كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

{ أَنِ اعمل سابغات } في « أن » هذه وجهان : أحدهما : أنها مصدرية على حذف حرف الجرّ ، أي : بأن اعمل ، والثاني أنها المفسرة لقوله : { وَأَلَنَّا } ، وفيه نظر؛ لأنها لا تكون إلاّ بعد القول ، أو ما هو في معناه . وقدّر بعضهم فعلاً فيه معنى القول ، فقال التقدير : وأمرناه أن أعمل . وقوله : { سابغات } صفة لموصوف محذوف ، أي : دروعاً سابغات ، والسابغات الكوامل الواسعات ، يقال : سبغ الدرع ، والثوب ، وغيرهما : إذا غطى كل ما هو عليه ، وفضل منه فضلة . { وَقَدّرْ فِى السرد } السرد نسج الدروع ، ويقال : السرد والزرد كما يقال : السراد ، والزراد لصانع الدروع ، والسرد أيضاً الخرز . يقال : سرد يسرد : إذا خرز ، ومنه سرد الكلام : إذا جاء به متوالياً ، ومنه حديث عائشة : لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم . قال سيبويه : ومنه سريد : أي : جري ، ومعنى سرد الدروع : إحكامها ، وأن يكون نظم حلقها ولاء غير مختلف ، ومنه قول لبيد :
سرد الدروع مضاعفاً أسراده ... لينال طول العيش غير مروم
وقول أبي ذؤيب الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود إذ صنع السوابغ تبع
قال قتادة : كانت الدروع قبل داود ثقالاً ، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة ، أي : قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه ، فلا تقصد الحصانة فيثقل ، ولا الخفة فيزيل المنعة ، وقال ابن زيد : التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة ، أي : لا تعملها صغيرة فتضعف ولا يقوى الدرع على الدفاع ، ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها . وقيل : إن التقدير هو في المسمار ، أي : لا تجعل مسمار الدرع دقيقاً فيقلق ، ولا غليظاً فيفصم الحلق . ثم خاطب داود ، وأهله ، فقال : { واعملوا صالحا } أي : عملاً صالحاً كما في قوله : { اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا } ، ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله : { إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي : لا يخفى عليّ شيء من ذلك .
{ ولسليمان الريح } قرأ الجمهور : { الريح } بالنصب على تقدير : وسخرنا لسليمان الريح كما قال الزجاج ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء ، والخبر ، أي : ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة ، وقرأ الجمهور : { الريح } ، وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وخالد بن إلياس : ( الرياح ) بالجمع . { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي : تسير بالغداة مسيرة شهر ، وتسير بالعشي كذلك ، والجملة إما مستأنفة لبيان تسخير الريح ، أو في محل نصب على الحال . والمعنى : أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين . قال الحسن : كان يغدو من دمشق ، فيقيل بإصطخر ، وبينهما مسيرة شهر للمسرع ، ثم يروح من إصطخر ، فيبيت بكابل ، وبينهما مسيرة شهر { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } القطر : النحاس الذائب .

قال الواحدي : قال المفسرون : أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء ، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان ، والمعنى : أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود ، وقال قتادة : أسال الله له عيناً يستعملها فيما يريد { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ } من مبتدأ ، ويعمل خبره ، ومن الجنّ متعلق به ، أو بمحذوف على أنه حال ، أو من يعمل معطوف على الريح ، ومن الجنّ حال ، والمعنى : وسخرنا له من يعمل بين يديه حال كونه من الجنّ بإذن ربه ، أي : بأمره . والإذن مصدر مضاف إلى فاعله ، والجار والمجرور في محل نصب على الحال ، أي : مسخراً أو ميسراً بأمر ربه { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي : ومن يعدل من الجنّ عن أمرنا الذي أمرناه به : وهو : طاعة سليمان { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } قال أكثر المفسرين : وذلك في الآخرة . وقيل : في الدنيا . قال السدّي : وكل الله بالجنّ ملكاً بيده سوط من نار ، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة فتحرقه .
ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجنّ لسليمان ، فقال : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء } ، و «من» في قوله : { مِن محاريب } للبيان ، والمحاريب في اللغة كل موضع مرتفع ، وهي : الأبنية الرفيعة ، والقصور العالية . قال المبرد : لا يكون المحراب إلاّ أن يرتقى إليه بدرج ، ومنه قيل : للذي يصلي فيه : محراب؛ لأنه يرفع ويعظم . وقال مجاهد : المحاريب دون القصور . وقال أبو عبيدة : المحراب أشرف بيوت الدار ، ومنه قول الشاعر :
وماذا عليه إن ذكرت أوانسا ... كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال الضحاك : المراد بالمحاريب هنا : المساجد ، والتماثيل جمع تمثال ، وهو كل شيء مثلته بشيء ، أي : صوّرته بصورته من نحاس ، أو زجاج ، أو رخام ، أو غير ذلك . قيل : كانت هذه التماثيل صور الأنبياء ، والملائكة ، والعلماء ، والصلحاء ، وكانوا يصوّرونها في المساجد؛ ليراها الناس ، فيزدادوا عبادة واجتهاداً . وقيل : هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان . وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحاً في شرع سليمان ، ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . والجفان جمع جفنة ، وهي : القصعة الكبيرة . { الجواب } جمع جابية ، وهي : حفيرة كالحوض . وقيل : هي الحوض الكبير يجبي الماء ، أي : يجمعه . قال الواحدي : قال المفسرون : يعني : قصاعاً في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها . قال النحاس : الأولى إثبات الياء في الجوابي ، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا تغيرها عن حالها ، فلما كان يقال جواب ، ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله ، فحذف الياء . قال الكسائي : يقال : جبوت الماء ، وجبيته في الحوض ، أي : جمعته ، والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل .

وقال النحاس : والجابية القدر العظيمة ، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشي ، أي : يجمع ، ومنه جبيت الخراج ، وجبيت الجراد : جمعته في الكساء { وَقُدُورٍ رسيات } قال قتادة : هي : قدور النحاس تكون بفارس ، وقال الضحاك : هي : قدور تنحت من الجبال الصمّ عملتها له الشياطين . ومعنى { راسيات } . ثابتات لا تحمل ، ولا تحرّك لعظمها . ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم ، أي : سليمان وأهله ، فقال : { اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا } أي : وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكراً له على ما آتاكم ، أو اعملوا عملاً شكراً على أنه صفة مصدر محذوف ، أو اعملوا للشكر على أنه مفعول له ، أو حال ، أي : شاكرين ، أو مفعول به ، وسميت الطاعة شكراً لأنها من جملة أنواعه ، أو منصوب على المصدرية بفعل مقدّر من جنسه ، أي : اشكروا شكراً . ثم بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده ليسوا بالكثير ، فقال : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } أي : العامل بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل . وارتفاع { قليل } على أنه خبر مقدّم ، و { من عبادي } صفة له ، والشكور مبتدأ .
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت } أي : حكمنا عليه به ، وألزمناه إياه { مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ } يعني : الأرضة . وقرىء . ( الأرض ) بفتح الراء ، أي : الأكل ، يقال : أرضت الخشبة أرضاً : إذا أكلتها الأرضة . ومعنى تأكل منسأته : تأكل عصاه التي كان متكئاً عليها ، والمنسأة : العصا بلغة الحبشة ، أو هي مأخوذة من نسأت الغنم ، أي : زجرتها . قال الزجاج : المنسأة التي ينسأ بها : أي : يطرد . قرأ الجمهور : { منسأته } بهمزة مفتوحة . وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو بألف محضة . قال المبرد : بعض العرب يبدل من همزتها ألفاً ، وأنشد :
إذا دببت على المنسأة من كبر ... فقد تباعد عنك اللهو والغزل
ومثل قراءة الجمهور قول الشاعر :
ضربنا بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهيناً ذليلا
ومثله :
أمن أجل حبل لا أباك ضربته ... بمنسأة قد جرّ حبلك أحبلا
ومما يدلّ على قراءة ابن ذكوان قول طرفة :
أمون كألواح الأران نسأتها ... على لاحب كأنه ظهر برجد
{ فَلَمَّا خَرَّ } أي : سقط { تَبَيَّنَتِ الجن } أي : ظهر لهم ، من تبينت الشيء : إذا علمته ، أي : علمت الجن : { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين } أي : لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب المهين في العمل الذي أمرهم به ، والطاعة له ، وهو إذ ذاك ميت . قال مقاتل : العذاب المهين : الشقاء ، والنصب في العمل . قال الواحدي : قال المفسرون : كانت الناس في زمان سليمان يقولون : إن الجنّ تعلم الغيب ، فلما مكث سليمان قائماً على عصاه حولاً ميتاً ، والجنّ تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه ، فخرّ ميتاً ، فعلموا بموته ، وعلم الناس : أن الجنّ لا تعلم الغيب ، ويجوز : أن يكون تبينت الجنّ من تبين الشيء ، لا من تبينت الشيء ، أي : ظهر ، وتجلى ، وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجنّ مع تقدير محذوف ، أي : ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، أو ظهر أن الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب إلخ .

قرأ الجمهور : { تبينت } على البناء للفاعل مسنداً إلى الجنّ . وقرأ ابن عباس ويعقوب : { تبينت } على البناء للمفعول ، ومعنى القراءتين يعرف مما قدّمنا .
وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَوّبِى مَعَهُ } قال : سبحي معه ، وروي مثله عن أبي ميسرة ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وابن زيد . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } قال : كالعجين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله : { وَقَدّرْ فِى السرد } قال : حلق الحديد . وأخرج عبد الرّزّاق ، والحاكم عنه أيضاً { وَقَدّرْ فِى السرد } قال : لا تدقّ المسامير ، وتوسع الحلق ، فتسلس ، ولا تغلظ المسامير ، وتضيق الحلق ، فتقصم ، واجعله قدراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } قال النحاس . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال : القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان ، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : القطر الصفر . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله : { وتماثيل } قال : اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال : يا ربّ انفخ فيها الروح ، فإنها أقوى على الخدمة ، فنفخ الله فيها الروح ، فكانت تخدمه ، وكان اسفنديار من بقاياهم ، فقيل لداود وسليمان : { اعملوا ءالَ دَاوُودُ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { كالجواب } قال : كالجوبة من الأرض { وَقُدُورٍ رسيات } قال : أثافيها منها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور } يقول : قليل من عبادي الموحدين توحيدهم . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال : لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات ، ثم خرّ على رأس الحول ، فأخذت الجنّ عصي مثل عصاه ، ودابة مثل دابته ، فأرسلوها عليها ، فأكلتها في سنة ، وكان ابن عباس يقرأ : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن } الآية ، قال سفيان : وفي قراءة ابن مسعود «وهم يدأبون له حولاً» .
وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن السني ، وابن مردويه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

" كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه ، فيقول لها : ما اسمك؟ فتقول : كذا ، وكذا ، فيقول : لما أنت؟ فتقول : لكذا ، وكذا ، فإن كانت لغرس غرست ، وإن كانت لدواء كتبت ، وصلى ذات يوم ، فإذا شجرة نابتة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك؟ قالت : الخروب؟ قال : لأيّ شيء أنت؟ قالت : لخراب هذا البيت ، فقال سليمان : اللهم عمّ عن الجنّ موتي حتى يعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب ، فهيأ عصا ، فتوكأ عليها ، وقبضه الله ، وهو متكىء عليها ، فمكث حولاً ميتاً ، والجنّ تعمل ، فأكلتها الأرضة ، فسقطت ، فعلموا عند ذلك بموته ، فتبينت الإنس { أن } الجنّ { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين } " وكان ابن عباس يقرؤها كذلك ، فشكرت الجنّ للأرضة ، فأينما كانت يأتونها بالماء . وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً ، وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله عزّ وجلّ«إني تفضلت على عبادي بثلاث : ألقيت الدابة على الحبة ، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب ، والفضة ، وألقيت النتن على الجسد ، ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه ، واستلبت الحزن ، ولولا ذلك لذهب النسل» .

لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)

لما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقبه بحال بعض الجاحدين لها ، فقال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } المراد بسبأ القبيلة التي هي من أولاد سبأ ، وهو : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود . قرأ الجمهور : { لسبأ } بالجرّ والتنوين على أنه اسم حيّ ، أي : الحيّ الذين هم : أولاد سبأ ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : ( لسبأ ) ممنوع الصرف بتأويل القبيلة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، ويقوّي القراءة الأولى قوله : { فِى مساكنهم } ، ولو كان على تأويل القبيلة لقال : في مساكنها ، فمما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر :
الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عضّ أعناقها جلد الجواميس
ومما ورد على القراءة الثانية قول الشاعر :
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون مسيله العرما
وقرأ قنبل ، وأبو حيوة ، والجحدري : ( لبسأ ) بإسكان الهمزة ، وقرىء بقلبها ألفاً . وقرأ الجمهور : { فِى مساكنهم } على الجمع ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، ووجه الاختيار : أنها كانت لهم منازل كثيرة ، ومساكن متعدّدة . وقرأ حمزة ، وحفص بالإفراد مع فتح الكاف . وقرأ الكسائي بالإفراد مع كسرها ، وبهذه القراءة قرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش ، ووجه الإفراد : أنه مصدر يشمل القليل ، والكثير ، أو اسم مكان ، وأريد به معنى : الجمع ، وهذه المساكن التي كانت لهم هي : التي يقال لها الآن : مأرب ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال ، ومعنى قوله : { ءايَةً } أي : علامة دالة على كمال قدرة الله ، وبديع صنعه ، ثم بين هذه الآية ، فقال : { جَنَّتَانِ } ، وارتفاعهما على البدل من آية قاله الفراء ، أو على أنهما خبر مبتدأ محذوف قاله الزجاج ، أو على أنهما مبتدأ ، وخبره : { عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } ، واختار هذا الوجه ابن عطية ، وفيه أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ ، وقرأ ابن أبي عبلة : «جنتين» بالنصب على أنهما خبر ثان ، واسمها : آية ، وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله ، قد أحاطتا به من جهتيه ، وكانت مساكنهم في الوادي ، والآية هي : الجنتان ، كانت المرأة تمشي فيهما ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها . وقال عبد الرحمن بن زيد : إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة ، ولا ذباباً ، ولا برغوثاً ، ولا قملة ، ولا عقرباً ، ولا حية ، ولا غير ذلك من الهوام ، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم . قال القشيري : ولم يرد جنتين اثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة { كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ } أي : قيل لهم ذلك ، ولم يكن ثم أمر ، ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم .

وقيل : إنها قالت لهم الملائكة ، والمراد بالرزق هو : ثمار الجنتين . وقيل : إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم { واشكروا لَهُ } على ما رزقكم من هذه النعم ، واعملوا بطاعته ، واجتنبوا معاصيه ، وجملة : { بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } مستأنفة لبيان موجب الشكر . والمعنى : هذه بلدة طيبة لكثرة أشجارها ، وطيب ثمارها . وقيل : معنى كونها طيبة : أنها غير سبخة ، وقيل : ليس فيها هوامّ . وقال مجاهد : هي : صنعاء . ومعنى : { وَرَبٌّ غَفُورٌ } : أن المنعم عليهم ربّ غفور لذنوبهم . قال مقاتل : المعنى : وربكم إن شكرتم فيما رزقكم ربّ غفور للذنوب . وقيل : إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام . وقرأ ورش بنصب بلدة ، وربّ على المدح ، أو على تقدير اسكنوا بلدة ، واشكروا رباً .
ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم ، فقال : { فَأَعْرِضُواْ } عن الشكر ، وكفروا بالله ، وكذبوا أنبياءهم قال السدّي : بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً ، فكذبوهم ، وكذا قال وهب . ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم ، فقال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم } ، وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن ، فردموا ردماً بين جبلين ، وحبسوا الماء . وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض ، وكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الباب الثاني ، ثم من الثالث ، فأخصبوا ، وكثرت أموالهم ، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً ، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض ، فدخل الماء جنتهم ، فغرقها ، ودفن السيل بيوتهم ، فهذا هو سيل العرم ، وهو جمع عرمة وهي : السكر التي تحبس الماء ، وكذا قال قتادة ، وغيره . وقال السدّي : العرم اسم للسدّ . والمعنى : أرسلنا عليهم سيل السدّ العرم . وقال عطاء : العرم اسم الوادي . وقال الزجاج : العرم اسم الجرذ الذي نقب السدّ عليهم ، وهو الذي يقال له : الخلد : فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه . قال ابن الأعرابي : العرم من أسماء الفأر . وقال مجاهد ، وابن أبي نجيح : العرم ماء أحمر أرسله الله في السدّ ، فشقه ، وهدمه . وقيل : إن العرم اسم المطر الشديد . وقيل : اسم للسيل الشديد ، والعرامة في الأصل : الشدّة ، والشراسة ، والصعوبة . يقال : عرم فلان : إذا تشدّد ، وتصعب ، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال : العرم السيل الذي لا يطاق . وقال المبرّد : العرم كل شيء حاجز بين شيئين .
{ وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ } أي : أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة ، والأنواع الحسنة ، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما ، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما ، ولهذا قال : { ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ } قرأ الجمهور بتنوين : { أكل } ، وعدم إضافته إلى { خمط } ، وقرأ أبو عمرو بالإضافة . قال الخليل : الخمط الأراك ، وكذا قال كثير من المفسرين .

وقال أبو عبيدة : الخمط كل شجرة مرّة ذات شوك . وقال الزجاج : كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله . وقال المبرّد : كل شيء تغير إلى ما لا يشتهى يقال له : خمط ، ومنه اللبن إذا تغير ، وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو . والخمط نعت لأكل ، أو بدل منه ، لأن الأكل هو : الخمط بعينه . وقال الأخفش : الإضافة أحسن في كلام العرب : مثل ثوب خزّ ، ودار آجرّ ، والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه . قال الجوهري : الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل ، وتسمية البدل جنتين للمشاكلة ، أو التهكم بهم ، والأثل هو : الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال : إلاّ أنه أعظم من الطرفاء طولاً ، الواحدة أثلة ، والجمع أثلاث . وقال الحسن : الأثل الخشب . وقال أبو عبيدة : هو : شجر النطار ، والأوّل أولى ، ولا ثمر للأثل . والسدر شجر معروف . قال الفراء : هو : السمر . قال الأزهري : السدر من الشجر سدران : بريّ لا ينتفع به ، ولا يصلح للغسول ، وله ثمر عفص لا يؤكل ، وهو الذي يسمى : الضال . والثاني سدر ينبت على الماء ، وثمره النبق ، وورقه غسول يشبه شجر العناب ، قيل : ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعاً يطيب أكله ، وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري . قال قتادة : بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم ، فأهلك أشجارهم المثمرة ، وأنبت بدلها الأراك ، والطرفاء والسدر . ويحتمل : أن يرجع قوله : { قَلِيلٌ } إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من التبديل ، أو إلى مصدر { جزيناهم } والباء في { بِمَا كَفَرُواْ } للسببية ، أي : ذلك التبديل ، أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها { وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور } أي : وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة ، ونزول النقمة إلاّ الشديد الكفر المتبالغ فيه . قرأ الجمهور : ( يجازى ) بضم التحتية ، وفتح الزاي على البناء للمفعول . وقرأ حمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وحفص بالنون ، وكسر الزاي على البناء للفاعل ، وهو : الله سبحانه ، والكفور على القراءة الأولى مرفوع ، وعلى القراءة الثانية منصوب ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد ، وأبو حاتم قالا : لأن قبله { جزيناهم } ، وظاهر الآية : أنه لا يجازى إلاّ الكفور مع كون أهل المعاصي يجازون ، وقد قال قوم : إن معنى الآية : أنه لا يجازى هذا الجزاء ، وهو الاصطلام ، والإهلاك إلاّ من كفر . وقال مجاهد : إن المؤمن يكفر عنه سيئاته ، والكافر يجازى بكل عمل عمله . وقال طاووس : هو : المناقشة في الحساب ، وأما المؤمن ، فلا يناقش . وقال الحسن : إن المعنى : إنه يجازي الكافر مثلاً بمثل ، ورجح هذا الجواب النحاس .
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } هذا معطوف على قوله : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } أي : وكان من قصتهم : أنا جعلنا بينهم ، وبين القرى التي باركنا فيها بالماء ، والشجر ، وهي : قرى الشام { قُرًى ظاهرة } أي : متواصلة ، وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام ، وكانوا يبيتون بقرية ، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا ، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام ، فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم .

قال الحسن : إن هذه القرى هي بين اليمن والشام . قيل : إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية . وقيل : هي بين المدينة والشام . وقال المبرّد : القرى الظاهرة هي المعروفة ، وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى ، فكانت قرى ظاهرة ، أي معروفة ، يقال : هذا أمر ظاهر ، أي : معروف { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } أي : جعلنا السير من القرية إلى القرية مقداراً معيناً واحداً ، وذلك نصف يوم كما قال المفسرون . قال الفرّاء : أي : جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية ، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام ، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد ، والماء ، ولخوف الطريق ، فإذا وجد الزاد ، والأمن لم يحمل نفسه المشقة ، بل ينزل أينما أراد . والحاصل : أن الله سبحانه عدّد عليهم النعم ، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم ، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم ، وبين ما يريدون السفر إليه ، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي وقوله : { سِيرُواْ فِيهَا } هو على تقدير القول ، أي : وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة ، فهو أمر تمكين أي : ومكناهم من السير فيها متى شاءوا { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } مما يخافونه ، وانتصاب { ليالي } و { أياماً } على الظرفية . وانتصاب { آمنين } على الحال . قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين ، ولا جياع ، ولا ظمأ ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرّك بعضهم بعضاً ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحرّكه .
ثم ذكر سبحانه : أنهم لم يشكروا النعمة ، بل طلبوا التعب والكد . { فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا } وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة ، ولم يصبروا على العافية ، فتمنوا طول الأسفار ، والتباعد بين الديار ، وسألوا الله تعالى : أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء ، والشجر ، والأمن ، والمفاوز ، والقفار ، والبراري المتباعدة الأقطار ، فأجابهم الله إلى ذلك ، وخرّب تلك القرى المتواصلة ، وذهب بما فيها من الخير ، والماء ، والشجر ، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا : { فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارض مِن بَقْلِهَا } [ البقرة : 61 ] الآية مكان المنّ والسلوى ، وكقول النضر بن الحارث { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] الآية . قرأ الجمهور { ربنا } بالنصب على أنه منادى مضاف ، وقرءوا أيضاً : { باعد } وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن محيصن ، وهشام عن ابن عامر : ( بعد ) بتشديد العين ، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً ، فيكون معنى هذه القراءة : الشكوى من بعد الأسفار ، وقرأ أبو صالح ، ومحمد بن الحنفية ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم ، ويعقوب : ( ربنا ) بالرفع : ( باعد ) بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء ، والخبر .

