كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

لما أمر سبحانه القضاة ، والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق ، أمر الناس بطاعتهم ها هنا ، وطاعة الله عزّ وجلّ هي امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه . وأولي الأمر هم : الأئمة ، والسلاطين ، والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد : طاعتهم فيما يأمرون به ، وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله ، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال جابر بن عبد الله ، ومجاهد : إن أولي الأمر ، هم : أهل القرآن والعلم ، وبه قال مالك والضحاك . وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن كيسان : هم أهل العقل والرأي ، والراجح القول الأوّل .
قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } المنازعة المجاذبة ، والنزع : الجذب ، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها ، والمراد : الاختلاف ، والمجادلة ، وظاهر قوله : { فِي شَىْء } يتناول أمور الدين والدنيا ، ولكنه لما قال : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا ، والردّ إلى الله : هو الردّ إلى كتابه العزيز ، والردّ إلى الرسول : هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته ، وأما في حياته ، فالردّ إليه سؤاله ، هذا معنى الردّ إليهما . وقيل : معنى الردّ أن يقولوا : الله أعلم ، وهو قول ساقط ، وتفسير بارد ، وليس الردّ في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] .
قوله : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } فيه دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين ، وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الردّ المأمور به { خَيْرٌ } لكم { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي : مرجعاً ، من الأول آل يؤول إلى كذا ، أي : صار إليه؛ والمعنى : أن ذلك الردّ خير لكم ، وأحسن مرجعاً ترجعون إليه . ويجوز أن يكون المعنى أن الردّ أحسن تأويلاً من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس في قوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدّي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية ، وقصته معروفة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عطاء في الآية قال : طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة { وَأُوْلِى الأمر } قال : أولى الفقه ، والعلم . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة ، قال : { وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } هم : الأمراء ، وفي لفظ هم : أمراء السرايا .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن جابر بن عبد الله في قوله : { وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } قال : أهل العلم . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن شيبة ، وابن جرير ، عن أبي العالية نحوه أيضاً .
وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } قال : إلى كتاب الله ، وسنة رسوله . ثم قرأ : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [ النساء : 83 ] .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ميمون بن مهران في الآية قال : الردّ إلى الله الردّ إلى كتابه ، والردّ إلى رسوله ما دام حياً ، فإذا قبض فإلى سنته . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة ، والسدي مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } يقول : ذلك أحسن ثواباً وخير عاقبة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } قال : وأحسن جزاءً . وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف ، وأنه لا طاعة في معصية الله .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ } فيه تعجيب لرسول الله من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو : القرآن ، وما أنزل على من قبله من الأنبياء ، فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها ، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً ، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله ، وعلى من قبله أن يكفروا به ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يتضح معناها . وقد تقدّم تفسير الطاغوت ، والاختلاف في معناه . قوله : { وَيُرِيدُ الشيطان } معطوف على قوله : { يُرِيدُونَ } والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب ، كأنه قيل : ماذا يفعلون؟ فقيل : يريدون كذا ، ويريد الشيطان كذا . وقوله : { ضَلاَلاً } مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله : { والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور ، والتقدير : ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالاً . والصدود : اسم للمصدر ، وهو الصدّ عند الخليل ، وعند الكوفيين أنهما مصدران ، أي : يعرضون عنك إعراضاً .
قوله : { فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } بيان لعاقبة أمرهم ، وما صار إليهم حالهم ، أي : كيف يكون حالهم { إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ } أي : وقت إصابتهم ، فإنهم يعجزون عند ذلك ، ولا يقدرون على الدفع . والمراد : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت { ثُمَّ جَاءوكَ } يعتذرون عن فعلهم ، وهو عطف على { أصابتهم } وقوله : { يَحْلِفُونَ } حال ، أي : جاءوك حال كونهم حالفين { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } أي : ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة ، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك . وقال ابن كيسان : معناه : ما أردنا إلا عدلاً ، وحقاً مثل قوله : { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] فكذبهم الله بقوله : { أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ } من النفاق والعداوة للحق . قال الزجاج : معناه : قد علم الله أنهم منافقون { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : عن عقابهم . وقيل عن قبول اعتذارهم : { وَعِظْهُمْ } أي : خوّفهم من النفاق { وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ } أي : في حق أنفسهم . وقيل : معناه : قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم { قَوْلاً بَلِيغاً } أي : بالغاً في وعظهم إلى المقصود مؤثراً فيهم ، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم ، وسبي نسائهم ، وسلب أموالهم { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ } «من» زائدة للتوكيد { إلاَّ لِيُطَاعَ } فيما أمر به ونهى عنه { بِإِذُنِ الله } بعلمه . وقيل بتوفيقه : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بترك طاعتك ، والتحاكم إلى غيرك { جَاءوكَ } متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم ، ومخالفتهم { فاستغفروا الله } لذنوبهم ، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم ، فاستغفرت لهم ، وإنما قال : { واستغفر لَهُمُ الرسول } على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم { لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً } أي : كثير التوبة عليهم والرحمة لهم .

قوله : { فَلاَ وَرَبّكَ } . قال ابن جرير : قوله : { فَلا } ردّ على ما تقدم ذكره ، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، ثم استأنف القسم بقوله : { وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } وقيل : إنه قدّم «لا» على القسم اهتماماً بالنفي ، وإظهاراً لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيداً ، وقيل : لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي ، والتقدير : فوربك لا يؤمنون ، كما في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75 ] { حتى يُحَكّمُوكَ } أي : يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل : معناه : يتحاكمون إليك ، ولا ملجىء لذلك { فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } أي : اختلف بينهم واختلط ، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه ، ومنه قول طرفة :
وهم الحكام أرباب الهدى ... وسعاة الناس في الأمر الشجر
أي : المختلف ، ومنه : تشاجر الرماح ، أي : اختلافها { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ } قيل : هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام ، أي : فتقضي بينهم ، ثم لا يجدوا . والحرج : الضيق ، وقيل : الشك ، ومنه قيل للشجر الملتفّ : حرج وحرجة ، وجمعها حراج . وقيل : الحرج : الإثم ، أي : لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت { وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } أي : ينقادوا لأمرك ، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء . قال الزجاج : { تَسْلِيماً } مصدر مؤكد ، أي : ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً ، ولا شبهة فيه . والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم ، كما يؤيد ذلك قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله } فلا يختص بالمقصودين بقوله : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت } وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم ، وأما بعد موته ، فتحكيم الكتاب والسنة ، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة ، أو في أحدهما . وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة ، بأن يكون عالماً باللغة العربية ، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيراً بالسنة المطهرة ، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب ، ولا لنحلة من النحل ، ورعاً لا يحيف ، ولا يميل في حكمه ، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة ، مترجم عنها ، حاكم بأحكامها . وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة ، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون ، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله ، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ } فضم إلى التحكيم أمراً آخر ، وهو عدم وجود حرج ، أي : حرج في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم ، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس ، ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضمّ إليه قوله : { وَيُسَلّمُواْ } أي : يذعنوا ، وينقادوا ظاهراً وباطناً ، ثم لم يكتف بذلك ، بل ضم إليه المصدر المؤكد ، فقال : { تَسْلِيماً } فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ، ويسلم لحكم الله وشرعه ، تسليماً لا يخالطه ردّ ، ولا تشوبه مخالفة .

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني بسند قال السيوطي : صحيح عن ابن عباس ، قال : كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ } الآية . وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ، ومعقب بن قشير ، ورافع بن زيد ، كانوا يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية ، فنزلت الآية المذكورة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت } قال : الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له : كعب بن الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمكم إلى كعب ، فنزلت الآية .
وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك مثله . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله في شراج من الحرّة ، وكانا يسقيان به كلاهما النخل . فقال الأنصاري : سرح الماء يمرّ ، فأبى عليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك » ، فغضب الأنصاري ، وقال يا رسول الله آن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : « اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك » ، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري .

استوعى للزبير حقه في صريح الحكم ، فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، من طريق ابن لهيعة عن الأسود : أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان ، فقضى بينهما ، فقال المقضيّ عليه : ردنا إلى عمر ، فردهما ، فقتل عمر الذي قال ردّنا ، ونزلت الآية ، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول ، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول ، فذكر نحوه ، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً ، وهما مرسلان ، والقصة غريبة ، وابن لهيعة فيه ضعف .

وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

« لَوْ » حرف امتناع ، و « أن » مصدرية ، أو تفسيرية؛ لأن { كَتَبْنَا } في معنى أمرنا . والمعنى : أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلا القليل منهم ، أو لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلا القليل منهم ، والضمير في قوله : { فَعَلُوهُ } راجع إلى المكتوب الذي دلّ عليه كتبنا ، أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين ، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدّمنا وجهه . قوله : { إِلاَّ قَلِيلٌ } قرأه الجمهور بالرفع على البدل . وقرأ عبد الله بن عامر ، وعيسى بن عمر « إِلاَّ قَلِيلاً » بالنصب على الاستثناء ، وكذا هو في مصاحف أهل الشام ، والرفع أجود عند النحاة . قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ } ذلك { خَيْراً لَّهُمْ } في الدنيا والآخرة ، { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } لأقدامهم على الحق ، فلا يضطربون في أمر دينهم { وَإِذّن } أي : وقت فعلهم لما يوعظون به { لآتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً } لا عوج فيه ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به ، وانقاد لمن يدعوه إلى الحق .
قوله : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول } كلام مستأنف لبيان فضل طاعة الله والرسول ، والاشارة بقوله : { فَأُوْلَئِكَ } إلى المطيعين ، كما تفيده من { مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } بدخول الجنة ، والوصول إلى ما أعدّ الله لهم . والصدّيق المبالغ في الصدق ، كما تفيده الصيغة . وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء . والشهداء : من ثبتت لهم الشهادة ، والصالحين : أهل الأعمال الصالحة . والرفيق مأخوذ من الرفق ، وهو : لين الجانب ، والمراد به : المصاحب لارتفاقك بصحبته ، ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض ، وهو منتصب على التمييز ، أو الحال ، كما قال الأخفش .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ } هم : يهود ، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سفيان أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ نحوه . وقد روي من طرق أن جماعة من الصحابة قالوا : لما نزلت الآية لو فعل ربنا لفعلنا . أخرجه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن . وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير . وأخرجه أيضاً عن شريح بن عبيد . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والضياء المقدسي في صفة الجنة ، وحسنه عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إنك لأحب إليّ من نفسي ، وإنك لأحب إليّ من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك ، فما أصبر حتى آتي ، فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي ، وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك ، فلم يردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى نزل جبريل بهذه الآية : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } الآية . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

قوله : { يا أيها الذين آمنوا } هذا خطاب لخلص المؤمنين ، وأمر لهم بجهاد الكفار ، والخروج في سبيل الله ، والحذر ، والحذر لغتان : كالمثل ، والمثل . قال الفراء : أكثر الكلام الحذر ، والحذر مسموع أيضاً ، يقال : خذ حذرك أي : احذر ، وقيل : معنى الآية : الأمر لهم بأخذ السلاح حذراً؛ لأن به الحذر . قوله : { فانفروا } نفر ينفر بكسر الفاء نفيراً ، ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفوراً . والمعنى : انهضوا لقتال العدوّ . أو النفير اسم للقوم الذين ينفرون ، وأصله من النفار ، والنفور ، وهو : الفزع ، ومنه قوله تعالى : { وَلَّوْاْ على أدبارهم نُفُوراً } [ الإسراء : 46 ] أي : نافرين ، قوله : { ثُبَاتٍ } جمع ثبة ، أي : جماعة ، والمعنى : انفروا جماعات متفرقات . قوله : { أَوِ انفروا جَمِيعاً } أي : مجتمعين جيشاً واحداً . ومعنى الآية : الأمر لهم بأن ينفروا على أحد الوصفين؛ ليكون ذلك أشدّ على عدوّهم ، وليأمنوا من أن يتخطفهم الأعداء ، إذا نفر كل واحد منهم وحده أو نحو ذلك ، وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] وبقوله : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ } [ التوبة : 39 ] والصحيح أن الآيتين جميعاً محكمتان : إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى نفور الجميع ، والأخرى عند الاكتفاء بنفور البعض دون البعض .
قوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } التبطئة والإبطاء التأخر ، والمراد : المنافقون كانوا يقعدون عن الخروج ، ويقعدون غيرهم . والمعنى : أن من دخلائكم وجنسكم ومن أظهر إيمانه لكم نفاقاً من يبطيء المؤمنين ويثبطهم ، واللام في قوله : " لِمَنْ " لام توكيد ، وفي قوله : { لَّيُبَطّئَنَّ } لام جواب القسم ، و «من» في موضع نصب ، وصلتها الجملة . وقرأ مجاهد ، والنخعي ، والكلبي { لَّيُبَطّئَنَّ } بالتخفيف { فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ } من قتل أو هزيمة أو ذهاب مال . قال هذا المنافق قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم حتى يصيبني ما أصابهم { وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ } غنيمة أو فتح { لَّيَقُولَنَّ } هذا المنافق قول نادم حاسد { ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَكُنِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } جملة معترضة بين الفعل الذي هو { ليقولن } وبين مفعوله ، وهو : { يا لَيْتَنِى } وقيل : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً . وقيل : المعنى : ليقولنّ كأن لم تكن بينكم وبينه مودّة أي : كأن لم يعاقدكم على الجهاد . وقيل : هو في موضع نصب على الحال . وقرأ الحسن : " لَّيَقُولَنَّ " بضم اللام على معنى من . وقرأ ابن كثير ، وحفص عن عاصم " كَأَن لَّمْ تَكُنْ " بالتاء على الفظ المودّة . قوله : { فَأَفُوزَ } بالنصب على جواب التمني . وقرأ الحسن : " فَأَفُوزَ " بالرفع .
قوله : { فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله } هذا أمر للمؤمنين ، وقدّم الظرف على الفاعل للاهتمام به . و { الذين يَشْرُونَ } معناه : يبيعون ، وهم المؤمنون ، والفاء في قوله : { فَلْيُقَاتِلْ } جواب الشرط مقدّر ، أي : لم يقاتل هؤلاء المذكورون سابقاً الموصوفون بأن منهم لمن ليبطئن ، فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم البائعون للحياة الدنيا بالآخرة ، ثم وعد المقاتلين في سبيل الله بأنه سيؤتيهم أجراً عظيماً لا يقادر قدره ، وذلك أنه إذا قتل فاز بالشهادة التي هي أعلى درجات الأجور ، وإن غلب ، وظفر كان له أجر من قاتل في سبيل الله مع ما قد ناله من العلوّ في الدنيا والغنيمة ، وظاهر هذا يقتضي التسوية بين من قتل شهيداً ، أو انقلب غانماً ، وربما يقال : إن التسوية بينهما إنما هي في إيتاء الأجر العظيم ، ولا يلزم أن يكون أجرهما مستوياً ، فإن كون الشيء عظيماً هو من الأمور النسبية التي يكون بعضها عظيماً بالنسبة إلى ما هو دونه ، وحقيراً بالنسبة إلى ما هو فوقه .

قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله } خطاب للمؤمنين المأمورين بالقتال على طريق الالتفات . قوله : { المستضعفين } مجرور عطفاً على الاسم الشريف ، أي : ما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ، وسبيل المستضعفين حتى تخلصوهم من الأسر ، وتريحوهم مما هم فيه من الجهد . ويجوز أن يكون منصوباً على الاختصاص ، أي : وأخص المستضعفين ، فإنهم من أعظم ما يصدق عليه سبيل الله ، واختار الأوّل الزجاج ، والأزهري . وقال محمد بن يزيد : أختار أن يكون المعنى ، وفي المستضعفين ، فيكون عطفاً على السبيل ، والمراد بالمستضعفين هنا : من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال الكفار ، وهم : الذين كان يدعو لهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول : « اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعيّاش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين » كما في الصحيح . ولا يبعد أن يقال : إن لفظ الآية أوسع ، والاعتبار بعموم اللفظ لولا تقييده بقوله : { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا } فإنه يشعر باختصاص ذلك بالمستضعفين الكائنين في مكة؛ لأنه قد أجمع المفسرون على أن المراد بالقرية الظالم أهلها : مكة . وقوله : { مِنَ الرجال والنساء والولدان } بيان للمستضعفين .
قوله : { الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } هذا ترغيب للمؤمنين ، وتنشيط لهم بأن قتالهم لهذا المقصد لا لغيره { والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت } أي : سبيل الشيطان ، أو الكهان ، أو الأصنام ، وتفسير الطاغوت هنا بالشيطان أولى لقوله : { فقاتلوا أَوْلِيَاء الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } أي : مكره ، ومكر من اتبعه من الكفار .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فانفروا ثُبَاتٍ } قال : عصباً ، يعني سرايا متفرقين { أَوِ انفروا جَمِيعاً } يعني كلكم . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه قال في سورة النساء : { خُذُواْ حِذْرَكُمْ فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً } نسختها :

{ وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } [ التوبة : 122 ] . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { ثُبَاتٍ } أي : فرقاً قليلاً . وأخرج عن قتادة في قوله : { أَوِ انفروا جَمِيعاً } أي : إذا نفر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فليس لأحد أن يتخلف عنه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ما بين ذلك في المنافقين . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حيان في الآية قال : هو فيما بلغنا عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد ابن جبير { فَلْيُقَاتِلْ } يعني : يقاتل المشركين { فِى سَبِيلِ الله } في طاعة الله { وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ } يعني : يقتله العدوّ { أَو يَغْلِبْ } يعني : يغلب العدوّ من المشركين { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } يعني : جزاءً وافراً في الجنة ، فجعل القاتل والمقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { فِى سَبِيلِ الله والمستضعفين } قال : وفي المستضعفين . وأخرج ابن جرير ، عن الزهري قال : وسبيل المستضعفين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه من طريق العوفي عن ابن عباس قال : المستضعفون أناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا منها . وأخرج البخاري ، عنه قال : « أنا وأمي من المستضعفين » وأخرج ابن جرير ، عنه قال : القرية الظالم أهلها مكة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عائشة مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : إذا رأيتم الشيطان ، فلا تخافوه ، واحملوا عليه { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } . قال مجاهد : كان الشيطان يتراءى لي في الصلاة ، فكنت أذكر قول ابن عباس ، فأحمل عليه ، فيذهب عني .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } الآية ، قيل : هم جماعة من الصحابة أمروا بترك القتال في مكة بعد أن تسرعوا إليه . فلما كتب عليهم بالمدينة تثبطوا عن القتال من غير شك في الدين بل خوفاً من الموت ، وفرقاً من هول القتل ، وقيل : إنها نزلت في اليهود ، وقيل : في المنافقين أسلموا قبل فرض القتال ، فلما فرض كرهوه ، وهذا أشبه بالسياق لقوله : { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } وقوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } الآية . ويبعد صدور مثل هذا من الصحابة . وقوله : { كَخَشْيَةِ الله } صفة مصدر محذوف ، أي : خشية كخشية الله ، أو حال ، أي : تخشونهم مشبهين أهل خشية الله ، والمصدر مضاف إلى المفعول ، أي : كخشيتهم الله . وقوله : { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } معطوف على { كخشية الله } في محل جر ، أو معطوف على الجار والمجرور جميعاً ، فيكون في محل الحال كالمعطوف عليه ، « وأو » للتنويع على أن خشية بعضهم كخشية الله ، وخشية بعضهم أشد منها .
قوله : { وَقَالُواْ } عطف على ما يدل عليه قوله : { إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ } أي : فلما كتب عليهم القتال ، فاجأ فريق منهم خشية الناس : { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنَا } أي : هلا أخرتنا ، يريدون المهلة إلى وقت آخر قريب من الوقت الذي فرض عليهم فيه القتال ، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم ، فقال : { قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ } سريع الفناء لا يدوم لصاحبه ، وثواب الآخرة خير لكم من المتاع القليل { لِمَنِ اتقى } منكم ، ورغب في الثواب الدائم { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي : شيئاً حقيراً يسيراً ، وقد تقدّم تفسير الفتيل قريباً ، وإذا كنتم توفرون أجوركم ، ولا تنقصون شيئاً منها ، فكيف ترغبون عن ذلك ، وتشتغلون بمتاع الدنيا مع قلته وانقطاعه .
وقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } كلام مبتدأ ، وفيه حثّ لمن قعد عن القتال خشية الموت ، وبيان لفساد ما خالطه من الجبن ، وخامره من الخشية ، فإن الموت إذا كان كائناً لا محالة فمن لم يمت بالسيف مات بغيره . والبروج جمع برج : وهو البناء المرتفع ، والمشيدة : المرفعة من شاد القصر : إذا رفعه ، وطلاه بالشيد ، وهو الجصّ ، وجواب « لولا » محذوف لدلالة ما قبله عليه . وقد اختلف في هذه البروج ما هي؟ فقيل : الحصون التي في الأرض ، وقيل : هي القصور . قال الزجاج ، والقتيبي : ومعنى مشيدة مطوّلة . وقيل : معناه مطلية بالشيد ، وهو الجص ، وقيل : المراد بالبروج : بروج في سماء الدنيا مبنية ، حكاه مكيّ عن مالك ، وقال : ألا ترى إلى قوله : { والسماء ذَاتِ البروج } [ البروج : 1 ] { جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا } [ الحجر : 16 ] وقيل : إن المراد بالبروج المشيدة هنا : قصور من حديد .

وقرأ طلحة بن سليمان : { يُدْرِككُّمُ الموت } بالرفع على تقدير الفاء ، كما في قوله :
وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } هذا ، وما بعده مختص بالمنافقين ، أي : إن تصبهم نعمة نسبوها إلى الله تعالى ، وإن تصبهم بلية ، ونقمة نسبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فردّ الله ذلك عليهم بقوله : { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } ليس ، كما تزعمون ، ثم نسبهم إلى الجهل ، وعدم الفهم ، فقال : { فَمَالِ هَؤُلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } أي : ما بالهم هكذا .
قوله : { مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله } هذا الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس ، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته ، أي : ما أصابك من خصب ، ورخاء ، وصحة ، وسلامة ، فمن الله بفضله ، ورحمته ، وما أصابك من جهد ، وبلاء وشدّة ، فمن نفسك بذنب أتيته ، فعوقبت عليه . وقيل : إن هذا من كلام الذين لا يفقهون حديثاً ، أي : فيقولون ما أصابك من حسنة ، فمن الله . وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة ، أي : أفمن نفسك ، ومثله قوله تعالى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ } [ الشعراء : 22 ] والمعنى ، أو تلك نعمة ، ومثله قوله : { فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً قَالَ هذا رَبّى } [ الأنعام : 77 ] أي : أهذا ربي ، ومنه قول أبي خراش الهذلي :
رموني وقالوا يا خويلد لم ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
أي : أهم هم؟ وهذا خلاف الظاهر ، وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد مفاد هذه الآية ، كقوله تعالى : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] ، وقوله : { أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } [ آل عمران : 165 ] . وقد يظن أن قوله : { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } مناف لقوله : { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } ولقوله : { وَمَا أصابكم يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 166 ] ، وقوله : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وقوله : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [ الرعد : 11 ] وليس الأمر كذلك ، فالجمع ممكن ، كما هو مقرّر في مواطنه . قوله : { وأرسلناك لِلنَّاسِ رَسُولاً } فيه البيان لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجميع ، كما يفيده التأكيد بالمصدر ، والعموم في الناس ، ومثله قوله : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } [ سبأ : 28 ] ، وقوله : { قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] { وكفى بالله شَهِيداً } [ الفتح : 28 ] على ذلك .
قوله : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } فيه أن طاعة الرسول طاعة لله ، وفي هذا من النداء بشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلوّ شأنه ، وارتفاع مرتبته ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، ووجهه أن الرسول لا يأمر إلا بما أمر الله به ، ولا ينهي إلا عما نهى الله عنه : { وَمَن تولى } أي : أعرض { فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : حافظاً لأعمالهم ، إنما عليك البلاغ ، وقد نسخ هذا بآية السيف { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : أمرنا طاعة ، أو شأننا طاعة .

وقرأ الحسن ، والجحدري ، ونصر بن عاصم بالنصب على المصدر ، أي : نطيع طاعة ، وهذه في المنافقين في قول أكثر المفسرين ، أي : يقولون إذا كانوا عندك طاعة { وَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ } أي : خرجوا من عندك . { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ } أي : زوّرت طائفة من هؤلاء القائلين غير الذي تقول لهم أنت ، وتأمرهم به ، أو غير الذي تقول لك هي من الطاعة لك وقيل : معناه : غيروا وبدّلوا وحرّفوا قولك فيما عهدت إليهم ، والتبييت : التبديل ، ومنه قول الشاعر :
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر
يقال بيت الرجل الأمر : إذا دبره ليلاً ، ومنه قوله تعالى : { إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول } [ النساء : 108 ] { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ } أي : يثبته في صحائف أعمالهم ليجازيهم عليه . وقال الزجاج : المعنى ينزله عليك في الكتاب . قوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : دعهم وشأنهم حتى يمكن الانتقام منهم وقيل : معناه : لا تخبر بأسمائهم . وقيل : معناه : لا تعاقبهم . ثم أمره بالتوكل عليه ، والثقة به في النصر على عدوه ، قيل : وهذا منسوخ بآية السيف .
وقد أخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف ، وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا نبي الله كنا في عزة ، ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة؟ فقال : « إني أمرت بالعفو ، فلا تقاتلوا القوم » ، فلما حوّله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في تفسير الآية نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : أنها نزلت في اليهود . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ } الآية ، قال : نهى الله هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ في قوله : { إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } قال : هو الموت . وأخرجا نحوه ، عن ابن جريج .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة { فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } قال : في قصور محصنة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : هي قصور في السماء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سفيان نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } يقول : نعمة { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } قال : مصيبة { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } قال : النعم والمصائب .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال : هذه في السرّاء والضرّاء ، وفي قوله : { مَّا أصابك مِنْ حَسَنَةٍ } قال : هذه في الحسنات والسيئات ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله } يقول : الحسنة والسيئة من عند الله ، أما الحسنة فأنعم بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها ، وفي قوله : { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ } قال : ما أصابه يوم أحد أن شجّ وجهه ، وكسرت رباعيته . وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عنه في قوله : { وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } قال : هذا يوم أحد يقول : ما كانت من نكبة فبذنبك ، وأنا قدّرت ذلك . وأخرج ابن المنذر من طريق مجاهد أن ابن عباس كان يقرأ : « وَمَا أصابك مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَنَا كتبتها عَلَيْكَ » قال مجاهد : وكذلك قراءة أبيّ ، وابن مسعود . وأخرج نحو قول مجاهد هذا ابن الأنباري في المصاحف .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } قال : هم أناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بالله ورسوله؛ ليأمنوا على دمائهم وأموالهم { فَإِذَا بَرَزُواْ } من عند رسول الله { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ } يقول : خالفوا إلى غير ما قالوا عنده ، فعابهم الله . وأخرج ابن جرير ، عنه قال غير أولئك ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم .

أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)

الهمزة في قوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ } للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : أيعرضون عن القرآن ، فلا يتدبرونه . يقال تدبرت الشيء : تفكرت في عاقبته وتأملته ، ثم استعمل في كل تأمل ، والتدبير : أن يدبر الإنسان أمره كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته ، ودلت هذه الآية ، وقوله تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [ محمد : 24 ] على وجوب التدبر للقرآن؛ ليعرف معناه . والمعنى : أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفاً غير مختلف ، صحيح المعاني ، قوي المباني ، بالغاً في البلاغة إلى أعلى درجاتها { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } أي : تفاوتاً وتناقضاً ، ولا يدخل في هذا اختلاف مقادير الآيات ، والسور؛ لأن المراد اختلاف التناقض والتفاوت ، وعدم المطابقة للواقع ، وهذا شأن كلام البشر لا سيما إذا طال ، وتعرّض قائله للإخبار بالغيب ، فإنه لا يوجد منه صحيحاً مطابقاً للواقع إلا القليل النادر .
قوله : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } يقال : أذاع الشيء وأذاع به : إذا أفشاه ، وأظهره ، وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمن نحو ظفر المسلمين ، وقتل عدوّهم ، أو فيه خوف نحو هزيمة المسلمين وقتلهم أفشوه ، وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك . قوله : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ } وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم . والمعنى : أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يذيعها ، أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك؛ لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يفشى ، وما ينبغي أن يكتم . والاستنباط مأخوذ من استنبطت الماء : إذا استخرجته . والنبط : الماء المستنبط أوّل ما يخرج من ماء البئر عند حفرها . وقيل : إن هؤلاء الضعفة كانوا يسمعون إرجافات المنافقين على المسلمين فيذيعونها ، فتحصل بذلك المفسدة . قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } أي : لولا ما تفضل الله به عليكم من إرسال رسوله ، وإنزال كتابه لاتبعتم الشيطان ، فبقيتم على كفركم إلا قليلاً منكم ، أو إلا اتباعاً قليلاً منكم ، وقيل : المعنى : أذاعوا به إلا قليلاً منهم ، فإنه لم يذع ولم يفش . قاله الكسائي ، والأخفش ، والفراء ، وأبو عبيدة ، وأبو حاتم ، وابن جرير . وقيل : المعنى لعلمه الذين يستنبطونه إلا قليلاً منهم ، قاله الزجاج .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } يقول : إن قول الله لا يختلف ، وهو حق ليس فيه باطل ، وإن قول الناس يختلف .

