كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

أخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك في قوله : { نَصِيباً } قال : حظاً { مّنَ الكتاب } قال : التوراة .
وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد في قوله : { قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات } قال : يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } حين قالوا { نحن أبناء الله ، وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ } يعني : توفي كل نفس برّ ، أو فاجر { مَّا كَسَبَتْ } ما عملت من خير ، أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } يعني : من أعمالهم .

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)

قوله : { قُلِ اللهم } . قال الخليل ، وسيبويه ، وجميع البصرين : إن أصل اللهم : يا الله ، فلما استعلمت الكلمة دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلوا بدله هذه الميم المشددة ، فجاءوا بحرفين ، وهما الميمان عوضاً من حرفين ، وهما الياء والألف ، والضمة في الهاء هي : ضمة الاسم المنادي المفرد . وذهب الفراء ، والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم : يا ألله أمنا بخير ، فحذف ، وخلط الكلمتان ، والضمة التي في الهاء هي : الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة . قال النحاس : هذا عند البصريين من الخطأ العظيم ، والقول في هذا ما قاله الخليل ، وسيبويه ، قال الكوفين ، وقد يدخل حرف النداء على اللهم ، وأنشدوا في ذلك قول الراجز :
غفرت أو عذبت يا اللهما ... وقول الآخر :
وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولي كُلَّمَا ... سَبَّحتِ أوْ هللتَ يَاللَّهُما
وقول الآخر :
إني إذَا مَا حَدَث ألَمَّا ... أقَولُ يَاللَّهُم ياللهما
قالوا : ولو كان الميم عوضاً من حرف النداء لما اجتمعتا . قال الزجاج : وهذا شاذ لا يعرف قائله . قال النضر بن شميل : من قال : اللهم ، فقد دعا الله بجميع أسمائه . قوله : { مالك الملك } أي : مالك جنس الملك على الإطلاق ، ومالك منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان ، أي : يا مالك الملك ، ولا يجوز عنده أن يكون ، وصفاً لقوله : { اللهم } لأن الميم عنده تمنع الوصفية . وقال محمد بن يزيد المبرد ، وإبراهيم بن السري الزجاج : إنه صفة لاسم الله تعالى ، وكذلك قوله تعالى : { قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والارض } [ الزمر : 46 ] . قال أبو علي الفارسي : وهو مذهب المبرد ، وما قاله سيبويه أصوب ، وأبين ، وذلك لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت ، والأصوات لا توصف نحو غاق ، وما أشبهه . قال الزجاج : والمعنى مالك العباد ، وما ملكوا . وقيل : المعنى مالك الدنيا ، والآخرة ، وقيل : الملك هنا : النبوة ، وقيل : الغلبة ، وقيل : المال والعبيد ، والظاهر : شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص { تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء } أي : من تشاء إيتاءه إياه { وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء } نزعه منه . والمراد بما يؤتيه من الملك ، وينزعه هو نوع من أنواع ذلك الملك العام .
قوله : { وَتُعِزُّ مَن تَشَاء } أي : في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ، يقال عزّ : إذا غلب ، ومنه : { وَعَزَّنِى فِى الخطاب } [ ص : 23 ] . وقوله : { وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } أي : في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما ، يقال ذلّ يذلّ ذلاً : إذا غلب وقهر . وقوله : { بِيَدِكَ الخير } تقديم الخبر للتخصيص ، أي : بيدك الخير لا بيد غيرك ، وذكر الخير دون الشرّ؛ لأن الخير بفضل محض بخلاف الشرّ ، فإنه يكون جزاء لعمل وصل إليه . وقيل : لأن كلّ شرّ من حيث كونه من قضائه سبحانه هو : متضمن للخير ، فأفعاله كلها خير ، وقيل : إنه حذف ، كما حذف في قوله :

{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وأصله بيدك الخير والشرّ ، وقيل : خص الخير؛ لأن المقام مقام دعاء . قوله : { إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليل لما سبق ، وتحقيق له .
قوله : { تُولِجُ اليل فِى النهار وَتُولِجُ النهار فِى اليل } أي : تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر ، وقيل : المعنى تعاقب بينهما ، ويكون زوال أحدهما ، ولوجاً في الآخر . قوله : { وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } قيل : المراد : إخراج الحيوان ، وهو حيّ من النطفة ، وهي ميتة ، وإخراج النطفة ، وهي ميتة من الحيوان ، وهو حيّ ، وقيل المراد : إخراج الطائر ، وهو حي من البيضة ، وهي ميتة ، وإخراج البيضة ، وهي ميتة من الدجاجة ، وهي حية ، وقيل المراد : إخراج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن . قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير تضييق ، ولا تقتير ، كما تقول : فلان يعطي بغير حساب ، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس ، والروم في أمته ، فنزلت الآية . وأخرج الطبراني ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : اسم الله الأعظم { قُلِ اللهم مالك الملك } إلى قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } وأخرج ابن أبي الدنيا ، والطبراني ، عن معاذ «أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ديناً عليه ، فعلمه أن يتلو هذه الآية ، ثم يقول : " رحمن الدنيا ، والآخرة ، ورحيمهما ، تعطي من تشاء منهما ، وتمنع من تشاء ، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك ، اللهم أغنني من الفقر ، واقض عني الدين " وأخرج الطبراني في الصغير من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينا لأداه الله عنك " فذكره ، وإسناده جيد ، وقد تقدم عند تفسير قوله تعالى : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] بعض فضائل هذه الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء } قال : النبوة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود في قوله : { تُولِجُ اليل فِى النهار } الآية ، قال : تأخذ الصيف من الشتاء ، وتأخذ الشتاء من الصيف { وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } تخرج الرجل الحيّ من النطفة الميتة { وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى } تخرج النطفة الميتة من الرجل الحيّ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { تُولِجُ اليل فِى النهار } قال : ما نقص من النهار تجعله في الليل ، وما نقص من الليل تجعله في النهار .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد ، نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن الضحاك ، نحوه أيضاً . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { تُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } قال : تخرج النطفة الميتة من الحي ، ثم تخرج من النطفة بشراً حياً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة { تُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } قال : هي البيضة تخرج من الحيّ ، وهي : ميتة ، ثم يخرج منها الحيّ . وأخرج ابن جرير عنه قال : النخلة من النواة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والسنبلة من الحبة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي مالك مثله . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الحسن قال : المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن . والمؤمن عبد حيّ الفؤاد ، والكافر عبد ميت الفؤاد . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن سلمان الفارسي ، نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عنه مرفوعاً نحوه ، وأخرجه أيضاً عنه ، أو عن ابن مسعود ، مرفوعاً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن سعد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن عبيد الله بن عبد الله : «أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " من هذه؟ " قيل : خالدة بنت الأسود ، قال : " سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت " وكانت امرأة صالحة ، وكان أبوها كافراً . وأخرج ابن سعد ، عن عائشة مثله .

لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)

قوله : { لاَّ يَتَّخِذِ } فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب ، ومثله قوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ . . . } الآية [ آل عمران : 118 ] ، وقوله : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] ، وقوله : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله } الآية ، [ المجادلة : 22 ] وقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَاء } [ المائدة : 51 ] ، وقوله : { ا ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [ الممتحنة : 1 ] وقوله : { مِن دُونِ المؤمنين } في محل الحال ، أي : متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالاً ، أو اشتراكاً ، والإشارة بقوله : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } إلى الاتخاد المدلول عليه بقوله : { لاَّ يَتَّخِذِ } ومعنى قوله : { فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء } أي : من ولايته في شيء من الأشياء ، بل هو منسلخ عنه بكل حال . قوله : { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } على صيغة الخطاب بطريق الالتفات ، أي : إلا أن تخافوا منهم أمراً يجب اتقاؤه ، وهو : استثناء مفرغ من أعم الأحوال . وتقاة مصدر واقع موقع المفعول ، وأصلها وقية على وزن فعلة قلبت الواو تاء ، والياء ألفاً ، وقرأ رجاء ، وقتادة « تقية » . وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم ، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً . وخالف في ذلك قوم من السلف ، فقالوا : لا تقية بعد أن أعز الله الإسلام . قوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } أي : ذاته المقدسة ، وإطلاق ذلك عليه سبحانه جائز في المشاكلة ، كقوله : { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] وفي غيرها . وذهب بعض المتأخرين ، إلى منع ذلك إلا مشاكلة . وقال الزجاج : معناه : ويحذركم الله إياه ، ثم استغنوا عن ذلك بهذا ، وصار المستعمل . قال : وأما قوله : { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } فمعناه : تعلم ما عندي ، وما في حقيقتي ، ولا أعلم ما عندك ، ولا ما في حقيقتك . وقال بعض أهل العلم : معناه : ويحذركم الله عقابه مثل { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] فجعلت النفس في موضع الإضمار ، وفي هذه الآية تهديد شديد ، وتخويف عظيم لعباده أن يتعرضوا لعقابه بموالاة أعدائه .
قوله : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ . . . } الآية : فيه أن كل ما يضمره العبد ، ويخفيه ، أو يظهره ، ويبديه ، فهو معلوم لله سبحانه ، لا يخفى عليه منه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة : { وَيَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } مما هو أعم من الأمور التي يخفونها ، أو يبدونها ، فلا يخفى عليه ما هو أخص من ذلك .
قوله : { يَوْمَ تَجِدُ } منصوب بقوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } وقيل : بمحذوف ، أي : اذكر ، و { مُّحْضَرًا } حال ، وقوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء } معطوف على « ما » الأولى : أي : وتجد ما عملت من سوء محضراً تود لو أن بينها ، وبينه أمداً بعيداً .

فحذف محضراً لدلالة الأول عليه ، وهذا إذا كان { تجد } من وجدان الضالة ، وأما إذا كان من وجد بمعنى علم كان محضراً ، هو المفعول الثاني ، ويجوز أن يكون قوله : { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا } جملة مستأنفة ، ويكون «ما» في : { ما عملت } مبتدأ ، ويودّ : خبره . والأمد : الغاية ، وجمعه آماد : أي : تودّ لو أن بينها ، وبين ما عملت من السوء أمداً بعيداً ، وقيل : إن قوله : { يَوْمَ تَجِدُ } منصوب بقوله : { تَوَدُّ } والضمير في قوله : { وَبَيْنَهُ } لليوم ، وفيه بُعْد ، وكرر قوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } للتأكيد ، وللاستحضار؛ ليكون هذا التهديد العظيم على ذكر منهم ، وفي قوله : { والله رَءوفٌ بالعباد } دليل على أن هذا التحذير الشديد مقترن بالرأفة منه سبحانه بعباده لطفاً بهم . وما أحسن ما يحكى عن بعض العرب أنه قيل له : إنك تموت ، وتبعث ، وترجع إلى ، الله فقال : أتهددونني بمن لم أر الخير قط إلا منه .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو حليف كعب بن الأشرف ، وابن أبي الحقيق ، وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة ابن المنذر ، وعبد الله بن جبير ، وسعد بن خيثمة ، لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود ، واحذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر ، فأنزل الله فيهم : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين } إلى قوله : { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طرق عنه قال : نهى الله المؤمنين أن يلاطفوا الكفار ، ويتخذوهم ، وليجة من دون المؤمنين ، إلا أن يكون الكفار عليهم ظاهرين ، فيظهرون لهم اللطف ، ويخالفونهم في الدين ، وذلك قوله تعالى : { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَىْء } فقد بريء الله منه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } قال : التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به ، وهو معصية لله ، فيتكلم به مخافة الناس ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، فإن ذلك لا يضره ، إنما التقية باللسان .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عنه في الآية قال : التقاة التكلم باللسان ، والقلب مطمئن بالإيمان ، ولا يبسط يده ، فيقتل ، ولا إلى إثم ، فإنه لا عذر له . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في الآية قال : التقية باللسان ، وليس بالعمل . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تقاة } قال إلا أن يكون بينك ، وبينه قرابة ، فتصله لذلك .

وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري ، عن الحسن قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة . وحكى البخاري عن أبي الدرداء أنه قال : إنا نبش في وجوه أقوام ، وقلوبنا تلعنهم ، ويدل على جواز التقية ، قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] . ومن القائلين بجواز التقية باللسان أبو الشعثاء ، والضحاك ، والربيع بن أنس .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { قُلْ إِن تُخْفُواْ } الآية قال : أخبرهم أنه يعلم ما أسروا ، وما أعلنوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله { محضراً } ، يقول : موفراً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في الآية قال : يسر أحدكم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ، يكون ذلك مناه . وأما في الدنيا ، فقد كانت خطيئته يستلذها . وأخرجا أيضاً ، عن السدي : { أَمَدَا بَعِيدًا } قال : مكاناً بعيداً . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج { أمداً } قال : أجلاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَءوفُ بالعباد } قال : من رأفته بهم حذرهم نفسه .

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)

الحب والمحبة : ميل النفس إلى الشيء ، يقال : أحبه ، فهو محبّ ، وحبه يحبه بالكسر ، فهو محبوب . قال الجوهري : وهذا شاذ؛ لأنه لا يأتي في المضاعف يفعل بالكسر . قال ابن الدهان : في حبّ لغتان حبّ وأحبّ ، وأصل حبّ في هذا الباب حبب كطرق ، وقد فسرت المحبة لله سبحانه بإرادة طاعته . قال الأزهري : محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما ، واتباعه أمرهما ، ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران . وقرأ أبو رجاء العطاردي : «فاتبعوني» بفتح الباء . وروي عن أبي عمرو بن العلاء أنه أدغم الراء من يغفر في اللام . قال النحاس : لا يجيز الخليل ، وسيبويه إدغام الراء في اللام ، وأبو عمرو أجلّ من أن يغلط في هذا ، ولعله كان يخفي الحركة ، كما يفعل في أشياء كثيرة .
قوله : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول } حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، أي : في جميع الأوامر ، والنواهي . قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يحتمل أن يكون من تمام مقول القول ، فيكون مضارعاً حذفت فيه إحدى التاءين ، أي : تتولوا ، ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، فيكون ماضياً . وقوله : { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } نفي المحبة كناية عن البغض ، والسخط . ووجه الإظهار في قوله : { فَإِنَّ الله } مع كون المقام مقام إضمار؛ لقصد التعظيم ، أو التعميم .
قوله : { إِنَّ الله اصطفى آدَمَ } الخ لما فرغ سبحانه من بيان أن الدين المرضي هو : الإسلام ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ، هو الرسول الذي لا يصح لأحد أن يحب الله إلا باتباعه ، وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو لمجرد البغي عليه ، والحسد له - شرع في تقرير رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين أنه من أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة . والاصطفاء : الاختيار . قال الزجاج : اختارهم بالنبوة على عالمي زمانهم ، وقيل : إن الكلام على تقدير مضاف ، أي : اصطفى دين آدم الخ ، وقد تقدم الكلام على تفسير العالمين ، وتخصيص آدم بالذكر؛ لأنه أبو البشر ، وكذلك نوح ، فإنه آدم الثاني ، وأما آل إبراهيم ، فلكون النبي صلى الله عليه وسلم منهم مع كثرة الأنبياء منهم . وأما آل عمران فهم وإن كانوا من آل إبراهيم ، فلما كان عيسى عليه السلام منهم كان لتخصيصهم بالذكر وجه . وقيل المراد : بآل إبراهيم : إبراهيم نفسه ، وبآل عمران : عمران نفسه . قوله : { ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } نصب ذرية على البدلية مما قبله قاله الزجاج ، أو على الحالية قاله الأخفش . وقد تقدم تفسير الذرية ، و { بعضها من بعض } في محل نصب على صفة الذرية ، ومعناه : متناسلة متشعبة ، أو متناصرة متعاضدة في الدين .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن من طرق؛ قال : قال أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله يا محمد إنا لنحبّ ربنا ، فأنزل الله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } الآية .

وأخرج الحكيم الترمذي عن يحيى بن كثير نحوه . وأخرج أيضاً ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } أي : إن كان هذا من قولكم في عيسى حباً لله ، وتعظيماً له : { فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي : ما مضى من كفركم { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي الدرداء في قوله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله } قال : على البرّ ، والتقوى ، والتواضع ، وذلة النفس . وأخرجه أيضاً الحكيم الترمذي ، وأبو نعيم ، والديلمي ، وابن عساكر عنه . أخرج ابن عساكر ، مثله عن عائشة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم ، عن عائشة؛ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الشرك أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن يحبّ على شيء من الجور ، ويبغض على شيء من العدل ، وهل الدين إلا الحبّ ، والبغض في الله » قال الله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله } الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وآل إبراهيم وآل عمران } قال : هم المؤمنون من آل إبراهيم ، وآل عمران ، وآل ياسين ، وآل محمد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } قال : في النية ، والعمل ، والإخلاص ، والتوحيد .

إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)

قوله : { إِذْ قَالَتِ } قال أبو عمرو : «إذ» زائدة . وقال محمد بن يزيد : إنه متعلق بمحذوف تقديره اذكر إذ قالت . وقال الزجاج : هو متعلق بقوله : { اصطفى } وقيل : متعلق بقوله : { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وامرأة عمران اسمها - حنة بالحاء المهملة ، والنون - بنت فاقود بن قبيل أم مريم ، فهي جدة عيسى . وعمران هو ابن ماثان جد عيسى ، قوله : { رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } تقديم الجار ، والمجرور ، لكمال العناية ، وهذا النذر كان جائزاً في شريعتهم . ومعنى : { لَكَ } أي : لعبادتك { ومحرراً } منصوب على الحال ، أي : عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة . والمراد هنا : الحرية التي هي ضد العبودية . وقيل : المراد بالمحرر هنا الخالص لله سبحانه الذي لا يشوبه شيء من أمر الدنيا . ورجح هذا بأنه لا خلاف أن عمران ، وامرأته حران . قوله : { فَتَقَبَّلْ مِنّي } التقبل : أخذ الشيء على وجه الرضا ، أي : تقبل مني نذري بما في بطني .
قوله : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا } التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى ، أو لكونه أنثى في علم الله ، أو بتأويل ما في بطنها بالنفس ، أو النسمة ، أو نحو ذلك . قوله : { قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } إنما قالت هذه المقالة؛ لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى ، فكأنها تحسرت ، وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه ، وتقدره ، و { أنثى } حال مؤكدة من الضمير ، أو بدل منه . قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ أبو بكر ، وابن عامر بضم التاء ، فيكون من جملة كلامها ، ويكون متصلاً بما قبله ، وفيه معنى التسليم لله ، والخضوع ، والتنزيه له أن يخفى عليه شيء . وقرأ الجمهور { وضعت } ، فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته ، والتفخيم لشأنه ، والتجليل لها حيث وقع منها التحسر ، والتحزن ، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله ، وابنها آية للعالمين ، وعبرة للمعتبرين ، ويختصها بما لم يختص به أحداً . وقرأ ابن عباس : «بما وضعت» بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها ، أي : إنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب ، وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام ، وتتضافر عندها العقول .
قوله : { وَلَيْسَ الذكر كالانثى } أي : وليس الذكر الذي طلبت ، كالأنثى التي وضعت ، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة ، وأمر هذه الأنثى عظيم ، وشأنها فخيم . وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع ، ورفع شأنه ، وعلوّ منزلته ، واللام في الذكر ، والأنثى للعهد ، هذا على قراءة الجمهور ، وعلى قراءة ابن عباس ، وأما على قراءة أبي بكر ، وابن عامر ، فيكون قوله : { وَلَيْسَ الذكر كالانثى } من جملة كلامها ، ومن تمام تحسرها ، وتحزنها ، أي : ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادماً ، ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك ، وكأنها أعذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت .

قوله : { وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } عطف على { إِنّى وَضَعْتُهَا أنثى } ومقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرّب إلى الله سبحانه ، وأن يكون فعلها مطابقاً لمعنى اسمها ، فإن معنى مريم : خادم الربّ بلغتهم ، فهي ، وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة ، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات . قوله : { وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } عطف على قوله : { إِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } ، والرجيم المطرود ، وأصله المرمى بالحجارة ، طلبت الإعاذة لها ، ولولدها من الشيطان ، وأعوانه . قوله : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } أي : رضي بها في النذر ، وسلك بها مسلك السعداء . وقال قوم : معنى التقبل التكفل ، والتربية ، والقيام بشأنها ، والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق ، والباء زائدة ، والأصل تقبلاً ، وكذلك قوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } وأصله إنباتاً ، فحذف الحرف الزائد ، وقيل : هو مصدر لفعل محذوف ، أي : فنبتت نباتاً حسناً . والمعنى أنه سوّى خلقها من غير زيادة ، ولا نقصان ، قيل : إنها كانت تنبت في اليوم ما ينبت المولود في عام ، وقيل : هو مجاز عن التربية الحسنة العائدة عليها بما يصلحها في جميع أحوالها ، قوله : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي : ضمها إليه . وقال أبو عبيدة ضمن القيام بها . وقرأ الكوفيون : { وَكَفَّلَهَا } بالتشديد ، أي : جعله الله كافلاً لها ، وملتزماً بمصالحها ، وفي معناه ما في مصحف أبيّ ، " وأكفلها " ، وقرأ الباقون بالتخفيف على إسناد الفعل إلى زكريا ، ومعناه ما تقدّم من كونه ضمها إليه ، وضمن القيام بها . وروى عمرو بن موسى ، عن عبد الله بن كثير ، وأبي عبد الله المزني ، " وكفلها " بكسر الفاء . قال الأخفش : لم أسمع كفل . وقرأ مجاهد : «فتقبلها» بإسكان اللام على المسألة ، والطلب ، ونصب " ربَّها " على أنه منادى مضاف . وقرأ أيضاً : «وأنبتها» بإسكان التاء «وكفلها» بتشديد الفاء المكسورة ، وإسكان اللام ، ونصب «زكريا» مع المدّ . وقرأ حفص ، وحمزة ، والكسائي : «زكريا» بغير مد ، ومده الباقون ، وقال الفراء : أهل الحجاز يمدون { زكريا } ، ويقصرونه . قال الأخفش : فيه لغات المد ، والقصر ، و " زكريّ " بتشديد الياء ، وهو ممتنع على جميع التقادير للعجمة ، والتعريف مع ألف التأنيث . قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب } قدّم الظرف للاهتمام به ، وكلمة كل ظرف ، والزمان محذوف ، و " ما " مصدرية ، أو نكرة موصوفة ، والعامل في ذلك قوله : { وَجَدَ } أي : كل زمان دخوله عليها ، وجد عندها رزقاً ، أي : نوعاً من أنواع الرزق . والمحراب في اللغة : أكرم موضع في المجلس قاله القرطبي ، وهو : منصوب على التوسع ، قيل : إن زكريا جعل لها محراباً : لا يرتقي إليه إلا بسلم ، وكان يطلق عليها حتى كبرت ، وكان إذا دخل عليها وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء ، فقال : { يامريم أنى لَكِ هذا } أي : من أين يجيء لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله } فليس ذلك بعجيب ، ولا مستنكر ، وجملة قوله : { إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } تعليلية لما قبلها ، وهو من تمام كلامها ، ومن قال إنه من كلام زكريا ، فتكون الجملة مستأنفة .

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } قال : كانت نذرت أن تجعله في الكنيسة يتعبد فيها ، وكانت ترجو أن يكون ذكراً . وأخرج ابن المنذر عنه قال : نذرت أن تجعله محرراً للعبادة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { مُحَرَّرًا } قال : خادماً للبيعة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : محرراً خالصاً لا يخالطه شيء من أمر الدنيا ،
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد ، فيستهلّ صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم ، وابنها ، » ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : { وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } وللحديث ألفاظ عن أبي هريرة هذا أحدها ، وروى من حديث غيره . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : كفلها زكريا ، فدخل عليها المحراب ، فوجد عندها عنباً في مكتل في غير حينه ، فقال : أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله ، قال : إن الذي يرزقك العنب في غير حينه لقادر أن يرزقني من العاقر الكبير العقيم ولداً { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } [ آل عمران : 38 ] . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : كانت مريم ابنة سيدهم ، وإمامهم ، فتشاحّ عليها أحبارهم ، فاقترعوا فيها بسهامهم أيهم يكفلها ، وكان زكريا زوج أختها ، فكفلها ، وكانت عنده ، وحضنها . وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وناس من الصحابة ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } قال : جعلها معه في محرابه .

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)

قوله : { هُنَالِكَ } ظرف يستعمل للزمان والمكان ، وأصله للمكان ، وقيل : إنه للزمان خاصة ، وهناك للمكان ، وقيل : يجوز استعمال كل واحد منهما مكان الآخر ، واللام للدلالة على البعد ، والكاف للخطاب . والمعنى : أنه دعا في ذلك المكان الذي هو قائم فيه عند مريم ، أو في ذلك الزمان أن يهب الله له ذرية طيبة ، والذي بعثه على ذلك ما رآه من ولادة حنة لمريم ، وقد كانت عاقراً ، فحصل له رجاء الولد ، وإن كان كبيراً ، وامرأته عاقراً ، أو بعثه على ذلك ما رآه من فاكهة الشتاء في الصيف ، والصيف في الشتاء عند مريم؛ لأن من أوجد ذلك في غير وقته يقدر على إيجاد الولد من العاقر ، وعلى هذا يكون هذا الكلام قصة مستأنفة سيقت في غضون قصة مريم لما بينهما من الارتباط . والذرية : النسل ، يكون للواحد ، ويكون للجمع ، ويدل على أنها هنا للواحد . قوله : { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [ مريم : 5 ] ولم يقل أولياء ، وتأنيث طِّيبة لكون لفظ الذرية مؤنثاً .
قوله : { فَنَادَتْهُ الملئكة } قرأ حمزة ، والكسائي : «فناداه» ، وبذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود . وقرأ الباقون : «فنادته الملائكة» ، قيل : المراد هنا جبريل ، والتعبير بلفظ الجمع عن الواحد جائز في العربية ، ومنه : " الذين قَالَ لَهُمُ الناس " [ آل عمران : 173 ] ؛ وقيل : ناداه جميع الملائكة ، وهو الظاهر من إسناد الفعل إلى الجمع والمعنى الحقيقي مقدّم ، فلا يصار إلى المجاز إلا لقرينة . قوله : { وَهُوَ قَائِمٌ } جملة حالية ، و { يُصَلّى فِى المحراب } صفة لقوله : { قَائِمٌ } أو خبر ثان لقوله : { وَهُوَ } . قوله : { إِنَّ الله يُبَشّرُكِ } قريء بفتح أنّ ، والتقدير بأن الله ، وقريء بكسرها على تقدير القول . وقرأ أهل المدينة " يبشرك " بالتشديد . وقرأ حمزة بالتخفيف . وقرأ حميد بن قيس المكي بكسر الشين ، وضم حرف المضارعة . قال الأخفش : هي ثلاث لغات بمعنى واحد ، والقراءة الأولى هي التي وردت كثيراً في القرآن ، ومنه { فَبَشِّرْ عِبَادِ } [ الزمر : 17 ] { فَبَشّرْهُم بِمَغْفِرَةٍ } [ ياس : 11 ] { فبشرناها بإسحاق } [ هود : 71 ] { قَالُواْ بشرناك بالحق } [ الحجر : 55 ] وهي : قراءة الجمهور . والثانية : لغة أهل تهامة ، وبها قرأ أيضاً عبد الله بن مسعود ، والثالثة من أبشر يبشر إبشاراً . ويحيى ممتنع إما لكونه أعجمياً أو لكون فيه وزن الفعل ، كيعمر مع العلمية . قال القرطبي حاكياً عن النقاش : كان اسمه في الكتاب الأول حنا . انتهى . والذي رأيناه في مواضع من الإنجيل أنه يوحنا . قيل : سمي بذلك؛ لأن الله أحياه بالإيمان ، والنبوّة . وقيل : لأن الله أحيا به الناس بالهدى . والمراد هنا : التبشير بولادته ، أي : يبشرك بولادة يحيى .
وقوله : { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } أي : بعيسى عليه السلام ، وسمي كلمة الله؛ لأنه كان بقوله سبحانه " كن " ، وقيل : سمي كلمة الله؛ لأن الناس يهتدون به ، كما يهتدون بكلام الله .

وقال أبو عبيد : معنى : { بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } بكتاب من الله ، قال : والعرب تقول أنشدني كلمته ، أي : قصيدته ، كما روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن الله كلمته ، يعني قصيدته . انتهى . ويحيى أوّل من آمن بعيسى ، وصدّق ، وكان أكبر من عيسى بثلاث سنين ، وقيل : بستة أشهر . والسيد : الذي يسود قومه . قال الزجاج : السيد : الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير . والحصور : أصله من الحصر ، وهو الحبس ، يقال حصرني الشيء ، وأحصرني : إذا حبسني ، ومنه قول الشاعر :
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أنْ تكون تَبَاعَدتْ ... عَلَيْكَ وَلا أن أحْصَرتك شُغولُ
والحصور : الذي لا يأتي النساء ، كأنه يحجم عنهن ، كما يقال رجل حصور ، وحصير : إذا حبس رفده ، ولم يخرجه ، فيحيى عليه السلام كان حصوراً عن إتيان النساء ، أي : محصوراً لا يأتيهنّ ، كغيره من الرجال ، إما لعدم القدرة على ذلك ، أو لكونه يكف عنهنّ منعاً لنفسه عن الشهوة مع القدرة . وقد رجّح الثاني بأن المقام مقام مدح ، وهو لا يكون إلا على أمر مكتسب يقدر فاعله على خلافه ، لا على ما كان من أصل الخلقة ، وفي نفس الجبلة . وقوله : { مّنَ الصالحين } أي : ناشئاً من الصالحين ، لكونه من نسل الأنبياء ، أو كائناً من جملة الصالحين ، كما في قوله : { وَإِنَّهُ فِى الأخرة لَمِنَ الصالحين } [ البقرة : 130 ] . قال الزجاج : الصالح الذي يؤدي لله ما افترض عليه ، وإلى الناس حقوقهم ، قوله : { قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام } ظاهر هذا أن الخطاب منه لله سبحانه ، وإن كان الخطاب الواصل إليه هو بواسطة الملائكة ، وذلك لمزيد التضرّع ، والجدّ في طلب الجواب ، عن سؤاله ، وقيل : إنه أراد بالربّ جبريل ، أي : يا سيدي ، قيل : وفي معنى هذا الاستفهام ، وجهان : أحدهما أنه سأل هل يرزق هذا الولد من امرأته العاقر ، أو من غيرها؟ وقيل : معناه بأيّ سبب استوجب هذا ، وأنا ، وامرأتي على هذه الحال؟ والحاصل أنه استبعد حدوث الولد منهما مع كون العادة قاضية بأنه لا يحدث من مثلهما؛ لأنه كان يوم التبشير كبيراً ، قيل : في تسعين سنة ، وقيل : ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته في ثمان وتسعين سنة ، ولذلك قال : { وََقَدْ بَلَغَنِي الكبر } أي : والحال ذلك ، جعل الكبر ، كالطالب له لكونه طليعة من طلائع الموت ، فأسند الفعل إليه . والعاقر : التي لا تلد ، أي : ذات عقر على النسب ، ولو كان على الفعل لقال عقيرة ، أي : بها عقر يمنعها من الولد ، وإنما وقع منه هذا الاستفهام بعد دعائه بأن يهب الله له ذرية طِّيبة ، ومشاهدته لتلك الآية الكبرى في مريم استعظاماً لقدرة الله سبحانه لا لمحض الاستبعاد ، وقيل : إنه قد مرّ بعد دعائه إلى وقت يشاء ربه أربعون سنة ، وقيل : عشرون سنة ، فكان الاستبعاد من هذه الحيثية .