والمعنى : لقد باعد ربنا بين أسفارنا ، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس ، واختارها أبو حاتم ، قال : لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً ، وأشراً ، وكفراً للنعمة . وقرأ يحيى بن يعمر ، وعيسى بن عمر : ( ربنا ) بالرفع ، ( بعد ) بفتح العين مشدّدة ، فيكون معنى هذه القراءة : الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى ، والشجر ، والماء ، فيكون هذا من جملة بطرهم ، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل : في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] . وروى الفرّاء ، والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف ، والتقدير : بعد سيرنا بين أسفارنا . قال النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال : إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا ا ختلفت معانيها ، ولكن أخبر عنهم : أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم ، فلما فعل ذلك بهم شكوا ، وتضرّروا ، ولهذا قال سبحانه : { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } حيث كفروا بالله ، وبطروا نعمته ، وتعرّضوا لنقمته { فجعلناهم أَحَادِيثَ } يتحدّث الناس بأخبارهم . والمعنى : جعلناهم ذوي أحاديث يتحدّث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم ، واعتباراً بحالهم ، وعاقبتهم { ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي : فرّقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق ، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث ، وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم ، وأذهب جنتهم ، تفرّقوا في البلاد ، فصارت العرب تضرب بهم الأمثال . فتقول : تفرّقوا أيدي سبا . قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب ، وغسان بالشام ، والأزد بعمان ، وخزاعة بتهامة { إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ } أي : فيما ذكر من قصتهم ، وما فعل الله بهم لآيات بينات ، ودلالات واضحات { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : لكل من هو كثير الصبر ، والشكر ، وخصّ الصبار الشكور ، لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات .
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } قرأ الجمهور : « صدق » بالتخفيف ، ورفع : { إبليس } ، ونصب { ظنه } . قال الزجاج : وهو على المصدر ، أي : صدق عليهم ظناً ظنه ، أو صدق في ظنه ، أو على الظرف . والمعنى : أنه ظنّ بهم : أنه إذا أغواهم اتبعوه ، فوجدهم كذلك ، ويجوز : أن يكون منتصباً على المفعولية ، أو بإسقاط الخافض . وقرأ حمزة ، والكسائي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وعاصم : { صدق } بالتشديد ، و { ظنه } بالنصب على أنه مفعول به .

قال أبو عليّ الفارسي ، أي : صدّق الظنّ الذي ظنه . قال مجاهد : ظنّ ظناً ، فصدّق ظنه ، فكان كما ظنّ ، وقرأ أبو جعفر ، وأبو الجهجاء ، والزّهري ، وزيد بن عليّ : ( صدق ) بالتخفيف ، و ( إبليس ) بالنصب ( وظنه ) بالرفع ، قال أبو حاتم : لا وجه لهذه القراءة عندي ، وقد أجاز هذه القراءة الفرّاء ، وذكرها الزجاج ، وجعل الظنّ فاعل صدّق ، وإبليس مفعوله . والمعنى : أن إبليس سوّل له ظنه شيئاً فيهم ، فصدّق ظنه ، فكأنه قال : ولقد صدّق عليهم ظن إبليس . وروي عن أبي عمرو : أنه قرأ برفعهما مع تخفيف صدق على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس . قيل : وهذه الآية خاصة بأهل سبأ . والمعنى : أنهم غيروا ، وبدّلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم . وقيل : هي عامة ، أي : صدّق إبليس ظنه على الناس كلهم إلاّ من أطاع الله . قاله مجاهد ، والحسن . قال الكلبي : إنه ظنّ : أنه إن أغواهم أجابوه ، وإن أضلهم أطاعوه ، فصدّق ظنه { فاتبعوه } قال الحسن : ما ضربهم بصوت ، ولا بعصي ، وإنما ظنّ ظناً ، فكان كما ظنّ بوسوسته ، وانتصاب . { إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين } على الاستثناء ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يراد به بعض المؤمنين ، لأن كثيراً من المؤمنين يذنب ، وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ، ولم يسلم منه إلاّ فريق ، وهم الذين قال فيهم : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الحجر : 42 ] . وقيل : المراد ب { فريقاً من المؤمنين } : المؤمنون كلهم على أن تكون « من » بيانية .
{ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان } أي : ما كان له تسلط عليهم ، أي : لم يقهرهم على الكفر ، وإنما كان منه الدعاء ، والوسوسة ، والتزيين . وقيل : السلطان القوّة . وقيل : الحجة ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالأخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ } منقطع ، والمعنى : لا سلطان له عليهم ، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم . وقيل : هو متصل مفرّغ من أعم العام : أي : ما كان له عليهم تسلط بحال من الأحوال ، ولا لعلة من العلل إلاّ ليتميز من يؤمن ، ومن لا يؤمن ، لأنه سبحانه قد علم ذلك علماً أزلياً . وقال الفرّاء : المعنى : إلاّ لنعلم ذلك عندكم . وقيل : إلاّ لتعلموا أنتم ، وقيل : ليعلم أولياؤنا ، والملائكة . وقرأ الزهري . ( إلاّ ليعلم ) على البناء للمفعول ، والأولى حمل العلم هنا على التمييز ، والإظهار كما ذكرنا { وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَىْء حَفُيظٌ } أي : محافظ عليه . قال مقاتل : علم كل شيء من الإيمان و الشك .
وقد أخرج أحمد ، والبخاري ، والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه ، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؟ فأذن لي في قتالهم ، وأمرني ، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني ، فقال : « ادع القوم ، فمن أسلم منهم ، فاقبل منه ، ومن لم يسلم ، فلا تعجل حتى أحدث إليك »

وأنزل في سبأ ما أنزل ، فقال رجل يا رسول الله ، وما سبأ : أرض أم امرأة؟ قال : « ليس بأرض ولا امرأة ، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب ، فتيامن منهم ستة ، وتشاءم منهم أربعة ، فأما الذين تشاءموا : فلخم ، وجذام ، وغسان ، وعاملة؛ وأما الذين تيامنوا ، فالأزد ، والأشعريون ، وحمير ، وكندة ، ومذحج ، وأنمار » فقال رجل : يا رسول الله ، وما أنمار؟ قال : « الذي منهم خثعم ، وبجيلة » وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، وابن عديّ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { سَيْلَ العرم } قال : الشديد . وأخرج ابن جرير عنه قال : { سَيْلَ العرم } واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { أُكُلٍ خَمْطٍ } قال : الأراك . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور } قال : تلك المناقشة .
وأخرج إسحاق بن بشر ، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم } يعني : بين مساكنهم { وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا } يعني : الأرض المقدّسة { قُرًى ظاهرة } يعني : عامرة مخصبة { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } يعني : فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام { سِيرُواْ فِيهَا } إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } قال إبليس : إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً ، وإني خلقت من نار ، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً . قال : فصدّق ظنه عليهم { فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين } قال : هم المؤمنون كلهم .

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

قوله : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مّن دُونِ الله } هذا أمر للنبيّ صلى الله عليه وسلم بأن يقول لكفار قريش ، أو للكفار على الإطلاق هذا القول ، ومفعولا زعمتم محذوفان ، أي : زعمتموهم آلهة لدلالة السياق عليهما . قال مقاتل : يقول : ادعوهم ليكشفوا عنكم الضرّ الذي نزل بكم في سنين الجوع . ثم أجاب سبحانه عنهم ، فقال : { لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } أي : ليس لهم قدرة على خير ، ولا شرّ ، ولا على جلب نفع ، ولا دفع ضرر في أمر من الأمور ، وذكر السماوات والأرض لقصد التعميم لكونهما ظرفاً للموجودات الخارجية { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } أي : ليس للآلهة في السماوات والأرض مشاركة لا بالخلق ، ولا بالملك ، ولا بالتصرّف { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ } أي : وما لله سبحانه من تلك الآلهة من معين يعينه على شيء من أمر السموات والأرض ومن فيهما .
{ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ } أي : شفاعة من يشفع عنده من الملائكة ، وغيرهم ، وقوله : { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة ، والنبيين ، ونحوهم من أهل العلم ، والعمل ، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلاّ لمن يستحق الشفاعة ، لا للكافرين ، ويجوز : أن يكون المعنى : لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له ، أي : لأجله ، وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم ، لا من عداهم من غير المستحقين لها ، واللام في : { لمن } يجوز أن تتعلق بنفس الشفاعة . قال أبو البقاء : كما تقول : شفعت له ، ويجوز : أن تتعلق بتنفع ، والأولى أنها متعلقة بالمحذوف كما ذكرنا . قيل : والمراد بقوله : { لاَّ تَنفَعُ الشفاعة } : أنها لا توجد أصلاً إلاّ لمن أذن له ، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها . قرأ الجمهور : { أذن } بفتح الهمزة ، أي : أذن له الله سبحانه ، لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا ، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي بضمها على البناء للمفعول ، والآذن هو : الله سبحانه ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، ثم أخبر سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء ، والمشفوع لهم ، فقال : { حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } قرأ الجمهور : { فزّع } مبنياً للمفعول ، والفاعل هو : الله ، والقائم مقام الفاعل هو : الجارّ والمجرور ، وقرأ ابن عامر : ( فزّع ) مبنياً للفاعل ، وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه ، وكلا القراءتين بتشديد الزاي ، وفعل معناه : السلب ، فالتفزيع إزالة الفزع . وقرأ الحسن مثل قراءة الجمهور إلاّ أنه خفّف الزاي .

قال قطرب : معنى فزّع عن قلوبهم : أخرج ما فيها من الفزع ، وهو : الخوف . وقال مجاهد : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة . والمعنى : أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة ، والأنبياء والأصنام ، إلاّ أن الله سبحانه يأذن للملائكة والأنبياء ، ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها ، وهم على غاية النزع من الله كما قال تعالى : { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] ، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل ، والخوف الشديد من أن يحدث شيء من أقدار الله ، فإذا سرّي عليهم { قَالُواْ } للملائكة فوقهم ، وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي : ماذا أمر به ، فيقولون لهم : قال : القول { الحق } ، وهو : قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم { وَهُوَ العلى الكبير } فله أن يحكم في عباده بما يشاء ، ويفعل ما يريد . وقيل : هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الربّ . والمعنى : لا تنفع الشفاعة إلاّ من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله ، دون الجمادات ، والشياطين . وقيل : إن الذين يقولون : ماذا قال ربكم هم : المشفوع لهم ، والذين أجابوهم : هم : الشفعاء من الملائكة ، والأنبياء . وقال الحسن ، وابن زيد ، ومجاهد : معنى الآية : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة . قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا : الحقّ ، فأقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار . وقرأ ابن عمر ، وقتادة : ( فرّغ ) بالراء المهملة ، والغين المعجمة من الفراغ . والمعنى : فرغ الله قلوبهم : أي : كشف عنها الخوف . وقرأ ابن مسعود : ( افرنقع ) بعد الفاء راء مهملة ، ثم نون ، ثم قاف ، ثم عين مهملة من الافرنقاع ، وهو : التفرّق . ثم أمر الله سبحانه رسوله : أن يبكت المشركين ، ويوبخهم ، فقال : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السموات والأرض } أي : من ينعم عليكم بهذه الأرزاق التي تتمتعون بها ، فإن آلهتكم لا يملكون مثقال ذرة ، والرّزق من السماء هو : المطر ، وما ينتفع به منها من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والرّزق من الأرض هو : النبات ، والمعادن ، ونحو ذلك ، ولما كان الكفار لا يقدرون على جواب هذا الاستفهام ، ولم تقبل عقولهم نسبة هذا الرّزق إلى آلهتهم ، وربما يتوقفون في نسبته إلى الله مخافة أن تقوم عليهم الحجة ، فأمر الله رسوله : بأن يجيب عن ذلك ، فقال : { قُلِ الله } أي : هو الذي يرزقكم من السماوات والأرض ، ثم أمره سبحانه : أن يخبرهم بأنهم على ضلالة ، لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعد ما سبق تقرير من هو على الهدى ، ومن هو على الضلالة ، فقال : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } والمعنى : أن أحد الفريقين من الذين يوحدون الله الخالق الرّازق ، ويخصونه بالعبادة ، والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ، ولا رزق ، ولا نفع ، ولا ضرّ لعلى أحد الأمرين من الهدى ، والضلالة ، ومعلوم لكلّ عاقل أن من عبد الذي يخلق ، ويرزق ، وينفع ، ويضرّ هو : الذي على الهدى ، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ، ولا رزق ، ولا نفع ، ولا ضرّ هو : الذي على الضلالة ، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى ، وهم : المسلمون ، وفريق الضلالة ، وهم : المشركون على وجه أبلغ من التصريح .

قال المبرّد : ومعنى هذا الكلام : معنى قول المتبصر في الحجة لصاحبه : أحدنا كاذب ، وقد عرف : أنه الصادق المصيب ، وصاحبه الكاذب المخطىء . قال : و « أو » عند البصريين على بابها ، وليست للشكّ ، لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين ، وهو عالم بالمعنى . وقال أبو عبيدة ، والفرّاء : هي بمعنى : الواو ، وتقديره : وإنا على هدى ، وإياكم لفي ضلال مبين ، ومنه قول جرير :
أثعلبة الفوارس أو رباحا ... عدلت بهم طهية والربابا
أي : ثعلبة ، ورباحاً ، وكذا قول الآخر :
فلما اشتد بأس الحرب فينا ... تأملنا رباحاً أو رزاما
أي : ورزاماً ، وقوله : { أو إياكم } معطوف على اسم إن ، وخبرها هو المذكور ، وحذف خبر الثاني للدلالة عليه ، أي : إنا لعلى هدى ، أو في ضلال مبين ، وإنكم لعلى هدى ، أو في ضلال مبين ، ويجوز العكس : وهو كون المذكور خبر الثاني ، وخبر الأوّل محذوفاً ، كما تقدّم في قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] ، ثم أردف سبحانه هذا الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف ، وأبعد من الجدل ، والمشاغبة ، فقال : { قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي : إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم ، ونفع ، ولا ينالني من كفركم ، وترككم لإجابتي ضرر ، وهذا كقوله سبحانه : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، وفي إسناد الجرم إلى المسلمين ، ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين ، مع كون أعمال المسلمين من البرّ الخالص ، والطاعة المحضة ، وأعمال الكفار من المعصية البينة ، والإثم الواضح من الإنصاف ما لا يقادر قدره . والمقصود : المهادنة ، والمتاركة ، وقد نسخت هذه الآية ، وأمثالها بآية السيف .
ثم أمره سبحانه بأن يهدّدهم بعذاب الآخرة ، لكن على وجه لا تصريح فيه ، فقال : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } أي : يوم القيامة { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } أي : يحكم ، ويقضي بيننا الحقّ ، فيثيب المطيع ، ويعاقب العاصي { وَهُوَ الفتاح } أي : الحاكم بالحقّ القاضي بالصواب { العليم } بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح . وهذه أيضاً منسوخة بآية السيف . ثم أمره سبحانه : أن يورد عليهم حجة أخرى يظهر بها ما هم عليه من الخطأ ، فقال : { قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاء } أي : أروني الذين ألحقتموهم بالله شركاء له ، وهذه الرؤية هي : القلبية ، فيكون { شركاء } هو : المفعول الثالث ، لأن الفعل تعدّى بالهمزة إلى ثلاثة .

الأوّل : الياء في { أروني } ، والثاني : الموصول ، والثالث : { شركاء } ، وعائد الموصول محذوف أي : ألحقتموهم ، ويجوز : أن تكون هي البصرية ، وتعدّى الفعل بالهمزة إلى اثنين : الأوّل الياء ، والثاني الموصول ، ويكون { شركاء } منتصباً على الحال . ثم ردّ عليهم ما يدعونه من الشركاء ، وأبطل ذلك ، فقال : { كَلاَّ بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم } أي : ارتدعوا عن دعوى المشاركة ، بل المنفرد بالإلهية ، هو : الله العزيز بالقهر والغلبة ، الحكيم بالحكمة الباهرة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } قال : جلّى . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال : لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة : ليبعثه بالوحي ، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي ، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله ، فقالوا : الحقّ ، وعلموا : أن الله لا يقول إلاّ حقاً . قال ابن عباس : وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمعوا خرّوا سجداً ، فلما رفعوا رءوسهم { قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلى الكبير } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة ، فيفزع له جميع أهل السموات ، فيقولون : ماذا قال ربكم؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم ، فيقولون : الحق وهو العليّ الكبير . وأخرج البخاري ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : للذي قال : الحقّ وهو العليّ الكبير » الحديث ، وفي معناه أحاديث . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } قال : نحن على هدى ، وإنكم لفي ضلال مبين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : { الفتاح } القاضي .

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)

في انتصاب { كَافَّةً } وجوه ، فقيل : إنه منتصب على الحال من الكاف في { أرسلناك } قال الزجاج أي : وما أرسلناك إلاّ جامعاً للناس بالإنذار ، والإبلاغ ، والكافة بمعنى : الجامع ، والهاء فيه للمبالغة كعلامة . قال أبو حيان : أما قول الزجاج : إن كافّة بمعنى : جامعاً ، والهاء فيه للمبالغة ، فإن اللغة لا تساعد عليه؛ لأن كفّ ليس معناه : جمع ، بل معناه : منع . يقال : كف يكف ، أي : منع يمنع . والمعنى : إلاّ مانعاً لهم من الكفر ، ومنه الكفّ؛ لأنها تمنع من خروج ما فيه . وقيل : إنه منتصب على المصدرية ، والهاء للمبالغة كالعاقبة ، والعافية ، والمراد : أنها صفة مصدر محذوف ، أي : إلاّ رسالة كافّة . وقيل : إنه حال من الناس ، والتقدير : وما أرسلناك إلاّ للناس كافّة ، وردّ بأنه لا يتقدّم الحال من المجرور عليه كما هو مقرّر في علم الإعراب . ويجاب عنه بأنه قد جوّز ذلك أبو عليّ الفارسيّ ، وابن كيسان ، وابن برهان ، ومنه قول الشاعر :
إذا المرء أعيته السيادة ناشئا ... فمطلبها كهلاً عليه عسير
وقول الآخر :
تسليت طرّاً عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي
وقول الآخر :
غافلاً تعرض المنية للمر ... ء فيدعى ولات حين إباء
وممن رجح كونها حالاً من المجرور بعدها ابن عطية ، وقال : قدمت للاهتمام ، والتقوّي . وقيل : المعنى : إلاّ ذا كافّة ، أي : ذا منع ، فحذف المضاف . قيل : واللام : في { لِلنَّاسِ } بمعنى إلى ، أي : وما أرسلناك إلى الناس إلاّ جامعاً لهم بالإنذار ، والإبلاغ ، أو مانعاً لهم من الكفر ، والمعاصي ، وانتصاب { بَشِيراً وَنَذِيراً } على الحال ، أي مبشراً لهم بالجنة ، ومنذراً لهم من النار { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ما عند الله ، وما لهم من النفع في إرسال الرسل .
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } أي : متى يكون هذا الوعد الذي تعدونا به ، وهو : قيام الساعة أخبرونا به إن كنتم صادقين . قالوا : هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن معه من المؤمنين ، فأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم ، فقال : { قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ } أي : ميقات يوم ، وهو : يوم البعث . وقيل : وقت حضور الموت . وقيل : أراد يوم بدر؛ لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا ، وعلى كل تقدير ، فهذه الإضافة للبيان ، ويجوز في ميعاد : أن يكون مصدراً مراداً به الوعد ، وأن يكون اسم زمان . قال أبو عبيدة : الوعد ، والوعيد ، والميعاد بمعنى . وقرأ ابن أبي عبلة بتنوين : ( ميعاد ) ورفعه ، ونصب : ( يوم ) على أن يكون ميعاد مبتدأ ، ويوماً ظرف ، والخبر لكم . وقرأ عيسى بن عمر برفع : ( ميعاد ) منوّناً ، ونصب : ( يوم ) مضافاً إلى الجملة بعده . وأجاز النحويون : ( ميعاد يوم ) برفعهما منوّنين على أن ميعاد مبتدأ ، ويوم بدل منه ، وجملة : { لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } صفة لميعاد ، أي : هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه ، ولا تتقدّمون عليه ، بل يكون لا محالة في الوقت الذي قد قدّر الله وقوعه فيه .

