في قوله : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر } للاستفهام مع التوبيخ للمخاطبين ، وليس المراد توبيخهم على نفس الأمر بالبر ، فإنه فعل حسن مندوب إليه ، بل بسبب ترك فعل البر المستفاد من قوله : { وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } مع التطهر بتزكية النفس ، والقيام في مقام دعاة الخلق إلى الحق إيهاماً للناس ، وتلبيساً عليهم ، كما قال أبو العتاهية :

وصفت التُّقي حتى كأنك ذو تُقىً ... وريحُ الخطايا من ثِيابك تسطع
والبرّ : الطاعة ، والعمل الصالح . والبر : سعة الخير والمعروف . والبر : الصدق . والبر : ولد الثعلب . والبر : سوق الغنم . ومن إطلاقه على الطاعة قول الشاعر :
لا هُمُ ربّ أن بكراً دونكا ... يَبَرُّك الناسُ ويفجرونكا
أي : يطيعونك ، ويعصونك . والنسيان بكسر النون هو : هنا بمعنى الترك ، أي : وتتركون أنفسكم ، وفي الأصل خلاف الذكر ، والحفظ ، أي : زوال الصورة التي كانت محفوظة عن المدركة ، والحافظة . والنفس : الروح ، ومنه قوله تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] يريد الأرواح . وقال أبو خراش :
نجا سالم ، والنفس منه بشدقه ... والنفس أيضاً الدم ، ومنه قولهم : سالت نفسه ، قال الشاعر :
تسيل على حدّ السيوف نفوسنا ... وليس على غير الظبات تسيل
والنفس الجسد ، ومنه :
نُبئّتُ أن بني سُحَيم أدخلوا ... أبياتَهم تأمُور نَفسِ المُنذِر
والتأمور البدن .
وقوله : { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكتاب } جملة حالية مشتملة على أعظم تقريع ، وأشد توبيخ ، وأبلغ تبكيت : أي : كيف تتركون البر الذي تأمرون الناس به؟ وأنتم من أهل العلم العارفين بقبح هذا الفعل ، وشدّة الوعيد عليه ، كما ترونه في الكتاب الذي تتلونه ، والآيات التي تقرءونها من التوراة . والتلاوة : القراءة ، وهي المراد هنا ، وأصلها الإتباع؛ يقال تلوته : إذا تبعته ، وسمي القارىء تالياً ، والقراءة تلاوة؛ لأنه يتبع بعض الكلام ببعض على النسق الذي هو عليه . وقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } استفهام للإنكار عليهم ، والتقريع لهم ، وهو أشدّ من الأوّل ، وأشدّ .
وأشدّ ما قرّع الله في هذا الموضع من يأمر بالخير ، ولا يفعله من العلماء ، الذين هم غير عاملين بالعلم ، فاستنكر عليهم أوّلاً أمرهم للناس بالبرّ مع نسيان أنفسهم في ذلك ، الأمر الذي قاموا به في المجامع ، ونادوا به في المجالس إيهاماً للناس بأنهم مبلغون عن الله ما تحملوه من حججه ، ومبينون لعباده ما أمرهم ببيانه ، وموصلون إلى خلقه ما استودعهم ، وائتمنهم عليه ، وهم أترك الناس لذلك ، وأبعدهم من نفعه ، وأزهدهم فيه ، ثم ربط هذه الجملة بجملة أخرى ، جعلها مبينة لحالهم ، وكاشفة لعوارهم ، وهاتكة لأستارهم ، وهي : أنهم فعلوا هذه الفعلة الشنيعة ، والخصلة الفظيعة على علم منهم ، ومعرفة بالكتاب الذي أنزل عليهم ، وملازمة لتلاوته ، وهم في ذلك كما قال المعرّي :
وَإنَّما حمل التَّوْراة قارِئها ... كَسْبُ الفَوائِد لا حُب التلاواتِ
ثم انتقل معهم من تقريع إلى تقريع ، ومن توبيخ إلى توبيخ فقال : إنكم لو لم تكونوا من أهل العلم ، وحملة الحجة ، وأهل الدراسة لكتب الله ، لكان مجرد كونكم ممن يعقل حائلاً بينكم وبين ذلك ذائداً لكم عنه زاجراً لكم منه ، فكيف أهملتم ما يقتضيه العقل بعد إهمالكم لما يوجبه العلم؟ والعقل في أصل اللغة : المنع ، ومنه عقال البعير؛ لأنه يمنعه عن الحركة ، ومنه العقل في الدية؛ لأنه يمنع وليّ المقتول عن قتل الجاني .

والعقل نقيض الجهل ، ويصح تفسير ما في الآية هنا بما هو ، أصل معنى العقل عند أهل اللغة : أي : أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المزرية؟ ويصح أن يكون معنى الآية : أفلا تنظرون بعقولكم التي رزقكم الله إياها حيث لم تنتفعوا بما لديكم من العلم؟ وقوله : { واستعينوا بالصبر } الصبر في اللغة : الحبس ، وصبرت نفسي على الشيء : حبستها . ومنه قول عنترة :
فصبرتُ عارفةً لذلك حُرّةً ... تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبَان تَطلَّعُ
والمراد هنا : استعينوا بحبس أنفسكم عن الشهوات ، وقصرها على الطاعات على دفع ما يرد عليكم من المكروهات . وقيل الصبر هنا هو خاص بالصبر على تكاليف الصلاة . واستدل هذا القائل بقوله تعالى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] ، وليس في هذا الصبر ، الخاص بهذه الآية ما ينفي ما تفيده الألف واللام الداخلة على الصبر من الشمول كما أن المراد بالصلاة هنا جميع ما تصدق عليه الصلاة الشرعية من غير فرق بين فريضة ، ونافلة . واختلف المفسرون في رجوع الضمير في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } فقيل : إنه راجع إلى الصلاة ، وإن كان المتقدم هو الصبر ، والصلاة ، فقد يجوز إرجاع الضمير إلى أحد الأمرين المتقدم ذكرهما . كما قال تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] إذا كان أحدهما داخلاً تحت الآخر بوجه من الوجوه ، ومنه قول الشاعر :
إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَر الأس ... ودَ ما لم يُعاضَ كان جنونا
ولم يقل ما لم يعاضا بل جعل الضمير راجعاً إلى الشباب؛ لأن الشعر الأسود داخل فيه ، وقيل : إنه عائد إلى الصلاة من دون اعتبار دخول الصبر تحتها؛ لأن الصبر هو عليها ، كما قيل سابقاً ، وقيل : إن الضمير راجع إلى الصلاة وإن كان الصبر مراداً معها ، لكن لما كانت آكد ، وأعم تكليفاً ، وأكثر ثواباً كانت الكناية بالضمير عنها ، ومنه قوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } [ التوبة : 34 ] كذا قيل . وقيل : إن الضمير راجع إلى الأشياء المكنوزة ، ومثل ذلك قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] فأرجع الضمير هنا إلى الفضة والتجارة لما كانت الفضة أعم نفعاً وأكثر وجوداً ، والتجارة هي الحاملة على الانفضاض . والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأوّل : أن الصبر هناك جعل داخلاً تحت الصلاة ، وهنا لم يكن داخلاً وإن كان مراداً ، وقيل إن المراد الصبر والصلاة ، ولكن أرجع الضمير إلى أحدهما استغناء به عن الآخر ، ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } [ المؤمنون : 50 ] أي : ابن مريم آية وأمه آية . ومنه قول الشاعر :
ومن يَكُ أمسى بالمدينة رَحْلُه ... فإني وَقَيّارُ بها لغريبُ
وقال آخر :
لكل هَمٍّ من الهموم سَعَة ... والصُّبْح والمساء لا فلاح مَعَه
وقيل : رجع الضمير إليهما بعد تأويلهما بالعبادة .