وأخرج عبد بن حميد ، ومسلم ، وابن أبي حاتم ، من طريق ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب قال : لما اعتزل النبي صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد ، فوجدت الناس ينكتون بالحصا ، ويقولون : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقمت على باب المسجد ، فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق نساءه ، ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في الآية ، قال هذا في الإخبار إذا غزت سرية من المسلمين أخبر الناس عنها ، فقالوا : أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا ، وأصاب العدوّ من المسلمين كذا وكذا ، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو يخبرهم به . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك : { وَإِذَا جَاءهُمْ } قال : هم أهل النفاق . وأخرج ابن جرير ، عن أبي معاذ مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان } قال : فانقطع الكلام . وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } فهو في أوّل الآية يخبر عن المنافقين : قال : { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } { إِلاَّ قَلِيلاً } يعني : بالقليل المؤمنين .

فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

الفاء في قوله : { فَقَاتِلْ } قيل : هي متعلقة بقوله : { وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله } [ النساء : 74 ] الخ ، أي : من أجل هذا فقاتل ، وقيل : متعلقة بقوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله } [ النساء : 75 ] فقاتل وقيل : هي جواب شرط محذوف يدل عليه السياق تقديره : إذا كان الأمر ما ذكر من عدم طاعة المنافقين فقاتل ، أو إذا أفردوك وتركوك فقاتل . قال الزجاج : أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالجهاد ، وإن قاتل وحده؛ لأنه قد ضمن له النصر . قال ابن عطية : هذا ظاهر اللفظ ، إلا أنه لم يجيء في خبر قط أن القتال فرض عليه دون الأمة . فالمعنى والله أعلم : أنه خطاب له في اللفظ ، وفي المعنى له ولأمته ، أي : أنت يا محمد وكل واحد من أمتك يقال له : { فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } أي : لا تكلف إلا نفسك ، ولا تلزم فعل غيرك ، وهو استئناف مقرّر لما قبله؛ لأن اختصاص تكليفه بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده . وقريء : { لاَ تُكَلَّفُ } بالجزم على النهي ، وقريء بالنون .
قوله : { وَحَرّضِ المؤمنين } أي : حضهم على القتال ، والجهاد ، يقال حرّضت فلاناً على كذا : إذا أمرته به ، وحارض فلان على الأمر وأكبّ عليه وواظب عليه بمعنى واحد . قوله : { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } فيه إطماع للمؤمنين بكفّ بأس الذين كفروا عنهم ، والاطماع من الله عز وجلّ واجب ، فهو وعد منه سبحانه ، ووعده كائن لا محالة { والله أَشَدُّ بَأْساً } أي : أشدّ صول وأعظم سلطاناً { وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أي : عقوبة ، يقال : نكلت بالرجل تنكيلاً من النكال وهو : العذاب . والمنكل الشيء الذي ينكل بالإنسان .
{ مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } أصل الشفاعة والشفعة ونحوهما من الشفع وهو : الزوج ، ومنه الشفيع؛ لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعاً ، ومنه ناقة شفوع : إذا جمعت بين محلبين في حلبة واحدة ، وناقة شفيع : إذا اجتمع لها حمل وولد يتبعها . والشفع : ضمّ واحد إلى واحد ، والشفعة : ضم ملك الشريك إلى ملكك ، فالشفاعة : ضمّ غيرك إلى جاهك ووسيلتك ، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع ، واتصال منفعة إلى المشفوع له . والشفاعة الحسنة هي : في البرّ والطاعة . والشفاعة السيئة في المعاصي ، فمن شفع في الخير؛ لينفع فله نصيب منها ، أي : من أجرها ، ومن شفع في الشر ، كمن يسعى بالنميمة والغيبة كان له كفل منها ، أي : نصيب من وزرها . والكفل : الوزر والإثم ، واشتقاقه من الكساء الذي يجعله الراكب على سنام البعير لئلا يسقط ، يقال اكتفلت البعير : إذا أدرت على سنامه كساء وركبت عليه؛ لأنه لم يستعمل الظهر كله بل استعمل نصيباً منه ، ويستعمل في النصيب من الخير والشرّ .

ومن استعماله في الخير قوله تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } أي : مقتدراً ، قاله الكسائي . وقال الفراء : المقيت الذي يعطي كل إنسان قوته يقال : قته أقوته قوتاً ، وأقته أقيته إقاتة ، فأنا قائت ومقيت ، وحكى الكسائي أقات يقيت . وقال أبو عبيدة : المقيت الحافظ . قال النحاس : وقول أبي عبيدة أولى؛ لأنه مشتق من القوت ، والقوت معناه : مقدار ما يحفظ الإنسان . وقال ابن فارس في المجمل : المقيت المقتدر ، والمقيت : الحافظ والشاهد . وأما قول الشاعر :
ألي الفضل أم عليّ إذا حو ... سبت إني على الحساب مقيت
فقال ابن جرير الطبري إنه من غير هذا المعنى .
قوله : { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } التحية تفعلة من حييت ، والأصل تحيية مثل ترضية وتسمية؛ فأدغموا الياء في الياء ، وأصلها الدعاء بالحياة . والتحية : السلام ، وهذا المعنى هو المراد هنا ، ومثله قوله تعالى : { وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله } [ المجادلة : 8 ] وإلى هذا ذهب جماعة المفسرين ، وروي عن مالك أن المراد بالتحية هنا : تشميت العاطس . وقال أصحاب أبي حنيفة ، التحية هنا الهدية لقوله : { أَوْ رُدُّوهَا } ولا يمكن ردّ السلام بعينه ، وهذا فاسد لا ينبغي الالتفات إليه . والمراد بقوله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا } أن يزيد في الجواب على ما قاله المبتدىء بالتحية ، فإذا قال المبتدىء : السلام عليكم ، قال المجيب : وعليكم السلام ورحمة الله ، وإذا زاد المبتدىء لفظاً زاد المجيب على جملة ما جاء به المبتدىء لفظاً أو ألفاظاً نحو : وبركاته ، ومرضاته ، وتحياته .
قال القرطبي : أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغب فيها ، وردّه فريضة لقوله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزىء أو لا؟ فذهب مالك ، والشافعي إلى الإجزاء ، وذهب الكوفيون إلى أنه لا يجزىء عن غيره ، ويردّ عليهم حديث عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلم أحدهم ، ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم » أخرجه أبو داود ، وفي إسناده سعيد بن خالد الخزاعي المدني ، وليس به بأس ، وقد ضعفه بعضهم . وقد حسن الحديث ابن عبد البرّ .
ومعنى قوله : { أَوْ رُدُّوهَا } الاقتصار على مثل اللفظ الذي جاء به المبتدىء ، فإذا قال السلام عليكم ، قال المجيب : وعليكم السلام . وقد ورد في السنة المطهرة في تعيين من يبتدىء بالسلام ، ومن يستحق التحية ومن لا يستحقها ما يغني عن البسط هاهنا . قوله : { إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَىْء حَسِيباً } يحاسبكم على كل شيء وقيل : معناه حفيظاً وقيل : كافياً ، قولهم أحسبني كذا : أي : كفاني ، ومثله : { حَسْبَكَ الله } [ الأنفال : 62 ، 64 ] .
قوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مبتدأ وخبر ، واللام في قوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جواب قسم محذوف ، أي : والله ليجمعنكم الله بالحشر إلى يوم القيامة ، أي : إلى حساب يوم القيامة وقيل : « إلى » بمعنى في ، وقيل : إنها زائدة .

والمعنى : ليجمعنكم يوم القيامة ، و { يَوْمُ القيامة } يوم القيام من القبور { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : في يوم القيامة ، أو في الجمع ، أي : جمعاً لا ريب فيه : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } إنكار لأن يكون أحد أصدق منه سبحانه . وقرأ حمزة ، والكسائي ، «ومن أزدق» بالزاي . وقرأ الباقون بالصاد ، والصاد الأصل . وقد تبدل زاياً لقرب مخرجها منها .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي سنان في قوله : { وَحَرّضِ المؤمنين } قال : عظهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { مَّن يَشْفَعْ شفاعة حَسَنَةً } الآية ، قال : شفاعة الناس بعضهم لبعض . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا } قال : حظ منها . وقوله : { كِفْلٌ مَّنْهَا } قال : الكفل هو الإثم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي قال : الكفل الحظ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في قوله : { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } قال : حفيظاً . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن رواحة : أنه سأله رجل ، عن قول الله : { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقِيتاً } قال : يقيت كل إنسان بقدر عمله . وفي إسناده رجل مجهول . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { مُّقِيتاً } قال : شهيداً . وأخرج ابن جرير عنه { مُّقِيتاً } قال : شهيداً حسيباً حفيظاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { مُّقِيتاً } قال : قادراً . وأخرج ابن جرير ، عن السدّي قال : المقيت القدير . وأخرج أيضاً ، عن ابن زيد مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : المقيت الرزاق . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : من سلم عليك من خلق الله ، فاردد عليه ، وإن كان يهودياً ، أو نصرانياً ، أو مجوسياً ، ذلك بأن الله يقول : { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ } الآية . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه . قال السيوطي بسند حسن عن سلمان الفارسي قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : " وعليك ورحمة الله " ، ثم أتى آخر ، فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، فقال : وعليك ورحمة الله وبركاته ، ثم جاء آخر ، فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ، فقال له :

« وعليك » ، فقال له الرجل : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك ، فرددت عليهما أكثر مما رددت علي؟ فقال : « إنك لم تدع لنا شيئاً ، قال الله : { وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } فرددناها عليك »
وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، عن أبي هريرة : أن رجلاً مرّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في مجلس ، فقال : سلام عليكم ، فقال : « عشر حسنات » ، فمرّ رجل آخر ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله ، فقال : عشرون حسنة ، فمرّ رجل آخر ، فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فقال : « ثلاثون حسنة » وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر مرفوعاً نحوه . وأخرج البيهقي ، عن سهل بن حنيف مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج أحمد ، والدارمي ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، والبيهقي ، عن عمران بن حصين مرفوعاً نحوه أيضاً ، وزاد بعد كل مرّة أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ عليه ، ثم قال : « عشر » إلى آخره . وأخرج أبو داود ، والبيهقي عن معاذ بن أنس الجهني مرفوعاً نحوه . وزاد بعد قوله وبركاته : ومغفرته ، فقال : « أربعون » ، يعني حسنة .

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)

الاستفهام في قوله : { مَالَكُمْ } للإنكار ، واسم الاستفهام مبتدأ ، وما بعده خبره . والمعنى : أي شيء كائن لكم { فِى المنافقين } أي : في أمرهم وشأنهم حال كونكم { فِئَتَيْنِ } في ذلك . وحاصله الإنكار على المخاطبين أن يكون لهم شيء يوجب اختلافهم في شأن المنافقين . وقد اختلف النحويون في انتصاب فئتين ، فقال الأخفش ، والبصريون على الحال ، كقولك : مالك قائماً . وقال الكوفيون انتصابه على أنه خبر لكان ، وهي مضمرة ، والتقدير : فما لكم في المنافقين كنتم فئتين . وسبب نزول الآية ما سيأتي وبه يتضح المعنى . وقوله : { والله أَرْكَسَهُمْ } معناه ردّهم إلى الكفر { بِمَا كَسَبُواْ } وحكى الفراء ، والنضر بن شميل ، والكسائي أركسهم وركسهم ، أي : ردّهم إلى الكفر ، ونكسهم ، فالركس والنكس : قلب الشيء على رأسه ، أو ردّ أوله إلى آخره ، والمنكوس المركوس ، وفي قراءة عبد الله بن مسعود وأبيّ « والله ركسهم } ومنه قول عبد الله بن رواحة :
اركسوا في فئة مظلمة ... كسواد الليل يتلوها فتن
والباء في قوله : { بِمَا } سببية ، أي أركسهم بسبب كسبهم ، وهو لحوقهم بدار الكفر . والاستفهام في قوله : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله } للتقريع والتوبيخ ، وفيه دليل على أن من أضله الله لا تنجع فيه هداية البشر { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَآء } [ القصص : 56 ] قوله : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً إلى الهداية .
قوله : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء } هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هؤلاء المنافقين ، وإيضاح أنهم يودّون أن يكفر المؤمنون كما كفروا ، ويتمنوا ذلك عناداً وغلوّاً في الكفر وتمادياً في الضلال ، فالكاف في قوله : { كَمَا } نعت مصدر محذوف ، أي : كفراً مثل كفرهم ، أو حال ، كما روي عن سيبويه . قوله : { فَتَكُونُونَ سَوَاء } عطف على قوله : { تَكْفُرُونِ } داخل في حكمه ، أي : ودّوا كفركم ككفرهم ، وودّوا مساواتكم لهم . قوله : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء } جواب شرط محذوف ، أي : إذا كان حالهم ما ذكر فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يؤمنوا ، ويحققوا إيمانهم بالهجرة { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن ذلك { فَخُذُوهُمْ } إذا قدرتم عليهم { واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } في الحلّ والحرم { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً } توالونه { وَلاَ نَصِيراً } تستنصرون به .
قوله : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } هو : مستثنى من قوله : { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم } أي : إلا الذين يتصلون ، ويدخلون في قوم بينكم وبينهم ميثاق بالجوار والحلف ، فلا تقتلوهم لما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد وميثاق ، فإن العهد يشملهم . هذا أصح ما قيل في معنى الآية . وقيل الاتصال هنا : هو اتصال النسب .

والمعنى : إلا الذين ينتسبون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، قاله أبو عبيدة ، وقد أنكر ذلك أهل العلم عليه؛ لأن النسب لا يمنع من القتال بالإجماع ، فقد كان بين المسلمين وبين المشركين أنساب ، ولم يمنع ذلك من القتال . وقد اختلف في هؤلاء القوم الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاق ، فقيل : هم قريش كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق { والذين يَصِلُونَ } إلى قريش هم : بنو مدلج . وقيل : نزلت في هلال بن عويمر ، وسراقة بن جعشم ، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف ، كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وقيل : خزاعة . وقيل : بنو بكر بن زيد .
قوله : { أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } عطف على قوله : { يَصِلُونَ } داخل في حكم الاستثناء ، أي : إلا الذين يصلون ، والذين جاءوكم ، ويجوز أن يكون عطفاً على صفة قوم ، أي : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، والذين يصلون إلى قوم جاءوكم حصرت صدورهم ، أي : ضاقت صدورهم ، عن القتال ، فأمسكوا عنه والحصر : الضيق ، والانقباض . قال الفراء : وهو : أي : { حصرت صدورهم } حال من المضمر المرفوع في جاءوكم ، كما تقول : جاء فلان ذهب عقله ، أي : قد ذهب عقله . وقال الزجاج : هو خبر بعد خبر ، أي : جاءوكم . ثم أخبر ، فقال : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم ، وقيل : حصرت في موضع خفض على النعت لقوم . وقيل التقدير : أو جاءوكم رجال ، أو قوم حصرت صدورهم . وقرأ الحسن : « أَوْ جَاءوكُمْ حصرةً صُدُورُهُمْ » نصباً على الحال . وقرىء « حصرات ، وحاصرات » . وقال محمد بن يزيد المبرّد : حصرت صدورهم هو دعاء عليهم ، كما تقول لعن الله الكافر ، وضعفه بعض المفسرين ، وقيل : « أو » بمعنى « الواو » .
وقوله : { أن يقاتلونكم أَوْ يقاتلوا قَوْمَهُمْ } هو متعلق بقوله : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } أي : حصرت صدورهم عن قتالكم ، والقتال معكم لقومهم ، فضاقت صدورهم عن قتال الطائفتين ، وكرهوا ذلك { وَلَوْ شَاء الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } ابتلاء منه لكم ، واختباراً ، كما قال سبحانه : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَ أخباركم } [ محمد : 31 ] أو تمحيصاً لكم ، أو عقوبة بذنوبكم ، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك ، واللام في قوله : { فلقاتلوكم } جواب لو على تكرير الجواب ، أي : لو شاء الله لسلطهم ولقاتلوكم ، والفاء للتعقيب { فَإِنِ اعتزلوكم } ولم يتعرضوا لقتالكم { وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم } أي : استسلموا لكم ، وانقادوا { فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي : طريقاً ، فلا يحلّ لكم قتلهم ، ولا أسرهم ولا سلب أموالهم ، فهذا الاستسلام يمنع من ذلك ويحرّمه { سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } فيظهرون لكم الإسلام ، ويظهرون لقومهم الكفر؛ ليأمنوا من كلا الطائفتين ، وهم قوم من أهل تهامة طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا عنده ، وعند قومهم .

وقيل هي في قوم من أهل مكة . وقيل : في نعيم بن مسعود ، فإنه كان يأمن المسلمين والمشركين . وقيل : في قوم من المنافقين . وقيل : في أسد وغطفان { كُلَّمَا رُدُّواْ إِلَى الفتنة } أي : دعاهم قومهم إليها ، وطلبوا منهم قتال المسلمين { أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أي : قلبوا فيها ، فرجعوا إلى قومهم ، وقاتلوا المسلمين ، ومعنى الارتكاس : الانتكاس { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ } يعني هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ، ويأمنوا قومهم { وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السلم } أي : يستسلمون لكم ، ويدخلون في عهدكم وصلحكم ، وينسلخون عن قومهم { وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ } عن قتالكم { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ } أي : حيث وجدتموهم وتمكنتم منهم { وَأُوْلَئِكُمْ } الموصوفون بتلك الصفات { جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سلطانا مُّبِيناً } أي : حجة واضحة تتسلطون بها عليهم ، وتقهرونهم بها بسبب ما في قلوبهم من المرض ، وما في صدورهم من الدغل ، وارتكاسهم في الفتنة بأيسر عمل ، وأقلّ سعي .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول نقتلهم ، وفرقة تقول لا ، فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِى المنافقين فِئَتَيْنِ } الآية كلها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وإنها طيبة ، وإنها تنفي الخبث ، كما تنفي النار خبث الفضة » هذا أصح ما روي في سبب نزول الآية ، وقد رويت أسباب غير ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { والله أَرْكَسَهُمْ } يقول : أوقعهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : ردهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ميثاق } قال : نزلت في هلال بن عويمر ، وسراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني خزيمة بن عامر بن عبد مناف . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس ، والبيهقي في سننه عنه في قوله : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ } الآية ، قال : نسختها براءة { فَإِذَا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ : { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } يقول : ضاقت صدورهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع { وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم } قال : الصلح . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { فَإِنِ اعتزلوكم } الآية ، قال : نسختها : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وأخرج ابن جرير ، عن الحسن ، وعكرمة في هذه الآية قال : نسختها براءة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { سَتَجِدُونَ ءاخَرِينَ } الآية ، قال : ناس من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قومهم ، فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصالحوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة أنهم ناس كانوا بتهامة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ أنها نزلت في نعيم ابن مسعود .

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم كقوله : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] ولو كان هذا النفي على معناه لكان خبراً ، وهو يستلزم صدقه ، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمناً قط؛ وقيل المعنى : ما كان له ذلك في عهد الله ، وقيل : ما كان له ذلك فيما سلف ، كما ليس له الآن ذلك بوجه ، ثم استثنى منه استثناء منقطعاً فقال : إلا خطأ ، أي : ما كان له أن يقتله البتة ، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا ، هذا قول سيبويه ، والزجاج ، وقيل : هو استثناء متصل؛ والمعنى : وما ثبت ، ولا وجد ، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ إذ هو مغلوب حينئذ ، وقيل : المعنى : ولا خطأ . قال النحاس : ولا يعرف ذلك في كلام العرب ، ولا يصح في المعنى؛ لأن الخطأ لا يحظر؛ وقيل : إن المعنى : ما ينبغي أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ وحده ، فيكون قوله خطأ منتصباً بأنه مفعول له ، ويجوز أن ينتصب على الحال ، والتقدير : لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف ، أي : إلا قتلاً خطأ ، ووجوه الخطأ كثيرة ، ويضبطها عدم القصد ، والخطأ الاسم من أخطأ خطأ إذا لم يتعمد . قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أي : فعليه تحرير رقبة مؤمنة يعتقها كفارة عن قتل الخطأ ، وعبر بالرقبة عن جميع الذات .
واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة ، فقيل : هي التي صلت ، وعقلت الإيمان فلا تجزىء الصغيرة ، وبه قال ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، وغيرهم . وقال عطاء بن أبي رباح : إنها تجزىء الصغيرة المولودة بين مسلمين . وقال جماعة منهم مالك ، والشافعي : يجزيء كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات ، ولا يجزيء في قول جمهور العلماء أعمى ، ولا مقعد ، ولا أشلّ ، ويجزيء عند الأكثر الأعرج ، والأعور . قال مالك : إلا أن يكون عرجاً شديداً . ولا يجزيء عند أكثرهم المجنون ، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع . قوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } الدية : ما تعطى عوضاً عن دم المقتول إلى ورثته ، والمسلمة : المدفوعة المؤداة ، والأهل المراد بهم : الورثة ، وأجناس الدية ، وتفاصيلها قد بينتها السنة المطهرة . قوله : { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أي : إلا أن يتصدّق أهل المقتول على القاتل بالدية ، سمي العفو عنها صدقة ترغيباً فيه . وقرأ أبيّ : إلا يتصدقوا ، وهذه الجملة المستثناة متعلقة بقوله : { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ } أي : فعليه دية مسلمة إلا أن يقع العفو من الورثة عنها . قوله : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ } أي : فإن كان المقتول من قوم عدوّ لكم ، وهم الكفار الحربيون ، وهذه مسئلة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم ، ثم أسلم ، ولم يهاجر ، وهم يظنون أنه لم يسلم ، وأنه باق على دين قومه ، فلا دية على قاتله بل عليه تحرير رقبة مؤمنة .

واختلفوا في وجه سقوط الدية ، فقيل : وجهه أن أولياء القتيل كفار لا حق لهم في الدية ، وقيل : وجهه أن هذا الذي آمن ، ولم يهاجر حرمته قليلة لقول الله تعالى : { والذين ءامَنُواْ وَلَمْ يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ } [ الأنفال : 72 ] وقال : بعض أهل العلم إن ديته واجبة لبيت المال .
قوله : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ } أي : مؤقت أو مؤبد . وقرأ الحسن : « وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ » أي : فعلى قاتله دية مؤداة إلى أهله من أهل الإسلام ، وهم ورثته { وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً } كما تقدم { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } أي : الرقبة ، ولا اتسع ماله لشرائها { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : فعليه صيام شهرين متتابعين ، لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار ، فلو أفطر استأنف ، هذا قول الجمهور ، وأما الإفطار لعذر شرعي كالحيض ونحوه فلا يوجب الاستئناف . واختلف في الإفطار لعرض المرض . قوله : { تَوْبَةً مّنَ الله } منصوب على أنه مفعول له ، أي : شرع ذلك لكم توبة ، أي : قبولاً لتوبتكم ، أو منصوب على المصدرية ، أي : تاب عليكم توبة ، وقيل : منصوب على الحال : أي : حال كونه ذا توبة كائنة من الله . قوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } لما بين سبحانه حكم القاتل خطأ بين حكم القاتل عمداً .
وقد اختلف العلماء في معنى العمد ، فقال عطاء ، والنخعي ، وغيرهما : هو القتل بحديدة كالسيف ، والخنجر ، وسنان الرمح ، ونحو ذلك من المحدّد ، أو بما يعلم أن فيه الموت من ثقال الحجارة ونحوها . وقال الجمهور : إنه كل قتل من قاتل قاصد للفعل بحديدة ، أو بحجر ، أو بعصى ، أو بغير ذلك ، وقيده بعض أهل العلم بأن يكون بما يقتل مثله في العادة . وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن القتل ينقسم إلى ثلاثة أقسام : عمد ، وشبه عمد ، وخطأ . واستدلوا على ذلك بأدلة ليس هذا مقام بسطها . وذهب آخرون إلى أنه ينقسم إلى قسمين : عمد ، وخطأ ولا ثالث لهما . واستدلوا بأنه ليس في القرآن إلا القسمان . ويجاب عن ذلك بأن اقتصار القرآن على القسمين لا ينفي ثبوت قسم ثالث بالسنة ، وقد ثبت ذلك في السنة . وقد جاءت هذه الآية بتغليظ عقوبة القاتل عمداً ، فجمع الله له فيها بين كون جهنم جزاء له ، أي : يستحقها بسبب هذا الذنب ، وبين كونه خالداً فيها ، وبين غضب الله عليه ، ولعنته له ، وإعداده له عذاباً عظيماً . وليس وراء هذا التشديد تشديد ، ولا مثل هذا الوعيد وعيد . وانتصاب خالداً على الحال .

وقوله : { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ } معطوف على مقدّر ، يدل عليه السياق ، أي : جعل جزاءه جهنم ، أو حكم عليه أو جازاه وغضب عليه وأعدّ له .
وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال : اختلف فيها علماء أهل الكوفة ، فرحلت فيها إلى ابن عباس ، فسألته عنها ، فقال : نزلت هذه الآية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } وهي آخر ما نزل ، وما نسخها شيء . وقد روى النسائي عنه نحو هذا . وروى النسائي ، عن زيد بن ثابت نحوه ، وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وأبو سلمة ، وعبيد بن عمير ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ابن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم ، عنهم . وذهب الجمهور إلى أن التوبة منه مقبولة ، واستدلوا بمثل قوله تعالى : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] وقوله : { وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] . وقوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] ، قالوا أيضاً : والجمع ممكن بين آية النساء هذه ، وآية الفرقان ، فيكون معناهما : فجزاؤه جهنم إلا من تاب ، لا سيما ، وقد اتحد السبب ، وهو القتل ، والموجب ، وهو التوعد بالعقاب . واستدلوا أيضاً بالحديث المذكور في الصحيحين ، عن عبادة بن الصامت أنه صلى الله عليه وسلم قال : « بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق » ، ثم قال : « فمن أصاب من ذلك شيئاً ، فستره الله ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عذبه » وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه ، وغيره في الذي قتل مائة نفس وذهب جماعة منهم أبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي إلى أن القاتل عمداً داخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب . وقد أوضحت في شرحي على المنتقى مستمسك كل فريق .
والحق أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص ، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه ، وإذا كان الشرك ، وهو أعظم الذنوب وأشدّها تمحوه التوبة إلى الله ، ويقبل من صاحبه الخروج منه ، والدخول في باب التوبة ، فكيف بما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمداً؟ لكن لا بدّ في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل ، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجباً ، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجباً ، وكان القاتل غنياً متمكناً من تسليمها ، أو بعضها . وأما مجرد التوبة من القاتل عمداً ، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد من دون اعتراف ، ولا تسليم نفس ، فنحن لا نقطع بقبولها ، والله أرحم الراحمين ، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ } يقول : ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه من عهد الله الذي عهد إليه .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { مُّبِيناً وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } الآية . قال : إن عياش بن أبي ربيعة قتل رجلاً مؤمناً كان يعذبه هو وأبو جهل ، وهو أخوه لأمه في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، وعياش يحسب أن ذلك الرجل كافر . وأوضح من هذا السياق ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة قال : كان الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ، ثم خرج مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : يعني : الحارث ، فلقيه عياش بالحرّة فعلاه بالسيف ، وهو يحسب أنه كافر ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فنزلت : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خطأ } الآية ، فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له : " قم فحرّر " وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، عن السدّي بأطول من هذا . وقد روي من طرق غير هذه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد قال : نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية ، فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له ، فوجد رجلاً من القوم في غنم فحمل عليه بالسيف ، فقال لا إله إلا الله ، فضربه . وأخرج ابن منده ، وأبو نعيم نحو ذلك ، ولكن فيه أن الذي قتل المتعوّذ بكلمة الشهادة هو بكر بن حارثة الجهني .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } قال : يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان وصلى . وكل رقبة في القرآن لم تسمّ مؤمنة ، فإنه يجوز المولود فما فوقه ممن ليس به زمانة ، وفي قوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } قال : عليه الدية مسلمة إلا أن يتصدّق بها عليه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن قتادة قال : في حرف أبيّ «فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي» . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والبيهقي ، عن أبي هريرة : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء ، فقال : يا رسول الله إن عليّ عتق رقبة مؤمنة ، فقال لها : " أين الله؟ " فأشارت إلى السماء بأصبعها ، فقال لها : " فمن أنا؟ " فأشارت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى السماء ، أي : أنت رسول الله ، فقال : " أعتقها ، فإنها مؤمنة " وقد روي من طرق ، وهو في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي . وقد وردت أحاديث في تقدير الدية ، وفي الفرق بين دية الخطأ ودية شبه العمد ودية المسلم ودية الكافر ، وهي معروفة ، فلا حاجة لنا في ذكرها في هذا الموضع .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن إبراهيم النخعي في قوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } قال : هذا المسلم الذي ورثته مسلمون : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ } قال : هذا الرجل المسلم وقومه مشركون وليس بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ } قال : هذا الرجل المسلم ، وقومه مشركون ، وبينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد ، فيقتل ، فيكون ميراثه للمسلمين ، وتكون ديته لقومه؛ لأنهم يعقلون عنه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ } يقول : فإن كان في أهل الحرب ، وهو مؤمن ، فقتله خطأ ، فعلى قاتله أن يكفر بتحرير رقبة مؤمنة ، أو صيام شهرين متتابعين ولا دية عليه ، وفي قوله : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَاقٌ } يقول : إذا كان كافراً في ذمتكم فقتل ، فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر من طريق عطاء بن السائب عن أبي عياض قال : كان الرجل يجيء فيسلم ، ثم يأتي قومه وهم مشركون ، فيقيم فيهم ، فتغزوهم جيوش النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فيقتل الرجل فيمن يقتل فأنزل الله هذه الآية : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } وليست له دية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه من طريق عطاء بن السائب عن أبي يحيى ، عن ابن عباس نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { تَوْبَةً مّنَ الله } يعني تجاوزاً من الله لهذه الأمة حيث جعل في قتل الخطأ الكفارة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة : أن رجلاً من الأنصار قتل أخا مقيس بن صبابة ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الدية فقبلها ، ثم وثب على قاتل أخيه ، وفيه نزلت الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير نحوه ، وفيه أن مقيس بن صبابة لحق بمكة بعد ذلك ، وارتدّ عن الإسلام . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } بعد التي في سورة الفرقان بثمان سنين ، وهي قوله : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : { غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 70 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن زيد بن ثابت أن قوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً } نزلت بعد قوله : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } بستة أشهر . وأخرج ابن المنذر عنه قال : نزلت هذه الآية التي في النساء بعد قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] بأربعة أشهر ، والآثار عن الصحابة في هذا كثيرة جدّاً ، والحق ما عرّفناك .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

هذا متصل بذكر الجهاد والقتال والضرب : السير في الأرض ، تقول العرب ضربت في الأرض : إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما ، وتقول ضربت الأرض بدون " في " : إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يخرج رجلان يضربان الغائط " قوله : { فَتَبَيَّنُواْ } من التبين وهو التأمل ، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة ، فإنه قرأ : «فتثبتوا» من التثبت . واختار القراءة الأولى أبو عبيدة ، وأبو حاتم قالا : لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالثبت ، وإنما خصّ السفر بالأمر بالتبين ، مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضراً ، وسفراً بلا خلاف؛ لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر ، كما سيأتي . قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام } وقرىء " السلام " ، ومعناهما واحد . واختار أبو عبيدة السلام . وخالفه أهل النظر ، فقالوا : السلم هنا أشبه؛ لأنه بمعنى الانقياد والتسليم . والمراد هنا : لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً ، فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام ، وقيل : هما بمعنى : الإسلام ، أي : لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام ، أي : كلمته ، وهي : الشهادة لست مؤمناً . وقيل : هما بمعنى التسليم الذي هو تحية أهل الإسلام ، أي : لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم ، فقال السلام عليكم : لست مؤمناً . والمراد : نهى المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ، ويقولوا إنه إنما جاء بذلك تعوذاً ، وتقية . وقرأ أبو جعفر : { لَسْتَ مُؤْمِناً } من أمنته : إذا أجرته فهو مؤمن .
وقد استدلّ بهذه الآية على أن من قتل كافراً بعد أن قال لا إله إلا الله قتل به؛ لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله ، وإنما سقط القتل عمن وقع منه ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم تأوّلوا وظنوا أن من قالها خوفاً من السلاح لا يكون مسلماً؛ ولا يصير بها دمه معصوماً ، وأنه لا بد من أن يقول هذه الكلمة ، وهو مطمئن غير خائف ، وفي حكم التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول أنا مسلم ، أو أنا على دينكم ، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد ، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل ، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة وكلمة التسليم ، فالقولان الآخران في معنى الآية داخلان تحت القول الأوّل .
قوله : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا } الجملة في محل نصب على الحال ، أي : لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة ، على أن يكون النهي راجعاً إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط ، وسمي متاع الدنيا عرضاً؛ لأنه عارض زائل غير ثابت .