ثم ذكر سبحانه طرفاً من قبائح الكفار ، ونوعاً من أنواع كفرهم ، فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ } وهي : الكتب القديمة ، كالتوراة ، والإنجيل ، والرسل المتقدّمون . وقيل : المراد بالذي بين يديه الدار الآخرة . ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة ، فقال : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ } الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له ، ومعنى { موقوفون عند ربهم } : محبوسون في موقف الحساب { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول } أي : يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب ، بعد أن كانوا في الدنيا متعارضين متناصرين متحابين . ثم بيّن سبحانه تلك المراجعة ، فقال : { يَقُولُ الذين استضعفوا } ، وهم : الأتباع { لِلَّذِينَ استكبروا } ، وهم : الرؤساء المتبوعون { لَوْلاَ أَنتُمْ } صددتمونا عن الإيمان بالله ، والاتباع لرسوله { لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } بالله مصدّقين لرسوله ، وكتابه .
{ قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا } مجيبين عليهم مستنكرين لما قالوه : { أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى } أي : منعناكم عن الإيمان { بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ } الهدى ، قالوا هذا منكرين لما ادّعوه عليهم من الصدّ لهم ، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك ، ثم بينوا لهم : أنهم الصادّون لأنفسهم ، الممتنعون من الهدى بعد إذ جاءهم ، فقالوا : { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } أي : مصرّين على الكفر ، كثيري الإجرام ، عظيمي الآثام .
{ وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا } ردّاً لما أجابوا به عليهم ، ودفعاً لما نسبوه إليهم من صدّهم لأنفسهم { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } أصل المكر في كلام العرب : الخديعة ، والحيلة ، يقال : مكر به إذا خدعه ، واحتال عليه . والمعنى : بل مكركم بنا الليل والنهار ، فحذف المضاف إليه ، وأقيم الظرف مقامه اتساعاً . وقال الأخفش : هو على تقدير هذا مكر الليل ، والنهار . قال النحاس : المعنى والله أعلم ، بل مكركم في الليل ، والنهار ، ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا . وقال سفيان الثوري : بل عملكم في الليل والنهار ، ويجوز : أن يجعل الليل ، والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرّر في علم المعاني . قال المبرّد كما تقول العرب : نهاره صائم ، وليله قائم ، وأنشد قول جرير :
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم
وأنشد سيبويه :
قيام ليلي وتجلي همي ... وقرأ قتادة ، ويحيى بن يعمر برفع : ( مكر ) منوّناً ، ونصب : « الليل والنهار » ، والتقدير : بل مكر كائن في الليل والنهار . وقرأ سعيد بن جبير ، وأبو رزين بفتح الكاف ، وتشديد الراء مضافاً بمعنى : الكرور ، من كرّ يكرّ إذا جاء ، وذهب ، وارتفاع { مكر } على هذه القراءات على أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : مكر الليل والنهار صدّنا ، أو على أنه فاعل لفعل محذوف ، أي : صدّنا مكر الليل والنهار ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف كما تقدّم عن الأخفش .

وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير ، ولكنه نصب مكر على المصدرية ، أي : بل تكرّرت الإغواء مكرًّا دائماً لا تفترون عنه ، وانتصاب { إِذْ تَأْمُرُونَنَا } على أنه ظرف للمكر ، أي : بل مكركم بنا وقت أمركم لنا { أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أي : أشباهاً ، وأمثالاً . قال المبرد : يقال ندّ فلان فلان ، أي : مثله ، وأنشد :
أتيما تجعلون إليّ ندًّا ... وما تيم بذي حسب نديد
والضمير في قوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } راجع إلى الفريقين أي : أضمر الفريقان الندامة على ما فعلوا من الكفر ، وأخفوها عن غيرهم ، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة . وقيل : المراد بأسرّوا هنا أظهروا؛ لأنه من الأضداد يكون ، تارة بمعنى : الإخفاء ، وتارة بمعنى : الإظهار ، ومنه قول امرىء القيس :
تجاوزت أحراساً وأهوال معشر ... عليّ حراص لو يسرون مقتلي
وقيل : معنى { أسروا الندامة } : تبينت الندامة في أسرّة وجوههم { وَجَعَلْنَا الأغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } الأغلال جمل غلّ ، يقال : في رقبته غلّ من حديد ، أي : جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار ، والمراد بالذين كفروا : هم المذكورون سابقاً ، والإظهار لمزيد الذمّ ، أو للكفار على العموم ، فيدخل هؤلاء فيهم دخولاً أوّلياً : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : إلاّ جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله ، أو إلاّ بما كانوا يعملون على حذف الخافض .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } قال : إلى الناس جميعاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : أرسل الله محمداً إلى العرب ، والعجم ، فأكرمهم على الله أطوعهم له . وأخرج هؤلاء عنه في قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان } قال : هذا قول مشركي العرب كفروا بالقرآن ، وبالذي بين يديه من الكتب ، والأنبياء .

وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)

لما قصّ سبحانه حال من تقدّم من الكفار أتبعه بما فيه التسلية لرسوله ، وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمرّ في الأعصر الأوّل ، فقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ } من القرى { مّن نَّذِيرٍ } ينذرهم ، ويحذرهم عقاب الله { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } أي : رؤساؤها ، وأغنياؤها ، وجبابرتها ، وقادة الشرّ لرسلهم : { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } أي : بما أرسلتم به من التوحيد ، والإيمان ، وجملة : { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } في محل نصب على الحال . ثم ذكر ما افتخروا به من الأموال ، والأولاد ، وقاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم به الرسل ، فقال : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } والمعنى : أن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد في الدنيا ، وذلك يدلّ على : أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين ، { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا ، ورضاه عنا .
فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم ، وقال : { قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء } أن يبسطه له { وَيَقْدِرُ } أي : يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه ، فهو سبحانه قد يرزق الكافر ، والعاصي استدراجاً له ، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيراً لأجره ، وليس مجرّد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه ، ورضي عمله ، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه ، ولا رضي عمله ، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى في مثل هذا من الغلط البين ، أو المغالطة الواضحة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } هذا ، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى ، ثم زاد هذا الجواب تأييداً ، وتأكيداً { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } أي : ليسوا بالخصلة التي تقرّبكم عندنا قربى . قال مجاهد : الزلفى القربى ، والزلفة : القربة . قال الأخفش : زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريباً ، فتكون زلفى منصوبة المحلّ . قال الفرّاء : إن التي تكون للأموال والأولاد جميعاً . وقال الزجاج : إن المعنى : وما أموالكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى ، ولا أولادكم بالشيء يقرّبكم عندنا زلفى ، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه ، وأنشد :
نحن بما عندنا وأنت بما عن ... دك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن باللتين ، واللاتي ، وباللواتي ، وبالذي للأولاد خاصة ، أي : لا تزيدكم الأموال عندنا درجة ورفعة ، ولا تقربكم تقريباً { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } هو استثناء منقطع ، فيكون محله النصب ، أي : لكن من آمن ، وعمل صالحاً ، أو في محل جرّ بدلاً من الضمير في تقرّبكم ، كذا قال الزجاج .

قال النحاس : وهذا القول غلط ، لأن الكاف والميم للمخاطب ، فلا يجوز البدل ، ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيداً . ويجاب عنه بأن الأخفش والكوفيين يجوّزون ذلك ، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء ، وأجاز الفراء : أن يكون في موضع رفع بمعنى : ما هو إلاّ من آمن ، والإشارة بقوله : { فَأُوْلَئِكَ } إلى من ، والجمع باعتبار معناها ، وهو مبتدأ ، وخبره { لَهُمْ جَزَاء الضعف } أي : جزاء الزيادة ، وهي المرادة بقوله : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : جزاء التضعيف للحسنات . وقيل : لهم جزاء الإضعاف؛ لأن الضعف في معنى الجمع ، والباء في { بِمَا عَمِلُواْ } للسببية { وَهُمْ فِى الغرفات ءامِنُونَ } من جميع ما يكرهون ، والمراد غرفات الجنة ، قرأ الجمهور : { جزاء الضعف } بالإضافة ، وقرأ الزهري ، ويعقوب ، ونصر بن عاصم ، وقتادة برفعهما على أن الضعف بدل من جزاء . وروي عن يعقوب : أنه قرأ : ( جزاء ) بالنصب منوناً ، و : ( الضعف ) بالرفع على تقدير : فأولئك لهم الضعف جزاء ، أي : حال كونه جزاء . وقرأ الجمهور : { في الغرفات } بالجمع ، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله : { لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] . وقرأ الأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، وخلف : ( في الغرفة ) بالإفراد لقوله : { أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر حال الكافرين ، فقال : { والذين يَسْعَوْنَ فِى ءاياتنا } بالردّ لها ، والطعن فيها حال كونهم { معاجزين } مسابقين لنا زاعمين أنهم يفوتوننا بأنفسهم ، أو معاندين لنا بكفرهم { أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ } أي : في عذاب جهنم تحضرهم الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصاً . ثم كرّر سبحانه ما تقدّم لقصد التأكيد للحجة ، والدفع لما قاله الكفرة ، فقال : { قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } أي : يوسعه لمن يشاء ، ويضيقه على من يشاء ، وليس في ذلك دلالة على سعادة ، ولا شقاوة { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي : يخلفه عليكم ، يقال : أخلف له ، وأخلف عليه : إذا أعطاه عوضه ، وبدله ، وذلك البدل إما في الدنيا ، وإما في الآخرة { وَهُوَ خَيْرُ الرزقين } فإن رزق العباد لبعضهم البعض إنما هو بتيسير الله ، وتقديره ، وليسوا برازقين على الحقيقة بل على طريق المجاز ، كما يقال : في الرجل إنه يرزق عياله ، وفي الأمير إنه يرزق جنده ، والرازق للأمير ، والمأمور ، والكبير ، والصغير هو : الخالق لهم ، ومن أخرج من العباد إلى غيره شيئاً مما رزقه الله ، فهو إنما تصرّف في رزق الله له ، فاستحق بما خرج منه الثواب عليه المضاعف لامتثاله لأمر الله ، وإنفاقه فيما أمره الله .
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } الظرف منصوب بفعل مقدّر نحو اذكر ، أو هو متصل بقوله : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ } [ سبأ : 31 ] أي : ولو تراهم أيضاً يوم نحشرهم جميعاً للحساب العابد ، والمعبود ، والمستكبر ، والمستضعف ، { ثُمَّ نَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } تقريعاً للمشركين ، وتوبيخاً لمن عبد غير الله عزّ وجلّ كما في قوله لعيسى :

{ ءأَنْتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] ، وإنما خصص الملائكة بالذكر مع أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين ، والأصنام؛ لأنهم أشرف معبودات المشركين . قال النحاس : والمعنى : أن الملائكة إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين ، وجملة { قَالُواْ سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، أي : تنزيهاً لك أنت الذي نتولاه ، ونطيعه ، ونعبده من دونهم ، ما اتخذناهم عابدين ، ولا توليناهم ، وليس لنا غيرك ولياً ، ثم صرّحوا بما كان المشركون يعبدونه ، فقالوا : { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } أي : الشياطين ، وهم : إبليس ، وجنوده ، ويزعمون : أنهم يرونهم ، وأنهم ملائكة ، وأنهم بنات الله . وقيل : كانوا يدخلون أجواف الأصنام ، ويخاطبونهم منها { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } أي : أكثر المشركين بالجنّ مؤمنون بهم مصدّقون لهم . قيل : والأكثر في معنى : الكلّ .
{ فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } يعني : العابدين ، والمعبودين لا يملك بعضهم ، وهم : المعبودون لبعض ، وهم : العابدون { نَفْعاً } أي : شفاعة ، ونجاة { وَلاَ ضَرّا } أي : عذاباً ، وهلاكاً ، وإنما قيل لهم : هذا القول إظهاراً لعجزهم ، وقصورهم ، وتبكيتاً لعابديهم ، وقولهم : { وَلاَ ضَرّا } هو على حذف مضاف ، أي : لا يملكون لهم دفع ضرّ ، وقوله : { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } عطف على قوله : { نَّقُولُ للملائكة } أي : للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله { ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } في الدنيا .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين ، خرج أحدهما إلى الساحل ، وبقي الآخر ، فلما بعث الله النبيّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلاّ رذالة الناس ومساكينهم ، فترك تجارته ، ثم أتى صاحبه ، فقال : دلني عليه ، وكان يقرأ الكتب ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إلى ما تدعو؟ قال : إلى كذا ، وكذا ، قال : أشهد أنك رسول الله ، قال : وما علمك بذلك؟ قال : إنه لم يبعث نبيّ إلاّ اتبعه رذالة الناس ، ومساكينهم ، فنزلت هذه الآيات { وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا } الآيات ، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله قد أنزل تصديق ما قلت » وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { جَزَاء الضعف } قال : تضعيف الحسنة . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال : إذا كان الرجل غنياً تقياً آتاه الله أجره مرتين ، وتلا هذه الآية { وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم } إلى قوله : { فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف } قال : تضعيف الحسنة .

وأخرج سعيد بن منصور ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ } قال : في غير إسراف ، ولا تقتير ، وعن مجاهد مثله . وعن الحسن مثله . وأخرج الدارقطني ، والبيهقي في الشعب عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كلما أنفق العبد من نفقة ، فعلى الله خلفها ضامناً إلاّ نفقة في بيان ، أو معصية » وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل ، والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعاً بأطول منه . وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله عزّ وجلّ : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك » وثبت في الصحيح من حديثه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من يوم يصبح العباد فيه إلاّ وملكان ينزلان؛ فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكاً تلفاً » وأخرج ابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن لكل يوم نحساً ، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة » ثم قال : اقرءوا مواضع الخلف ، فإني سمعت رسول الله يقول : « وما أنفقتم من شيء ، فهو يخلفه إذا لم تنفقوا كيف يخلف » وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة » .

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أنواع كفرهم ، فقال : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي : الآيات القرآنية حال كونها { بينات } واضحات الدلالات ظاهرات المعاني { قَالُواْ مَا هذا } يعنون : التالي لها ، وهو النبي { إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُم } أي : أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها { وَقَالُواْ } ثانياً { مَا هذا } يعنون : القرآن الكريم { إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } أي : كذب مختلق { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } ثالثاً { لِلْحَقّ لَمَّا جَاءهُمْ } أي : لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } وهذا الإنكار منهم خاص بالتوحيد ، وأما إنكار القرآن ، والمعجزة ، فكان متفقاً عليه بين أهل الكتاب ، والمشركين . وقيل : أريد بالأوّل ، وهو قولهم : { إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } معناه ، وبالثاني ، وهو قولهم : { إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } نظمه المعجز . وقيل : إن طائفة منهم قالوا : إنه إفك ، وطائفة قالوا : إنه سحر . وقيل : إنهم جميعاً قالوا : تارة إنه إفك ، وتارة إنه سحر ، والأوّل أولى .
{ وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } أي : ما أنزلنا على العرب كتباً سماوية يدرسون فيها { وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ } يدعوهم إلى الحقّ ، وينذرهم بالعذاب ، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه ، ولا شبهة يتشبثون بها . قال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم . قال الفرّاء ، أي : من أين كذبوك ، ولم يأتهم كتاب ، ولا نذير بهذا الذي فعلوه . ثم خوّفهم سبحانه ، وأخبر عن عاقبتهم ، وعاقبة من كان قبلهم ، فقال : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } من القرون الخالية { وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم } أي : ما بلغ أهل مكة من مشركي قريش ، وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوّة ، وكثرة المال ، وطول العمر ، فأهلكهم الله ، كعاد ، وثمود ، وأمثالهم . والمعشار : هو : العشر . قال الجوهري : معشار الشيء عشره . وقيل المعشار : عشر العشر ، والأوّل أولى . وقيل : إن المعنى : ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى . وقيل : ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم . وقيل : ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم ، والبيان ، والحجة ، والبرهان ، والأوّل أولى . وقيل : المعشار عشر العشير ، والعشير عشر العشر ، فيكون جزءاً من ألف جزء . قال الماوردي : وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل ، قلت : مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي ، وقوله : { فَكَذَّبُواْ رُسُلِى } عطف على { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } على طريقة التفسير ، كقوله : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا }

[ القمر : 9 ] الآية ، والأولى أن : يكون من عطف الخاص على العام ، لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم ، فمعناه : كذبوا الكتب المنزلة ، والرسل المرسلة ، والمعجزات الواضحة ، وتكذيب الرسل أخص منه ، وإن كان مستلزماً له ، فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الالتزامية { فَكَيْفَ كَانَ } أي : فكيف كان إنكاري لهم بالعذاب ، والعقوبة ، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك . قيل : وفي الكلام حذف . والتقدير : فأهلكناهم ، فكيف كان نكير ، والنكير اسم بمعنى : الإنكار .
ثم أمر سبحانه رسوله : أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة } أي : أحذركم ، وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه ، وأوصيكم بخصلة واحدة ، وهي : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى } هذا تفسير للخصلة الواحدة ، أو بدل منها ، أي : هي قيامكم وتشميركم في طلب الحقّ بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ، لأن الاجتماع يشوّش الفكر . وليس المراد القيام على الرجلين ، بل المراد القيام بطلب الحقّ ، وإصداق الفكر فيه ، كما يقال : قام فلان بأمر كذا { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في أمر النبيّ ، وما جاء به من الكتاب ، فإنكم عند ذلك تعلمون أن { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } ، وذلك؛ لأنهم كانوا يقولون : إن محمداً مجنون ، فقال الله سبحانه : قل لهم : اعتبروا أمري بواحدة ، وهي : أن تقوموا لله ، وفي ذاته مجتمعين ، فيقول الرجل لصاحبه : هلمّ ، فلنتصادق ، هل رأينا بهذا الرجل من جنة ، أي : جنون ، أو جرّبنا عليه كذباً ، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه ، فيتفكر ، وينظر ، فإن في ذلك ما يدل على أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق ، وأنه رسول من عند الله ، وأنه ليس بكاذب ، ولا ساحر ، ولا مجنون ، وهو معنى قوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي : ما هو إلاّ نذير لكم بين يدي الساعة . وقيل : إن جملة { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم ، والدعوى الكبيرة لا يعّرض نفسه له إلاّ مجنون لا يبالي بما يقال فيه ، وما ينسب إليه من الكذب ، وقد علموا : أنه أرجح الناس عقلاً ، فوجب : أن يصدّقوه في دعواه ، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة ، وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب ، ولا قد جرّبوا عليه كذباً مدّة عمره ، وعمرهم . وقيل : يجوز أن تكون «ما» في { مَا بصاحبكم } استفهامية ، أي : ثم تتفكروا أيّ شيء به من آثار الجنون . وقيل : المراد بقوله : { إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة } هي : «لا إله إلاّ الله» كذا قال مجاهد ، والسدّي . وقيل : القرآن؛ لأنه يجمع المواعظ كلها ، والأولى ما ذكرناه أوّلاً . وقال الزجاج : إن «أن» في قوله : { أَن تَقُومُواْ } في موضع نصب بمعنى : لأن تقوموا . و قال السدّي : معنى مثنى وفرادى : منفرداً برأيه ، ومشاوراً لغيره .

وقال القتيبي : مناظراً مع عشيرته ، ومفكراً في نفسه . وقيل : المثنى عمل النهار ، والفرادى عمل الليل ، قاله الماوردي . وما أبرد هذا القول ، وأقلّ جدواه . واختار أبو حاتم ، وابن الأنباري الوقف على قوله : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } ، وعلى هذا تكون جملة : { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } مستأنفة كما قدّمنا . وقيل : ليس بوقف ، لأن المعنى : ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذباً ، أو رأيتم منه جنة ، أو في أحواله من فساد .
ثم أمر سبحانه أن يخبرهم : أنه لم يكن له غرض في الدنيا ، ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك ، ويرتفع الريب ، فقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } أي : ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة ، فهو لكم إن سألتكموه ، والمراد نفي السؤال بالكلية ، كما يقول القائل : ما أملكه في هذا ، فقد وهبته لك ، يريد أنه لا ملك له فيه أصلاً ، ومثل هذه الآية قوله : { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } [ الشورى : 23 ] ، وقوله : { مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إلى رَبّهِ سَبِيلاً } [ الفرقان : 57 ] . ثم بين لهم : أن أجره عند الله سبحانه ، فقال : { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } أي : ما أجري إلاّ على الله لا على غيره { وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ } أي : مطلع لا يغيب عنه منه شيء . { قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق } القذف الرمي بالسهم ، والحصى ، والكلام . قال الكلبي : يرمي على معنى : يأتي به ، وقال مقاتل : يتكلم بالحق ، وهو : القرآن ، والوحي ، أي : يلقيه إلى أنبيائه . وقال قتادة { بالحق } أي : بالوحي ، والمعنى : أنه يبين الحجة ، ويظهرها للناس على ألسن رسله ، وقيل : يرمي الباطل بالحق ، فيدمغه { علام الغيوب } قرأ الجمهور برفع : { علام } على أنه خبر ثانٍ لإنّ ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من الضمير في يقذف ، أو معطوف على محل اسم إن . قال الزجاج : الرفع من وجهين على الموضع ، لأن الموضع موضع رفع ، أو على البدل . وقرأ زيد بن علي ، وعيسى بن عمر ، وابن أبي إسحاق بالنصب نعتاً لاسم إنّ ، أو بدلاً منه ، أو على المدح . قال الفراء : والرفع في مثل هذا أكثر كقوله : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } [ ص : 64 ] ، وقرىء الغيوب بالحركات الثلاث في الغين ، وهو : جمع غيب ، والغيب هو : الأمر الذي غاب وخفي جدًّا .
{ قُلْ جَاء الحق } أي : الإسلام ، والتوحيد . وقال قتادة : القرآن . وقال النحاس : التقدير صاحب الحقّ ، أي : الكتاب الذي فيه البراهين ، والحجج .
وأقول : لا وجه لتقدير المضاف ، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه . { وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } أي : ذهب الباطل ذهاباً لم يبق منه إقبال ، ولا إدبار ، ولا إبداء ، ولا إعادة . قال قتادة : الباطل هو : الشيطان ، أي : ما يخلق لشيطان ابتداء ، ولا يبعث ، وبه قال مقاتل ، والكلبي .