وقيل : رجع إلى المصدر المفهوم من قوله : { واستعينوا } وهو الاستعانة . وقيل : رجع إلى جميع الأمور التي نهى عنها بنو إسرائيل . والكبيرة التي يكبر أمرها ، ويتعاظم شأنها على حاملها؛ لما يجده عند تحملها ، والقيام بها من المشقة ، ومنه : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } [ الشورى : 13 ] . والخاشع : هو المتواضع ، والخشوع : التواضع . قال في الكشاف : والخشوع : الإخبات والتطامن ، ومنه الخشعة للرملة المتطامنة ، وأما الخضوع : فاللين والانقياد ، ومنه خضعت بقولها : إذا ليَّنَتْه . انتهى . وقال الزجاج : الخاشع الذي يرى أثر الذلّ والخشوع عليه كخشوع الدار بعد الأقوى ، ومكان خاشع : لا يهتدى إليه ، وخشعت الأصوات ، أي : سكنت ، وخشع ببصره : إذا غضه ، والخشعة : قطعة من الأرض رخوة . وقال سفيان الثوري : سألت الأعمش عن الخشوع ، فقال : يا ثوري أنت تريد أن تكون إماماً للناس ، ولا تعرف الخشوع؟! ليس الخشوع بأكل الخشن ، ولبس الخشن ، وتطأطؤ الرأس ، لكن الخشوع أن ترى الشريف ، والدنيء في الحق سواء ، وتخشع لله في كل فرض افترض عليك . انتهى . وما أحسن ما قاله بعض المحققين في بيان ماهيته : إنه هيئة في النفس يظهر منها في الجوارح سكون ، وتواضع . واستثنى سبحانه الخاشعين مع كونهم باعتبار استعمال جوارحهم في الصلاة ، وملازمتهم لوظائف الخشوع الذي هو روح الصلاة ، وإتعابهم لأنفسهم إتعاباً عظيماً في الأسباب الموجبة للحضور ، والخضوع؛ لأنهم لما يعلمونه من تضاعف الأجر ، وتوفر الجزاء ، والظفر بما وعد الله به من عظيم الثواب ، تسهل عليهم تلك المتاعب ، ويتذلل لهم ما يرتكبونه من المصاعب ، بل يصير ذلك لذة لهم خالصة ، وراحة عندهم محضة ، ولأمر ما هان على قوم ما يلاقونه من حرّ السيوف عند تصادم الصفوف ، وكانت الأمنية عندهم طعم المنية حتى قال قائلهم :
ولست أبالي حين أقتل مسلماً ... على أيّ جنب كان في الله مصرعي
والظن هنا عند الجمهور بمعنى اليقين ، ومنه قوله تعالى : { إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] ، وقوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] ومنه قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظُنُّوا بألفَي مدجَّج ... سَراتُّهُم بالفارسي المُسَوَّدِ
وقيل : إن الظن في الآية على بابه ، ويضمر في الكلام بذنوبهم ، فكأنهم توقعوا لقاءه مذنبين ، ذكره المهدوي والماوردي ، والأوّل أولى . وأصل الظن : الشك مع الميل إلى أحد الطرفين ، وقد يقع موقع اليقين في مواضع ، منها هذه الآية . ومعنى قوله : { ملاقوا رَبّهِمْ } ملاقوا جزائه ، والمفاعلة هنا ليست على بابها ، ولا أرى في حمله على أصل معناه من دون تقدير المضاف بأساً . وفي هذا مع ما بعده من قوله : { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون } إقراراً بالبعث ، وما وعد الله به في اليوم الآخر .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { واركعوا } قال : صلوا . وأخرج ابن أبي حاتم أيضاً عن مقاتل في قوله : { واركعوا مَعَ الراكعين } قال : أمرهم أن يركعوا مع أمة محمد ، يقول : كونوا منهم ومعهم .

وأخرج عبد ابن حميد عن قتادة في قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر } الآية ، قال : أولئك أهل الكتاب كانوا يأمرون الناس بالبرّ ، وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب ، ولا ينتفعون بما فيه . وأخرج الثعلبي والواحدي عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في يهود أهل المدينة ، كان الرجل منهم يقول لصهره ، ولذي قرابته ، ولمن بينه وبينه رضاع من المسلمين : اثبت على الدين الذي أنت عليه ، وما يأمرك به هذا الرجل ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإن أمره حق ، وكانوا يأمرون الناس بذلك ، ولا يفعلونه .
وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر } قال : بالدخول في دين محمد . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوّة ، والعهد من التوراة ، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسلي؟ وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن أبي الدرداء في الآية قال : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ، ثم يرجع إلى نفسه ، فيكون لها أشدّ مقتاً . وأخرج أحمد وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي رجالاً تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلما قرضت رجعت ، فقلت لجبريل : من هؤلاء؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك كانوا يأمرون الناس بالبرّ ، وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون " وثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق به أقتابه ، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار ، فيقولون : يا فلان ما لك؟ ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف ، وتنهانا عن المنكر؟ فيقول : «كنت آمركم بالمعروف ، ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر ، وآتيه " وفي الباب أحاديث منها عن جابر مرفوعاً عند الخطيب ، وابن النجار ، وعن الوليد بن عقبة مرفوعاً عند الطبراني ، والخطيب بسند ضعيف ، وعند عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه موقوفاً ، ومعناها جميعاً : أنه يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار ، فيقولون لهم : بما دخلتم النار ، وإنما دخلنا الجنة بتعليمكم؟ قالوا : إنا كنا نأمركم ، ولا نفعل . وأخرج الطبراني ، والخطيب في الاقتضاء ، والأصبهاني في الترغيب بسند جيد عن جندب بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ، ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ، ويحرق نفسه " وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عنه نحوه . وأخرج الطبراني ، والخطيب في الاقتضاء عن أبي برزة مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن قانع في معجمه ، والخطيب في الاقتضاء عن سليك مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد عن أبي الدرداء قال : «ويل للذي لا يعلم مرة ، ولو شاء الله لعلمه ، وويل للذي يعلم ، ولا يعمل سبع مرات» . وأخرج أحمد في الزهد عن عبد الله بن مسعود مثله ،
وما أحسن ما أخرجه ابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن عساكر عن ابن عباس؛ أنه جاءه رجل فقال : يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، قال : أو بلغت ذلك؟ قال : أرجو ، قال : فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله ، فافعل ، قال : وما هنّ؟ قال : قوله عزّ وجلّ : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 44 ] أحكمت هذه الآية؟ قال لا ، قال : فالحرف الثاني ، قال : قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ، 3 ] أحكمت هذه الآية؟ قال لا ، قال : فالحرف الثالث؟ قال : قول العبد الصالح شعيب { مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } [ هود : 88 ] أحكمت هذه الآية؟ قال لا ، قال : فابدأ بنفسك .
وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } قال : إنهما معونتان من الله ، فاستعينوا بهما . وقد أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر ، وأبو الشيخ في الثواب ، والديلمي في مسند الفردوس عن عليّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصبر ثلاثة : فصبر على المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية " وقد وردت أحاديث كثيرة في مدح الصبر والترغيب فيه ، والجزاء للصابرين ، ولم نذكرها هنا ، لأنها ليست بخاصة بهذه الآية ، بل هي واردة في مطلق الصبر ، وقد ذكر السيوطي في الدر المنثور ها هنا منها شطراً صالحاً ، وفي الكتاب العزيز من الثناء على ذلك ، والترغيب فيه الكثير الطيب . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن جرير عن حذيفة ، قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» وأخرج أحمد ، والنسائي ، وابن حبان ، عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كانوا : يعني الأنبياء ، يفزعون إذا فزعوا إلى الصلاة " وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن عساكر ، عن أبي الدرداء مرفوعاً نحو حديث حذيفة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس ، أنه كان في مسير له ، فنعى إليه ابن له ، فنزل فصلى ركعتين ثم استرجع ، فقال : فعلنا كما أمرنا الله فقال : { واستعينوا بالصبر والصلاة } .

وقد روى عنه نحو ذلك سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي لما نعى إليه أخوه قثم . وقد روى نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ، والتابعين ،
وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } قال : لثقيلة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } قال : المؤمنين حقاً . وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } قال : الخائفين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كل ظنّ في القرآن ، فهو يقين ، ولا يتم هذا في مثل قوله : { إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } [ النجم : 28 ] وقوله : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ولعله يريد الظن المتعلق بأمور الآخرة ، كما رواه ابن جرير عن قتادة قال : ما كان من ظن الآخرة ، فهو علم . وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجعون } قال : يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة .

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

قوله : { يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قد تقدم تفسيره ، وإنما كرر ذلك سبحانه توكيداً للحجة عليهم ، وتحذيراً لهم من ترك اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قرنه بالوعيد ، وهو قوله : { واتقوا يَوْمًا } ، وقوله : { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ } معطوف على مفعول اذكروا أي : اذكروا نعمتي ، وتفضيلي لكم على العالمين ، قيل المراد بالعالمين عالم زمانهم ، وقيل على جميع العالمين بما جعل ، فيهم من الأنبياء . وقال في الكشاف : على الجمّ الغفير من الناس كقوله : { بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } [ الأنبياء : 71 ] يقال رأيت عالماً من الناس : يراد الكثرة . انتهى . قال الرازي في تفسيره : وهذا ضعيف؛ لأن لفظ العالم مشتق من العلم ، وهو الدليل ، وكل ما كان دليلاً على الله كان علماً ، وكان من العالم ، وهذا تحقيق قول المتكلمين : العالم كل موجود سوى الله ، وعلى هذا لا يمكن تخصيص لفظ العالم ببعض المحدثات . انتهى .
وأقول : هذا الاعتراض ساقط ، أما أوّلا ، فدعوى اشتقاقه من العلم لا برهان عليه ، وأما ثانياً : فلو سلمنا صحة هذا الاشتقاق كان المعنى موجوداً بما يتحصل معه مفهوم الدليل على الله الذي يصح إطلاق اسم العلم عليه ، وهو كائن في كل فرد من أفراد المخلوقات التي يستدل بها على الخالق ، وغايته أن جميع العالم يستلزم أن يكونوا مفضلين على أفراد كثيرة من المحدثات؛ وأما أنهم مفضلون على كل المحدثات في كل زمان ، فليس في اللفظ ما يفيد هذا ، ولا في اشتقاقه ما يدل عليه ، وأما من جعل العالم أهل العصر ، فغايته أن يكونوا مفضلين على أهل عصور ، لا على أهل كل عصر ، فلا يستلزم ذلك تفضيلهم على أهل العصر الذين ، فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولا على ما بعده من العصور ، ومثل هذا الكلام ينبغي استحضاره عند تفسير قوله تعالى : { إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } [ المائدة : 20 ] وعند قوله تعالى : { وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين } [ الدخان : 32 ] وعند قوله تعالى : { إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين } [ آل عمران : 33 ] فإن قيل : إن التعريف في العالمين يدل على شموله لكل عالم . قلت : لو كان الأمر هكذا لم يكن ذلك مستلزماً لكونهم أفضل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم : لقوله تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] فإن هذه الآية ونحوها تكون مخصصة لتلك الآيات .
وقوله : { واتقوا يَوْمًا } أمر معناه الوعيد ، وقد تقدم معنى التقوى . والمراد باليوم : يوم القيامة أي : عذابه . وقوله : { لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } في محل نصب صفة ليوم ، والعائد محذوف . قال البصريون في هذا وأمثاله : تقديره فيه .

وقال الكسائي : هذا خطأ ، بل التقدير لا تجزيه؛ لأن حذف الظرف لا يجوز ، ويجوز حذف الضمير وحده . وقد روى عن سيبويه ، والأخفش ، والزجاج جواز الأمرين . ومعنى : { لا تجزي } : لا تكفي ، وتقضي ، يقال جزا عني هذا الأمر يجزي ، أي : قضى ، واجتزأت بالشيء أجتزيء ، أي : اكتفيت ، ومنه قول الشاعر :
فإن الغدرَ في الأقوام عَارٌ ... وإن الحر يَجزي بالكُراع
والمراد أن هذا اليوم لا تقضي نفس عن نفس شيئاً ، ولا تكفي عنها ، ومعنى التنكير : التحقير ، أي : شيئاً يسيراً حقيراً ، وهو منصوب على المفعولية ، أو على أنه صفة مصدر محذوف ، أي : جزاء حقيراً . والشفاعة مأخوذة من الشفع ، وهو الاثنان ، تقول استشفعته : أي : سألته أن يشفع لي ، أي : يضمّ جاهه إلى جاهك عند المشفوع إليه ، ليصل النفع إلى المشفوع له ، وسميت الشفعة شفعة؛ لأنك تضم ملك شريكك إلى ملكك . وقد قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، تقبل بالمثناة الفوقية؛ لأن الشفاعة مؤنثة ، وقرأ الباقون بالياء التحتية؛ لأنها بمعنى الشفيع . قال الأخفش : الأحسن التذكير . وضمير { منها } يرجع إلى النفس المذكورة ثانياً : أي : إن جاءت بشفاعة شفيع ، ويجوز أن يرجع إلى النفس المذكورة أوّلاً : أي : إذا شفعت لم يقبل منها . والعدل بفتح العين : الفداء ، وبكسرها : المثل . يقال عدل ، وعديل للذي ماثل في الوزن والقدر . وحكى ابن جرير : أن في العرب من يكسر العين في معنى الفدية . والنصر : العون ، والأنصار : الأعوان ، وانتصر الرجل : انتقم ، والضمير ، أي : هم ، يرجع إلى النفوس المدلول عليها بالنكرة في سياق النفي ، والنفس تذكر وتؤنث .
وقوله : { إِذْ نجيناكم } متعلق بقوله { اذكروا } والنجاة : النجوة من الأرض ، وهي ما ارتفع منها ، ثم سمي كل فائز ناجياً . وآل فرعون : قومه ، وأصل آل : أهل؛ بدليل تصغيره على أُهيل . وقيل غير ذلك ، وهو يضاف إلى ذوي الخطر . وقال الأخفش : إنما يقال في الرئيس الأعظم نحو آل محمد . ولا يضاف إلى البلدان ، فلا يقال من آل المدينة . وقال الأخفش : قد سمعناه في البلدان قالوا : آل المدينة . واختلفوا هل يضاف إلى المضمر أم لا . فمنعه قوم وسوّغه آخرون ، وهو الحق ، ومنه قول عبد المطلب :
وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك
وفرعون : قيل هو اسم ذلك الملك بعينه . وقيل إنه اسم لكل ملك من ملوك العمالقة كما يسمى من ملك الفرس : كسرى ، ومن ملك الروم : قيصر ، ومن ملك الحبشة : النجاشي . واسم فرعون موسى المذكور هنا : قابوس ، في قول أهل الكتاب . وقال وهب : اسمه الوليد بن مصعب بن الريان . قال المسعودي : لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية . وقال الجوهري : إن كل عات يقال له : فرعون ، وقد تفرعن وهو ذو فرعنة : أي : دهاء ومكر . وقال في الكشاف : تفرعَن فلان : إذا عتا وتجبر .

ومعنى قوله : { يَسُومُونَكُمْ } يولونكم ، قاله أبو عبيدة ، وقيل يذيقونكم ، ويلزمونكم إياه ، وأصل السوم الدوام ، ومنه سائمة الغنم لمداومتها الرعي ، ويقال : سامه خطة خسف : إذا أولاه إياها . وقال في الكشاف : أصله من سام السلعة إذا طلبها ، كأنه بمعنى : يبغونكم سوء العذاب ، ويريدونكم عليه . انتهى . { وسوء العذاب } : أشدّه ، وهو صفة مصدر محذوف ، أي يسومونكم سوماً سوء العذاب ، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ، وهذه الجملة في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ مقدّر ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال أي : سائمين لكم .
وقوله : { يُذَبّحُونَ } وما بعده بدل من قوله : { يَسُومُونَكُمْ } وقال الفراء : إنه تفسير لما قبله ، وقرأه الجماعة بالتشديد ، وقرأ ابن محيصن بالتخفيف . والذبح في الأصل : الشقّ ، وهو فرى أوداج المذبوح ،
والمراد بقوله تعالى : { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } يتركونهن أحياء؛ ليستخدموهنّ ، ويمتهنوهنّ وإنما أمر بذبح الأبناء ، واستحياء البنات ، لأن الكهنة أخبروه بأنه يولد مولود يكون هلاكه على يده ، وعبر عن البنات باسم النساء؛ لأنه جنس يصدق على البنات . وقالت طائفة : إنه أمر بذبح الرجال ، واستدلوا بقوله : { نِسَاءكُمْ } والأوّل أصح بشهادة السبب . ولا يخفى ما في قتل الأبناء ، واستحياء البنات للخدمة ونحوها ، من إنزال الذلّ بهم ، وإلصاق الإهانة الشديدة بجميعهم لما في ذلك من العار . والإشارة بقوله : { وَفِى ذلكم } إلى جملة الأمر ، والبلاء يطلق تارة على الخير ، وتارة على الشرّ ، فإن أريد به هنا الشرّ كانت الإشارة بقوله : { وَفِى ذلكم بَلاء } إلى ما حلّ بهم من النقمة بالذبح ونحوه ، وإن أريد به الخير كانت الإشارة إلى النعمة التي أنعم الله عليهم بالإنجاء ، وما هو مذكور قبله من تفضيلهم على العالمين . وقد اختلف السلف ومن بعدهم في مرجع الإشارة ، فرجح الجمهور الأوّل ، ورجح الآخرون الآخر . قال ابن جرير : وأكثر ما يقال في الشرّ بلوته أبلوه بلاء ، وفي الخير أبلية إبلاء وبلاء ، قال زهير :
جَزَى الله بِالإحْسانِ مِاَ فَعَلا بِكُم ... وأبلاهما خَيْر البَلاءِ الذَّيَ يَبْلُو
قال : فجمع بين اللغتين؛ لأنه أراد ، فأنعم عليهما خير النعم ، التي يختبر بها عباده . وقوله : { وَإِذْ فَرَقْنَا } متعلق بما تقدم من قوله : { اذكروا } وفرقنا : فلقنا ، وأصل الفرق : الفصل ، ومنه فرق الشعر ، وقرأ الزهري : «فرَّقنا» بالتشديد ، والباء في قوله : { بِكُمْ } قيل : هي بمعنى اللام ، أي : لكم . وقيل هي الباء السببية ، أي : فرقناه بسببكم . وقيل : إن الجار والمجرور في محل الحال ، أي : فرقناه متلبساً بكم ، والمراد ها هنا : أن فرق البحر كان بهم ، أي : بسبب دخولهم فيه ، أي : لما صاروا بين الماءين صار الفرق بهم . وأصل البحر في اللغة : الاتساع ، أطلق على البحر الذي هو مقابل البر ، لما فيه من الاتساع بالنسبة إلى النهر ، والخليج ، ويطلق على الماء المالح ، ومنه أبحر الماء : إذا ملح ، قال نصيب :