قوله : { كذلك الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } أي : يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل ، وهو : إيجاد الولد من الشيخ الكبير ، والمرأة العاقر ، والكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف ، والإشارة إلى مصدر يفعل ، أو الكاف في محل رفع على أنها خبر ، أي : على هذا الشأن العجيب شأن الله ، ويكون قوله : { يَفْعَلُ مَا يَشَاء } بياناً له ، أو الكاف في محل نصب على الحال ، أي : يفعل الله الفعل كائناً مثل ذلك .
قوله : { قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } أي : علامة أعرف بها صحة الحبل ، فأتلقى هذه النعمة بالشكر { قال آيتك ألا تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا } أي : علامتك أن تحبس لسانك عن تكليم الناس ثلاثة أيام لا عن غيره من الأذكار ، ووجه جعل الآية هذا؛ لتخلص تلك الأيام لذكر الله سبحانه شكراً على ما أنعم به عليه ، وقيل : بأن ذلك عقوبة من الله سبحانه له بسبب سؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ، حكاه القرطبي عن أكثر المفسرين . والرمز في اللغة : الإيماء بالشفتين ، أو العينين ، أو الحاجبين ، أو اليدين ، وأصله الحركة ، وهو : استثناء منقطع ، لكون الرمز من غير جنس الكلام ، وقيل : هو متصل على معنى أن الكلام ما حصل به الافهام من لفظ ، أو إشارة ، أو كتابة ، وهو بعيد . والصواب الأوّل ، وبه قال الأخفش ، والكسائي . قوله : { وَسَبّحْ } أي : سبحه { بالعشى } وهو : جمع عشية ، وقيل : هو واحد ، وهو : من حين تزول الشمس إلى أن تغيب . وقيل : من العصر إلى ذهاب صدر الليل ، وهو ضعيف جداً { والإبكار } من طلوع الفجر إلى وقت الضحى . وقيل : المراد بالتسبيح : الصلاة .
قوله : { إِذْ قَالَتِ الملئكة يامريم } الظرف متعلق بمحذوف ، كالظرف الأول { إِنَّ الله اصطفاك } اختارك { وَطَهَّرَكِ } من الكفر ، أو من الأدناس على عمومها { واصطفاك على نِسَاء العالمين } قيل : هذا الاصطفاء الآخر غير الاصطفاء الأوّل ، فالأوّل هو : حيث تقبلها بقبول حسن ، والآخر لولادة عيسى . والمراد بالعالمين هنا قيل : نساء عالم زمانها ، وهو الحق ، وقيل : نساء جميع العالم إلى يوم القيامة ، واختاره الزجاج ، وقيل : الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأول ، والمراد بهما جميعاً : واحد .
قوله : { يامريم اقنتى لِرَبّكِ } أي : أطيلي القيام في الصلاة ، أو أديميه؛ وقد تقدّم الكلام على معاني القنوت ، وقدّم السجود على الركوع ، لكونه أفضل ، أو لكون صلاتهم لا ترتيب فيها مع كون الواو لمجرد الجمع بلا ترتيب . وقوله : { واركعى مَعَ الركعين } ظاهره أن ركوعها يكون مع ركوعهم ، فيدل على مشروعية صلاة الجماعة . وقيل : المعنى : أنها تفعل مثل فعلهم ، وإن لم تصلّ معهم .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما سبق من الأمور التي أخبره الله بها . والوحي في اللغة : الإعلام في خفاء ، يقال وحي ، وأوحى بمعنى .

قال ابن فارس : الوحي الإشارة ، والكتابة ، والرسالة ، وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى تعلمه . قوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي : تحضرنهم يعني المتنازعين في تربية مريم ، وإنما نفي حضوره عندهم مع كونه معلوماً؛ لأنهم أنكروا الوحي ، فلو كان ذلك الإنكار صحيحاً لم يبق طريق للعلم به إلا المشاهدة ، والحضور ، وهم لا يدّعون ذلك ، فثبت كونه ، وحياً مع تسليمهم أنه ليس ممن يقرأ التوراة ، ولا ممن يلابس أهلها . والأقلام جمع قلم ، من قلمه : إذا قطعه ، أي : أقلامهم التي يكتبون بها ، وقيل : قداحهم { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } أي : يحضنها ، أي : يلقون أقلامهم؛ ليعلموا أيهم يكفلها ، وذلك عند اختصامهم في كفالتها ، فقال زكريا : هو : أحق بها لكون خالتها عنده ، وهي أشيع أُخت حنة أمّ مريم . وقال بنو إسرائيل : نحن أحق بها لكونها بنت عالمنا ، فاقترعوا ، وجعلوا أقلامهم في الماء الجاري على أن من وقف قلمه ، ولم يجر مع الماء ، فهو صاحبها ، فجرت أقلامهم ، ووقف قلم زكريا ، وقد استدل بهذا من أثبت القرعة ، والخلاف في ذلك معروف ، وقد ثبتت أحاديث صحيحة في اعتبارها .
وقد أخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : لما رأى زكريا ذلك ، يعني فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، عند مريم قال : إن الذي أتى بهذا مريم في غير زمانه قادر أن يرزقني ولداً ، فذلك حين دعا ربه . وأخرج ابن عساكر ، عن الحسن نحوه ، وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي : { ذُرّيَّةً طَيّبَةً } يقول : مباركة .
وأخرج ابن جرير ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد قال : في قراءة ابن مسعود : « فناداه جبريل ، وهو قائم يصلي في المحراب » ، وروى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي أنه قال : { فَنَادَتْهُ الملئكة } أي : جبريل . وأخرج ابن المنذر ، عن السدي قال : المحراب المصلى . وقد أخرج الطبراني ، والبيهقي ، عن ابن عمرو أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « اتقوا هذه المذابح » يعني : المحاريب . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، عن موسى الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى » وقد رويت كراهة ذلك عن جماعة من الصحابة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة؛ قال : إنما سمي يحيى؛ لأن الله أحياه بالإيمان . وأخرجوا ، عن ابن عباس قال : { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } قال : عيسى بن مريم هو : الكلمة . وأخرج ابن جرير ، من طريق ابن جريج ، عنه قال : كان يحيى ، وعيسى ابني الخالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك ، فذلك تصديقه بعيسى سجوده في بطن أمه ، وهو : أوّل من صدق بعيسى .

وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { وَسَيّدًا } قال : حليماً تقياً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد قال : السيد الكريم على الله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن المسيب قال : السيد الفقيه العالم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَسَيّدًا وَحَصُورًا } قال : السيد الحليم ، والحصور الذي لا يأتي النساء . وأخرج أحمد في الزهد ، عن سعيد بن جبير في الحصور مثله . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الحصور الذي لا ينزل الماء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كان ذكره مثل هدبة الثوب » وأخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، من وجه آخر ، عن ابن عمرو موقوفاً ، وهو أقوى . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن شعيب الجبائي قال : اسم أم يحيى أشيع .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : { اجعل لِّى ءايَةً } قال : بالحمل به . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { آيتك ألاّ تُكَلّمَ الناس ثلاثة أَيَّامٍ } قال : إنما عوقب بذلك ، لأن الملائكة شافهته بذلك مشافهة ، فبشرته بيحيى ، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه ، فأخذ عليه بلسانه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ رَمْزًا } قال : الرمز بالشفتين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : الرمز الإشارة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَسَبّحْ بالعشى والإبكار } قال : العشيّ ميل الشمس إلى أن تغيب ، والإبكار أوّل الفجر .
وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث علي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد » وأخرج الحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفضل نساء العالمين خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية امرأة فرعون » وأخرج ابن مردويه ، عن أنس مرفوعاً نحوه . وأخرج نحوه ، أحمد ، والترمذي وصححه ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم ، من حديثه مرفوعاً ، وفي الصحيحين ، وغيرهما من حديث أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على الطعام »

وفي المعنى أحاديث كثيرة ، وكلها تفيد أن مريم عليها السلام سيدة نساء عالمها ، لا نساء جميع العالم . ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر ، عن مقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أربع نسوة سادات نساء عالمهن : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وأفضلهن عالماً فاطمة »
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { يامريم اقنتى لِرَبّكِ } قال : أطيلي الركوع يعني : القيام . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير { اقنتى لِرَبّكِ } قال : أخلصي . وأخرج عن قتادة قال : أطيعي ربك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أقلامهم } قال : إن مريم لما وضعت في المسجد اقترع عليها أهل المصلى ، وهم يكتبون الوحي ، فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها . قال الله لمحمد : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال : ألقوا أقلامهم في الماء ، فذهبت مع الجرية ، وصعد قلم زكريا ، فكفلها زكريا . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد ، وكذلك أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن جريج ، أن الأقلام هي التي يكتبون بها التوراة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن عطاء : أنها القداح .

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

قوله : { إِذْ قَالَتِ } بدل من قوله : «وإذ قالت» المذكور قبله ، وما بينهما اعتراض ، وقيل : بدل من «إذ يختصمون» وقيل : منصوب بفعل مقدر . وقيل : بقوله : { يَخْتَصِمُونَ } وقيل : بقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } .
والمسيح اختلف فيه مماذا أخذ؟ فقيل : من المسح؛ لأنه مسح الأرض ، أي : ذهب فيها ، فلم يستكن بكن ، وقيل : إنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا بريء ، فسمي مسيحاً ، فهو على هذين فعيل بمعنى فاعل ، وقيل : لأنه كان يمسح بالدهن الذي كانت الأنبياء تمسح به ، وقيل : لأنه كان ممسوح الأخمصين ، وقيل : لأن الجمال مسحه ، وقيل : لأنه مسح بالتطهير من الذنوب ، وهو على هذه الأربعة الأقوال : فعيل بمعنى مفعول . وقال أبو الهيتم : المسيح ضد المسيخ بالخاء المعجمة . وقال ابن الأعرابي : المسيح الصديق . وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيخاً بالمعجمتين فعرّب ، كما عرّب موشى بموسى . وأما الدجال ، فسمي مسيحاً؛ لأنه ممسوح إحدى العينين ، وقيل : لأنه يمسح الأرض أي : يطوف بلدانها إلا مكة ، والمدينة وبيت المقدس .
وقوله : { عِيسَى } عطف بيان ، أو بدل ، وهو اسم أعجمي ، وقيل : هو عربي مشتق من عاسه يعوسه إذا ساسه . قال في الكشاف : هو معرّب من أيشوع . انتهى . والذي رأيناه في الإنجيل في مواضع أن اسمه يشوع بدون همزة ، وإنما قيل : ابن مريم مع كون الخطاب معها تنبيهاً على أنه يولد من غير أب ، فنسب إلى أمه . والوجيه ذو الوجاهة : وهي : القوّة والمنعة ، ووجاهته في الدنيا النبوّة ، وفي الآخرة الشفاعة ، وعلوّ الدرجة ، وهو : منتصب على الحال من كلمة ، وإن كانت نكرة ، فهي موصوفة ، وكذلك قوله : { وَمِنَ المقربين } في محل نصب على الحال . قال الأخفش : هو : معطوف على { وجيها } .
والمهد : مضجع الصبيّ في رضاعه ، ومهدت الأمر : هيأته ، ووطأته . والكهل هو : من كان بين سن الشباب ، والشيخوخة ، أي : يكلم الناس حال كونه رضيعاً في المهد ، وحال كونه كهلاً بالوحي ، والرسالة ، قاله الزجاج . وقال الأخفش ، والفراء : إن كهلاً معطوف على وجيهاً . قال الأخفش : { وَمِنَ الصالحين } عطف على وجيهاً ، أي : هو من العباد الصالحين . قوله : { أنى يَكُونُ لِى وَلَدٌ } أي : كيف يكون على طريقة الاستبعاد العادي { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } جملة حالية ، أي : والحال أنه على حالة منافية للحالة المعتادة من كون له أب { قَالَ كذلك الله يَخْلُقُ مَا يَشَاء } هو : من كلام الله سبحانه . وأصل القضاء الأحكام ، وقد تقدّم ، وهو هنا الإرادة ، أي : إذا أراد أمراً من الأمور { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } من غير عمل ولا مزاولة ، وهو تمثيل لكمال قدرته .
قوله : { وَيُعَلّمُهُ الكتاب } قيل هو معطوف على { يُبَشّرُكِ } : أي : إن الله يبشرك وإنّ الله يعلمه ، وقيل : على { يَخْلُقُ } : أي : وكذلك يعلمه الله ، أو كلام مبتدأ سيق تطييباً لقلبها .

والكتاب الكتابة . والحكمة العلم ، وقيل : تهذيب الأخلاق ، وانتصاب رسولاً على تقدير ، ويجعله رسولاً ، أو ويكلمهم رسولاً ، أو وأرسلت رسولاً ، وقيل : هو معطوف على قوله : { وَجِيهاً } فيكون حالاً؛ لأن فيه معنى النطق ، أي : وناطقاً ، قال الأخفش : وإن شئت جعلت الواو في قوله : { ورسولاً } مقحمة ، والرسول حالاً . وقوله { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } معمول لرسول؛ لأن فيه معنى النطق كما مر ، وقيل : أصله بأني قد جئتكم ، فحذف الجار ، وقيل : منصوب بمضمر أي : تقول أني قد جئتكم ، وقيل : معطوف على الأحوال السابقة . وقوله : { بِئَايَةٍ } في محل نصب على الحال ، أي : متلبساً بعلامة كائنة { مّن رَّبّكُمْ } . وقوله : { أَنِى أَخْلُقُ } أي : أصوّر ، وأقدّر { لَكُمْ مّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } وهذه الجملة بدل من الجملة الأولى ، وهي : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } أو بدل من آية ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي : أني ، وقريء بكسر الهمزة على الاستئناف . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، « كهيئة الطير » بالتشديد ، والكاف في قوله : { كَهَيْئَةِ الطير } نعت مصدر محذوف ، أي : أخلق لكم خلقاً ، أو شيئاً مثل هيئة الطير .
وقوله : { فَأَنفُخُ فِيهِ } أي : في ذلك الخلق ، أو ذلك الشيء ، فالضمير راجع إلى الكاف في قوله : كهيئة الطير ، وقيل : الضمير راجع إلى الطير ، أي : الواحد منه ، وقيل : إلى الطين ، وقريء : « فيكون طائراً ، وطيراً ، » مثل تاجر وتجر ، وقيل : إنه لم يخلق غير الخفاش لما فيه من عجائب الصنعة ، فإن له ثدياً ، وأسناناً ، وأذناً ، ويحيض ، ويطهر ، وقيل : إنهم طلبوا خلق الخفاش لما فيه من العجائب المذكورة ، ولكونه يطير بغير ريش ، ويلد ، كما يلد سائر الحيوانات مع كونه من الطير ، ولا يبيض ، كما يبيض سائر الطيور ، ولا يبصر في ضوء النهار ، ولا في ظلمة الليل ، وإنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة ، وهو : يضحك ، كما يضحك الإنسان؛ وقيل : إن سؤالهم له كان على وجه التعنت ، قيل : كان يطير ما دام الناس ينظرونه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل الله من فعل غيره ،
وقوله : { بِإِذُنِ الله } فيه دليل على أنه لولا الإذن من الله عزّ وجلّ لم يقدر على ذلك ، وأن خلق ذلك كان بفعل الله سبحانه أجراه على يد عيسى عليه السلام . قيل : كانت تسوية الطين ، والنفخ من عيسى ، والخلق من الله عزّ وجلّ . قوله : { وَأُبْرِىء الأكمه } الأكمه : الذي يولد أعمى ، كذا قال أبو عبيدة . وقال ابن فارس : الكمه العمي يولد به الإنسان ، وقد يعرض ، يقال كمه يكمه كمها : إذا عمي ، وكمهت عينه : إذا أعميتها؛ وقيل : الأكمه : الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل ، وقيل : هو الممسوح العين .

والبرص معروف ، وهو بياض يظهر في الجلد . وقد كان عيسى عليه السلام يبريء من أمراض عدّة ، كما اشتمل عليه الإنجيل ، وإنما خص الله سبحانه هذين المرضين بالذكر؛ لأنهما لا يبرآن في الغالب بالمداواة ، وكذلك إحياء الموتى قد اشتمل الإنجيل على قصص من ذلك . قوله : { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ } أي : أخبركم بالذي تأكلونه ، وبالذي تدّخرونه .
قوله : { وَمُصَدّقًا } عطف على قوله : { وَرَسُولاً } وقيل : المعنى : وجئتكم مصدّقاً . قوله : { وَلأِحِلَّ } أي : ولأجل أن أحلّ ، أي : جئتكم بآية من ربكم ، وجئتكم لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم من الأطعمة في التوراة ، كالشحوم ، وكل ذي ظفر ، وقيل : إنما أحلّ لهم ما حرّمته عليهم الأحبار ، ولم تحرّمه التوراة . وقال أبو عبيدة : يجوز أن يكون { بعض } بمعنى كلّ ، وأنشد :
تَرّاكُ أمكنَةٍ إذَا لم أرْضها ... أو يرْتِبَطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
قال القرطبي : وهذا القول غلط عند أهل النظر من أهل اللغة؛ لأن البعض ، والجزء لا يكونان بمعنى الكل ، ولأن عيسى لم يحلل لهم جميع ما حرّمته عليهم التوراة ، فإنه لم يحلل القتل ، ولا السرقة ، ولا الفاحشة ، وغير ذلك من المحرّمات الثابتة في الإنجيل مع كونها ثابتة في التوراة ، وهي : كثيرة يعرف ذلك من يعرف الكتابين ، ولكنه قد يقع البعض موقع الكل مع القرينة ، كقول الشاعر :
أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيتَ فاستبق بَعْضنَا ... حَنَانْيك بعضُ الشَّرِ أهوَنُ مِن بَعْضِ
أي : بعض الشرّ أهون من كله . قوله : { بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } هي قوله : { إِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ } وإنما كان ذلك آية ، لأن من قبله من الرسل كانوا يقولون ذلك ، فمجيئه بما جاءت به الرسل يكون علامة على نبوّته . ويحتمل أن تكون هذه الآية هي : الآية المتقدّمة ، فتكون تكريراً لقوله : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطين } الآية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { بِكَلِمَةٍ } قال : عيسى هو : الكلمة من الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : المهد : مضجع الصبيّ في رضاعه . وقد ثبت في الصحيح أنه لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة : عيسى ، وكان في بني إسرائيل : رجل يقال له جريج كان يصلي ، فجاءته أمه فدعته فقال : أجيبها ، أو أصلي؟ فقالت : اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات ، وكان جريج في صومعة ، فتعرضت له امرأة ، وكلمته ، فأبى ، فأتت راعياً ، فأمكنته من نفسها ، فولدت غلاماً ، فقالت : من جريج ، فأتوه فكسروا صومعته ، وأنزلوه ، وسبوه ، فتوضأ ، وصلى ، ثم أتى الغلام ، فقال : من أبوك يا غلام؟ قال الراعي ، قالوا : نبني صومعتك من ذهب؟ قال : لا إلا من طين . وكانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ابناً لها ، فمرّ بها رجل راكب ذو شارة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثله ، فترك ثديها ، وأقبل على الراكب ، فقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ثم أقبل على ثديها يمصه ، ثم مرّ بأمة تجرجر ، ويلعب بها ، فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثل هذه ، فترك ثديها ، فقال : اللهمّ اجعلني مثلها ، فقالت : لم ذاك؟ فقال : الراكب جبار من الجبابرة ، وهذه الأمة يقولون لها زَنيتِ ، وتقول حسبي الله ، ونعم الوكيل ، ويقولون سرقت ، وتقول حسبي الله .

وأخرج أبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لم يتكلم في المهد إلا عيسى ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وابن ماشطة فرعون »
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وَيُكَلّمُ الناس فِى المهد وَكَهْلاً } قال : يكلمهم صغيراً ، وكبيراً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الكهل هو من في سن الكهولة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : الكهل : الحليم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَيُعَلّمُهُ الكتاب } قال : الخط بالقلم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريح ، نحوه . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس قال : إنما خلق عيسى طائراً واحداً ، وهو الخفاش . وأخرج ابن جريج ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طريق الضحاك ، عن ابن عباس؛ قال : الأكمه الذي يولد أعمى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه قال : الأكمه الأعمى الممسوح العينين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : الأكمه : الذي يبصر بالنهار ، ولا يبصر بالليل . وأخرجوا عن عكرمة قالوا : الأكمه : الأعمش . وأخرج أحمد في الزهد ، عن خالد الحذاء قال : كان عيسى ابن مريم إذا سرح رسله يحيون الموتى يقول لهم : قولوا كذا ، فإذا وجدتم قشعريرة ، ودمعة ، فادعوا عند ذلك .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ } قال : بما أكلتم البارحة من طعام ، وما خبأتم منه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عمار بن ياسر قال : { أُنَبّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ } من المائدة { وَمَا تَدَّخِرُونَ } منها ، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ، ولا يدّخروا ، فأكلوا ، وادّخروا ، وخانوا ، فجعلوا قردة ، وخنازير . وأخرج ابن جرير ، عن وهب أن عيسى كان على شريعة موسى ، وكان يسبت ، ويستقبل بيت المقدس ، وقال لبني إسرائيل : إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة إلا لأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم ، وأضع عنكم من الآصار . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع في الآية : قال : كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى ، وكان قد حرّم عليهم فيما جاء به موسى لحوم الإبل ، والثروب ، فأحلها لهم على لسان عيسى ، وحرّم عليهم الشحوم ، فأحلت لهم فيما جاء به عيسى ، وفي أشياء من السمك ، وفي أشياء من الطير ، وفي أشياء أخر حرّمها عليهم ، وشدّد عليهم فيها ، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } قال : ما بين لهم عيسى من الأشياء كلها ، وما أعطاه ربه .

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

قوله : { فَلَمَّا أَحَسَّ } أي : علم ووجد : قاله الزجاج . وقال أبو عبيدة : معنى أحسّ : عرف . وأصل ذلك وجود الشيء بالحاسة ، والإحساس : العلم بالشيء . قال الله تعالى : { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ } [ مريم : 98 ] . والمراد بالإحساس هنا : الإدراك القويّ الجاري مجرى المشاهدة . وبالكفر إصرارهم عليه ، وقيل : سمع منهم كلمة الكفر . وقال الفراء : أرادوا قتله . وعلى هذا ، فمعنى الآية : فلما أدرك منهم عيسى إرادة قتله التي هي كفر قال : من أنصاري إلى الله . الأنصار جمع نصير . وقوله : { إِلَى الله } متعلق بمحذوف وقع حالاً ، أي : متوجهاً إلى الله ، أو ملتجئاً إليه ، أو ذاهباً إليه ، وقيل : إلى بمعنى مع كقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] وقيل : المعنى : من أنصاري في السبيل إلى الله ، وقيل : المعنى : من يضم نصرته إلى نصرة الله . والحواريون : جمع حواري ، وحواريّ الرجل : صفوته ، وخلاصته ، وهو مأخوذ من الحور ، وهو البياض عند أهل اللغة ، حوّرت الثياب بيضتها ، والحواري من الطعام : ما حوّر : أي بيض ، والحواري أيضاً الناصر ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « لكل نبيّ حواريّ ، وحواريي الزبير » وهو في البخاري ، وغيره . وقد اختلف في سبب تسميتهم بذلك ، فقيل : لبياض ثيابهم . وقيل : لخلوص نياتهم . وقيل : لأنهم خاصة الأنبياء ، وكانوا اثني عشر رجلاً ، ومعنى أنصار الله : أنصار دينه ورسله . وقوله : { آمنا بالله } استئناف جار مجرى العلة لما قبله ، فإن الإيمان يبعث على النصرة . قوله : { واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : اشهد لنا يوم القيامة بأنا مخلصون لإيماننا منقادون لما تريد منا .
ومعنى : { بِمَا أَنزَلْتُ } ما أنزله الله سبحانه في كتبه . والرسول عيسى ، وحذف المتعلق مشعر بالتعميم ، أي : اتبعناه في كل ما يأتي به ، فاكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية ، ولرسولك بالرسالة . أو اكتبنا مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم . وقيل : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم . قوله : { وَمَكَرُواْ } أي : الذي أحسّ عيسى منهم الكفر ، وهم : كفار بني إسرائيل . ومكر الله : استدراجه للعباد من حيث لا يعلمون . قاله الفراء ، وغيره . وقال الزجاج : مكر الله مجازاتهم على مكرهم ، فسمى الجزاء باسم الابتداء ، كقوله تعالى : { الله يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [ البقرة : 15 ] { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] وأصل المكر في اللغة : الاغتيال ، والخدع : حكاه ابن فارس ، وعلى هذا ، فلا يسند إلى الله سبحانه إلا على طريق المشاكلة . وقيل : مكر الله هنا إلقاء شبه عيسى على غيره ، ورفع عيسى إليه { والله خَيْرُ الماكرين } أي : أقواهم مكراً ، وأنفذهم كيداً ، وأقواهم على إيصال الضرر بمن يريد إيصاله به من حيث لا يحتسب .
قوله : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى } العامل في إذ : مكروا ، أو قوله : { خَيْرُ الماكرين } أو فعل مضمر تقديره وقع ذلك . وقال الفراء : إن في الكلام تقديماً ، وتأخيراً تقديره إني رافعك ، ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إنزالك من السماء .

وقال أبو زيد : متوفيك قابضك . وقال في الكشاف : مستوفي أجلك ، ومعناه : إني عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخر أجلك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم . وإنما احتاج المفسرون إلى تأويل الوفاة بما ذكر ، لأن الصحيح أن الله رفعه إلى السماء من غير وفاة ، كما رجحه كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير الطبري ، ووجه ذلك أنه قد صحّ في الأخبار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم نزوله ، وقتله الدجال ، وقيل : إن الله سبحانه توفاه ثلاث ساعات من نهار ، ثم رفعه إلى السماء ، وفيه ضعف ، وقيل : المراد بالوفاة هنا النوم ومثله : { وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل } [ الأنعام : 60 ] أي : ينيمكم ، وبه قال كثيرون . قوله : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } أي : من حيث جوازهم برفعه إلى السماء وبعده عنهم .
قوله : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } أي : الذين اتبعوا ما جئت به ، وهم خلص أصحابه الذين لم يبلغوا في الغلوّ فيه إلى ما بلغ من جعله إلهاً ، ومنهم المسلمون ، فإنهم اتبعوا ما جاء به عيسى عليه السلام ووصفوه بما يستحقه من دون غلوّ ، فلم يفرّطوا في وصفه ، كما فرطت اليهود ، ولا أفرطوا كما أفرطت النصارى . وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم . وقيل : المراد : بالآية أن النصارى الذين هم أتباع عيسى لا يزالون ظاهرين على اليهود غالبين لهم قاهرين لمن وجد منهم ، فيكون المراد بالذين كفروا هم اليهود خاصة؛ وقيل : هم الروم لا يزالون ظاهرين على من خالفهم من الكافرين ، وقيل : هم الحواريون لا يزالون ظاهرين على من كفر بالمسيح ، وعلى كل حال فغلبة النصارى لطائفة من الكفار ، أو لكل طوائف الكفار لا ينافي كونهم مقهورين مغلوبين بطوائف المسلمين ، كما تفيده الآيات الكثيرة ، بأن هذه الملة الإسلامية ظاهرة على كل الملل ، قاهرة لها مستعلية عليها . وقد أفردت هذه الآية بمؤلف سميته « وبل الغمامة في تفسير : { وَجَاعِ ] ُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } » فمن رام استيفاء ما في المقام ، فليرجع إلى ذلك . والفوقية هنا هي أعم من أن تكون بالسيف ، أو بالحجة . وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويحكم بين العباد بالشريعة المحمدية ، ويكون المسلمون أنصاره ، وأتباعه إذ ذاك ، فلا يبعد أن يكون في هذه الآية إشارة إلى هذه الحالة . قوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } أي : رجوعكم ، وتقديم الظرف للقصر { فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } يومئذ : { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أمور الدين .
قوله : { فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ } إلى قوله { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } تفسير للحكم .