وقيل : يجوز أن تكون ما استفهامية ، أي : أيّ شيء يبديه ، وأيّ شيء يعيده؟ والأوّل أولى . { قُلْ إِن ضَلَلْتُ } عن الطريق الحقة الواضحة { فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى } أي : إثم ضلالتي يكون على نفسي ، وذلك أن الكفار قالوا له : تركت دين آبائك ، فضللت ، فأمره الله : أن يقول لهم هذا القول : { وَإِنِ اهتديت فِيمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى } من الحكمة ، والموعظة ، والبيان بالقرآن { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } مني ومنكم يعلم الهدى والضلالة . قرأ الجمهور : { ضللت } بفتح اللام ، وقرأ الحسن ، ويحيى بن وثاب بكسر اللام ، وهي لغة أهل العالية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم } يقول : من القوّة في الدنيا . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي في الآية قال : يقوم الرجل مع الرجل ، أو وحده ، فيفكر ما بصاحبه من جنة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة { مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ } يقول : إنه ليس بمجنون . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله : { مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ } أي : من جعل ، فهو لكم ، يقول : لم أسألكم على الإسلام جعلاً ، وفي قوله : { قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق } قال : بالوحي ، وفي قوله : { وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } قال : الشيطان لا يبدىء ولا يعيد إذا هلك . وأخرج هؤلاء أيضاً عنه في قوله : { وَمَا يُبْدِىء الباطل وَمَا يُعِيدُ } قال : ما يخلق إبليس شيئاً ، ولا يبعثه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله : { إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى } قال : إنما أوخذ بجنايتي .

وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

ثم ذكر سبحانه حالاً من أحوال الكفار ، فقال : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } ، والخطاب لرسول الله ، أو لكل من يصلح له قيل : المراد فزعهم عند نزول الموت بهم . وقال الحسن : هو : فزعهم في القبور من الصيحة ، وقال قتادة : هو : فزعهم إذا خرجوا من قبورهم . وقال السدّي : هو : فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة ، فلم يستطيعوا فراراً ولا رجوعاً إلى التوبة . وقال ابن مغفل : هو : فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة . وقال سعيد بن جبير : هو : الخسف الذي يخسف بهم في البيداء ، فيبقى رجل منهم ، فيخبر الناس بما لقي أصحابه ، فيفزعون . وجواب لو محذوف ، أي : لرأيت أمراً هائلاً ، ومعنى { فَلاَ فَوْتَ } : فلا يفوتني أحد منهم ، ولا ينجو منهم ناجٍ . قال مجاهد : فلا مهرب { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } من ظهر الأرض ، أو من القبور ، أو من موقف الحساب . وقيل : من حيث كانوا ، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ، ولا يفوتونه . قيل : ويجوز أن يكون هذا الفزع هو الفزع الذي بمعنى : الإجابة ، يقال : فزع الرجل : إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به كفزعهم إلى الحرب يوم بدر .
{ وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ } أي : بمحمد ، قاله قتادة ، أو بالقرآن . وقال مجاهد : بالله عزّوجلّ . وقال الحسن : بالبعث { وأنى لَهُمُ التناوش } التناوش التناول ، وهو تفاعل من التناوش الذي هو : التناول ، والمعنى : كيف لهم أن يتناولوا الإيمان من بعد ، يعني : في الآخرة ، وقد تركوه في الدنيا ، وهو معنى { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } : وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص بعد ما فات عنهم . قال ابن السكيت : يقال : للرجل إذا تناول رجلاً ليأخذ برأسه ، أو بلحيته ناشه ينوشه نوشاً ، وأنشد :
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ... نوشاً به تقطع أحواز الفلا
أي : تناول ماء الحوض من فوق ، ومنه المناوشة في القتال ، وقيل : التناوش الرجعة ، أي : وأنى لهم الرجعة إلى الدنيا؛ ليؤمنوا ، ومنه قول الشاعر :
تمنى أن تئوب إليّ مي ... وليس إلى تناوشها سبيل
وجملة : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت ، وذلك حال كونهم في الدنيا . قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، والأعمش : ( التناؤش ) بالهمز ، وقرأ الباقون بالواو ، واستبعد أبو عبيد ، والنحاس القراءة الأولى ، ولا وجه للاستبعاد ، فقد ثبت ذلك في لغة العرب ، وأشعارها ، ومنه قول الشاعر :
قعدت زماناً عن طلابك للعلا ... وجئت نئيشاً بعد ما فاتك الخير
أي : وجئت أخيراً . قال الفراء : الهمز ، وترك الهمز متقارب { وَيَقْذِفُونَ بالغيب } أي : يرمون بالظنّ ، فيقولون : لا بعث ، ولا نشور ، ولا جنة ، ولا نار { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } أي : من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل .

وقيل : المعنى : يقولون في القرآن أقوال باطلة : إنه سحر ، وشعر ، وأساطير الأوّلين . وقيل : يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن مجنون . وقرأ أبو حيوة ، ومجاهد ، ومحبوب عن أبي عمرو : ( يقذفون ) مبنياً للمفعول ، أي : يرجمون بما يسوؤهم من جراء أعمالهم من حيث لا يحتسبون ، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئاً لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه ، والجملة إما معطوفة على : { وقد كفروا به } على أنها حكاية للحال الماضية ، واستحضار لصورتها ، أو مستأنفة لبيان تمثيل حالهم . { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من النجاة من العذاب ، ومنعوا من ذلك وقيل : حيل بينهم ، وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم ، وأهليهم ، أو حيل بينهم ، وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا { كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ } أي : بأمثالهم ، ونظرائهم من كفار الأمم الماضية ، والأشياع جمع شيع ، وشيع جمع شيعة ، وجملة : { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ } تعليل لما قبلها ، أي : في شك موقع في الريبة ، أو ذي ريبة من أمر الرسل ، والبعث ، والجنة ، والنار ، أو في التوحيد ، وما جاءتهم به الرسل من الدين ، يقال : أراب الرجل إذا صار ذا ريبة ، فهو مريب ، وقيل : هو من الريب الذي هو الشك ، فهو كما يقال عجب عجيب ، وشعر شاعر .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فَلاَ فَوْتَ } قال : فلا نجاة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } قال : هو جيش السفياني قيل : من أين أخذوا؟ قال : من تحت أقدامهم . وقد ثبت في الصحيح : أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة ، وعائشة ، وخارج الصحيح من حديث أمّ سلمة ، وصفية ، وأبي هريرة ، وابن مسعود ، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول هذه الآية ، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة ، وقال في آخرها : فذلك قوله عزّ وجلّ في سورة سبأ : { وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } الآية . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { وأنى لَهُمُ التناوش } قال : كيف لهم الردّ؟ { مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ } قال : يسألون الردّ ، وليس بحين ردّ . وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال : أتيت ابن عباس قلت : ما التناوش؟ قال : تناول الشيء ، وليس بحين ذاك .

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)

الفطر : الشقّ عن الشيء ، يقال : فطرته فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير إذا طلع ، فهو بعير فاطر ، وتفطر الشيء : تشقق ، والفطر الابتداء والاختراع ، وهو : المراد هنا ، والمعنى : { الحمد للَّهِ } مبدع { السموات والأرض } ، ومخترعهما ، والمقصود من هذا : أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم ، فهو قادر على الإعادة . قرأ الجمهور : { فاطر } على صيغة اسم الفاعل ، وقرأ الزهري ، والضحاك : ( فطر ) على صيغة الفعل الماضي ، فعلى القراءة الأولى هو نعت لله؛ لأن إضافته محضة لكونه بمعنى : الماضي ، وإن كانت غير محضة كان بدلاً ، ومثله : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } يجوز فيه الوجهان ، وانتصاب رسلاً بفعل مضمر على الوجه الأوّل ، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى : الماضي لا يعمل ، وجوّز الكسائي عمله . وأما على الوجه الثاني ، فهو منصوب بجاعل ، والرسل من الملائكة هم : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل . وقرأ الحسن : ( جاعل ) بالرفع ، وقرأ خليل بن نشيط ، ويحيى بن يعمر : ( جعل ) على صيغة الماضي . وقرأ الحسن ، وحميد : ( رسلاً ) بسكون السين ، وهي لغة تميم { أُوْلِى أَجْنِحَةٍ } صفة ل { رسلاً } ، والأجنحة جمع جناح { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } صفة لأجنحة ، وقد تقدّم الكلام في مثنى ، وثلاث ، ورباع في النساء . قال قتادة : بعضهم له جنحان ، وبعضهم ثلاثة ، وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأض ، ويعرجون بها من الأرض إلى السماء . قال يحيى بن سلام : يرسلهم الله إلى الأنبياء . وقال السدّي : إلى العباد بنعمه ، أو نقمه ، وجملة { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } مستأنفة مقرّرة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة ، والمعنى : أنه يزيد في خلق الملائكة ما يشاء ، وهو : قول أكثر المفسرين ، واختاره الفراء ، والزجاج . وقيل : إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة ، فقال الزهري ، وابن جريج : إنها حسن الصوت . وقال قتادة : الملاحة في العينين ، والحسن في الأنف ، والحلاوة في الفم . وقيل : الوجه الحسن . وقيل : الخط الحسن . وقيل : الشعر الجعد . وقيل : العقل والتمييز . وقيل : العلوم ، والصنائع ، ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة . وجملة : { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تعليل لما قبلها من أنه يزيد في الخلق ما يشاء .
{ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } أي : ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر أحد أن يمسكه { وَمَا يُمْسِكْ } من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه . وقيل : المعنى : إن الرسل بعثوا رحمة للناس ، فلا يقدر على إرسالهم غير الله . وقيل : هو الدعاء . وقيل : التوبة . وقيل : التوفيق ، والهداية . ولا وجه لهذا التخصيص بل المعنى : كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته ، فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه ، وهكذا الإمساك يتناول كل شيء يمنعه الله من نعمه ، فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه ، ولا منعم غيره .

ثم أمر الله سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعدّ ولا تحصى { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] ، ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر : هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها ، وطلب المزيد منها { هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله } : " من " زائدة ، وخالق مبتدأ ، وغير الله صفة له . قال الزجاج : ورفع غير على معنى هل خالق غير الله؛ لأن «من» زيادة مؤكدة ، ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ . قرأ الجمهور برفع : " غير " ، وقرأ حمزة ، والكسائي بخفضها ، وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء ، وجملة : { يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } خبر المبتدأ . أو جملة مستأنفة ، أو صفة أخرى لخالق ، وخبره محذوف ، والرزق من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، وغير ذلك ، وجملة : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مستأنفة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام { فأنى تُؤْفَكُونَ } من الأفك بالفتح ، وهو الصرف ، يقال : ما أفكك عن كذا ، أي : ما صرفك ، أي : فكيف تصرفون . وقيل : هو مأخوذ من الإفك بالكسر ، وهو الكذب؛ لأنه مصروف عن الصدق . قال الزجاج ، أي : من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله ، والبعث ، وأنتم مقرّون بأن الله خلقكم ورزقكم . ثم عزّى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال : { وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ } ليتأسى بمن قبله من الأنبياء ، ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } لا إلى غيره ، فيجازي كلاً بما يستحقه . قرأ الحسن ، والأعرج ، ويعقوب ، وابن عامر ، وأبو حيوة ، وابن محيصن ، وحميد ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : ( ترجع ) بفتح الفوقية على البناء للفاعل ، وقرأ الباقون بضمها على البناء للمفعول . { ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : وعده بالبعث ، والنشور ، والحساب ، والعقاب ، والجنة ، والنار ، كما أشير إليه بقوله : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } . { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } بزخرفها ، ونعيمها . قال سعيد بن جبير : غرور الحياة الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ، ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول : { يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } [ الفجر : 24 ] { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } قرأ الجمهور بفتح الغين ، أي : المبالغ في الغرور ، وهو : الشيطان . قال ابن السكيت ، وأبو حاتم : الغرور الشيطان ، ويجوز : أن يكون مصدراً ، واستبعده الزجاج ، لأن غرر به متعدي ، ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو ضربته ضرباً ، إلاّ في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها ، ومعنى الآية : لا يغرنكم الشيطان بالله ، فيقول لكم : إن الله يتجاوز عنكم ، ويغفر لكم لفضلكم ، أو لسعة رحمته لكم . وقرأ أبو حيوة ، وأبو سماك ، ومحمد بن السميفع بضم الغين ، وهو : الباطل .

قال ابن السكيت : والغرور بالضم ما يغرّ من متاع الدنيا . وقال الزجاج : يجوز : أن يكون الغرور جمع غار ، مثل قاعد ، وقعود . قيل : ويجوز أن يكون مصدر غرّه كاللزوم ، والنهوك ، وفيه ما تقدّم عن الزجاج من الاستبعاد .
ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان ، فقال : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } أي : فعادوه بطاعة الله ، ولا تطيعوه في معاصي الله . ثم بيّن لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم ، فقال : { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير } أي : إنما يدعو أشياعه ، وأتباعه ، والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار ، ومحل الموصول في قوله : { الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } الرفع على الابتداء ، و { لهم عذاب شديد } خبره ، أو الرفع على البدل من فاعل { يكونوا } ، أو النصب على البدل من { حزبه } ، أو النعت له ، أو إضمار فعل يدل على الذمّ ، والجرّ على البدل من أصحاب ، أو النعت له . والرفع على الابتداء أقوى هذه الوجوه ، لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة الشيطان ودعائه لحزبه ، ذكر حال الفريقين من المطيعين له ، والعاصين عليه ، فالفريق الأوّل قال : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } ، والفريق الآخر قال فيه : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان والعمل الصالح ، ويعطيهم أجراً كبيراً ، وهو : الجنة .
{ أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً } هذه الجملة مستأنفة لتقرير ما سبق من ذكر التفاوت بين الفريقين ، و «من» في موضع رفع بالابتداء ، وخبره محذوف . قال الكسائي : والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات . قال : ويدلّ عليه قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } قال : وهذا كلام عربيّ ظريف لا يعرفه إلاّ القليل . وقال الزجاج : تقديره كمن هداه ، وقدّره غيرهما كمن لم يزين له ، وهذا أولى لموافقته لفظاً ، ومعنى ، وقد وهم صاحب الكشاف ، فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي . قال النحاس : والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف ، والمعنى : أن الله عزّ وجلّ نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن شدّة الاغتمام بهم ، والحزن عليهم كما قال : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } [ الكهف : 6 ] وجملة { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء } مقرّرة لما قبلها ، أي : يضلّ من يشاء أن يضله ، ويهدي من يشاء أن يهديه { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } قرأ الجمهور بفتح الفوقية ، والهاء مسنداً إلى النفس ، فتكون من باب : لا أرينّك ها هنا . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، والأشهب بضم التاء ، وكسر الهاء ، ونصب { نفسك } ، وانتصاب { حسرات } على أنه علة ، أي : للحسرات ، ويجوز : أن ينتصب على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر كما روي عن سيبويه . وقال المبرد : إنها تمييز .

والحسرة شدّة الحزن على ما فات من الأمر { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } لا يخفى عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية ، والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد .
وقد أخرج أبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : كنت لا أدري ما { فاطر السماوات والأرض } حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، يقول : ابتدأتها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : { فَاطِرَ السموات } بديع السموات . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { يَزِيدُ فِى الخلق مَا يَشَاء } قال : الصوت الحسن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } الآية قال : ما يفتح الله للناس من باب توبة { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } هم يتوبون إن شاءوا وإن أبوا ، وما أمسك من باب توبة { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } ، وهم لا يتوبون . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم في الآية قال : يقول : ليس لك من الأمر شيء . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } قال : كل شيء في القرآن لهم مغفرة ، وأجر كبير ، ورزق كريم ، فهو : الجنة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، والحسن في قوله : { أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } قال : الشيطان زين لهم ، هي والله الضلالات { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات } أي : لا تحزن عليهم .

وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه ، وعظيم قدرته ، ليتفكروا في ذلك ، وليعتبروا به ، فقال : { والله الذى أَرْسَلَ الرياح } قرأ الجمهور : { الرياح } ، وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ( الريح ) بالإفراد { فَتُثِيرُ سحابا } جاء بالمضارع بعد الماضي استحضاراً للصورة ، لأن ذلك أدخل في اعتبار المعتبرين ، ومعنى كونها : تثير السحاب أنها تزعجه من حيث هو { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيّتٍ } قال أبو عبيدة : سبيله ، فتسوقه ، لأنه قال : { فتثير سحاباً } . قيل : النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع : الدلالة على التحقق . قال المبرد : ميت وميّت واحد ، وقال : هذا قول البصريين ، وأنشد :
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء
{ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض } أي : أحيينا بالمطر الأرض بإنبات ما ينبت فيها ، وإن لم يتقدّم ذكر المطر ، فالسحاب يدل عليه ، أو أحيينا بالسحاب ، لأنه سبب المطر { بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بعد يبسها ، استعار الإحياء للنبات ، والموت لليبس { كَذَلِكَ النشور } أي : كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها ، والنشور : البعث ، من نشر الإنسان نشوراً ، والكاف في محل رفع على الخيرية ، أي : مثل إحياء موات الأرض إحياء الأموات ، فكيف تنكرونه ، وقد شاهدتم غير مرّة ما هو مثله وشبيه به؟
{ مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } قال الفرّاء : معناه : من كان علم العزة لمن هي؟ فإنها الله جميعاً . وقال قتادة : من كان يريد العزّة ، فليتعزز بطاعة الله ، فجعل معنى فللّه العزّة : الدعاء إلى طاعة من له العزّة ، كما يقال : من أراد المال ، فالمال لفلان ، أي : فليطلبه من عنده . وقال الزجاج : تقديره من كان يريد بعبادة الله العزّة ، والعزّة له سبحانه ، فإن الله عزّ وجلّ يعزّه في الدنيا والآخرة . وقيل : المراد بقوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } المشركون ، فإنهم كانوا يتعزّزون بعبادة الأصنام : كقوله : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] . وقيل المراد : الذين كانوا يتعزّزون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم { الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } [ النساء : 139 ] الآية . { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أي : فليطلبها منه لا من غيره ، والظاهر في معنى الآية : أن من كان يريد العزّة ، ويطلبها ، فليطلبها من الله عزّ وجلّ : فللّه العزّة جميعاً ، ليس لغيره منها شيء ، فتشمل الآية كل من طلب العزّة ، ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار ، وألهمم من أين تنال العزّة ، ومن أيّ جهة تطلب؟
{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } أي : إلى الله يصعد لا إلى غيره ، ومعنى صعوده إليه : قبوله له ، أو صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف ، وخصّ الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه ، وهو يتناول كل كلام يتصف بكونه طيباً من ذكر لله ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر ، وتلاوة ، وغير ذلك ، فلا وجه لتخصيصه بكلمة التوحيد ، أو بالتحميد ، والتمجيد .

وقيل : المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا . وقيل : المراد بصعوده علم الله به ، ومعنى { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، كما قال الحسن ، وشهر بن حوشب ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وأبو العالية ، والضحاك ، ووجهه : أنه لا يقبل الكلم الطيب إلاّ مع العمل الصالح . وقيل : إن فاعل { يرفعه } هو { الكلم الطيب } ، ومفعوله { العمل الصالح } ، ووجهه : أن العمل الصالح لا يقبل إلاّ مع التوحيد ، والإيمان . وقيل : إن فاعل { يرفعه } ضمير يعود إلى الله عزّ وجلّ . والمعنى : أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم الطيب ، لأن العمل يحقق الكلام . وقيل : والعمل الصالح يرفع صاحبه ، وهو الذي أراد العزّة . وقال قتادة : المعنى : أن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه ، أي : يقبله ، فيكون قوله : { والعمل الصالح } على هذا مبتدأ خبره يرفعه ، وكذا على قول من قال يرفع صاحبه . قرأ الجمهور : { يصعد } من صعد الثلاثي . و { الكلم الطيب } بالرفع على الفاعلية . وقرأ علي ، وابن مسعود : ( يصعد ) بضم حرف المضارعة من أصعد ، و ( الكلم الطيب ) بالنصب على المفعولية ، وقرأ الضحاك على البناء للمفعول ، وقرأ الجمهور : { الكلم } ، وقرأ أبو عبد الرحمن : ( الكلام ) ، وقرأ الجمهور : { والعمل الصالح } بالرفع على العطف ، أو على الابتدا ء . وقرأ ابن أبي عبلة ، وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال . { والذين يَمْكُرُونَ السيئات لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } انتصاب { السيئات } على أنها صفة لمصدر محذوف : أي : يمكرون المكرات السيئات ، وذلك لأن «مكر» لازم ، ويجوز : أن يضمن يمكرون معنى : يكسبون ، فتكون السيئات مفعولاً به . قال مجاهد ، وقتادة : هم : أهل الرياء . وقال أبو العالية : هم الذين مكروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة . وقال الكلبي : هم الذين يعملون السيئات في الدنيا . وقال مقاتل : هم : المشركون ، ومعنى { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } : لهم عذاب بالغ الغاية في الشدّة { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي : يبطل ، ويهلك ، ومنه { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] . والمكر في الأصل : الخديعة ، والاحتيال ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين مكروا السيئات على اختلاف الأقوال في تفسير مكرهم ، وجملة : { يَبُورُ } خبر مكر أولئك .
ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على البعث ، والنشور ، فقال : { والله خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } أي : خلقكم ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب . وقال قتادة : يعني : آدم ، والتقدير على هذا : خلق أباكم الأوّل ، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أخرجها من ظهر آبائكم { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا } أي : زوّج بعضكم ببعض ، فالذكر زوج الأنثى ، أو جعلكم أصنافاً ذكراناً وإناثاً { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي : لا يكون حمل ، ولا وضع إلاّ والله عالم به ، فلا يخرج شيء عن علمه وتدبيره { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب } أي : ما يطول عمر أحد ، ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب ، أي : في اللوح المحفوظ .