قال أبو عبيدة : يقال جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء . وأما العرض بسكون الراء ، فهو ما سوى الدنانير والدراهم ، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح ، وليس كل عرض بالفتح عرضاً بالسكون . وفي كتاب العين : العرض ما نيل من الدنيا ، ومنه قوله تعالى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا } [ الأنفال : 67 ] وجمعه عروض . وفي المجمل لابن فارس : والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه . وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قلّ أو أكثر ، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد .
قوله : { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } هو تعليل للنهي ، أي : عند الله مما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور مغانم كثيرة تغتنمونها ، وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد ، واغتنام ماله { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ } أي : كنتم كفاراً ، فحقنت دماؤكم لما تكلمتم بكلمة الشهادة ، أو كذلك كنتم من قبل ، تخفون إيمانكم عن قومكم خوفاً على أنفسكم حتى من الله عليكم بإعزاز دينه ، فأظهرتم الإيمان وأعلنتم به ، وكرّر الأمر بالتبين للتأكيد عليهم لكونه واجباً لا فسحة فيه ولا رخصة .
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : لحق ناس من المسلمين رجلاً معه غنيمة له ، فقال السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فنزلت : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ } الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : مرّ رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنماً له ، فسلم عليهم ، فقالوا ما سلم علينا إلا ليتعوّذ منا ، فعدوا عليه ، فقتلوه ، وأتوا بغنمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله } .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم ، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحرث بن ربعي ، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع ، ووطب من لبن ، فلما مرّ بنا سلم علينا بتحية الإسلام ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله ، وأخذ بعيره ومتيعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ } الآية . وفي لفظ عند ابن إسحاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من حديث [ ابن ] أبي حدرد هذا ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمحلم :

« أقتلته بعد ما قال آمنت بالله؟ » فنزل القرآن .
وأخرج ابن جرير ، من حديث ابن عمر أن محلماً جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليستغفر له ، فقال : لاغفر الله لك ، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه ، فلفظته الأرض ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكروا ذلك له ، فقال : إن الأرض تقبل من هو شرّ من صاحبكم ، ولكنّ الله أراد أن يعظكم ، ثم طرحوه في جبل ، وألقوا عليه الحجارة ، فنزلت : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ } الآية . وأخرج البزار ، والدارقطني في الإفراد ، والطبراني ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس أن سبب نزول الآية : أن المقداد بن الأسود قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله . وفي سبب النزول روايات كثيرة ، وهذا الذي ذكرناه أحسنها .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ } قال : تستخفون بإيمانكم ، كما استخفى هذا الراعي بإيمانه ، يعني : الذين قتلوه بعد أن ألقى إليهم السلام ، وفي لفظ « تكتمون إيمانكم من المشركين » { فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } فأظهر الإسلام فأعلنتم إيمانكم { فَتَبَيَّنُواْ } قال : وعيد من الله ثان . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله : { كذلك كُنتُمْ مّن قَبْلُ } قال : كنتم كفاراً حتى منّ الله عليكم بالإسلام ، وهداكم له .

لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)

التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر ، ودرجات من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه ، وإن كان معلوماً ، لكن أراد سبحانه بهذا الإخبار تنشيط المجاهدين ليرغبوا ، وتبكيت القاعدين ليأنفوا . قوله : { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } قرأ أهل الكوفة ، وأبو عمرو بالرفع على أنه وصف للقاعدين ، كما قال الأخفش؛ لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم ، فصاروا كالنكرة ، فجاز وصفهم بغير . وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين . وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين ، أي : إلا أولى الضرر ، فإنهم يستوون مع المجاهدين . ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من القاعدين ، أي : لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم ، وجازت الحال منهم؛ لأن لفظهم لفظ المعرفة . قال العلماء : أهل الضرر هم أهل الأعذار؛ لأنها أضرّت بهم حتى منعتهم عن الجهاد ، وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد ، وقيل : يعطى أجره من غير تضعيف ، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة . قال القرطبي : والأوّل أصحّ إن شاء الله للحديث الصحيح في ذلك : « إن بالمدينة رجالاً ما قطعتم ، وادياً ، ولا سرتم مسيراً إلا كانوا معكم أولئك قوم حبسهم العذر » قال : وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر : « إذا مرض العبد قال الله تعالى : اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ ، أو أقبضه إليّ » قوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالاً ، والمراد هنا : غير أولى الضرر حملاً للمطلق على المقيد ، وقال هنا : { دَرَجَةً } ، وقال فيما بعد : { درجات } فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات ، إنما هو مبالغة وبيان تأكيد . وقال آخرون : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر بدرجة واحدة ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير أولى الضرر بدرجات ، قاله ابن جريج ، والسدّي ، وغيرهما . وقيل : إن معنى درجة علوّاً ، أي : أعلى ذكرهم ، ورفعهم بالثناء والمدح ، ودرجة منتصبة على التمييز ، أو المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل ، أي : فضل الله تفضيلة ، أو على نزع الخافض ، أو على الحالية من المجاهدين أي : ذوي درجة .
قوله : { وَكُلاًّ } مفعول لقوله : { وَعَدَ الله } قدّم عليه لإفادته القصر ، أي : كل واحد من المجاهدين والقاعدين ، وعده الله الحسنى ، أي : المثوبة ، وهي : الجنة . قوله : { أَجْراً } هو : منتصب على التمييز . وقيل : على المصدرية ، لأن فضل بمعنى آجر ، فالتقدير آجرهم أجراً . وقيل : مفعول ثان لفضل لتضمنه معنى الإعطاء . وقيل : منصوب بنزع الخافض . وقيل : على الحال من درجات مقدّم عليها ، وأما انتصاب درجات ومغفرة ورحمة : فهي بدل من أجراً .

وقيل : إن مغفرة ورحمة ناصبهما أفعال مقدّرة ، أي : غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة .
وقد أخرج البخاري ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه : « لا يستوي القاعدون من المؤمنين ، والمجاهدون في سبيل الله » فجاء ابن أم مكتوم ، وهو يمليها عليّ ، فقال : يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت ، وكان أعمى ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفخذه على فخذي : { غَيْرُ أُوْلِى الضرر } . وقد أخرج هذا المعنى عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث البراء . وأخرجه أيضاً سعيد ابن منصور ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، من حديث خارجة بن زيد ابن ثابت عن أبيه . وأخرج الترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : { لاَّ يَسْتَوِى القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِى الضرر } عن بدر ، والخارجون إلى بدر . وأخرجه عنه أيضاً عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر . وأخرج عبد بن حميد ، والطبراني ، والبيهقي عنه قال : نزلت في قوم كانت تشغلهم أمراض ، وأوجاع ، فأنزل الله عذرهم من السماء . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، عن أنس بن مالك قال : نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم ، ولقد رأيته في بعض مشاهد المسلمين معه اللواء .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { فَضَّلَ الله المجاهدين بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } قال : على أهل الضرر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } قال : الجنة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : كان يقال الإسلام درجة ، والهجرة درجة في الإسلام ، والجهاد في الهجرة درجة ، والقتل في الجهاد درجة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن محيريز في قوله : { درجات } قال : الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة . وأخرج نحوه عبد الرزاق في المصنف ، عن أبي مجلز . وأخرج البخاري ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين ، كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله ، فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة » .

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

قوله : { توفاهم } يحتمل أن يكون فعلاً ماضياً وحذفت منه علامة التأنيث؛ لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي ، ويحتمل أن يكون مستقبلاً ، والأصل تتوفاهم ، فحذفت إحدى التاءين . وحكى ابن فورك ، عن الحسن أن المعنى تحشرهم إلى النار . وقيل تقبض أرواحهم ، وهو الأظهر . والمراد بالملائكة : ملائكة الموت لقوله تعالى : { قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذى وُكّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] . وقوله : { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } حال ، أي : في حال ظلمهم أنفسهم ، وقول الملائكة : { فِيمَ كُنتُمْ } سؤال توبيخ ، أي : في أي شيء كنتم من أمور دينكم؟ وقيل المعنى : أكنتم في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أم كنتم مشركين؟ وقيل : إن معنى السؤال التقريع لهم بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين . وقولهم : { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الأرض } يعني : مكة ، لأن سبب النزول من أسلم بها ولم يهاجر ، كما سيأتي ، ثم أوقفتهم الملائكة على دينهم ، وألزمتهم الحجة ، وقطعت معذرتهم ، فقالوا : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا } قيل : المراد بهذه الأرض : المدينة ، والأولى العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو الحق ، فيراد بالأرض كل بقعة من بقاع الأرض تصلح للهجرة إليها ، ويراد بالأرض الأولى كل أرض ينبغي الهجرة منها . قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } هذه الجملة خبر لأولئك ، والجملة خبر إن في قوله : { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة } ودخول الفاء لتضمن اسم إن معنى الشرط : { وَسَاءتْ } أي : جهنم { مَصِيراً } أي : مكاناً يصيرون إليه .
قوله : { إِلاَّ المستضعفين } هو استثناء من الضمير في مأواهم ، وقيل : استثناء منقطع لعدم دخول المستضعفين في الموصول وضميره . وقوله : { مِنَ الرجال والنساء والولدان } متعلق بمحذوف ، أي : كائنين منهم ، والمراد بالمستضعفين من الرجال الزمني ونحوهم ، والولدان كعياش بن أبي ربيعة ، وسلمة بن هشام ، وإنما ذكر الولدان مع عدم التكليف لهم لقصد المبالغة في أمر الهجرة ، وإيهام أنها تجب لو استطاعها غير المكلف ، فكيف من كان مكلفاً ، وقيل : أراد بالولدان المراهقين والمماليك . قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } صفة للمستضعفين ، أو للرجال والنساء ، والولدان ، أوحال من الضمير في المستضعفين . وقيل : الحيلة لفظ عام لأنواع أسباب التخلص ، أي : لا يجدون حيلة ، ولا طريقاً إلى ذلك ، وقيل : السبيل : سبيل المدينة : { فَأُوْلَئِكَ } إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر { عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } وجيء بكلمة الإطماع لتأكيد أمر الهجرة ، حتى يظن أن تركها ممن لا تجب عليه يكون ذنباً يجب طلب العفو عنه .
قوله : { وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } هذه الجملة متضمنة للترغيب في الهجرة ، والتنشيط إليها . وقوله : { فِى سَبِيلِ الله } فيه دليل على أن الهجرة لا بدّ أن تكون بقصد صحيح ، ونية خالصة غير مشوبة بشيء من أمور الدنيا ، ومنه الحديث الصحيح :

« فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه »
وقد اختلف في معنى قوله سبحانه : { يَجِدْ فِى الأرض مُرَاغَماً } فقال ابن عباس ، وجماعة من التابعين ، ومن بعدهم : المراغم المتحوّل والمذهب . وقال مجاهد : المراغم المتزحزح . وقال ابن زيد : المراغم المهاجر ، وبه قال أبو عبيدة . قال النحاس : فهذه الأقوال متفقة المعاني ، فالمراغم : المذهب والمتحول ، وهو الموضع الذي يراغم فيه ، وهو مشتق من الرغام ، وهو : التراب ، ورغم أنف فلان ، أي : لصق بالتراب ، وراغمت فلاناً : هجرته وعاديته ، ولم أبال أن رغم أنفه . وقيل : إنما سمي مهاجراً ، لأن الرجل كان إذا أسلم عادى قومه وهجرهم ، فسمي خروجه مراغماً ، وسمي مسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم هجرة . والحاصل في معنى الآية أن المهاجر يجد في الأرض مكاناً يسكن فيه على رغم أنف قومه الذين هاجرهم ، أي : على ذلهم وهوانهم . قوله : { وسِعَةً } أي : في البلاد . وقيل : في الرزق ، ولا مانع من حمل السعة على ما هو أعمّ من ذلك . قوله : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } قرىء « يدركه » بالجزم على أنه معطوف على فعل الشرط ، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وبالنصب على إضمار أن . والمعنى أن من أدركه الموت قبل أن يصل إلى مطلوبه ، وهو المكان الذي قصد الهجرة إليه أو الأمر الذي قصد الهجرة له : { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أي : ثبت ذلك عنده ثبوتاً لا يتخلف { وَكَانَ الله غَفُوراً } أي : كثير المغفرة { رَّحِيماً } أي : كثير الرحمة . وقد استدل بهذه الآية على أن الهجرة واجبة على كل من كان بدار الشرك ، أو بدار يعمل فيها بمعاصي الله جهاراً ، إذا كان قادراً على الهجرة ، ولم يكن من المستضعفين ، لما في هذه الآية الكريمة من العموم ، وإن كان السبب خاصاً ، كما تقدّم . وظاهرها عدم الفرق بين مكان ، ومكان وزمان وزمان . وقد ورد في الهجرة أحاديث ، وورد ما يدلّ على أنه لا هجرة بعد الفتح . وقد أوضحنا ما هو الحقّ في شرحنا على المنتقى ، فليرجع إليه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر ، فأصيب بعضهم ، وقتل البعض ، فقال المسلمون : قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ، وأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت بهم هذه الآية : { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة ظالمى أَنفُسِهِمْ } قال : فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية ، وأنه لا عذر لهم ، فخرجوا فلحقهم المشركون ، فأعطوهم الفتنة ، فنزلت فيهم هذه الآية :

{ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله } [ العنكبوت : 10 ] إلى آخر الآية فكتب المسلمون إليهم بذلك ، فحزنوا ، وأيسوا من كل خير ، فنزلت فيهم : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجروا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جاهدوا وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجاً فاخرجوا ، فخرجوا ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا ، وقتل من قتل . وقد أخرجه البخاري وغيره عنه مقتصراً على أوله .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : { إِنَّ الذين توفاهم الملئكة } إلى قوله : { وَسَاءتْ مَصِيراً } قال : نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن ربيعة بن الأسود ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبي العاص بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف ، قال : لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعير قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة ، خرجوا معهم بشباب كارهين كانوا قد أسلموا ، واجتمعوا ببدر على غير موعد ، فقتلوا ببدر كفاراً ورجعوا عن الإسلام ، وهم هؤلاء الذين سميناهم . وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن إسحاق . وقد روي نحو هذا من طرق . وقد أخرج البخاري ، وغيره ، عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية : { إِلاَّ المستضعفين مِنَ الرجال والنساء والولدان } فقال : كنت أنا وأمي من المستضعفين أنا من الولدان ، وأمي من النساء . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } قال : قوّة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } قال : نهوضاً إلى المدينة : { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } قال : طريقاً إلى المدينة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } قال : المراغم المتحوّل من أرض إلى أرض . والسعة : الرزق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { مُرَاغَماً } قال : متزحزحاً عما يكره . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء في قوله : { وسِعَةً } قال : ورخاء . وأخرج أيضاً عن مالك قال : سعة البلاد . وأخرج أبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، والطبراني قال السيوطي : بسند : رجاله ثقات عن ابن عباس قال : خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجراً ، فقال لقومه احملوني ، فأخرجوني من أرض الشرك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزل الوحي : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مهاجرا إِلَى الله } الآية .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من وجه آخر ، عنه نحوه .
وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والحاكم وصححه ، عن عبد الله بن عتيك قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله ، وأين المجاهدون في سبيل الله؟ فخرّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله ، أو مات حتف أنفه ، فقد وقع أجره على الله » ، يعني بحتف أنفه على فراشه ، والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، « ومن قتل قعصاً ، فقد استوجب الجنة » وأخرج أبو يعلى ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة » قال ابن كثير : وهذا حديث غريب من هذا الوجه .

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)

قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ } قد تقدّم تفسير الضرب في الأرض قريباً . قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } فيه دليل على أن القصر ليس بواجب ، وإليه ذهب الجمهور . وذهب الأقلون إلى أنه واجب ، ومنهم عمر بن عبد العزيز والكوفيون ، والقاضي إسماعيل ، وحماد بن أبي سليمان ، وهو مرويّ عن مالك . واستدلوا بحديث عائشة الثابت في الصحيح : « فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيدت في الحضر ، وأقرّت في السفر » ولا يقدح في ذلك مخالفتها لما روت فالعمل على الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومثله حديث يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } وقد أمن الناس ، فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : « صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » أخرجه أحمد ، ومسلم ، وأهل السنن . وظاهر قوله : « فاقبلوا صدقته » أن القصر واجب .
قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } ظاهر هذا الشرط أن القصر لا يجوز في السفر إلا مع خوف الفتنة من الكافرين لا مع الأمن ولكنه قد تقرّر بالسنة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قصر مع الأمن ، كما عرفت . فالقصر مع الخوف ثابت بالكتاب ، والقصر مع الأمن ثابت بالنسة ، ومفهوم الشرط لا يقوى على معارضته ما تواتر عنه صلى الله عليه وسلم من القصر مع الأمن . وقد قيل : إن هذا الشرط خرّج مخرج الغالب؛ لأن الغالب على المسلمين إذ ذاك القصر للخوف في الأسفار ، ولهذا قال يعلى بن أمية لعمر ما قال كما تقدّم . وفي قراءة أبيّ : « أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا » بسقوط { إِنْ خِفْتُمْ } والمعنى على هذه القراءة كراهة أن يفتنكم الذين كفروا . وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة للقصر في السفر للخائف من العدّو ، فمن كان آمناً ، فلا قصر له . وذهب آخرون إلى أن قوله : { إِنْ خِفْتُمْ } ليس متصلاً بما قبله ، وأن الكلام تمّ عند قوله : { مِنَ الصلاة } ثم افتتح فقال : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } فأقم لهم يا محمد صلاة الخوف . وقوله : { إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } معترض ، ذكر معنى هذا الجرجاني ، والمهدوي ، وغيرهما . ورده القشيري ، والقاضي أبو بكر بن العربي . وقد حكى القرطبي ، عن ابن عباس معنى ما ذكره الجرجاني ومن معه ، ومما يرد هذا ، ويدفعه الواو في قوله : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } وقد تكلف بعض المفسرين ، فقال : إن الواو زائدة ، وإن الجواب للشرط المذكور ، أعني قوله : { إِنْ خِفْتُمْ } هو قوله : { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ } وذهب قوم إلى أن ذكر الخوف منسوخ بالسنة ، وهي حديث عمر الذي قدّمنا ذكره ، وما ورد في معناه .

قوله : { أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ } قال الفراء : أهل الحجاز يقولون ، فتنت الرجل ، وربيعة ، وقيس ، وأسد ، وجميع أهل نجد يقولون أفتنت الرجل ، وفرق الخليل ، وسيبويه بينهما ، فقالا فتنته : جعلت فيه فتنة مثل كحلته ، وأفتنته : جعلته مفتناً ، وزعم الأصمعي أنه لا يعرف أفتنته . والمراد بالفتنة : القتال ، والتعرّض بما يكره قوله : { عَدُوّا } أي : أعداء . قوله : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن بعده من أهل الأمر حكمه ، كما هو معروف في الأصول ، ومثله قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أموالهم صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ونحوه ، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء ، وشذ أبو يوسف ، وإسماعيل بن علية ، فقالا : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالا : ولا يلحق غيره به لماله صلى الله عليه وسلم من المزية العظمى ، وهذا مدفوع ، فقد أمرنا الله باتباع رسوله ، والتأسي به ، وقد قال صلى الله عليه وسلم « صلوا كما رأيتموني أصلي » والصحابة رضي الله عنهم أعرف بمعاني القرآن ، وقد صلوها بعد موته في غير مرّة ، كما ذلك معروف . ومعنى : { لَهُمُ الصلاة } أردت الإقامة ، كقوله : { وَإِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } [ المائدة : 6 ] ، وقوله : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان * فاستعذ بالله } [ النحل : 98 ] قوله : { فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ } يعني : بعد أن تجعلهم طائفتين ، طائفة تقف بإزاء العدّو ، وطائفة تقوم منهم معك في الصلاة : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } أي : الطائفة التي تصلي معه . وقيل : الضمير راجع إلى الطائفة التي بإزاء العدّو ، والأوّل أظهر؛ لأن الطائفة القائمة بإزاء العدّو لا بدّ أن تكون قائمة بأسلحتها ، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك من كان في الصلاة؛ لأنه يظن أن ذلك ممنوع منه حال الصلاة ، فأمره الله بأن يكون آخذاً لسلاحه أي غير واضع له . وليس المراد : الأخذ باليد ، بل المراد : أن يكونوا حاملين لسلاحهم؛ ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه ، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدّوهم من إمكان فرصته فيهم . وقد قال بإرجاع الضمير من قوله : { وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ } إلى الطائفة القائمة بإزاء العدّو ابن عباس قال : لأن المصلية لا تحارب ، وقال غيره : إن الضمير راجع إلى المصلية ، وجوّز الزجاج ، والنحاس أن يكون ذلك أمراً للطائفتين جميعاً ، لأنه أرهب للعدّو . وقد أوجب أخذ السلاح في هذه الصلاة أهل الظاهر حملاً للأمر على الوجوب . وذهب أبو حنيفة إلى أن المصلين لا يحملون السلاح ، وأن ذلك يبطل الصلاة ، وهو مدفوع بما في هذه الآية ، وبما في الأحاديث الصحيحة .

قوله : { فَإِذَا سَجَدُواْ } أي : القائمون في الصلاة { فَلْيَكُونُواْ } أي : الطائفة القائمة بإزاء العدّو { مِن وَرَائِكُمْ } أي : من وراء المصلين . ويحتمل أن يكون المعنى : فإذا سجد المصلون معه ، أي : أتموا الركعة تعبيراً بالسجود عن جميع الركعة ، أو عن جميع الصلاة { فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ } أي : فلينصرفوا بعد الفراغ إلى مقابلة العدوّ للحراسة { وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أخرى } وهي : القائمة في مقابلة العدو التي لم تصلّ { فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ } على الصفة التي كانت عليها الطائفة الأولى { وَلْيَأْخُذُواْ } أي : هذه الطائفة الأخرى { حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } زيادة التوصية للطائفة الأخرى بأخذ الحذر مع أخذ السلاح . قيل : وجهه أن هذه المرة مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل ، وأما في المرة الأولى ، فربما يظنونهم قائمين للحرب ، وقيل : لأن العدوّ لا يؤخر قصده عن هذا الوقت ، لأنه آخر الصلاة ، والسلاح : ما يدفع به المرء عن نفسه في الحرب ، ولم يبين في الآية الكريمة كم تصلي كل طائفة من الطائفتين؟ وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة ، وصفات متعددة ، وكلها صحيحة مجزئة من فعل واحدة منها ، فقد فعل ما أمر به ، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها ، فقد أبعد عن الصواب ، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى ، وفي سائر مؤلفاتنا .
قوله : { وَدَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً واحدة } هذه الجملة متضمنة للعلة التي لأجلها أمرهم الله بالحذر ، وأخذ السلاح ، أي : ودّوا غفلتكم عن أخذ السلاح ، وعن الحذر؛ ليصلوا إلى مقصودهم ، وينالوا فرصتهم ، فيشدّون عليكم شدّة واحدة . والأمتعة : ما يتمتع به في الحرب ، ومنه الزاد والراحلة . قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } رخص لهم سبحانه في وضع السلاح إذا نالهم أذى من المطر ، وفي حال المرض؛ لأنه يصعب مع هذين الأمرين حمل السلاح ، ثم أمرهم بأخذ الحذر لئلا يأتيهم العدّو على غرّة ، وهم غافلون .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن أبي حنظلة قال : سألت ابن عمر ، عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان قلت : فأين قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } ونحن آمنون؟ قال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، والبيهقي ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه سأل ابن عمر : أرأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنا لا نجدها في كتاب الله ، إنما نجد ذكر صلاة الخوف ، فقال ابن عمر : يا بن أخي إن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً ، فإنما نفعل ، كما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ، وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفي الصحيحين ، وغيرهما عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس ، وآمنه ركعتين . وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين .
وأخرج ابن جرير ، عن عليّ قال : سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي؟ فأنزل الله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فصلى الظهر ، فقال المشركون : قد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددّتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها ، فأنزل الله بين الصلاتين : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } إلى قوله : { إِنَّ الله أَعَدَّ للكافرين عَذَاباً مُّهِيناً } فنزلت صلاة الخوف .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم وصححه ، عن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان ، فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرّتهم ، ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، فنزل جبريل بهذه الآيات : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } ثم ذكر صفة الصلاة التي صلوها مع النبي صلى الله عليه وسلم . والأحاديث في صفة صلاة الخوف كثيرة ، وهي مستوفاة في مواطنها ، فلا نطول بذكرها ها هنا . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن ابن عباس في قوله : { إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى } قال : نزلت في عبد الرحمن بن عوف كان جريحاً .

فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

{ قَضَيْتُمُ } بمعنى فرغتم من صلاة الخوف ، وهو أحد معاني القضاء ، ومثله : { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } [ البقرة : 200 ] { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الأرض } [ الجمعة : 10 ] . قوله : { فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } أي : في جميع الأحوال حتى في حال القتال . وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به ، إنما هو أثر صلاة الخوف ، أي : إذا فرغتم من الصلاة ، فاذكروا الله في هذه الأحوال؛ وقيل : معنى قوله : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة } إذا صليتم فصلوا قياماً وقعوداً أو على جنوبكم حسبما يقتضيه الحال عند ملاحمة القتال ، فهي مثل قوله : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا } [ البقرة : 239 ] . قوله : { فَإِذَا اطمأننتم } أي : أمنتم ، وسكنت قلوبكم ، والطمأنينة : سكون النفس من الخوف { فأقيموا الصلاة } أي : فأتوا بالصلاة التي دخل وقتها على الصفة المشروعة من الأذكار والأركان ، ولا تفعلوا ما أمكن ، فإن ذلك إنما هو في حال الخوف . وقيل : المعنى في الآية أنهم يقضون ما صلوه في حال المسايفة؛ لأنها حالة قلق وانزعاج وتقصير في الأذكار والأركان ، وهو مرويّ عن الشافعي ، والأوّل أرجح { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } أي : محدوداً معيناً ، يقال : وقته ، فهو موقوت ، ووقته فهو موقت . والمعنى : إن الله افترض على عباده الصلوات ، وكتبها عليهم في أوقاتها المحدودة لا يجوز لأحد أن يأتي بها في غير ذلك الوقت إلا لعذر شرعي من نوم ، أو سهو ، أو نحوهما .
قوله : { وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابتغاء القوم } أي : لا تضعفوا في طلبهم ، وأظهروا القوّة والجلد . قوله : { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } تعليل للنهي المذكور قبله ، أي : ليس ما تجدونه من ألم الجراح ومزاولة القتال مختصاً بكم ، بل هو أمر مشترك بينكم وبينهم ، فليسوا بأولى منكم بالصبر على حر القتال ، ومرارة الحرب ، ومع ذلك فلكم عليهم مزية لا توجد فيهم ، وهي : أنكم ترجون من الله من الأجر ، وعظيم الجزاء مالا يرجونه لكفرهم وجحودهم ، فأنتم أحقّ بالصبر منهم ، وأولى بعدم الضعف منهم ، فإن أنفسكم قوية؛ لأنها ترى الموت مغنماً ، وهم يرونه مغرماً . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ } [ آل عمران : 140 ] . وقيل : إن الرجاء هنا بمعنى الخوف؛ لأن من رجا شيئاً فهو غير قاطع بحصوله ، فلا يخلو من خوف ما يرجو . وقال الفراء ، والزجاج : لا يطلق الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي ، كقوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تخافون له عظمة . وقرأ عبد الرحمن الأعرج : « أن تَكُونُواْ » بفتح الهمزة ، أي : لأن تكونوا . وقرأ منصور بن المعتمر « تيلمون » بكسر التاء ولا يجوز عند البصريين كسر التاء لثقله .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فاذكروا الله قياما وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } قال : بالليل والنهار ، في البرّ والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسرّ والعلانية ، وعلى كل حال . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه بلغه أن قوماً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ، فقال : إنما هذه إذا لم يستطع الرجل أن يصلي قائماً صلى قاعداً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { فَإِذَا اطمأننتم } قال : إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة : { فأقيموا الصلاة } قال : أتموها . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } يعني : مفروضاً . وأخرج ابن جرير ، عنه قال : الموقوت الواجب . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { وَلاَ تَهِنُواْ } قال : ولا تضعفوا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { تَأْلَمُونَ } قال : توجعون : { وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } قال : ترجون الخير .

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)

قوله : { بِمَا أَرَاكَ الله } إما بوحي أو بما هو جار على سنن ما قد أوحي الله به . وليس المراد هنا : رؤية العين؛ لأن الحكم لا يرى ، بل المراد بما عرّفه الله به وأرشده إليه . قوله : { وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ } أي : لأجل الخائنين خصيماً ، أي : مخاصماً عنهم مجادلاً للمحقين بسببهم . وفيه دليل على أنه لا يجوز لأحد أن يخاصم عن أحد إلا بعد أن يعلم أنه محق . قوله : { واستغفر الله } أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار . قال ابن جرير : إن المعنى : استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين ، وسيأتي بيان السبب الذي نزلت لأجله الآية ، وبه يتضح المراد . وقيل : المعنى : واستغفر الله للمذنبين من أمتك ، والمخاصمين بالباطل .
قوله : { وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } أي : لا تحاجج عن الذين يخونون أنفسهم ، والمجادلة مأخوذة من الجدل ، وهو : القتل ، وقيل : مأخوذة من الجدالة ، وهي : وجه الأرض؛ لأن كل واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها ، وسمي ذلك خيانة لأنفسهم؛ لأن ضرر معصيتهم راجع إليهم . والخوّان : كثير الخيانة ، والأثيم : كثير الإثم ، وعدم المحبة كناية عن البغض . قوله : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس } أي : يستترون منهم كقوله : { ومن هو مستخف بالليل } [ الرعد : 10 ] أي : مستتر . وقيل : معناه : يستخفون من الناس ، ولا يستخفون من الله ، أي : لا يستترون منه أو لا يستحيون منه ، والحال أنه معهم في جميع أحوالهم عالم بما هم فيه ، فكيف يستخفون منه؟ { إِذْ يُبَيّتُونَ } أي : يديرون الرأي بينهم ، وسماه تبييتاً ، لأن الغالب أن تكون إدارة الرأي بالليل : { مَا لاَ يرضى مِنَ القول } أي : من الرأي الذي أداروه بينهم ، وسماه قولاً؛ لأنه لا يحصل إلا بعد المداولة بينهم .
قوله : { ها أَنتُمْ هؤلاء } يعني : القوم الذين جادلوا عن صاحبهم السارق ، كما سيأتي ، والجملة مبتدأ وخبر . قال الزجاج : { أُوْلاء } بمعنى الذين و { جادلتم } بمعنى حاججتم { فِى الحياة الدنيا فَمَن يجادل الله عنهم يوم القيامة } الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، أي : فمن يخاصم ويجادل الله عنهم يوم القيامة عند تعذيبهم بذنوبهم؟ { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي : مجادلاً ومخاصماً ، والوكيل في الأصل : القائم بتدبير الأمور . والمعنى : من ذاك يقوم بأمرهم إذا أخذهم الله بعذابه .
وقد أخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، عن قتادة بن النعمان ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرق بشر ، وبشير ، ومبشر ، وكان بشر رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا . قال فلان كذا وكذا؛ فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ، فقال :

أو كلما قال الرجال قصيدة ... أضمِوُا فقالوا ابن الأبيرق قالها
قال : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار ، فقدمت ضافطة ، أي : حمولة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخصّ بها نفسه ، وأما العيال ، فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضافطة من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن رافع جملاً من الدرمك ، فجعله في مشربة ، وفي المشربة سلاح له درعان ، وسيفاهما وما يصلحهما ، فعدى عليه من تحت الليل ، فنقبت المشربة ، وأخذ الطعام والسلاح ، فلما أصبح أتاني عمي رفاعة ، فقال : يا ابن أخي تعلم أن قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا ، فذهب بطعامنا وسلاحنا ، قال : فتحسسنا في الدار ، وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا ناراً في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم ، قال : وكان بنو أبيرق قالوا ، ونحن نسأل في الدار ، والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلاً مناله صلاح وإسلام ، فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ، ثم أتى بني أبيرق وقال : أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة ، قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فوالله ما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد ، فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردّوا علينا سلاحنا ، وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سأنظر في ذلك » ، فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم يقال له أسير بن عروة ، فكلموه في ذلك ، واجتمع إليه ناس من أهل الدار ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت ، قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : « عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت » ، قال قتادة : فرجعت ، ولوددت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال لي : يا بن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيماً } بني أبيرق { واستغفر الله } أي : مما قلت لقتادة : { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تجادل عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ } إلى قوله :

{ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] أي : لو استغفروا الله لغفر لهم { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً } [ النساء : 111 ] إلى قوله : { فَقَدِ احتمل بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 111 ] قولهم للبيد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } [ النساء : 113 ] يعني : أسير بن عروة ، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح ، فرده إلى رفاعة .
قال قتادة : فلما أتيت عمي بالسلاح ، وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية ، أي : كبر ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً ، فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله ، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً ، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين ، فنزل على سلافة بنت سعد ، فأنزل الله : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلّهِ مَا تولى } [ النساء : 115 ] إلى قوله : { ضلالا بَعِيداً } [ النساء : 115 - 116 ] فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ، ثم خرجت فرمت به في الأبطح ، ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير . قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحداً أسنده غير محمد بن سلمة الحراني . ورواه يونس ابن بكير ، وغير واحد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً لم يذكر فيه ، عن أبيه ، عن جدّه . ورواه ابن أبي حاتم ، عن هاشم بن القاسم الحراني ، عن محمد بن سلمة به ببعضه . ورواه ابن المنذر ، في تفسيره قال : حدثنا محمد بن إسماعيل : يعني : الصانع ، حدّثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة ، فذكره بطوله . ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره ، عن محمد بن العباس بن أيوب ، والحسن بن يعقوب كلاهما ، عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن محمد ابن سلمة به ، ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن أبي إسرائيل . وقد رواه الحاكم في المستدرك عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن يونس بن بكير ، عن محمد بن إسحاق بمعناه أثم منه ، ثم قال : هذا صحيح على شرط مسلم . وقد أخرجه ابن سعد ، عن محمود بن لبيد قال : غدا بشير فذكره مختصراً ، وقد رويت هذه القصة مختصرة ، ومطوّلة عن جماعة من التابعين .

وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

هذا من تمام القصّة السابقة ، والمراد بالسوء : القبيح الذي يسوء به : { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } بفعل معصية من المعاصي ، أو ذنب من الذنوب التي لا تتعدى إلى غيره : { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } يطلب منه أن يغفر له ما قارفه من الذنب : { يَجِدِ الله غَفُوراً } لذنبه : { رَّحِيماً } به ، وفيه ترغيب لمن وقع منه السرق من بني أبيرق أن يتوب إلى ا ويستغفره ، وأنه غفور لمن يستغفره رحيم به . وقال الضحاك : إن هذه الآية نزلت في شأن وحشي قاتل حمزة ، أشرك بالله ، وقتل حمزة ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : هل لي من توبة؟ فنزلت . وعلى كل حال ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فهي لكل عبد من عباد الله أذنب ذنباً ، ثم استغفر الله سبحانه .
قوله : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً } من الآثام بذنب يذنبه { فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } أي عاقبته عائدة عليه ، والكسب ما يجرّ به الإنسان إلى نفسه نفعاً أو يدفع به ضرراً ، ولهذا لا يسمى فعل الربّ كسباً ، قاله القرطبي : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً } قيل : هما بمعنى واحد كرر للتأكيد . وقال الطبري : إن الخطيئة تكون عن عمد ، وعن غير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد ، وقيل : الخطيئة : الصغيرة ، والإثم : الكبيرة . قوله : { ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } توحيد الضمير لكون العطف بأو ، أو لتغليب الإثم على الخطيئة ، وقيل : إنه يرجع إلى الكسب . قوله : { فَقَدِ احتمل بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً } لما كانت الذنوب لازمة لفاعلها كانت كالثقل الذي يحمل ، ومثله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، والبهتان مأخوذ من البهت : وهو الكذب على البريء بما ينبهت له ، ويتحير منه ، يقال بهته بهتاً ، وبهتاناً : إذا قال عليه ما لم يقل ، ويقال بهت الرجل بالكسر : إذا دهش وتحير ، وبهت بالضم ، ومنه : { فَبُهِتَ الذى كَفَرَ } [ البقرة : 258 ] ، والإثم المبين : الواضح .
قوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بهذا الفضل ، والرحمة لرسول الله أنه نبهه على الحق في قصة بني أبيرق . وقيل : المراد بهما : النبوّة والعصمة { لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ } أي : من الجماعة الذين عضدوا بني أبيرق ، كما تقدّم : { أَن يُضِلُّوكَ } عن الحق : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } لأن وبال ذلك عائد عليهم { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء } لأن الله سبحانه هو عاصمك من الناس؛ ولأنك عملت بالظاهر ، ولا ضرر عليك في الحكم به قبل نزول الوحي ، والجار والمجرور في محل نصب على المصدرية ، أي : وما يضرونك شيئاً من الضرر . قوله : { وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب } قيل : هذا ابتداء كلام ، وقيل : الواو للحال ، أي : وما يضرّونك من شيء حال إنزال الله عليك الكتاب ، والحكمة ، أو مع إنزال الله ذلك عليك .

قوله : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } معطوف على أنزل ، أي : علمك بالوحي ما لم تكن تعلم من قبل : { وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } إذ لا فضل أعظم من النبوّة ونزول الوحي .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } الآية . قال : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته ، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً ، ثم استغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً ، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن مسعود قال : من قرأ هاتين الآيتين من سورة النساء ، ثم استغفر الله غفر له : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول } [ النساء : 64 ] الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } قال : علمه الله بيان الدنيا ، والآخرة بين حلاله وحرامه ليحتج بذلك على خلقه . وأخرج أيضاً عن الضحاك قال : علمه الخير والشر ، وقد ورد في قبول الاستغفار ، وأنه يمحو الذنب أحاديث كثيرة مدوّنة في كتب السنة .

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)

النجوى : السرّ بين الاثنين أو الجماعة ، تقول ناجيت فلاناً مناجاة ونجاء ، وهم ينتجون ويتناجون ، ونجوت فلاناً أنجوه نجوى ، أي : ناجيته ، فنجوى مشتقة من نجوت الشيء أنجوه ، أي : خلصته وأفردته . والنجوة من الأرض المرتفع لانفراده بارتفاعه عما حوله ، فالنجوى : المسارّة مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال قوم عدل ، قال الله تعالى : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] فعلى الأوّل يكون الاستثناء منقطعاً . أي : لكن من أمر بصدقة ، أو متصلاً على تقدير إلا نجوى من أمر بصدقة ، وعلى الثاني يكون الاستثناء متصلاً في موضع خفض على البدل من كثير ، أي : لا خير في كثير إلا فيمن أمر بصدقة . وقد قال جماعة من المفسرين : إن النجوى كلام الجماعة المنفردة ، أو الاثنين سواء كان ذلك سراً أو جهراً ، وبه قال الزجاج . قوله : { بِصَدَقَةٍ } الظاهر أنها صدقة التطوّع ، وقيل : إنها صدقة الفرض . والمعروف صدقة التطوّع ، والأوّل أولى . والمعروف لفظ عام يشمل جميع أنواع البرّ . وقال مقاتل : المعروف هنا القرض . والأوّل أولى ، منه قول الحطيئة :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
ومنه الحديث : « كل معروف صدقة » « وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق » ، وقيل : المعروف إغاثة الملهوف . والإصلاح بين الناس عامّ في الدماء والأعراض والأموال ، وفي كل شيء يقع التداعي فيه . قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } إشارة إلى الأمور المذكورة ، جعل مجرّد الأمر بها خيراً ، ثم رغب في فعلها بقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } لأن فعلها أقرب إلى الله من مجرّد الأمر بها ، إذ خيرية الأمر بها إنما هي لكونه وسيلة إلى فعلها . قوله : { ابتغاء مرضات الله } علة للفعل؛ لأن من فعلها لغير ذلك ، فهو غير مستحق لهذا المدح والجزاء ، بل قد يكون غير ناج من الوزر ، والأعمال بالنيات .
{ وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } المشاققة : المعاداة والمخالفة . وتبين الهدى ظهوره ، بأن يعلم صحة الرسالة بالبراهين الدالة على ذلك ، ثم يفعل المشاققة { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } أي : غير طريقهم ، وهو ما هم عليه من دين الإسلام والتمسك بأحكامه . { نُوَلّهِ مَا تولى } أي : نجعله والياً لما تولاه من الضلال { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } قرأ عاصم وحمزة ، وأبو عمرو : « نُوَلّهِ وَنُصْلِهِ » بسكون الهاء في الموضعين . وقرأ الباقون بكسرهما ، وهما لغتان ، وقريء ونصله بفتح النون من صلاه ، وقد تقدّم بيان ذلك . وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذه الآية على حجية الإجماع لقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } ولا حجة في ذلك عندي؛ لأن المراد بغير سبيل المؤمنين هنا : هو الخروج من دين الإسلام إلى غيره ، كما يفيده اللفظ ويشهد به السبب ، فلا تصدق على عالم من علماء هذه الملة الإسلامية اجتهد في بعض مسائل دين الإسلام ، فأدّاه اجتهاده إلى مخالفة من بعصره من المجتهدين ، فإنه إنما رام السلوك في سبيل المؤمنين ، وهو الدين القويم والملة الحنيفية ، ولم يتبع غير سبيلهم .

وقد أخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم عن أمّ حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف ، أو نهياً عن منكر ، أو ذكراً لله عزّ وجلّ " قال سفيان الثوري هذا في كتاب الله : { لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ } الآية ، وقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] ، وقوله : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1 - 3 ] . وقد وردت أحاديث صحيحة في الصمت ، والتحذير من آفات اللسان ، والترغيب في حفظه ، وفي الحثّ على الإصلاح بين الناس . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حيان في قوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } تصدق أو أقرض أو أصلح بين الناس .
وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن أنس قال : «جاء أعرابيّ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أنزل عليّ القرآن يا أعرابيّ : { لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ } إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } يا أعرابيّ الأجر العظيم الجنة " ؛ قال الأعرابي : الحمد لله الذي هدانا للإسلام . وأخرج الترمذي ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يجمع الله هذه الأمة على الضلالة أبداً ، ويد الله على الجماعة ، فمن شذّ شذّ في النار " وأخرجه الترمذي والبيهقي أيضاً عن ابن عباس مرفوعاً .

إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)

قوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } قد تقدّم تفسير هذه الآية ، وتكريرها بلفظها للتأكيد ، وقيل : كررت هنا لأجل قصة بني أبيرق ، وقيل إنها نزلت هنا لسبب غير قصة بني أبيرق . وهو ما رواه الثعلبي ، والقرطبي في تفسيريهما عن الضحاك : أن شيخاً من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلا أني لم أشرك بالله شيئاً مذ عرفته ، وآمنت به ، ولم أتخذ من دونه ، ولياً ، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله ، ولا مكابرة له ، وإني لنادم وتائب ومستغفر ، فما حالي عند الله؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ } عن الحق { ضلالا بَعِيداً } لأن الشرك أعظم أنواع الضلال ، وأبعدها من الصواب .
{ إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا } أي : ما يدعون من دون الله إلا أصناماً لها أسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة وقيل المراد بالإناث : الموات التي لا روح لها كالخشبة ، والحجر . وقيل المراد بالإناث : الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله . وقرىء «وثنا» بضم الواو والثاء جمع وثن ، روى هذه القراءة ابن الأنباري عن عائشة . وقرأ ابن عباس «إلا أثنا» جمع وثن أيضاً ، وأصله " وثن " ، فأبدلت الواو همزة ، وقرأ الحسن " إلا أنثا " بضم الهمزة والنون بعدها مثلثة ، جمع أنيث كغدير وغدر . وحكى الطبري أنه جمع إناث كثمار وثمر . وحكى هذه القراءة أبو عمرو الداني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وقرأ بها ابن عباس ، والحسن ، وأبو حيوة . وعلى جميع هذه القراءات ، فهذا الكلام خارج مخرج التوبيخ للمشركين ، والإزراء عليهم ، والتضعيف لعقولهم ، لكونهم عبدوا من دون الله نوعاً ضعيفاً { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً } أي : وما يدعون من دون الله إلا شيطاناً مريداً ، وهو إبليس لعنه الله ، لأنهم إذا أطاعوه فيما سوّل لهم فقد عبدوه . وقد تقدّم اشتقاق لفظ الشيطان . والمريد : المتمرّد العاتي ، من مرد : إذا عتا . قال الأزهري : المريد الخارج عن الطاعة . وقد مرد الرجل مروداً : إذا عتا ، وخرج عن الطاعة فهو مارد ومريد ومتمرّد . وقال ابن عرفة : هو الذي ظهر شرّه ، يقال شجرة مرداء : إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها ، ومنه قيل للرجل أمرد : أي : ظاهر مكان الشعر من عارضيه .
قوله : { لَّعَنَهُ الله } أصل اللعن الطرد ، والإبعاد . وقد تقدّم وهو في العرف إبعاد مقترن بسخط . قوله : { وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } معطوف على قوله : { لَّعْنَهُ الله } والجملتان صفة لشيطان ، أي : شيطاناً مريداً جامعاً بين لعنة الله له وبين هذا القول الشنيع .

والنصيب المفروض : هو المقطوع المقدّر ، أي : لأجعلنّ قطعة مقدّرة من عباد الله تحت غوايتي ، وفي جانب إضلالي حتى أخرجهم من عبادة الله إلى الكفر به .
وقوله : { وَلأَضِلَّنَّهُمْ } اللام جواب قسم محذوف . والإضلال : الصرف عن طريق الهداية إلى طريق الغواية ، وهكذا اللام في قوله : { وَلأَمَنّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ } والمراد بالأماني التي يمنيهم بها الشيطان : هي الأماني الباطلة الناشئة عن تسويله ووسوسته . قوله : { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام } أي : ولآمرنهم بتبتك آذان الأنعام : أي : تقطيعها فليبتكنها بموجب أمري . والبتك : القطع ، ومنه سيف باتك ، يقال بتكه وبتكه مخففاً ، ومشدّداً ، ومنه قول زهير :
طارت وفي كفه من ريشها بتك ... أي : قطع . وقد فعل الكفار ذلك امتثالاً لأمر الشيطان واتباعاً لرسمه ، فشقوا آذان البحائر والسوائب ، كما ذلك معروف .
قوله : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله } أي : ولآمرنهم بتغيير خلق الله ، فليغيرنه بموجب أمري لهم . واختلف العلماء في هذا التغيير ما هو؟ فقالت طائفة : هو الخصاء وفقء الأعين ، وقطع الآذان . وقال آخرون : إن المراد بهذا التغيير هو أن الله سبحانه خلق الشمس والقمر والأحجار ، والنار ، ونحوها من المخلوقات لما خلقها له ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة ، وبه قال الزجاج وقيل المراد بهذا التغيير : تغيير الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور حملاً شمولياً ، أو بدلياً .
وقد رخص طائفة من العلماء في خصاء البهائم إذا قصد بذلك زيادة الانتفاع به لسمن أو غيره ، وكره ذلك آخرون ، وأما خصاء بني آدم فحرام ، وقد كره قوم شراء الخصي . قال القرطبي : ولم يختلفوا أن خصاء بني آدم لا يحل ولا يجوز وأنه مثلة وتغيير لخلق الله ، وكذلك قطع سائر أعضائهم في غير حدّ ولا قود ، قاله أبو عمر بن عبد البر .
{ وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مّن دُونِ الله } باتباعه وامتثال ما يأمر به من دون اتباع لما أمر الله به ، ولا امتثال له { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } أي : واضحاً ظاهراً { يَعِدُهُمْ } المواعيد الباطلة { وَيُمَنّيهِمْ } الأماني العاطلة { وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } أي : وما يعدهم الشيطان بما يوقعه في خواطرهم من الوساوس الفارغة { إِلاَّ غُرُوراً } يغرّهم به ويظهر لهم فيه النفع ، وهو ضرر محض ، وانتصاب { غروراً } على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : وعداً غروراً ، أو على أنه مفعول ثان ، أو مصدر على غير لفظه . قال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهراً تحبه ، وله باطن مكروه وهذه الجملة اعتراضية .
قوله : { أولئك } إشارة إلى أولياء الشيطان ، وهذا مبتدأ ، وخبره الجملة ، وهي قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } . قوله : { مَحِيصاً } أي : معدلاً ، من حاص يحيص وقيل ملجأ ، ومخلصاً؛ والمحيص اسم مكان ، وقيل : مصدر . قوله : { والذين ءامَنُواْ } الخ جعل هذا الوعد للذين آمنوا مقترناً بالوعيد المتقدّم للكافرين .

قوله : { وَعْدَ الله حَقّا } قال في الكشاف مصدران : الأوّل مؤكد لنفسه ، والثاني مؤكد لغيره ، ووجهه أن الأوّل مؤكد لمضمون الجملة الاسمية ، ومضمونها وعد ، والثاني مؤكد لغيره ، أي : حق ذلك حقاً . قوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، والقيل مصدر قال كالقول ، أي : لا أجد أصدق قولاً من الله عز وجل؛ وقيل : إن قيلا اسم لا مصدر ، وإنه منتصب على التمييز .
وقد أخرج الترمذي من حديث عليّ أنه قال : ما في القرآن آية أحبّ إليّ من هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } قال الترمذي : حسن غريب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي مالك في قوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا } قال : اللات والعزة ، ومناة كلها مؤنثة . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب في الآية قال مع كل صنم جنيه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا } قال : موتى . وأخرج مثله عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن . وأخرج مثله أيضاً عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الحسن قال : كان لكل حيّ من أحياء العرب صنم يعبدونها يسمونها أنثى بني فلان ، فأنزل الله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال المشركون : إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : اتخذوهنّ أرباباً ، وصوروهنّ صور الجواري ، فحلوا وقلدوا ، وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده : يعنون الملائكة .
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله : { وَقَالَ لأُتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ } الخ ، قال : هذا إبليس يقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة . وأخرج ابن المنذر عن الربيع ابن أنس مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام } قال التبتيك في البحيرة والسائبة يبتكون آذانها لطواغيتهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أنس أنه كره الإخصاء ، وقال فيه نزلت : { وَلاَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي ، عن ابن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء البهائم والخيل . وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح ، وإخصاء البهائم وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله } قال : دين الله . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير مثله أيضاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن قال : الوشم .

لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

قرأ أبو جعفر بتخفيف الياء من أماني في الموضعين ، واسم ليس محذوف ، أي : ليس دخول الجنة ، أو الفضل ، أو القرب من الله بأمانيكم ، ولا أمانيّ أهل الكتاب ، كما يدل على ذلك سبب نزول الآية الآتي ، وقيل : ضمير يعود إلى وعد الله ، وهو بعيد ، ومن أمانيّ أهل الكتاب قولهم : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقولهم : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقولهم : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [ البقرة : 80 ] .
قوله : { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قيل المراد بالسوء : الشرك ، وظاهر الآية أعمّ من ذلك ، فكلّ من عمل سوءاً : أي سوء كان فهو مجزي به من غيره فرق بين المسلم والكافر . وفي هذه الجملة ما ترجف له القلوب من الوعيد الشديد ، وقد كان لها في صدور المسلمين عند نزولها موقع عظيم كما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة ، قال : لما نزلت : { مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قاربوا وسدّدوا ، في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها ، والشوكة يشاكها » قوله : { وَلاَ يَجِدْ لَهُ } قرأه الجماعة بالجزم عطفاً على الجزاء . وروى ابن بكار عن ابن عامر { وَلاَ يَجِدْ } بالرفع استئنافاً ، أي ليس لمن يعمل السوء من دون الله ولياً يواليه ولا نصيراً ينصره .
{ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } أي : بعضها حال كونه { مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } وحال كونه مؤمناً ، والحال الأولى لبيان من يعمل ، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح { فَأُوْلَئِكَ } إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان { يَدْخُلُونَ الجنة } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير : « يَدْخُلُونَ » بضم حرف المضارعة على البناء للمجهول . وقرأ الباقون بفتحها على البناء للمعلوم { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } أي : لا ينقصون شيئاً حقيراً ، وقد تقدّم تفسير النقير : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } أي : أخلص نفسه له حال كونه محسناً ، أي : عاملاً للحسنات { واتَّبَعَ مِلَّةَ إبراهيم } أي : دينه حال كون المتبع { حَنِيفاً } أي : مائلاً عن الأديان الباطلة إلى دين الحق ، وهو الإسلام : { واتخذ الله إبراهيم خَلِيلاً } أي : جعله صفوة له ، وخصه بكراماته ، قال ثعلب : إنما سمي الخليل خليلاً؛ لأن محبته تتخلل القلب ، فلا تدع فيه خليلاً إلا ملأته ، وأنشد قول بشار :
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمي الخليل خليلاً
وخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى العالم وقيل : هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب . وقد كان إبراهيم عليه السلام محبوباً لله ومحباً له . وقيل : الخليل من الاختصاص ، فالله سبحانه اختص إبراهيم برسالته في ذلك الوقت واختاره لها ، واختار هذا النحاس .