وقد عاد ماءُ الأرض بَحْراً فزادني ... إلى مَرَضي أن أبْحَرَ المَشْربُ العذْبُ
وقوله : { فأنجيناكم } أي : أخرجناكم منه . { وأغرقنا آل فرعون } فيه . وقوله : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } في محل نصب على الحال ، أي : حال كونكم ناظرين إليهم بأبصاركم . وقيل : معناه : وأنتم تنظرون ، أي : ينظر بعضكم إلى البعض الآخر من السالكين في البحر ، وقيل : نظروا إلى أنفسهم ينجون ، وإلى آل فرعون يغرقون . والمراد بآل فرعون هنا : هو وقومه وأتباعه .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب؛ أنه كان إذا تلا : { اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال : مضى القوم ، وإنما يعني به أنتم ، وأخرج ابن جرير عن سفيان بن عيينة قال في قوله : { اذكروا نِعْمَتِيَ } هي أيادي الله ، وأيامه . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : نعمة الله التي أنعم بها على بني إسرائيل ، فيما سمى ، وفيما سوى ذلك ، فجَّر لَهُم الحجر ، وأنزل عليهم المنّ ، والسلوى ، وأنجاهم من عبودية آل فرعون . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } قال : فضلوا على العالم الذي كانوا فيه ، ولكل زمان عالم . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن جرير عن أبي العالية في قوله : { فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } قال : بما أعطوا من الملك ، والرسل ، والكتب على من كان في ذلك الزمان ، فإن لكل زمان عالماً .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا } قال : لا تغني نفس مؤمنة عن نفس كافرة من المنفعة شيئاً . وأخرج ابن جرير ، عن عمرو بن قيس المُلائي ، عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن الثناء عليه ، قال : «قيل يا رسول الله ما العدل؟ قال : " العدل الفدية " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه . قال ابن أبي حاتم : وروى عن أبي مالك ، والحسن ، وسعيد بن جبير وقتادة ، والربيع بن أنس نحو ذلك . وأخرج عبد الرزاق عن عليّ في تفسير الصرف ، والعدل قال : التطوّع والفريضة . قال ابن كثير : وهذا القول غريب هاهنا ، والقول الأوّل أظهر في تفسير هذه الآية .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالت الكهنة لفرعون : إنه يولد في هذا العام مولود يذهب بملكه ، فجعل فرعون على كل ألف امرأة مائة رجل ، وعلى كل مائة عشرة ، وعلى كل عشر رجلاً ، فقال : انظروا كل امرأة حامل في المدينة ، فإذا وضعت حملها ، فإن كان ذكراً فاذبحوه ، وإن كان أنثى ، فخلوا عنها ، وذلك قوله : { يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } قال : إن فرعون ملكهم أربعمائة سنة .

فقالت له الكهنة : إنه سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه ، فبعث في أهل مصر نساء قوابل ، فإذا ولدت امرأة غلاماً أتى به فرعون فقتله ، ويستحيي الجواري . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } يقول : نقمة . وأخرج وكيع عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } فقال : إي والله لفرق البحر بينهم حتى صار طريقاً يبساً يمشون فيه ، فأنجاهم الله ، وأغرق آل فرعون عدوّهم . وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث ابن عباس قال : «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال : " ما هذا اليوم؟ " قالوا : هذا يوم صالح نجى الله فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن أحق بموسى منكم ، فصامه ، وأمر بصومه " وقد أخرج الطبراني ، وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير أن هرقل كتب إلى معاوية يسأله عن أمور ، منها عن البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة ، فكتب معاوية إلى ابن عباس ، فأجابه عن تلك الأمور وقال : وأما البقعة التي لم تصبها الشمس إلا ساعة من نهار : فالبحر الذي أفرج عن بني إسرائيل . ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى زيادة على ما هنا عند تفسير قوله تعالى : { أَنِ اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } [ الشعراء : 63 ] .

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

قرأ أبو عمرو " وعدنا " بغير ألف ، ورجحه أبو عبيدة ، وأنكر «واعدنا» قال : لأن المواعدة إنما تكون من البشر ، فأما من الله فإنما هو التفرّد بالوعد على هذا وجدنا القرآن كقوله : { وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } [ إبراهيم : 22 ] وقوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين } [ الأنفال : 7 ] ومثله ، قال أبو حاتم ومكي : وإنما قالوا هكذا نظراً إلى أصل المفاعلة ، أنها تفيد الاشتراك في أصل الفعل ، وتكون من كل واحد من المتواعدين ، ونحوهما ، ولكنها قد تأتي للواحد في كلام العرب كما في قولهم : داويت العليل ، وعاقبت اللص ، وطارقت النعل ، وذلك كثير في كلامهم . وقرأه الجمهور : { واعدنا } قال النحاس : وهي أجود ، وأحسن ، وليس قوله : { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ } [ المائدة : 9 ، النور : 55 ] من هذا في شيء؛ لأن واعدنا موسى إنما هو من باب الموافاة ، وليس هو من الوعد والوعيد في شيء ، وإنما هو من قولك : موعدك يوم الجمعة ، وموعدك موضع كذا؛ والفصيح في هذا أن يقال ، واعدته . قال الزجاج : واعدنا بالألف ها هنا جيد؛ لأن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة ، فمن الله سبحانه وعد ، ومن موسى قبول . قوله : { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } قال الزجاج : التقدير تمام أربعين ليلة ، وهي عند أكثر المفسرين ذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، وإنما خص الليالي بالذكر دون الأيام؛ لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قبله في الرتبة .
ومعنى قوله : { ثُمَّ اتخذتم العجل } أي : جعلتم العجل إلهاً من بعده ، أي : من بعد مضي موسى إلى الطور . وقد ذكر بعض المفسرين أنهم عدوا عشرين يوماً ، وعشرين ليلة . وقالوا : قد اختلف موعده ، فاتخذوا العجل ، وهذا غير بعيد منهم ، فقد كانوا يسلكون طرائق من التعنت خارجة عن قوانين العقل ، مخالفة لما يخاطبون به ، بل ويشاهدونه بأبصارهم ، فلا يقال : كيف تعدون الأيام ، والليالي على تلك الصفة ، وقد صرح لهم في الوعد بأنها أربعون ليلة ، وإنما سماهم ظالمين؛ لأنهم أشركوا بالله ، وخالفوا موعد نبيهم عليهم السلام ، والجملة في موضع نصب على الحال .
وقوله : { مِن بَعْدِ ذلك } أي : من بعد عبادتكم العجل ، وسمي العجل عجلاً ، لاستعجالهم عبادته كذا قيل ، وليس بشيء؛ لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر . وقد كان جعله لهم السامريّ على صورة العجل . وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم ، من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه . وأصل الشكر في اللغة : الظهور ، من قولهم : دابة شكور إذ ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف . قال الجوهري : الشكر : الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف ، يقال شكرته وشكرت له ، وباللام أفصح ، وقد تقدّم معناه ، والشكران خلاف الكفران .
والكتاب : التوراة بالإجماع من المفسرين .