قال الفرّاء : يريد آخر غير الأوّل ، فكنى عنه بالضمير كأنه الأوّل : لأن لفظ الثاني لو ظهر كان كالأوّل كأنه قال : ولا ينقص من عمر معمر ، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأوّل ، ومثله قولك : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف آخر . قيل : إنما سمي معمراً باعتبار مصيره إليه . والمعنى : وما يمدّ في عمر أحد ، ولا ينقص من عمر أحد ، لكن لا على معنى : لا ينقص من عمره بعد كونه زائداً ، بل على معنى : أنه لا يجعل من الابتداء ناقصاً إلاّ وهو في كتاب . قال سعيد بن جبير : وما يعمر من معمر إلاّ كتب عمره : كم هو سنة ، كم هو شهراً ، كم هو يوماً ، كم هو ساعة ، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة ، نقص من عمره يوم ، نقص من عمره شهر ، نقص من عمره سنة حتى يستوفي أجله ، فما مضى من أجله ، فهو : النقصان ، وما يستقبل ، فهو : الذي يعمره . وقال قتادة : المعمر من بلغ ستين سنة ، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة . وقيل : المعنى : إن الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع ، ودونه إن عصى ، فأيهما بلغ ، فهو في كتاب ، والضمير على هذا يرجع إلى معمر . وقيل : المعنى : وما يعمر من معمر إلى الهرم ، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلاّ في كتاب ، أي : بقضاء الله قاله الضحاك ، واختاره النحاس . قال : وهو أشبهها بظاهر التنزيل ، والأولى أن يقال : ظاهر النظم القرآني أن تطويل العمر وتقصيره : هما بقضاء الله ، وقدره لأسباب تقتضي التطويل ، وأسباب تقتضي التقصير .
فمن أسباب التطويل : ما ورد في صلة الرّحم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ونحو ذلك . ومن أسباب التقصير الاستكثار من معاصي الله عزّ وجلّ ، فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلاً سبعين سنة ، فقد يزيد الله له عليها إذا فعل أسباب الزيادة ، وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان ، والكلّ في كتاب مبين ، فلا تخالف بين هذه الآية ، وبين قوله سبحانه : { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ الأعراف : 34 ] ، ويؤيد هذا قوله سبحانه : { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ الرعد : 39 ] ، وقد قدّمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحاً وبياناً . قرأ الجمهور : { ينقص } مبنياً للمفعول . وقرأ يعقوب ، وسلام ، وروي عن أبي عمرو : ( ينقص ) مبنياً للفاعل . وقرأ الجمهور : { من عمره } بضمّ الميم . وقرأ الحسن ، والأعرج ، والزهري بسكونها ، والإشارة بقوله : { إِنَّ ذلك } إلى ما سبق من الخلق ، وما بعده { عَلَى الله يَسِيرٌ } لا يصعب عليه منه شيء ، ولا يعزب عنه كثير ، ولا قليل ، ولا كبير ، ولا صغير .

ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من بديع صنعه ، وعجيب قدرته ، فقال { وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } فالمراد ب { البحران } العذب ، والمالح ، فالعذب الفرات الحلو ، والأجاج المرّ ، والمراد ب { سَائِغٌ شَرَابُهُ } : الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته . وقرأ عيسى بن عمر : ( سيغ ) بتشديد الياء ، وروي تسكينها عنه . وقرأ طلحة ، وأبو نهيك : ( ملح ) بفتح الميم { وَمِن كُلّ } منهما { تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } ، وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي تؤكل { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } الظاهر أن المعنى : وتستخرجون منهما حلية تلبسونها . وقال المبرّد : إنما تستخرج الحلية من المالح ، وروي عن الزجاج : أنه قال : إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا ، لا من كل واحد منهما على انفراده ، ورجح النحاس قول المبرّد . ومعنى { تَلْبَسُونَهَا } : تلبسون كل شيء منها بحسبه ، كالخاتم في الأصبع ، والسوار في الذراع ، والقلادة في العنق ، والخلخال في الرجل ، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل كالسيف ، والدرع ، ونحوهما { وَتَرَى الفلك فِيهِ } أي : في كل واحد من البحرين . وقال النحاس : الضمير يعود إلى الماء المالح خاصة ، ولولا ذلك لقال : فيهما { مَوَاخِرَ } يقال : مخرت السفينة تمخر : إذا شقت الماء . فالمعنى : وترى السفن في البحرين شواقّ للماء بعضها مقبلة ، وبعضها مدبرة بريح واحدة ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة النحل ، واللام في { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } متعلقة بما يدل عليه الكلام السابق : أي : فعل ذلك : لتبتغوا ، أو بمواخر . قال مجاهد : ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في مدّة قريبة كما تقدّم في البقرة { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } الله على ما أنعم عليكم به من ذلك . قال أكثر المفسرين : إن المراد من الآية ضرب المثل في حقّ المؤمن والكافر ، والكفر والإيمان ، فكما لا يستوي البحران كذلك لا يستوي المؤمن والكافر ، ولا الكفر والإيمان .
{ يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل } أي : يضيف بعض أجزائهما إلى بعض ، فيزيد في أحدهما ، بالنقص في الآخر ، وقد تقدّم تفسيره في آل عمران ، وفي مواضع من الكتاب العزيز { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى } قدّره الله لجريانهما ، وهو : يوم القيامة . وقيل : هو المدّة التي يقطعان في مثلها الفلك ، وهو سنة للشمس ، وشهر للقمر . وقيل : المراد به جري الشمس في اليوم ، والقمر في الليلة . وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى الفاعل لهذه الأفعال ، وهو : الله سبحانه ، واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره : { الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك } أي : هذا الذي من صنعته ما تقدّم : هو : الخالق المقدّر ، والقادر المقتدر المالك للعالم ، والمتصرّف فيه ، ويجوز : أن يكون قوله : له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } أي : لا يقدرون عليه ، ولا على خلقه ، والقطمير : القشرة الرّقيقة التي تكون بين التمرة والنواة ، وتصير على النواة كاللفافة لها .

وقال المبرّد : هو : شقّ النواة . وقال قتادة : هو : القمع الذي على رأس النواة . قال الجوهري : ويقال : هي : النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة .
ثم بيّن سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنم لا ينفعون ولا يضرّون ، فقال : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ } أي : إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم ، لكونها جمادات لا تدرك شيئاً من المدركات { وَلَوْ سَمِعُواْ } على طريقة الفرض ، والتقدير { مَا استجابوا لَكُمْ } لعجزهم عن ذلك . قال قتادة : المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم . وقيل المعنى : لو جعلنا لهم سماعاً وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم ، ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموهم إليه من الكفر { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي : يتبرّءون من عبادتكم لهم ، ويقولون { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [ يونس : 28 ] ويجوز : أن يرجع : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } [ الأعراف : 197 ] وما بعده إلى من يعقل ممن عبدهم الكفار ، وهم : الملائكة ، والجنّ ، والشياطين . والمعنى : أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقاً ، وينكرون : أنهم أمروكم بعبادتهم { وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي : لا يخبرك مثل من هو خبير بالأشياء عالم بها ، وهو : الله سبحانه ، فإنه لا أحد أخبر بخلقه ، وأقوالهم ، وأفعالهم منه سبحانه ، وهو الخبير بكنه الأمور ، وحقائقها .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض ، فينفخ فيه ، فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلاّ من شاء الله إلاّ مات ، ثم يرسل الله من تحت العرش منياً كمني الرجال ، فتنبت أجسامهم ولحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى ، ثم قرأ عبد الله { الله الذى أَرْسَلَ الرياح } الآية . وأخرج أبو داود ، والطيالسي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال : «قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال : " أما مررت بأرض مجدبة ، ثم مررت بها مخصبة تهتزّ خضراء؟ قلت : بلى ، قال : كذلك يحيي الله الموتى ، وكذلك النشور " وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود قال : إذا حدّثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله ، إن العبد المسلم إذا قال : سبحان الله ، وبحمده ، والحمد لله ، ولا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، وتبارك الله ، قبض عليهنّ ملك يضمهنّ تحت جناحه ، ثم يصعد بهنّ إلى السماء ، فلا يمرّ بهنّ على جمع من الملائكة إلاّ استغفر لقائلهنّ حتى يجيء بهنّ وجه الرحمن ، ثم قرأ : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } قال : أداء الفرائض ، فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله ، فصعد به إلى الله ، ومن ذكر الله ، ولم يؤدّ فرائضه ردّ كلامه على عمله ، وكان عمله أولى به .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } الآية قال : يقول ليس أحد قضيت له طول العمر ، والحياة إلاّ وهو بالغ ما قدّرت له من العمر وقد قضيت له ذلك ، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدّرت له لا يزاد عليه ، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر ، والحياة ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له ، فذلك قوله : { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب } يقول : كل ذلك في كتاب عنده . وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو عوانة ، وابن حبان ، والطبراني ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقرّ في الرحم بأربعين ، أو بخمسة وأربعين ليلة ، فيقول : أيّ ربّ أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ، ويكتبان ، ثم يكتب عمله ، ورزقه ، وأجله ، وأثره ، ومصيبته ، ثم تطوى الصحيفة ، فلا يزاد فيها ، ولا ينقص » وأخرج ابن أبي شيبة ، ومسلم ، والنسائي ، وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال : قالت أمّ حبيبة : اللهمّ أمتعني بزوجي النبيّ ، وبأبي أبي سفيان ، وبأخي معاوية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنك سألت الله لآجال مضروبة ، وأيام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، ولن يعجل الله شيئاً قبل حله ، أو يؤخر شيئاً ، ولو كنت سألت الله : أن يعيذك من عذاب في النار ، أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل » وهذه الأحاديث مخصصة بما ورد من قبول الدعاء ، وأنه يعتلج هو والقضاء ، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر ، فلا معارضة بين الأدلة كما قدّمنا . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } قال : القطمير القشر ، وفي لفظ : الجلد الذي يكون على ظهر النواة .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)

ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه ، ومزيد حاجتهم إلى فضله ، فقال : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقراء إِلَى الله } أي : المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا ، فهم الفقراء إليه على الإطلاق ، و { هُوَ الغنى } على الإطلاق { الحميد } أي : المستحقّ للحمد من عباده بإحسانه إليهم . ثم ذكر سبحانه نوعاً من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه ، واستغناؤه عنهم ، فقال : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : إن يشأ يفنكم ، ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه ، ولا يعصونه ، أو يأت بنوع من أنواع الخلق ، وعالم من العالم غير ما تعرفون { وَمَا ذلك } إلاّ ذهاب لكم ، والإتيان بآخرين { عَلَى الله بِعَزِيزٍ } أي : بممتنع ، ولا متعسر ، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي : نفس وازرة ، فحذف الموصوف للعلم به ، ومعنى تزر : تحمل . والمعنى : لا تحمل نفس حمل نفس أخرى ، أي : إثمها بل كل نفس تحمل وزرها ، ولا تخالف هذه الآية قوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ؛ لأنهم إنما حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم ، والكلّ من أوزارهم ، لا من أوزار غيرهم ، ومثل هذا حديث : « من سنّ سنة سيئة ، فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة » فإن الذين سنّ السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية مستوفى . { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا } قال الفرّاء : أي : نفس مثقلة ، قال : وهذا يقع للمذكر ، والمؤنث . قال الأخفش : أي وإن تدع مثقلة إنساناً إلى حملها ، وهو : ذنوبها { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ } أي : من حملها { شَىْء وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي : ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها ، لم يحمل من حملها شيئاً . ومعنى الآية : وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفساً أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوّة من تلك الذنوب شيئاً ، ولو كانت قريبة لها في النسب ، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها ، وبين الداعية لها؟ وقرىء : ( ذو قربى ) على أن كان تامة ، كقوله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] .
وجملة { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } مستأنفة مسوقة لبيان من يتعظ بالإنذار ، ومعنى { يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } : أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه ، أو يخشون عذابه ، وهو غائب عنهم ، أو يخشونه في الخلوات عن الناس . قال الزجاج : تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم ، فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار ، كقوله : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها } [ النازعات : 45 ] وقوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِىَ الرحمن بالغيب } [ يس : 11 ] . ومعنى { وَأَقَامُواْ الصلاة } : أنهم احتفلوا بأمرها ، ولم يشتغلوا عنها بشيء مما يلهيهم .

{ وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ } التزكي : التطهر من أدناس الشرك ، والفواحش ، والمعنى : أن من تطهر بترك المعاصي ، واستكثر من العمل الصالح ، فإنما يتطهر لنفسه ، لأن نفع ذلك مختصّ به كما أن وزر من تدنس لا يكون إلاّ عليه لا على غيره . قرأ الجمهور : { ومن تزكى فإنما يتزكى } وقرأ أبو عمرو : «فإنما يزكى» بإدغام التاء في الزاي ، وقرأ ابن مسعود ، وطلحة : ( ومن أزكى فإنما يزكى ) . { وإلى الله المصير } لا إلى غيره ، ذكر سبحانه أوّلاً : أنه لا يحمل أحد ذنب أحد ، ثم ذكر ثانياً : أن المذنب إن دعا غيره ، ولو كان من قرابته إلى حمل شيء من ذنوبه لا يحمله ، ثم ذكر ثالثاً : أن ثواب الطاعة مختصّ بفاعلها ليس لغيره منه شيء .
ثم ضرب مثلاً للمؤمن ، والكافر ، فقال : { وَمَا يَسْتَوِى الأعمى } أي : المسلوب حاسة البصر { والبصير } الذي له ملكة البصر ، فشبه الكافر بالأعمى ، وشبه المؤمن بالبصير { وَلاَ الظلمات وَلاَ النور } أي : ولا تستوي الظلمات ولا النور ، فشبه الباطل بالظلمات ، وشبه الحقّ بالنور . قال الأخفش : و " لا " في قوله : { ولا النور } ، { ولا الحرور } زائدة ، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور ، ولا الظلّ والحرور ، والحرور شدّة حرّ الشمس . قال الأخفش : والحرور لا يكون إلاّ مع شمس النهار ، والسموم يكون بالليل . وقيل : عكسه . وقال رؤبة بن العجاج : الحرور يكون بالليل خاصة ، والسموم يكون بالنهار خاصة . وقال الفراء : السموم لا يكون إلاّ بالنهار ، والحرور يكون فيهما . قال النحاس : وهذا أصح . وقال قطرب : الحرور الحرّ ، والظلّ البرد ، والمعنى : أنه لا يستوي الظلّ الذي لا حرّ فيه ، ولا أذى ، والحرّ الذي يؤذي . قيل : أراد الثواب والعقاب ، وسمي الحرّ حروراً مبالغة في شدّة الحرّ ، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى . وقال الكلبي : أراد بالظلّ الجنة ، وبالحرور النار . وقال عطاء : يعني : ظل الليل ، وشمس النهار . قيل : وإنما جمع الظلمات ، وأفرد النور لتعدّد فنون الباطل ، واتحاد الحقّ .
ثم ذكر سبحانه تمثيلاً آخر للمؤمن ، والكافر ، فقال : { وَمَا يَسْتَوِى الأحياء وَلاَ الأموات } ، فشبه المؤمنين بالأحياء ، وشبه الكافرين بالأموات . وقيل : أراد تمثيل العلماء ، والجهلة . وقال ابن قتيبة : الأحياء العقلاء ، والأموات الجهال . قال قتادة : هذه كلها أمثال ، أي : كما لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَاء } أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم لجنته ، ووفقهم لطاعته { وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور } يعني : الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم ، أي : كما لا تسمع من مات كذلك لا تسمع من مات قلبه ، قرأ الجمهور بتنوين : { مسمع } وقطعه عن الإضافة . وقرأ الحسن ، وعيسى الثقفي ، وعمرو بن ميمون بإضافته { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } أي : ما أنت إلاّ رسول منذر ليس عليك إلاّ الإنذار ، والتبليغ ، والهدى ، والضلالة بيد الله عزّ وجلّ .

{ إِنَّا أرسلناك بالحق } يجوز : أن يكون { بالحقّ } في محل نصب على الحال من الفاعل ، أي : محقين ، أو من المفعول ، أي : محقاً ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي : إرسالاً ملتبساً بالحقّ ، أو هو متعلق ب { بشيراً } ، أي : بشيراً بالوعد الحقّ ، ونذيراً بالوعد الحقّ ، والأولى : أن يكون نعتاً للمصدر المحذوف ، ويكون معنى بشيراً : بشيراً لأهل الطاعة ، ونذيراً لأهل المعصية { وَإِن مّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } أي : ما من أمة من الأمم الماضية إلاّ مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها ، واقتصر على ذكر النذير دون البشير ، لأنه ألصق بالمقام .
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعزّاه ، فقال : { وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : كذب من قبلهم من الأمم الماضية أنبياءهم { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي : بالمعجزات الواضحة ، والدلالات الظاهرة { وبالزبر } أي : الكتب المكتوبة كصحف إبراهيم { وبالكتاب المنير } كالتوراة ، والإنجيل ، قيل : الكتاب المنير داخل تحت الزبر ، وتحت البينات ، والعطف لتغاير المفهومات ، وإن كانت متحدة في الصدق ، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات ، والزبر بالكتب التي فيها مواعظ ، والكتاب بما فيه شرائع ، وأحكام ، { ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ } وضع الظاهر موضع الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة ، ويشعر بعلة الأخذ { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : فكيف كان نكيري عليهم ، وعقوبتي لهم ، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في : { نكير } وصلاً ولا وقفاً ، وقد مضى بيان معنى هذا قريباً .
وقد أخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه عن عمرو بن الأحوص : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : « ألا لا يجني جانٍ إلاّ على نفسه ، لا يجني والد على ولده ، ولا مولود على والده » وأخرج سعيد بن منصور ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال : انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأيته قال لأبي : ابنك هذا؟ قال : أي ، وربّ الكعبة ، قال : أما أنه لا يجني عليك ، ولا تجني عليه ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْء } قال : يكون عليه وزر لا يجد أحداً يحمل عنه من وزره شيئاً .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)

ثم ذكر سبحانه نوعاً من أنواع قدرته الباهرة ، وخلقاً من مخلوقاته البديعة ، فقال : { أَلَمْ تَرَ } ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكلّ من يصلح له { أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } وهذه الرؤية هي : القلبية ، أي ألم تعلم ، وأن واسمها وخبرها سدّت مسدّ المفعولين { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } أي : بالماء ، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع ، وانتصاب { مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } على الوصف لثمرات ، والمراد بالألوان الأجناس ، والأصناف ، أي : بعضها أبيض ، وبعضها أحمر ، وبعضها أصفر ، وبعضها أخضر ، وبعضها أسود { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } الجدد جمع جدة ، وهي : الطريق . قال الأخفش : ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال ، نحو سرير وسرر . قال زهير :
كأنه أسفع الخدين ذو جدد ... طاوٍ ويرتع بعد الصيف أحياناً
وقيل : الجدد القطع ، مأخوذ من جددت الشيء إذا قطعته ، حكاه ابن بحر . قال الجوهري : الجدة : الخطة التي في ظهر الحمار تخالف لونه ، والجدة الطريقة ، والجمع جدد ، وجدائد ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب :
جون السراة له جدائد أربع ... قال المبرد : جدد : طرائق وخطوط . قال الواحدي : ونحو هذا قال المفسرون في تفسير الجدد . وقال الفراء : هي : الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض ، وسود ، وحمر ، واحدها جدة . والمعنى : أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال ، وهي : طرائقها ، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض ، ولون بعضها الحمرة ، وهو معنى قوله : { بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها } قرأ الجمهور : { جدد } بضم الجيم ، وفتح الدال . وقرأ الزهري بضمهما جمع جديدة ، وروي عنه : أنه قرأ بفتحهما ، وردّها أبو حاتم وصححها غيره ، وقال : الجدد الطريق الواضح البين { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب . قال الجوهري : تقول هذا أسود غربيب ، أي : شديد السواد ، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلاً من غرابيب . قال الفراء : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : وسود غرابيب ، لأنه يقال : أسود غربيب ، وقلّ ما يقال : غربيب أسود ، وقوله : { مُّخْتَلِف أَلْوَانُهَا } صفة لجدد ، وقوله : { وَغَرَابِيبُ } معطوف على جدد على معنى : ومن الجبال جدد بيض ، وحمر ، ومن الجبال غرابيب على لون واحد ، وهو : السواد ، أو على حمر على معنى ، ومن الجبال جدد بيض ، وحمر ، وسود . وقيل : معطوف على بيض ، ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف قبل جدد ، أي : ومن الجبال ذو جدد ، لأن الجدد إنما هي في ألوان بعضها .
{ وَمِنَ الناس والدواب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه } قوله : { مختلف } صفة لموصوف محذوف ، أي : ومنهم صنف ، أو نوع ، أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة ، والسواد ، والبياض ، والخضرة ، والصفرة . قال الفراء ، أي : خلق مختلف ألوانه كاختلاف الثمرات ، والجبال ، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء ، لأن هذا الاختلاف من أعظم الأدلة على قدرة الله ، وبديع صنعه ، ومعنى { كذلك } أي : مختلفاً مثل ذلك الاختلاف ، وهو صفة لمصدر محذوف ، والتقدير مختلف ألوانه اختلافاً كائناً كذلك ، أي : كاختلاف الجبال ، والثمار .