وقال الزجاج : معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } فيه إشارة إلى أنه سبحانه اتخذ إبراهيم خليلاً لطاعته لا لحاجته ، ولا للتكثر به ، والاعتضاد بمخاللته { وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً } هذه الجملة مقررة لمعنى الجملة التي قبلها ، أي : أحاط علمه بكل شيء : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : قالت العرب : لا نبعث ، ولا نحاسب ، وقالت اليهود ، والنصارى : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 11 ] وقالوا : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } [ البقرة؛ 80 ] فأنزل الله : { لَّيْسَ بأمانيكم وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مسروق قال : احتج المسلمون ، وأهل الكتاب ، فقال المسلمون : نحن أهدى منكم ، وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم ، فنزلت ففلج عليهم المسلمون بهذه الآية : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مسروق قال : تفاخر النصارى ، وأهل الإسلام ، فقال هؤلاء نحن أفضل منكم ، وقال هؤلاء نحن أفضل منكم ، فنزلت . وقد ورد معنى هذه الروايات من طرق كثيرة مختصرة ومطوّلة . وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن المنذر ، عن أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له لما نزلت هذه الآية : « أما أنت ، وأصحابك يا أبا بكر ، فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون ، فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة » وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة ، وأبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما يصيب المؤمن من وصب ، ولا نصب ، ولا سقم ، ولا حزن حتى الهمّ يهمه إلا كفر الله به من سيئاته » وقد ورد في هذا المعنى أحاديث كثيرة .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أن ابن عمر لقيه ، فسأل عن هذه الآية : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } قال : الفرائض . وأخرج الحاكم ، وصححه عن جندب : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يتوفى : « إن الله اتخذني خليلاً ، كما اتخذ إبراهيم خليلاً » وأخرج الحاكم أيضاً وصححه ، عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟

وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

سبب نزول هذه الآية سؤال قوم من الصحابة عن أمر النساء ، وأحكامهن في الميراث وغيره ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : { الله يُفْتِيكُمْ } أي : يبين لكم حكم ما سألتم عنه ، وهذه الآية رجوع إلى ما افتتحت به السورة من أمر النساء ، وكان قد بقيت لهم أحكام لم يعرفوها ، فسألوا ، فقيل لهم : { الله يُفْتِيكُمْ } . قوله : { وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ } معطوف على قوله : { الله يُفْتِيكُمْ } والمعنى : والقرآن الذي يتلى عليكم يفتيكم فيهن . والمتلوّ في الكتاب في معنى اليتامى قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى } [ النساء : 3 ] ويجوز أن يكون قوله : { وما يتلى } معطوفاً على الضمير في قوله : { يُفْتِيكُمْ } الراجع إلى المبتدأ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمفعول والجار والمجرور ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، و { في الكتاب } خبره على أن المراد به : اللوح المحفوظ ، وقد قيل في إعرابه غير ما ذكرنا ، ولم نذكره لضعفه .
قوله : { فِى يتامى النساء } على الوجه الأوّل والثاني صلة لقوله : { يتلى } وعلى الوجه الثالث بدل من قوله : { فِيهِنَّ } . { اللاتى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } أي : ما فرض لهنّ من الميراث وغيره { وَتَرْغَبُونَ } معطوف على قوله : { لاَ تُؤْتُونَهُنَّ } عطف جملة مثبتة على جملة منفية . وقيل : حال من فاعل { تُؤْتُونَهُنَّ } . وقوله : { أَن تَنكِحُوهُنَّ } يحتمل أن يكون التقدير في أن تنكحوهن ، أي : ترغبون في أن تنكحوهنّ لجمالهنّ ، ويحتمل أن يكون التقدير ، وترغبون عن أن تنكحوهنّ لعدم جمالهنّ . قوله : { والمستضعفين مِنَ الولدان } معطوف على يتامى النساء ، أي : وما يتلى عليكم في يتامى النساء ، وفي المستضعفين من الولدان ، وهو قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم } [ النساء : 11 ] . وقد كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا من كان مستضعفاً من الولدان ، كما سلف ، وإنما يورثون الرجال القائمين بالقتال وسائر الأمور . قوله : { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } معطوف على قوله : { فِى يتامى النساء } كالمستضعفين أي : وما يتلى عليكم في يتامى النساء ، وفي المستضعفين ، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط ، أي : العدل ، ويجوز أن يكون في محل نصب ، أي : ويأمركم أن تقوموا { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } في حقوق المذكورين : { فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } يجازيكم بحسب فعلكم من خير وشر .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء } الآية ، قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ، ولا يورثون المرأة ، فلما كان الإسلام قال : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب } في أوّل السورة في الفرائض .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في الآية قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ، ولا الصبيان شيئاً ، كانوا يقولون لا يغزون ، ولا يغنمون خيراً ، ففرض الله لهنّ الميراث حقاً واجباً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير نحوه بأطول منه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن إبراهيم في الآية قال : كانوا إذا كانت الجارية يتيمة دميمة لم يعطوها ميراثها ، وحبسوها من التزويج حتى تموت فيرثونها ، فأنزل الله هذا . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء } إلى قوله : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته في ماله حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلاً ، فتشركه في ماله بما شركته فيعضلها ، فنزلت هذه الآية . وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن ، وابن سيرين في هذه الآية قال أحدهما : ترغبون فيهنّ ، وقال الآخر : ترغبون عنهن .

وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)

{ امرأة } مرفوعة بفعل مقدّر يفسره ما بعده ، أي : وإن خافت امرأة ، وخافت بمعنى : توقعت ما تخاف من زوجها ، وقيل معناه : تيقنت وهو خطأ . قال الزجاج : المعنى : { وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا } دوام النشوز . قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض : أن النشوز التباعد ، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها ، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أيّ نشوز ، أو أيّ إعراض ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي ، وظاهرها أنه يجوز التصالح بأيّ نوع من أنواعه ، إما بإسقاط النوبة ، أو بعضها ، أو بعض النفقة ، أو بعض المهر . قوله : { أن يصالحا } هكذا قرأه الجمهور ، وقرأ الكوفيون : «أن يصلحا» وقراءة الجمهور أولى؛ لأن قاعدة العرب أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعداً قيل : تصالح الرجلان ، أو القوم ، لا أصلح . وقوله : { صالحا } منصوب على أنه اسم مصدر ، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد ، أو منصوب بفعل محذوف ، أي : فيصلح حالهما صلحاً ، وقيل : هو منصوب على المفعولية . وقوله : { بَيْنَهُمَا } ظرف للفعل ، أو في محل نصب على الحال .
قوله : { والصلح خَيْرٌ } لفظ عام يقتضي أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ، ويزول به الخلاف خير على الإطلاق أو خير من الفرقة ، أو من الخصومة ، وهذه جملة اعتراضية . قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } إخبار منه سبحانه بأن الشحّ في كل واحد منهما ، بل في كل الأنفس الإنسانية كائن ، وأنه جعل كأنه حاضر لها لا يغيب عنها بحال من الأحوال ، وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة ، فالرجل يشحّ بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة ، وحسن النفقة ونحوها ، والمرأة تشحّ على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج ، فلا تترك له شيئاً منها . وشحّ الأنفس : بخلها بما يلزمها ، أو يحسن فعله بوجه من الوجوه ، ومنه : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } [ الحشر : 9 ] .
قوله : { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ } أي : تحسنوا عشرة النساء ، وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه .
قوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء } أخبر سبحانه بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه ، وزيادة هذه في المحبة ، ونقصان هذه ، وذلك بحكم الخلقة بحيث لا يملكون قلوبهم ، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية ، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك " ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ، ولو حرصوا عليه ، وبالغوا فيه نهاهم عزّ وجلّ عن أن يميلوا كل الميل؛ لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم ، وداخل تحت طاقتهم ، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهنّ إلى الأخرى كل الميل حتى يذروا الأخرى كالمُعلقة التي ليست ذات زوج ، ولا مطلقة تشبيهاً بالشيء الذي هو معلق غير مستقرّ على شيء ، وفي قراءة أبيّ «فتذروها كالمسجونة» قوله : { وَإِن تُصْلِحُواْ } أي : ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء ، والعدل بينهنّ { وَتَتَّقُواْ } كل الميل الذي نهيتم عنه : { فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } لا يؤاخذكم بما فرط منكم .

قوله : { وَإِن يَتَفَرَّقَا } أي : لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه : { يُغْنِ الله كُلاًّ } منهما : أي : يجعله مستغنياً عن الآخر بأن يهيىء للرجل امرأة توافقه ، وتقرّ بها عينه ، وللمرأة رجلاً تغتبط بصحبته ، ويرزقهما { مّن سَعَتِهِ } رزقاً يغنيهما به عن الحاجة : { وَكَانَ الله واسعا حَكِيماً } واسع الفضل صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان .
وقد أخرج الترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله لا تطلقني ، وأجعل يومي لعائشة ، ففعل ، ونزلت هذه الآية : { وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } الآية ، قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز . وأخرج أبو داود ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن عائشة أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة . وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حلّ ، فنزلت هذه الآية . وأخرج الشافعي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن سعيد بن المسيب أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج ، فكره منها أمراً ، إما كبراً ، أو غيره ، فأراد طلاقها ، فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك ، فاصطلحا ، وجرت السنة بذلك ونزل القرآن : { وَإِنِ امرأة خافت مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً } الآية . وأخرج أبو داود الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وابن راهويه ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن عليّ أنه سئل عن هذه الآية ، فقال : هو رجل عنده امرأتان ، فتكون إحداهما قد عجزت ، أو تكون دميمة ، فيريد فراقها ، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة ، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها ، فما طابت به نفسها ، فلا بأس به ، فإن رجعت سوّى بينهما . وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا ، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } قال : هواه في الشيء يحرص عليه ، وفي قوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء } قال : في الحبّ والجماع ، وفي قوله : { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } قال : لا هي أيمة ولا ذات زوج .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن المنذر عن عائشة قالت : «كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ، فيعدل ، ثم يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " وإسناده صحيح . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأهل السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كانت له امرأتان ، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة ، وأحد شقيه ساقط " قال الترمذي : إنما أسنده همام . ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال : كان يقال ، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعاً إلا من حديث همام . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود في قوله : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النساء } قال : الجماع . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن الحسن قال : الحبّ .

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)

قوله : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه ، وشمول قدرته { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب ، واللام في الكتاب للجنس { وإياكم } عطف على الموصول { أَنِ اتقوا الله } أي : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وهو في موضع نصب بقوله : { وَصَّيْنَا } أو منصوب بنزع الخافض . قال الأخفش : أي : بأن اتقوا الله ، ويجوز أن تكون أن مفسرة؛ لأن التوصية في معنى القول . قوله : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الأرض } معطوف على قوله : { أَنِ اتقوا } أي : وصيناهم وإياكم بالتقوى ، وقلنا لهم ولكم إن تكفروا ، وفائدة هذا التكرير التأكيد ليتنبه العباد على سعة ملكه ، وينظروا في ذلك ، ويعلموا أنه غنيّ عن خلقه { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي : يفنكم { وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } أي : بقوم آخرين غيركم ، وهو كقوله تعالى { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } [ محمد : 38 ] { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا } وهو من يطلب بعمله شيئاً من أمور الدنيا كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } فما باله يقتصر على أدنى الثوابين ، وأحقر الأجرين ، وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه ، وهو ثواب الدنيا والآخرة ، فيحرزهما جميعاً ، ويفوز بهما ، وظاهر الآية العموم . وقال ابن جرير الطبري : إنها خاصة بالمشركين والمنافقين : { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } يسمع ما يقولونه ، ويبصر ما يفعلونه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَكَانَ الله غَنِيّاً } عن خلقه { حَمِيداً } قال : مستحمداً إليهم . وأخرجا أيضاً عن علي مثله . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وكفى بالله وَكِيلاً } قال : حفيظاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِاخَرِينَ } قال قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء ويأتي بآخرين من بعدهم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)

قوله : { قَوَّامِينَ } صيغة مبالغة ، أي : ليتكرر منكم القيام بالقسط ، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم ، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق ، وأما شهادته على والديه فبأن يشهد عليهما بحق للغير . وكذلك الشهادة على الأقربين ، وذكر الأبوين لوجوب برّهما ، وكونهما أحبّ الخلق إليه ، ثم ذكر الأقربين؛ لأنهم مظنة المودّة والتعصب ، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم ، فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه . وقد قيل : إن معنى الشهادة على النفس أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه ، وهو بعيد . وقوله : { شُهَدَاء للَّهِ } خبر بعد خبر لكان ، أو حال ، ولم ينصرف؛ لأن فيه ألف التأنيث . وقال ابن عطية : الحال فيه ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط . وقوله : { لِلَّهِ } أي : لمرضاته وثوابه . وقوله : { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } متعلق بشهداء ، هذا المعنى الظاهر من الآية؛ وقيل معنى : { شُهَدَاء للَّهِ } بالوحدانية ، فيتعلق قوله : { وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } بقوّامين ، والأوّل أولى .
قوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً } اسم كان مقدّر ، أي : إن يكن المشهود عليه غنياً ، فلا يراعى لأجل غناه استجلاباً لنفعه ، أو استدفاعاً لضره ، فيترك الشهادة عليه ، أو فقيراً فلا يراعى لأجل فقره رحمة له ، وإشفاقاً عليه ، فيترك الشهادة عليه ، وإنما قال : { فالله أولى بِهِمَا } ولم يقل به مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد؛ لأن المعنى : فالله أولى بكل واحد منهما . وقال الأخفش : تكون " أو " بمعنى الواو؛ وقيل : إنه يجوز ذلك مع تقدّم ذكرهما كما في قوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلّ واحد مّنْهُمَا السدس } [ النساء : 12 ] . وقد تقدّم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا . وقرأ أبيّ : «فالله أولى بهم» . وقرأ ابن مسعود : «إن يكن غنيّ أو فقير» على أن كان تامة : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } نهاهم عن اتباع الهوى . وقوله : { أَن تَعْدِلُواْ } في موضع نصب ، وهو إما من العدل كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس ، أو من العدول كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق ، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق .
قوله : { وَإِن تَلْوُواْ } من الليّ ، يقال لويت فلاناً حقه : إذا دفعته عنه . والمراد ليّ الشهادة ميلاً إلى المشهود عليه . وقرأ ابن عامر ، والكوفيون «وإن تلوا» من الولاية ، أي : وإن تلوا الشهادة ، وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق . وقد قيل : إن هذه القراءة تفيد معنيين : الولاية ، والإعراض . والقراءة الأولى تفيد معنى واحداً وهو الإعراض . وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن؛ لأنه لا معنى للولاية هاهنا .

قال النحاس وغيره : وليس يلزم هذا ، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا ، وذلك أن أصله تلووا ، فاستثقلت الضمة على الواو وبعدها واو أخرى ، فألقيت الحركة على اللام ، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين . وذكر الزجاج نحوه . قوله : { أَوْ تُعْرِضُواْ } أي : عن تأدية الشهادة من الأصل { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي : بما تعملون من الليّ والإعراض ، أو من كل عمل ، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة ، كما تجب عليه ، وقد روى أن هذه الآية تعمّ القاضي والشهود ، أما الشهود فظاهر ، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين ، أو يلوى عن الكلام معه وقيل : هي خاصة بالشهود . قوله : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } أي : اثبتوا على إيمانكم ، وداوموا عليه ، والخطاب هنا للمؤمنين جميعاً { والكتاب الذى نَزَّلَ على رَسُولِهِ } هو القرآن ، واللام للعهد { والكتاب الذى أَنَزلَ مِن قَبْلُ } هو كل كتاب ، واللام للجنس . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر « نزل » ، و « أنزل » بالضم . وقرأ الباقون بالفتح فيهما . وقيل إن الآية نزلت في المنافقين . والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله . وقيل نزلت في المشركين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله ، وهما ضعيفان . قوله : { وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر } أي : بشيء من ذلك { فَقَدْ ضَلَّ } عن القصد { ضلالا بَعِيداً } وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه ، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة ، فناسبه ذكر الرسل جملة ، وتقديم الملائكة على الرسل؛ لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ } الآية : قال ، أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم ، لا يحابون غنياً لغناه ، ولا يرحمون مسكيناً لمسكنته ، وفي قوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى } فتذروا الحق فتجوروا { وَإِن تَلْوُواْ } يعني بألسنتكم بالشهادة { أَوْ تُعْرِضُواْ } عنها . وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال : الرجلان يجلسان عند القاضي ، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : لما قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة كانت البقرة أوّل سورة نزلت ، ثم أردفها سورة النساء ، قال : فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه أو ذوي رحمه ، فيلوى بها لسانه أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر ، فيقضي حين يوسر ، فنزلت : { كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط } الآية .
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } يقول : تلوي لسانك بغير الحق ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها .

والإعراض : الترك . وأخرج الثعلبي عن ابن عباس أن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب ، وثعلبة بن قيس وسلاماً ابن أخت عبد الله بن سلام ، وسلمة ابن أخيه ، ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك ، وموسى والتوراة وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل آمنوا بالله ورسوله محمد ، وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله » ، فقالوا : لا نفعل ، فنزلت : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ءامِنُواْ بالله } الآية . وينبغي النظر في صحة هذا ، فالثعلبي رحمه الله ليس من رجال الرواية ، ولا يفرّق بين الصحيح والموضوع .
وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك في هذه الآية قال : يعني بذلك : أهل الكتاب ، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل ، وأقرّوا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن ، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق ، فمنهم من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم واتبعه ، ومنهم من كفر .

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ثم آمنت ، ثم كفرت ، ثم ازدادت كفراً بعد ذلك كله ، أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم ، ولا ليهديهم سبيلاً يتوصلون به إلى الحق ، ويسلكونه إلى الخير؛ لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ، ويؤمنوا إيماناً صحيحاً ، فإن هذا الاضطراب منهم تارة يدّعون أنهم مؤمنون ، وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم ، وشأنهم من الكفر المستمرّ ، والجحود الدائم يدلّ أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ، ليست لهم نية صحيحة ، ولا قصد خالص . قيل المراد بهؤلاء : اليهود فإنهم آمنوا بموسى ، ثم كفروا بعزير ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : آمنوا بموسى ، ثم كفروا به بعبادتهم العجل ، ثم آمنوا به عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالآية : أنهم ازدادوا كفراً واستمروا على ذلك كما هو الظاهر من حالهم ، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه ، وأقلع عن الكفر ، فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة ، « والإسلام يجبّ ما قبله » ، ولكن لما كان هذا مستبعداً منهم جداً كان غفران ذنوبهم ، وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعداً .
قوله : { بَشّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } إطلاق البشارة على ما هو شرّ خالص لهم تهكم بهم ، وقد مرّ تحقيقه . وقوله : { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء } وصف للمنافقين ، أو منصوب على الذمّ ، أي : يجعلون الكفار أولياء لهم يوالونهم على كفرهم ، ويمالئونهم على ضلالهم . وقوله : { مِن دُونِ المؤمنين } في محل نصب على الحال ، أي : يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والجملة معترضة . قوله : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } هذه الجملة تعليل لما تقدّم من توبيخهم بابتغاء العزّة عند الكافرين ، وجميع أنواع العزّة ، وأفرادها مختص بالله سبحانه ، وما كان منها مع غيره ، فهو من فيض ، وتفضله كما في قوله : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] والعزة : الغلبة . يقال عزّه يعزّه عزّا : إذا غلبه : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الكتاب } الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق؛ لأن من أظهر الإيمان ، فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله؛ وقيل إنه خطاب للمنافقين فقط كما يفيده التشديد والتوبيخ . وقرأ عاصم ، ويعقوب : { نزل } بفتح النون والزاي وتشديدها ، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله : { فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } . وقرأ حميد بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون ، وقرأ الباقون بضم النون مع كسر الزاي مشدّدة على البناء للمجهول .
وقوله : { أن إذا سمعتم آيات الله } في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول { نزل } .

وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل ، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله على القراءة الثالثة . و { أن } هي المخففة من الثقيلة ، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله . والكتاب : هو القرآن . وقوله : { يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا } حالان ، أي : إذا سمعتم الكفر ، والاستهزاء بآيات الله ، فأوقع السماع على الآيات . والمراد : سماع الكفر والاستهزاء . وقوله : { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي : أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع للكفر ، والاستهزاء بآيات الله لا تقعدوا معهم ما داموا كذلك حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها . والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ فِى ءاياتنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود ، حال سخريتهم بالقرآن ، واستهزائهم به ، فنهوا عن ذلك .
وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص ، والاستهزاء للأدلة الشرعية ، كما يقع كثيراً من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا ، وقال فلان من أتباعه بكذا ، وإذا سمعوا من يستدلّ على تلك المسألة بآية قرآنية ، أو بحديث نبوي سخروا منه ، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأساً ، ولا بالوا به بالة ، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع ، وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه العايل ، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل ، مقدّماً على الله ، وعلى كتابه ، وعلى رسوله ، فإنا لله ، وإنا إليه راجعون ، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها ، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم ، فإنهم قد صرّحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم ، كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب « القول المفيد في حكم التقليد » وفي مؤلفنا المسمى ب « أدب الطلب ، ومنتهى الأرب » اللهم انفعنا بما علمتنا ، واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار ، يا مجيب السائلين .
قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } تعليل للنهي أي : إنكم إن فعلتم ذلك ، ولم تنتهوا ، فأنتم مثلهم في الكفر . قيل : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل :
وكل قرين بالمقارنِ يقتدي ... وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم إلا ما يروى عن الكلبي فإنه قال : هي منسوخة بقوله تعالى : { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مّن شَىْء }

[ الأنعام : 69 ] وهو مردود ، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ، ويستهزئون بها . قوله : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً } هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ، قيل : وهم القاعدون ، والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجهاً إلى المنافقين .
قوله : { الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } أي : ينتظرون بكم ما يتجدد ، ويحدث لكم من خير أو شرّ ، والموصول في محل نصب على أنه صفة للمنافقين ، أو بدل منهم فقط دون الكافرين ، لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم ، { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } هذه الجملة ، والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم ، أي : إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار { قَالُواْ } لكم { أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } في الاتصاف بظاهر الإسلام ، والتزام أحكامه والمظاهرة والتسويد ، وتكثير العدد { وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ } من الغلب لكم ، والظفر بكم { قَالُواْ } للكافرين { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } أي : ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ، ولكن أبقينا عليكم . وقيل المعنى : إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأوّل أولى ، فإن معنى الاستحواذ : الغلب ، يقال : استحوذ على كذا ، أي : غلب عليه ، ومنه قوله تعالى : { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } [ المجادلة : 19 ] ولا يصح أن يقال : ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون ، ولكن المعنى : ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ، ونتمكن منكم فتركناكم ، وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين : { وَنَمْنَعْكُمْ مّنَ المؤمنين } بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم ، وعجزوا عن الانتصاف منكم؛ والمراد أنهم يميلون مع من له الغلب ، والظفر من الطائفتين ، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة ، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله ، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى ، والميل إلى من معه الحظ من الدنيا في مال أو جاه ، فيلقاه بالتملق ، والتودد ، والخضوع ، والذلة ، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدّة ، والغلظة ، وسوء الخلق ، ويزدري به ، ويكافحه بكل مكروه ، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها .
قوله : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة } بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله ، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق ، وتظهر الضمائر ، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم ، وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقاً { وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } ، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل : النصر والغلب ، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة . قال ابن عطية : قال جميع أهل التأويل : إن المراد بذلك يوم القيامة . قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله يعني قوله : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة } وذلك يسقط فائدته ، إذ يكون تكرار هذا معنى كلامه وقيل المعنى : إن الله لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين يمحو به دولتهم ، ويذهب آثارهم ، ويستبيح بيضتهم ، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح

« وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ، ويسبي بعضهم بعضاً » وقيل إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلاً على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ، ولا تاركين للنهي عن المنكر ، كما قال تعالى : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] قال ابن العربي : وهذا نفيس جداً . وقيل : إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعاً ، فإن وجد ، فبخلاف الشرع . هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية ، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } الآية ، قال : هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ، ثم كفرت ، وآمنت النصارى بالإنجيل ، ثم كفرت . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عنه في الآية قال : هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ، ثم كفروا ، ثم ذكر النصارى ، فقال : { ثُمَّ ءامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } يقول : آمنوا بالإنجيل ، ثم كفروا ، { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } بمحمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ، ثم كفروا مرتين ، ثم ازدادوا كفراً بعد ذلك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } قال : تمادوا على كفرهم حتى ماتوا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن أبي وائل قال : إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب؛ ليضحك بها جلساءه ، فيسخط الله عليهم جميعاً ، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله؟ { فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : أنزل في سورة الأنعام { حتى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [ الأنعام : 68 ] ثم نزل التشديد في سورة النساء { إِنَّكُمْ إِذاً مّثْلُهُمْ } .
وأخرج ابن المنذر ، عن سعيد بن جبير ، أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزءوا بالقرآن في جهنم جميعاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد : { الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } قال : هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مّنَ الله } إن أصاب المسلمين من عدوّهم غنيمة قال المنافقون { أَلَمْ نَكُن } قد كنا { مَّعَكُمْ } فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون { وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ } يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه ، قد كنا نثبطهم عنكم .

وأخرج ابن جرير عن السديّ { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } قال : نغلب عليكم . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، والحاكم وصححه عن عليّ أنه قيل له : أرأيت هذه الآية : { وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } وهم يقاتلوننا ، فيظهرون ويقتلون ، فقال : ادنه ادنه ، ثم قال : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله للكافرين عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : في الآخرة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، عن السديّ { سَبِيلاً } قال : حجة .

إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)

قوله : { إِنَّ المنافقين يخادعون الله } هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم ، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة ، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع ، من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، ومعنى كون الله خادعهم : أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه ، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا ، فعصم به أموالهم ، ودماءهم ، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة ، فجازاهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار . قال في الكشاف : والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه . والكسالى بضم الكاف جمع كسلان ، وقرىء بفتحها . والمراد أنهم يصلون ، وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثواباً ، ولا يخافون عقاباً . والرياء إظهار الجميل ليراه الناس ، لا لاتباع أمر الله ، وقد تقدّم بيانه ، والمراءاة المفاعلة . قوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } معطوف على { يراءون } ، أي : لا يذكرونه سبحانه إلا ذكراً قليلاً أو لا يصلون إلا صلاة قليلة ، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص ، أو لكونه غير مقبول ، أو لكونه قليلاً في نفسه؛ لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء ، إنما يفعلها في المجامع ، ولا يفعلها خالياً كالمخلص .
قوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك } المذبذب المتردد بين أمرين ، والذبذبة الاضطراب ، يقال ذبذبه فتذبذب ، ومنه قول النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
قال ابن جني : المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال ، فهؤلاء المنافقون متردّدون بين المؤمنين ، والمشركين ، لا مخلصين الإيمان ، ولا مصرّحين بالكفر . قال في الكشاف : وحقيقة المذبذب الذي يذبّ عن كلا الجانبين ، أي : يذاد ، ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمى به الرجوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذبّ؛ كأن المعنى : كلما مال إلى جانب ذبّ عنه . انتهى . وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين . وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية ، وفي حرف أبي «متذبذبين» وقرأ الحسن بفتح الميم والذالين ، وانتصاب { مذبذبين } إما على الحال ، أو على الذمّ ، والإشارة بقوله { بين ذلك } إلى الإيمان والكفر . قوله : { لاَ إلى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } أي : لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، ومحل الجملة النصب على الحال ، أو على البدل من مذبذبين ، أو على التفسير له { وَمَن يُضْلِلِ الله } أي : يخذله ، ويسلبه التوفيق { فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي : طريقاً يوصله إلى الحق .
قوله : { سَبِيلاً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين } أي : لا تجعلوهم خاصة لكم ، وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين ، كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين .

{ إِنَّ المنافقين فِى الدرك الاسفل مِنَ النار } قرأ الكوفيون { الدرك } بسكون الراء ، وقرأ غيرهم بتحريكها . قال أبو علي : هما لغتان والجمع أدراك؛ وقيل جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال ، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس . قال النحاس : والتحريك أفصح . والدرك : الطبقة . والنار دركات سبع ، فالمنافق في الدرك الأسفل منها ، وهي الهاوية ، لغلظ كفره وكثرة غوائله ، وأعلى الدركات جهنم ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية . وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا ، أعاذنا الله من عذابها : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } يخلصهم من ذلك الدرك والخطاب لكل من يصلح له ، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم .
{ إِلاَّ الذين تَابُواْ } استثناء من المنافقين ، أي : إلا الذين تابوا عن النفاق { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا من أحوالهم { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } أي : جعلوه خالصاً له غير مشوب بطاعة غيره . والاعتصام بالله : التمسك به والوثوق بوعده ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين تابوا ، واتصفوا بالصفات السابقة . قوله : { مَعَ المؤمنين } قال الفراء : أي : من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلاً . قال القتيبي : حاد عن كلامهم غضباً عليهم ، فقال : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ المؤمنين } ولم يقل هم المؤمنون . انتهى . والظاهر أن معنى « مع » معتبر هنا ، أي : فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة . ثم بين ما أعدّ الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم ، فقال : { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } وحذفت الياء من { يؤت } في الخط ، كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله { يَوْمَ يدع الداع } [ القمر : 9 ] و { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 17 ] و { يَوْمَ يُنَادِ المناد } [ ق : 41 ] ونحوها ، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين .
قوله : { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءامَنْتُمْ } هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرّد المجازاة للعصاة . والمعنى : أيّ منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم ، فإن ذلك لا يزيد في ملكه ، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه : { وَكَانَ الله شاكرا عَلِيماً } أي : يشكر عباده على طاعته ، فيثيبهم عليها ، ويتقبلها منهم . والشكر في اللغة : الظهور ، يقال دابة شكور : إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن الحسن في قوله : { إِنَّ المنافقين يخادعون الله } الآية ، قال : يلقى على كل مؤمن ، ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفىء نور المنافقين ، ومضى المؤمنون بنورهم ، فتلك خديعة الله إياهم . وأخرج ابن جرير عن السديّ نحوه . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد ، وسعيد بن جبير نحوه أيضاً .

ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير ، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال : نزلت في عبد الله بن أبيّ ، وأبي عامر بن النعمان . وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق ، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام ، فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك } قال : هم المنافقون : { لاَ إلى هَؤُلاء } يقول : لا إلى أصحاب محمد { وَلاَ إِلَى هَؤُلاء } اليهود ، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : « إن مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرّة وإلى هذه مرّة فلا تدري أيهما تتبع؟ » وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } قال : إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذراً مبيناً . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن ، فهو حجة . والله سبحانه أعلم .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن مسعود في قوله : { إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار } قال : في توابيت من حديد مقفلة عليهم ، وفي لفظ مبهمة عليهم : أي : مغلقة لا يهتدي لمكان فتحها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة نحوه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، عن ابن مسعود نحوه أيضاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { ما يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } الآية ، قال : إن الله لا يعذّب شاكراً ولا مؤمناً .