قوله { فِى الدنيا والاخرة } متعلق بقوله : فأعذبهم ، أما تعذيبهم في الدنيا ، فبالقتل والسبي ، والجزية ، والصغار ، وأما في الآخرة ، فبعذاب النار . قوله : { فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي : يعطيهم إياها كاملة موفرة ، قريء بالتحتية وبالنون . وقوله : { لاَ يُحِبُّ الظالمين } كناية عن بغضهم ، وهي جملة تذييلية مقررة لما قبلها . قوله : { ذلك } إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى ، وغيره وهو مبتدأ خبره ما بعده ، و { مِنَ الأيات } حال ، أو خبر بعد خبر . والحكيم المشتمل على الحكم ، أو المحكم الذي لا خلل فيه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { فَلَمَّا أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } قال : كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : إنما سمُّوا الحواريين لبياض ثيابهم كانوا صيادين . وأخرج عبد بن حميد ، عن الضحاك قال : الحواريون قصارون مرّ بهم عيسى فآمنوا به . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : الحواريون هم الذين تصلح لهم الخلافة . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : هم أصفياء الأنبياء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : الحواري الوزير . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سفيان بن عيينة قال : الحواري الناصر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } قال : مع محمد ، وأمته أنهم شهدوا له أنه قد بلغ ، وشهدوا للرسل أنهم قد بلغوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر من طريق الكلبي ، عن أبي صالح عنه قال { مَعَ الشاهدين } مع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال : إن بني إسرائيل حصروا عيسى وتسعة عشر رجلاً من الحواريين في بيت ، فقال عيسى لأصحابه : من يأخذ صورتي ، فيقتل ، وله الجنة ، فأخذها رجل منهم ، وصعد بعيسى إلى السماء ، فذلك قوله : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِنّي مُتَوَفّيكَ } يقول : مميتك . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : متوفيك من الأرض . وأخرج الآخران عنه قال : وفاة المنام . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : هذا من المقدّم ، والمؤخر أي : رافعك إليّ ، ومتوفيك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مطر الوراق قال : متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن وهب قال : توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه ، وأخرج ابن عساكر ، عنه قال : أماته ثلاثة أيام ثم بعثه ، ورفعه .

وأخرج الحاكم ، عنه قال : توفى الله عيسى سبع ساعات . وأخرج ابن سعد ، وأحمد في الزهد ، والحاكم ، عن سعيد بن المسيب قال : رفع عيسى ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة . وأخرج ابن عساكر ، عن وهب مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله تعالى : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } قال : طهره من اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ومن كفار قومه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ } قال : هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته ، وملته ، وسنته . وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر ، عن النعمان بن بشير : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يبالون بمن خالفهم حتى يأتي أمر الله » قال النعمان : من قال إني أقول على رسول الله ما لم يقل ، فإن تصديق ذلك في كتاب الله ، قال الله : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } الآية . وأخرج ابن عساكر ، عن معاوية مرفوعاً نحوه ، ثم قرأ معاوية الآية . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد قال : النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ، وليس بلد فيه أحد من النصارى ، إلا وهم فوق اليهود في شرق ، ولا غرب ، هم البلدان كلها مستذلون .

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقاً من غير أب كآدم ، ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة ، وهو كونه لا أمّ له : كما أنه لا أب له ، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه ، وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه ، وأعظم عجباً ، وأغرب أسلوباً . وقوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } جملة مفسرة لما أبهم في المثل ، أي : أن آدم لم يكن له أب ، ولا أم ، بل خلقه الله من تراب . وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأنّ آدم خلق من غير أب ، وأمّ . قوله : { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي : كن بشراً ، فكان بشراً . وقوله : { فَيَكُونُ } حكاية حال ماضية ، وقد تقدّم تفسير هذا .
وقوله : { الحق مِن رَّبّكَ } قال الفراء : هو مرفوع بإضمار هو . وقال أبو عبيدة : هو استئناف كلام ، وخبره قوله : { مِن رَبّكَ } وقيل : هو فاعل فعل محذوف ، أي : جاءك الحق من ربك . قوله : { فَلاَ تَكُنْ مّن الممترين } الخطاب إما لكل من يصلح له من الناس ، أي : لا يكن أحد منكم ممترياً ، أو للرسول صلى الله عليه وسلم ، ويكون النهي له لزيادة التثبيت؛ لأنه لا يكون منه شك في ذلك .
قوله : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ } هذا وإن كان عاماً ، فالمراد به الخاص ، وهم النصارى الذين وفدوا إليه صلى الله عليه وسلم من نجران ، كما سيأتي بيانه ، ويمكن أن يقال هو على عمومه ، وإن كان السبب خاصاً ، فيدل على جواز المباهلة منه صلى الله عليه وسلم لكل من حاجه في عيسى عليه السلام ، وأمته أسوته ، وضمير { فيه } لعيسى؛ والمراد بمجيء العلم هنا : مجيء سببه ، وهو : الآيات البينات ، والمحاجة : المخاصمة ، والمجادلة . وقوله : { تَعَالَوْاْ } أي : هلموا ، وأقبلوا ، وأصله الطلب لإقبال الذوات ، ويستعمل في الرأي إذا كان المخاطب حاضراً ، كما تقول لمن هو حاضر عندك : تعال ننظر في هذا الأمر . قوله : { نَدْعُ أَبْنَاءنَا } الخ اكتفى بذكر البنين عن البنات ، إما لدخولهن في النساء ، أو لكونهم الذين يحضرون . مواقف الخصام دونهن ، ومعنى الآية : ليدع كل منا ومنكم أبناءه ، ونساءه ، ونفسه إلى المباهلة . وفيه دليل على أن أبناء البنات يسمون أبناء لكونه صلى الله عليه وسلم أراد بالأبناء الحسنين ، كما سيأتي . قوله : { نَبْتَهِلْ } أصل الابتهال : الاجتهاد في الدعاء باللعن ، وغيره ، يقال بهله الله ، أي : لعنه ، والبهل : اللعن . قال أبو عبيد ، والكسائي : نبتهل نلتعن ، ويطلق على الاجتهاد في الهلاك ، ومنه قول لبيد :
فِي كُهُول سَادَةٍ مِنْ قَوْمِه ... نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيهم فابْتَهَلْ
أي : فاجتهد في هلاكهم . قال في الكشاف : ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه ، وإن لم يكن التعانا .

قوله : { فَنَجْعَل لَّعْنَتُ الله عَلَى الكاذبين } عطف على نبتهل مبين لمعناه { إِنَّ هَذَا } أي : الذي قصه الله على رسوله من نبأ عيسى { لَهُوَ القصص الحق } القصص التتابع ، يقال : فلان يقص أثر فلان ، أي : يتبعه ، فأطلق على الكلام الذي يتبع ، بعضه بعضاً ، وضمير الفصل للحصر ، ودخول اللام عليه لزيادة تأكيده ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره ، وزيادة « من » في قوله : { مِنْ إِلَهٍ } لتأكيد العموم ، وهو ردّ على من قال بالتثليث من النصارى .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث حذيفة : أن العاقب ، والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأراد أن يلاعنهما ، فقال أحدهما لصاحبه : لا نلاعنه ، فوالله لئن كان نبياً ، فلاعننا لا نفلح أبداً نحن ، ولا عقبنا من بعدنا ، فقالوا له : نعطيك ما سألت ، فابعث معنا رجلاً أميناً ، فقال : « قم يا أبا عبيدة ، » فلما قام قال : « هذا أمين هذه الأمة » . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس : أن رهطاً من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيهم السيد والعاقب ، فقالوا : ما شأنك تذكر صاحبنا؟ قال : من هو؟ قالوا : عيسى تزعم أنه عبد الله ، قالوا : فهل رأيت مثل عيسى ، وأنبئت به ، ثم خرجوا من عنده ، فجاء جبريل ، فقال : قل لهم إذا أتوك : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ } إلى آخر الآية . وقد رويت هذه القصة على وجوه ، عن جماعة من التابعين .
وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، عن جابر قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب ، والسيد ، فدعاهما إلى الإسلام ، فقالا : أسلمنا يا محمد ، فقال : « كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام ، » قالا فهات . قال : « حبّ الصليب ، وشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير » . قال جابر : فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على الغد ، فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذ بيد عليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين ، ثم أرسل إليهما ، فأبيا أن يجيباه ، وأقرّا له ، فقال : والذي بعثني بالحق لو فعلا ، لأمطر الوادي عليهما ناراً . قال جابر : فيهم نزلت : { تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وأبناءكم } الآية . قال جابر : { أَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليّ ، وأبناءنا الحسن ، والحسين ، ونساءنا فاطمة . ورواه أيضاً الحاكم ، من وجه آخر عن جابر وصححه ، وفيه أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : هل لك أن نلاعنك؟ وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي ، عن سعد بن أبي وقاص : قال لما نزلت هذه الآية : { قُلْ تَعَالَوْاْ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ، وفاطمة ، وحسناً ، وحسيناً ، فقال : « اللهم هؤلاء أهلي » . وأخرج ابن عساكر ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : { تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا } الآية ، قال : فجاء بأبي بكر ، وولده ، وبعمر ، وولده ، وبعثمان ، وولده ، وبعليّ ، وولده . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج ، عن ابن عباس : { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } نجتهد . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا الإخلاص يشير بأصبعه التي تلي الإبهام ، « وهذا الدعاء » ، فرفع يديه حذو منكبيه ، وهذا الابتهال ، فرفع يديه مدّاً .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

قيل : الخطاب لأهل نجران بدليل ما تقدم قبل هذه الآية . وقيل : ليهود المدينة ، وقيل : لليهود والنصارى جميعاً ، وهو : ظاهر النظم القرآني ، ولا وجه لتخصيصه بالبعض؛ لأن هذه دعوة عامة لا تختص بأولئك الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والسواء : العدل . قال الفراء : يقال في المعنى العدل : سوى ، وسواء ، فإذا فتحت السين مددت ، وإذا ضممت ، أو كسرت قصرت . قال زهير :
أرونيّ خُطَّةً لا ضَيْم فيها ... يُسَوِّيَّ بيننا فيها السَّوَاءُ
وفي قراءة ابن مسعود : «إلى كلمة عدل بيننا ، وبينكم» فالمعنى : أقبلوا إلى ما دعيتم إليه ، وهي : الكلمة العادلة المستقيمة التي ليس فيها ميل عن الحق ، وقد فسرها بقوله : { أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ الله } وهو : في موضع خفض على البدل من كلمة ، أو رفع على إضمار مبتدأ ، أي : هي ألا نعبد ، ويجوز أن تكون " أن " مفسرة لا موضع للجملة التي دخلت عليها ، وفي قوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا } تبكيت لمن اعتقد ربوبية المسيح ، وعزير ، وإشارة إلى أن هؤلاء من جنس البشر ، وبعض منهم ، وإزراء على من قلد الرجال في دين الله ، فحلل ما حللوه له ، وحرم ما حرموه عليه ، فإن من فعل ذلك ، فقد اتخذ من قلده ربا ، ومنه { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً مّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] وقد جوّز الكسائي ، والفراء الجزم في { وَلاَ نُشْرِكَ } ولا يتخذ ) على التوهم . قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عما دعوا إليه : { فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : منقادون لأحكامه مرتضون به معترفون بما أنعم الله به علينا من هذا الدين القويم .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، عن ابن عباس قال : حدّثني أبو سفيان أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأه فإذا فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم : سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت ، فإن عليك إثم الأريسيين ، و { يا أهل الكتاب تعالوا ، إلى كلمة سواء بيننا ، وبينكم } إلى قوله : { بأنا مسلمون } » . وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكفار { تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود المدينة إلى ما في هذه الآية ، فأبوا عليه ، فجاهدهم حتى أقرّوا بالجزية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى الكلمة السواء . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة : { إلى كَلِمَةٍ سَوَاء } قال : عدل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا } قال لا يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله؛ ويقال : إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم ، وقادتهم في غير عبادة ، وإن لم يصلوا لهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا } قال : سجود بعضهم لبعض .

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

لما ادّعت كل واحدة من طائفتي اليهود ، والنصارى أن إبراهيم عليه السلام كان على دينهم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم ، وأبان بأن الملة اليهودية ، والملة النصرانية إنما كانتا من بعده . قال الزجاج : هذه الآية أبين حجة على اليهود ، والنصارى أن التوراة ، والإنجيل نزلا من بعده ، وليس فيهما اسم لواحد من الأديان ، واسم الإسلام في كل كتاب . انتهى . وفيه نظر ، فإن الإنجيل مشحون بالآيات من التوراة ، وذكر شريعة موسى ، والاحتجاج بها على اليهود ، وكذلك الزبور فيه في مواضع ذكر شريعة موسى ، وفي أوائله التبشير بعيسى ، ثم في التوراة ذكر كثير من الشرائع المتقدّمة ، يعرف هذا كل من عرف هذه الكتب المنزلة . وقد اختلف في قدر المدّة التي بين إبراهيم وموسى ، والمدّة التي بين موسى ، وعيسى . قال القرطبي : يقال : كان بين إبراهيم ، وموسى ألف سنة ، وبين موسى ، وعيسى ألفا سنة . وكذا في الكشاف . قوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : تتفكرون في دحوض حجتكم ، وبطلان قولكم .
قوله : { تَعْقِلُونَ هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } الأصل في ها أنتم : أأنتم أبدلت الهمزة الأولى هاء؛ لأنها أختها كذا قال أبو عمرو بن العلاء ، والأخفش . قال النحاس : وهذا قول حسن . وقرأ قنبل : { هَأَنْتُمْ } وقيل : الهاء للتنبيه دخلت على الجملة التي بعدها ، أي : ها أنتم هؤلاء الرجال الحمقى حاججتم ، وفي { هؤلاء } لغتان المدّ ، والقصر . والمراد بما لهم به علم : هو ما كان في التوراة ، وإن خالفوا مقتضاه ، وجادلوا فيه بالباطل ، والذي لا علم لهم به هو زعمهم أن إبراهيم كان على دينهم لجهلهم بالزمن الذي كان فيه . وفي الآية دليل على منع الجدال بالباطل ، بل ورد الترغيب في ترك الجدال من المحقّ ، كما في حديث : « من ترك المراء ، ولو محقاً ، فأنا ضمينه على الله يبيت في ربض الجنة » وقد ورد تسويغ الجدال بالتي هي أحسن لقوله تعالى : { وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] ونحو ذلك ، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة ، أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة . قوله : { والله يَعْلَمُ } أي : كل شيء ، فيدخل في ذلك ما حاججوا به . وقد تقدّم تفسير الحنيف . قوله : { إِنَّ أَوْلَى الناس } أي : أحقهم به ، وأخصهم للذين اتبعوا ملته ، واقتدوا بدينه { وهذا النبى } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، أفرده بالذكر تعظيماً له ، وتشريفاً ، وأولويته صلى الله عليه وسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته ، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية { والذين ءامَنُواْ } من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران ، وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً ، فنزل فيهم : { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَاجُّونَ في إبراهيم } الآية . وقد روى نحو هذا عن جماعة من السلف .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية : { هأَنتُمْ هؤلاء حاججتم فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } يقول فيما شهدتم ، ورأيتم ، وعاينتم : { فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } يقول فيما لم تشهدوا ، ولم تروا ، ولم تعاينوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدّي ، في الآية قال : أما الذي لهم به علم ، فما حرّم عليهم وما أمروا به ، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : يعذر من حاجّ بعلم ، ولا يعذر من حاجّ بالجهل . وأخرج ابن جرير ، عنه عن الشعبي ، في قوله : { مَا كَانَ إبراهيم } قال : أكذبهم الله ، وأدحض حجتهم . وأخرج أيضاً عن الربيع مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان نحوه .
وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب حدّثني ابن غنم؛ أنه لما خرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ، فذكر قصتهم معه ، وما قالوه له لما قال له عمرو بن العاص إنهم يشتمون عيسى ، وهي قصة مشهورة؛ ثم قال : فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بالمدينة : { إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } الآية . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن لكل نبيّ ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي خليل ربي ، ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى الناس } الآية » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحكم بن ميناء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يا معشر قريش إن أولى الناس بالنبيّ المتقون ، فكونوا أنتم سبيل ذلك ، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال ، وتلقوني بالدنيا تحملونها ، فأصدّ عنكم بوجهي ، ثم قرأ عليهم : { إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم } الآية » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في الآية قال : كل مؤمن وليّ إبراهيم ممن مضى ، وممن بقي .

وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

الطائفة من أهل الكتاب هم : يهود بني النضير ، وقريظة ، وبني قينقاع حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم ، وسيأتي . وقيل : هم جميع أهل الكتاب ، فتكون « من » لبيان الجنس . وقوله : { وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } جملة حالية للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان ، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه . والمراد بآيات الله : ما في كتبهم من دلائل نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } ما في كتبكم من ذلك ، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرّون بنبوّتهم ، أو المراد : كتم كل الآيات عناداً ، وأنتم تعلمون أنها حق . ولبس الحق بالباطل : خلطه بما يتعمدونه من التحريف { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية .
قوله : { وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب } هم رؤساؤهم ، وأشرافهم ، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة . ووجه النهار : أوّله ، وسمي وجهاً؛ لأنه أحسنه قال :
وتُضِىءُ في وَجْهِ النَّهار مُنِيرةً ... كجُمَانَة البحرى سُلَّ نظامُها
وهو : منصوب على الظرف ، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين ، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم ، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم ، واعتراه الشك ، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ، ومكن أقدامهم ، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ، ولا تحركهم ريح المعاندين .
وقوله : { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض ، أي : قال ذلك الرؤساء للسلفة لا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها ، وأما غيرهم ممن قد أسلم ، فأظهروا لهم ذلك خداعاً { وَجْهَ النهار واكفروا ءاخِرَهُ } ليفتتنوا ، ويكون قوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } على هذا متعلقاً بمحذوف ، أي : فعلتم ذلك؛ لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم : يعني أن ما بكم من الحسد ، والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم ، والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم . وقوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } معطوف على { أن يؤتى } ، أي : لا تؤمنوا إيماناً صحيحاً ، وتقرّوا بما في صدوركم إقراراً صادقاً لغير من تبع دينكم ، فعلتم ذلك ، ودبرتموه أن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق .
وقوله : { إِنَّ الهدى هُدَى الله } جملة اعتراضية . وقال الأخفش : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم ، فذهب إلى أنه معطوف . وقيل : المراد : لا تؤمنوا وجه النهار ، وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم ، أي : لمن دخل في الإسلام ، وكان من أهل دينكم قبل إسلامه؛ لأن إسلام من كان منهم هو : الذي قتلهم غيظاً وأماتهم حسرة ، وأسفاً ، ويكون قوله : { أَن يؤتى } على هذا متعلقاً بمحذوف كالأوّل .

وقيل : إن قوله : { أَن يؤتى } متعلق بقوله : { لاَ تُؤْمِنُواْ } أي : لا تظهروا إيمانكم ب { أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } أي : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم . وقيل : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، بالمدّ على الاستفهام تأكيداً للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، فتكون على هذا " أن " ، وما بعدها في محل رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره تصدّقون بذلك ، ويجوز أن تكون في محل نصب على إضمار فعل تقديره تقرون أن يؤتى ، وقد قرأ : «آن يؤتى» بالمدّ ابن كثير ، وابن محيصن ، وحميد . وقال الخليل : " أن " في موضع خفض ، والخافض محذوف . وقال ابن جريج : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى؛ وقيل : المعنى : لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من تبع دينكم ، لئلا يكون ذلك سبباً لإيمان غيرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقال الفراء : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ثم قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } أي : إن البيان الحق بيان الله بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم على تقدير " لا " كقوله تعالى : { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضلوا ،
و«أو» في قوله : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ } بمعنى حتى ، وكذلك قال الكسائي ، وهي عند الأخفش عاطفة ، كما تقدّم . وقيل : إن هدى الله بدل من الهدى ، وأن يؤتى خبر إن على معنى قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . وقد قيل : إن هذه الآية أعظم آي : هذه السورة إشكالاً ، وذلك صحيح . وقرأ الحسن : " يؤتى " بكسر التاء الفوقية . وقرأ سعيد بن جبير " إن يؤتى " بكسر الهمزة على أنها النافية . وقوله : { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } قيل : هي النبوّة ، وقيل : أعم منها ، وهو ردّ عليهم ودفع لما قالوه ، ودبروه .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سفيان قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب ، فهو في النصارى ، ويدفع هذا أن كثيراً من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصحّ حملها على النصارى ألبتة ، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها ، فإن الطائفة التي ودّت إضلال المسلمين ، وكذلك الطائفة القائلة : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار } هي : من اليهود خاصة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { يأَهْلَ الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بأيات الله وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } قال : تشهدون أن نعت نبيّ الله محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به ، وتنكرونه ، ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، والإنجيل النبيّ الأمّي .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الربيع مثله . وأخرجا أيضاً ، عن السدي نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج : { وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره . وأخرجا عن الربيع في قوله : { لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } يقول : لم تخلطون اليهودية ، والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره الإسلام : { وَتَكْتُمُونَ الحق } يقول : تكتمون شأن محمد ، وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة ، والإنجيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة مثله .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف وعدّي بن زيد ، والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد ، وأصحابه غدوة ، ونكفر به عشية حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون ، كما نصنع ، فيرجعون عن دينهم ، فأنزل الله فيهم : { ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل } إلى قوله : { والله واسع عَلِيمٌ } وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَالَت طَّائِفَةٌ } الآية ، قال : كانوا يكونون معهم أول النهار ، ويجالسونهم ، ويكلمونهم ، فإذا أمسوا ، وحضرت الصلاة كفروا به ، وتركوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } قال : هذا قول بعضهم لبعض . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله . وأخرج أيضاً عن السدي نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } حسداً من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادة أن يتابعوا على دينهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك ، وسعيد بن جبير : { أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي؛ قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } يا أمة محمد : { أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } يقول اليهود : فعل الله بنا كذا ، وكذا من الكرامة حتى أنزل علينا المنّ ، والسلوى ، فإن الذي أعطيتكم أفضل ، فقولوا { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } يقول لما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم ، وبعث نبياً كنبيكم حسدتموه على ذلك { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } .

وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } يقول : هذا الأمر الذي أنعم الله عليه { أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } قال : قال بعضهم لبعض لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه ل { يُحَاجُّوكُم } قال : ليخاصموكم به { عِندَ رَبّكُمْ } فتكون لهم حجة عليكم : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله } قال : الإسلام { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } قال : القرآن ، والإسلام . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد { يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } قال : النبوّة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : رحمته الإسلام يختص بها من يشاء .

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)

هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين . والجار والمجرور في قوله : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب } في محل رفع على الابتداء على ما مرّ في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } [ البقرة : 8 ] وقد تقدم تفسير القنطار . وقوله : { تَأْمَنْهُ } هذه قراءة الجمهور . وقرأ ابن وثاب ، والأشهب العقيلي : «تيمنه» بكسر التاء الفوقية على لغة بكر ، وتميم ، ومثله قراءة من قرأ : { نستعين } [ الفاتحة : 5 ] بكسر النون . وقرأ نافع ، والكسائي : { يُؤَدّهِ } بكسر الهاء في الدرج . قال أبو عبيد : واتفق أبو عمرو ، والأعمش ، وحمزة ، وعاصم في رواية أبي بكر على إسكان الهاء . قال النحاس : إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين ، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ، ويرى أنه غلط من قرأ به ، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء ، وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه شيء من هذا ، والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء . وقال الفراء : مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها ، فيقولون ضربته ضرباً شديداً ، كما يسكنون ميم أنتم ، وقمتم ، وأنشد :
لما رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مال إلى أرْطاة حِقْفٍ فاضَّطجَع
وقرأ أبو المنذر سلام ، والزهري : «يؤده» بضم الهاء بغير واو . وقرأ قتادة ، وحمزة ، ومجاهد : «يؤدهو» بواو في الإدراج ، ومعنى الآية : أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدى أمانته ، وإن كانت كثيرة ، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته ، وإن كانت حقيرة ، ومن كان أميناً في الكثير ، فهو في القليل أمين بالأولى ، ومن كان خائناً في القليل ، فهو في الكثير خائن بالأولى . وقوله : { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } استثناء مفرغ ، أي : لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائماً مطالباً له مضيقاً عليه متقاضياً لردّه ، والإشارة بقوله { ذلك } إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله : { لاَّ يُؤَدِّهِ } . والأميون هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب ، أي : ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا ، وادّعوا لعنهم الله أن ذلك في كتابهم ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
{ بلى } أي : بلى عليهم سبيل؛ لكذبهم واستحلالهم أموال العرب ، فقوله : { بلى } " إثبات لما نفوه من السبيل " . قال الزجاج : تمّ الكلام بقوله : { بلى } ثم قال : { مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى } وهذه جملة مستأنفة ، أي : من أوفى بعهده ، واتّقى ، فليس من الكاذبين . أو فإن الله يحبه ، والضمير في قوله : { بِعَهْدِهِ } راجع إلى " من " ، أو إلى الله تعالى ، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى " مَن " ، أي : فإن الله يحبه .

قوله : { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله } أي : يستبدلون ، كما تقدّم تحقيقه غير مرة . وعهد الله هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، والأيمان : هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به ، وينصرونه ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية { أولئك } أي : الموصوفون بهذه الصفة { لاَ خلاق لَهُمْ فِى الأخرة } أي : لا نصيب { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله } بشيء أصلاً ، كما يفيده حذف المتعلق من التعميم ، أو لا يكلمهم بما يسرهم { وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } نظر رحمة ، بل يسخط عليهم ، ويعذبهم بذنوبهم ، كما يفيده قوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن عكرمة في قوله : { وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ } قال : هذا من النصارى { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ } قال : هذا من اليهود { إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } قال : إلا ما طلبته ، واتبعته . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الاميين سَبِيلٌ } قال : قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل . وأخرج ابن جرير ، عن السديّ نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : « كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهلية إلا ، وهو تحت قدميّ هاتين ، إلا الأمانة ، فإنها مؤدّاة إلى البرّ ، والفاجر » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن صعصعة أنه سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة ، والشاة ، قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال : نقول ليس علينا في ذلك من بأس ، قال : هذا ، كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأميين سَبِيلٌ } إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيب نفوسهم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ واتقى } يقول : اتقى الشرك : { فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } يقول الذين يتقون الشرك .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امريء مسلم لقي الله ، وهو عليه غضبان » . فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله كان ذلك ، كان بيني ، وبين رجل من اليهود أرض ، فجحدني ، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألك بينة؟ » قلت : لا ، قال « لليهودي : احلف ، » فقلت : يا رسول الله إذن يحلف ، فيذهب مالي ، فأنزل الله : { إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا } إلى آخر الآية « . وقد روى : أن سبب نزول الآية أن رجلاً كان يحلف بالسوق : لقد أعطى بسلعته ما لم يعط بها . أخرجه البخاري ، وغيره . وقد روي أن سبب نزولها مخاصمة كانت بين الأشعث ، وامرىء القيس ، ورجل من حضرموت . أخرجه النسائي ، وغيره .

وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)

أي : طائفة من اليهود { يلوون } ، أي : يحرّفون ، ويعدلون به عن القصد ، وأصل الليّ : الميل ، يقول لوى برأسه : إذا أماله ، وقريء : «يلووّن» بالتشديد ، و «يلون» بقلب الواو همزة ، ثم تخفيفها بالحذف ، والضمير في قوله : { لِتَحْسَبُوهُ } يعود إلى ما دلّ عليه { يَلْوُونَ } وهو : المحرّف الذي جاءوا به . قوله : { وَمَا هُوَ مِنَ الكتاب } جملة حالية ، وكذلك قوله : { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله } وكذلك قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : أنهم كاذبون مفترون .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم } قال : هم اليهود . كانوا يزيدون في الكتاب ما لم ينزل الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : يحرّفونه .

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

أي : ما كان ينبغي ، ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة ، وهو متصف بتلك الصفة . وفيه بيان من الله سبحانه لعباده أن النصارى افتروا على عيسى عليه السلام ما لم يصح عنه ، ولا ينبغي أن يقوله . والحكم : الفهم والعلم . قوله : { ولكن كُونُواْ } أي : ولكن يقول النبي كونوا ربانيين . والرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف ، والنون للمبالغة ، كما يقال لعظيم اللحية لحياني ، ولعظيم الجمة جماني ، ولغليظ الرقبة رقباني ، قيل : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، فكأنه يقتدي بالربّ سبحانه في تيسير الأمور . وقال المبرد : الربانيون : أرباب العلم ، واحدهم رباني ، من قوله : ربه يربه ، فهو ربان : إذا دبره ، وأصلحه ، والياء للنسب ، فمعنى الرباني : العالم بدين الربّ القويّ التمسك بطاعة الله . وقيل العالم الحكيم . قوله : { بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ } أي بسبب كونكم عالمين ، أي : كونوا ربانيين بهذا السبب ، فإن حصول العلم للإنسان ، والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم ، وقوّة التمسك بطاعة الله . وقرأ ابن عباس ، وأهل الكوفة : «بما كنتم تعلمون» بالتشديد . وقرأ أبو عمرو ، وأهل المدينة بالتخفيف ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد . قال : لأنها لجمع المعنيين . قال مكي : التشديد أبلغ؛ لأن العالم قد يكون عالماً غير معلم ، فالتشديد يدل على العلم ، والتعليم ، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط . واختار القراءة الثانية أبو حاتم . قال أبو عمرو : وتصديقها { تدرسون } بالتخفيف دون التشديد . انتهى . والحاصل أن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم ، والتعليم ، وهو أن يكون مع ذلك مخلصاً ، أو حكيماً ، أو حليماً حتى تظهر السببية ، ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس ، فيكون المعنى كونوا معلمين بسبب كونكم علماء ، وبسبب كونكم تدرسون العلم . وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم على أن يعمل ، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه ، والإخلاص لله سبحانه .
قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا } بالنصب عطفاً على { ثم يقول } «ولا» مزيدة لتأكيد النفي ، أي : ليس له أن يأمر بعبادة نفسه ، ولا يأمر باتخاذ الملائكة ، والنبيين أرباباً بل ينتهي عنه ، ويجوز عطفه على أن يؤتيه ، أي : ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة ، والنبيين أرباباً ، وبالنصب قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف ، والقطع من الكلام الأوّل ، أي : ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة ، والنبيين أرباباً ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود ، " ولن يأمركم " . والهمز في قوله : { أَيَأْمُرُكُم } لإنكار ما نفي عن البشر . وقوله : { بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } استدل به من قال : إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين في أن يسجدوا له .