وقرأ الزهري : «والدواب» بتخفيف الباء . وقرأ ابن السميفع : «ألوانها» . وقيل : إن قوله : { كذلك } متعلق بما بعده ، أي : مثل ذلك المطر ، والاعتبار في مخلوقات الله ، واختلاف ألوانها يخشي الله من عباده العلماء ، وهذا اختاره ابن عطية ، وهو مردود بأن ما بعد إنما لا يعمل فيما قبلها . والراجح الوجه الأوّل ، والوقف على : { كذلك } تامّ . ثم استؤنف الكلام ، وأخبر سبحانه بقوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } أو هو من تتمة قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } [ فاطر : 18 ] على معنى إنما يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به ، وبما يليق به من صفاته الجليلة ، وأفعاله الجميلة ، وعلى كل تقدير ، فهو : سبحانه قد عين في هذه الآية أهل خشيته ، وهم : العلماء به ، وتعظيم قدرته . قال مجاهد : إنما العالم من خشي الله عزّ وجلّ . وقال مسروق : كفى بخشية الله علماً ، وكفى بالاغترار جهلاً ، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له . قال الربيع بن أنس : من لم يخش الله ، فليس بعالم . وقال الشعبي : العالم من خاف الله ، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر الفاعلية ، ولو أخر انعكس الأمر . وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف ، ونصب العلماء ، ورويت هذه القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف : الخشية في هذه القراءة استعارة ، والمعنى : أنه يجلهم ، ويعظمهم كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس ، وجملة : { إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب على معصيته غافر لمن تاب من عباده .
{ إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله } أي : يستمرّون على تلاوته ، ويداومونها . والكتاب هو : القرآن الكريم ، ولا وجه لما قيل : إن المراد به جنس كتب الله { وَأَقَامُواْ الصلاة } أي : فعلوها في أوقاتها مع كمال أركانها ، وأذكارها { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً } فيه حثّ على الإنفاق كيف ما تهيأ ، فإن تهيأ سرّاً ، فهو أفضل ، وإلاّ فعلانية ، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء ، ويمكن أن يراد بالسرّ صدقة النفل ، وبالعلانية صدقة الفرض ، وجملة . { يَرْجُونَ تجارة لَّن تَبُورَ } في محل رفع على خبرية إنّ كما قال ثعلب ، وغيره ، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة ومعنى { لَّن تَبُورَ } : لن تكسد ، ولن تهلك ، وهي صفة للتجارة ، والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد بحصول مرجوهم . واللام في : { لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ } متعلق بلن تبور ، على معنى : أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم أجور أعمالهم الصالحة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه :

{ فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ } [ النساء : 173 ] . وقيل : إن اللام متعلقة بمحذوف دلّ عليه السياق : أي : فعلوا ذلك ليوفيهم ، ومعنى { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أنّه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم ، وجملة { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } تعليل لما ذكر من التوفية والزيادة : أي : غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم ، وقيل : إن هذه الجملة هي : خبر إنّ ، وتكون جملة يرجون في محل نصب على الحال ، والأوّل أولى .
{ والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب } يعني : القرآن . وقيل : اللوح المحفوظ على أن من تبعيضية ، أو ابتدائية ، وجملة : { هُوَ الحق } خبر الموصول و { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } منتصب على الحال ، أي : موافقاً لما تقدّمه من الكتب { إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي : محيط بجميع أمورهم { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } المفعول الأوّل لأورثنا الموصول ، والمفعول الثاني الكتاب ، وإنما قدّم المفعول الثاني لقصد التشريف ، والتعظيم للكتاب ، والمعنى : ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب ، وهو : القرآن ، أي : قضينا ، وقدّرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك ، ومعنى اصطفائهم : اختيارهم ، واستخلاصهم ، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة ، فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد ، وجعلهم أمة وسطاً؛ ليكونوا شهداء على الناس ، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء ، وسيد ولد آدم . قال مقاتل : يعني : قرآن محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا . وقيل : إن المعنى : أورثناه من الأمم السالفة ، أي : أخرناه عنهم ، وأعطيناه الذين اصطفينا ، والأوّل أولى . ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه ، واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة أقسام ، فقال : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية ، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم لنفسه من ذلك المقسم ، وهو من اصطفاهم من العباد ، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالماً لنفسه؟ فقيل : إن التقسيم هو راجع إلى العباد ، أي : فمن عبادنا ظالم لنفسه ، وهو : الكافر ، ويكون ضمير { يدخلونها } عائداً إلى المقتصد والسابق . وقيل : المراد بالظالم لنفسه هو : المقصر في العمل به ، وهو : المرجأ لأمر الله ، وليس من ضرورة ورثة الكتاب مراعاته حقّ رعايته ، لقوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب } [ الأعراف : 169 ] ، وهذا فيه نظر ، لأن ظلم النفس لا يناسب الاصطفاء . وقيل : الظالم لنفسه : هو : الذي عمل الصغائر ، وقد روي هذا القول عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأبي الدرداء ، وعائشة ، وهذا هو الراجح ، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ، ولا يمنع من دخول صاحبه مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي . ووجه كونه ظالماً لنفسه أنه نقصها من الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له ، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظاً عظيماً .

وقيل : الظالم لنفسه هو : صاحب الكبائر .
وقد اختلف السلف في تفسير السابق ، والمقتصد ، فقال عكرمة ، وقتادة ، والضحاك : إن المقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقيّ على الإطلاق ، وبه قال الفراء ، وقال مجاهد في تفسير الآية : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } أصحاب المشأمة { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } : أصحاب الميمنة { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } : السابقون من الناس كلهم . وقال المبرد : إن المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها ، والآخرة حقها . وقال الحسن : الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته ، والمقتصد الذي استوت حسناته ، وسيآته ، والسابق من رجحت حسناته على سيآته . وقال مقاتل : الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل التوحيد ، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة ، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة . وحكى النحاس : أن الظالم صاحب الكبائر ، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته ، فتكون جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير ، قال : وهذا قول جماعة من أهل النظر ، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى . وقال الضحاك . فيهم ظالم لنفسه ، أي : من ذرّيتهم ظالم لنفسه . وقال سهل بن عبد الله : السابق العالم ، والمقتصد المتعلم ، والظالم لنفسه الجاهل . وقال ذو النون المصري : الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط ، والمقتصد الذاكر بقلبه ، والسابق الذي لا ينساه . وقال الأنطاكي : الظالم صاحب الأقوال ، والمقتصد صاحب الأفعال ، والسابق صاحب الأحوال . وقال ابن عطاء : الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا ، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى ، والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحقّ . وقيل : الظالم الذي يعبد الله خوفاً من النار ، والمقتصد الذي يعبده طمعاً في الجنة ، والسابق الذي يعبده لا لسبب . وقيل : الظالم الذي يحبّ نفسه ، والمقتصد الذي يحبّ دينه ، والسابق الذي يحبّ ربه . وقيل : الظالم الذي ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد الذي ينتصف ، وينصف ، والسابق الذي ينصف ولا ينتصف وقد ذكر الثعلبي ، وغيره أقوالاً كثيرة ، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم ، والمقتصد ، والسابق معروفة ، وهو يصدق على الظلم للنفس بمجرّد إحرامها للحظ ، وتفويت ما هو خير لها ، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه باعتبار ما فوّتها من الثواب ، وإن كان قائماً بما أوجب الله عليه تاركاً لما نهاه الله عنه ، فهو من هذه الحيثية من اصطفاه الله ، ومن أهل الجنة ، فلا إشكال في الآية ، ومن هذا قول آدم : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] ، وقول يونس : { إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ، ومعنى المقتصد : هو من يتوسط في أمر الدين ، ولا يميل إلى جانب الإفراط ، ولا إلى جانب التفريط ، وهذا من أهل الجنة ، وأما السابق ، فهو : الذي سبق غيره في أمور الدين ، وهو خير الثلاثة .
وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد ، وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه ، والسابق أفضل منهما ، فقيل : إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله :

{ لاَ يَسْتَوِى أصحاب النار وأصحاب الجنة } [ الحشر : 20 ] ، ونحوها من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشرّ على أهل الخير ، وتقديم المفضولين على الفاضلين . وقيل : وجه التقديم هنا : أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل ، والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقلّ قليل ، فقدّم الأكثر على الأقلّ ، والأوّل أولى ، فإن الكثرة بمجرّدها لا تقتضي تقديم الذكر . وقد قيل : في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما لا حاجة إلى التطويل به .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى توريث الكتاب ، والاصطفاء . وقيل : إلى السبق بالخيرات ، والأوّل أولى ، وهو مبتدأ ، وخبره : { هُوَ الفضل الكبير } أي : الفضل الذي لا يقادر قدره . وارتفاع { جنات عَدْنٍ } على أنها مبتدأ ، وما بعدها خبرها ، أو على البدل من الفضل ، لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب ، وعلى هذا ، فتكون جملة : { يَدْخُلُونَهَا } مستأنفة ، وقد قدّمنا : أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة ، فلا وجه لقصره على الصنف الأخير ، وقرأ زرّ بن حبيش ، والترمذي : ( جنة ) بالإفراد ، وقرأ الجحدري : ( جنات ) بالنصب على الاشتغال ، وجوّز أبو البقاء : أن تكون جنات خبراً ثانياً لاسم الإشارة ، وقرأ أبو عمرو : ( يدخلونها ) على البناء للمفعول ، وقوله : { يُحَلَّوْنَ } خبر ثان لجنات عدن ، أو حال مقدّرة ، وهو من حليت المرأة ، فهي : حال ، وفيه إشارة إلى سرعة الدخول ، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول ، فلما قال : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } أشار أن دخولهم على وجه السرعة { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } « من » الأولى تبعيضية ، والثانية بيانية ، أي : يحلون بعض أساور كائنة من ذهب ، والأساور جمع أسورة جمع سوار ، وانتصاب { لُؤْلُؤاً } بالعطف على محل { مِنْ أَسَاوِرَ } وقرىء بالجرّ عطفاً على ذهب { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } قد تقدّم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج .
{ وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } قرأ الجمهور : { الحزن } بفتحتين . وقرأ جناح بن حبيش بضمّ الحاء ، وسكون الزاي . والمعنى : أنهم يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة . قال قتادة : حزن الموت . وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب ، وخوف ردّ الطاعات . وقال القاسم : حزن زوال النعم ، وخوف العاقبة . وقيل : حزن أهوال يوم القيامة . وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة . وقال سعيد بن جبير : همّ الخبز في الدنيا . وقيل : همّ المعيشة . وقال الزجاج : أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش ، أو معاد . وهذا أرجح الأقوال ، فإن الدنيا ، وإن بلغ نعيمها أيّ بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان ، وخصوصاً أهل الإيمان ، فإنهم لا يزالون وجلين من عذاب الله خائفين من عقابه ، مضطربي القلوب في كل حين ، هل تقبل أعمالهم أو تردّ؟ حذرين من عاقبة السوء ، وخاتمة الشرّ ، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة .

وأما أهل العصيان : فهم ، وإن نفس عن خناقهم قليلاً في حياة الدنيا التي هي دار الغرور ، وتناسوا دار القرار يوماً من دهرهم ، فلا بدّ أن يشتدّ وجلهم ، وتعظم مصيبتهم ، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت ، وقربوا من منازل الآخرة ، ثم إذا قبضت أرواحهم ، ولاح لهم ما يسؤوهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غماً ، وحزناً ، فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة ، وأدخلهم الجنة ، فقد أذهب عنهم أحزانهم ، وأزال غمومهم ، وهمومهم { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } أي : غفور لمن عصاه ، شكور لمن أطاعه . { الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ } أي : دار الإقامة التي يقام فيها أبداً ، ولا ينتقل عنها تفضلاً منه ورحمة . { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } أي : لا يصيبنا في الجنة عناء ، ولا تعب ، ولا مشقة { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } ، وهو : الإعياء من التعب ، والكلال من النصب .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } قال : الأبيض ، والأحمر ، والأسود ، وفي قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } قال : طرائق { بَيْضٌ } يعني : الألوان . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الغربيب الأسود الشديد السواد . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } قال : طرائق تكون في الجبل بيض { وَحُمْرٌ } فتلك الجدد { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } قال : جبال سود { وَمِنَ الناس والدواب والأنعام } قال : { كذلك } اختلاف الناس ، والدوّابّ ، والأنعام كاختلاف الجبال ، ثم قال : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } قال : فصل لما قبلها . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } قال : العلماء بالله الذين يخافونه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عدّي عن ابن مسعود قال : ليس العلم من كثرة الحديث ، ولكن العلم من الخشية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والطبراني عنه قال : كفى بخشية الله علماً ، وكفى باغترار بالله جهلاً . وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضاً قال : ليس العلم بكثرة الرواية ، ولكن العلم الخشية . وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال : بحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله .
وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس : أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه { إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله وَأَقَامُواْ الصلاة } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } قال : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزل ، فظالمهم مغفور له ، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .

وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ أنه قال في هذه الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } قال : « هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة ، وكلهم يدخلون الجنة » وفي إسناده رجلان مجهولان . قال الإمام أحمد في مسنده قال : حدّثنا شعبة عن الوليد بن العيزار : أنه سمع رجلاً من ثقيف يحدّث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد . وأخرج الفريابي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } فأما الذين سبقوا ، فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب . وأما الذين اقتصدوا ، فأولئك يحاسبون حساباً يسيراً . وأما الذين ظلموا أنفسهم ، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته ، فهم الذين يقولون : { الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } » إلى آخر الآية . قال البيهقي : إذا كثرت روايات في حديث ظهر أن للحديث أصلاً . ا . ه ، وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق ، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول ، لأنه رواه من طريق الأعمش ، عن رجل ، عن أبي ثابت ، عن أبي الدرداء ، ورواه ابن جرير ، عن الأعمش قال : ذكر أبو ثابت .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن عوف بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أمتي ثلاثة أثلاث : فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحصون ، ويكشفون ، ثم تأتي الملائكة ، فيقولون وجدناهم يقولون : لا إله إلاّ الله وحده ، فيقول الله : أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلاّ الله وحده ، واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب ، وهي : التي قال الله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وتصديقها في التي ذكر في الملائكة . قال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } فجعلهم ثلاثة أفواج . فمنهم ظالم لنفسه ، فهذا الذي يكشف ، ويمحص ، ومنهم مقتصد ، وهو الذي يحاسب حساباً يسيراً . ومنهم سابق بالخيرات ، فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب ، بإذن الله يدخلونها جميعاً »

قال ابن كثير بعد ذكر هذا الحديث : غريب جدًّا ا ه . وهذه الأحاديث يقوّي بعضها بعضاً ، ويجب المصير إليها ، ويدفع بها قول من حمل الظالم لنفسه على الكافر ، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلهم من هذه الأمة ، وكلهم في الجنة » وما أخرجه الطيالسي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم ، وابن مردويه عن عقبة بن صهبان قال : قلت لعائشة : أرأيت قول الله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } الآية ، قالت : أما السابق ، فمن مضى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهد له بالجنة . وأما المقتصد ، فمن تبع آثارهم ، فعمل بمثل عملهم حتى لحق بهم . وأما الظالم لنفسه ، فمثلي ، ومثلك ، ومن اتبعنا ، وكلّ في الجنة . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة : ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، وثلث يجيئون بذنوب عظام إلاّ أنهم لم يشركوا ، فيقول الربّ : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، ثم قرأ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } الآية .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب : أنه كان إذا نزع بهذه الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب } قال : ألا إن سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له . وأخرجه العقيلي ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعاً . وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعاً . وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله ، والظالم لنفسه ، وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عثمان بن عفان : أنه نزع بهذه الآية ، ثم قال : ألا إن سابقنا أهل جهادنا ، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا . وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب في قوله : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } الآية قال : أشهد على الله أنه يدخلهم جميعاً الجنة . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن مردويه عنه قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } قال : كلهم ناج ، وهي هذه الأمة . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، عن ابن عباس في الآية قال : هي مثل التي في الواقعة { أصحاب الميمنة } ، و { أصحاب المشأمة } . و { السابقون } : صنفان ناجيان ، وصنف هالك . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه في قوله : { فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ } قال : هو الكافر ، والمقتصد أصحاب اليمين .

وهذا المرويّ عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني ، ولا يوافق ما قدّمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن جماعة من الصحابة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن الحارث : أن ابن عباس سأل كعباً عن هذه الآية ، فقال : نجوا كلهم ، ثم قال : تحاكت مناكبهم ، وربّ الكعبة ، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم ، وقد قدّمنا عن ابن عباس ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين ، فتعارضت الأقوال عنه .
وأخرج الترمذي ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري : أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله : { جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } ، فقال : إن عليهم التيجان ، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ } الآية قال : هم قوم في الدنيا يخافون الله ، ويجتهدون له في العبادة سرًّا ، وعلانية ، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم ، فهم خائفون أن لا يتقبل منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت ، فعندها { قَالُواْ الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } غفر لنا العظيم ، وشكر لنا القليل من أعمالنا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في الآية قال : حزن النار .

وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)

ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين ، ذكر جزاء عباده الطالحين ، فقال : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } أي : لا يقضي عليهم بالموت ، فيموتوا ، ويستريحوا من العذاب { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا } بل { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب } [ النساء : 56 ] وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } [ الأعلى : 13 ] . قرأ الجمهور : { فيموتوا } بالنصب جواباً للنفي ، وقرأ عيسى بن عمر ، والحسن بإثبات النون . قال المازني : على العطف على { يقضى } . وقال ابن عطية : هي قراءة ضعيفة ، ولا وجه لهذا التضعيف بل هي كقوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] . { كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ } أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو مبالغ في الكفر ، وقرأ أبو عمرو : ( نجزي ) على البناء للمفعول . { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } من الصراخ ، وهو : الصياح ، أي : وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم ، والصارخ : المستغيث ، ومنه قول الشاعر :
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصارخ له قرع الطنابيب
{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } أي : وهم فيها يصطرخون يقولون : { ربنا } إلخ . قال مقاتل : هو : أنهم ينادون : { ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل } : من الشرك والمعاصي ، فنجعل الإيمان منا بدل ما كنا عليه من الكفر ، والطاعة بدل المعصية ، وانتصاب { صالحاً } على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : عملاً صالحاً ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي : نعمل شيئاً صالحاً . قيل : وزيادة قوله : { غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ } للتحسر على ما عملوه من غير الأعمال الصالحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة ، فأجاب الله سبحانه عليهم بقوله : { أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } والاستفهام للتقريع ، والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، وما نكرة موصوفة ، أي : أو لم نعمّركم عمراً يتمكن من التذكر فيه من تذكر . فقيل : هو ستون سنة . وقيل : أربعون . وقيل : ثماني عشرة سنة . قال بالأوّل جماعة من الصحابة ، وبالثاني الحسن ، ومسروق ، وغيرهما . وبالثالث عطاء ، وقتادة . وقرأ الأعمش : ( ما يذكر ) بالإدغام { وَجَاءكُمُ النذير } قال الواحدي : قال جمهور المفسرين : هو النبي صلى الله عليه وسلم . وقال عكرمة ، وسفيان بن عيينة ، ووكيع ، والحسن بن الفضل ، والفرّاء ، وابن جرير : هو : الشيب ، ويكون معناه على هذا القول : أو لم نعمّركم حتى شبتم . وقيل : هو القرآن ، وقيل : الحمى . قال الأزهري : معناه : أن الحمى رسول الموت ، أي : كأنها تشعر بقدومه ، وتنذر بمجيئه ، والشيب نذير أيضاً ، لأنه يأتي في سنّ الاكتهال ، وهو علامة لمفارقة سنّ الصبا الذي هو سنّ اللهو واللعب . وقيل : هو موت الأهل ، والأقارب .

وقيل : هو كمال العقل . وقيل : البلوغ { فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } أي : فذوقوا عذاب جهنم ، لأنكم لم تعتبروا ، ولم تتعظوا ، فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله ، ويحول بينكم وبينه . قال مقاتل ، فذوقوا العذاب ، فما للمشركين من مانع يمنعهم .
{ إِنَّ الله عالم غَيْبِ السموات والأرض } قرأ الجمهور بإضافة { عالم } إلى { غيب } ، وقرأ جناح بن حبيش بالتنوين ، ونصب غيب . والمعنى : أنه عالم بكل شيء ، ومن ذلك أعمال لا تخفى عليه منها خافية ، فلو ردّكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال سبحانه : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليل لما قبله ، لأنه إذا علم مضمرات الصدور ، وهي أخفى من كل شيء علم ما فوقها بالأولى . وقيل : هذه الجملة مفسرة للجملة الأولى { هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الأرض } أي : جعلكم أمة خالفة لمن قبلها . قال قتادة : خلفاً بعد خلف ، وقرناً بعد قرن ، والخلف : هو التالي للمتقدّم . وقيل : جعلكم خلفاءه في أرضه { فَمَن كَفَرَ } منكم هذه النعمة { فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي : عليه ضرر كفره ، لا يتعدّاه إلى غيره { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً } أي : غضباً ، وبغضاً { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } أي : نقصاً وهلاكاً ، والمعنى : أن الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيدهم إلاّ المقت ، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلاّ الخسار .
ثم أمره سبحانه أن يوبخهم ، ويبكتهم ، فقال : { قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي : أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهة ، وعبدتموهم من دون الله ، وجملة { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } بدل اشتمال من أرأيتم ، والمعنى : أخبروني عن شركائكم ، أروني أيّ شيء خلقوا من الأرض؟ وقيل : إن الفعلان ، وهما أرأيتم ، وأروني من باب التنازع . وقد أعمل الثاني على ما هو اختيار البصريين { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات } أي : أم لهم شركة مع الله في خلقها ، أو ملكها ، أو التصرف فيها حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية { قُلْ أَرَءيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ } أي : أم أنزلنا عليهم كتاباً بالشركة { فَهُمْ على بينات مِنْهُ } أي : على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : { بينة } بالتوحيد ، وقرأ الباقون بالجمع . قال مقاتل : يقول : هل أعطينا كفار مكة كتاباً ، فهم على بيان منه بأن مع الله شريكاً . ثم أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره ، فقال : { بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } أي : ما يعد الظالمون بعضهم بعضاً ، كما يفعله الرّؤساء ، والقادة من المواعيد لأتباعهم إلاّ غروراً يغرونهم به ، ويزينونه لهم ، وهو الأباطيل التي تغرّ ، ولا حقيقة لها ، وذلك قولهم : إن هذه الآلهة تنفعهم ، وتقرّبهم إلى الله ، وتشفع لهم عنده .