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)

نفي الحبّ كناية عن البغض ، وقراءة الجمهور : { إَلاَّ مَن ظَلَمَ } على البناء للمجهول . وقرأ زيد بن أسلم ، وابن أبي إسحاق ، والضحاك ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعطاء بن السائب « إَلاَّ مَن ظَلَمَ » على البناء للمعلوم ، وهو على القراءة الأولى استثناء متصل بتقدير مضاف محذوف ، أي : إلا جهر من ظلم . وقيل : إنه على القراءة الأولى أيضاً منقطع ، أي : لكن من ظلم ، فله أن يقول ظلمني فلان .
واختلف أهل العلم في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم ، فقيل : هو أن يدعو على من ظلمه . وقيل : لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول : فلان ظلمني ، أو هو ظالم أو نحو ذلك . وقيل معناه : إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه ، فهو مباح له ، والآية على هذا في الاكراه ، وكذا قال قطرب ، قال : ويجوز أن يكون على البدل كأنه قال لا يحبّ الله إلا من ظلم ، أي : لا يحبّ الظالم بل يحبّ المظلوم . والظاهر من الآية أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي : هو من السوء في جانب من ظلمه ، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ : « ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته » ، وأما على القراءة الثانية ، فالاستثناء منقطع ، أي : إلا من ظلم في فعل أو قول ، فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له .
وقال قوم : معنى الكلام لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسوء من القول ، لكن من ظلم ، فإنه يجهر بالسوء ظلماً وعدواناً ، وهو ظالم في ذلك ، وهذا شأن كثير من الظلمة ، فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه ، وينالون من عرضه . وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم ، فقال سوءاً ، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ، ويكون استثناء ليس من الأوّل { وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً } هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به ، ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل ، فقال : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوء } تصابون به { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً } عن عباده { قَدِيراً } على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم ، فاقتدوا به سبحانه ، فإنه يعفو مع القدرة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول } قال : لا يحبّ الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً ، فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه ، وإن يصبر فهو خير له .

وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في الآية قال : نزلت في رجل ضاف رجلاً بفلاة من الأرض ، فلم يضفه ، ثم ذكر أنه لم يضفه لم يزد على ذلك . وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } قال : كان الضحاك بن مزاحم يقول هذا على التقديم والتأخير ، يقول الله . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم ، وآمنتم إلا من ظلم ، وكان يقرؤها كذلك ، ثم قال : { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسوء مِنَ القول } أي : على كل حال هكذا قال ، وهو قريب من التحريف لمعنى الآية . وقد أخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من دعا على من ظلمه ، فقد انتصر » وروى نحوه أبو داود عنها من وجه آخر . وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المتسابان ما قالاه ، فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم » .

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)

لما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى؛ لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل ، والكتب المنزلة ، والكفر بذلك كفر بالله ، وينبغي حمل قوله : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ } على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل ، لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعاً ، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله ، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل . ومعنى : { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ } أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم ، وآمنوا بالله ، فكان ذلك تفريقاً بين الله وبين رسله { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } هم اليهود آمنوا بموسى ، وكفروا بعيسى ومحمد ، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى ، وكفروا بمحمد : { وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } أي : يتخذوا بين الإيمان والكفر ديناً متوسطاً بينهما ، فالإشارة بقوله : { ذلك } إلى قوله نؤمن ونكفر { أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون } أي : الكاملون في الكفر . وقوله : { حَقّاً } مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي : حق ذلك حقاً . أو هو صفه لمصدر الكافرين ، أي : كفراً حقاً . قوله : { وَلَمْ يُفَرّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } بأن يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، ودخول { بين } على { أحد } لكونه عاماً في المفرد مذكراً ومؤنثاً ومثناهما وجمعهما . وقد تقدّم تحقيقه ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين آمنوا بالله ورسله ، ولم يفرّقوا بين أحد منهم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في الآية ، قال : { أولئك } أعداء الله اليهود ، والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ، وموسى ، وكفروا بالإنجيل ، وعيسى ، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى ، وكفروا بالقرآن ومحمد ، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام ، وهو دين الله الذي بعث به رسله . وأخرج ابن جرير ، عن السديّ ، وابن جريج نحوه .

يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

قوله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } هم اليهود سألوه صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه ، فينزل عليهم كتاباً مكتوباً فيما يدّعيه يدل على صدقه دفعة واحدة ، كما أتى موسى التوراة تعنتاً منهم ، أبعدهم الله ، فأخبره الله عزّ وجلّ بأنهم قد سألوا موسى سؤالاً أكبر من هذا السؤال ، فقالوا : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } أي : عياناً ، وقد تقدّم معناه في البقرة ، وجهرة نعت لمصدر محذوف ، أي : رؤية جهرة .
وقوله : { فَقَدْ سَأَلُواْ } جواب شرط مقدّر ، أي : إن استكبرت هذا السؤال منهم لك ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك . قوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } هي النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم ، والباء في قوله : { بِظُلْمِهِمْ } للسببية ، أي : بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل لامتناع الرؤية عياناً في هذه الحالة ، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة ، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة . ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة ، فقد غلط غلطاً بيناً ، ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات ، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه ، وهو عبادة العجل . وفي الكلام حذف والتقدير : فأحييناهم فاتخذوا العجل . والبينات : البراهين ، والدلائل ، والمعجزات من اليد ، والعصا ، وفلق البحر وغيرها { فَعَفَوْنَا عَن ذلك } أي : عما كان منهم من التعنت ، وعبادة العجل ، { وآتينا موسى سلطاناً مبيناً } أي : حجة بينة وهي : الآيات التي جاء بها ، وسميت سلطاناً؛ لأن من جهر بها قهر خصمه ، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم ، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بميثاقهم } أي : بسبب ميثاقهم ليعطوه؛ لأنه روى أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى ، فرفع الله عليهم الطور فقبلوها . وقيل : إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم ، وهو العمل بما في التوراة ، وقد تقدّم رفع الجبل في البقرة ، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجداً : { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السبت } فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان ، وقد تقدّم تفسير ذلك ، وقرىء « لا تعتدوا » ، وتعدّوا بفتح العين ، وتشديد الدال { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ ميثاقا غَلِيظاً } مؤكداً ، وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة . وقيل : إنه عهد مؤكداً باليمين ، فسمي غليظاً لذلك .
قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } ما مزيدة للتوكيد ، أو نكرة ، ونقضهم بدل منها ، والباء متعلقة بمحذوف ، والتقدير : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم . وقال الكسائي : هو متعلق بما قبله والمعنى : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } قال : ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده من نقضهم ميثاقهم ، وقتلهم الأنبياء وما بعده .

وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى ، والذين قتلوا الأنبياء ، ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان ، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم بالبهتان . قال المهدوي وغيره : وهذا لا يلزم لأن يجوز أن يخبر عنهم ، والمراد آباؤهم ، وقال الزجاج : المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم؛ لأنه هذه القصة ممتدة إلى قوله : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا } [ النساء : 160 ] ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقيل المعنى : فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم . وقيل المعنى : فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلاً ، والفاء في قوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ } مقحمة .
قوله : { وَكُفْرِهِم بئايات الله } معطوف على ما قبله ، وكذا قوله : { وَقَتْلِهِمُ } ، والمراد بآيات الله كتبهم التي حرّفوها ، والمراد بالأنبياء الذين قتلوهم يحيى ، وزكرياء . وغلف جمع أغلف ، وهو المغطى بالغلاف ، أي : قلوبنا في أغطية ، فلا تفقه ما تقول : وقيل : إن غلف جمع غلاف ، والمعنى : أن قلوبهم أوعية للعلم ، فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم ، وهو كقولهم : { قُلُوبَنَا في أَكِنَّةٍ } [ فصلت : 5 ] وغرضهم بهذا ردّ حجة الرسل . قوله : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } هذه الجملة اعتراضية ، أي : ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفاً بحسب مقصدهم الذي يريدونه ، بل بحسب الطبع من الله عليها . والطبع : الختم ، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة ، وقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم ، فلا يؤمنون إلا إيماناً قليلاً ، أو إلا قليلاً منهم كعبد الله بن سلام ، ومن أسلم معه منهم ، وقوله : { وَبِكُفْرِهِمْ } معطوف على { قولهم } ، وإعادة الجار لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفراً بعد كفر . وقيل : إن المراد بهذا الكفر : كفرهم بالمسيح ، فحذف لدلالة ما بعده عليه . قوله : { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً } هو رميها بيوسف النجار ، وكان من الصالحين . والبهتان : الكذب المفرط الذي يتعجب منه .
قوله : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } معطوف على ما قبله ، وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه ، وافتخروا بقتله ، وذكروه بالرسالة استهزاء؛ لأنهم ينكرونها ، ولا يعترفون بأنه نبيّ ، وما ادّعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته ، وإيضاح حقيقته الانجيل ، وما فيه هو من تحريف النصارى ، أبعدهم الله ، فقد كذبوا وصدق الله القائل في كتابه العزيز : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ } والجملة حالية ، أي : قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه { ولكن شُبّهَ لَهُمْ } أي : ألقى شبهه على غيره . وقيل : لم يكونوا يعرفون شخصه ، وقتلوا الذين قتلوه ، وهم شاكون فيه : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ } أي : في شأن عيسى ، فقال بعضهم : قتلناه ، وقال من عاين رفعه إلى السماء ما قتلناه ، وقيل : إن الاختلاف بينهم ، هو أن النسطورية من النصارى قالوا : صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لا هوته ، وقالت الملكانية : وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولاهوته ، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام طويل لا أصل له ، ولهذا قال الله : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ } أي : في تردّد لا يخرج إلى حيز الصحة ، ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم ، بل هم متردّدون مرتابون في شكهم يعمهون ، وفي جهلهم يتحيرون ، و { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } من زائدة لتوكيد نفي العلم ، والاستثناء منقطع ، أي : لكنهم يتبعون الظن .

وقيل : هو بدل بما قبله . والأوّل أولى . لا يقال إن اتباع الظنّ ينافي الشكّ الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه ، لأن المراد هنا بالشك : التردد كما قدمنا ، والظنّ نوع منه ، وليس المراد به هنا : ترجح أحد الجانبين .
قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي : قتلاً يقيناً على أنه صفة مصدر محذوف ، أو متيقنين على أنه حال ، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى ، وقيل : إنه يعود إلى الظن ، والمعنى : ما قتلوا ظنهم يقيناً كقولك قتلته علماً إذا علمته علماً تاماً . قال أبو عبيدة : ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقيناً لقال وما قتلوه فقط . وقيل المعنى : وما قتلوا الذي شبه لهم . وقيل المعنى : بل رفعه الله إليه يقيناً ، وهو خطأ؛ لأنه لا يعمل لا بعد بل فيما قبلها . وأجاز ابن الأنباري نصب يقيناً بفعل مضمر هو جواب قسم ، ويكون { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } كلاماً مستأنفاً ولا وجه لهذه الأقوال ، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى ، وذكر اليقين هنا لقصد التهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة .
قوله : { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } ردّ عليهم وإثبات لما هو الصحيح ، وقد تقدم ذكر رفعه عليه السلام في آل عمران . قوله : { وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } المراد بأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، والمعنى : وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمنن به قبل موته ، والضمير في به راجع إلى عيسى ، والضمير في موته راجع إلى ما دلّ عليه الكلام ، وهو لفظ أحد المقدّر ، أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب ، وفيه دليل على أنه لا يموت يهودّي ، أو نصرانيّ إلا وقد آمن بالمسيح؛ وقيل : كلا الضميرين لعيسى ، والمعنى : أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابيّ في عصره . وقيل : الضمير الأوّل لله؛ وقيل : إلى محمد ، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير ، وقال به جماعة من السلف ، وهو الظاهر ، والمراد الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان ، كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ } عيسى على أهل الكتاب { شَهِيداً } يشهد على اليهود بالتكذيب له ، وعلى النصارى بالغلوّ فيه حتى قالوا هو ابن الله .

وقد أخرج ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك ، فأنزل الله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزّلَ عَلَيْهِمْ كتابا مّنَ السماء } إلى قوله { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله وإلى فلان أنك رسول الله ، فأنزل الله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، وإنما قالوا جهرة أرنا الله قال : هو مقدم ومؤخر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور } قال : جبل كانوا في أصله فرفعه الله ، فجعله فوقهم كأنه ظلة ، فقال : لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به ، فقالوا نأخذه ، فأمسكه الله عنهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بهتانا عَظِيماً } قال : رموها بالزنا . وأخرج سعيد بن منصور ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه ، وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين ، فخرج عليهم من عين في البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي ، فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً ، فقال له اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ، فقال : اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب فقال أنا ، فقال : أنت ذاك فألقى عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء؛ قال : وجاء الطلب من اليهود ، فأخذوا الشبه ، فقتلوه ، ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء ، فهؤلاء اليعقوبية؛ وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء النسطورية . وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ، وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة ، فقتلوها ، فلم يزل الإِسلام طامساً حتى بعث الله محمداً ، فأنزل الله عليه : { فآمنت طائفة من بني إسرائيل } يعني : الطائفة التي آمنت في زمن عيسى : { وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ } يعني التي كفرت في زمن عيسى

{ فأيدنا الذين ءامَنُواْ } [ الصف : 14 ] في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين . قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فذكره . وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس . وصدق ابن كثير ، فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح . وأخرجه النسائي ، من حديث أبي كريب ، عن أبي معاوية بنحوه . وقد رويت قصته عليه السلام من طرق بألفاظ مختلفة ، وساقها عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن وهب بن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل ، وكذلك ساقها ابن المنذر عنه .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } قال : لم يقتلوا ظنهم يقيناً . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جويبر ، والسدّي مثله أيضاً . وأخرج الفريابي وعبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِن مّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : خروج عيسى ابن مريم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طرق عنه في الآية قال : قبل موت عيسى . وأخرجا عنه أيضاً قال : قبل موت اليهودي . وأخرج ابن جرير عنه قال : إنه سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث سيؤمنون به . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : ليس يهوديّ يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى؛ قيل لابن عباس أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال يتكلم به في الهواء؛ فقيل أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال : يتلجلج بها لسانه . وقد روي نحو هذا عنه من طرق ، وقال به جماعة من التابعين ، وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد : قبل موت عيسى ، كما روي عن ابن عباس قبل هذا ، وقيده كثير منهم بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض . وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما ، أوضحنا ذلك في مؤلف مستقلّ يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح .

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)

الباء في قوله : { فَبِظُلْمٍ } للسببية ، والتنكير والتنوين للتعظيم ، أي : فبسبب ظلم عظيم حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، لا بسبب شيء آخر ، كما زعموا أنها كانت محرّمة على من قبلهم . وقال الزجاج : هذا بدل من قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم } [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] . والطيبات المذكورة هي ما نصه الله سبحانه : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] الآية { وَبِصَدّهِمْ } أنفسهم وغيرهم { عَن سَبِيلِ الله } وهو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتحريفهم ، وقتلهم الأنبياء ، وما صدر منهم من الذنوب المعروفة . وقوله : { كَثِيراً } مفعول للفعل المذكور ، أي : بصدّهم ناساً كثيراً ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : صدّاً كثيراً { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } أي : معاملتهم فيما بينهم بالربا ، وأكلهم له ، وهو محرّم عليهم { وَأَكْلِهِمْ أموال الناس بالباطل } كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه .
قوله : { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ } استدراك من قوله : { وَأَعْتَدْنَا للكافرين مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أو { مّنَ الذين هَادُواْ } وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراماً في الأصل ، وأنت تحلها ، فنزل : { لكن الراسخون } والراسخ : هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ : الثبوت . وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران . والمراد عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ونحوهما . والراسخون مبتدأ ، ويؤمنون خبره ، والمؤمنون معطوف على الراسخون . والمراد بالمؤمنين : إما من آمن من أهل الكتاب ، أو من المهاجرين والأنصار ، أو من الجميع . قوله : { والمقيمين الصلاة } قرأ الحسن ، ومالك بن دينار ، وجماعة : « والمقيمون الصلاة » على العطف على ما قبله ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال : الأوّل قول سيبويه أنه نصب على المدح ، أي : وأعني المقيمين . قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ، ومن ذلك : { والمقيمين الصلاة } وأنشد :
وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم ... إلا نميراً أطاعت أمر غاويها
الطاعنين ولما يطعنوا أحدا ... والقائلون لمن دار نخليها
وأنشد :
لا يبعدنّ قومي الذين هم ... سمّ العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين . وقال الكسائي ، والخليل : هو معطوف على قوله : { بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ } قال الأخفش : وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا : ويؤمنون بالمقيمين . ووجهه محمد بن يزيد المبرد بأن المقيمين هنا هم الملائكة ، فيكون المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك ، وبما أنزل من قبلك ، وبالملائكة ، واختار هذا . وحكى أن النصب على المدح بعيد؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الرّاسخون هو قوله : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } وقيل : إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله : { مِنْهُمْ } وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض .

وحكى عن عائشة أنها سئلت ، عن المقيمين في هذه الآية ، وعن قوله تعالى : { إِنْ هاذان لساحران } [ طه : 63 ] وعن قوله : { والصابئون } [ المائدة : 69 ] في المائدة؟ فقالت : يا ابن أخي الكتاب أخطئوا . أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله ، وسعيد ابن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر . وقال أبان بن عثمان كان الكاتب يملي عليه ، فيكتب فكتب : { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ والمؤمنون } ثم قال ما أكتب؟ فقيل له أكتب : { والمقيمين الصلاة } فمن ثم وقع هذا . أخرجه عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر . قال القشيري : وهذا باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة ، فلا يظن بهم ذلك . ويجاب عن القشيري بأنه قد روى عن عثمان بن عفان أنه لما فرغ من المصحف وأتى به إليه قال : أرى فيه شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنها . أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق . وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير ، ورجح قول الخليل ، والكسائي ابن جرير الطبري ، والقفال ، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال : إن خبر { الرّاسخون } هو قوله : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ } أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا الرّاسخون هو يؤمنون ، وجعلنا قوله : { والمؤتون الزكواة } عطفاً على المؤمنون لا على قول سيبويه أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء ، أو على تقدير مبتدأ محذوف ، أي : هم المؤتون الزكاة . قوله : { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } هم مؤمنو أهل الكتاب ، وصفوا أوّلاً بالرسوخ في العلم ، ثم بالإيمان بكتب الله ، وأنهم يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بالله ، واليوم الآخر . وقيل المراد بهم : المؤمنون من المهاجرين والأنصار ، كما سلف ، وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف ، والإشارة بقوله : { أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } إلى { الرّاسخون } ، وما عطف عليه .
قوله : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } هذا متصل بقوله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب } والمعنى : أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدّمه من الأنبياء ، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل ، والوحي إعلام في خفاء ، يقال : وحى إليه بالكلام وحياً ، وأوحى يوحى إيحاء ، وخصّ نوحاً لكونه أوّل نبيّ شرعت على لسانه الشرائع ، وقيل : غير ذلك ، والكاف في قوله : { كَمَا } نعت مصدر محذوف ، أي : إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح ، أو حال ، أي : أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبهاً بإيحائنا إلى نوح . قوله : { وَأَوْحَيْنَا إلى إبراهيم } معطوف على { أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ } { وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ } وهم أولاد يعقوب كما تقدّم { وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وهارون وسليمان } خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفاً لهم كقوله :

{ وَمَلئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] ، وقدّم عيسى على أيوب ، ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه ، ردّاً على اليهود الذي كفروا به ، وأيضاً فالواو ليست إلا لمطلق الجمع .
قوله : { وَءاتَيْنَا * دَاوُود زَبُوراً } معطوف على أوحينا . والزبور : كتاب داود . قال القرطبي : وهو مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ، ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ . انتهى . قلت : هو مائة وخمسون مزموراً . والمزمور : فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ، ويدعو الله عليهم ويستنصره ، وتارة يأتي بمواعظ ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة ، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئاً من الآلات التي لها نغمات حسنة ، كما هو مصرّح بذلك في كثير من تلك المزمورات . والزبر : الكتابة . والزبور بمعنى المزبور ، أي : المكتوب . كالرسول ، والحلوب ، والركوب . وقرأ حمزة : « زَبُوراً » بضم الزاي ، جمع زبر كفلس وفلوس . والزبر بمعنى المزبور ، والأصل في الكلمة التوثيق يقال بئر مزبورة ، أي : مطوية بالحجارة ، والكتاب سمي زبوراً لقوّة الوثيقة به . قوله : { وَرُسُلاً } منصوب بفعل مضمر يدل عليه { أَوْحَيْنَا } أي : وأرسلنا رسلاً { قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } وقيل : هو منصوب بفعل دلّ عليه { قصصناهم } أي : وقصصنا رسلاً ، ومثله ما أنشده سيبويه :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
أي : وأخشى الذئب . وقرأ أبيّ : « رُسُلُ » بالرفع على تقدير ، ومنهم رسل . ومعنى : { مِن قَبْلُ } أنه قصة عليه من قبل هذه السورة ، أو من قبل هذا اليوم . قيل : إنه لما قصّ الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ، ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ، ولم يذكر موسى ، فنزل : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } وقراءة الجمهور برفع الاسم الشريف على أن الله هو الذي كلم موسى . وقرأ النخعي ، ويحيى ابن وثاب بنصب الاسم الشريف على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و { تَكْلِيماً } مصدر مؤكد . وفائدة التأكيد دفع توهم كون التكليم مجازاً ، كما قال الفراء إن العرب تسمى ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأيّ طريق . وقيل : ما لم يؤكد بالمصدر ، فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام . قال النحاس : وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازاً .
قوله : { رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } بدل من رسلاً الأوّل ، أو منصوب بفعل مقدّر ، أي : وأرسلنا ، أو على الحال بأن يكون رسلاً موطئاً لما بعده ، أو على المدح ، أي : مبشرين لأهل الطاعات ، ومنذرين لأهل المعاصي . قوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } أي : معذرة يعتذرون بها ، كما في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءاياتك }

[ طه : 134 ] وسميت المعذرة حجة مع أنه لم يكن لأحد من العباد على الله حجة تنبيهاً على أن هذه المعذرة مقبولة لديه تفضلاً منه ورحمة . ومعنى قوله : { بَعْدَ الرسل } بعد إرسال الرسل { وَكَانَ الله عَزِيزاً } لا يغالبه مغالب { حَكِيماً } في أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد : { وَبِصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } قال : أنفسهم وغيرهم عن الحق . وأخرج ابن إسحاق [ والبيهقي ] في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { لكن الراسخون فِى العلم مِنْهُمْ } قال : نزلت في عبد الله بن سلام ، وأسيد بن شعبة ، وثعلبة بن شعبة حين فارقوا اليهود وأسلموا . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل عنه أن بعض اليهود قال : يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى ، فأنزل الله : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم ، وابن عساكر ، عن أبي ذرّ قال : قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً » قلت : كم الرسل منهم؟ قال : ثلثمائة وثلاثة عشر جمّ غفير . وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة مرفوعاً إلا أنه قال : « والرسل ثلثمائة وخمسة عشر » وأخرج أبو يعلى ، والحاكم بسند ضعيف ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبيّ ، ثم كان عيسى ، ثم كنت أنا بعده » وأخرج الحاكم ، عن أنس بسند ضعيف نحوه . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ ولا أحد أحبّ إليه المدح من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه؛ ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين » .

لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)

قوله : { لكن الله يَشْهَدُ } الاسم الشريف مبتدأ ، والفعل خبره ، ومع تشديد النون هو منصوب على أنه اسم لكنّ ، والاستدراك من محذوف مقدّر كأنهم قالوا : ما نشهد لك يا محمد بهذا ، أي : الوحي والنبوّة ، فنزل : { لكن الله يَشْهَدُ } . وقوله : { والملئكة يَشْهَدُونَ } جملة معطوفة على الجملة الأولى ، أو جملة حالية ، وكذلك قوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } جملة حالية ، أي : متلبساً بعلمه الذي لا يعلمه غيره ، من كونك أهلاً لما اصطفاك الله له من النبوّة ، وأنزله عليك من القرآن { وكفى بالله شَهِيداً } أي : كفى الله شاهداً ، والباء زائدة ، وشهادة الله سبحانه هي : ما يصنعه من المعجزات الدالة على صحة النبوة ، فإن وجود هذه المعجزات شهادة للنبيّ صلى الله عليه وسلم بصدق ما أخبر به من هذا ، وغيره .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } بكل ما يجب الإيمان به ، أو بهذا الأمر الخاص ، وهو ما في هذا المقام : { وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } وهو دين الإسلام بإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبقولهم ما نجد صفته في كتابنا ، وإنما النبوّة في ولد هارون وداود ، وبقولهم إن شرع موسى لا ينسخ { قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً } عن الحقّ بما فعلوا ، لأنهم مع كفرهم منعوا غيرهم عن الحق { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } بجحدهم { وَظَلَمُواْ } غيرهم بصدهم عن السبيل ، أو ظلموا محمداً بكتمانهم نبوّته ، أو ظلموا أنفسهم بكفرهم ، ويجوز الحمل على جميع هذه المعاني : { لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ } إذا استمروا على كفرهم ، وماتوا كافرين { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } لكونهم اقترفوا ما يوجب لهم ذلك بسوء اختيارهم ، وفرط شقائهم ، وجحدوا الواضح ، وعاندوا البين { خالدين فِيهَا أَبَداً } أي : يدخلهم جهنم خالدين فيها ، وهي حال مقدّرة . وقوله : { أَبَدًا } منصوب على الظرفية ، وهو لدفع احتمال . أن الخلود هنا يراد به : المكث الطويل { وَكَانَ ذلك } أي : تخليدهم في جهنم ، أو ترك المغفرة لهم ، والهداية مع الخلود في جهنم : { عَلَى الله يَسِيراً } لأنه سبحانه لا يصعب عليه شيء { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] { فآمنوا خيراً لكم } اختلف أئمة النحو في انتصاب { خيراً } على ماذا؟ فقال سيبويه ، والخليل بفعل مقدر ، أي : واقصدوا ، أو أتو خيراً لكم ، وقال الفراء : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : فآمنوا إيماناً خيراً لكم ، وذهب أبو عبيدة ، والكسائي إلى أنه خبر لكان مقدّرة ، أي : فآمنوا يكن الإيمان خيراً لكم ، وأقوى هذه الأقوال الثالث ، ثم الأوّل ، ثم الثاني على ضعف فيه : { وَإِن تَكْفُرُواْ } أي : وإن تستمروا على كفركم : { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض } من مخلوقاته ، وأنتم من جملتهم ، ومن كان خالقاً لكم ولها فهو قادر على مجازاتكم بقبيح أفعالكم ، ففي هذه الجملة ، وعيد لهم مع إيضاح وجه البرهان ، وإماطة الستر عن الدليل بما يوجب عليهم القبول والإذعان .