واختلفوا في الفرقان ، وقال الفراء ، وقُطرُب : المعنى : آتينا موسى التوراة ، ومحمداً الفرقان . وقد قيل : إن هذا غلط ، أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن ، وليس كذلك ، فقد قال تعالى : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان } [ الأنبياء : 48 ] وقال الزجاج : إن الفرقان هو : الكتاب ، أعيد ذكره تأكيداً . وحكى نحوه عن الفراء ، ومنه قول عنترة :
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل : إن الواو صلة ، والمعنى : آتينا موسى ، الكتاب الفرقان ، والواو قد تزاد في النعوت كقول الشاعر :
إلى المَلكِ القَرْم وابن الهمام ... وليثِ الكتَيبةِ في المُزَدحمْ
وقيل المعنى : أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتاباً وفارقاً بين الحق ، والباطل ، وهو كقوله : { ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء } [ الأنعام : 154 ] وقيل الفرقان : الفرق بينهم ، وبين قوم فرعون ، أنجى هؤلاء ، وأغرق هؤلاء . وقال ابن زيد : الفرقان : انفراق البحر . وقيل الفرقان : الفرج من الكرب . وقيل : إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاها الله من العصا ، واليد ، وغيرهما ، وهذا أولى ، وأرجح ، ويكون العطف على بابه ، كأنه قال : آتينا موسى التوراة ، والآيات التي أرسلناه بها معجزة له .
قوله : { يَا قَوْمٌ } القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء ، ومنه قول زهير :
وَمَا أدْرِي وَسَوف إخَالُ أدْرِي ... أقَومٌ آل حِصْنٍ أَمْ نِسَاء
ومنه قوله تعالى : { لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ } [ الحجرات : 11 ] ، ثم قال : { وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء } [ الحجرات : 11 ] ، ومنه { وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } [ الأعراف : 80 ] أراد الرجال ، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } [ نوح : 1 ] والمراد هنا بالقوم : عبدةُ العجل . والباريء : الخالق . وقيل إن الباريء : هو : المبدع المحدث ، والخالق هو : المقدّر الناقل من حال إلى حال . وفي ذكر البارىء هنا إشارة إلى عظيم جرمهم ، أي : فتوبوا إلى الذي خلقكم ، وقد عبدتم معه غيره . والفاء في قوله : «فتوبوا» للسببية : أي : لتسبب التوبة عن الظلم ، وفي قوله : { فاقتلوا } للتعقيب ، أي : اجعلوا القتل متعقباً للتوبة . قال القرطبي : وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده . قيل : قاموا صفين ، وقتل بعضهم بعضاً . وقيل : وقف الذين عبدوا العجل ، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم . وقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } قيل : في الكلام حذف أي : فقتلتم أنفسكم ، { فتاب عليكم } أي : على الباقين منكم . وقيل : هو جواب شرط محذوف ، كأنه قال : فإن فعلتم ، فقد تاب عليكم . وأما ما قاله صاحب الكشاف من أنه يجوز أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالتفات ، فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم ، فهو بعيد جداً كما لا يخفى .
وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : { أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } قال : ذا القعدة ، وعشراً من ذي الحجة .

وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله : { مِن بَعْدِ ذلك } قال : من بعد ما اتخذتم العجل . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : { وَإِذْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان } قال : الكتاب هو : الفرقان ، فرق بين الحق والباطل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : الفرقان جماع اسم التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والقرآن . وأخرج ابن جرير عنه قال : أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم ، واختبأ الذين عكفوا على العجل ، فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظلمة شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضاً ، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة . وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : قالوا : لموسى ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضاً ، فأخذوا السكاكين ، فجعل الرجل يقتل أخاه ، وأباه ، وابنه ، لا يبالي من قتل حتى قتل منهم سبعون ألفاً ، فأوحى الله إلى موسى : مرهم ، فليرفعوا أيديهم ، وقد غفر لمن قُتل ، وتَيب على من بقي . وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة ، وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير عن الزهري ، نحواً مما سبق . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : { إلى بَارِئِكُمْ } قال : خالقكم .

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

قوله : { وَإِذْ قُلْتُمْ } هذه الجملة معطوفة على التي قبلها ، وظاهر السياق أن القائلين هذه المقالة هم : قوم موسى . وقيل هم السبعون الذين اختارهم . وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا له بعد ذلك هذه المقالة ، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقتهم ، ثم دعا موسى ربه ، فأحياهم كما قال تعالى هنا : { ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله . والجهرة : المعاينة ، وأصلها الظهور ، ومنه الجهر بالقراءة ، والمجاهرة بالمعاصي ، ورأيت الأمر جهرة وجهاراً : أي غير مستتر بشيء ، وهي مصدر واقع موقع الحال ، وقرأ ابن عباس : «جهرة» بفتح الهاء ، وهي لغتان مثل زهرة ، وزهرة ، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر . والصاعقة قد تقدم تفسيرها ، وقرأ عمر ، وعثمان وعليّ : «الصعقة» وهي قراءة ابن محيصن ، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم .
{ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } في محل نصب على الحال ، والمراد من هذا النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم .
لا آخرها الذي ماتوا عنده ، وقيل المراد بالصاعقة الموت ، واستدل عليه بقوله : { ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير ، لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية ، وقد يغشى عليه ، ثم يفيق كما في قوله تعالى : { وَخَرَّ موسى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ } [ الأعراف : 143 ] ومما يوجب بُعْد ذلك قوله : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كبير معنى ، بل قد يقال : إنه لا يصح أن ينظروا الموت النازل بهم ، إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت . والمراد بقوله : { ثُمَّ بعثناكم } الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت ، وأصل البعث الإثارة للشيء من محله ، يقال : بعثت الناقة ، أي : أثرتها ، ومنه قول امرىء القيس :
وإخوان صدقٍ قد بَعَثْت بِسحْرِة ... فَقَامُوا جَمِيعاً بين غَاثٍ ونشوان
وقول عنترة :
وصحابةٌ شُمُ الأُنوف بَعْثتَهم ... لَيلاً وَقد مَال الكرَى بطلاها
وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم؛ لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا . وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة ، وذهب من عداهم إلى جوازها في الدنيا ، والآخرة ، ووقوعها في الآخرة . وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربهم في الآخرة ، وهي قطعية الدلالة ، لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا أن العقل قد حكم بها ، دعوى مبنية على شفا جُرُف هار ، وقواعد لا يغترّ بها إلا من لم يحظ من العلم النافع بنصيب ، وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية ، وكلها خارج عن محل النزاع ، بعيد من موضع الحجة ، وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة .

قوله : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } أي : فعلناه كالظلة ، والغمام جمع غمامة كسحابة ، وسحاب ، قاله الأخفش : قال الفراء ويجوز غمائم . وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر ، والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبارين . والمنّ : قيل هو : الترنجبين . قال النحاس : هو بتشديد الراء ، وإسكان النون ، ويقال : الطرَّنجبين بالطاء ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وهو : طلٌّ ينزل من السماء على شجر ، أو حجر ، ويحلو ، وينعقد عسلاً ، ويجفّ جفاف الصمغ ، ذكر معناه في القاموس ، وقيل إن المنّ العسل ، وقيل شراب حلو ، وقيل خبز الرقاق ، وقيل إنه مصدر يعمّ جميع ما مَنَّ الله به على عباده ، من غير تعب ، ولا زرع ، ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ، ومسلم ، من حديث سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أن الكمأة من المنّ الذي أنزل على موسى » وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد ، والترمذي ، ومن حديث جابر ، وأبي سعيد ، وابن عباس عند النسائي . والسلوى : قيل هو : السُمَاني ، كحبارى ، طائر يذبحونه ، فيأكلونه . قال ابن عطية : السلوى طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي فقال :
وقاسمهما بالله جَهْداً لأنتُما ... ألذُّ من السَلوى إذا ما أشورها
ظنّ أن السلوى العسل . قال القرطبي : ما ادعاه من الإجماع لا يصح . وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة ، والتفسير : إنه العسل . واستدل ببيت الهذلي ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة ، وأنشد :
لو شربت السُّلوان ما سلوت ... ما بي غنا عنك وإن غنيت
وقال الجوهري : والسلوى العسل . قال الأخفش : السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشرّ ، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى . وقال الخليل : واحده سلواة ، وأنشد :
وإني لتعروني لذكراك سلوة ... كما انتفض السلواة من سلكه القطر
وقال الكسائي : السلوى واحدة ، وجمعه سلاوى . وقوله : { كلوا } أي : قلنا لهم كلوا ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : قلنا كلوا فعصوا ، ولم يقابلوا النعم بالشكر ، فظلموا أنفسهم ، وما ظلمونا ، فحذف هذا لدلالة { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } عليه ، وتقديم الأنفس هنا يفيد الاختصاص .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { حتى نَرَى الله جَهْرَةً } قال : علانية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أنس قال : هم : السبعون الذين اختارهم موسى { فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } قال : ماتوا { ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ } قال : فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : { ثُمَّ بعثناكم } نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } قال : غمام أبرد من هذا ، وأطيب ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر ، وكان معهم في التيه .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } قال : كان هذا الغمام في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس ، وأطعمهم المنّ ، والسلوى حين برزوا إلى البرية ، فكان المنّ يسقط عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشدّ بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه يومه ذلك ، فإن تعدى ذلك فسد ما يبقى عنده ، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ، ويوم سابعه فبقي عنده ، لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ، ولا لطلبة شيء ، وهذا كله في البرية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : المنّ شيء أنزل الله عليهم مثل الطلّ ، والسلوى : طير أكبر من العصفور .
وأخرج وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد ، قال : المنّ صمغة ، والسلوى : طائر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي قال : قالوا : يا موسى كيف لنا بما ها هنا أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ ، فكان يسقط على الشجرة الترنجبين . وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المنّ؟ قال : خبز الرقاق ، مثل الذرة ، أو مثل النوى . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : المنّ شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه بالماء ، ثم يشربونه . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان المنّ ينزل عليهم بالليل على الأشجار ، فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا ، والسلوى طائر يشبه السماني ، كانوا يأكلون منه ما شاءوا . وأخرج ابن جرير عنه نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود وناس من الصحابة ، في السلوى مثله . وقد روى نحو ذلك عن جماعة من التابعين ، ومن بعدهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا ظَلَمُونَا } قال نحن أعزّ من أن نظلم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } قال : يضرّون .

وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)

قال جمهور المفسرين : القرية هي بيت المقدس . وقيل إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس ، وقيل : من قرى الشام . وقوله : { كُلُواْ } أمر إباحة ، و { رَغَدًا } كثيراً واسعاً ، وهو : نعت لمصدر محذوف ، أي : أكلاً رغداً ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، وقد تقدم تفسيره . والباب الذي أمروا بدخوله هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطة . وقيل : هو : باب القبة التي كان يصلي إليها موسى وبنو إسرائيل . والسجود قد تقدم تفسيره : وقيل : هو : هنا الانحناء ، وقيل : التواضع والخضوع ، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به؛ لأنه لا يمكن الدخول حال السجود الحقيقي . وقال في الكشاف : إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكراً لله ، وتواضعاً . واعترضه أبو حيان في النهر المادّ ، فقال : لم يؤمروا بالسجود ، بل هو : قيد في وقوع المأمور به ، وهو : الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية . انتهى . ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد ، فمن قال : اخرج مسرعاً ، فهو أمر بالخروج على هذه الهيئة ، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفاً للأمر ، ولا ينافي هذا كون الأحوال نسباً تقييدية ، فإن اتصافها بكونها قيوداً مأموراً بها هو شيء زائد على مجرد التقييد .
وقوله : { حِطَّةٌ } بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ ، قال الأخفش : وقرئت : «حطة» نصباً على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة ، وقيل معناها الاستغفار ومنه قول الشاعر :
فَازَ بِالحطةِ التي أمرَ الله ... بها ذَنْبَ عبده مَغْفُوراً
وقال ابن فارس في المجمل : { حطة } كلمة أمروا بها ، ولو قالوها لحطت أوزارهم . قال الرازي في تفسيره : أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة؛ وذلك لأن التوبة صفة القلب ، فلا يطلع الغير عليها ، وإذا اشتهر ، وأخذ بالذنب ، ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب؛ لأن التوبة لا تتمّ إلا به . انتهى . وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا دليل عليه ، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي ، سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا . وربما كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله - عزّ وجل - أحبّ إلى الله ، وأقرب إلى مغفرته ، وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية ، فذلك باب آخر . وقوله : { نَغْفِرْ لَكُمْ } قرأ نافع بالياء التحتية المضمومة ، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة ، وقرأه الباقون بالنون ، وهي أولى . والخطايا جمع خطيئة بالهمز ، وقد تكلم علماء العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف ، وقوله : { وَسَنَزِيدُ المحسنين } أي : نزيدهم إحساناً على إحسانهم المتقدم ، وهو اسم فاعل من أحسن ، وقد ثبت في الصحيح : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإحسان فقال :

« أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » وقوله : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } قيل : إنهم قالوا : حنطة . وقيل غير ذلك ، والصواب أنهم قالوا : حبة في شعرة كما سيأتي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ } هو من وضع الظاهر موضع المضمر لنكتة ، كما تقرر في علم البيان ، وهي هنا : تعظيم الأمر عليهم وتقبيح فعلهم ، ومنه قول عدي بن زيد :
لا أرَى المْوت يسبق الموتَ شيءٌ ... نغَّص الموت ذا الغنَى والفَقِيرا
فكرر الموت في البيت ثلاثاً؛ تهويلاً لأمره ، وتعظيماً لشأنه . وقوله : { رِجْزًا } بكسر الراء في قراءة الجميع إلا ابن مُحَيْصن ، فإنه قرأ بضم الراء . والرجز : العذاب ، والفسق قد تقدم تفسيره .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { ادخلوا هذه القرية } قال : بيت المقدس . وأخرج بن جرير عن ابن زيد قال : هي أريحاء قرية من بيت المقدس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { ادخلوا الباب } قال : باب ضيق { سُجَّدًا } قال : ركعاً . وقوله : { حِطَّةٌ } قال : مغفرة ، فدخلوا من قبل أستاهم ، وقالوا : حنطة؛ استهزاء . قال : فذلك قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الباب هو أحد أبواب بيت المقدس ، وهو : يدعى باب حطة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : قيل لهم : { ادخلوا الباب سُجَّداً } فدخلوا مقنعي رءوسهم ، وقالوا حنطة : حبة حمراء فيها شعيرة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : { وادخلوا الباب سُجَّدًا } قال : طأطئوا رءوسكم . { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } قال : قولوا لا إله إلا الله . وأخرج البيهقي في الأسماء ، والصفات عن ابن عباس في قوله : { قُولُواْ حِطَّةٌ } قال : لا إله إلا الله . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كان الباب قبل القبلة . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجداً ، وقولوا حطة ، فبدلوا ، فدخلوا يزحفون على أستأهم ، وقالوا حبة في شعرة » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجداً يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعيرة »

، والأول أرجح لكونه في الصحيحين . وقد أخرجه معهما من أخرج هذا الحديث الآخر : أعني ابن جرير ، وابن المنذر . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عليّ قال : إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح ، وكباب حطة في بني إسرائيل . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني : العذاب . وأخرج مسلم ، وغيره من حديث أسامة بن زيد وسعد بن مالك وخزيمة بن ثابت ، قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وإن الطاعون رجز ، وبقية عذاب عُذِّب به أناس من قبلكم ، فإذا كان بأرض ، وأنتم بها فلا تخرجوا منها ، وإذا بلغكم أنه بأرض ، فلا تدخلوها » .