وقيل : إن الشياطين تعد المشركين بذلك . وقيل : المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضاً هو : أنهم ينصرون على المسلمين ، ويغلبونهم .
وجملة . { إِنَّ الله يُمْسِكُ السموات والأرض أَن تَزُولاَ } مستأنفة لبيان قدرة الله سبحانه ، وبديع صنعه بعد بيان ضعف الأصنام ، وعدم قدرتها على شيء . وقيل : المعنى : إن شركهم يقتضي زوال السماوات والأرض كقوله : { تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90 91 ] { وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مّن بَعْدِهِ } أي : ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه ، أو من بعد زوالهما ، والجملة سادّة مسدّ جواب القسم والشرط ، ومعنى : { أَن تَزُولاَ } : لئلا تزولا ، أو كراهة أن تزولا . قال الزجاج : المعنى : أن الله يمنع السماوات والأرض من أن تزولا ، فلا حاجة إلى التقدير . قال الفرّاء ، أي : ولو زالتا ما أمسكهما من أحد ، قال : وهو مثل قوله : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } [ الروم : 51 ] . وقيل : المراد زوالهما يوم القيامة ، وجملة : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسماوات ، والأرض .
{ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم } المراد قريش ، أقسموا قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا القسم حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم ، ومعنى : { مِنْ إِحْدَى الأمم } يعني : المكذبة للرسل ، والنذير : النبيّ ، والهدى : الاستقامة ، وكانت العرب تتمنى : أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل { فَلَمَّا جَاءهُمُ } ما تمنوه ، وهو : رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف { نَّذِيرٍ } ، وأكرم مرسل ، وكان من أنفسهم { مَّا زَادَهُمْ } مجيئه { إِلاَّ نُفُورًا } منهم عنه ، وتباعداً عن إجابته .
{ استكبارا فِى الأرض } أي : لأجل الاستكبار ، والعتوّ ولأجل { مَكَرَ السيىء } أي : مكر العمل السيىء ، أو مكروا المكر السيىء ، والمكر هو : الحيلة ، والخداع ، والعمل القبيح ، وأضيف إلى صفته كقوله : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، وأنث { إحدى } لكون أمة مؤنثة كما قال الأخفش . وقيل : المعنى : من إحدى الأمم على العموم . وقيل : من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم تفضيلاً لها . قرأ الجمهور : { ومكر السيىء } بخفض همزة السيىء . وقرأ الأعمش ، وحمزة بسكونها وصلا . وقد غلط كثير من النحاة هذه القراءة ، ونزهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها ، قالوا : وإنما كان يقف بالسكون ، فغلط من روي عنه : أنه كان يقرأ بالسكون وصلا ، وتوجيه هذه القراءة ممكن ، بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى الوقف كما في قول الشاعر :
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
بسكون الباء من أشرب ، ومثله قراءة من قرأ : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] بسكون الراء ، ومثل ذلك قراءة أبي عمرو :

{ إلى بَارِئِكُمْ } [ البقرة : 54 ] بسكون الهمزة ، وغير ذلك كثير . قال أبو علي الفارسي : هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف ، وقرأ ابن مسعود : ( ومكراً سيئاً ) . { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } أي : لا تنزل عاقبة السوء إلاّ بمن أساء . قال الكلبي : يحيق بمعنى : يحيط ، والحوق الإحاطة ، يقال : حاق به كذا إذا أحاط به ، وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب ، ولكن قطرب فسره هنا بينزل ، وأنشد :
وقد رفعوا المنية فاستقلت ... ذراعاً بعد ما كانت تحيق
أي : تنزل . { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتُ الأولين } أي : فهل ينتظرون إلاّ سنة الأوّلين؟ أي : سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أي : لا يقدر أحد أن يبدلّ سنّة الله التي سنّها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلاً عنه { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلاً } بأن يحوّل ما جرت به سنّة الله من العذاب ، فيدفعه عنهم ، ويضعه على غيرهم ، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما .
{ أَوَ لَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها ، وتأكيده ، أي : ألم يسيروا في الأرض ، فينظروا ما أنزلنا بعاد ، وثمود ، ومدين ، وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل ، فإن ذلك هو من سنّة الله في المكذبين التي لا تبدّل ، ولا تحوّل ، وآثار عذابهم ، وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في منازلهم والحال : أن أولئك { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وأطول أعماراً ، وأكثر أموالاً ، وأقوى أبداناً { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْء فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } أي : ما كان ليسبقه ويفوته من شيء من الأشياء كائناً ما كان فيهما { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } أي : كثير العلم ، وكثير القدرة لا يخفى عليه شيء ، ولا يصعب عليه أمر { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ } من الذنوب ، وعملوا من الخطايا { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } أي : الأرض { مِن دَابَّةٍ } من الدوابّ التي تدبّ كائنة ما كانت ، أما بنو آدم فلذنوبهم ، وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم . وقيل : المراد ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدبّ من بني آدم والجنّ ، وقد قال بالأوّل ابن مسعود ، وقتادة ، وقال بالثاني الكلبي . وقال ابن جريج ، والأخفش ، والحسين بن الفضل : أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } ، وهو : يوم القيامة { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } أي : بمن يستحق منهم الثواب ، ومن يستحق منهم العقاب ، والعامل في إذا هو جاء لا بصيراً ، وفي هذا تسلية للمؤمنين ، ووعيد للكافرين .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله : { أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } قال : ستين سنة .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة قيل : أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله : أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر » وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي ، وفيه مقال . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعذر الله إلى امرىء أخر عمره حتى بلغ ستين سنة » وأخرج عبد بن حميد ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مروديه عن سهل بن سعد مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عليّ بن أبي طالب قال : العمر الذي عيرهم الله به ستون سنة . وأخرج الترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، وابن المنذر ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ، وأقلهم من يجوز ذلك » قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه ، ثم أخرجه في موضع آخر من كتاب الزهد ، وقال : هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ، وقد روي من غير وجه عنه . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال : هو : ستّ وأربعون سنة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله : { أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } أربعون سنة . وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : « قال : وقع في نفس موسى هل ينام الله عزّ وجلّ؟ فأرسل الله إليه ملكاً ، فأرّقه ثلاثاً ، وأعطاه قارورتين في كلّ يد قارورة ، وأمره أن يحتفظ بهما ، فجعل ينام ، وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ ، فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة ، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان . قال : ضرب الله له مثلاً إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء ، والأرض » وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن سلام : أن موسى قال : يا جبريل هل ينام ربك؟ فذكر نحوه . وأخرجه أبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه : أن موسى ، فذكر نحوه . وأخرج الفريابي ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم ، ثم قرأ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } الآية .

يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)

قوله : { يس } قرأ الجمهور بسكون النون ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، وحفص ، وقالون ، وورش بإدغام النون في الواو الذي بعدها ، وقرأ عيسى بن عمر بفتح النون ، وقرأ ابن عباس ، وابن أبي إسحاق ، ونصر بن عاصم بكسرها ، فالفتح على البناء ، أو على أنه مفعول فعل مقدّر تقديره : اتل يس ، والكسر على البناء أيضاً كجير ، وقيل : الفتح ، والكسر للفرار من التقاء الساكنين . وأما وجه قراءة الجمهور بالسكون للنون ، فلكونها مسرودة على نمط التعديد ، فلا حظ لها من الإعراب . وقرأ هارون الأعور ، ومحمد بن السميفع ، والكلبي بضم النون على البناء كمنذ ، وحيث ، وقط ، وقيل : على أنها خبر مبتدأ محذوف : أي : هذه يس ، ومنعت من الصرف للعلمية ، والتأنيث .
واختلف في معنى هذه اللفظة ، فقيل : معناها : يا رجل ، أو يا إنسان . قال ابن الأنباري : الوقف على يس حسن لمن قال : هو افتتاح للسورة ، ومن قال : معناه : يا رجل ، لم يقف عليه . وقال سعيد بن جبير ، وغيره : هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم دليله { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } ، ومنه قول السعد الحميري :
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة ... على المودّة إلاّ آل ياسين
ومنه قوله : { سلام على إِلْ يَاسِينَ } [ الصافات : 130 ] أي : على آل محمد ، وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين . قال الواحدي : قال ابن عباس ، والمفسرون : يريد يا إنسان : يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم . وقال أبو بكر الورّاق : معناه : يا سيد البشر . وقال مالك : هو : اسم من أسماء الله تعالى ، روى ذلك عنه أشهب . وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق : أن معناه : يا سيد . وقال كعب : هو : قسم أقسم الله به ، ورجح الزجاج أن معناه : يا محمد . واختلفوا هل هو عربيّ أو غير عربيّ؟ ، فقال سعيد بن جبير ، وعكرمة : حبشي . وقال الكلبي : سرياني تكلمت به العرب ، فصار من لغتهم . وقال الشعبي : هو بلغة طيّ . وقال الحسن : هو بلغة كلب . وقد تقدم في طه ، وفي مفتتح سورة البقرة ما يغني عن التطويل ها هنا { والقرءان الحكيم } بالجرّ على أنه مقسم به ابتداء . وقيل : هو معطوف على يس على تقدير كونه مجروراً بإضمار القسم . قال النقاش : لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في كتابه إلاّ لمحمد صلى الله عليه وسلم تعظيماً له وتمجيداً ، والحكيم المحكم الذي لا يتناقض ، ولا يتخالف ، أو الحكيم قائله ، وجواب القسم { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } ، وهذا ردّ على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم : { لَسْتَ مُرْسَلاً } [ الرعد : 43 ] وقوله : { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } خبر آخر لإنّ : أي : إنك على صراط مستقيم ، والصراط المستقيم : الطريق القيم الموصل إلى المطلوب .

قال الزجاج : على طريقة الأنبياء الذين تقدّموك ، ويجوز : أن يكون في محل نصب على الحال { تَنزِيلَ العزيز الرحيم } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر برفع " تنزيل " على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي : هو تنزيل ، ويجوز : أن يكون خبراً لقوله : يس إن جعل اسماً للسورة ، وقرأ الباقون بالنصب على المصدرية : أي : نزّل الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم . والمعنى : أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم ، وقيل : المعنى : إنك يا محمد تنزيل العزيز الرحيم ، والأوّل أولى . وقيل : هو منصوب على المدح على قراءة من قرأ بالنصب ، وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر مبالغة حتى كأنه نفس التنزيل ، وقرأ أبو حيوة ، والترمذي ، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع ، وشيبة " تنزيل " بالجرّ على النعت للقرآن ، أو البدل منه .
واللام في { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } يجوز : أن تتعلق ب { تنزيل } ، أو بفعل مضمر يدلّ عليه { من المرسلين } : أي : أرسلناك لتنذر ، و «ما» في { مَّا أُنذِرَ ءابَاؤُهُمْ } هي : النافية : أي : لم ينذر آباؤهم ، ويجوز : أن تكون موصولة ، أو موصوفة : أي : لتنذر قوماً الذي أنذره آباؤهم ، أو لتنذرهم عذاباً أنذره آباؤهم ، ويجوز : أن تكون مصدرية : أي : إنذار آبائهم ، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى : ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم ، ويجوز : أن يراد ، ما أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة ، وقوله : { فَهُمْ غافلون } متعلق بنفي الإندار على الوجه الأوّل : أي : لم ينذر آباؤهم ، فهم بسبب ذلك غافلون ، وعلى الوجوه الآخرة متعلق بقوله { لتنذر } : أي : { فهم غافلون } عما أنذرنا به آباءهم ، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي ، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم غافلون على ما قبله ، واللام في قوله : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } هي : الموطئة للقسم ، أي : والله لقد حقّ القول على أكثرهم ، ومعنى { حقّ } : ثبت ، ووجب القول : أي : العذاب على أكثرهم : أي : أكثر أهل مكة ، أو أكثر الكفار على الإطلاق ، أو أكثر كفار العرب ، وهم من مات على الكفر ، وأصرّ عليه طول حياته ، فيتفرّع قوله : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } على ما قبله بهذا الاعتبار ، أي : لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر ، والموت عليه ، وقيل : المراد بالقول المذكور هنا : هو قوله سبحانه : { فالحق والحق أَقُولُ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ } [ ص : 84 85 ] .
وجملة { إِنَّا جَعَلْنَا فِى أعناقهم أغلالا } تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم { فَهِىَ } أي : الأغلال منتهية { إِلَى الأذقان } ، فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ، ولا يتمكنون من عطفها ، وهو معنى قوله : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } أي : رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم . قال الفراء ، والزجاج : المقمح : الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ، ومعنى الإقماح : رفع الرأس ، وغضّ البصر ، يقال : أقمح البعير رأسه ، وقمح : إذا رفع رأسه ، ولم يشرب الماء .

قال الأزهري : أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ، ورؤوسهم صعداء ، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها . وقال قتادة : معنى مقمحون : مغلولون ، والأوّل أولى ، ومنه قول الشاعر :
ونحن على جوانبها قعود ... نغضّ الطرف كالإبل القماح
قال الزجاج : قيل : للكانونين : شهرا قماح؛ لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدّة البرد ، وأنشد قول أبي زيد الهذلي :
فتى ، ما ابن الأغرّ إذا شتونا ... وحب الزاد في شهري قماح
قال أبو عبيدة : قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ، ولم يشرب . وقال أبو عبيدة أيضاً : هو مثل ضربه الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول ، كما يقال : فلان حمار : أي : لا يبصر الهدى ، وكما قال الشاعر :
لهم عن الرشد أغلال وأقياد ... وقال الفراء : هذا ضرب مثل : أي : حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله ، وهو كقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] . وبه قال الضحاك . وقيل : الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى : { إِذِ الأغلال فِى أعناقهم } [ غافر : 71 ] وقرأ ابن عباس « إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً » قال الزجاج : أي : في أيديهم . قال النحاس : وهذه القراءة تفسير ، ولا يقرأ بما خالف المصحف . قال : وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة ، التقدير : إنا جعلنا في أعناقهم ، وفي أياديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان ، فلفظ « هي » كناية عن الأيدي لا عن الأعناق ، والعرب تحذف مثل هذا . ونظيره : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وسرابيل تقيكم البرد ، لأن ما وقى من الحرّ ، وقى من البرد؛ لأن الغلّ إذا كان في العنق ، فلا بدّ أن يكون في اليد ، ولا سيما ، وقد قال الله { فَهِىَ إِلَى الأذقان } ، فقد علم أنه يراد به الأيدي ، فهم مقمحون ، أي : رافعو رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق؛ لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه . وروي عن ابن عباس : أنه قرأ « إنا جعلنا في أيديهم أغلالاً » ، وعن ابن مسعود : أنه قرأ « إنا جعلنا في أيمانهم أغلالاً » كما روي سابقاً من قراءة ابن عباس { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } أي : منعناهم عن الإيمان بموانع ، فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان ، كالمضروب أمامه ، وخلفه بالأسداد ، والسد بضم السين ، وفتحها لغتان . ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر :
ومن الحوادث لا أبالك أنني ... ضربت عليّ الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة ... بين العذيب وبين أرض مراد
{ فأغشيناهم } أي : غطينا أبصارهم { فَهُمُ } بسبب ذلك { لاَّ يُبْصِرُونَ } أي : لا يقدرون على إبصار شيء .

قال الفراء : فألبسنا أبصارهم غشوة : أي : عمى فهم لا يبصرون سبيل الهدى ، وكذا قال قتادة : إن المعنى : لا يبصرون الهدى . وقال السدّي : لا يبصرون محمداً حين ائتمروا على قتله . وقال الضحاك : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } : أي : الدنيا ، { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } أي : الآخرة ، { فأغشيناهم ، فهم لا يبصرون } : أي : عموا عن البعث ، وعموا عن قبول الشرائع في الدنيا . وقيل : ما بين أيديهم : الآخرة ، وما خلفهم : الدنيا ، قرأ الجمهور بالغين المعجمة : أي : غطينا أبصارهم ، فهو على حذف مضاف . وقرأ ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، والحسن ، ويحيى بن يعمر ، وأبو رجاء ، وعكرمة بالعين المهملة من العشا ، وهو : ضعف البصر . ومنه { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن } [ الزخرف : 36 ] { وَسَوَآء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : إنذارك إياهم ، وعدمه سواء . قال الزجاج : أي : من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار ، إنما ينفع الإنذار من ذكر في قوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر وَخشِىَ الرحمن بالغيب } أي : اتبع القرآن ، وخشي الله في الدنيا ، وجملة { لا يؤمنون } مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء ، أو في محل نصب على الحال ، أو بدل ، و { بالغيب } في محل نصب على الحال من الفاعل ، أو المفعول { فَبَشّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي : بشر هذا الذي اتبع الذكر ، وخشي الرحمن بالغيب بمغفرة عظيمة ، وأجر كريم ، أي : حسن ، وهو : الجنة .
ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى ، فقال : { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى } أي : نبعثهم بعد الموت . وقال الحسن ، والضحاك ، أي : نحييهم بالإيمان بعد الجهل ، والأوّل أولى . ثم توعدهم بكتب آثارهم ، فقال : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } أي : أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة { وَءاثَارَهُمْ } أي : ما أبقوه من الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت . كمن سنّ سنّة حسنة ، أو نحو ذلك ، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها : كمن سن سنّة سيئة . قال مجاهد ، وابن زيد : ونظيره قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } [ الانفطار : 5 ] وقوله : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] . وقيل : المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد ، وبه قال جماعة من الصحابة ، والتابعين . قال النحاس : وهو أولى ما قيل في الآية؛ لأنها نزلت في ذلك . ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها ، وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشرّ ، ومن الخير : تعليم العلم ، وتصنيفه ، والوقف على القرب ، وعمارة المساجد ، والقناطر . ومن الشرّ : ابتداع المظالم ، وإحداث ما يضرّ بالناس ، ويقتدي به أهل الجور ، ويعملون عليه من مكس ، أو غيره ، ولهذا قال سبحانه : { وَكُلَّ شىْء أحصيناه فِى إِمَامٍ مُّبِينٍ } أي : وكل شيء من أعمال العباد ، وغيرها كائناً ما كان ، في إمام مبين ، أي : كتاب مقتدى به موضح لكل شيء . قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : أراد اللوح المحفوظ ، وقالت فرقة : أراد صحائف الأعمال .

قرأ الجمهور « ونكتب » على البناء للفاعل . وقرأ زرّ ، ومسروق على البناء للمفعول . وقرأ الجمهور { كُلّ شَىْء أحصيناه } بنصب « كل » على الاشتغال . وقرأ أبو السمأل بالرفع على الابتداء .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود ، وابن عباس في قوله : { يس } قالا : يا محمد . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { يس } قال : يا إنسان . وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن ، والضحاك ، وعكرمة مثله . وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد ، فيجهر بالقراءة ، حتى تأذى به ناس من قريش ، حتى قاموا ليأخذوه ، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم ، وإذا هم عمي لا يبصرون ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : ننشدك الله والرحم يا محمد ، قال : ولم يكن بطن من بطون قريش إلاّ وللنبي صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهب ذلك عنهم ، فنزلت { يس* والقرءان الحكيم } إلى قوله : { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال : « فلم يؤمن من ذلك النفر أحد » وفي الباب : روايات في سبب نزول ذلك ، هذه الرواية أحسنها ، وأقربها إلى الصحة .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الأغلال : ما بين الصدر إلى الذقن { فَهُم مُّقْمَحُونَ } كما تقمح الدابة باللجام . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } الآية قال : كانوا يمرّون على النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يرونه . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : اجتمعت قريش بباب النبي صلى الله عليه وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه ، فشقّ ذلك عليه ، فأتاه جبريل بسورة يس ، وأمره بالخروج عليهم ، فأخذ كفاً من تراب وخرج وهو يقرؤها ، ويذرّ التراب على رؤوسهم ، فما رأوه حتى جاز ، فجعل أحدهم يلمس رأسه ، فيجد التراب ، وجاء بعضهم فقال : ما يجلسكم؟ قالوا : ننتظر محمداً ، فقال : لقد رأيته داخلاً المسجد ، قال : قوموا ، فقد سحركم .
وأخرج عبد الرّزّاق ، والترمذي وحسنه ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقيّ في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال : كان بنو سلمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، فأنزل الله { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ } ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « إنه يكتب آثاركم » ثم قرأ عليهم الآية : فتركوا . وأخرج الفريابي ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه . وفي صحيح مسلم ، وغيره من حديث جابر قال : إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ، ويتحوّلوا قريباً من المسجد ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا بني سلمة ، دياركم تكتب آثاركم » .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)

قوله : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية } قد تقدّم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة ، وسورة النمل ، والمعنى : اضرب لأجلهم مثلاً ، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلاً ، أي : مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية ، فعلى الأوّل لما قال تعالى : { إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 3 ] وقال : { لِتُنذِرَ قَوْماً } [ يس : 6 ] قال : قل لهم : ما أنا بدعا من الرسل ، فإن قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون ، وأنذروهم بما أنذرتكم ، وذكروا التوحيد ، وخوّفوا بالقيامة ، وبشروا بنعيم دار الإقامة . وعلى الثاني لما قال : إن الإنذار لا ينفع من أضله الله ، وكتب عليه أنه لا يؤمن ، قال للنبي صلى الله عليه وسلم : اضرب لنفسك ، ولقومك مثلاً : أي : مثل لهم عند نفسك مثلاً بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل ، ولم يؤمنوا ، وصبر الرسل على الإيذاء ، وأنت جئت إليهم واحداً ، وقومك أكثر من قوم الثلاثة ، فإنهم جاءوا إلى أهل القرية ، وأنت بعثتك إلى الناس كافة . والمعنى : واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية : أي : اذكر لهم قصة عجيبة قصة أصحاب القرية ، فترك المثل ، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب . وقيل : لا حاجة إلى الإضمار ، بل المعنى : اجعل أصحاب القرية لهم مثلاً على أن يكون { مثلاً } و { أصحاب القرية } مفعولين لاضرب ، أو يكون أصحاب القرية بدلاً من مثلاً ، وقد قدّمنا الكلام على المفعول الأوّل من هذين المفعولين هل هو : مثلاً ، أو أصحاب القرية . وقد قيل : إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ امرأة نُوحٍ وامرأة لُوطٍ } [ التحريم : 10 ] ، ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة ، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيره لها كما في قوله : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } [ إبراهيم : 45 ] أي : بينا لكم أحوالاً بديعة غريبة : هي في الغرابة كالأمثال؛ فقوله سبحانه هنا : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً } يصح اعتبار الأمرين فيه . قال القرطبي : هذه القرية هي : أنطاكية في قول جميع المفسرين .
وقوله : { إِذْ جَآءَهَا المرسلون } بدل اشتمال من أصحاب القرية ، والمرسلون : هم أصحاب عيسى ، بعثهم إلى أهل أنطاكية للدّعاء إلى الله ، فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين } ، لأن عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه ، ويجوز : أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء ، فكذبوهما في الرسالة ، وقيل : ضربوهما ، وسجنوهما . قيل : واسم الاثنين يوحنا ، وشمعون . وقيل : أسماء الثلاثة : صادق ، ومصدوق ، وشلوم قاله ابن جرير ، وغيره . وقيل : سمعان ، ويحيى ، وبولس { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } قرأ الجمهور بالتشديد ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف الزاي . قال الجوهري : «فعزّزنا» يخفف ، ويشدّد : أي : قوّينا ، وشدّدنا ، فالقراءتان على هذا بمعنى . وقيل : التخفيف بمعنى : غلبنا ، وقهرنا ، ومنه