لأنهم يعترفون بأن الله خالقهم { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] قوله : { يأَهْلَ الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ } الغلو : هو التجاوز في الحدّ ، ومنه غلا السعر يغلو غلاء ، وغلا الرجل في الأمر غلواً ، وغلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها . والمراد بالآية : النهي لهم عن الإفراط تارة والتفريط أخرى ، فمن الإفراط غلوّ النصارى في عيسى حتى جعلوه ربا ، ومن التفريط غلو اليهود فيه عليه السلام حتى جعلوه لغير رشدة ، وما أحسن قول الشاعر :
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمورذميم
{ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } وهو ما وصف به نفسه ووصفته به رسله ، ولا تقولوا الباطل كقول اليهود عزير ابن الله ، وقول النصارى المسيح ابن الله { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله } المسيح مبتدأ ، وعيسى بدل منه ، وابن مريم صفة لعيسى ، ورسول الله الخبر ، ويجوز أن يكون عيسى ابن مريم عطف بيان ، والجملة تعليل للنهي ، وقد تقدّم الكلام على المسيح في آل عمران . قوله : { وَكَلِمَتُهُ } عطف على رسول الله ، و { ألقاها إلى مَرْيَمَ } حال ، أي : كوّنه بقوله كن ، فكان بشرا من غير أب ، وقيل : { كلمته } بشارة الله مريم ورسالته إليها على لسان جبريل بقوله : { إِذْ قَالَتِ الملئكة يامريم مَرْيَمَ إِنَّ الله يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } [ آل عمران : 45 ] وقيل : الكلمة هاهنا بمعنى : الآية ، ومنه : { وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا } [ التحريم : 12 ] ، وقوله : { مَّا نَفِدَتْ كلمات الله } [ لقمان : 27 ] . قوله : { وَرُوحٌ مّنْهُ } أي : أرسل جبريل فنفخ في درع مريم فحملت بإذن الله ، وهذه الإضافة للتفضيل ، وإن كان جميع الأرواح من خلقه تعالى . وقيل قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحاً ويضاف إلى الله ، فيقال هذا روح من الله ، أي : من خلقه ، كما يقال في النعمة إنها من الله وقيل : { رُوحُ مِنْهُ } أي من خلقه كما قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى * السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] : أي : من خلقه ، وقيل : { رُوحُ مِنْهُ } أي : رحمة منه ، وقيل : { رُوحُ مِنْهُ } أي : برهان منه ، وكان عيسى برهاناً وحجة على قومه . وقوله : { مِنْهُ } متعلق بمحذوف وقع صفة لروح ، أي : كائنة منه وجعلت الروح منه سبحانه ، وإن كانت بنفخ جبريل لكونه تعالى الآمر لجبريل بالنفخ : { فآمنوا بالله ورسله } أي : بأنه سبحانه إله واحد { لم يلد ، ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 2-4 ] ، وبأن رسله صادقون مبلغون عن الله ما أمرهم بتبليغه ، ولا تكذبوهم ، ولا تغلوا فيهم ، فتجعلوا بعضهم آلهة .
قوله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة } ارتفاع ثلاثة على أنه خبر مبتدأ محذوف قال الزجاج : أي : لا تقولوا آلهتنا ثلاثة ، وقال الفراء ، وأبو عبيد : أي : لا تقولوا هم ثلاثة كقوله :

{ سَيَقُولُونَ ثلاثة } [ الكهف : 22 ] وقال أبو علي الفارسي : لا تقولوا هو ثالث ثلاثة ، فحذف المبتدأ والمضاف ، والنصارى مع تفريق مذاهبهم متفقون على التثليث ، ويعنون بالثلاثة : الثلاثة الأقانيم ، فيجعلونه سبحانه جوهراً واحداً ، وله ثلاثة أقانيم ، ويعنون بالأقانيم أقنوم الوجود ، وأقنوم الحياة ، وأقنوم العلم ، وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب والابن وروح القدس ، فيعنون بالأب : الوجود ، وبالروح : الحياة ، وبالابن : المسيح . وقيل : المراد بالآلهة الثلاثة : الله سبحانه وتعالى ، ومريم ، والمسيح . وقد اختبط النصارى في هذا اختباطاً طويلاً .
ووقفنا في الأناجيل الأربعة التي يطل عليها عندهم اسم الإنجيل على اختلاف كثير في عيسى : فتارة يوصف بأنه ابن الإنسان ، وتارة يوصف بأنه ابن الله ، وتارة يوصف بأنه ابن الربّ ، وهذا تناقض ظاهر وتلاعب بالدين . والحق ما أخبرنا الله به في القرآن ، وما خالفه في التوراة ، أو الإنجيل ، أو الزبور ، فهو من تحريف المحرّفين ، وتلاعب المتلاعبين . ومن أعجب ما رأيناه أن الأناجيل الأربعة كل واحد منها منسوب إلى واحد من أصحاب عيسى عليه السلام .
وحاصل ما فيها جميعاً أن كل واحد من هؤلاء الأربعة ذكر سيرة عيسى من عند أن بعثه الله إلى أن رفعه إليه ، وذكر ما جرى له من المعجزات ، والمراجعات لليهود ونحوهم ، فاختلفت ألفاظهم ، واتفقت معانيها ، وقد يزيد بعضهم على بعض بحسب ما يقتضيه الحفظ ، والضبط ، وذكر ما قاله عيسى ، وما قيل له ، وليس فيها من كلام الله سبحانه شيء ، ولا أنزل على عيسى من عنده كتاباً ، بل كان عيسى عليه السلام يحتج عليهم بما في التوراة ، ويذكر أنه لم يأت بما يخالفها ، وهكذا الزبور ، فإنه من أوّله إلى آخره من كلام داود عليه السلام . وكلام الله أصدق ، وكتابه أحق ، وقد أخبرنا أن الانجيل كتابه أنزله على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، وأن الزبور كتابه آتاه داود وأنزله عليه . قوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } أي : انتهوا عن التثليث ، وانتصاب { خيراً } هنا فيه الوجوه الثلاثة التي تقدمت في قوله : { فآمنوا خيراً لكم } . { إِنَّمَا الله إله واحد } لا شريك له ولا صاحبة ولا ولداً : { سبحانه أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي : أسبحه تسبيحاً عن أن يكون له ولد : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } وما جعلتموه له شريكاً ، أو ولداً هو من جملة ذلك ، والمملوك المخلوق لا يكون شريكاً ، ولا ولداً : { وكفى بالله وَكِيلاً } فكل الخلق أمورهم إليه ، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم :

« إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله » ، قالوا ما نعلم ذلك . فأنزل الله : { لكن الله يَشْهَدُ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل ، عن أبي موسى أن النجاشي قال لجعفر : ما يقول صاحبك في ابن مريم؟ قال : يقول فيه قول الله هو روح الله وكلمته ، أخرجه من البتول العذراء لم يقربها بشر ، فتناول عودا من الأرض فرفعه فقال : يا معشر القسيسين والرهبان ما يزيد هؤلاء على ما تقولون في ابن مريم ما يزن هذه . وأخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود بأطول من هذا . وأخرج البخاري عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله » .

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)

أصل يستنكف نكف وباقي الحروف زائدة ، يقال نكفت من الشيء ، واستنكفت منه ، وأنكفته : أي : نزهته عما يستنكف منه . قال الزجاج : استنكف أي : أنف ، مأخوذ من نكفت الدمع : إذا نحيته بأصبعك عن خديك؛ وقيل : هو من النكف ، وهو العيب ، يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي : عيب . ومعنى الأوّل : لن يأنف عن العبودية ، ولن يتنزّه عنها . ومعنى الثاني : لن يعيب العبودية ، ولن ينقطع عنها : { وَلاَ الملئكة المقربون } عطف على المسيح ، أي : ولن يستنكف الملائكة المقرّبون عن أن يكونوا عباداً لله .
وقد استدلّ بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء ، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع ، وادّعى أن الذوق قاض بذلك ، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب ، وشابه شوائب الجمود كان هكذا ، وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من قال لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أو لا جليل ولا حقير ، لم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأناً من المعطوف عليه ، وعلى كل حال ، فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة ، وما أقلّ فائدتها ، وما أبعدها عن أن تكون مركزاً من المراكز الشرعية الدينية ، وجسراً من الجسور : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } أي : يأنف تكبراً ، ويعدّ نفسه كبيراً عن العبادة { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } المستنكف وغيره ، فيجازي كلاً بعمله . وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أوّل الكلام عليه . ولكون الحشر لكلا الطائفتين { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } من غير أن يفوتهم منها شيء : { وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فَيُعَذّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً } بسبب استنكافهم واستكبارهم { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً } يواليهم { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم .
قوله : { يَأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ } بما أنزله عليكم من كتبه وبمن أرسله إليكم من رسله ، وما نصبه لهم من المعجزات . والبرهان : ما يبرهن به على المطلوب : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } وهو القرآن ، وسماه نوراً لأنه يهتدى به من ظلمة الضلال : { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ } أي : بالله ، وقيل : بالنور المذكور : { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ } يرحمهم بها { وَفَضَّلَ } يتفضل به عليهم { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ } أي : إلى امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه أو إليه سبحانه وتعالى باعتبار مصيرهم إلى جزائه ، وتفضله : { صراطا مُّسْتَقِيماً } أي : طريقاً يسلكونه إليه مستقيماً لا عوج فيه ، وهو التمسك بدين الإسلام ، وترك غيره من الأديان ، قال أبو علي الفارسي : الهاء في قوله { إِلَيْهِ } راجعة إلى ما تقدّم من اسم الله؛ وقيل : راجعة إلى القرآن؛ وقيل : إلى الفضل؛ وقيل : إلى الرحمة والفضل لأنهما بمعنى الثواب وانتصاب { صراطاً } على أنه مفعول ثان للفعل المذكور؛ وقيل : على الحال .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح } لن يستكبر . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف ، عن ابن مسعود قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : « { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ } قال : { أجورهم } يدخلهم الجنة ، { ويزيدهم من فضله } الشفاعة فيمن وجبت له النار ، ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا » وقد ساقه ابن كثير في تفسيره ، فقال : وقد روى ابن مردويه ، من طريق بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود ، فذكره ، وقال : هذا إسناد لا يثبت ، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً ، فهو جيد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة { قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ } أي : بينة { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } قال : هذا القرآن . وأخرجا أيضاً عن مجاهد قال : برهان حجة . وأخرجا أيضاً عن ابن جريج في قوله : { واعتصموا بِهِ } قال : القرآن .

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

قد تقدّم الكلام في الكلالة في أوّل هذه السورة ، وسيأتي ذكر المستفتي المقصود بقوله : { يَسْتَفْتُونَكَ } . قوله : { إِن امرؤ هَلَكَ } أي : إن هلك امرؤ هلك ، كما تقدم في قوله : { وَإِنِ امرأة خافت } [ النساء : 128 ] . وقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } إما صفة ل { امرؤ } ، أو حال ، ولا وجه للمنع من كونه حالاً ، والولد يطلق على الذكر والأنثى ، واقتصر على عدم الولد هنا مع أن عدم الوالد معتبر في الكلالة اتكالاً على ظهور ذلك ، قيل : والمراد بالولد هنا : الابن ، وهو أحد معنى المشترك؛ لأن البنت لا تسقط الأخت . وقوله : { وَلَهُ أُخْتٌ } عطف على قوله : { ليس له ولد } . والمراد بالأخت هنا : هي الأخت لأبوين ، أو لأب لا لأم ، فإن فرضها السدس ، كما ذكر سابقاً . وقد ذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن الأخوات لأبوين ، أو لأب عصبة للبنات ، وإن لم يكن معهم أخ . وذهب ابن عباس إلى أن الأخوات لا يعصبن البنات ، وإليه ذهب داود الظاهري ، وطائفة ، وقالوا : إنه لا ميراث للأخت لأبوين ، أو لأب مع البنت ، واحتجوا بظاهر هذه الآية ، فإنه جعل عدم الولد المتناول للذكر والأنثى قيداً في ميراث الأخت ، وهذا استدلال صحيح لو لم يرد في السنة ما يدل على ثبوت ميراث الأخت مع البنت ، وهو ما ثبت في الصحيح أن معاذاً قضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنت وأخت ، فجعل للبنت النصف ، وللأخت النصف . وثبت في الصحيح أيضاً : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت فجعل للبنت النصف ولبنت الابن السدس وللأخت الباقي ، فكانت هذه السنة مقتضية لتفسير الولد بالابن دون البنت .
قوله : { وَهُوَ يَرِثُهَا } أي : المرء يرثها ، أي : يرث الأخت { إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ } ذكر إن كان المراد بإرثه لها : حيازته لجميع ما تركته ، وإن كان المراد : ثبوت ميراثه لها في الجملة أعمّ من أن يكون كلاً ، أو بعضاً صح تفسير الولد بما يتناول الذكر والأنثى ، واقتصر سبحانه في هذه الآية على نفي الولد مع كون الأب يسقط الأخ ، كما يسقطه الولد الذكر ، لأن المراد : بيان حقوق الأخ مع الولد فقط هنا . وأما سقوطه مع الأب ، فقد تبين بالسنة ، كما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : « ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر » والأب أولى من الأخ : { فَإِن كَانَتَا اثنتين } أي : فإن كان من يرث بالأخوّة اثنتين ، والعطف على الشرطية السابقة ، والتأنيث والتثنية ، وكذلك الجمع في قوله : { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً } باعتبار الخبر : { فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } المرء إن لم يكن له ولد ، كما سلف ، وما فوق الاثنتين من الأخوات يكون لهنّ الثلثان بالأولى { وَإِن كَانُواْ } أي : من يرث بالأخوّة { إِخْوَةً رّجَالاً وَنِسَاء } أي : مختلطين ذكوراً وإناثاً { فَلِلذَّكَرِ } منهم { مِثْلُ حَظِ الأنثيين } تعصيباً { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } أي : يبين لكم حكم الكلالة ، وسائر الأحكام كراهة أن تضلوا ، هكذا حكاه القرطبي عن البصريين .

وقال الكسائي : المعنى لئلا تضلوا ، ووافقه الفراء وغيره من الكوفيين { والله بِكُلّ شَيْء } من الأشياء التي هذه الأحكام المذكورة منها { عَلِيمٌ } أي : كثير العلم .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن جابر بن عبد الله قال : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا مريض لا أعقل ، فتوضأ ، ثم صبّ عليّ ، فعقلت ، فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة ، فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض . وأخرجه عنه ابن سعد ، وابن أبي حاتم بلفظ أنزلت فيّ { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة } . وأخرج ابن راهويه ، وابن مردويه ، عن عمر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف تورث الكلالة : فأنزل الله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة } الآية . وأخرج مالك ، ومسلم ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن عمر قال : ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته في الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري ، وقال : « ما تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء » وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والبيهقي ، عن البراء بن عازب قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الكلالة؟ فقال : « تكفيك آية الصيف » وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عمر قال : ثلاث ، وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهنّ عهداً ننتهي إليه : الجدّ ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن البراء ابن عازب قال : آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن سيرين قال : كان عمر ابن الخطاب إذا قرأ { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } قال : اللهمّ من بينت له الكلالة ، فلم تبين لي .
وقد أوضحنا الكلام خلافاً واستدلالاً وترجيحاً في شأن الكلالة في أوائل هذه السورة ، فلا نعيده .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)

هذه الآية التي افتتح الله بها هذه السورة إلى قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } فيها من البلاغة ما تتقاصر عنده القوى البشرية ، مع شمولها لأحكام عدّة : منها الوفاء بالعقود ، ومنها تحليل بهيمة الأنعام ، ومنها استثناء ما سيتلى مما لا يحلّ ، ومنها تحريم الصيد على المحرم ، ومنها إباحة الصيد لمن ليس بمحرم . وقد حكى النقاش : أن أصحاب الفيلسوف الكندي قالوا له : أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن ، فقال : نعم أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال : والله ما أقدر ، ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلاً عاماً ، ثم استثنى بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا .
قوله : { أَوْفُواْ بالعقود } يقال أوفى ووفى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر فقال :
أما ابن طوقٍ فقد أوفى بذمته ... كما وفى بقلاص النجم حاديها
والعقود : العهود ، وأصل العقود : الربوط ، واحدها عقد ، يقال عقدت الحبل والعهد ، فهو يستعمل في الأجسام والمعاني ، وإذا استعمل في المعاني كما هنا أفاد أنه شديد الإحكام ، قويّ التوثيق؛ قيل : المراد بالعقود هي : التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من الأحكام؛ وقيل : هي العقود التي يعقدونها بينهم من عقود المعاملات ، والأولى : شمول الآية للأمرين جميعاً ، ولا وجه لتخصيص بعضها دون بعض . قال الزجاج : المعنى أوفوا بعقد الله عليكم ، وبعقدكم بعضكم على بعض انتهى . والعقد الذي يجب الوفاء به ما وافق كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن خالفهما فهو ردّ لا يجب الوفاء به ولا يحلّ .
قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } الخطاب للذين آمنوا . والبهيمة : اسم لكل ذي أربع ، سميت بذلك لإبهامها من جهة نقص نطقها وفهمها وعقلها ، ومنه باب مبهم : أي مغلق ، وليل بهيم ، وبهمة للشجاع الذي لا يدري من أين يؤتى ، وحلقة مبهمة : لا يدري أين طرفاها . والأنعام : اسم للإبل والبقر والغنم ، سميت بذلك لما في مشيها من اللين . وقيل : بهيمة الأنعام : وحشيها ، كالظباء وبقر الوحش والحمر الوحشية ، وغير ذلك . حكاه ابن جرير الطبري عن قوم ، وحكاه غيره عن السدّي والربيع وقتادة والضحاك . قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج ، وما انضاف إليها من سائر الحيوانات يقال له : أنعام ، مجموعة معها ، وكأن المفترس كالأسد ، وكل ذي ناب خارج عن حدّ الأنعام ، فبهيمة الأنعام : هي الراعي من ذوات الأربع . وقيل : بهيمة الأنعام : ما لم تكن صيداً ، لأن الصيد يسمى وحشاً لا بهيمة . وقيل : بهيمة الأنعام : الأجنة التي تخرج عند الذبح من بطون الأنعام ، فهي تؤكل من دون ذكاة ، وعلى القول الأوّل ، أعني تخصيص الأنعام بالإبل والبقر والغنم ، تكون الإضافة بيانية ، ويلحق بها ما يحلّ مما هو خارج عنها بالقياس ، بل وبالنصوص التي في الكتاب والسنة كقوله تعالى :

{ قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيَ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً } الآية [ الأنعام : 145 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم ، « يحرم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير » ، فإنه يدل بمفهومه على أن ما عداه حلال ، وكذلك سائر النصوص الخاصة بنوع كما في كتب السنة المطهرة .
قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } استثناء من قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } ، أي إلا مدلول ما يتلى عليكم فإنه ليس بحلال ، والمتلوّ : هو ما نصّ الله على تحريمه ، نحو قوله تعالى : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] الآية ، ويلحق به ما صرحت السنة بتحريمه ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون المراد به : إلا ما يتلى عليكم الآن ، ويحتمل أن يكون المراد به : في مستقبل الزمان ، فيدل على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، ويحتمل الأمرين جميعاً .
قوله : { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } ذهب البصريون إلى أن قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } استثناء من بهيمة الأنعام ، وقوله : { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } استثناء آخر منه أيضاً ، فالاستثناءان جميعاً من بهيمة الأنعام ، والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد وأنتم محرمون . وقيل : الاستثناء الأوّل من بهيمة الأنعام ، والاستثناء الثاني هو من الاستثناء الأوّل ، وردّ بأن هذا يستلزم إباحة الصيد في حال الإحرام ، لأنه مستثنى من المحظور فيكون مباحاً ، وأجاز الفراء أن يكون { إِلاَّ مَا يتلى } في موضع رفع على البدل ، ولا يجيزه البصريون إلا في النكرة وما قاربها من الأجناس . قال : وانتصاب { غَيْرَ مُحِلّى الصيد } على الحال من قوله : { أَوْفُواْ بالعقود } وكذا قال الأخفش ، وقال غيرهما : حال من الكاف والميم في { لَكُمْ } والتقدير : أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد ، أي الاصطياد في البرّ وأكل صيده . ومعنى عدم إحلالهم له تقرير حرمته عملاً واعتقاداً وهم حرم ، أي محرمون ، وجملة { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } في محل نصب على الحال من الضمير في { مُحِلّى } ، ومعنى هذا التقييد ظاهر عند من يخص بهيمة الأنعام بالحيوانات الوحشية البرية التي يحلّ أكلها كأنه قال : أحلّ لكم صيد البرّ إلا في حال الإحرام؛ وأما على قول من يجعل الإضافة بيانية فالمعنى : أحلت لكم بهيمة هي الأنعام حال تحريم الصيد عليكم بدخولكم في الإحرام ، لكونكم محتاجين إلى ذلك ، فيكون المراد بهذا التقييد الامتنان عليهم بتحليل ما عدا ما هو محرّم عليهم في تلك الحال والمراد بالحرم من هو محرم بالحجّ أو العمرة أو بهما ، وسمي محرماً؛ لكونه يحرم عليه الصيد والطيب والنساء ، وهكذا وجه تسمية الحرم حرماً ، والإحرام إحراماً .

وقرأ الحسن والنخعي ويحيى بن وثاب " حَرْمَ " بسكون الراء وهي لغة تميمية ، يقولون في رُسُل : رُسْل ، وفي كُتُب : كُتْب ونحو ذلك . قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } من الأحكام المخالفة لما كانت العرب تعتاده ، فهو مالك الكل يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا معقب لحكمه .
قوله : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } الشعائر : جمع شعيرة ، على وزن فعيلة ، قال ابن فارس : ويقال للواحدة شِعَارة وهو أحسن ، ومنه الإشعار للهدي . والمشاعر : المعالم ، واحدها مشعر ، وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات . قيل : المراد بها هنا جميع مناسك الحج وقيل : الصفا والمروة ، والهدي والبدن . والمعنى على هذين القولين : لا تحلوا هذه الأمور بأن يقع منكم الإخلال بشىء منها أو بأن تحولوا بينها وبين من أراد فعلها : ذكر سبحانه النهي عن أن يحلوا شعائر الله عقب ذكره تحريم صيد المحرم . وقيل : المراد بالشعائر هنا : فرائض الله ، ومنه : { ومن يعظم شعائر الله } [ الحج : 32 ] . وقيل هي حرمات الله ، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولا بما يدل عليه السياق .
قوله : { وَلاَ الشهر الحرام } المراد به : الجنس ، فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم وهي أربعة : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرّم ، ورجب ، أي لا تحلوها بالقتال فيها . وقيل : المراد به هنا شهر الحج فقط . قوله : { وَلاَ الهدى } هو ما يهدي إلى بيت الله من ناقة أو بقرة أو شاة ، الواحدة : هدية . نهاهم سبحانه عن أن يحلوا حرمة الهدي بأن يأخذوه على صاحبه أو يحولوا بينه وبين المكان الذي يهدى إليه ، وعطف الهدي على الشعائر مع دخوله تحتها لقصد التنبيه على مزيد خصوصيته والتشديد في شأنه .
قوله : { وَلاَ القلائد } جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو نحوه . وإحلالها : بأن تؤخذ غصباً ، وفي النهي عن إحلال القلائد تأكيد للنهي عن إحلال الهدي . وقيل : المراد بالقلائد : المقلدات بها ، ويكون عطفه على الهدي لزيادة التوصية بالهدي ، والأوّل أولى . وقيل : المراد بالقلائد : ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، فهو على حذف مضاف ، أي ولأصحاب القلائد . قوله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام } أي قاصديه من قولهم أممت كذا أي قصدته . وقرأ الأعمش «ولا آمي البيت الحرام» بالإضافة . والمعنى : لا تمنعوا من قصد البيت الحرام لحجّ أو عمرة أو ليسكن فيه . وقيل : إن سبب نزول هذه الآية أن المشركين كانوا يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنزل : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } إلى آخر الآية فيكون ذلك منسوخاً بقوله : { اقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقوله : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا }

[ التوبة : 28 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحجنّ بعد العام مشرك » وقال قوم : الآية محكمة وهي في المسلمين .
قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّن رَّبّهِمْ ورضوانا } جملة حالية من الضمير المستتر في { آمِينٌ } . قال جمهور المفسرين : معناه : يبتغون الفضل والأرباح في التجارة ، ويبتغون مع ذلك رضوان الله ، وقيل كان منهم من يطلب التجارة ومنهم من يبتغي بالحج رضوان الله ، ويكون هذا الابتغاء للرضوان بحسب اعتقادهم وفي ظنهم عند من جعل الآية في المشركين . وقيل : المراد بالفضل هنا : الثواب ، لا الأرباح في التجارة .
قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } هذا تصريح بما أفاده مفهوم { وَأَنتُمْ حُرُمٌ } أباح لهم الصيد بعد أن حظره عليهم لزوال السبب الذي حرّم لأجله وهو الإحرام . قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ } قال ابن فارس : جرم وأجرم ولا جرم بمعنى قولك : لا بدّ ولا محالة ، وأصلها من جرم ، أي كسب . وقيل : المعنى : لا يحملنكم . قاله الكسائي وثعلب ، وهو يتعدّى إلى مفعولين ، يقال : جرمني كذا على بغضك ، أي حملني عليه ، ومنه قول الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي جملتهم على الغضب . وقال أبو عبيدة والفراء : معنى { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الجور ، والجريمة والجارم ، بمعنى الكاسب ، ومنه قول الشاعر :
جريمة ناهض في رأس نيق ... يرى لعظام ما جمعت صليباً
معناه كاسب قوت . والصليب : الودك ، ومنه قول الآخر :
يا أيها المشتكى عكلا وما جرمت ... إلى القبائل من قتل وإيئاس
أي كسبت ، والمعنى في الآية : لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء عليهم ، أولا يكسبنكم بغضهم اعتداءكم للحق إلى الباطل ، ويقال : جرم يجرم جرماً : إذا قطع . قال عليّ بن عيسى الرماني : وهو الأصل ، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب ، ولا جرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه ، قال الخليل معنى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } [ النحل : 62 ] لقد حقّ أن لهم النار . وقال الكسائي : جرم ، وأجرم لغتان بمعنى واحد : أي اكتسب . وقرأ ابن مسعود : « لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ » بضم الياء ، والمعنى : لا يكسبنكم ولا يعرف البصريون أجرم ، وإنما يقولون جرم لا غير . والشنآن : البغض . وقرىء بفتح النون وإسكانها ، يقال شنيت الرجل أشنوه شناء ومشنأة وشنآناً كل ذلك : إذا أبغضته ، وشنآن هنا مضاف إلى المفعول ، أي بغض قوم منكم لا بغض قوم لكم .
قوله : { أَن صَدُّوكُمْ } بفتح الهمزة مفعول لأجله ، أي لأن صدّوكم . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير بكسر الهمزة على الشرطية ، وهو اختيار أبي عبيد وقرأ الأعمش : « إن يصدوكم » والمعنى على قراءة الشرطية : لا يحملنكم بغضهم إن وقع منهم الصدّ لكم عن المسجد الحرام على الاعتداء عليهم .

قال النحاس : وأما « إن صدّوكم » بكسر إن فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء : منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكان المشركون صدّوا المؤمنين عام الحديبية سنة ست ، فالصد كان قبل الآية وإذا قرىء بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده كما تقول : لا تعط فلاناً شيئاً إن قاتلك ، فهذا لا يكون إلا للمستقبل وإن فتحت كان للماضي ، وما أحسن هذا الكلام . وقد أنكر أبو حاتم وأبو عبيدة « شنآن » بسكون النون ، لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة وخالفهما غيرهما فقال : ليس هذا مصدراً ، ولكنه اسم على وزن كسلان وغضبان .
ولما نهاهم عن الاعتداء أمرهم بالتعاون على البرّ والتقوى ، أي ليقصد بعضكم بعضاً على ذلك ، وهو يشمل كل أمر يصدق عليه أنه من البرّ والتقوى كائناً ما كان قيل إن البرّ والتقوى لفظان لمعنى واحد ، وكرر للتأكيد . وقال ابن عطية : إن البرّ يتناول الواجب والمندوب ، والتقوى تختص بالواجب . وقال الماوردي : إن في البرّ رضا الناس ، وفي التقوى رضا الله ، فمن جمع بينهما فقد تمت سعادته . ثم نهاهم سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان ، فالإثم : كل فعل أو قول يوجب إثم فاعله أو قائله ، والعدوان : التعدّي على الناس بما فيه ظلم ، فلا يبقى نوع من أنواع الموجبات للإثم ، ولا نوع من أنواع الظلم للناس ، الذين من جملتهم النفس إلا وهو داخل تحت هذا النهي ، لصدق هذين النوعين على كل ما يوجد فيه معناهما ، ثم أمر عباده بالتقوى ، وتوعد من خالف ما أمر به فتركه أو خالف ما نهى عنه ففعله ، بقوله : { إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ } .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { أَوْفُواْ بالعقود } قال : ما أحل الله وما حرّم وما فرض ، وما حدّ في القرآن كله لا تغدروا ولا تنكثوا . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : هي عقود الجاهلية الحلف ، وروى عنه ابن جرير أنه قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « وأوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقداً في الإسلام » وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن الحسن في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } قال : الإبل والبقر والغنم . وأخرج ابن جرير عن ابن عمر في قوله : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } قال : ما في بطونها ، قلت : إن خرج ميتاً آكله؟ قال : نعم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي ، في شعب الإيمان ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } قال : الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به ، إلى آخر الآية ، فهذا ما حرّم الله من بهيمة الأنعام .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } قال : كان المشركون يحجون البيت الحرام ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجهم ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فقال الله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } . وفي قوله : { وَلاَ الشهر الحرام } يعني : لا تستحلوا قتالاً فيه { ولا آمِّينَ البيت الحرام } يعني : من توجه قبل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون جميعاً ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً حجّ البيت أو يتعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعد هذه الآية : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] وفي قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً } يعني : أنهم يرضون الله بحجهم { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } يقول : لا يحملنكم { شَنَانُ قَوْمٍ } يقول : عداوة قوم . { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى } قال : البرّ ما أمرت به ، والتقوى ما نهيت عنه . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : شعائر الله : ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرم ، والهدي : ما لم يقلد ، والقلائد : مقلدات الهدي . { ولا آمِّينَ البيت الحرام } يقول : من توجه حاجاً . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله } قال : مناسك الحج .
وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه ، حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتدّ ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين ، من أهل المشرق يريدون العمرة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : نصدّ هؤلاء كما صدّنا أصحابنا ، فأنزل الله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } الآية . وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه عن وابصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « البرّ ما اطمأنّ إليه القلب واطمأنت إليه النفس ، والإثم ما حاك في القلب وتردّد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك » وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ، والبخاري ، في الأدب ، ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي ، عن النواس ابن سمعان قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن البرّ والإثم ، فقال : « البرّ حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس » وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي أمامة ، أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الإثم ، فقال : « ما حاك في نفسك فدعه » قال فما الإيمان؟ قال : « من ساءته سيئته ، وسرّته حسنته ، فهو مؤمن » .