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس المطر . ومعناه في اللغة : طلب السقيا . وفي الشرع ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفته من الصلاة والدعاء . والحجر يحتمل أن يكون حجراً معيناً ، فتكون اللام للعهد ، ويحتمل أن لا يكون معيناً ، فتكون للجنس ، وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة . وقوله : { فانفجرت } الفاء مترتبة على محذوف ، تقديره : فضرب ، فانفجرت ، والانفجار : الانشقاق : وانفجر الماء انفجاراً : تفتح ، والفجرة : موضع تفتح الماء . قال ابن عطية : ولا خلاف أنه كان حجراً مربعاً يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى سالت العيون ، وإذا استغنوا عن الماء جفت . والمشرب : موضع الشرب ، وقيل هو : المشروب نفسه ، وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم . قيل : كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها ، والأسباط : ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب . وقوله : { كُلُواْ } أي : قلنا لهم كلوا المنّ والسلوى ، واشربوا الماء المتفجر من الحجر ، وعثا يعثي عثيا ، وعثا يعثو عثواً ، وعاث يعيث عيثاً ، لغات بمعنى أفسد . وقوله : { مُفْسِدِينَ } حال مؤكدة . قال في القاموس : عثي كرمي ، وسعى ورضي ، عيْثا ، وعُيُوثاً ، وعَيثاناً ، وعثَا يَعْثُو عُثُواً : أفسد : وقال في الكشاف : « العثي : أشدّ الفساد . فقيل لهم : لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم؛ لأنهم كانوا متمادين فيه » . انتهى .
قوله : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } تضجُّر منهم بما صاروا فيه من النعمة ، والرزق الطيب ، والعيش المستلذ ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش :
إنَّ الشَقيَّ بالشَقَاءِ مُولعٌ ... لا يَمْلِكُ الردَّ لَهُ إذا أتى
ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقاً إلى ما كانوا فيه ، ونظراً لما صاروا إليه من العيشة الرافهة ، بل هو : باب من تعنتهم ، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم ، وهِجّيِراهم في غالب ما قصّ علينا من أخبارهم . وقال الحسن البصري : إنهم كانوا أهل كراث ، وأبصال ، وأعداس ، فنزعوا إلى عكرهم ، أي : أصلهم عكر السوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم ، فقالوا : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } والمراد بالطعام الواحد : هو : المنّ والسلوى ، وهما ، وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاماً واحد . وقيل : لتكررهما في كل يوم ، وعدم وجود غيرهما معهما ، ولا تبدلة بهما . و « من » في قوله : { مِمَّا تُنبِتُ } تخرج . قال الأخفش زائدة ، وخالفه سيبويه ، لكونها لا تزاد في الكلام الموجب . قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا؛ لأنه لم يجد مفعولاً ليخرج فأراد أن يجعل « ما » مفعولاً . والأولى أن يكون المفعول محذوفاً دل عليه سياق الكلام ، أي : تخرج لنا مأكولاً .

وقوله : { مِن بَقْلِهَا } بدل من « ما » بإعادة الحرف . والبقل : كل نبات ليس له ساق ، والشجر : ما له ساق . قال في الكشاف : « البقل : ما أنبتته الأرض من الخضر ، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع ، والكرفس ، والكراث ، وأشباهها » . انتهى . والقثاء بكسر القاف ، وفتحها . والأولى قراءة الجمهور ، والثانية قراءة يحيى بن وثاب ، وطلحة بن مُصَرَّف ، وهو معروف . والفوم : قيل هو : الثوم ، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء . وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، وقيل : الفوم : الحنطة ، وإليه ذهب أكثر المفسرين ، كما قال القرطبي . وقد رجح هذا ابن النحاس . وقال الجوهري : الثوم الحنطة ، وممن قال بهذا الزجاج ، والأخفش ، وأنشد :
قَدْ كُنْتُ أحْسبني كَأغْنَى وَاحِد ... تَركَ المدينةَ عَنْ زِراعةِ فُومِ
وقال بالقول الأوّل الكسائي ، والنضر بن شميل ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
كَانَت مَنَازِلُهم إذ ذَاكَ ظَاهِرة ... فِيهَا الفَرَادِيسُ والفُومَاتُ والبْصَلُ
أي الثوم ، وقال حسان :
وأنتم أُناسٌ لِئَامُ الأصُولِ ... طَعَامكم الفْوُمُ وَالْحوَقلُ
يعني الثوم والبصل ، وقيل : الفوم : السنبلة . وقيل الحمص . وقيل : الفوم : كل حبّ يخبز . والعدس والبصل معروفان . والاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر و { َأَدْنَى } قال الزجاج : إنه مأخوذ من الدنوّ . أي : القرب ، والمراد : أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المنّ والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ ، والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه ، والحلّ الذي لا تطرقه الشبهة ، وعدم الكلفة بالسعي له ، والتعب في تحصيله . وقوله : { اهبطوا مِصْرًا } أي : انزلوا ، وقد تقدّم معنى الهبوط . وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر . وقيل : إن الأمر للتعجيز؛ لأنهم كانوا في التيه ، فهو مثل قوله تعالى : { كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } ( الإسراء : 50 ) ، وصرف مصر هنا مع اجتماع العلمية ، والتأنيث؛ لأنه ثلاثي ساكن الوسط ، وهو : يجوز صرفه مع حصول السببين ، وبه قال الأخفش والكسائي . وقال الخليل ، وسيبويه : إن ذلك لا يجوز ، وقالا : إنه لا علمية هنا؛ لأنه أراد مصراً من الأمصار ، ولم يرد المدينة المعروفة ، وهو خلاف الظاهر . وقرأ الحسن ، وأبان بن تغلب ، وطلحة بن مصرف بترك التنوين ، وهو كذلك في مصحف أبيّ ، وابن مسعود . ومعنى ضرب الذلة ، والمسكنة إلزامهم بذلك ، والقضاء به عليهم قضاء مستمراً لا يفارقهم ، ولا ينفصل عنهم ، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها ، ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً :
ضرَبَت عَلَيْكَ العَنكَبوتُ بِوزَنها ... وَقَضى عَلَيْكَ بِه الكِتابُ المُنزلُ
وهو ضرب من الهجاء بليغ ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة ، ومنه قول الشاعر :
إنَّ المُروءةَ والشَجَاعَة والنَدَى ... في قُبةٍ ضُرِبتْ على ابن الحَشرجِ

وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أقمأهم الله أذلّ الفرق ، وأشدّهم مسكنة ، وأكثرهم تصاغراً ، لم ينتظم لهم جمع ، ولا خفقت على رءوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أيّ مبلغ فهو متظاهر بالفقر مُتَرَدٍّ بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله ، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية ، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجرؤ على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه . ومعنى { باءوا } رجعوا ، يقال باء بكذا ، أي : رجع به ، وباء إلى المباءة ، أي : رجع إلى المنزل ، والبواء : الرجوع ، ويقال : هم في هذا الأمر بواء ، أي : سواء : يرجعون فيه إلى معنى واحد ، وباء فلان بفلان : إذا كان حقيقاً بأن يقبل به لمساواته له ، ومنه قول الشاعر :
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي ... محاربنا لا يبوأ الدم بالدم
والمراد في الآية : أنهم رجعوا بغضب من الله ، أو صاروا أحقاء بغضبه . وقد تقدم تفسير الغضب ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله ، وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال : إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة ، بل المراد : نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر . ويمكن أن يقال : أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل ، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه ، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين . والدنيا ، كما كان من شعيا وزكريا ويحيى ، فإنهم قتلوهم ، وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون ، وتكرير الإشارة لقصد التأكيد ، وتعظيم الأمر عليهم ، وتهويله ، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده . وقيل : يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل ، فيكون ما بعدها سبباً للسبب وهو بعيد جداً . والاعتداء تجاوز الحدّ في كل شيء .
وقد أخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ } قال ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر ، فصار فيها اثنتا عشرة عيناً من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض } قال : لا تسعوا في الأرض فساداً . وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعني : لا تمشوا بالمعاصي .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : لا تسيروا في الأرض مفسدين .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد } قال : المنّ والسلوى ، واستبدلوا به البقل ، وما حكى معه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَفُومِهَا } قال : الخبز ، وفي لفظ : البر ، وفي لفظ : الحنطة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الفوم : الثوم . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع بن أنس مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن ابن مسعود؛ أنه قرأ : «وثومها» وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال : قراءتي قراءة زيد ، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود هذا أحدها : «من بقلها وقثائها وثومها» . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { الذى هُوَ أدنى } قال : أردأ . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله : { اهبطوا مِصْرًا } قال مصراً من الأمصار . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية : أنه مصر فرعون . وأخرج نحوه ابن أبي داود ، وابن الأنباري عن الأعمش .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } قال : هم أصحاب الجزية . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن؛ قال : ضربت عليهم الذلة ، والمسكنة أي : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية قال : المسكنة الفاقة . وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله } قال : استحقوا الغضب من الله . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : { وَبَاءوا } قال : انقلبوا . وأخرج أبو داود الطيالسي ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبيّ ، ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