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود ، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك ، كما تعبد النصارى عيسى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرني ، " فأنزل الله في ذلك : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } الآية» . وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن قال : بلغني أن رجلاً قال : يا رسول الله نسلم عليك ، كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : " لا ولكن أكرموا نبيكم ، واعرفوا الحق لأهله ، فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، " فأنزل الله : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } الآية» . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { ربانيين } قال : فقهاء علماء . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه قال : حكماء علماء حلماء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : علماء فقهاء . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود قال : حكماء علماء . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي رزين في قوله : { وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } قال : مذاكرة الفقه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة } قال : ولا يأمرهم النبي .

وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)

قد اختلف في تفسير قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } فقال سعيد بن جبير ، وقتادة ، وطاوس ، والحسن ، والسديّ إنه أخذ الله ميثاق الأنبياء : أن يصدّق بعضهم بعضاً بالإيمان ، ويأمر بعضهم بعضاً بالكتاب إن بذلك ، فهذا معنى النصرة له ، والإيمان به ، وهو ظاهر الآية ، فحاصله أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر ، وينصره ، وقال الكسائي : يجوز أن يكون معنى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب» وقيل : في الكلام حذف . والمعنى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين؛ لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب ، وحكمة ، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا ، ودلّ على هذا الحذف قوله : { وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى } و «ما» في قوله : { لما آتيتكم } بمعنى الذي . قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم } فقال : «ما» بمعنى الذي . قال النحاس : التقدير في قول الخليل الذي آتيتكموه ، ثم حذفت الهاء لطول الاسم ، واللام لام الابتداء ، وبهذا قال الأخفش ، وتكون ما في محل رفع على الابتداء ، وخبرها من كتاب ، وحكمة .
وقوله : { ثُمَّ جَاءكُمْ } وما بعده جملة معطوفة على الصلة ، والعائد محذوف أي : مصدّق به . وقال المبرد ، والزجاج ، والكسائي : «ما» شرطية دخلت عليها لام التحقيق ، كما تدخل على " إن " ، «ولتؤمنن به» جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق ، إذ هو بمنزلة الاستحلاف ، كما تقول : أخذت ميثاقك ، لتفعلنّ كذا ، وهو : سادّ مسدّ الجزاء . وقال الكسائي : إن الجزاء قوله : { فَمَنْ تولى } . وقال في الكشاف : إن اللام في قوله : { لما آتيتكم } لام التوطئة ، واللام في قوله : { لَتُؤْمِنُنَّ } جواب القسم ، " وما " يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، " ولتؤمنن " سادّ مسدّ جواب القسم ، والشرط جميعاً ، وأن تكون موصولة بمعنى الذي آتيتكموه لتؤمنن به . انتهى ، وقرأ حمزة : «لما آتيتكم» بكسر اللام " وما " بمعنى الذي ، وهي متعلقة بأخذ . وقرأ أهل المدينة : «آتيناكم» على التعظيم . وقرأ الباقون : «آتيتكم» على التوحيد ، وقيل : إن «ما» في قراءة من قرأ بكسر اللام مصدرية . ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ، والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم ، واللام لام التعليل ، أي : لأجل ذلك أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به .
قوله : { أَقْرَرْتُمْ } هو من الإقرار . والإصر في اللغة : الثقل ، سمي العهد إصراً لما فيه من التشديد . والمعنى : وأخذتم على ذلك عهدي . قوله : { قَالُواْ أَقْرَرْنَا } جملة استئنافية ، كأنه قيل : ماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل قالوا أقررنا ، وإنما لم يذكر أحدهم الإصر اكتفاء بذلك .

قوله : { قَالَ فاشهدوا } أي : قال الله سبحانه فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضهم على بعض : { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } أي : وأنا على إقراركم ، وشهادة بعضكم على بعض من الشاهدين . قوله : { فَمَنْ تولى } أي : أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } أي : الخارجون عن الطاعة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرأون : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ } ونحن نقرأ { ميثاق النبيين } ، فقال ابن عباس : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن طاوس في الآية ، قال : { أَخَذَ الله ميثاق النبيين } أن يصدق بعضهم بعضاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } قال : هي خطأ من الكتاب ، وهي في قراءة ابن مسعود : «ميثاق الذين أوتوا الكتاب» وأخرج ابن جرير ، عن عليّ قال : لم يبعث الله نبياً آدم ، فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث ، وهو حيّ ليؤمنن به ، ولينصرنه ، ويأمره ، فيأخذ العهد على قومه ، ثم تلا : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في الآية نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير ، من طريق العوفي عنه في قوله : { إِصْرِى } قال : عهدي . وأخرج ابن جرير ، عن عليّ في قوله : { قَالَ فاشهدوا } يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك { وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين } عليكم وعليهم { فَمَنْ تولى } عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون } هم العاصون في الكفر .

أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)

قوله : { أَفَغَيْرَ } عطف على مقدّر ، أي : أتتولون ، فتبغون غير دين الله ، وتقديم المفعول؛ لأنه المقصود بالإنكار . وقرأ أبو عمرو وحده { يبغون } بالتحتية ، و «ترجعون» بالفوقية ، قال : لأن الأوّل خاص ، والثاني عام ، ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى . وقرأ حفص بالتحتية في الموضعين . وقرأ الباقون بالفوقية فيهما ، وانتصب { طوعاً وكرهاً } على الحال ، أي : طائعين ومكرهين . والطوع : الانقياد ، والاتباع بسهولة ، والكره : ما فيه مشقة ، وهو من أسلم مخافة القتل ، وإسلامه استسلام منه .
قوله : { آمنا } إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن نفسه ، وعن أمته { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } كما فرّقت اليهود ، والنصارى ، فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض . وقد تقدّم تفسير هذه الآية { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي : منقادون مخلصون . قوله : { دِينًا } مفعول للفعل ، أي : يبتغ ديناً حال كونه غير الإسلام ، ويجوز أن ينتصب غير الإسلام على أنه مفعول الفعل ، وديناً إما تمييز ، أو حال إذا أوّل بالمشتق ، أو بدل من غير . قوله : { وَهُوَ فِى الأخرة مِنَ الخاسرين } إما في محل نصب على الحال ، أو جملة مستأنفة ، أي : من الواقعين في الخسران يوم القيامة .
وقد أخرج الطبراني بسند ضعيف ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض } قال : " أما من في السموات فالملائكة ، وأما من في الأرض ، فمن ولد على الإسلام ، وأما كرها ، فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل ، والأغلال يقادون إلى الجنة ، وهم كارهون " وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية " الملائكة أطاعوه في السماء ، والأنصار ، وعبد القيس أطاعوه في الأرض " وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال في الآية : { أَسْلَمَ مَن فِى السموات والأرض } حين أخذ عليهم الميثاق . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { وَلَهُ أَسْلَمَ } قال : المعرفة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية قال : أما المؤمن ، فأسلم طائعاً ، فنفعه ذلك ، وقبل منه ، وأما الكافر ، فأسلم حين رأى بأس الله ، فلم ينفعه ذلك ، ولم يقبل منه { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] . وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ساء خلقه من الرقيق ، والدوابّ ، والصبيان ، فاقرءوا في أذنه { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون } " وأخرج ابن السني في عمل اليوم ، والليلة ، عن يونس بن عبيد قال : ليس رجل يكون على دابة صعبة ، فيقرأ في أذنها { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يبغون } الآية إلا ذلت بإذن الله عزّ وجلّ . وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تجيء الأعمال يوم القيامة ، فتجيء الصلاة ، فتقول : يا ربّ أنا الصلاة ، فيقول : إنك على خير ، وتجيء الصدقة فتقول : يا ربّ أنا الصدقة ، فيقول إنك على خير ، ويجيء الصيام ، فيقول : أنا الصيام ، فيقول إنك على خير ، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول الله : إنك على خير ، ثم يجيء الإسلام فيقول : يا ربّ أنت السلام ، وأنا الإسلام ، فيقول : إنك على خير بك اليوم آخذ ، وبك أعطي ، قال الله تعالى في كتابه : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الأخرة مِنَ الخاسرين } " .

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)

قوله : { كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا } هذا الاستفهام معناه الجحد ، أي : لا يهدي الله ، ونظيره قوله تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله } [ التوبة : 7 ] أي : لا عهد لهم ، ومثله قول الشاعر :
كَيْفَ نَومْي عَلى الفِراش ولما ... تَشْمل الشَامَ غَارة شَعْواءُ
أي : لا نوم لي . ومعنى الآية : لا يهدي الله قوماً إلى الحق كفروا بعد إيمانهم ، وبعدما شهدوا أن الرسول حق ، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه ، ومعجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } جملة حالية ، أي : كيف يهدي المرتدّين ، والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم؛ لأنفسهم ، ومنهم الباقون على الكفر ، ولا ريب أن ذنب المرتدّ أشدّ من ذنب من هو باق على الكفر؛ لأن المرتدّ قد عرف الحق ، ثم أعرض عناداً ، وتمرّداً .
قوله : { أولئك } إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة ، وهو : مبتدأ خبره الجملة التي بعده . وقد تقدّم تفسير اللعن . وقوله : { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } معناه : يؤخرون ويمهلون . ثم استثنى التائبين : فقال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك } : أي : من بعد الارتداد { وَأَصْلَحُواْ } بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردّة . وفيه دليل على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام مخلصاً ، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ .
قوله : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } . قال قتادة ، وعطاء الخراساني ، والحسن : نزلت في اليهود ، والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته ، وصفته : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } بإقامتهم على كفرهم ، وقيل : ازدادوا كفراً بالذنوب التي اكتسبوها ، ورجحه ابن جرير الطبري ، وجعلها في اليهود خاصة . وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى : { لن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } مع كون التوبة مقبولة ، كما في الآية الأولى ، وكما في قوله تعالى : { وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } [ الشورى : 25 ] وغير ذلك ، فقيل : المعنى : لن تقبل توبتهم بعد الموت . قال النحاس : وهذا قول حسن ، كما قال تعالى : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنّى تُبْتُ الآن } [ النساء : 18 ] وبه قال الحسن ، وقتادة ، وعطاء ، ومنه الحديث : « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » ؛ وقيل : المعنى : لمن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا؛ لأن الكفر أحبطها ، وقيل : لمن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر ، والأولى أن يحمل عدم قبولهم التوبة في هذه الآية على من مات كافراً غير تائب ، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة ، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية ، وهي قوله : { إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } في حكم البيان لها .

قوله : { مّلْء الأرض ذَهَبًا } الملء بالكسر مقداراً ما يملأ الشيء ، والملء بالفتح : مصدر ملأت الشيء ، و { ذهبا } تمييز ، قاله الفراء وغيره . وقال الكسائي : نصب على إضمار من ذهب . كقوله : { أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } [ المائدة : 95 ] أي : من صيام . وقرأ الأعمش : «ذهب» بالرفع على أنه بدل من ملء ، والواو في قوله : { وَلَوِ افتدى بِهِ } قيل : هي مقحمة زائدة ، والمعنى : لو افتدى به . وقيل : فيه حمل على الغنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . وقيل : هو عطف على مقدر ، أي : لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً لو تصدق به في الدنيا ، ولو افتدى به من العذاب أي : بمثله .
وقد أخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ، ثم ارتد ، ولحق بالمشركين ، ثم ندم ، فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل لي من توبة؟ فنزلت : { كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } إلى قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فأرسل إليه قومه ، فأسلم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد نحوه ، وقال : هو الحارث بن سويد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن السدي نحوه ، وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، نحوه أيضاً . وقد روى عن جماعة نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } . قال : هم أهل الكتاب من اليهود عرفوا محمداً ، ثم كفروا به . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن الحسن قال : هم أهل الكتاب من اليهود ، والنصارى ، وذكر نحو ما تقدّم عنه . وأخرج البزار ، عن ابن عباس : أن قوماً أسلموا ، ثم ارتدوا ، ثم أسلموا ، ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا } قال السيوطي : هذا خطأ من البزار .
وأخرج ابن جرير ، عن الحسن في الآية قال : اليهود ، والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية قال : هم اليهود كفروا بالإنجيل ، وعيسى ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في الآية قال : إنما نزلت في اليهود ، والنصارى كفروا بعد إيمانهم ، ثم ازدادوا كفراً بذنوب أذنبوها ، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم ، ولو كانوا على الهدى قبلت توبتهم ، ولكنهم على الضلالة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } قال : نموا على كفرهم .

وأخرج ابن جرير ، عن السدي في قوله : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } قال : ماتوا وهم كفار : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } قال : إذا تاب عند موته لم تقبل توبته . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } قال : تابوا من الذنوب ، ولم يتوبوا من الأصل .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ } قال : هو كل كافر . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يجاء بالكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به ، فيقول نعم ، فيقال له لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك ، فذلك قوله تعالى : { إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ . . . } » الآية .

لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

هذا كلام مستأنف خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار . قوله : { لَن تَنَالُواْ البر } يقال : نالني من فلان معروف ينالني ، أي : وصل إليّ ، والنوال : العطاء من قولك نولته تنويلاً أعطيته . والبرّ : العمل الصالح ، وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمرو بن ميمون ، والسديّ : هو الجنة ، فمعنى الآية : لن تنالوا العمل الصالح ، أو الجنة ، أي : تصلوا إلى ذلك ، وتبلغوا إليه حتى تنفقوا مما تحبون ، أي : حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها ، و { مِنْ } تبعيضية ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : «حتى تنفقوا بعض ما تحبون» وقيل : بيانية { وَمَا } موصولة ، أو موصوفة ، والمراد النفقة في سبيل الخير من صدقة ، أو غيرها من الطاعات ، وقيل : المراد : الزكاة المفروضة . وقوله : { مِن شَىْء } بيان لقوله : { مَا تُنفِقُواْ } أي : ما تنفقوا من أيّ شيء سواء كان طيباً ، أو خبيثاً { فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } و " ما " شرطية جازمة . وقوله : { فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } تعليل لجواب الشرط واقع موقعه .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أنس : «أن أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة» الحديث . وقد روي بألفاظ . وأخرج عبد بن حميد ، والبزار ، عن ابن عمر قال : حضرتني هذه الآية : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئاً أحبّ إلي من مرجانة جارية لي رومية ، فقلت : هي حرّة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ، فأنكحتها نافعاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء ، فدعا بها عمر ، فقال : إن الله يقول : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } فأعتقها عمر ، وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم : إنها لما نزلت الآية جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها : سبل ، لم يكن له مال أحبّ إليه منها ، فقال : هي صدقة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود في قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر } قال : الجنة . وأخرج ابن جرير ، عن عمرو بن ميمون ، والسدي مثله . وأخرج ابن المنذر ، عن مسروق مثله .

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

قوله : { كُلُّ الطعام } أي المطعوم ، ولحل مصدر يستوي فيه المفرد والجمع المذكر والمؤنث وهو الحلال ، و { إسرائيل } هو يعقوب كما تقدم تحقيقه . ومعنى الآية : أن كل المطعومات كانت حلالاً لبني يعقوب لم يحرم عليهم شيء منها إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وسيأتي بيان ما هو الذي حرمه على نفسه ، وهذا الاستثناء متصل من اسم كان . وقوله { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } متعلق بقوله : { كَانَ حِلاًّ } أي : أن كل المطعومات كانت حلالاً { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } أي : كان ما عدا المستثنى حلالاً لهم : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم ، وفيه ردّ على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم ، وبغيهم ، كما في قوله : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طيبات أُحِلَّتْ لَهُمْ } الآية [ النساء : 160 ] . وقوله : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } [ الأنعام : 146 ] إلى قوله : { ذلك جزيناهم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] وقالوا إنها محرّمة على من قبلهم من الأنبياء ، يريدون بذلك تكذيب ما قصّه الله على نبينا صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز ، ثم أمره الله سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم ، ويجعل بينه وبينهم حكماً ما أنزله الله عليهم لا ما أنزله عليه فقال : { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين } حتى تعلموا صدق ما قصّه الله في القرآن من أنه لم يحرّم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرّمه يعقوب على نفسه . وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ،
ثم قال : { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد إحضار التوراة ، وتلاوتها { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } أي : المفرطون في الظلم المتبالغون فيه ، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه ، وما يعتقده شرعاً صحيحاً ، ثم جادل من بعد ذلك مفترياً على الله الكذب ،
ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلاً مدفوعاً ، وكان ما قصّه الله سبحانه في القرآن ، وصدقته التوراة صحيحاً صادقاً ، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه ، أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب ، فقال : { قُلْ صَدَقَ الله فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم } أي : ملة الإسلام التي أنا عليها ، وقد تقدم بيان معنى الحنيف ، وكأنه قال لهم إذا تبين لكم صدقي ، وصدق ما جئت به ، فادخلوا في ديني ، فإن من جملة ما أنزله الله عليّ

{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] .
وقد أخرج الترمذي ، وحسنه ، عن ابن عباس : «أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : فأخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال " كان يسكن البدو ، فاشتكى عرق النساء ، فلم يجد شيئاً يلائمه إلا تحريم الإبل ، وألبانها ، فلذلك حرمها ، " قالوا صدقت وذكر الحديث . وأخرجه أيضاً أحمد ، والنسائي . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس في الآية؛ قال : العرق أجده عرق النساء ، فكان يبيت له زق يعني صياح ، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحماً فيه عرق ، فحرمته اليهود . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس من قوله ما أخرجه الترمذي سابقاً عنه مرفوعاً . وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة ، عن ابن عباس أنه كان يقول : الذي حرّم إسرائيل على نفسه ، زائدتا الكبد ، والكليتان ، والشحم إلا ما كان على الظهر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل ، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين } وكذبوا ليس في التوراة .

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)

هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن بيت المقدس أفضل ، وأعظم من الكعبة لكونه مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة فردّ الله ذلك عليهم بقوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } الآية ، فقوله : { وُضِعَ } صفة لبيت ، وخبر « إن » قوله : { لَلَّذِى بِبَكَّةَ مباركاً } فنبه تعالى بكونه أول متعبد على أنه أفضل من غيره ، وقد اختلف في الباني له في الابتداء ، فقيل : الملائكة ، وقيل : آدم ، وقيل : إبراهيم ، ويجمع بين ذلك بأول من بناه الملائكة ، ثم جدده آدم ، ثم إبراهيم . وبكة علم للبلد الحرام ، وكذا مكة ، وهما لغتان ، وقيل : إن بكة؛ اسم لموضع البيت ، ومكة اسم للبلد الحرام؛ وقيل : بكة للمسجد ، ومكة للحرم كله؛ قيل : سميت بكة لازدحام الناس في الطواف ، يقال : بك القوم : ازدحموا . وقيل : البك : دق العنق ، سميت بذلك؛ لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة . وأما تسميتها بمكة ، فقيل : سميت بذلك لقلة ما بها؛ وقيل : لأنها تمك المخ من العظم بما ينال ساكنها من المشقة ، ومنه مككت العظم : إذا أخرجت ما فيه ، ومك الفصيل ضرع أمه ، وامكته : إذا امتصه؛ وقيل : سميت بذلك؛ لأنها تمك من ظلم فيها ، أي : تهلكه . قوله : { مُبَارَكاً } حال من الضمير في { وضع } أو من متعلق الظرف؛ لأن التقدير للذي استقر ببكة مباركاً ، والبركة : كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه ، أو يقصده ، أي : الثواب المتضاعف .
والآيات البينات الواضحات : منها الصفا ، والمروة ، ومنها أثر القدم في الصخرة الصماء ، ومنها أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن ، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها انحراف الطيور ، عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان ، ومنها هلاك من يقصده من الجبابرة ، وغير ذلك . وقوله : { مَّقَامِ إبراهيم } بدل من آيات قاله محمد بن يزيد المبرد . وقال في الكشاف : إنه عطف بيان . وقال الأخفش : إنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، والتقدير منها مقام إبراهيم؛ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف أي : هي مقام إبراهيم ، وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات ، وهي : جمع بالمقام ، وهو : فرد ، وأجاب بأن المقام جعل ، وحده بمنزلة آيات لقوّة شأنه ، أو بأنه مشتمل على آيات ، قال : ويجوز أن يراد فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله؛ لأن الإثنين نوع من الجمع .
قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } جملة مستأنفة لبيان حكم من أحكام الحرم ، وهو : أن من دخله كان آمناً ، وبه استدل من قال : إن من لجأ إلى الحرم ، وقد وجب عليه حدّ من الحدود ، فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ، ومن تابعه ، وخالفه الجمهور ، فقالوا : تقام عليه الحدود في الحرم .

وقد قال جماعة : إن الآية خبر في معنى الأمر ، أي : ومن دخله ، فأمنوه كقوله : { فلا رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا .
قوله : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } اللام في قوله : { لِلَّهِ } هي التي يقال لها : لام الإيجاب ، والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيداً حرف « على » فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب ، كما إذا قال القائل لفلان عليّ كذا ، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيداً لحقه ، وتعظيماً لحرمته ، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل كالصبي ، والعبد . وقوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس . وبه قال أكثر النحويين . وأجاز الكسائي أن يكون في موضع رفع بحج . والتقدير : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ، وقيل : إن « من » حرف شرط ، والجزاء محذوف ، أي : من استطاع إليه سبيلاً فعليه الحج .
وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل الزاد ، والراحلة ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، وحكاه الترمذي ، عن أكثر أهل العلم ، وهو : الحق . قال مالك : إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج ، وإن لم يكن له زاد ، وراحلة إذا كان يقدر على التكسب ، وبه قال عبد الله بن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة . وقال الضحاك : إن كان شاباً قوياً صحيحاً ، وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولاً أوليا أن تكون الطريق إلى الحج آمنة ، بحيث يأمن الحاج على نفسه ، وماله الذي لا يجد زاداً غيره ، أما لو كانت غير آمنة ، فلا استطاعة؛ لأن الله سبحانه يقول : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } وهذا الخائف على نفسه ، أو ماله لم يستطع إليه سبيلاً بلا شك ، ولا شبهة . وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج . فقال الشافعي : لا يعطى حبة ، ويسقط عنه فرض الحج ووافقه جماعة ، وخالفه آخرون . والظاهر أن من تمكن من الزاد ، والراحلة ، وكانت الطريق آمنة بحيث يتمكن من مرورها ، ولو بمصانعة بعض الظلمة بدفع شيء من المال يتمكن منه الحاج ، ولا ينقص من زاده ، ولا يجحف به ، فالحج غير ساقط عنه بل واجب عليه؛ لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال ، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة ، فلو وجد الرجل زاداً ، وراحلة ، ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج؛ لأنه لم يستطع إليه سبيلاً ، وهذا لا بد منه ، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد ، والراحلة ، فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد ، والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون ، ولعل وجه قول الشافعي : إنه سقط الحج ، أن أخذ هذا المكس منكر ، فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر ، وأنه بذلك غير مستطيع .

ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب ، فلو كان زمِناً بحيث لا يقدر على المشي ، ولا على الركوب فهذا ، وإن وجد الزاد ، والراحلة ، فهو لم يستطع السبيل .
قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } قيل : إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج؛ تأكيداً لوجوبه ، وتشديداً على تاركه ، وقيل : المعنى : ومن كفر بفرض الحج ، ولم يره واجباً ، وقيل : إن من ترك الحج ، وهو قادر عليه ، فهو كافر . وفي قوله : { فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة ، وخذلانه ، وبعده من الله سبحانه ما يتعاظمه سامعه ، ويرجف له قلبه ، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ، ومصلحتهم ، وهو : تعالى شأنه ، وتقدس سلطانه غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن علي بن أبي طالب في قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ . . . } الآية ، قال : كانت البيوت قبله ، ولكنه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن أبي ذر قال : «قلت يا رسول الله : أي مسجد وضع أوّل؟ قال : " المسجد الحرام ، " قلت : ثم أي؟ قال : " المسجد الأقصى ، " قلت : كم بينهما؟ قال : " أربعون سنة " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر ، قال : «خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، وكان إذ كان عرشه على الماء زَبْدةً بَيْضاءَ ، وكانت الأرض تحته ، كأنها حشفة فدحيت الأرض من تحته» . وأخرج نحوه ابن المنذر ، عن أبي هريرة .
وأخرج ابن المنذر ، والأزرقي ، عن ابن جريج قال : بلغنا أن اليهود قالت بيت المقدس أعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء ، ولأنه في الأرض المقدسة ، فقال المسلمون : بل الكعبة أعظم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ } الآية إلى قوله : { فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم } وليس ذلك في بيت المقدس : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } وليس ذلك في بيت المقدس : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } وليس ذلك في بيت المقدس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الله بن الزبير قال : إنما سميت بكة؛ لأن الناس يجيئون إليها من كل جانب حجاجاً . وروى سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن مجاهد : إنما سميت بكة؛ لأن الناس يتباكون فيها ، أي : يزدحمون .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حيان ، في قوله : { مُبَارَكاً } قال : جعل فيه الخير ، والبركة : { وَهُدىً للعالمين } يعني : بالهدى قبلتهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس : { فِيهِ ءايات بينات } فمنهن مقام إبراهيم ، والمشعر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الحسن في قوله : { فِيهِ ءايات بينات } قال : مقام إبراهيم : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } . وأخرج الأزرقي ، عن زيد بن أسلم نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } قال : كان هذا في الجاهلية ، كان الرجل لو جرَّ كل جريرة على نفسه ، ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ، ولم يطلب ، فأما في الإسلام ، فإنه لا يمنع من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحدّ ، ومن قتل فيه قتل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والأزرقي ، عن عمر بن الخطاب قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ، ولا يطعم ، ولا يسقى ، فإذا خرج أخذ بذنبه . وقد روي عنه هذا المعنى من طرق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عنه قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أعرض له . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير ، عن ابن عمر قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هِجْتهُ . وأخرج الشيخان ، وغيرهما ، عن أبي شريح العدوي قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح فقال : " إن مكة حرّمها الله ، ولم يحرّمها الناس ، فلا يحلّ لامريء يؤمن بالله ، واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقولوا : إن الله قد أذن لرسوله ، ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، ثم عادت حرمتها اليوم ، كحرمتها أمس "
وأخرج الدارقطني ، والحاكم وصححه ، عن أنس : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقيل : ما السبيل؟ قال : " الزاد ، والراحلة " وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر مرفوعاً : أنه قام رجل ، فقال : ما السبيل؟ فقال : " الزاد ، والراحلة " . وأخرج الدارقطني ، والبيهقي في سننهما من طريق الحسن ، عن أمه ، عن عائشة قالت : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السبيل إلى الحج؟ قال :

" الزاد ، والراحلة " وأخرج الدارقطني في سننه ، عن ابن مسعود مرفوعاً مثله . وأخرج الدارقطني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه مرفوعاً مثله . وأخرج الدارقطني ، عن جابر مرفوعاً مثله . وقد روى هذا الحديث من طرق أقلّ أحواله أن يكون حسناً لغيره ، فلا يضره ما وقع من الكلام على بعض طرقه ، كما هو معروف .
وأخرج الدارقطني ، عن علي مرفوعاً في الآية : «أنه سئل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " تجد ظهر بعير " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن عمر بن الخطاب في قوله : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } قال : الزاد ، والراحلة ، وأخرجا عن ابن عباس مثله . وأخرجه عنه مرفوعاً ابن ماجه ، والطبراني ، وابن مردويه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عنه قال : السبيل أن يصح بدن العبد ، ويكون له ثمن زاد ، وراحلة من غير أن يجحف به . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عنه قال : { سَبِيلاً } من وجد إليه سعة ، ولم يحل بينه ، وبينه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الله بن الزبير قال : الاستطاعة : القوّة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن النخعي قال : إن المحرم للمرأة من السبيل الذي قال الله . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي محرم . واختلفت الأحاديث في قدر المدة ، ففي لفظ ثلاثة أيام ، وفي لفظ يوم وليلة ، وفي لفظ بريد .
وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زاداً ، وراحلة ، ولم يحج . فأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ملك زاداً ، وراحلة تبلغه إلى بيت الله ، ولم يحج بيت الله ، فلا عليه بأن يموت يهودياً ، أو نصرانياً " وذلك بأن الله يقول : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } . وفي إسناده هلال الخراساني أبو هاشم . قال البخاري : منكر الحديث . وقيل : مجهول . وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ وفي إسناده أيضاً الحارث الأعور ، وفيه ضعف . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد في كتاب الإيمان ، وأبو يعلى ، والبيهقي ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ، ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس ، أو سلطان جائر ، أو حاجة ظاهرة ، فليمت على أيّ حال شاء يهودياً ، أو نصرانياً " وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عبد الرحمن بن سابط مرفوعاً مرسلاً مثله .

وأخرج سعيد بن منصور . قال السيوطي بسند صحيح ، عن عمر بن الخطاب قال : لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار ، فلينظروا كل من كان له جدة ، ولم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين . وأخرج الإسماعيلي عنه يقول : " من أطاق الحج ، ولم يحج ، فسواء عليه يهودياً مات ، أو نصرانياً " قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده : وهذا إسناد صحيح . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، عنه نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر : «من مات ، وهو موسر ، ولم يحج جاء يوم القيامة ، وبين عينيه مكتوب كافر» . وأخرج سعيد بن منصور ، عنه «من وجد إلى الحج سبيلاً سنة ، ثم سنة ، ثم سنة ثم مات ، ولم يحج لم يصلّ عليه ، ولا يدري مات يهودياً ، أو نصرانياً» . وأخرج سعيد بن منصور ، عن عمر بن الخطاب ، قال : لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه ، كما نقاتلهم على الصلاة ، والزكاة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عن العالمين } قال : من زعم أنه ليس بفرض عليه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في الآية قال : من كفر بالحج ، فلم يرجحه براً ، ولا تركه مأثماً . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن عكرمة قال : لما نزلت : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا } [ آل عمران : 85 ] قالت اليهود : فنحن مسلمون ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله فرض على المسلمين حج البيت ، " فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبوا أن يحجوا ، قال الله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } » .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عكرمة نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن الضحاك قال : «لما نزلت آية الحج { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } الآية ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب ، والنصارى ، واليهود ، والمجوس ، والصابئين ، فقال : " إن الله فرض عليكم الحج ، فحجوا البيت ، " فلم يقبله إلا المسلمون ، وكفرت به خمس ملل ، قالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نستقبله ، فأنزل الله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } » «وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي في سننه ، عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن أبي داود نفيع قال : «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } الآية ، فقام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله من تركه كفر؟ فقال : " من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حج لا يرجو ثوابه ، فهو ذاك "

وأخرج ابن جرير ، عن عطاء بن أبي رباح في الآية قال : من كفر بالبيت . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله : { وَمَن كَفَرَ } قال : « من كفر بالله ، واليوم الآخر » . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد مثله من قوله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد أنه سئل عن ذلك ، فقرأ : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } إلى قوله : { سَبِيلاً } ثم قال : { وَمَن كَفَرَ } بهذه الآيات . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود في الآية قال : { وَمَن كَفَرَ } فلم يؤمن به : فهو الكافر .