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

هذا شروع في المحرّمات التي أشار إليها سبحانه بقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } . والميتة قد تقدّم ذكرها في البقرة ، وكذلك الدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير الله ، وما هنا من تحريم مطلق الدم مقيد بكونه مسفوحاً كما تقدّم ، حملاً للمطلق على المقيد ، وقد ورد في السنة تخصيص الميتة بقوله صلى الله عليه وسلم : « أحلّ لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان : فالحوت والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال » أخرجه الشافعي ، وأحمد ، وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وفي إسناده مقال ، ويقوّيه حديث : « هو الطهور ماؤه والحلّ ميتته » ، وهو عند أحمد وأهل السنن وغيرهم ، وصححه جماعة منهم ابن خزيمة وابن حبان ، وقد أطلنا الكلام عليه في شرحنا للمنتقى . والإهلال : رفع الصوت لغير الله كأن يقول : بسم اللات والعزى ونحو ذلك ، ولا حاجة بنا هنا إلى تكرير ما قد أسلفناه ، ففيه ما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره .
{ والمنخنقة } هي التي تموت بالخنق : وهو حبس النفس ، سواء كان ذلك بفعلها كأن تدخل رأسها في حبل أو بين عودين ، أو بفعل آدميّ أو غيره . وقد كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، فإذا ماتت أكلوها . { والموقوذة } هي التي تضرب بحجر أو عصا ، حتى تموت من غير تذكية ، يقال : وقَذَهَ يقَذُهَ وَقْذاً فهو وَقِيذٌ ، والوقذ : شدّة الضرب ، وفلان وقيذ ، أي مثخن ضرباً ، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ، فيضربون الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى تموت ثم يأكلونها ، ومنه قول الفرزدق :
شغارةٌ تقِذ الفَصيلَ بِرِجْلها ... فطارةٌ لِقَوادِمِ الأظْفَارِ
قال ابن عبد البر : واختلف العلماء قديماً وحديثاً في الصيد بالبندق والحجر والمعراض ، ويعني بالبندق : قوس البندقة ، وبالمعراض : السهم الذي لا ريش له . أو العصا التي رأسها محدّد ، قال : فمن ذهب إلى أنه وقيذ لم يجزه إلا ما أدرك ذكاته ، على ما روى عن ابن عمر ، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه والثوري والشافعي ، وخالفهم الشاميون في ذلك . قال الأوزاعي في المعراض : كله خرق أو لم يخرق ، فقد كان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأساً . قال ابن عبد البرّ : هكذا ذكر الأوزاعي عن عبد الله بن عمر ، والمعروف عن ابن عمر ما ذكر مالك عن نافع ، قال : والأصل في هذا الباب والذي عليه العمل وفيه الحجة ، حديث عديّ بن حاتم ، وفيه : « ما أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ » ، انتهى .
قلت : والحديث في الصحيحين وغيرهما . عن عديّ قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرمي بالمعراض الصيد ، فأصيب فقال : « إذا رميت بالمعراض فخرق فكله ، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله »

فقد اعتبر صلى الله عليه وسلم الخرق وعدمه ، فالحق : أنه لا يحلّ إلا ما خرق لا ما صدم ، فلا بد التذكية قبل الموت وإلا كان وقيذاً . وأما البنادق المعروفة الآن : وهي بنادق الحديد التي تجعل فيها البارود والرصاص ويرمى بها ، فلم يتكلم عليها أهل العلم لتأخر حدوثها ، فإنها لم تصل إلى الديار اليمنية إلا في المائة العاشرة من الهجرة ، وقد سألني جماعة من أهل العلم عن الصيد بها إذا مات ولم يتمكن الصائد من تذكيته حياً؟ والذي يظهر لي أنه حلال؛ لأنها تخرق وتدخل في الغالب من جانب منه وتخرج من الجانب الآخر ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق : " إذا رميت بالمعراض فخرق فكله " ، فاعتبر الخرق في تحليل الصيد .
قوله : { والمتردية } هي التي تتردى من علو إلى أسفل فتموت ، من غير فرق بين أن تتردّى من جبل ، أو بئر ، أو مدفن ، أو غيرها ، والتردّي مأخوذ من الردى وهو الهلاك ، وسواء تردّت بنفسها أو ردّها غيرها . قوله : { والنطيحة } هي فعيلة بمعنى مفعولة ، وهي التي تنطحها أخرى فتموت من دون تذكية ، وقال قوم أيضاً : فعيلة بمعنى فاعلة ، لأن الدابتين تتناطحان فتموتان ، وقال : نطيحة ولم يقل : نطيح مع أنه قياس فعيل ، لأن لزوم الحذف مختص بما كان من هذا الباب ، صفة لموصوف مذكور ، فإن لم يذكر ثبتت التاء للنقل من الوصفية إلى الإسمية . وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة» .
قوله : { وَمَا أَكَلَ السبع } أي : ما افترسه ذو ناب كالأسد ، والنمر ، والذئب ، والضبع ، ونحوها ، والمراد هنا : ما أكل منه السبع ، لأن ما أكله السبع كله قد فنى ، ومن العرب من يخص اسم السبع بالأسد ، وكانت العرب إذا أكل السبع شاة ، ثم خلصوها منه أكلوها ، وإن ماتت ، ولم يذكوها . وقرأ الحسن وأبو حيوة " السبع " بسكون الباء ، وهي لغة لأهل نجد ومنه قول حسان في عتبة بن أبي لهب :
من يرجع العامَ إلى أهله ... فَما أكِيلُ السّبْع بالرَّاجعِ
وقرأ ابن مسعود «وأكيلة السبع» . وقرأ ابن عباس : «وأكيل السبع» . قوله : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } في محل نصب على الاستثناء المتصل عند الجمهور ، وهو راجع على ما أدركت ذكاته من المذكورات سابقاً ، وفيه حياة ، وقال المدنيون : وهو المشهور من مذهب مالك ، وهو أحد قولي الشافعي أنه : إذا بلغ السبع منها إلى ما لا حياة معه فإنها لا تؤكل . وحكاه في الموطأ عن زيد بن ثابت ، وإليه ذهب إسماعيل القاضي ، فيكون الاستثناء على هذا القول منقطعاً ، أي حرمت عليكم هذه الأشياء ، لكن ما ذكيتم فهو الذي يحلّ ولا يحرم ، والأوّل أولى . والذكاة في كلام العرب : الذبح ، قاله قطرب وغيره . وأصل الذكاة في اللغة : التمام ، أي تمام استكمال القوّة ، والذكاء حدة القلب ، والذكاء سرعة الفطنة ، والذكوة ما تذكى منه النار ، ومنه أذكيت الحرب والنار : أوقدتهما ، وذكاء اسم الشمس ، والمراد هنا : إلا ما أدركتم ذكاته على التمام ، والتذكية في الشرع : عبارة عن إنهار الدم ، وفري الأوداج في المذبوح ، والنحر في المنحور ، والعقر في غير المقدور ، مقروناً بالقصد لله ، وذكر اسمه عليه .

وأما الآلة التي تقع بها الذكاة : فذهب الجمهور إلى أن كل ما أنهر الدم ، وأفرى الأوداج فهو آلة للذكاة ما خلا السن والعظم ، وبهذا جاءت الأحاديث الصحيحة .
قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } قال ابن فارس : النصب : حجر كان ينصب فيعبد ويصبّ عليه دماء الذبائح . والنصائب حجارة تنصب حوالي شفير البئر فتجعل عضائد . وقيل : النصب : جمع واحده نصاب ، كحمار وحمر . وقرأ طلحة بضم النون وسكون الصاد . وروى عن أبي عمرو بفتح النون وسكون الصاد . وقرأ الجحدري بفتح النون والصاد ، جعله اسماً موحداً كالجبل والجمل ، والجمع أنصاب كالأجبال والأجمال ، قال مجاهد : هي حجارة كانت حوالي مكة يذبحون عليها . قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة ، وتنضح بالدم ما أقبل من البيت ، ويشرّحون اللحم ويضعونه على الحجارة ، فلما جاء الإسلام قال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن أحقّ أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فأنزل الله { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } والمعنى : والنية بذلك تعظيم النصب لا أن الذبح عليها غير جائز ، ولهذا قيل : إن « على » بمعنى اللام : أي لأجلها . قاله قطرب ، وهو على هذا داخل فيما أهلّ به لغير الله ، وخصّ بالذكر لتأكيد تحريمه ، ولدفع ما كانوا يظنونه من أن ذلك لتشريف البيت وتعظيمه .
قوله : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } معطوف على ما قبله ، أي وحرّم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والأزلام : قداح الميسر واحدها : زلم ، قال الشاعر :
بات يقاسيها غلام كالزّلم ... ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على لحم وضم ... وقال آخر :
فلئن جذيمة قتلت ساداتها ... فنساؤها يضربن بالأزلام
والأزلام للعرب ثلاثة أنواع : أحدها : مكتوب فيه افعل ، والآخر : مكتوب فيه لا تفعل ، والثالث : مهمل لا شيء عليه ، فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج واحداً منها ، فإن خرج الأوّل فعل ما عزم عليه ، وإن خرج الثاني تركه ، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأوّلين . وإنما قيل لهذا الفعل استقسام؛ لأنهم كانوا يستقسمون به الرزق ، وما يريدون فعله ، كما يقال استسقى : أي استدعى السقي ، فالاستقسام : طلب القسم والنصيب . وجملة قداح الميسر عشرة ، وقد قدّمنا بيانها ، وكانوا يضربون بها في المقامرة ، وقيل : إن الأزلام كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقيل : هي الشطرنج ، وإنما حرّم الله والاستقسام بالأزلام؛ لأنه تعرّض لدعوى علم الغيب ، وضرب من الكهانة .
قوله : { ذلكم فِسْقٌ } إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ، أو إلى جميع المحرمات المذكورة هنا .

والفسق : الخروج عن الحدّ ، وقد تقدّم بيان معناه ، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن الفسق هو أشدّ الكفر ، لا ما وقع عليه اصطلاح قوم من أنه منزلة متوسطة بين الإيمان والكفر . قوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } المراد : اليوم الذي نزلت فيه الآية ، وهو يوم فتح مكة ، لثمان بقين من رمضان ، سنة تسع . وقيل : سنة ثمان؛ وقيل المراد باليوم : الزمان الحاضر وما يتصل به ، ولم يرد يوماً معيناً . و { يئس } فيه لغتان ييس بياءين يأساً ، وأيس يأيس إياساً وإياسة . قاله النضر بن شميل ، أي حصل لهم اليأس من إبطال دينكم ، وأن يردوكم إلى دينهم ، كما كانوا يزعمون { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } أي لا تخافوا منهم أن يغلبوكم أو يبطلوا دينكم { واخشون } فأنا القادر على كل شيء ، إن نصرتكم فلا غالب لكم ، وإن خذلتكم لم يستطع غيري أن ينصركم .
قوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } جعلته كاملاً غير محتاج إلى إكمال لظهوره على الأديان كلها وغلبته لها ، ولكمال أحكامه التي يحتاج المسلمون إليها من الحلال والحرام والمشتبه ، ووفى ما تضمنه الكتاب والسنة من ذلك ، ولا يخفى ما يستفاد من تقديم قوله : { لَكُمْ } . قال الجمهور : المراد بالإكمال هنا : نزول معظم الفرائض والتحليل والتحريم . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير كآية « الربا » وآية « الكلالة » ونحوهما . والمراد باليوم المذكور هنا : هو يوم الجمعة ، وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ، هكذا ثبت في الصحيح من حديث عمر بن الخطاب . وقيل : إنها نزلت في يوم الحجّ الأكبر .
قوله : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } بإكمال الدين المشتمل على الأحكام ، وبفتح مكة وقهر الكفار ، وإياسهم عن الظهور عليكم ، كما وعدتكم بقولي : { وَلأِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 150 ] قوله : { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } أي أخبرتكم برضاي به لكم فإنه سبحانه لم يزل راضياً لأمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالإسلام فلا يكون لاختصاص الرضا بهذا اليوم كثير فائدة ، إن حملناه على ظاهره ، ويحتمل أن يريد رضيت لكم الإسلام الذي أنتم عليه اليوم { ديناً } باقياً إلى انقضاء أيام الدنيا . وديناً منتصب على التمييز ، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً .
قوله : { فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ } هذا متصل بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراض ، أي من دعته الضرورة { فِى مَخْمَصَةٍ } أي مجاعة إلى أكل الميتة وما بعدها من المحرّمات . والخمص : ضمور البطن ، ورجل خميص وخمصان ، وامرأة خميصة وخمصانة ، ومنه أخمص القدم ، ويستعمل كثيراً في الجوع ، قال الأعشى : «
تبيتون في المشتاء ملأى بطونكم وجاراتكم غرثى يبتن خمائصاً » قوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ } الجنف : الميل ، والإثم : الحرام أي حال كون المضطرّ في مخمصة غير مائل لإثم ، وهو بمعنى غير باغ ولا عاد ، وكل مائل فهو متجانف وجنف .

وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب والسلمي : «متجنف» ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } به لا يؤاخذه بما ألجأته إليه الضرورة في الجوع مع عدم ميله بأكل ما حرّم عليه إلى الإثم ، بأن يكون باغياً على غيره ، أو متعدياً لما دعت إليه الضرورة حسبما تقدّم .
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن أبي أمامة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شعائر الإسلام ، فبينما نحن كذلك ، إذ جاءوا بقصعة دم واجتمعوا عليها يأكلونها ، قالوا : هلم يا صدى ، فكل ، قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم ، لما أنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } قال : وما أهلّ للطواغيت به { والمنخنقة } قال : التي تخنق فتموت { والموقوذة } قال : التي تضرب بالخشبة فتموت . { والمتردية } قال : التي تتردى من الجبل فتموت . { والنطيحة } قال : الشاة التي تنطح الشاة { وَمَا أَكَلَ السبع } يقول : ما أخذ السبع ، { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول : ذبحتم من ذلك ، وبه روح فكلوه { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } قال : النصب : أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } قال : هي القداح كانوا يستقسمون بها في الأمور . { ذلكم فِسْقٌ } يعني : من أكل ذلك كله فهو فسق . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الرداة التي تتردّى في البئر . والمتردية التي تتردى من الجبل .
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } قال : حصى بيض كانوا يضربون بها . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في الآية قال : كانوا إذا أرادوا أمراً أو سفراً يعمدون إلى قداح ثلاثة ، يكتبون على واحد منها : أمرني ، وعلى الآخر : نهاني ، ويتركون الثالث مخللاً بينهما ليس عليه شيء ثم يجيلونها ، فإن خرج الذي عليه : أمرني مضوا لأمرهم . وإن خرج الذي عليه : نهاني كفوا ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } قال : يئسوا أن يرجعوا إلى دينهم أبداً . وأخرج البيهقي عنه في الآية قال : يقول يئس أهل مكة أن يرجعوا إلى دينهم عبادة ، الأوثان أبداً { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } في اتباع محمد { واخشون } في عبادة الأوثان وتكذيب محمد ، فلما كان واقفاً بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يديه والمسلمون يدعون الله { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يقول : حلالكم وحرامكم ، فلم ينزل بعد هذا حلال ولا حرام { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى } قال : منتي ، فلم يحج معكم مشرك { وَرَضِيتُ } يقول : اخترت { لَكُمُ الإسلام دِيناً } فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أحداً وثمانين يوماً ، ثم قبضه الله إليه .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال : أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً ، وقد أتمه فلا ينقص أبداً ، وقد رضيه فلا يسخطه أبداً . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن طارق بن شهاب قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال : وأيّ آية؟ قالوا : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } قال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها ، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَمَنِ اضطر } يعني : إلى ما حرّم مما سمي في صدر هذه السورة : { فِى مَخْمَصَةٍ } يعني : في مجاعة { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } يقول : غير متعمد لإثم .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

هذا شروع في بيان ما أحله الله لهم ، بعد بيان ما حرمه الله عليهم ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية . قوله : { مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } أي شيء أحلّ لهم ، و أما الذي أحلّ لهم من المطاعم إجمالاً ومن الصيد ، ومن طعام أهل الكتاب ، ومن نسائهم ، قوله : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } هي ما يستلذه آكله ويستطيبه مما أحله الله لعباده . وقيل : هي الحلال ، وقد سبق الكلام في هذا . وقيل : الطيبات : الذبائح لأنها طابت بالتذكية ، وهو تخصيص للعام بغير مخصص ، والسبب والسياق لا يصلحان لذلك .
قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح } هو معطوف على الطيبات بتقدير مضاف لتصحيح المعنى : أي أحلّ لكم الطيبات وأحلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح ، وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية : «عُلِمتم» بضم العين وكسر اللام أي علمتم من أمر الجوارح والصيد بها . قال القرطبي : وقد ذكر بعض من صنف في أحكام القرآن أن الآية تدل على أن الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح ، وهو يتضمن الكلب ، وسائر جوارح الطير ، وذلك بموجب إباحة سائر وجوه الانتفاع فدلّ على جواز بيع الكلب ، والجوارح ، والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع ، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل من الجوارح ، أي الكواسب من الكلاب وسباع الطير . قال : أجمعت الأمة على أن الكلب إذا لم يكن أسود ، وعلمه مسلم ، ولم يأكل من صيده الذي صاده وأثر فيه بجرح ، أو تنييب ، وصاد به مسلم ، وذكر اسم الله عند إرساله أن صيده صحيح ، يؤكل بلا خلاف ، فإن انخرم شرط من هذه الشروط دخل الخلاف ، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه ، وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد التعليم فهو جارح كاسب ، يقال : جرح فلان واجترح : إذا اكتسب ، ومنه الجارحة لأنه يكتسب بها ، ومنه اجتراح السيئات ، ومنه قوله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] . وقوله : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } [ الجاثية : 21 ] . قوله : { مُكَلّبِينَ } حال ، والمكلب : معلم الكلاب لكيفية الاصطياد ، والأخصّ معلم الكلاب وإن كان معلم سائر الجوارح مثله ، لأن الاصطياد بالكلاب هو الغالب ، ولم يكتف بقوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح } مع أن التكليب هو التعليم ، لقصد التأكيد لما لا بدّ منه من التعليم . وقيل : إن السبع يسمى كلباً فيدخل كل سبع يصادّ به . وقيل : إن هذه الآية خاصة بالكلاب . وقد حكى ابن المنذر عن ابن عمر أنه قال : ما يصاد بالبزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فهو لك حلال ، وإلا فلا تطعمه . قال ابن المنذر : وسئل أبو جعفر عن البازي هل يحلّ صيده؟ قال لا ، إلا أن تدرك ذكاته .

وقال الضحاك والسدّي : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ } هي الكلاب خاصة ، فإن كان الكلب الأسود بهيماً فكره صيده الحسن وقتادة والنخعي . وقال أحمد : ما أعرف أحداً يرخص فيه إذا كان بهيماً ، وبه قال ابن راهويه . فأما عامة أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم ، واحتج من منع من صيد الكلب الأسود بقوله صلى الله عليه وسلم : « الكلب الأسود شيطان » أخرجه مسلم وغيره والحق أنه يحلّ صيد كل ما يدخل تحت عموم الجوارح ، من غير فرق بين الكلب وغيره ، وبين الأسود من الكلاب وغيره ، وبين الطير وغيره ، ويؤيد هذا أن سبب نزول الآية سؤال عديّ بن حاتم عن صيد البازي كما سيأتي .
قوله : { تُعَلّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } الجملة في محل نصب على الحال أي مما علمكم الله ، مما أدركتموه بما خلقه فيكم من العقل الذي تهتدون به إلى تعليمها ، وتدريبها ، حتى تصير قابلة لإمساك الصيد عند إرسالكم لها . قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } الفاء للتفريع ، والجملة متفرّعة على ما تقدّم من تحليل صيد ما علموه من الجوارح ، « ومن » في قوله : { مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } للتبعيض ، لأن بعض الصيد لا يؤكل كالجلد ، والعظم ، وما أكله الكلب ونحوه ، وفيه دليل على أنه لا بد أن يمسكه على صاحبه ، فإن أكل منه فإنما أمسكه على نفسه كما في الحديث الثابت في الصحيح .
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يحلّ أكل الصيد الذي يقصده الجارح من تلقاء نفسه من غير إرسال . وقال عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وهو مرويّ عن سلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة وعبد الله بن عمر ، وروي عن عليّ ، وابن عباس والحسن البصري ، والزهري وربيعة ، ومالك ، والشافعي في القديم ، أنه يؤكل صيده ، ويردّ عليهم قوله تعالى : { مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } ، وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : « إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك » وهو في الصحيحين وغيرهما ، وفي لفظ لهما : « فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه » وأما ما أخرجه أبو داود ، بإسناد جيد ، من حديث أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه » وقد أخرجه أيضاً بإسناد جيد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ، وأخرجه أيضاً النسائي ، فقد جمع بعض الشافعية بين هذه الأحاديث بأنه إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عديّ بن حاتم ، وإن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه الانتظار ، وجاع فأكل من الصيد لجوعه ، لا لكونه أمسكه على نفسه ، فإنه لا يؤثر ذلك ، ولا يحرم به الصيد ، وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني ، وحديث عمرو بن شعيب ، وهذا جمع حسن .

وقال آخرون : إنه إذا أكل الكلب منه حرم لحديث عديّ ، وإن أكل غيره لم يحرم للحديثين الآخرين؛ وقيل : يحمل حديث أبي ثعلبة على ما إذا أمسكه وخلاه ، ثم عاد فأكل منه ، وقد سلك كثير من أهل العلم طريق الترجيح ، ولم يسلكوا طريق الجمع لما فيها من البعد ، قالوا : وحديث عديّ بن حاتم أرجح لكونه في الصحيحين . وقد قررت هذا المسلك في شرحي للمنتقى بما يزيد الناظر فيه بصيرة .
قوله : { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } الضمير في { عَلَيْهِ } يعود إلى { مَا عَلِمْتُمُ } أي سموا عليه عند إرساله ، أو لما أمسكن عليكم ، أي سموا عليه إذا أردتم ذكاته . وقد ذهب الجمهور إلى وجوب التسمية عند إرسال الجارح ، واستدلوا بهذه الآية . ويؤيده حديث عدي بن حاتم الثابت في الصحيحين ، وغيرهما بلفظ : « إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله » وقال بعض أهل العلم : إن المراد التسمية عند الأكل . قال القرطبي : وهو الأظهر ، واستدلوا بالأحاديث التي فيها الإرشاد إلى التسمية وهذا خطأ ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد وقت التسمية بإرسال الكلب وإرسال السهم ، ومشروعية التسمية عند الأكل حكم آخر . ومسألة غير هذه المسألة ، فلا وجه لحمل ما ورد في الكتاب والسنة هنا على ما ورد في التسمية عند الأكل ، ولا ملجىء إلى ذلك ، وفي لفظ في الصحيحين من حديث عديّ : « إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فكل » وقد ذهب جماعة إلى أن التسمية شرط ، وذهب آخرون إلى أنها سنة فقط ، وذهب جماعة إلى أنها شرط على الذاكر لا الناسي ، وهذا أقوى الأقوال وأرجحها . قوله : { واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي حسابه سبحانه ، سريع إتيانه ، وكل آت قريب .
قوله : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } هذه الجملة مؤكدة للجملة الأولى ، وهي قوله : { أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } وقد تقدّم بيان الطيبات . قوله : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } الطعام اسم لما يؤكل ، ومنه الذبائح ، وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح . وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتب من غير فرق بين اللحم وغيره حلال للمسلمين وإن كانوا لا يذكرون على ذبائحهم اسم الله ، وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] . وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال ، وإن ذكر اليهوديّ على ذبيحته اسم عزير ، وذكر النصرانيّ على ذبيحته اسم المسيح . وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت ، وابن عباس والزهري وربيعة ، والشعبي ومكحول .

وقال عليّ وعائشة وابن عمر : إذا سمعت الكتابيّ يسمى غير الله فلا تأكل ، وهو قول طاوس والحسن ، وتمسكوا بقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ويدل عليه أيضاً قوله : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ النحل : 115 ] وقال مالك : إنه يكره ولا يحرم . فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله ، وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية ، ولما ورد في السنة من أكله صلى الله عليه وسلم من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح ، وكذا الجراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر ، وعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو في الصحيح ، أيضاً وغير ذلك .
والمراد بأهل الكتاب هنا اليهود والنصارى . وأما المجوس ، فذهب الجمهور إلى أنها لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب على المشهور عند أهل العلم ، وخالف في ذلك أبو ثور ، وأنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال أحمد بن حنبل : أبو ثور كاسمه ، يعني في هذه المسألة ، وكأنه تمسك بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً أنه قال في المجوس : « سنوا بهم سنة أهل الكتاب » ، ولم يثبت بهذا اللفظ ، وعلى فرض أن له أصلاً ففيه زيادة تدفع ما قاله ، وهي قوله : « غير آكلي ذبائحهم ، ولا ناكحي نسائهم » وقد رواه بهذه الزيادة جماعة ممن لا خبرة له بفنّ الحديث من المفسرين والفقهاء ، ولم يثبت الأصل ولا الزيادة ، بل الذي ثبت في الصحيح أن النبي أخذ الجزية من مجوس هجر ، وأما بنو تغلب فكان عليّ بن أبي طالب ينهى عن ذبائحهم لأنهم عرب ، وكان يقول : إنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر ، وهكذا سائر العرب المتنصرة كتنوخ وجذام ، ولخم ، وعاملة ، ومن أشبههم . قال ابن كثير : وهو قول غير واحد من السلف والخلف . وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري إنهما كانا لا يريان بأساً بذبيحة نصارى بني تغلب . وقال القرطبي : وقال جمهور الأمة إن ذبيحة كل نصراني حلال ، سواء كان من بني تغلب ، أو من غيرهم ، وكذلك اليهودي . قال : ولا خلاف بين العلماء أن ما لا يحتاج إلى ذكاة كالطعام يجوز أكله .
قوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي وطعام المسلمين حلال لأهل الكتاب ، وفيه دليل على أنه يجوز للمسلمين أن يطعموا أهل الكتاب من ذبائحهم ، وهذا من باب المكافأة والمجازاة وإخبار المسلمين بأن ما يأخذونه منهم من أعراض الطعام حلال لهم ، بطريق الدلالة الالتزامية .
قوله : { والمحصنات مِنَ المؤمنات } اختلف في تفسير المحصنات هنا ، فقيل : العفائف ، وقيل : الحرائر . وقرأ الشعبي بكسر الصاد ، وبه قرأ الكسائي . وقد تقدّم الكلام في هذا مستوفي في البقرة والنساء .

والمحصنات مبتدأ ، ومن المؤمنات وصف له ، والخبر محذوف ، أي حلّ لكم ، وذكرهنّ هنا توطئة وتمهيداً لقوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } والمراد بهنّ : الحرائر دون الإماء ، هكذا قال الجمهور ، وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف أن هذه الآية تعمّ كل كتابية حرةّ أو أمة . وقيل : المراد بأهل الكتاب هنا الإسرائيليات ، وبه قال الشافعي ، وهو تخصيص بغير مخصص . وقال عبد الله بن عمر : لا تحلّ النصرانية ، قال : ولا أعلم شركاً أكبر من أن تقول ربها عيسى ، وقد قال الله { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } الآية [ البقرة : 221 ] ، ويجاب عنه بأن هذه الآية مخصصة للكتابيات من عموم المشركات فيبنى العام على الخاص . وقد استدل من حرّم نكاح الإماء الكتابيات بهذه الآية لأنه حملها على الحرائر ، وبقوله تعالى { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن فتياتكم المؤمنات } [ النساء : 25 ] وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم وخالفهم من قال : إن الآية تعم أو تخصّ العفائف كما تقدّم . والحاصل أنه يدخل تحت هذه الآية الحرّة العفيفة من الكتابيات على جميع الأقوال ، إلا على قول ابن عمر في النصرانية ، ويدخل تحتها الحرّة التي ليست بعفيفة ، والأمة العفيفة ، على قول من يقول إنه يجوز استعمال المشرك في كلا معنييه ، وأما من لم يجوز ذلك فإن حمل المحصنات هنا على الحرائر لم يقل بجواز نكاح الأمة ، عفيفة كانت أو غير عفيفة ، إلا بدليل آخر ، ويقول بجواز نكاح الحرّة عفيفة كانت أو غير عفيفة ، وإن حمل المحصنات هنا على العفائف قال بجواز نكاح الحرة العفيفة ، والأمة العفيفة ، دون غير العفيفة منهما .
قوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنّ } أي مهورهنّ ، وجواب { إذا } محذوف أي فهنّ حلال ، أو هي ظرف لخبر المحصنات المقدر أي حلّ لكم . قوله : { مُّحْصِنِينَ } منصوب على الحال ، أي حال كونكم أعفاء بالنكاح ، وكذا قوله : { غَيْرَ مسافحين } منصوب على الحال من الضمير في محصنين ، أو صفة لمحصنين ، والمعنى : غير مجاهرين بالزنا . قوله : { وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } معطوف على { غَيْرَ مسافحين } أو على { مسافحين } . " وَلاَ " مزيدة للتأكيد ، والخدن يقع على الذكر والأنثى ، أي لم يتخذوا معشوقات ، فقد شرط الله في الرجال العفة ، وعدم المجاهرة بالزنا ، وعدم اتخاذ أخدان ، كما شرط في النساء أن يكنّ محصنات { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان } أي بشرائع الإسلام { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } أي بطل ، { وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين } وقرأ ابن السميفع : «فقد حبط» بفتح الباء ا ه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه والبيهقي في سننه ، عن أبي رافع؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقتل الكلاب في الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، ماذا يحلّ لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ } الآية .

وأخرج ابن جرير عن عكرمة نحوه . وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، أن عدّي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين ، سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فنزلت . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي؛ أن عدّي بن حاتم الطائيّ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله ، فذكر نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مّنَ الجوارح مُكَلّبِينَ } قال : هي الكلاب المعلمة ، والبازي والجوارح يعني الكلاب والفهود والصقور وأشباهها . وأخرج ابن جرير عنه قال : آية المعلم أن يمسك صيده فلا يأكل منه حتى يأتي صاحبه . وأخرج عنه أيضاً قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل ، فإنما أمسك على نفسه . وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه ، وإذا أكل الصقر فلا تأكل لأن الكلب تستطيع أن تضر به والصقر لا تستطيع .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه في قوله : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب } قال : ذبائحهم ، وفي قوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } قال : حلّ لكم { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنّ } يعني مهورهنّ { مُّحْصِنِينَ } يعني تنكحونهنّ بالمهر والبينة { غَيْرَ مسافحين } غير متغالين بالزنا { وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ } يعني يسرّون بالزنا . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة في قوله : { والمحصنات مِنَ المؤمنات والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُم } قال : أحلّ الله لنا محصنتين محصنة مؤمنة ومحصنة من أهل الكتاب ، نساؤنا عليهم حرام ، ونساؤهم لنا حلال . وأخرج ابن جرير عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا » وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن عمر بن الخطاب قال : المسلم يتزوّج النصرانية ولا يتزوج النصرانيّ المسلمة . وأخرج الطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : إنما أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } قال الحرائر . وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال : العفائف .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34