قيل : إن المراد بالذين آمنوا : المنافقون ، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود ، والنصارى ، والصابئين ، أي : آمنوا في الظاهر ، والأولى أن يقال إن المراد الذين صدّقوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وصاروا من جملة أتباعه ، وكأنه سبحانه أراد أن يبين أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد ، وهو : أن من آمن منهم بالله ، واليوم الآخر ، وعمل صالحاً استحق ما ذكره الله من الأجر ، ومن فاته ذلك فاته الخير كله ، والأجر دِقُّه وجِِلَّه . والمراد بالإيمان هاهنا هو : ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه " ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية ، فمن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولا بالقرآن ، فليس بمؤمن ، ومن آمن بهما صار مسلماً مؤمناً ، ولم يبق يهودياً ولا نصرانياً ولا مجوسياً . وقوله : { هَادُواْ } معناه صاروا يهوداً ، قيل هو : نسبة لهم إلى يهوذا بن يعقوب بالذال المعجمة ، فقلبتها العرب دالاً مهملة ، وقيل معنى هادوا : تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا . وقيل إن معناه السكون ، والموادعة . وقال في الكشاف : إن معناه : دخل في اليهودية . والنصارى : قال سيبويه : مفرده نصران ونصرانة كندمان وندمانة ، وأنشد شاهداً على ذلك قول الشاعر :
تراه إذا زار العِشَا مُتَخَفَّفاً ... ويُضْحي لديه وهو نَصرانُ شامِس
وقال الآخر :
فكلتاهما خَرَّت وأسْجَدَ رأسها ... كَمَا سَجَدَت نصْرانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ
قال : ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب ، فيقال : رجل نصراني وامرأة نصرانية . وقال الخليل : واحد النصارى نصري ، وقال الجوهري : ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى ، ويقال ناصرة ، وعلى هذا ، فالياء للنسب . وقال في الكشاف : إن الياء للمبالغة كالتي في أحمري ، سموا بذلك؛ لأنهم نصروا المسيح . والصابيئن : جمع صابيء . وقيل : صاب . وقد اختلف فيه القراء ، فهمزوه جميعاً إلا نافعاً ، فمن همزه جعله من صبأت النجوم : إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام : إذا خرجت . ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو : إذا مال . والصابىء في اللغة : من خرج ، ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ ، وسموا هذه الفرقة صابئة؛ لأنها خرجت من دين اليهود ، والنصارى ، وعبدوا الملائكة . وقوله : { مَنْ ءامَنَ بالله } في موضع نصب بدلاً من الذين آمنوا وما بعده ، وقد تقدم معنى الإيمان ، ويكون خبر إن قوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ } ويجوز أن يكون قوله : «من آمن بالله» في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله : «فلهم أجرهم» وهما جميعاً خبر إن ، والعائد مقدّر في الجملة الأولى ، أي : من آمن منهم ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط .

وقد تقدم تفسير قوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ( البقرة : 38 ) وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم ، فذكرت من صلاتهم ، وعبادتهم ، فنزلت : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ } الآية . وأخرج الواحدي عن مجاهد نحو ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في ذكر السبب بنحو ما سبق ، وحكى قصة طويلة . وأخرج أبو داود في الناسخ ، والمنسوخ ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ } قال : فأنزل الله بعد هذا { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين } [ آل عمران : 85 ] . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي قال : إنما سميت اليهود؛ لأنهم قالوا { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : نحن أعلم من أين سميت اليهود باليهودية من كلمة موسى عليه السلام { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } ولِمَ تسمت النصارى بالنصرانية؟ من كلمة عيسى عليه السلام : { كُونُواْ أنصار الله } [ الصف : 17 ] وأخرج أبو الشيخ نحوه . وأخرج ابن جرير عن قتادة : إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة . وأخرج ابن سعد في طبقاته ، وابن جرير ، عن ابن عباس قال : إنما سميت النصارى؛ لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : الصابئون : فرقة بين اليهود . والنصارى ، والمجوس ، ليس لهم دين . وأخرج عبد الرزاق ، عنه قال : قال ابن عباس ، فذكر نحوه . وقد روى في تفسير الصابئين غير هذا .

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

قوله : { وَإِذْ أَخَذْنَا } هو في محل نصب بعامل مقدر ، هو : اذكروا ، كما تقدم غير مرة . وقد تقدّم تفسير الميثاق ، والمراد : أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة ، وبما هو أعم من ذلك ، أو أخص . والطور : اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، وأنزل عليه التوراة فيه . وقيل : هو : اسم لكل جبل بالسريانية . وقد ذكر كثير من المفسرين أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم : اسم خذوها ، والتزموها . فقالوا : لا ، إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك . فُصعِقوا ، ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها ، والتزموها ، فقالوا : لا ، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلاً من جبال فلسطين ، طوله فرسخ في مثله ، وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأتُوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل لهم خذوها ، وعليكم الميثاق أن لا تضيعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، فسجدوا توبة لله ، وأخذوا التوراة بالميثاق . قال ابن جرير عن بعض العلماء : لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق . قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان ، لا أنهم آمنوا كرهاً ، وقلوبهم غير مطمئنة . انتهى . وهذا تكلُّف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره ، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا ، أو أشد منه ، ونحن نقول : أكرههم الله على الإيمان ، فآمنوا مكرهين ، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان ، وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عمن تكلم بكلمة الإسلام ، والسيف مصلت قد هزَّه حامله على رأسه ، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذراً عن قتله بأنه قالها تقية ، ولم تكن عن قصد صحيح : « أأنت فتشت عن قلبه » وقال : « لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس » وقوله : { خُذُواْ } أي : وقلنا لهم : { خذوا مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } والقوّة : الجدّ والاجتهاد . والمراد بذكر ما فيه أن يكون محفوظاً عندهم ليعملوا به . قوله : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ } أصل التولي : الإدبار عن الشيء ، والإعراض بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً ، والمراد هنا : إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم ، وقوله : { مِن بَعْدِ ذلك } أي : من بعد البرهان لهم ، والترهيب بأشد ما يكون ، وأعظم ما تجوزه العقول ، وتقدر الأفهام ، وهو : رفع الجبل فوق رءوسهم كأنه ظلة عليهم . وقوله : { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ } بأن تدارككم بلطفه ، ورحمته ، حتى أظهرتم التوبة لخسرتم .

والفضل : الزيادة . قال ابن فارس في المجمل : الفضل الزيادة ، والخير ، والإفضال : الإحسان . انتهى . والخسران : النقصان ، وقد تقدم تفسيره . والسبت في أصل اللغة : القطع؛ لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل . وقيل : هو : مأخوذ من السبوت ، وهو الراحة ، والدعة . وقال في الكشاف : « السبت مصدر سبتت اليهود ، إذا عظمت يوم السبت » . انتهى . وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين : ففرقة اعتدت في السبت : أي : جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه ، فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه ، والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين . ففرقة جاهرت بالنهي ، واعتزلت ، وفرقة لم توافق المعتدين ، ولا صادوا معهم ، لكنهم جالسوهم ، ولم يجاهروهم بالنهي ، ولا اعتزلوا عنهم ، فمسخهم الله جميعاً ، ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط ، وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة ، وعاندوا أنبياءهم ، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم ، وسخف عقولهم ، وتعنتهم نوعاً من أنواع التعسف ، وشعبة من شعب التكلف ، فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله : { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كذلك نَبْلُوهُم } [ الأعراف : 163 ] فاحتالوا لصيدها ، وحفروا الحفائر ، وشقوا الجداول فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت ، فيصيدونها يوم الأحد ، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة . والخاسىء : المبعد ، يقال : خسأته ، فخسأ ، وخسيء ، وانخسأ : أبعدته ، فبعد . ومنه قوله تعالى : { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا } [ الملك : 4 ] أي : مبعداً . وقوله : { اخسئوا فِيهَا } [ المؤمنون : 108 ] أي : تباعدوا تباعد سخط ، ويكون الخاسىء بمعنى الصاغر . والمراد هنا : كونوا بين المصير إلى أشكال القردة مع كونهم مطرودين صاغرين ، فقردة خبر الكون ، وخاسئين خبر آخر ، وقيل : إنه صفة لقردة ، والأوّل أظهر . واختلف في مرجع الضمير في قوله : { فَجَعَلْنَاهَا } وفي قوله : { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } فقيل : العقوبة . وقيل : الأمة ، وقيل : القرية . وقيل : القردة . وقيل الحيتان . والأول أظهر . والنكال : الزجر والعقاب ، والنكل : القيد؛ لأنه يمنع صاحبه ، ويقال للجام الدابة نكل؛ لأنه يمنعها . والموعظة : مأخوذة من الاتعاظ ، والانزجار ، والوعظ : التخويف . وقال الخليل : الوعظ التذكير بالخير . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الطور الجبل الذي أنزلت عليه التوراة ، وكان بنو إسرائيل أسفل منه . وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس؛ قال : الطور ما أنبت من الجبال ، وما لم ينبت ، فليس بطور . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } قال : أي بجدّ . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { واذكروا مَا فِيهِ } قال : اقرءوا ما في التوراة ، واعملوا به . وأخرج ابن إسحاق وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال : لعلكم تنزعون عما أنتم عليه .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34