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

قوله : { قُلْ ياأهل الكتاب } خطاب لليهود ، والنصارى ، والاستفهام في قوله : { لِمَ تَكْفُرُونَ } للإنكار ، والتوبيخ . وقوله : { والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } جملة حالية مؤكدة للتوبيخ ، والإنكار ، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في شهيد يفيد مزيد التشديد ، والتهويل ، والاستفهام في قوله : { لِمَ تَصُدُّونَ } يفيد ما أفاده الاستفهام الأول . وقرأ الحسن : { تَصُدُّونَ } من أصد ، وهما لغتان : مثل صد اللحم ، وأصد : إذا تغير ، وأنتن ، وسبيل الله دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، والعوج : الميل ، والزيغ ، يقال عوج بالكسر إذا كان في الدين ، والقول ، والعمل ، وبالفتح في الأجسام كالجدار ، ونحوه ، روي ذلك عن أبي عبيدة ، وغيره ، ومحل قوله : { تبغونها عوجاً } النصب على الحال . والمعنى : تطلبون لها اعوجاجاً ، وميلاً عن القصد ، والاستقامة بإبهامكم على الناس بأنها كذلك تثقيفاً لتحريفكم ، وتقويماً لدعاويكم الباطلة . وقوله : { وَأَنْتُمْ شُهَدَاء } جملة حالية ، أي : كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام ، والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره ، كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم ، قيل : إن في التوراة أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام ، وأن فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وقيل : المراد : { وَأَنْتُمْ شُهَدَاء } أي : عقلاء ، وقيل : المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم مقبولون عندهم ، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذراً لهم عن طاعة اليهود ، والنصارى مبيناً لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ،
والاستفهام في قوله : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } للإنكار ، أي : من أين يأتيكم ذلك ، ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره ، وهو : تلاوة آيات الله عليكم ، وكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم؟ ومحل قوله : { وَأَنتُمْ } وما بعده النصب على الحال . ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم الذي : هو الإسلام ، وفي وصف الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادَّعوه من العوج . قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم ، وهم يشاهدونه ، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة؛ لأن آثاره ، وعلامته ، والقرآن الذي أوتيه فينا ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا ، وإن لم نشاهده . انتهى . ومعنى الاعتصام بالله التمسك بدينه ، وطاعته ، وقيل : بالقرآن ، يقال : اعتصم به ، واستعصم ، وتمسك ، واستمسك : إذا امتنع به من غيره ، وعصمه الطعام : منع الجوع منه .
قوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } أي : التقوى التي تحق له ، وهي : أن لا يترك العبد شيئاً مما يلزمه فعله ، ولا يفعل شيئاً مما يلزمه تركه ، ويبذل في ذلك جهده ، ومستطاعه .

قال القرطبي : ذكر المفسرون أنها لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ذلك ، فأنزل الله : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] فنسخت هذه الآية . روي ذلك عن قتادة ، والربيع ، وابن زيد . قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا . وقيل : إن قوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } مبين بقوله : { فاتقوا الله مَا استطعتم } والمعنى : اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم . قال : وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع ، والجمع ممكن ، فهو أولى . قوله : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } أي : لا تكونن على حال سوى حال الإسلام ، فالاستثناء مفرغ ، ومحل الجملة : أعني : قوله : { وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } النصب على الحال ، وقد تقدم في البقرة تفسير مثل هذه الآية . قوله : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً } الحبل لفظ مشترك ، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية ، وهو : إما تمثيل ، أو استعارة . أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام ، أو بالقرآن ، ونهاهم عن التفرق الناشيء عن الاختلاف في الدين ، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم ، وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام ، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين يقتل بعضهم بعضاً ، وينهب بعضهم بعضاً ، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر ، فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام . ومعنى قوله : { أصبحتم } صرتم ، وليس المراد به معناه الأصلي : وهو الدخول في وقت الصباح ، وشفا كل شيء : حرفه ، وكذلك شفيره ، وأشفى على الشيء : أشرف عليه ، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية . وقوله : { قَالَ كذلك } إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده أي : مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم . وقوله : { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى ، والازدياد منه .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال : مرّ شاس بن قيس - وكان شيخاً قد عسى في الجاهلية ، عظيم الكفر ، شديد الطعن على المسلمين ، شديد الحسد لهم - على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس ، والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم ، وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام . بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ، فأمر فتى شاباً معه من يهود ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم ذكرهم يوم بعاث ، وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار- وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس ، والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ، - ففعل فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم ، والله رددناها الآن جذعة ، وغضب الفريقان جميعاً ، وقالوا : قد فعلنا ، السلاح السلاح موعدكم الظاهرة - والظاهرة : الحرة - فخرجوا إليها ، وانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم ، فقال : « يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية ، وأنا بين أظهركم؟ بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟ » فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم لهم ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا ، وعانق الرجال بعضهم بعضاً ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس ، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس ، وما صنع { قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونَ بئيات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } إلى قوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } وأنزل في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ، ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } إلى قوله : { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وقد رويت هذه القصة مختصرة ، ومطولة من طرق .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } قال : كانوا إذا سألهم أحد تجدون محمداً؟ قالوا : لا ، قال : فصدوا الناس عنه ، وبغوا محمداً عوجاً هلاكاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة : لم تصدون عن الإسلام ، وعن نبي الله من آمن بالله ، وأنتم شهداء فيما تقرءون من كتاب الله أن محمداً رسول الله ، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ، ولا يجزي إلا به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، والإنجيل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { وَمَن يَعْتَصِم بالله } قال : يؤمن به . وأخرجوا عن أبي العالية قال : الاعتصام : الثقة بالله .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود في قوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : أن يطاع ، فلا يعصى ، ويذكر ، فلا ينسى ، ويشكر ، فلا يكفر .

وقد رواه الحاكم وصححه ، وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً بدون قوله : ويشكر ، فلا يكفر . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : حقّ تقاته أن يطاع ، فلا يعصى ، فلن تستطيعوا ، فأنزل الله بعد ذلك : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] وأخرج عبد بن حميد ، عنه نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : لم تنسخ ، ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ، ولا يأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ، ولو على أنفسهم ، وآبائهم ، وأبنائهم .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله : { واعتصموا بِحَبْلِ الله } قال : حبل الله القرآن . وقد وردت أحاديث أن كتاب الله هو حبل الله الممدود . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : { واعتصموا بحبل الله } بالإخلاص لله وحده . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن قال : بطاعته . وأخرج أيضاً ، عن قتادة قال : بعهده ، وأمره . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد قال : بالإسلام . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { إِذْ كُنتُم أَعْدَاء } قال : ما كان بين الأوس ، والخزرج في شأن عائشة . وأخرج ابن إسحاق قال : كانت الحرب بين الأوس ، والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام ، فأطفأ الله ذلك ، وألف بينهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار } يقول : كنتم على طرف النار ، من مات منكم ، وقع في النار ، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، واستنقذكم به من تلك الحفرة .

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

قوله : { وَلْتَكُن } قرأه الجمهور بإسكان اللام ، وقرىء بكسر اللام على الأصل ، و « من » في قوله : { مّنكُمْ } للتبعيض ، وقيل : لبيان الجنس . ورجح الأوّل بأن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر من فروض الكفايات يختص بأهل العلم الذين يعرفون كون ما يأمرون به معروفاً ، وينهون عنه منكراً . قال القرطبي : الأوّل أصح ، فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر فرض على الكفاية ، وقد عينهم الله سبحانه بقوله : { الذين إِنْ مكناهم فِى الارض } الآية [ الحج : 41 ] . وقرأ ابن الزبير : « ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم » قال أبو بكر بن الأنباري : وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين ، فألحقه بألفاظ القرآن . وقد روى أن عثمان قرأها كذلك ، ولكن لم يكتبها في مصحفه ، فدل على أنها ليست بقرآن . وفي الآية دليل على وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ووجوبه ثابت بالكتاب ، والسنة ، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة ، وأصل عظيم من أصولها ، وركن مشيد من أركانها ، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها . وقوله : { يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } من باب عطف الخاص على العام ، إظهاراً لشرفهما ، وأنهما الفردان الكاملان من الخير الذي أمر الله عباده بالدعاء إليه ، كما قيل في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة ، وحذف متعلق الأفعال الثلاثة ، أي : يدعون ، ويأمرون ، وينهون لقصد التعميم ، أي : كل من وقع منه سبب يقتضي ذلك ، والإشارة في قوله : { وَأُوْلئِكَ } ترجع إلى الأمة باعتبار اتصافها بما ذكر بعدها { هُمُ المفلحون } أي : المختصون بالفلاح ، وتعريف المفلحين للعهد ، أو للحقيقة التي يعرفها كل أحد .
قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ } هم : اليهود والنصارى عند جمهور المفسرين ، وقيل : هم المبتدعة من هذه الأمة ، وقيل : الحرورية ، والظاهر الأول . والبينات الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة لعدم الاختلاف . قيل : وهذا النهي عن التفرق ، والاختلاف يختص بالمسائل الأصولية ، وأما المسائل الفروعية الاجتهادية ، فالاختلاف فيها جائز ، وما زال الصحابة ، فمن بعدهم من التابعين ، وتابعيهم مختلفين في أحكام الحوادث ، وفيه نظر ، فإنه ما زال في تلك العصور المنكر للاختلاف موجوداً وتخصيص بعض مسائل الدين بجواز الاختلاف فيها دون البعض الآخر ليس بصواب ، فالمسائل الشرعية متساوية الاقدام في انتسابها إلى الشرع .
وقوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } منتصب بفعل مضمر أي : اذكر ، وقيل : بما يدل عليه قوله : { لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } فإن تقديره استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه ، أي : يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ، ووجوه الكافرين مسودة . ويقال إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته ، فاستبشر وابيض وجهه ، وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته ، فحزن واسودّ وجهه ، والتنكير في وجوه للتكثير ، أي : وجوه كثيرة .

وقرأ يحيى بن وثاب " تبيض " ، و " تسود " بكسر التاءين . وقرأ الزهري تبياض ، وتسواد . قوله : { أَكْفَرْتُمْ } أي : فيقال لهم : أكفرتم ، والهمزة للتوبيخ ، والتعجيب من حالهم ، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال ، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب ، قيل : هم أهل الكتاب ، وقيل : المرتدون ، وقيل : المنافقون ، وقيل : المبتدعون .
قوله : { فَفِى رَحْمَةِ الله } أي : في جنته ودار كرامته ، عبر عن ذلك بالرحمة إشارة إلى أن العمل لا يستقل بدخول صاحبه الجنة ، بل لا بد من الرحمة ، ومنه حديث : " لن يدخل أحد الجنة بعمله " وهو في الصحيح . وقوله : { هُمْ فِيهَا خالدون } جملة استئنافية جواب سؤال مقدر . وتلك إشارة إلى ما تقدم من تعذيب الكافرين ، وتنعيم المؤمنين .
وقوله : { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } جملة حالية ، وبالحق متعلق بمحذوف ، أي : متلبسة بالحق ، وهو العدل . وقوله : { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين } جملة تذييلية مقررة لمضمون ما قبلها ، وفي توجه النفي إلى الإرادة الواقعة على النكرة دليل على أنه سبحانه لا يريد فرداً من أفراد الظلم الواقعة على فرد من أفراد العالم . والمراد بما في السموات ، وما في الأرض مخلوقاته سبحانه ، أي : له ذلك يتصرف فيه كيف يشاء ، وعلى ما يريد ، وعبر ب " ما " تغليباً لغير العقلاء على العقلاء لكثرتهم ، أو لتنزيل العقلاء منزلة غيرهم . قال المهدوي : وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين ، والكافرين ، وأنه لا يريد ظلماً للعالمين ، وصله بذكر اتساع قدرته ، وغناه عن الظلم لكون ما في السموات ، وما في الأرض في قبضته ، وقيل : هو ابتداء كلام يتضمن البيان لعباده بأن جميع ما في السموات ، وما في الأرض له حتى يسألوه ، ويعبدوه ، ولا يعبدوا غيره . وقوله : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور } أي : لا إلى غيره ، لا شركة ، ولا استقلالاً .
وقد أخرج ابن مردويه ، عن أبي جعفر الباقر قال : «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير } قال : " الخير اتباع القرآن وسنتي " وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : كل آية ذكرها الله في القرآن في الأمر بالمعروف ، فهو الإسلام ، والنهي عن المنكر ، فهو عبادة الأوثان ، والشيطان . انتهى . وهو تخصيص بغير مخصص ، فليس في لغة العرب ، ولا في عرف الشرع ما يدل على ذلك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حيان قال : { يَدْعُونَ إِلَى الخير } أي : الإسلام : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف } بطاعة ربهم { وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } عن معصية ربهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن الضحاك في الآية قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهم : الرواة .

انتهى . ولا أدري ما وجه هذا التخصيص ، فالخطاب في هذه الآية ، كالخطاب بسائر الأمور التي شرعها الله لعباده ، وكلفهم بها . انتهى .
وأخرج أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والحاكم ، عن معاوية ، مرفوعاً نحوه ، وزاد : " كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة " وأخرج الحاكم ، عن عبد الله بن عمرو ، مرفوعاً نحوه أيضاً ، وزاد : " كلها في النار إلا ملة واحدة ، " فقيل له : ما الواحدة؟ قال : " ما أنا عليه اليوم ، وأصحابي " وأخرج ابن ماجه عن عوف بن مالك ، مرفوعاً نحوه ، وفيه : «فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ، قيل : يا رسول الله من هم؟ قال : الجماعة» وأخرجه أحمد من حديث أنس ، وفيه : «قيل يا رسول الله من تلك الفرقة؟ قال : الجماعة» . وقد وردت آيات ، وأحاديث كثيرة في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وفي الأمر بالكون في الجماعة ، والنهي عن الفرقة .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والخطيب ، عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ } قال : تبيض وجوه أهل السنة ، والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدع ، والضلالة . وأخرجه الخطيب ، والديلمي ، عن ابن عمر مرفوعاً وأخرجه أيضاً مرفوعاً أبو نصر السَّجْزي في الإبانة عن أبي سعيد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي بن كعب في الآية قال : صاروا فرقتين يوم القيامة ، يقال لمن اسود وجهه أكفرتم بعد إيمانكم؟ فهو الإيمان الذي كان في صلب آدم حيث كانوا أمة واحدة ، وأما الذين ابيضت وجوههم فهم الذين استقاموا على إيمانهم ، وأخلصوا له الدين فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه ، وجنته ، وقد روى غير ذلك .

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)

قوله : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } هذا كلام مستأنف يتضمن بيان حال هذه الأمة في الفضل على غيرها من الأمم ، و « كان » قيل : هي التامة ، أي : وجدتم ، وخلقتم خير أمة ، ومثله ما أنشده سيبويه :
وَجِيرانٍ لَنا كَانُوا كرام ... ومنه قوله تعالى { كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِى المهد صَبِيّاً } [ مريم : 29 ] وقوله : { واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } [ الأعراف : 86 ] . وقال الأخفش : يريد أهل أمة : أي خير أهل دين ، وأنشد :
فحلفتُ فلم أتْركْ لِنَفْسِك رِيبةً ... وَهَلْ يْأثَمَنْ ذُو أمَّةٍ وَهُوطَائِعَ
وقيل : معناه : كنتم في اللوح المحفوظ ، وقيل : كنتم منذ آمنتم . وفيه دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق ، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة ، وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم ، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها . كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم . قوله : { أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } أي : أظهرت لهم . وقوله : { تَأْمُرُونَ بالمعروف } الخ كلام مستأنف يتضمن بيان كونهم خير أمة مع ما يشتمل عليه من أنهم خير أمة ما أقاموا على ذلك ، واتصفوا به ، فإذا تركوا الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر زال عنهم ذلك ، ولهذا قال مجاهد : إنهم خير أمة على الشرائط المذكورة في الآية ، وهذا يقتضي أن يكون تأمرون ، وما بعده في محل نصب على الحال أي : كنتم خير أمة حال كونكم آمرين ناهين مؤمنين بالله ، وبما يجب عليكم الإيمان به من كتابه ، ورسوله ، وما شرعه لعباده ، فإنه لا يتم الإيمان بالله سبحانه إلا بالإيمان بهذه الأمور . قوله : { وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب } أي : اليهود إيماناً كإيمان المسلمين بالله ، ورسله وكتبه : { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ بل قالوا : نؤمن ببعض الكتاب ، ونكفر ببعض ، ثم بين حال أهل الكتاب بقوله : { مّنْهُمُ المؤمنون } وهم الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فإنهم آمنوا بما أنزل عليه ، وما أنزل من قبله : { وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } أي : الخارجون عن طريق الحق المتمردون في باطلهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولما جاء به ، فيكون هذا التفصيل على هذا كلاماً مستأنفاً جواباً ، عن سؤال مقدر ، كأنه قيل : هل منهم من آمن فاستحق ما وعده الله . قوله : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } أي : لن يضروكم بنوع من أنواع الضرر إلا بنوع الأذى ، وهو الكذب ، والتحريف ، والبهت ، ولا يقدرون على الضرر الذي هو الضرر في الحقيقة بالحرب ، والنهب ، ونحوهما ، فالاستثناء مفرغ ، وهذا وعد من الله لرسوله ، وللمؤمنين أن أهل الكتاب لا يغلبونهم ، وأنهم منصورون عليهم ، وقيل : الاستثناء منقطع . والمعنى : لن يضروكم ألبتة لكي يؤذونكم ، ثم بين سبحانه ما نفاه من الضرر بقوله : { وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار } أي : ينهزمون ولا يقدرون على مقاومتكم فضلاً عن أن يضروكم .

وقوله : { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } عطف على الجملة الشرطية ، أي : ثم لا يوجد لهم نصر ، ولا يثبت لهم غلب في حال من الأحوال ، بل شأنهم الخذلان ما داموا . وقد وجدنا ما وعدنا سبحانه حقاً ، فإن اليهود لم تخفق لهم راية نصر ، ولا اجتمع لهم جيش غلب بعد نزول هذه الآية ، فهي من معجزات النبوة . قوله : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } قد تقدم في البقرة معنى هذا التركيب . والمعنى : صارت الذلة محيطة بهم في كل حال ، وعلى كل تقدير في أي مكان وجدوا { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله } أي : إلا أن يعتصموا بحبل من الله ، قاله الفراء : أي : بذمة الله ، أو بكتابه { وَحَبْلٍ مّنَ الناس } أي : بذمة من الناس ، وهم المسلمون ، وقيل المراد بالناس : النبي صلى الله عليه وسلم { وَبَاءوا } أي : رجعوا { بِغَضَبٍ مّنَ الله } وقيل : احتملوا ، وأصل معناه في اللغة اللزوم ، والاستحقاق ، أي : لزمهم غضب من الله هم مستحقون له . ومعنى ضرب المسكنة : إحاطتها بهم من جميع الجوانب ، وهكذا حال اليهود ، فإنهم تحت الفقر المدقع ، والمسكنة الشديدة إلا النادر الشاذ منهم . والإشارة بقوله { ذلك } إلى ما تقدم من ضرب الذلة ، والمسكنة ، والغضب ، أي : وقع عليهم ذلك بسبب أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ، ويقتلون الأنبياء بغير حق ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الكفر ، وقتل الأنبياء بسبب عصيانهم لله ، واعتدائهم لحدوده . ومعنى الآية : أن الله ضرب عليهم الذلة ، والمسكنة ، والبواء بالغضب منه لكونهم كفروا بآياته ، وقتلوا أنبياءه بسبب عصيانهم ، واعتدائهم .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس في قوله : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في الآية قال : قال عمر بن الخطاب : لو شاء الله لقال : أنتم فكنا كلنا ، ولكن قال { كنتم } في خاصة أصحاب محمد ، ومن صنعهم مثل صنعهم كانوا خير أمة أخرجت للناس ، وفي لفظ عنه أنه قال : يكون لأولنا ، ولا يكون لآخرنا . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية ، ثم قال : يا أيها الناس من سره أن يكون من تلك الأمة ، فليؤد شرط الله منها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة في الآية قال : نزلت في ابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن أبي هريرة في الآية قال : خير الناس للناس يأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام .

وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، عن معاوية بن حيدة : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الآية : « إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها ، وأكرمها » وروى من حديث معاذ ، وأبي سعيد نحوه . وقد وردت أحاديث كثيرة في الصحيحين ، وغيرهما أنه يدخل من هذه الأمة الجنة سبعون ألفاً بغير حساب ، ولا عذاب ، وهذا من فوائد كونها خير الأمم .
وأخرج ابن جرير عن الحسن : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى } قال : تسمعون منهم كذباً على الله بدعوتكم إلى الضلالة . وأخرج أيضاً ، عن ابن جريج قال : إشراكهم في عزير ، وعيسى ، والصليب . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، وقتادة : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } قالا : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون . وروى ابن المنذر ، عن الضحاك نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس } قال : بعهد من الله ، وعهد من الناس .

لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

قوله : { لَيْسُواْ سَوَاء } أي : أهل الكتاب غير مستوين بل مختلفين ، والجملة مستأنفة سبقت لبيان التفاوت بين أهل الكتاب . وقوله : { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } هو استئناف أيضاً يتضمن بيان الجهة التي تفاوتوا فيها من كون بعضهم أمة قائمة إلى قوله : { مّنَ الصالحين } قال الأخفش : التقدير من أهل الكتاب ذو أمة ، أي : ذو طريقة حسنة وأنشد :
وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع ... وقيل في الكلام حذف ، والتقدير : من أهل الكتاب أمة قائمة ، وأخرى غير قائمة ، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى ، كقول أبي ذؤيب :
عَصَيْتُ إلَيْها القَلْب إنِّيَ لأمرِهَا ... مُطيعٌ فَما أدرى أرشْدٌ طِلابُها؟
أراد أرشد أم غيّ . قال الفراء : أمة رفع بسواء ، والتقدير : ليس يستوى أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله ، وأمة كافرة . قال النحاس : وهذا القول خطأ من جهات : أحدها أنه يرفع أمة بسواء ، فلا يعود على اسم ليس شيء ، ويرفع بما ليس جارياً على الفعل ، ويضمر ما لا يحتاج إليه؛ لأنه قد تقدّم ذكر الكافرة ، فليس لإضمار هذا وجه . وقال أبو عبيدة : هذا مثل قولهم أكلوني البراغيث ، وذهبوا أصحابك . قال النحاس : وهذا غلط؛ لأنه قد تقدّم ذكرهم ، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر . انتهى .
وعندي أن ما قاله الفراء قويّ قويم ، وحاصله أن معنى الآية : لا يستوى أمة من أهل الكتاب شأنها كذا ، وأمة أخرى شأنها كذا ، وليس تقدير هذا المحذوف من باب تقدير ما لا حاجة إليه ، كما قال النحاس ، فإن تقدّم ذكر الكافرة لا يفيد مفاد تقدير ذكرها هنا ، وأما قوله : إنه لا يعود على اسم ليس شيء ، فيردّه أن تقدير العائد شائع مشتهر عند أهل الفن ، وأما قوله : ويرفع بما ليس جارياً على الفعل فغير مسلم . والقائمة : المستقيمة العادلة ، من قولهم : أقمت العود فقام : أي : استقام .
وقوله : { يَتْلُونَ } في محل رفع على أنه صفة ثانية لأمة ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال { آناء الليل } ساعاته ، وهو : منصوب على الظرفية . وقوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } ظاهره أن التلاوة كائنة منهم في حال السجود ، ولا يصح ذلك إذا كان المراد بهذه الأمة الموصوفة في الآية : هم من قد أسلم من أهل الكتاب؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن قراءة القرآن في السجود ، فلا بدّ من تأويل هذا الظاهر بأن المراد بقوله : { وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وهم يصلون ، كما قاله الفراء ، والزجاج ، وإنما عبر بالسجود عن مجموع الصلاة ، لما فيه من الخضوع ، والتذلل . وظاهر هذا أنهم يتلون آيات الله في صلاتهم من غير تخصيص لتلك الصلاة بصلاة معينة ، وقيل : المراد بها : الصلاة بين العشاءين ، وقيل : صلاة الليل مطلقاً .

وقوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ } صفة أخرى لأمة : أي : يؤمنون بالله وكتبه ورسله ، ورأس ذلك الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقوله : { وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } صفتان أيضاً لأمة : أي : أن هذا من شأنهم ، وصفتهم . وظاهره يفيد أنهم يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر على العموم؛ وقيل : المراد بالأمر بالمعروف هنا : أمرهم باتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، والنهي عن المنكر : نهيهم عن مخالفته . وقوله : { ويسارعون فِى الخيرات } من جملة الصفات أيضاً : أي يبادرون بها غير متثاقلين عن تأديتها لمعرفتهم بقدر ثوابها . وقوله { وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين } أي من جملتهم ، وقيل : « مِن » بمعنى مع : أي : مع الصالحين ، وهم الصحابة رضي الله عنهم ، والظاهر أن المراد : كل صالح ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الأمة الموصوفة بتلك الصفات .
قوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } أيّ : خير كان { فَلَنْ يكفروه } أي : لن تعدموا ثوابه ، وعداه إلى المفعولين ، وهو لا يتعدّى إلا إلى واحد؛ لأنه ضمنه معنى الحرمان ، كأنه قيل : فلن تحرموه ، كما قاله صاحب الكشاف . قرأ الأعمش ، وابن وثاب ، وحفص ، ومرة ، والكسائي ، وخلف بالياء التحتية في الفعلين ، وهي قراءة ابن عباس ، واختارها أبو عبيد . وقرأ الباقون بالمثناة من فوق فيهما ، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعاً . والمراد : بالمتقين كل من ثبتت له صفة التقوى ، وقيل : المراد من تقدّم ذكره ، وهم الأمة الموصوفة بتلك الصفة ، ووضع الظاهر موضع المضمر مدحاً لهم ، ورفعاً من شأنهم .
وقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } قيل : هم بنو قريظة ، والنضير . قال مقاتل : لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم في هذه الآية . والظاهر أن المراد بذلك : كل من كفر بما يجب الإيمان به . ومعنى : { لَن تُغْنِىَ } لن تدفع ، وخص الأولاد؛ لأنهم أحبّ القرابة ، وأرجاهم لدفع ما ينوبه .
وقوله : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ } بيان لعدم إغناء أموالهم التي كانوا يعوّلون عليها . والصرّ : البرد الشديد ، أصله من الصرير الذي هو الصوت ، فهو : صوت الريح الشديد . وقال الزجاج : صوت لهب النار التي في تلك الريح . ومعنى الآية : مثل نفقة الكافرين في بطلانها ، وذهابها ، وعدم منفعتها ، كمثل زرع أصابه ريح باردة ، أو نار فأحرقته ، أو أهلكته ، فلم ينتفع أصحابه بشيء منه بعد أن كانوا على طمع من نفعه ، وفائدته . وعلى هذا فلا بدّ من تقدير في جانب المشبه به ، فيقال : كمثل زرع أصابته ريح فيها صرّ ، أو مثل إهلاك ما ينفقون ، كمثل إهلاك ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } أي : المنفقين من الكافرين { ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بالكفر المانع من قبول النفقة التي أنفقوها ، وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص؛ لأن الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول .

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن منده ، وأبو نعيم في المعرفة ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر ، عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا ، وصدّقوا ، ورغبوا في الإسلام ، قالت أحبار يهود ، وأهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ، وتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وذهبوا إلى غيره ، فأنزل الله { لَيْسُواْ سَوَاء . . } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } يقول : مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه ، ولم تتركه ، كما تركه الآخرون ، وضيعوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم قال : { أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } عادلة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { آناء الليل } قال : جوف الليل . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع قال : ساعات الليل . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود في قوله : { لَيْسُواْ سَوَاء } قال : لا يستوى أهل الكتاب ، وأمة محمد : { يَتْلُونَ ءايات الله ءَانَاء اليل } قال : صلاة العتمة هم : يصلونها ، ومن سواهم من أهل الكتاب لا يصلونها . وأخرج أحمد ، والنسائي ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني . قال السيوطي : بسند حسن ، عن ابن مسعود قال : «أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ليلة ، ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، فقال : " أما إنه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم " ولفظ ابن جرير ، والطبراني فقال : إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب . قال : وأنزلت هذه الآية : { ليسوا سواء } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن منصور قال : بلغني أنها نزلت هذه الآية : { يَتْلُونَ ءايات الله ءانَاء اليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } فيما بين المغرب ، والعشاء .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة { فَلَنْ تكفروه } قال : لن يضلّ عنكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن { فَلَنْ تكفروه } قال : لن تظلموه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ في الآية يقول : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ } أي : المشركون ، ولا يتقبل منهم ، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون ، فأصابه ريح فيها صرّ ، فأهلكته ، فكذلك أنفقوا ، فأهلكهم شركهم . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { فِيهَا صِرٌّ } قال : برد شديد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

البطانة مصدر يسمى به الواحد ، والجمع ، وبطانة الرجل : خاصته الذين يستبطنون أمره ، وأصله البطن الذي هو : خلاف الظهر ، وبطن فلان بفلان يبطن بطوناً ، وبطانة : إذا كان خاصاً به ، ومنه قول الشاعر :
وهم خُلْصائي كلهم وَبِطَانَتي ... وهم عَيْبَتي مِنْ دُونِ كلّ قَريبِ
قوله : { مّن دُونِكُمْ } أي : من سواكم ، قاله الفراء : أي : من دون المسلمين ، وهم الكفار ، أي : بطانة كائنة من دونكم ، ويجوز أن يتعلق بقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ } . وقوله : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } في محل نصب صفة لبطانة ، يقال لا ألوك جهداً : أي : لا أقصر . قال امرؤ القيس :
وَمَا المرء مَا دَامت حشَاشَةُ نفْسِه ... بِمُدْركِ أطْرافِ الخُطَوبِ وَلا آلِ
والمراد : لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم ، وإنما عدّي إلى مفعولين لكونه مضمناً معنى المنع ، أي : لا يمنعونكم خبالاً ، والخبال ، والخبل : الفساد في الأفعال ، والأبدان ، والعقول . قال أوس :
أبَنِي لُبُنَي لَستُم بيَدٍ ... إلا يداً مَخبْولَةَ العَضد
أي : فاسدة العضد . قوله : { وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } « ما » مصدرية ، أي : ودّوا عنتكم ، والعنت المشقة ، وشدة الضرر ، والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي . قوله : { قَدْ بَدَتِ البغضاء } هي : شدة البغض ، كالضراء لشدة الضر . والأفواه جمع فم . والمعنى : أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم؛ لأنهم لما خامرهم من شدة البغض ، والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم ، فتركوا التقية ، وصرحوا بالتكذيب . أما اليهود ، فالأمر في ذلك واضح . وأما المنافقون ، فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم . وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم { وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } لأن فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور ، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جداً . ثم إنه سبحانه امتنّ عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان . قوله : { هَاأَنتُمْ أُوْلاء } جملة مصدرة بحرف التنبيه ، أي : أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم ، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية . فقال { تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } ، وقيل : إن قوله : { تُحِبُّونَهُمْ } خبر ثان لقوله { أنتم } ، وقيل : إن أولاء موصول ، و { تحبونهم } صلته أي : تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان ، أو لما بينكم ، وبينهم من القرابة : { وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد . قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ } أي : بجنس الكتاب جميعاً ، ومحل الجملة النصب على الحال ، أي : لا يحبونكم ، والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم ، فما بالكم تحبونهم ، وهم لا يؤمنون بكتابكم . وفيه توبيخ لهم شديد ، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة ، والشدّة ممن هو على الباطل { وإذا لقوكم قالوا آمنا } نفاقاً وتقية { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ } تأسفاً ، وتحسراً ، حيث عجزوا عن الانتقام منكم ، والعرب تصف المغتاظ ، والنادم يعضّ الأنامل ، والبنان ، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم ، فقال : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت ، وهم عليه ، ثم قال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فهو يعلم ما في صدوركم ، وصدورهم ، والمراد بذات الصدور : الخواطر القائمة بها ، وهو كلام داخل تحت قوله : { قُلْ } فهو من جملة المقول .

قوله : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم ، وحسنة ، وسيئة يعمان كل ما يحسن ، وما يسوء . وعبر بالمسّ في الحسنة ، وبالإصابة في السيئة ، للدلالة على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة ، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة ، وقيل : إن المسّ مستعار لمعنى الإصابة . ومعنى الآية : أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلاً؛ لأن يتخذ بطانة { وَأَن تَصْبِرُواْ } على عداوتهم ، أو على التكاليف الشاقة { وَتَتَّقُواْ } موالاتهم ، أو ما حرّمه الله عليكم { يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } ، يقال ضارّه يضوره ، ويضيره ضيراً ، وضيوراً : بمعنى ضرّه يضره ، وبه قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو . وقرأ الكوفيون ، وابن عامر لا يضركم بضم الراء ، وتشديدها من ضرّ يضر ، فهو على القراءة الأولى مجزوم على أنه جواب الشرط ، وعلى القراءة الثانية مرفوع على تقدير إضمار الفاء ، كما في قول الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... قاله الكسائي ، والفراء ، وقال سيوبيه : إنه مرفوع على نية التقديم ، أي : لا يضركم أن تصبروا . وحكى أبو زيد عن المفضل عن عاصم «لا يضركم» بفتح الراء ، و { شيئاً } صفة مصدر محذوف .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار ، والحلف في الجاهلية ، فأنزل الله فيهم ينهاهم ، عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً من دونكم . . . } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : هم المنافقون . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن أبي أمامة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " هم الخوارج . " قال السيوطي ، وسنده جيد . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ } أي : بكتابكم وبكتابهم ، وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم أحق بالبغضاء ، لهم منهم لكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } يعني : النصر على العدوّ ، والرزق ، والخير { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ } يعني القتل ، والهزيمة ، والجهد
.

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

العامل في «إذ» فعل محذوف ، أي : واذكر إذ غدوت من منزل أهلك ، أي : من المنزل الذي فيه أهلك . وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد . وقال الحسن : في يوم بدر . وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : في غزوة الخندق . قوله : { تُبَوّىء } أي : تتخذ لهم مقاعد للقتال ، وأصل التبوّء اتخاذ المنزل ، يقال بوّأته منزلاً : إذا أسكنته إياه ، والفعل في محل نصب على الحال . ومعنى الآية : واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال ، أي : أماكن يقعدون فيها ، وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو : الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة ، كما سيأتي؛ لأنه قد يعبر بالغدوّ ، والرواح ، عن الخروج ، والدخول من غير اعتبار أصل معناهما ، كما يقال ، أضحى ، وإن لم يكن في وقت الضحى .
قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } هو : بدل من { إذ غدوت } ، أو متعلق بقوله { تبوّىء } ، أو بقوله { سميع عليم } ، والطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر يوم أحد ، والفشل الجبن ، وَالْهَمُّ من الطائفتين كان بعد الخروج ، لما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه من المنافقين ، فحفظ الله قلوب المؤمنين ، فلم يرجعوا ، وذلك قوله : { والله وَلِيُّهُمَا } .
قوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } جملة مستأنفة سيقت لتصبيرهم بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر . وبدر اسم لماء كان في موضع الوقعة ، وقيل : هو اسم الموضع نفسه ، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله . وأذلة جمع قلة ، ومعناه : أنهم كانوا بسبب قلتهم أذلة ، وهو : جمع ذليل استعير للقلة ، إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة ، بل كانوا أعزة . والنصر : العون . وقد شرح أهل التواريخ ، والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح ، فلا حاجة لنا في سياق ذلك هاهنا .
قوله : { إِذْ تَقُولُ } متعلق بقوله : { نَصَرَكُمُ } والهمزة في قوله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ } للإنكار منه عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة ، ومعنى الكفاية : سدّ الخلة ، والقيام بالأمر ، والإمداد في الأصل : إعطاء الشيء حالاً بعد حال ، والمجيء ب " لن " لتأكيد النفي ، وأصل الفور : القصد إلى الشيء ، والأخذ فيه بجدّ ، وهو : من قولهم فارت القدر تفور فوراً ، وفوراناً . إذا غلت ، والفور : الغليان ، وفار غضبه : إذا جاش ، وفعله من فوره أي : قبل أن يسكن ، والفوّارة ما يفور من القدر ، استعير للسرعة ، أي : إن يأتوكم من ساعتهم هذه يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر عن ذلك .
قوله : { مُسَوّمِينَ } بفتح الواو اسم مفعول ، وهي : قراءة ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، ونافع : أي : معلمين بعلامات . وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وعاصم { مسومين } بكسر الواو اسم فاعل ، أي : معلمين أنفسهم بعلامة .

ورجح ابن جرير هذه القراءة ، والتسويم إظهار سيما الشيء . قال كثير من المفسرين : { مُسَوّمِينَ } أي : مرسلين خيلهم في الغارة ، وقيل : إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض ، وقيل : حمر ، وقيل : خضر ، وقيل : صفر ، فهذه هي العلامة التي علموا بها أنفسهم حكى ذلك عن الزجاج ، وقيل : كانوا على خيل بلق ، وقيل : غير ذلك . قوله : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ } كلام مبتدأ غير داخل في مقول القول ، والضمير في قوله : { جعله } للإمداد المدلول عليه بالفعل ، أو للتسويم ، أو للإنزال ، ورجح الأوّل الزجاج ، وصاحب الكشاف . وقوله : { إِلاَّ بشرى } استثناء مفرّغ من أعم العام ، والبشرى اسم من البشارة ، أي : إلا لتبشروا بأنكم تنصرون ، ولتطمئن قلوبكم به ، أي : بالإمداد ، واللام لام كي ، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر ، وطمأنينة للقلوب ، وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } لا من عند غيره ، فلا تنفع كثرة المقاتلة ، ووجود العدة .
قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } متعلق بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } وقيل : متعلق بقوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } وقيل : متعلق بقوله : { يُمْدِدْكُمْ } والطرف الطائفة ، والمعنى : نصركم الله ببدر ليقطع طائفة من الكفار ، وهم : الذين قتلوا يوم بدر ، أو وما النصر إلا من عند الله ليقطع تلك الطائفة ، أو يمددكم ليقطع . ومعنى يكبتهم يحزنهم ، والمكبوت المحزون . وقال بعض أهل اللغة : معناه يكبدهم ، أي : يصيبهم بالحزن ، والغيظ في أكبادهم ، وهو غير صحيح ، فإن معنى كبت أحزن ، وأغاظ ، وأذل ، ومعنى كبد : أصاب الكبد { فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ } أي : غير ظافرين بمطلبهم .
قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء } جملة اعتراضية بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، أي : أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك ، أو الهزيمة ، أو التوبة إن أسلموا ، أو العذاب ، فقوله : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ } عطف على قوله ، أو يكبتهم ، وقال الفراء : إنّ « أو » بمعنى « إلا أن » ، بمعنى ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم ، فتفرح بذلك ، أو يعذبهم فتشفى بهم .
قوله : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } كلام مستأنف لبيان سعة ملكه { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أن يغفر له : { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } أن يعذبه يفعل في ملكه ما يشاء ، ويحكم ما يريد { لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] وفي قوله : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه ، وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة ، والرحمة على وجه المبالغة ، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل .
وقد أخرج ابن إسحاق ، والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، والحصين بن عبد الرحمن بن أسعد بن معاذ قالوا : كان يوم أحد يوم بلاء ، وتمحيص ، اختبر الله به المؤمنين ، ومحق به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه ، وهو مستخف بالكفر ، ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته .

وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك ، ومعاتبة من عاتب منهم ، يقول الله لنبيه : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ . . . } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ . . . } الآية قال : يوم أحد . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { تُبَوّىء المؤمنين } قال : توطن . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن أن الآية في يوم الأحزاب . وقد ورد في كتب السير ، والتاريخ كيفية الاختلاف في المشورة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد ، فمن قائل نخرج إليهم ، ومن قائل نبقى في المدينة ، فخرج ، وكان من جملة المشيرين عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين ، كان رأيه البقاء في المدينة ، والمقاتلة فيها ، ثم لما خولف في رأيه انخذل بمن معه من المنافقين ، وهم قدر الثلث من القوم الذين خرج بهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن جابر قال : فينا نزلت في بني حارثة ، وبني سلمة : { إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } وما يسرني أنها لم تنزل لقوله : { والله وَلِيُّهُمَا } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ } قال : ذلك يوم أحد . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : هم بنو حارثة ، وبنو سلمة .
وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } إلى { ثلاثة آلاف مّنَ الملئكة مُنزَلِينَ } في قصة بدر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } يقول : وأنتم قليل ، وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الشعبي : أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله : { أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ ربكم بثلاثة آلاف } إلى قوله : { مُسَوّمِينَ } قال : فبلغت كرزاً ، فلم يمد المشركين ، ولم يمدّ المسلمين بالخمسة .
وأخرج ابن جرير عن الشعبي لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال : { وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا } يعني كرزاً ، وأصحابه { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ } فبلغ كرزاً ، وأصحابه الهزيمة ، فلم يمدهم ، ولم ينزل الخمسة ، وأمدّوا بعد ذلك بألف ، فهم أربعة آلاف .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في الآية قال : أمدّوا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف ، وذلك يوم بدر .
وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة في قوله : { بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } الآية ، قال : هذا يوم أحد ، فلم يصبروا ، ولم يتقوا ، فلم يمدّوا يوم أحد ، ولو أمدّوا لم ينهزموا يومئذ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا } يقول : من سفرهم هذا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عكرمة { من فورهم } قال : من وجههم . وأخرج ابن جرير عن الحسن ، والربيع ، وقتادة ، والسديّ مثله ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد من فورهم قال : من غضبهم . وأخرجا عن أبي صالح مولى أم هانىء مثله . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { مُسَوّمِينَ } قال : معلّمين ، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سوداء ، ويوم أحد عمائم حمراء . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجراً بها ، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر . وأخرج ابن إسحاق ، والطبراني عن ابن عباس قال : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء ، قد أرسلوها في ظهورهم ، ويوم حنين عمائم حمراء ، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون عدداً ، ومدداً لا يضربون . وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير لا يتعلق به كثير فائدة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } قال قطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار ، وقتل صناديدهم ، ورءوسهم ، وقادتهم في الشرّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم في قوله : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } قال : هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم ، وبقيت طائفة . وأخرج ابن جرير ، عن السديّ قال : ذكر الله قتلى المشركين بأحد ، وكانوا ثمانية عشر رجلاً ، فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ } ثم ذكر الله الشهداء ، فقال : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله أمواتا } [ آل عمران : 169 ] . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أَوْ يَكْبِتَهُمْ } قال : يحزنهم .
وأخرج ابن جرير ، عن قتادة ، والربيع مثله . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في وجهه حتى سال الدم ، فقال : « كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ »

فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء . . . } الآية . وقد روي هذا المعنى في روايات كثيرة . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد " اللهم العن أبا سفيان ، اللهمّ العن الحارث بن هشام ، اللهمّ العن سهيل بن عمرو ، اللهمّ العن صفوان بن أمية ، " فنزلت هذه الآية : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء } » . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما أيضاً من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد ، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع : " اللهمّ أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ، " يجهر بذلك . وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : " اللهمّ العن فلاناً ، وفلاناً لأحياء من أحياء العرب ، " حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء } وفي لفظ : " اللهم العن لحيان ، ورعلا ، وذكوان ، وعصية عصت الله ورسوله ، " ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَىْء } الآية .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)

قوله : { يا أيها الذين آمنوا } قيل : هو كلام مبتدأ للترهيب ، والترغيب فيما ذكر؛ وقيل : هو اعتراض بين أثناء قصة أحد . وقوله : { أضعافا مضاعفة } ليس لتقييد النهي لما هو معلوم من تحريم الربا على كل حال ، ولكنه جيء به باعتبار ما كانوا عليه من العادة التي يعتادونها في الربا ، فإنهم كانوا يربون إلى أجل ، فإذا حل الأجل زادوا في المال مقداراً يتراضون عليه ، ثم يزيدون في أجل الدّين ، فكانوا يفعلون ذلك مرّة بعد مرّة حتى يأخذ المربي أضعاف دينه الذي كان له في الابتداء؛ وأضعافاً حال ، ومضاعفة نعت له ، وفيه إشارة إلى تكرار التضعيف عاماً بعد عام ، والمبالغة في هذه العبارة تفيد تأكيد التوبيخ . قوله : { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } فيه الإرشاد إلى تجنب ما يفعله الكفار في معاملاتهم . قال كثير من المفسرين : وفيه أنه يكفر من استحلّ الربا ، وقيل : معناه : اتقوا الربا الذي ينزع منكم الإيمان ، فتستوجبون النار ، وإنما خصّ الربا في هذه الآية؛ لأنه الذي توعد الله عليه بالحرب منه لفاعله .
وقوله : { وَأَطِيعُواْ الله والرسول } حذف المتعلق مشعر بالتعميم ، أي : في كل أمر ، ونهي { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : راجين الرحمة من الله عز وجلّ .
وقوله : { وَسَارِعُواْ } عطف على أطيعوا ، وقرأ نافع ، وابن عامر « سارعوا » بغير واو ، وكذلك في مصاحف أهل المدينة ، وأهل الشام ، وقرأ الباقون بالواو . قال أبو علي : كلا الأمرين سائغ مستقيم . والمسارعة : المبادرة ، وفي الآية حذف ، أي : سارعوا إلى ما يوجب المغفرة من الطاعات . وقوله : { عَرْضُهَا السموات والارض } أي : عرضها ، كعرض السموات ، والأرض ، ومثله الآية الأخرى { عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض } [ الحديد : 21 ] وقد اختلف في معنى ذلك ، فذهب الجمهور إلى أنها تقرن السموات ، والأرض بعضها إلى بعض ، كما تبسط الثياب ، ويوصل بعضها إلى بعض ، فذلك عرض الجنة ، ونبه بالعرض على الطول؛ لأن الغالب أن الطول يكون أكثر من العرض ، وقيل : إن هذا الكلام جاء على نهج كلام العرب من الاستعارة دون الحقيقة ، وذلك أنها ما كانت الجنة من الاتساع ، والانفساح في غاية قصوى ، حسن التعبير عنها بعرض السموات ، والأرض مبالغة؛ لأنهما أوسع مخلوقات الله سبحانه فيما يعلمه عباده ، ولم يقصد بذلك التحديد . والسراء : اليسر ، والضراء : العسر . وقد تقدّم تفسيرهما ، وقيل السراء : الرخاء ، والضراء : الشدّة ، وهو مثل الأول ، وقيل : السراء في الحياة ، والضراء بعد الموت .
قوله : { والكاظمين الغيظ } يقال : كظم غيظه : أي : سكت عليه ، ولم يظهره ، ومنه كظمت السقاء : أي : ملأته . والكظامة : ما يسد به مجرى الماء ، وكظم البعير جرّته : إذا ردّها في جوفه ، وهو عطف على الموصول الذي قبله . قوله : { والعافين عَنِ الناس } أي : التاركين عقوبة من أذنب إليهم ، واستحق المؤاخذة ، وذلك من أجل ضروب الخير وظاهره العفو عن الناس سواء كانوا من المماليك أم لا .

وقال الزجاج وغيره : المراد بهم المماليك . واللام في { المحسنين } يجوز أن تكون للجنس ، فيدخل فيه كل محسن من هؤلاء ، وغيرهم ، ويجوز أن تكون للعهد ، فيختص بهؤلاء ، والأوّل أولى اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السياق ، فيدخل تحته كل من صدر منه مسمى الإحسان ، أيّ : إحسان كان .
قوله : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } هذا مبتدأ ، وخبره { أولئك } وقيل : معطوف على المتقين . والأوّل أولى ، وهؤلاء هم : صنف دون الصنف الأوّل ملحقين بهم ، وهم التوّابون ، وسيأتي ذكر سبب نزولها ، والفاحشة وصف لموصوف محذوف ، أي : فعلة فاحشة ، وهي تطلق على كل معصية . وقد كثر اختصاصها بالزنا . وقوله : { أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } أي : باقتراف ذنب من الذنوب ، وقيل : « أو » بمعنى الواو . والمراد ما ذكر ، وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة؛ وقيل غير ذلك . قوله : { ذَكَرُواْ الله } أي : بألسنتهم ، أو أخطروه في قلوبهم ، أو ذكروا وعده ، ووعيده { فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } أي : طلبوا المغفرة لها من الله سبحانه ، وتفسيره بالتوبة خلاف معناه لغة ، وفي الاستفهام بقوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } من الإنكار مع ما يتضمنه من الدلالة على أنه المختص بذلك سبحانه دون غيره ، أي : لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله ، وفيه ترغيب لطلب المغفرة منه سبحانه ، وتنشيط للمذنبين أن يقفوا في مواقف الخضوع ، والتذلل ، وهذه الجملة اعتراضية بين المعطوف ، والمعطوف عليه .
وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } عطف على فاستغفروا ، أي : لم يقيموا على قبيح فعلهم . وقد تقدّم تفسير الإصرار . والمراد به هنا : العزم على معاودة الذنب ، وعدم الإقلاع عنه بالتوبة منه . وقوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي : لم يصروا على فعلهم عالمين بقبحه . قوله : { أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ } الإشارة إلى المذكورين بقوله : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } . وقوله : { جَزَآؤُهُمْ } بدل اشتمال من اسم الإشارة . وقوله : { مَغْفِرَةٌ } خبر { مِنْ رَّبِّهِمْ } متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة ، أي : كائنة من ربهم . وقوله : { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف ، أي : أجرهم ، أو ذلك المذكور . وقد تقدّم تفسير الجنات ، وكيفية جري الأنهار من تحتها .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال : كانوا يتبايعون إلى الأجل ، فإذا جاء الأجل زادوا عليهم ، وزادوا في الأجل ، فنزلت : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عطاء؛ قال : كانت ثقيف تدين بني المغيرة في الجاهلية ، وذكر نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن معاوية بن قرّة؛ قال : كان الناس يتأوّلون هذه الآية : { واتقوا النار التى أُعِدَّتْ للكافرين } : اتقوا لا أعذبكم بذنوبكم في النار التي أعددتها للكافرين .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عطاء بن أبي رباح قال : قال المسلمون : يا رسول الله أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم ذنباً أصبح كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { وَسَارِعُواْ . . . } الآية . وأخرج ابن المنذر ، عن أنس بن مالك في تفسير : { وَسَارِعُواْ } قال : التكبيرة الأولى . وأخرج ابن جرير من طريق السديّ عن ابن عباس في قوله : { عَرْضُهَا السموات والأرض } مثل ما ذكرناه سابقاً عن الجمهور . وأخرج نحوه عنه سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق كريب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { الذين يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء والضراء }
يقول : في اليسر والعسر { والكاظمين الغيظ } يقول : كاظمين على الغيظ . وقد وردت أحاديث كثيرة . في ثواب من كظم الغيظ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن النخعي في الآية : قال : الظلم من الفاحشة ، والفاحشة من الظلم .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : إن في كتاب الله لآيتين ما أذنب عبد ذنباً ، فقرأهما ، فاستغفر الله إلا غفر له { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة } الآية ، وقوله : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ . . . } الآية [ النساء : 110 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن ثابت البُنَاني؛ قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية بكى { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة . . . } الآية . وأخرج الحكيم الترمذي عن عطاف بن خالد قال : بلغني أنه لما نزل قوله تعالى : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ } صاح إبليس بجنوده ، وحثا على رأسه التراب ، ودعا بالويل والثبور ، حتى جاءته جنوده من كل برّ ، وبحر ، فقالوا : مالك يا سيدنا؟ قال : آية نزلت في كتاب الله لا يضرّ بعدها أحداً من بني آدم ذنب ، قالوا : وما هي؟ فأخبرهم ، قالوا نفتح لهم باب الأهواء ، فلا يتوبون ، ولا يستغفرون ، ولا يرون إلا أنهم على الحق ، فرضي منهم بذلك .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والحميدي ، وعبد بن حميد ، وأهل السنن الأربع ، وحسنه النسائي ، وابن حبان ، والدارقطني في الإفراد ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن السني ، والبيهقي في الشعب ، والضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من رجل يذنب ذنباً ، ثم يقوم عند ذكر ذنبه فيتطهر ، ثم يصلى ركعتين ، ثم يستغفر الله من ذنبه ذلك إلا غفر الله له ، » ثم قرأ هذه الآية : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فاحشة .

. . } الآية وأخرج البيهقي في الشعب ، عن الحسن مرفوعاً نحوه ، ولكنه قال : « ثم خرج إلى براز من الأرض فصلى » . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي بكر الصديق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أصرّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة » وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ في قوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ } فيسكتون ، ولا يستغفرون . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل : { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } قال : أجر العاملين بطاعة الله الجنة .

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

قوله : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } هذا رجوع إلى وصف باقي القصة . والمراد بالسنن : ما سنّه الله في الأمم من وقائعه ، أي : قد خلت من قبل زمانكم وقائع سنّها الله في الأمم المكذبة ، وأصل السنن جمع سنة : وهي الطريقة المستقيمة ، ومنه قول الهذلي :
فَلا تَجْزَعَن مِنْ سُنَّة أنْتَ سِرْتَها ... فَأوّلُ راضٍ سُنَّةً مَن يَسيرها
والسنة : الإمام المتبع المؤتمّ به ، ومنه قول لبيد :
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّت لَهُمْ آباؤُهُم ... وَلِكُلِ قَوْمِ سِنةٌ وإمامُ
والسنة : الأمة ، والسنن : الأمم ، قاله المفضل الضبي . وقال الزجاج : المعنى في الآية : أهل سنن ، فحذف المضاف ، والفاء في قوله : { فَسِيرُواْ } سببية؛ وقيل : شرطية ، أي : إن شككتم ، فسيروا . والعاقبة : آخر الأمر ، والمعنى : سيروا ، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ، فإنهم خالفوا رسلهم بالحرص على الدنيا ، ثم انقرضوا ، فلم يبق من دنياهم التي آثروها أثر . هذا قول أكثر المفسرين . والمطلوب من هذا السير المأمور به هو : حصول المعرفة بذلك ، فإن حصلت بدونه ، فقد حصل المقصود ، وإن كان لمشاهدة الآثار زيادة غير حاصلة لمن لم يشاهدها ، والإشارة بقوله : { هذا } إلى قوله : { قَدْ خَلَتْ } وقال : الحسن إلى القرآن : { بَيَانٌ لّلنَّاسِ } أي : تبيين لهم ، وتعريف الناس للعهد ، وهم المكذبون ، أو للجنس ، أي : للمكذبين ، وغيرهم . وفيه حثّ على النظر في سوء عاقبة المكذبين ، وما انتهى إليه أمرهم .
قوله : { وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ } أي : هذا النظر مع كونه بياناً فيه هدى ، وموعظة للمتقين من المؤمنين ، فعطف الهدى ، والموعظة على البيان يدل على التغاير ، ولو باعتبار المتعلق ، وبيانه أن اللام في الناس إن كانت للعهد ، فالبيان للمكذبين ، والهدى ، والموعظة للمؤمنين ، وإن كانت للجنس ، فالبيان لجميع الناس مؤمنهم ، وكافرهم ، والهدى ، والموعظة للمتقين وحدهم .
قوله : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } عزاهم ، وسلاهم بما نالهم يوم أحد من القتل ، والجراح ، وحثهم على قتال عدوهم ، ونهاهم عن العجز ، والفشل ، ثم بين لهم أنهم الأعلون على عدوّهم بالنصر والظفر ، وهي : جملة حالية ، أي : والحال أنكم الأعلون عليهم ، وعلى غيرهم بعد هذه الوقعة . وقد صدق الله وعده ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد وقعة أحد ظفر بعدوّه في جميع وقعاته؛ وقيل : المعنى : وأنتم الأعلوْن عليهم بما أصبتم منهم في يوم بدر ، فإنه أكثر مما أصابوا منكم اليوم . وقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } متعلق بقوله : { وَلاَ تَهِنُواْ } وما بعده ، أو بقوله : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ } أي : إن كنتم مؤمنين ، فلا تهنوا ، ولا تحزنوا ، أو إن كنتم مؤمنين ، فأنتم الأعلون . والقرح بالضم ، والفتح : الجرح ، وهما لغتان فيه ، قاله الكسائي ، والأخفش . وقال الفراء : هو : بالفتح الجرح ، وبالضم ألمه . وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع : «قرح» بفتح القاف ، والراء على المصدر .

والمعنى في الآية : إن نالوا منكم يوم أحد ، فقد نلتم منهم يوم بدر ، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم ، فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم ، وأنتم أولى بالصبر منهم . وقيل : إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم ، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء ، فأصابوا منهم جماعة ، ثم انتصر الكفار عليهم ، فأصابوا منهم . والأوّل أولى؛ لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه .
وقوله : { وَتِلْكَ الايام } أي : الكائنة بين الأمم في حروبها ، والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوّة؛ تارة تغلب هذه الطائفة ، وتارة تغلب الأخرى ، كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر ، وأُحد ، وهو معنى قوله : { نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } فقوله : { تِلْكَ } مبتدأ ، { والأيام } صفته ، والخبر { نداولها } ، وأصل المداولة : المعاورة ، داولته بينهم : عاورته . والدولة : الكرة ، ويجوز أن تكون الأيام خبراً ، ونداولها حالاً ، والأوّل أولى . وقوله : { وَلِيَعْلَمَ الله } معطوف على علة مقدّرة كأنه قال : نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم ، أو يكون المعلل محذوفاً ، أي : ليعلم الله الذين اتقوا ، فعلنا ذلك ، وهو من باب التمثيل ، أي : فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً ، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء ، كما علمه علماً أزلياً { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } أي : يكرمهم بالشهادة . والشهداء جمع شهيد ، سمي بذلك؛ لكونه مشهوداً له بالجنة ، أو جمع شاهد لكونه ، كالمشاهد للجنة ، و " من " للتبعيض ، وهم شهداء أحد . وقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } جملة معترضة بين المعطوف ، والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله .
وقوله : { وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ } من جملة العلل معطوف على ما قبله . والتمحيص : الاختبار . وقيل : التطهير على حذف مضاف ، أي : ليمحص ذنوب الذين آمنوا ، قاله الفراء ، وقيل : يمحص : يخلص ، قاله الخليل ، والزجاج ، أي : ليخلص المؤمنين من ذنوبهم . وقوله : { وَيَمْحَقَ الكافرين } أي : يستأصلهم بالهلاك ، وأصل التمحيق : محو الآثار ، والمحق : نقصها .
قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز ، وأم هي المنقطعة ، والهمزة للإنكار ، أي : بل أحسبتم ، والواو في قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله } واو الحال . والجملة حالية ، وفيه تمثيل كالأوّل ، أو علم يقع عليه الجزاء . وقوله : { وَِيَعْلَمَ الصابرين } منصوب بإضمار " أن " ، كما قال الخليل ، وغيره على أن الواو للجمع . وقال الزجاج : " الواو " بمعنى " حتى " ، وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر : «ويعلم الصابرين» بالجزم عطفاً على { وَلَمَّا يَعْلَمِ } وقريء بالرفع على القطع ، وقيل : إن قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ } كناية عن نفي المعلوم ، وهو : الجهاد والمعنى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد ، والصبر ، أي : الجمع بينهما ، ومعنى " لَمّا " معنى : «لم» عند الجمهور ، وفرّق سيبويه بينهما ، فجعل " لم " لنفي الماضي ، و " لما " لنفي الماضي والمتوقع .

قوله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } هو خطاب لمن كان يتمنى القتال ، والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر ، فإنهم كانوا يتمنون يوماً يكون فيه قتال ، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج ، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير مثل أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك . وقوله : { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } أي : القتال ، أو الشهادة التي هي سبب الموت . وقرأ الأعمش : «من قبل أن تلاقوه» وقد ورد النهي عن تمني الموت ، فلا بدّ من حمله هنا على الشهادة . قال القرطبي : وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات ، والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم؛ لأنه معصية وكفر ، ولا يجوز إرادة المعصية ، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة ، فيسألون الصبر على الجهاد ، وإن أدّى إلى القتل . قوله : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أي : القتال ، أو ما هو سبب للموت ، ومحل قوله : { وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } النصب على الحال ، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما للمبالغة ، أي : قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم . قال الأخفش : إن التكرير بمعنى التأكيد مثل قوله : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] وقيل معناه : بصراء ليس في أعينكم علل ، وقيل معناه : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } . سبب نزول هذه ما سيأتي من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب في يوم أُحد صاح الشيطان قائلاً : قد قتل محمد ، ففشل بعض المسلمين ، حتى قال قائل : قد أصيب محمد ، فأعطوا بأيديكم ، فإنما هم إخوانكم ، وقال آخر : لو كان رسولاً ما قتل ، فردّ الله عليهم ذلك ، وأخبرهم بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل ، وسيخلو ، كما خلوا ، فجملة قوله : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } صفة لرسول . والقصر قصر إفراد ، كأنهم استبعدوا هلاكه ، فأثبتوا له صفتين : الرسالة ، وكونه لا يهلك ، فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك ، وقيل : هو : قصر قلب . وقرأ ابن عباس : «قد خلت من قبل رسل» ثم أنكر الله عليهم بقوله : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } أي : كيف ترتدّون ، وتتركون دينه إذا مات ، أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو ، ويتمسك أتباعهم بدينهم ، وإن فقدوا بموت ، أو قتل ، وقيل : الإنكار لجعلهم خلوّ الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته ، أو قتله ، وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل؛ لكونه مجوّزاً عند المخاطبين .

قوله : { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ } أي : بإدباره عن القتال ، أو بارتداده عن الإسلام { فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً } من الضرر ، وإنما يضرّ نفسه { وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } أي : الذين صبروا ، وقاتلوا ، واستشهدوا؛ لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام ، ومن امتثل ما أمر به ، فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه .
قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } هذا كلام مستأنف يتضمن الحثّ على الجهاد ، والاعلام بأن الموت لا بدّ منه . ومعنى : { بِإِذُنِ الله } بقضاء الله ، وقدره ، وقيل : إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى الله عليه وسلم ، فبين لهم أن الموت بالقتل ، أو بغيره منوط بإذن الله ، وإسناده إلى النفس مع كونها غير محتارة له للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله . وقوله : { كتابا } مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن معناه كتب الله الموت كتاباً . والمؤجل : المؤقت الذي لا يتقدّم على أجله ، ولا يتأخر . قوله : { وَمَن يُرِدِ } أي : بعمله { ثَوَابَ الدنيا } كالغنيمة ، ونحوها ، واللفظ يعمّ كل ما يسمى ثواب الدنيا ، وإن كان السبب خاصاً { نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي : من ثوابها على حذف المضاف { وَمَن يُرِدِ } بعمله { ثَوَابَ الأخرة } وهو الجنة نؤته من ثوابها ، وتضاعف له الحسنات أضعافاً كثيرة { وَسَنَجْزِى الشاكرين } بامتثال ما أمرناهم به كالقتال ، ونهيناهم عنه كالفرار ، وقبول الإرجاف .
وقوله : { وَكَأَيّن } قال الخليل ، وسيبويه : هي ، " أي " دخلت عليها كاف التشبيه ، وثبتت معها ، فصارت بعد التركيب بمعنى " كم " ، وصوّرت في المصحف " نوناً " ، لأنها كلمة نقلت عن أصلها ، فغير لفظها لتغيير معناها ، ثم كثر استعمالها ، فتصرّفت فيها العرب بالقلب ، والحذف ، فصار فيها أربع لغات قريء بها : أحدها : كائن مثل كاعن ، وبها قرأ ابن كثير ، ومثله قول الشاعر :
وَكَائِن بِالأبَاطِح مِن صَديق ... يراني لَوْ أصِبْتُ هو المُصَابَا
وقال آخر :
وَكائِن رَدَدْنا عنكم مِن مُدَجَّج ... يجيءُ أمَامَ الرَّكْب يَرِدْى مُقَنَّعا
وقال زهير :
وَكَائِنُ تَرى مِن مُعْجَبٍ لَكَ شَخْصه ... زَيَادته أوْ نَقْصه فِي التَّكلُمِ
{ وكأين } بالتشديد مثل كعين ، وبه قرأ الباقون ، وهو الأصل . والثالثة : كأين مثل كعين مخففاً . والرابعة كيئن بياء بعدها همزة مكسورة ، ووقف أبو عمرو بغير نون ، فقال كأي : لأنه تنوين ، ووقف الباقون بالنون . والمعنى : كثير من الأنبياء قتل معه ربيون قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب " قتل " على البناء للمجهول ، وهي قراءة ابن عباس ، واختارها أبو حاتم ، وفيه وجهان : أحدهما أن يكون في «قتل» ضمير يعود إلى النبيّ ، وحينئذ يكون قوله : { مَعَهُ رِبّيُّونَ } جملة حالية ، كما يقال : قتل الأمير معه جيش ، أي : ومعه جيش ، والوجه الثاني : أن يكون القتل ، واقعاً على ربيون ، فلا يكون في قتل ضمير ، والمعنى : قتل بعض أصحابه ، وهم الربيون .

وقرأ الكوفيون ، وابن عامر : { قاتل } وهي قراءة ابن مسعود ، واختارها أبو عبيد ، وقال : إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلاً فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ، ولم يقتل ، فقاتل أعمّ ، وأمدح ، ويرجح هذه القراءة الأخرى . والوجه الثاني من القراءة الأولى قول الحسن : ما قتل نبيّ في حرب قط ، وكذا قال سعيد بن جبير ، " والربيون " بكسر الراء قراءة الجمهور ، وقرأ عليّ بضمها ، وابن عباس بفتحها ، وواحده ربي بالفتح منسوب إلى الرب ، والربى بضم الراء ، وكسرها منسوب إلى الربة بكسر الراء ، وضمها ، وهي الجماعة ، ولهذا ، فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة ، وقيل : هم الأتباع؛ وقيل : هم العلماء . قال الخليل : الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء ، وهم الربانيون نسبوا إلى التأله ، والعبادة ، ومعرفة الربوبية . وقال الزجاج : الربيون بالضم : الجماعات . قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } عطف على قاتل ، أو قتل . والوهن : انكسار الجدّ بالخوف . وقرأ الحسن : «وهنوا» بكسر الهاء ، وضمها . قال أبو زيد : لغتان وهن الشيء يهن ، وهناً : ضعف ، أي : ما وهنوا لقتل نبيهم ، أو لقتل من قتل منهم . { وما ضعفوا } أي : عن عدوّهم { وَمَا استكانوا } لما أصابهم في الجهاد . والاستكانة : الذلة ، والخضوع ، وقريء : «وما وهنوا وما ضعفوا» بإسكان الهاء ، والعين . وحكى الكسائي " ضعفوا " بفتح العين ، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أُحد ، وذلّ ، واستكان ، وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ، ولم يصنع ، كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل .
قوله : { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ } أي : قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول ، وقولهم منصوب على أنه خبر كان . وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم . وقوله : { إِلاَّ أَن قَالُواْ } استثناء مفرغ : أي : ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون ، أو قتل نبيهم : { إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } قيل : هي الصغائر . وقوله : { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } قيل : هي الكبائر ، والظاهر أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنباً من صغيرة ، أو كبيرة ، والإسراف ما فيه مجاوزة للحدّ ، فهو من عطف الخاص على العام ، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين هضماً لأنفسهم { وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا } في مواطن القتال : { فاتاهم الله } بسبب ذلك { ثَوَابَ الدنيا } من النصر ، والغنيمة ، والعزة ، ونحوها { وَحُسْنَ ثَوَابِ الأخرة } من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : ثواب الآخرة الحسن ، وهو نعيم الجنة ، جعلنا الله من أهلها .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } قال : تداول من الكفار ، والمؤمنين في الخير ، والشرّ .

وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال : أوّل ما نزل من آل عمران ، { هذا بَيَانٌ لّلنَّاسِ } ثم أنزل بقيتها يوم أحد . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن في قوله : { هذا بَيَانٌ } يعني : القرآن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه ، وأخرج ابن جرير ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا يعلون علينا » فأنزل الله : { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } الآية .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب يوم أحد ، فسألوا ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وما فعل فلان ، فنعى بعضهم لبعض ، وتحدّثوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فكانوا في همّ وحزن ، فبينما هم كذلك علا خالد بن الوليد بخيل المشركين ، فوقهم على الجبل ، وكانوا على أحد مجنبتي المشركين ، وهم أسفل من الشعب ، فلما رأوا النبي فرحوا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا قوّة لنا إلا بك ، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النفر ، فلا تهلكهم » وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا ، فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله : { وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك { وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ } قال : وأنتم الغالبون .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } قال : جراح وقتل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مّثْلُهُ } قال : إن يقتل منكم يوم أحد ، فقد قتل منهم يوم بدر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } قال : كان يوم أحد بيوم بدر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق ابن جريج ، عن ابن عباس في قوله : { وَتِلْكَ الأيام } الآية ، قال : أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين ، وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلاً . وأخرج ابن جريج ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء } قال : إن المسلمين كانوا يسألون ربهم : اللهمّ ربنا أرنا يوماً ، كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيراً ، ونلتمس فيه الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أحد ، فاتخذ منهم شهداء .

وأخرجا عنه في قوله : { وَلِيُمَحّصَ الله الذين ءامَنُواْ } قال : يبتليهم { وَيَمْحَقَ الكافرين } قال : ينقصهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عنه أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : ليتنا نقتل ، كما قتل أصحاب بدر ، ونستشهد ، أو ليت لنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ، ونبلي فيه خيراً ، ونلتمس الشهادة ، والجنة ، والحياة ، والرزق ، فأشهدهم الله أحداً ، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم . فقال الله : { وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } الآية .
وأخرج ابن المنذر عن كليب قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول : إنها أحدية ، ثم قال : تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فصعدت الجبل فسمعت يهودياً يقول : قتل محمد ، فقلت : لا أسمع أحداً يقول : قتل محمد إلا ضربت عنقه ، فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون إليه ، فنزلت هذه الآية : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } . وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأوّل ، فأنزل الله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } . وأخرج أيضاً عن مجاهد نحوه . وأخرج أيضاً عن عليّ في قوله : { وَسَيَجْزِى الله الشاكرين } قال : الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه ، فكان عليّ يقول : كان أبو بكر أمير الشاكرين . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم عنه أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يقول : { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلنّ على ما قتل عليه حتى أموت .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : { رِبّيُّونَ } قال : ألوف . وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال : الربة الواحدة ألف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { رِبّيُّونَ } قال : جموع . وأخرج ابن جرير عنه قال : علماء كثير . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَمَا استكانوا } قال : تخشعوا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا } قال : خطايانا .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)

لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار ، وهم مشركو العرب؛ وقيل اليهود والنصارى . وقيل : المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دين آبائكم . وقوله : { يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم } أي يخرجوكم من دين الإسلام إلى الكفر { فَتَنقَلِبُواْ خاسرين } أي ترجعوا مغبونين . وقوله : { بَلِ الله مولاكم } إضراب عن مفهوم الجملة الأولى : أي إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ولا ينصروكم بل الله ناصركم لا غيره؛ وقريء : «بل الله» بالنصب على تقدير بل أطيعوا الله .
قوله : { سَنُلْقِى } قرأ السَّخْتِيَانّي بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالنون . وقرأ ابن عامر ، والكسائي : " الرعب " بضم العين . وقرأ الباقون بالسكون ، وهما لغتان ، يقال : رَعَبْتُه رُعباً ، ورُعُباً ، فهو مرعُوب ، ويجوز أن يكون مصدراً ، والرعب بالضم : الاسم ، وأصله المَلء ، يقال : سْيل راعب ، أي : يملأ الوادي ، ورعبت الحوض : ملأته ، فالمعنى : سنملأ قلوب الكافرين رعباً ، أي : خوفاً ، وفزعاً ، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ، ومجازاً في غيرها ، كهذه الآية ، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين ، وقالوا : بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم؛ ارجعوا ، فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا ، عما هموا به : { بِمَا أَشْرَكُواْ بالله } متعلق بقوله : { سَنُلْقِى } و " ما " مصدرية ، أي : بسبب إشراكهم { مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا } أي : ما لم ينزل الله بجعله شريكاً له حجة ، وبياناً ، وبرهاناً ، والنفي يتوجه إلى القيد ، والمقيد ، أي : لا حجة ، ولا إنزال ، والمعنى : أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل . والمثوى : المكان الذي يقام فيه ، يقال ثوى يثوي ثواءً .
قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } نزلت لما قال بعض المسلمين من أين أصابنا هذا ، وقد وعدنا الله النصر ، وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء ، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين ، وتسعة نفر بعده؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة ، وترك الرماة مركزهم طلباً للغنيمة كان ذلك سبب الهزيمة . والحسّ : الاستئصال بالقتل ، قاله أبو عبيد . يقال : جراد محسوس : إذا قتله البرد ، وسنة حسوس : أي : جدبة تأكل كل شيء . قيل : وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه : أذهب حسه بالقتل ، وتحسونهم : تقتلونهم ، وتستأصلونهم ، قال الشاعر :
حسسناهم بالسيف حسَّاً فأصْبَحت ... بِقيَّتهُم قد شُرِّدوا وتَبَدَّدوا
وقال جرير :
تَحُسَّهُم السّيوفُ كما تسامىَ ... حَرِيقُ النَّارِ في الأجِمِ الحَصِيدِ
{ بِإِذْنِهِ } أي : بعلمه ، أو بقضائه { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي : جبنتم وضعفتم ، قيل : جواب حتى محذوف تقديره امتحنتم ، وقال الفراء : جواب حتى قوله : { وتنازعتم } والواو مقحمة زائدة ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ }

[ الصافات : 103 ] وقال أبو علي : يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : حتى إذا تنازعتم ، وعصيتم فشلتم . وقيل : إن الجواب عصيتم ، والواو مقحمة . وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 118 ] ، وقيل : " حتى " بمعنى " إلى " ، وحينئذ لا جواب لها ، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم : نلحق الغنائم ، وقال بعضهم : نثبت في مكاننا ، كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومعنى قوله : { مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد ، كما تقدّم : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } يعني : الغنيمة { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الأخرة } أي : الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي : ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } لما علم من ندمكم ، فلم يستأصلكم بعد المعصية ، والمخالفة ، والخطاب لجميع المنهزمين ، وقيل : للرماة فقط .
قوله : { إِذْ تُصْعِدُونَ } متعلق بقوله : { صَرَفَكُمْ } أو بقوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أو بقوله : { لِيَبْتَلِيَكُمْ } وقرأه الجمهور بضمّ التاء ، وكسر العين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة بفتح التاء ، والعين . وقرأ ابن محيصن ، وقنبل : «يصعدون» بالتحتية . قال أبو حاتم : أصعدت : إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل ، فالإصعاد : السير في مستوى الأرض ، وبطون الأودية ، والصعود : الارتفاع على الجبال ، والسطوح ، والسلالم ، والدرج ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل بعد إصعادهم في الوادي ، فيصح المعنى على القراءتين . وقال القتيبي : أصعد : إذا أبعد في الذهاب ، وأمعن فيه ، ومنه قول الشاعر :
ألا أيها ذا السَائِلي أيْنَ أصْعدت ... فِإنَ لَها من بَطِن يَثرِبَ مَوْعِدا
وقال الفراء : الإصعاد : الابتداء في السفر ، والانحدار : الرجوع منه ، يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة ، وإلى خراسان ، وأشباه ذلك : إذا خرجنا إليها ، وأخذنا في السفر ، وانحدرنا : إذا رجعنا . وقال المفضل : صعد ، وأصعد بمعنى واحد . ومعنى : { تَلْوُونَ } تعرجون ، وتقيمون ، أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض هرباً ، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته : { على أَحَدٍ } أي : على أحد ممن معكم ، وقيل : على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ الحسن : «تلون» بواو واحدة ، وقرأ عاصم في رواية عنه بضم التاء ، وهي لغة . قوله : { والرسول يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ } أي : في الطائفة المتأخرة منكم ، يقال جاء فلان في آخر الناس ، وآخرة الناس ، وأخرى الناس ، وأخريات الناس . وكان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : " أي عباد الله ارجعوا " قوله : { فأثابكم } عطف على صرفكم ، أي : فجازاكم الله غماً حين صرفكم عنه بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم ، أو غماً موصولاً بغمّ بسبب ذلك الإرجاف ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، والغمّ في الأصل : التغطية ، غميت الشيء : غطيته ، ويوم غمّ ، وليلة غمة : إذا كانا مظلمين ، ومنه : غمّ الهلال ، وقيل : الغمّ الأول : الهزيمة ، والثاني : الإشراف من أبي سفيان ، وخالد بن الوليد عليهم في الجبل .

قوله : { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } اللام متعلقة بقوله : { فأثابكم } أي : هذا الغمّ بعد الغمّ لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من الهزيمة ، تمريناً لكم على المصائب ، وتدريباً لاحتمال الشدائد . وقال المفضل : معنى : { لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ } لكي تحزنوا ، و « لا » زائدة كقوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] أي : أن تسجد ، وقوله : { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] أي : ليعلم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ } قال : لا تنتصحوا اليهود ، والنصارى على دينكم ، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ يقول : إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردّكم كفاراً . وأخرج ابن جرير ، عنه في قوله : { سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } نحو ما قدّمناه في سبب نزول الآية . وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ } قال : كان الله وعدهم على الصبر ، والتقوى أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم ، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة . وقصة أحد مستوفاة في السير ، والتواريخ ، فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } قال : الحسّ : القتل . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه . قال : الفشل : الجبن . وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله : { مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } قال : الغنائم ، وهزيمة القوم . وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال : يقول الله : قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم . وأخرج أيضاً عن ابن جرير نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس : { إِذْ تُصْعِدُونَ } قال : أصعدوا في أحُد فراراً ، والرسول يدعوهم في أخراهم : « إليّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا » وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف : { فأثابكم غَمّاً بِغَمّ } قال : الغمّ الأوّل بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل : قتل محمد ، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { غَمّاً بِغَمّ } قال : فرّة بعد الفرّة الأولى حين سمعوا الصوت أن محمداً قد قتل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم قال : الغم الأوّل : الجراح والقتل ، والغم الآخر : حين سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع مثله .

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

الأمنة ، والأمن سواء ، وقيل : الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف ، والأمن مع عدمه ، وهي منصوبة بأنزل . و { نعاساً } بدل منها ، أو عطف بيان ، أو مفعول له ، وأما ما قيل : من أن { أمنة } حال من { نعاساً } مقدّمة عليه ، أو حال من المخاطبين ، أو مفعول له ، فبعيد . وقرأ ابن محيصن : «أمنه» بسكون الميم . قوله : { يغشى } قريء بالتحتية على أن الضمير للنعاس ، وبالفوقية على أن الضمير لأمنة ، والطائفة : تطلق على الواحد ، والجماعة ، والطائفة الأولى : هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلباً للأجر ، والطائفة الأخرى هم : مُعَتِّب بن قشير ، وأصحابه ، وكانوا خرجوا طمعاً في الغنيمة ، وجعلوا يناشدون على الحضور ، ويقولون الأقاويل . ومعنى : { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } حملتهم على الهمّ ، أهمني الأمر : أقلقني ، والواو في قوله : { وَطَائِفَةٌ } للحال ، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال ، وقيل : إن معنى { أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } صارت همهم لا همّ لهم غيرها . { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق } هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به ، وظنّ الجاهلية بدل منه . وهو : الظنّ المختص بملة الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية ، وهو ظنهم أن أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم باطل ، وأنه لا ينصر ، ولا يتمّ ما دعا إليه من دين الحق .
وقوله : { يَقُولُونَ } بدل من «يظنون» ، أي : يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَىْء } أي : هل لنا من أمر الله نصيب ، وهذا الاستفهام معناه الجحد ، أي : ما لنا شيء من الأمر . وهو النصر والاستظهار على العدوّ ، وقيل : هو الخروج ، أي : إنما خرجنا مكرهين ، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ } وليس لكم ، ولا لعدوّكم منه شيء ، فالنصر بيده ، والظفر منه . وقوله : { يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم } أي : يضمرون في أنفسهم النفاق ، ولا يبدون لك ذلك ، بل يسألونك سؤال المسترشدين . وقوله : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا } استئناف ، كأنه قيل : ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟ فقيل : يقولون فيما بينهم ، أو في أنفسهم { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هاهنا } أي : ما قتل من قتل منا في هذه المعركة ، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } أي : لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بدّ من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع التي صرعوا فيها ، فإن قضاء الله لا يردّ .
وقوله : { وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ } علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها ، كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة { وَلِيَبْتَلِىَ } الخ ، وقيل : إنه معطوف على علة مطوية لبرز ، والمعنى : ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص ، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان .

قوله : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان } أي : انهزموا يوم أحد ، وقيل : المعنى : إن الذين تولوا المشركين يوم أحد : { إِنَّمَا استزلهم الشيطان } استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } لتوبتهم ، واعتذارهم .
وقد أخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في الآية قال : أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم ، وإنما ينعس من يأمن . وقد ثبت في صحيح البخاري ، وغيره أن أبا طلحة قال : غشينا ، ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً . . . } الآية . وأخرج الترمذي وصححه ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الدلائل ، عن الزبير بن العوّام؛ قال : رفعت رأسي يوم أحد ، فجعلت انظر ، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت جحفته من النعاس ، وتلا هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج قال : إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبيّ ، وكان سيد المنافقين : قتل اليوم بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر شيء؟ أما ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ، ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة والربيع في قوله : { ظَنَّ الجاهلية } قال : ظنّ أهل الشرك . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : معتب هو الذي قال يوم أحد : لو كان لنا من الأمر شيء . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبيّ .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان } قال : هم ثلاثة : واحد من المهاجرين ، واثنان من الأنصار . وأخرج ابن منده ، وابن عساكر ، عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في عثمان ورافع بن المعلى ، وخارجة بن زيد . وقد روى في تعيين : «من» في الآية روايات كثيرة .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)

قوله : { لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ } هم المنافقون الذين قالوا : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } . قوله : { وَقَالُواْ لإخوانهم } في النفاق ، أو في النسب ، أي : قالوا لأجلهم : { إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض } إذا ساروا فيها للتجارة ، أو نحوها ، قيل : " إن " " إذا " هنا المفيدة لمعنى الاستقبال ، بمعنى " إذا " المفيدة لمعنى المضيّ . وقيل : هي على معناها ، والمراد هنا : حكاية الحال الماضية . وقال الزجاج : " إذا " هنا تنوب عن ما مضى من الزمان ، وما يستقبل { لَّوْ كَانُواْ غُزًّى } جمع غاز كراكع وركع ، وغائب وغيب ، قال الشاعر :
قل للقوافل والغزى إذا غزوا ... { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } اللام متعلقة بقوله : { قَالُواْ } أي : قالوا ذلك ، واعتقدوه؛ ليكون حسرة في قلوبهم . والمراد : أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا حسرة ، أو متعلقة بقوله : { لاَ تَكُونُواْ } أي : لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك؛ ليجعله الله حسرة في قلوبهم ، فقط دون قلوبكم . وقيل : المعنى لا تلتفتوا إليهم؛ ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم ، وقيل المراد : حسرة في قلوبهم يوم القيامة لما فيه من الخزي ، والندامة : { والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ } فيه ردّ على قولهم ، أي : ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، فيحيي من يريد ، ويميت من يريد من غير أن يكون للسفر ، أو الغزو أثر في ذلك ، واللام في قوله : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ } موطئة . وقوله : { لَمَغْفِرَةٌ } جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، والمعنى : أن السفر ، والغزو ليسا مما يجلب الموت ، ولئن وقع ذلك بأمر الله سبحانه : { لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } أي : الكفرة من منافع الدنيا ، وطيباتها مدّة أعمارهم على قراءة من قرأ بالياء التحتية ، أو خير مما تجمعون أيها المسلمون من الدنيا ، ومنافعها على قراءة من قرأ بالفوقية . والمقصود في الآية : بيان مزية القتل ، أو الموت في سبيل الله ، وزيادة تأثيرهما في استجلاب المغفرة ، والرحمة .
قوله : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ } على أيّ وجه حسب تعلق الإرادة الإلهية { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } هو : جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة سادّ مسدّ جواب الشرط ، كما تقدم في الجملة الأولى ، أي : إلى الربّ الواسع المغفرة تحشرون لا إلى غيره ، كما يفيده تقديم الظرف على الفعل مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه بالذكر من الدلالة على كمال اللطف ، والقهر . «وما» في قوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله } مزيدة للتأكيد ، قاله سيبويه وغيره ، وقال ابن كيسان : إنها نكرة في موضع جرّ بالباء ، ورحمة بدل منها ، والأوّل أولى بقواعد العربية ، ومثله قوله تعالى :

{ فَبِمَا نَقْضِهِم ميثاقهم } [ النساء : 155 ] والجار والمجرور متعلق بقوله : { لِنتَ لَهُمْ } وقدّم عليه لإفادة القصر ، وتنوين رحمة للتعظيم ، والمعنى : أن لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه . وقيل : إن " ما " استفهامية ، والمعنى : فبأيّ رحمة من الله لنت لهم ، وفيه معنى التعجب ، وهو بعيد ، ولو كان كذلك لحذف الألف من " ما " . وقيل : فبم رحمة من الله . والفظّ : الغليظ الجافي . وقال الراغب : الفظّ هو : الكريه الخلق ، وأصله فظظ كحذر . وغلظ القلب : قساوته ، وقلة إشفاقه ، وعدم انفعاله للخير . والانفضاض : التفرّق ، يقال : فضضتهم ، فانفضوا ، أي : فرّقتهم ، فتفرّقوا والمعنى : لو كنت فظاً غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرّقوا من حولك هيبة لك ، واحتشاماً منك بسبب ما كان من توليهم ، وإذا كان الأمر ، كما ذكر : { فاعف عَنْهُمْ } فيما يتعلق بك من الحقوق : { واستغفر لَهُمُ } الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } أي : الذي يرد عليك ، أيّ : أمر كان مما يشاور في مثله ، أو في أمر الحرب خاصة ، كما يفيده السياق لما في ذلك من تطييب خواطرهم ، واستجلاب مودّتهم ، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك حتى لا يأنف منه أحد بعدك . والمراد هنا : المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها . قال أهل اللغة : الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة ، وشورتها : إذا علمت خبرها ، وقيل : من قولهم : شرت العسل : إذا أخذته من موضعه . قال ابن خويزمنداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس ، فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب ، والعمال ، والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد ، وعمارتها . وحكى القرطبي عن ابن عطية : أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين .
قوله : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي : إذا عزمت عقب المشاورة على شيء ، واطمأنت به نفسك ، فتوكل على الله في فعل ذلك ، أي : اعتمد عليه ، وفوّض إليه؛ وقيل : إن المعنى : فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه ، فتوكل على الله لا على المشاورة . والعزم في الأصل : قصد الإمضاء ، أي : فإذا قصدت إمضاء أمر ، فتوكل على الله . وقرأ جعفر الصادق ، وجابر بن زيد : «فإذا عزمت» بضم التاء بنسبة العزم إلى الله تعالى ، أي : فإذا عزمت لك على شيء ، وأرشدتك إليه ، فتوكل على الله .
وقوله : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } جملة مستأنفة لتأكيد التوكل ، والحثّ عليه . والخذلان : ترك العون ، أي : وإن يترك الله عونكم : { فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ } وهذا الاستفهام إنكاري . والضمير في قوله : { مِن بَعْدِهِ } راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله : { وَإِن يَخْذُلْكُمْ } أو إلى الله ، ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه ، وأن من نصره الله لا غالب له ، ومن خذله لا ناصر له ، فوّض أموره إليه ، وتوكل عليه ، ولم يشتغل بغيره ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } لإفادة قصره عليه .

قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍ أَنْ يَغُلَّ } أي : ما صحّ له ذلك لتنافي الغلول والنبوّة . قال أبو عبيد : الغلول من المغنم خاصَّة ، ولا نراه من الخيانة ، ولا من الحقد ، ومما يبين ذلك أنه يقال : من الخيانة : أغَلّ يِغلّ ، ومن الحِقْد غَلّ يَغِلُّ بالكسر ، ومن الغُلول غَلّ يَغِلُّ بالضم ، يقال غلّ المغنم غلولاً ، أي : خان بأن يأخذ لنفسه شيئاً يستره على أصحابه ، فمعنى الآية على القراءة بالبناء للفاعل : ما صح لنبيّ أن يخون شيئاً من المغنم ، فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه . وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول . ومعناها على القراءة بالبناء للمفعول : ما صح لنبيّ أن يغله أحد من أصحابه : أي : يخونه في الغنيمة ، وهو على هذه القراءة الأخرى نهي للناس عن الغلول في المغانم ، وإنما خص خيانة الأنبياء مع كونه خيانة غيرهم من الأئمة ، والسلاطين ، والأمراء حراماً ، لأن خيانة الأنبياء أشدّ ذنباً ، وأعظم وزراً { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } أي يأت به حاملاً له على ظهره ، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فيفضحه بين الخلائق ، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول ، والتنفير منه ، بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد يطلع عليها أهل المحشر وهي : مجيئه يوم القيامة بما غله حاملاً له قبل أن يحاسب عليه ، ويعاقب عليه . قوله : { ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي : تعطي جزاء ما كسبت وافياً من خير وشرّ ، وهذه الآية تعمّ كل من كسب خيراً ، أو شراً ، ويدخل تحتها الغالّ دخولاً أولياً لكون السياق فيه .
قوله : { أَفَمَنِ اتبع رضوان الله كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله } الاستفهام للإنكار ، أي : ليس من اتبع رضوان الله في أوامره ، ونواهيه ، فعمل بأمره ، واجتنب نهيه كمن باء : أي : رجع بسخط عظيم ، كائن من الله ، بسبب مخالفته لما أمر به ، ونهى عنه . ويدخل تحت ذلك من اتبع رضوان الله بترك الغلول ، واجتنابه ، ومن باء بسخط من الله بسبب إقدامه على الغلول . ثم أوضح ما بين الطائفتين من التفاوت ، فقال : { هُمْ درجات عِندَ الله } أي : متفاوتون في الدرجات ، والمعنى : هم ذوو درجات ، أو لهم درجات ، فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدرجات من باء بسخط من الله ، فإن الأوّلين في أرفع الدرجات . والآخرين في أسفلها .
قوله : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين } جواب قسم محذوف ، وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثته . ومعنى : { مّنْ أَنفُسِهِمْ } أنه عربيّ مثلهم ، وقيل : بشر مثلهم ، ووجه المنة على الأوّل : أنهم يفقهون عنه ، ويفهمون كلامه ، ولا يحتاجون إلى ترجمان .

ومعناها على الثاني : أنهم يأنسون به بجامع البشرية ، ولو كان ملكاً لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية ، وقرىء : { مّنْ أَنفُسِهِمْ } بفتح الفاء ، أي : من أشرفهم ، لأنه من بني هاشم ، وبنو هاشم أفضل قريش ، وقريش أفضل العرب ، والعرب أفضل من غيرهم ، ولعلّ وجه الامتنان على هذه القراءة : أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له ، وأقرب إلى تصديقه ، ولا بد من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأوّل ، وأما على الوجه الثاني ، فلا حاجة إلى هذا التخصيص ، وكذا على قراءة من قرأ بفتح الفاء لا حاجة إلى التخصيص؛ لأن بني هاشم هم أنفس العرب ، والعجم في شرف الأصل ، وكرم النجاد ، ورفاعة المحتد . ويدل على الوجه الأوّل قوله تعالى : { هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] وقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . قوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياته } هذه منة ثانية ، أي : يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا أهل جاهلية لا يعرفون شيئاً من الشرائع { وَيُزَكّيهِمْ } أي : يطهرهم من نجاسة الكفر ، وهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى ، وهما في محل نصب على الحال ، أو صفة لرسول ، وهكذا قوله : { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب } ، والمراد بالكتاب هنا : القرآن . والحكمة : السنة . وقد تقدّم في البقرة تفسير ذلك : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ } أي : من قبل محمد ، أو من قبل بعثته : { لَفِى ضلال مُّبِينٍ } أي : واضح لا ريب فيه ، واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة ، وبين النافية ، فهي تدخل في خبر المخففة لا النافية ، واسمها ضمير الشأن ، أي : وإن الشأن ، والحديث ، وقيل : إنها النافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين ، وبه قال الكوفيون ، والجملة على التقديرين في محل نصب على الحال .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لإخوانهم إِذَا ضَرَبُواْ فِى الأرض . . . } الآية ، قال : هذا قول عبد الله بن أبيّ بن سلول ، والمنافقين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدّي نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } قال : يحزنهم قولهم ، ولا ينفعهم شيئاً . وأخرجوا عن قتادة في قوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله } يقول : فبرحمة من الله : { لِنتَ لَهُمْ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } قال : لانصرفوا عنك . وأخرج ابن عديّ ، والبيهقي في الشعب ، قال السيوطي - بسند حسن - عن ابن عباس : قال : لما نزلت : { وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكنّ الله جعلها رحمة لأمتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ، ومن تركها لم يعدم غياً " وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس : { وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر } . قال : أبو بكر وعمر . وأخرج ابن مردويه ، عن عليّ قال : «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن العزم ، فقال : " مشاورة أهل الرأي ، ثم اتباعهم "
وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها ، فنزلت . وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } قال : ما كان لنبيّ أن يتهمه أصحابه . وقد ورد في تحريم الغلول أحاديث كثيرة .
وأخرج ابن جرير ، و ابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس : { هُمْ درجات عِندَ الله } يقول : بأعمالهم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن عائشة في قوله : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين . . . } الآية ، قالت : هذه للعرب خاصة .

أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)

قوله : { أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ } الألف للاستفهام بقصد التقريع ، والواو للعطف . والمصيبة : الغلبة ، والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد : { قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا } يوم بدر ، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون . وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين ، وأسروا سبعين ، فكان مجموع القتلى ، والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد ، والمعنى : أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم ، وقلتم : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا بالنصر؟ . وقوله : { أنى هذا } أي : من أين أصابنا هذا الانهزام ، والقتل ، ونحن نقاتل في سبيل الله ، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد وعدنا الله بالنصر عليهم؟ وقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب ، أي : هذا الذي سألتم عنه هو من عند أنفسكم بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم من لزوم المكان الذي عينه لهم ، وعدم مفارقتهم له على كل حال ، وقيل : إن المراد بقوله : { هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } خروجهم من المدينة . ويردّه أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك؛ وقيل : هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل ،
و { يَوْمَ التقى الجمعان } يوم أحد ، أي : ما أصابكم يوم أحد من القتل ، والجرح ، والهزيمة { فَبِإِذْنِ الله } فبعلمه ، وقيل : بقضائه ، وقدره ، وقيل : بتخليته بينكم ، وبينهم ، والفاء دخلت في جواب الموصول لكونه يشبه الشرط ، كما قال سيبويه . وقوله : { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } عطف على قوله : { فَبِإِذْنِ الله } عطف سبب على سبب .
وقوله : { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } عطف على ما قبله ، قيل : أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم ، وإلى المنافقين ، واحداً . والمراد بالعلم هنا : التمييز والإظهار؛ لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك؛ والمراد بالمنافقين هنا : عبد الله بن أبيّ وأصحابه . قوله : { وَقِيلَ لَهُمْ } هو معطوف على قوله : { نَافَقُواْ } أي : ليعلم الله الذين نافقوا ، والذين قيل لهم ، وقيل : هو كلام مبتدأ أي : قيل لعبد الله بن أبيّ ، وأصحابه : { تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } إن كنتم ممن يؤمن بالله ، واليوم الآخر { أَوِ ادفعوا } عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله ، واليوم الآخر ، فأبوا جميع ذلك ، وقالوا : لو نعلم أنه سيكون قتالاً لاتبعناكم ، وقاتلنا معكم ، ولكنه لا قتال هنالك؛ وقيل : المعنى : لو كنا نقدر على القتال ، ونحسنه لاتبعناكم؛ ولكنا لا نقدر على ذلك ، ولا نحسنه . وعبر عن نفي القدرة على القتال بنفي العلم به؛ لكونها مستلزمة له ، وفيه بعد لا ملجىء إليه ، وقيل : معناه : لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لاتبعناكم ، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال ، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، لعدم القدرة منا ، ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم ، والخروج من المدينة ، وهذا أيضاً فيه بعد دون بعد ما قبله ، وقيل : معنى الدفع هنا : تكثير سواد المسلمين ، وقيل : معناه : رابطوا ، والقائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه : هو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ ، والد جابر بن عبد الله .

قوله : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ للإيمان } أي : هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون؛ لأنهم قد بينوا حالهم ، وهتكوا أستارهم ، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك ، وقيل المعنى : أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان . قوله : { يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما تقدّمها ، أي : أنهم أظهروا الإيمان ، وأبطنوا الكفر ، وذكر الأفواه للتأكيد ، مثل قوله : { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
قوله : { الذين قَالُواْ لإخوانهم } الخ ، أي : هم الذين قالوا لإخوانهم على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون بدلاً من واو يكتمون ، أو منصوباً على الذمّ ، أو وصف للذين نافقوا . وقد تقدم معنى : { قَالُواْ لإخوانهم } أي : قالوا لهم ذلك ، والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال : { لَوْ أَطَاعُونَا } بترك الخروج من المدينة ما قتلوا ، فردّ الله عليهم ذلك بقوله : { قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صادقين } والدرء : الدفع ، أي : لا ينفع الحذر من القدر ، فإن المقتول يقتل بأجله .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ . . . } الآية . يقول : إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد ، وقد بين هذا عكرمة . فأخرج ابن جرير عنه قال : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين ، وأسروا سبعين ، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن في الآية قال : لما رأوا من قتل منهم يوم أحد قالوا من أين هذا؟ ما كان للكفار أن يقتلوا منا؟ فلما رأى الله ما قالوا من ذلك ، قال الله : هم بالأسرى الذين أخذتم يوم بدر . فردّهم الله بذلك ، وعجل لهم عقوبة ذلك في الدنيا ليسلموا منها في الآخرة ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن عليّ قال : جاء جبريل إلي النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا ، فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقبل منهم عدتهم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله عشائرنا ، وإخواننا لا بل نأخذ ، فداءهم ، فنقوى به على قتال عدوّنا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره ، فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً عدة أسارى أهل بدر .

وهذا الحديث هو في سنن الترمذي ، والنسائي هو من طريق أبي داود الحضري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن سفيان بن سعيد ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة عن عليّ : قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة . وروى أبو أسامة عن هشام نحوه . وروى عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ، وإسناد ابن جرير لهذا الحديث هكذا : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا إسماعيل بن علية ، عن ابن عون قال سنيد وهو حسين ، وحدثني حجاج ، عن جرير ، عن محمد ، عن عبيدة ، عن علي فذكره . وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة ، حدثنا قراد أبو نوح ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل ، حدثني ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب؛ قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عنه ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ } الآية . وأخرجه الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن غزوان ، وهو قراد أبو نوح به ، ولكن بأطول منه ، ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله : { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] وما روى من بكائه صلى الله عليه وسلم ، هو وأبو بكر ندماً على أخذ الفداء ، ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه ، ولا حصل ما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن معه من الندم ، والحزن ، ولا صوب النبي صلى الله عليه وسلم رأي عمر رضي الله عنه ، حيث أشار بقتل الأسرى ، وقال ما معناه : « لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر ، » والجميع في كتب الحديث ، والسير .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس : { قُلْتُمْ أنى هذا } ونحن مسلمون نقاتل غضباً لله ، وهؤلاء مشركون . فقال : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى الله عليه وسلم حين قال : لا تتبعوهم . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { أَوِ ادفعوا } قال : كثروا بأنفسكم ، وإن لم تقاتلوا .

وأخرج أيضاً ، عن الضحاك نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي عون الأنصاري في قوله : { أَوِ ادفعوا } قال : رابطوا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن شهاب وغيره؛ قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد ، والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ بثلث الناس ، وقال : أطاعهم ، وعصاني ، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا ههنا؟ فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق ، وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم ، وقومكم عندما حضرهم عدوهم ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولا نرى أن يكون قتال . وأخرجه ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحسين بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، فذكره ، وزاد أنهم : لما استعصوا عليه ، وأبوا إلا الانصراف قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتبعناكم } قال : لو نعلم أنا واجدون معكم مكان قتال لاتبعناكم .

وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

لما بين الله - سبحانه - أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق ، والكاذب من الصادق ، بين ههنا أن من لم ينهزم ، وقتل فله هذه الكرامة ، والنعمة ، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون ، لا مما يخاف ، ويحذر ، كما قالوا من حكى الله عنهم : { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] وقالوا : { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } [ آل عمران : 168 ] فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل أحد ، وقرىء بالياء التحتية ، أي : لا يحسبن حاسب .
وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل : في شهداء أحد ، وقيل : في شهداء بدر ، وقيل : في شهداء بئر معونة . وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب . ومعنى الآية عند الجمهور : أنهم أحياء حياة محققة ثم اختلفوا ، فمنهم من يقول : أنها تردّ إليهم أرواحهم في قبورهم ، فيتنعمون . وقال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة ، أي : يجدون ريحها ، وليسوا فيها ، وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية ، والمعنى : أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة ، والصحيح الأوّل ، ولا موجب للمصير إلى المجاز . وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر ، وأنهم في الجنة يرزقون ، ويأكلون ، ويتمتعون .
وقوله : { الذين قَتَلُواْ } هو : المفعول الأوّل . والحاسب هو النبي صلى الله عليه وسلم ، أو كل أحد ، كما سبق ، وقيل : يجوز أن يكون الموصول هو : فاعل الفعل ، والمفعول الأوّل محذوف ، أي : لا تحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح ، والجلاء . وقوله : { بَلْ أَحْيَاء } خبر مبتدأ محذوف ، أي : بل هم أحياء . وقرىء بالنصب على تقدير الفعل ، أي : بل أحسبهم أحياء . وقوله : { عِندَ رَبّهِمْ } إما خبر ثان ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على الحال ، وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : عند كرامة ربهم . قال سيبويه : هذه عندية الكرامة لا عندية القرب . وقوله : { يُرْزَقُونَ } يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله : { عِندَ رَبّهِمْ } والمراد بالرزق هنا : هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور ، كما سلف ، وعند من عدا الجمهور المراد به : الثناء الجميل ، ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى ، وحملها على مجازات بعيدة ، لا لسبب يقتضي ذلك .
وقوله : { فَرِحِينَ } حال من الضمير في { يرزقون } ، و { بما آتاهم الله من فضله } متعلق به . وقرأ ابن السميفع : «فارحين» وهما : لغتان كالفره والفاره ، والحذر والحاذر . والمراد : { بِمَا ءاتاهم الله } ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة ، وما صاروا فيه من الحياة ، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه .

{ وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم } من إخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا إذ ذاك . فالمراد باللحوق هنا : أنهم لم يلحقوا بهم في القتل ، والشهادة؛ بل سيلحقون بهم من بعد . وقيل المراد : لم يلحقوا بهم في الفضل ، وإن كانوا أهل فضل في الجملة ، والواو في : { وَيَسْتَبْشِرُونَ } عاطفة على : { يُرْزَقُونَ } أي : يرزقون ، ويستبشرون ، وقيل المراد : بإخوانهم هنا : جميع المسلمين الشهداء ، وغيرهم؛ لأنهم لما عاينوا ثواب الله ، وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين هم أحياء لم يموتوا ، وهذا أقوى ، لأن معناه أوسع ، وفائدته أكثر ، واللفظ يحتمله بل هو الظاهر ، وبه قال الزجاج ، وابن فورك . وقوله : { أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } بدل من الذين ، أي : يستبشرون بهذه الحالة الحاصلة لإخوانهم من أنه لا خوف عليهم ، ولا حزن ، و « أن » هي : المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، وكرر قوله : { يَسْتَبْشِرُونَ } لتأكيد الأوّل ، ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف ، والحزن ، بل به ، وبنعمة الله ، وفضله . والنعمة : ما ينعم الله به على عباده . والفضل : ما يتفضل به عليهم ، وقيل النعمة : الثواب ، والفضل الزائد ، وقيل : النعمة الجنة ، والفضل داخل في النعمة ذكر بعدها لتأكيدها ، وقيل : إن الاستبشار الأوّل متعلق بحال إخوانهم ، والاستبشار الثاني بحال أنفسهم . قوله : { وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } قرأ الكسائي بكسر الهمزة من « أن » ، وقرأ الباقون بفتحها فعلى القراءة الأولى هو : مستأنف اعتراض . وفيه دلالة على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين ، ويؤيده قراءة ابن مسعود ، « والله لا يضيع أجر المؤمنين » . وعلى القراءة الثانية الجملة عطف على فضل داخلة في جملة ما يستبشرون به .
وقوله : { الذين استجابوا } صفة للمؤمنين ، أو بدل منهم ، أو من الذين لم يلحقوا بهم ، أو هو مبتدأ خبره : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } بجملته ، أو منصوب على المدح ، وقد تقدم تفسير القرح .
قوله : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } المراد بالناس هنا : نعيم بن مسعود ، كما سيأتي بيانه ، وجاز إطلاق لفظ الناس عليه لكونه من جنسهم . وقيل : المراد بالناس : ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان . وقيل : هم : المنافقون . والمراد بقوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } أبو سفيان ، وأصحابه ، والضمير في قوله : { فَزَادَهُمُ } راجع إلى القول المدلول عليه ، ب { قال } ، أو إلى المقول ، وهو : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } أو إلى القائل ، والمعنى : أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ، ولا التفتوا إليه ، بل أخلصوا لله ، وازدادوا طمأنينة ، ويقيناً . وفيه دليل على أن الإيمان يزيد ، وينقص .

قوله : { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } حسب مصدر حسبه ، أي : كفاه ، وهو بمعنى الفاعل ، أي : محسب بمعنى كافي . قال في الكشاف : والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول : هذا رجل حسبك ، فتصف به النكرة؛ لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية . انتهى . والوكيل هو : من توكل إليه الأمور ، أي : نعم الموكول إليه أمرنا ، أو الكافي ، أو الكافل ، والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : نعم الوكيل الله سبحانه .
قوله : { فانقلبوا } هو : معطوف على محذوف ، أي : فخرجوا إليهم ، فانقلبوا بنعمة هو : متعلق بمحذوف وقع حالاً . والتنوين للتعظيم ، أي : رجعوا متلبسين : { بِنِعْمَةٍ } عظيمة ، وهي السلامة من عدوهم ، وعافية { وَفَضَّلَ } أي : أجر تفضل الله به عليهم؛ وقيل ربح في التجارة . وقيل : النعمة خاصة بمنافع الدنيا ، والفضل بمنافع الآخرة ، وقد تقدم تفسيرهما قريباً بما يناسب ذلك المقام؛ لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين قد صاروا في الدار الآخرة ، والكلام هنا مع الأحياء . قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } في محل نصب على الحال ، أي : سالمين عن سوء لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ما يخافونه { واتبعوا رضوان الله } في ما يأتون ، ويذرون ، ومن ذلك خروجهم لهذه الغزوة { والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، ومن تفضله عليهم : تثبيتهم ، وخروجهم للقاء عدوهم ، وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير ، ودافعة لكل شرّ .
قوله : { إِنَّمَا ذلكم } أي : المثبط لكم أيها المؤمنون { الشيطان } هو : خبر اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة ، والخبر قوله : { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } ؛ فعلى الأول يكون قوله : { يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } جملة مستأنفة ، أو حالية ، والظاهر أن المراد هنا : الشيطان نفسه باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط ، وقيل المراد به : نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة ، وقيل : أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم؛ والمعنى أن الشيطان يخوف المؤمنين أولياءه ، وهم الكافرون ، وقيل : إن قوله : { أَوْلِيَاءهُ } منصوب بنزع الخافض أي : يخوفكم بأوليائه ، أو من أوليائه ، قاله الفراء ، والزجاج ، وأبو علي الفارسي . ورده ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين ، فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر . وعلى قول الفراء ، ومن معه يكون مفعول يخوف محذوفاً ، أي : يخوفكم . وعلى الأول يكون المفعول الأوّل محذوفاً ، والثاني مذكوراً ، ويجوز أن يكون المراد : أن الشيطان يخوف أولياءه ، وهم القاعدون من المنافقين ، فلا حذف . قوله : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ } أي : أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان ، أو فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم ، فيجبنوا على اللقاء ، ويفشلوا عن الخروج ، وأمرهم بأن يخافوه سبحانه ، فقال : { وَخَافُونِ } فافعلوا ما آمركم به ، واتركوا ما أنهاكم عنه لأني الحقيق بالخوف مني ، والمراقبة لأمري ، ونهيي لكون الخير والشرّ بيدي ، وقيده بقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لأن الإيمان يقتضي ذلك .

وقد أخرج الحاكم وصححه ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } في حمزة ، وأصحابه . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن أبي الضحى أنها نزلت في قتلى أحد ، وحمزة منهم . أخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ، ومشربهم ، وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا » ، وفي لفظ قالوا : « من يبلغ إخواننا أنَّا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ . . } الآية وما بعدها » وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن جابر بن عبد الله : أن أباه سأل الله سبحانه أن يبلغ من وراءه ما هو فيه ، فنزلت هذه الآية ، وهو من قتلى أحد . وقد روى من وجوه كثيرة أن سبب نزول الآية قتلى أحد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن أنس؛ أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة ، وعلى كل حال ، فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد ، وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح ، وغيره أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ، وثبت في فضل الشهداء ما يطول تعداده ، ويكثر إيراده مما هو معروف في كتب الحديث .
وأخرج النسائي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، والطبراني بسند صحيح ، عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم ارجعوا ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فندب المسلمين ، فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد ، أو بئر أبي عتبة ، شكّ سفيان ، فقال المشركون : يرجع من قابل ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعدّ غزوة ، فأنزل الله سبحانه : { الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول } الآية . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن عائشة في قوله تعالى : { الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول . . . } الآية ، أنها قالت لعروة بن الزبير : يا بن أختي كان أبواك منهم : الزبير ، وأبو بكر ، لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا ، فقال :

" من يرجع في أثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر ، والزبير .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد ، وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، وقالوا : رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرَّن على بقيتهم ، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في أصحابه يطلبهم ، فثنى ذلك أبا سفيان ، وأصحابه ، ومر ركب من عبد القيس ، فقال لهم أبو سفيان : بلغوا محمداً أنا قد أجمعنا الرجعة على أصحابه؛ لنستأصلهم؛ فلما مرّ الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد أخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمسلمون معه : " حسبنا الله ، " ونعم الوكيل ، فأنزل الله في ذلك : { الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول } الآيات . وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن شهاب قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدراً . فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس ، فمشوا في الناس يخوفونهم ، وقالوا : إنا قد أخبرنا أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون أن يواقعوكم . والروايات في هذا الباب كثيرة قد اشتملت عليها كتب الحديث ، والسير . وأخرج ابن المنذر ، عن سعيد بن جبير قال : القرح الجراحات .
وأخرج ابن جرير ، عن السدي أن أبا سفيان ، وأصحابه لقوا أعرابياً ، فجعلوا له جعلاً على أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه أنهم قد جمعوا لهم ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال هو ، والصحابة : " حسبنا الله ، " ونعم الوكيل ، ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله فيهم ، وفي الأعرابي : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس } الآية . وأخرج ابن مردويه ، عن أبي رافع أن هذا الأعرابي من خزاعة .
وقد ورد في فضل هذه الكلمة أعني : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } أحاديث منها ما أخرجه ابن مردويه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا وقعتم في الأمر العظيم ، فقولوا : حسبنا الله ، ونعم الوكيل " قال ابن كثير بعد إخراجه : هذا حديث غريب من هذا الوجه . وأخرج أبو نعيم ، عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حسبي الله ، ونعم الوكيل ، أمان كل خائف " وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر ، عن عائشة : «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ، ولحيته ، ثم تنفس الصعداء ، وقال : " حسبي الله ، ونعم الوكيل " وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال : " حسبنا الله ، "

ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قالوا : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، عن عوف بن مالك أنه حدثهم : «أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين ، فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ، ونعم الوكيل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ردوا عليّ الرجل " ، فقال : " ما قلت "؟ قال : قلت : حسبي الله ، ونعم الوكيل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر ، فقل : حسبي الله ، ونعم الوكيل " وأخرج أحمد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف أنعم ، وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته يسمع متى يؤمر ، فينفخ؟ ثم أمر الصحابة أن يقولوا حسبنا الله ، ونعم الوكيل على الله توكلنا " وهو حديث جيد .
وأخرج البيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس في قوله : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ } قال : النعمة أنهم سلموا ، والفضل أن عيراً مرّت ، وكان في أيام الموسم ، فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فربح مالاً ، فقسمه بين أصحابه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في الآية قال : الفضل ما أصابوا من التجارة ، والأجر . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال : أما النعمة : فهي العافية ، وأما الفضل : فالتجارة ، والسوء : القتل . أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء } قال : لم يؤذهم أحد : { واتبعوا رضوان الله } قال : أطاعوا الله ، ورسوله .
وأخرج ابن جرير ، من طريق العوفي عنه في قوله : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ } قال : يقول الشيطان يخوّف بأوليائه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك قال : يعظم أولياءه في أعينكم . وأخرج ابن المنذر ، عن عكرمة مثل قول ابن عباس . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن : إنما كان ذلك تخويف الشيطان ، ولا يخاف الشيطان إلا وليّ الشيطان .

وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ } قرأ نافع بضم الياء ، وكسر الزاي ، وقرأ ابن محيصن بضم الياء ، والزاي ، وقرأ الباقون بفتح الياء ، وضم الزاي ، وهما لغتان ، يقال : حزنني الأمر ، وأحزنني ، والأولى أفصح . وقرأ طلحة : { يسارعون } قيل : هم قوم ارتدّوا ، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ، فسلاه الله سبحانه ، ونهاه عن الحزن ، وعلل ذلك بأنهم لن يضروا الله شيئاً ، وإنما ضروا أنفسهم بأن لا حظ لهم في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم ، وقيل : هم كفار قريش ، وقيل : هم المنافقون ، وقيل : هو عام في جميع الكفار . قال القشيري ، والحزن على كفر الكافر طاعة ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفرط في الحزن ، فنهى عن ذلك ، كما قال الله تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } [ فاطر : 8 ] { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] وعدى يسارعون بفي دون إلى للدلالة على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته ، ومثله { يسارعون في الخيرات } [ المؤمنون : 61 ] وقوله : { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } تعليل للنهي ، والمعنى : أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئاً ، وقيل المراد : لن يضروا أولياءه ، ويحتمل أن يراد لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده ، وشيئاً منصوب على المصدرية : أي : شيئاً من الضرر ، وقيل : منصوب بنزع الخافض : أي بشيء . والحظ : النصيب . قال أبو زيد : يقال رجل حظيظ إذا كان ذا حظّ من الرزق ، والمعنى أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيباً في الجنة ، أو نصيباً من الثواب ، وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة ، واستمرارها { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } بسبب مسارعتهم في الكفر ، فكان ضرر كفرهم عائداً عليهم جالباً لهم عدم الحظ في الآخرة ، ومصيرهم في العذاب العظيم .
قوله : { إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي : استبدلوا الكفر بالإيمان ، وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة : { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } معناه كالأول ، وهو للتأكيد لما تقدمه ، وقيل : إن الأول خاص بالمنافقين ، والثاني يعم جميع الكفار ، والأول أولى .
قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وغيرهما : { يَحْسَبَنَّ } بالياء التحتية ، وقرأ حمزة بالفوقية ، والمعنى على الأولى : لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر ، ورغد العيش ، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد { خَيْرٌ لأِنفُسِهِمْ } فليس الأمر كذلك بل { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين } . وعلى القراءة الثانية : لا تحسبن يا محمد أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم ، بل هو شرّ واقع عليهم ، ونازل بهم ، وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم؛ ليزدادوا إثماً ، فالموصول على القراءة الأولى فاعل الفعل ، وأنما نملي ، وما بعده ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه ، أو سادّ مَسَدَّ أحدهما ، والآخر محذوف عند الأخفش .

وأما على القراءة الثانية ، فقال الزجاج : إن الموصول هو : المفعول الأول ، وإنما ، وما بعدها بدل من الموصول سادّ مسدّ المفعولين ، ولا يصح أن يكون إنما ، وما بعده هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو : الأوّل في المعنى . وقال أبو علي الفارسي : لو صح هذا لكان خيراً بالنصب؛ لأنه يصير بدلاً من الذين كفروا ، فكأنه قال : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيراً . وقال الكسائي ، والفراء : إنه يقدر تكرير الفعل كأنه قال : ولا تحسبنّ الذين كفروا ، ولا تحسبن إنما نملي لهم ، فسدت مسدّ المفعولين . وقال في الكشاف : فإن قلت كيف صح مجيء البدل ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ قلت : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل ، والمبدل منه في حكم المنحي ، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك . انتهى . وقرأ يحيى بن وثاب : { أَنَّمَا نُمْلِى } بكسر إن فيهما ، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية .
وقوله : { إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } جملة مستأنفة مبينة لوجه الاملاء للكافرين . وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة؛ لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار الكفار ، ويجعل عيشهم رغداً؛ ليزدادوا إثماً . قال أبو حاتم : وسمعت الأخفش يذكر كسر : { أَنَّمَا نُمْلِى } الأولى ، وفتح الثانية ، ويحتج بذلك لأهل القدر؛ لأنه منهم ، ويجعله على هذا التقدير : ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم؛ ليزدادوا إثماً إنما نملي لهم خير لأنفسهم . وقال في الكشاف : إن ازدياد الإثم علة ، وما كل علة بعرض ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز ، والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء يعرض لك ، وإنما هي علل ، وأسباب .
قوله : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ } كلام مستأنف ، والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار ، والمنافقين ، أي : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر ، والنفاق { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } وقيل : الخطاب للمؤمنين ، والمنافقين ، أي : ما كان الله؛ ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض؛ وقيل : الخطاب للمشركين . والمراد بالمؤمنين من في الأصلاب ، والأرحام ، أي : ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم ، وبينهم ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ، أي : ما كان الله؛ ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم ، وعلى هذا الوجه ، والوجه الثاني يكون في الكلام التفات . وقرىء : { يَمِيزَ } بالتشديد للمخفف ، من ماز الشيء يميزه ميزاً إذا فرق بين شيئين ، فإن كانت أشياء قيل : ميزه تمييزاً { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } حتى تميزوا بين الطيب ، والخبيث ، فإنه المستأثر بعلم الغيب لا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول من رسله يجتبيه ، فيطلعه على شيء من غيبه ، فيميز بينكم ، كما وقع من نبينا صلى الله عليه وسلم من تعيين كثير من المنافقين ، فإن ذلك كان بتعليم الله له ، لا بكونه يعلم الغيب؛ وقيل المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة ، حتى يكون الوحي باختياركم { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِى } أي : يختار { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34