{ وَعَزَّنِى فِى الخطاب } [ ص : 23 ] والتشديد بمعنى : قوّينا وكثرنا . قيل : وهذا الثالث هو شمعون ، وقيل : غيره { فَقَالُواْ إِنَّا إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } أي : قال الثلاثة جميعاً ، وجاؤوا بكلامهم هذا مؤكداً لسبق التكذيب للاثنين ، والتكذيب لهما تكذيب للثالث ، لأنهم أرسلوا جميعاً بشيء واحد ، وهو : الدعاء إلى الله عزّ وجلّ ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ كأنه قيل : ما قال هؤلاء الرّسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ وكذلك جملة { قَالُواْ مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر : كأنه قيل : فما قال لهم أهل أنطاكية ، فقيل : قالوا : ما أنتم إلاّ بشر مثلنا : أي : مشاركون لنا في البشرية ، فليس لكم مزية علينا تختصون بها . ثم صرّحوا بجحود إنزال الكتب السماوية ، فقالوا : { وَمَا أَنَزلَ الرحمن مِن شَىْء } مما تدّعونه أنتم ، ويدّعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل ، وأتباعهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ } أي : ما أنتم إلاّ تكذبون في دعوى ما تدّعون من ذلك ، فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد تأكيداً بليغاً لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية ، وهو قولهم : { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } ، فأكدوا الجواب بالقسم الذي يفهم من قولهم : ربنا يعلم ، وبإنّ ، وباللام .
{ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البلاغ المبين } أي : ما يجب علينا من جهة ربنا إلاّ تبليغ رسالته على وجه الظهور ، والوضوح ، وليس علينا غير ذلك ، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها ، وكذلك جملة { قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } ، فإنها مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر : أي : إنا تشاءمنا بكم ، لم تجدوا جواباً تجيبون به على الرسل إلاّ هذا الجواب المبنيّ على الجهل المنبىء عن الغباوة العظيمة ، وعدم وجود حجة تدفعون الرسل بها . قال مقاتل : حبس عنهم المطر ثلاث سنين . قيل : إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين ، ثم رجعوا إلى التجبر ، والتكبر لما ضاقت صدورهم ، وأعيتهم العلل ، فقالوا : { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } أي : لئن لم تتركوا هذه الدعوى ، وتعرضوا عن هذه المقالة؛ لنرجمنّكم بالحجارة { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : شديد فظيع . قال الفرّاء : عامة ما في القرآن من الرجم المراد به القتل . وقال قتادة : هو على بابه من الرجم بالحجارة . قيل : ومعنى العذاب الأليم : القتل ، وقيل : الشتم ، وقيل : هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص ، وهذا هو الظاهر .
ثم أجاب عليهم الرسل دفعاً لما زعموه من التطير بهم فقالوا : { طائركم مَّعَكُمْ } أي : شؤمكم معكم من جهة أنفسكم ، لازم في أعناقكم ، وليس هو من شؤمنا . قال الفراء : { طائركم معكم } : أي : رزقكم وعملكم ، وبه قال قتادة . قرأ الجمهور { طائركم } اسم فاعل : أي : ما طار لكم من الخير ، والشرّ ، وقرأ الحسن « أطيركم » أي : تطيركم { أَءن ذُكّرْتُم } . قرأ الجمهور من السبعة ، وغيرهم بهمزة استفهام بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق ، وإدخال ألف بين الهمزتين ، وعدمه .

وقرأ أبو جعفر ، وزرّ بن حبيش ، وابن السميفع ، وطلحة بهمزتين مفتوحتين . وقرأ الأعمش ، وعيسى بن عمر ، والحسن «أين» بفتح الهمزة ، وسكون الياء على صيغة الظرف .
واختلف سيبويه ، ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام ، وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط ، وعلى القولين ، فالجواب هنا محذوف : أي : أئن ذكرتم ، فطائركم معكم لدلالة ما تقدّم عليه . وقرأ الماجشون " أن ذكرتم " بهمزة مفتوحة : أي : لأن ذكرتم . ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام ، والشرط من كون التذكير سبباً للشؤم ، فقالوا : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي : ليس الأمر كذلك ، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف في المعصية . قال قتادة : مسرفون في تطيركم . وقال يحيى بن سلام : مسرفون في كفركم ، وقال ابن بحر : السرف هنا : الفساد ، والإسراف في الأصل : مجاوزة الحاء في مخالفة الحقّ .
{ وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ يسعى } هو : حبيب بن موسى النجار ، وكان نجاراً ، وقيل : إسكافاً . وقيل : قصاراً . وقال مجاهد ، ومقاتل : هو : حبيب بن إسرائيل النجار ، وكان ينحت الأصنام . وقال قتادة : كان يعبد الله في غار ، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى ، وجملة { قَالَ يَاقَوْم اتبعوا المرسلين } مستأنفة جواب سؤال مقدّر : كأنه قيل : فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل : قال : يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم ، فإنهم جاءوا بحق . ثم أكد ذلك ، وكرّره ، فقال : { اتبعوا مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً } أي : لا يسألونكم أجراً على ما جاؤوكم به من الهدى { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } يعني : الرسل . ثم أبرز الكلام في معرض النصيحة لنفسه ، وهو يريد مناصحة قومه ، فقال : { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى } أي : أيّ مانع من جانبي يمنعني من عبادة الذي خلقني؟ ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه ، بل أرادهم بكلامه ، فقال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ولم يقل : إليه أرجع ، وفيه مبالغة في التهديد .
ثم عاد إلى المساق الأوّل لقصد التأكيد ، ومزيد الإيضاح ، فقال : { أَءتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءالِهَةً } ، فجعل الإنكار متوجهاً إلى نفسه . وهم المرادون به : أي : أتخذ من دون الله آلهة ، وأعبدها ، وأترك عبادة من يستحق العبادة ، وهو الذي فطرني . ثم بيّن حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكاراً عليهم ، وبياناً لضلال عقولهم ، وقصور إدراكهم ، فقال : { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرّ لاَّ تُغْنِ عَنّى شفاعتهم شَيْئاً } أي : شيئاً من النفع كائناً ما كان { وَلاَ يُنقِذُونَ } من ذلك الضرّ الذي أرادني الرحمن به . وهذه الجملة صفة لآلهة ، أو مستأنفة لبيان حالها في عدم النفع ، والدفع ، وقوله : { لاَّ تُغْنِ } جواب الشرط ، وقرأ طلحة بن مصرّف " إن يردني " بفتح الياء ، قال : { إِنّى إِذاً لَّفِى ضلال مُّبِينٍ } أي : إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح ، وهذا تعريض بهم كما سبق ، والضلال الخسران .

ثم صرّح بإيمانه تصريحاً لا يبقى بعده شكّ ، فقال : { إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون } خاطب بهذا الكلام المرسلين . قال المفسرون : أرادوا القوم قتله ، فأقبل هو على المرسلين ، فقال : إني آمنت بربكم أيها الرسل ، فاسمعون : أي : اسمعوا إيماني ، واشهدوا لي به . وقيل : إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلباً في الدين ، وتشدّداً في الحقّ ، فلما قال هذا القول ، وصرّح بالإيمان ، وثبوا عليه ، فقتلوه ، وقيل : وطئوه بأرجلهم ، وقيل : حرقوه ، وقيل : حفروا له حفيرة ، وألقوه فيها ، وقيل : إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء ، فهو في الجنة ، وبه قال الحسن ، وقيل : نشروه بالمنشار .
{ قِيلَ ادخل الجنة } أي : قيل له ذلك تكريماً له بدخولها بعد قتله كما هي سنّة الله في شهداء عباده . وعلى قول من قال : إنه رفع إلى السماء ، ولم يقتل يكون المعنى : أنهم لما أرادوا قتله نجاه الله من القتل ، وقيل له : ادخل الجنة ، فلما دخلها ، وشاهدها { قَالَ ياليت قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبّى وَجَعَلَنِى مِنَ المكرمين } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، أي : فماذا قال بعد أن قيل له : ادخل الجنة ، فدخلها . فقيل : قال : { يا ليت قومي } إلخ ، « وما » في { بِمَا غَفَرَ لِى } هي : المصدرية : أي بغفران ربي ، وقيل : هي الموصولة : أي : بالذي غفر لي ربي ، والعائد محذوف : أي : غفره لي ربي ، واستضعف هذا؛ لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة ، وليس المراد : إلاّ التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له . وقال الفراء : إنها استفهامية بمعنى : التعجب ، كأنه قال : بأيّ شيء غفر لي ربي . قال الكسائي : لو صح هذا لقال « بم » من غير ألف . ويجاب عنه بأنه قد ورد في لغة العرب إثباتها ، وإن كان مكسوراً بالنسبة إلى حذفها ، ومنه قول الشاعر :
على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في دمان
وفي معنى تمنيه قولان : أحدهما : أنه تمنى أن يعلموا بحاله؛ ليعلموا حسن مآله ، وحميد عاقبته إرغاماً لهم . وقيل : إنه تمنى أن يعلموا بذلك؛ ليؤمنوا مثل إيمانه ، فيصيروا إلى مثل حاله .
وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله : { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً أصحاب القرية } قال : هي : أنطاكية . وأخرج ابن أبي حاتم عن بريدة مثله . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : كان بين موسى بن عمران ، وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة ، ولم يكن بينهما فترة ، وأنه أرسل بينهما ألف نبيّ من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم ، وكان بين ميلاد عيسى ، والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة ، بعث في أوّلها ثلاثة أنبياء ، وهو قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } ، والذي عزّز به شمعون ، وكان من الحواريين ، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة .

وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { طائركم مَّعَكُمْ } قال : شؤمكم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَجَاء مِنْ أَقْصَى المدينة رَجُلٌ } قال : هو : حبيب النجار . وأخرج ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر ، قال : اسم صاحب يس : حبيب ، وكان الجذام قد أسرع فيه . وأخرج الحاكم عن ابن مسعود قال : لما قال صاحب يس { ياقوم اتبعوا المرسلين } خنقوه؛ ليموت ، فالتفت إلى الأنبياء ، فقال : { إِنّى ءامَنتُ بِرَبّكُمْ فاسمعون } أي : فاشهدوا لي .

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

لما وقع ما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له ، وعجل لهم النقمة ، وأهلكهم بالصيحة ، ومعنى { وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ } أي : على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له ، أو من بعد رفع الله له إلى السماوات على الاختلاف السابق { مِن جُندٍ مّنَ السماء } لإهلاكهم ، وللانتقام منهم : أي : لم تحتج إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته ، وحرب أعدائه { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } أي : وما صحّ في قضائنا ، وحكمتنا أن ننزل لإهلاكهم جنداً لسبق قضائنا ، وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند . وقال قتادة ، ومجاهد ، والحسن : أي : ما أنزلنا عليهم من رسالة من السماء ، ولا نبيّ بعد قتله . وروي عن الحسن أنه قال : هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء ، والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم ، وتصغير أمرهم : أي : ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جنداً من السماء ، بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } أي : إن كانت العقوبة ، أو النقمة ، أو الأخذة إلاّ صيحة واحدة صاح بها جبريل ، فأهلكهم . قال المفسرون : أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة ، ثم صاح بهم صيحة ، فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حسّ كالنار إذا طفئت ، وهو معنى قوله : { فَإِذَا هُمْ خامدون } أي : قوم خامدون ميتون ، شبههم بالنار إذا طفئت؛ لأن الحياة كالنار الساطعة ، والموت كخمودها . قرأ الجمهور { صيحة } بالنصب على أن كان ناقصة ، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدّمنا . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، ومعاذ القارئ برفعها على أن كان تامة : أي : وقع ، وحدث ، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم ، وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله : { إِن كَانَتْ } قال أبو حاتم : فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال : " إن كان إلاّ صيحة " ، وقدّر الزجاج هذه القراءة بقوله : إن كانت عليهم صيحة إلاّ صيحة واحدة ، وقدّرها غيره : ما وقعت عليهم إلاّ صيحة واحدة . وقرأ عبد الله بن مسعود «إن كانت إلاّ زقية واحدة» ، والزقية : الصيحة ، قال النحاس : وهذا مخالف للمصحف ، وأيضاً . فإن اللغة المعروفة : زقا يزقو إذا صاح . ومنه المثل «أثقل من الزواقي» ، فكان يجب على هذا أن تكون زقوة ، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري قال : الزقو والزقي مصدر ، وقد زقا الصدا يزقو . زقا : أي صاح : وكل صائح زاق ، والزقية : الصيحة .
{ ياحسرة عَلَى العباد } قرأ الجمهور بنصب { حسرة } ، على أنها منادى منكر ، كأنه نادى الحسرة ، وقال لها : هذا أوانك فاحضري . وقيل : إنها منصوبة على المصدرية ، والمنادى محذوف ، والتقدير : يا هؤلاء تحسروا حسرة .

وقرأ قتادة ، وأبيّ في رواية عنه بضم حسرة على النداء . قال الفراء : في توجيه هذه القراءة : إن الاختيار النصب ، وإنها لو رفعت النكرة لكان صواباً ، واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع من العرب : يا مهتم بأمرنا لا تهتم ، وأنشد :
يا دار غيّرها البلى تغييرا ... قال النحاس : وفي هذا إبطال باب النداء ، أو أكثره . قال : وتقدير ما ذكره : يأيها المهتم لا تهتم بأمرنا ، وتقدير البيت : يا أيتها الدار . وحقيقة الحسرة : أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيراً . قال ابن جرير : المعنى : يا حسرة من العباد على أنفسهم ، وتندّما وتلهفا في استهزائهم برسل الله ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس ، وعليّ بن الحسين « يا حسرة العباد » على الإضافة ، ورويت هذه القراءة عن أبيّ . وقال الضحاك : إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل . وقيل : هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة . وقيل : إن القائل : يا حسرة على العباد هم : الكفار المكذبون ، والعباد الرسل ، وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم ، وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية ، ومجاهد ، وقيل : إن التحسر عليهم هو من الله عزّ وجلّ بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه . وقرأ ابن هرمز ، ومسلم بن جندب ، وعكرمة ، وأبو الزناد « يا حسره » بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف . وقرىء « يا حسرتا » كما قرىء بذلك في سورة الزمر ، وجملة { مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه من تكذيب الرسل ، والاستهزاء بهم ، وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم . ثم عجب سبحانه من حالهم حيث لم يعتبروا بأمثالهم من الأمم الخالية ، فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون } أي : ألم يعلموا كثرة من أهلكنا قبلهم من القرون التي أهلكناها من الأمم الخالية ، وجملة { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدل من كم أهلكنا على المعنى . قال سيبويه : أنّ بدل من كم ، وهي : الخبرية ، فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام ، والمعنى : ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون . وقال الفراء : « كم » في موضع نصب من وجهين : أحدهما : ب { يروا } ، واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود « ألم يروا من أهلكنا » ، والوجه الآخر : أن تكون « كم » في موضع نصب ب { أهلكنا } . قال النحاس : القول الأوّل محال ، لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها؛ لأنها استفهام ، ومحال أن يدخل الاستفهام في حيز ما قبله ، وكذا حكمها إذا كانت خبراً ، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا ، فجعل أنهم بدلاً من كم ، وقد ردّ ذلك المبرد أشدّ ردّ { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : محضرون لدينا يوم القيامة للجزاء .

قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة { لما } بتشديدها ، وقرأ الباقون بتخفيفها . قال الفراء : من شدّد جعل لما بمعنى : إلاّ ، وإن بمعنى : ما ، أي : ما كلّ إلاّ جميع لدينا محضرون ، ومعنى { جميع } مجموعون ، فهو فعيل بمعنى : مفعول ، ولدينا ظرف له ، وأما على قراءة التخفيف ، فإن هي المخففة من الثقيلة ، وما بعدها مرفوع بالابتداء ، وتنوين { كل } عوض عن المضاف إليه ، وما بعده الخبر ، واللام هي : الفارقة بين المخففة والنافية . قال أبو عبيدة : وما على هذه القراءة زائدة ، والتقدير عنده : وإن كلّ لجميع . وقيل : معنى { محضرون } : معذبون ، والأولى أنه على معناه الحقيقي من الإحضار للحساب .
ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد ، والحشر مع تعداد النعم ، وتذكيرها ، فقال : { وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } ، فآية خبر مقدّم ، وتنكيرها للتفخيم ، ولهم صفتها ، أو متعلقة بآية؛ لأنها بمعنى : علامة ، والأرض مبتدأ ، ويجوز : أن تكون { آية } مبتدأ لكونها قد تخصصت بالصفة ، وما بعدها الخبر . قرأ أهل المدينة «الميتة» بالتشديد ، وخففها الباقون ، وجملة { أحييناها } مستأنفة مبينة لكيفية كونها آية ، وقيل : هي صفة للأرض ، فنبههم الله بهذا على إحياء الموتى ، وذكرهم نعمه ، وكمال قدرته ، فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات : وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها ، ويتغذون بها ، وهو معنى قوله : { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } ، وهو ما يقتاتونه من الحبوب ، وتقديم { منه } للدلالة على أن الحبّ معظم ما يؤكل ، وأكثر ما يقوم به المعاش . { وَجَعَلْنَا فِيهَا جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب } أي : جعلنا في الأرض جنات من أنواع النخل ، والعنب ، وخصصهما بالذكر؛ لأنهما أعلى الثمار ، وأنفعها للعباد { وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون } أي : فجرنا في الأرض بعضاً من العيون ، فحذف الموصوف ، وأقيمت الصفة مقامه ، أو المفعول العيون ، ومن مزيدة على رأي من جوّز زيادتها في الإثبات ، وهو الأخفش ، ومن وافقه ، والمراد بالعيون عيون الماء . قرأ الجمهور { فجرنا } بالتشديد ، وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف ، والفجر والتفجير : كالفتح والتفتيح لفظاً ومعنى ، واللام في { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } متعلق بجعلنا ، والضمير في { من ثمره } يعود إلى المذكور من الجنات ، والنخيل ، وقيل : هو راجع إلى ماء العيون؛ لأن الثمر منه ، قاله الجرجاني . قرأ الجمهور { ثمره } بفتح الثاء ، والميم ، وقرأ حمزة ، والكسائي بضمهما ، وقرأ الأعمش بضم الثاء ، وإسكان الميم ، وقد تقدّم الكلام في هذا في الأنعام ، وقوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } معطوف على { ثمره } : أي : ليأكلوا من ثمره ، ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير ، والدبس ، ونحوهما ، وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن " ما " موصولة ، وقيل : هي نافية ، والمعنى : لم يعملوه ، بل العامل له هو الله ، أي : وجدوها معمولة ، ولا صنع لهم فيها ، وهو قول الضحاك ، ومقاتل . قرأ الجمهور { عملته } وقرأ الكوفيون «عملت» بحذف الضمير ، والاستفهام في قوله : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } للتقريع ، والتوبيخ لهم لعدم شكرهم للنعم .

وجملة { سبحان الذى خَلَق الأزواج كُلَّهَا } مستأنفة مسوقة لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم من ترك الشكر لنعمه المذكورة ، والتعجب من إخلالهم بذلك . وقد تقدّم الكلام مستوفى في معنى : سبحان ، وهو في تقدير الأمر للعباد بأن ينزهوه عما لا يليق به ، والأزواج : الأنواع ، والأصناف ، لأن كل صنف مختلف الألوان ، والطعوم ، والأشكال ، و { مِمَّا تُنبِتُ الأرض } بيان للأزواج ، والمراد كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة ، وغيرها { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } أي : خلق الأزواج من أنفسهم ، وهم : الذكور ، والإناث { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } من أصناف خلقه في البرّ ، والبحر ، والسماء ، والأرض { وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } الكلام في هذا كما قدّمنا في قوله : { وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أحييناها } ، والمعنى : أن ذلك علامة دالة على توحيد الله ، وقدرته ، ووجوب إلهيته ، والسلخ : الكشط ، والنزع ، يقال : سلخه الله من بدنه ، ثم يستعمل بمعنى : الإخراج ، فجعل سبحانه ذهاب الضوء ومجيء الظلمة كالسلخ من الشيء ، وهو استعارة بليغة { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } أي : داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة ، يقال : أظلمنا : أي : دخلنا في ظلام الليل ، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر ، وكذلك أصبحنا ، وأمسينا ، وقيل : «منه» بمعنى : عنه ، والمعنى : نسلخ عنه ضياء النهار . قال الفراء : يرمى بالنهار على الليل ، فيأتي بالظلمة ، وذلك أن الأصل هي : الظلمة ، والنهار داخل عليه ، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل ، أي : كشط ، وأزيل ، فتظهر الظلمة .
{ والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } يحتمل : أن تكون الواو للعطف على الليل ، والتقدير : وآية لهم الشمس ، ويجوز : أن تكون الواو ابتدائية ، والشمس مبتدأ ، وما بعدها الخبر ، ويكون الكلام مستأنفاً مشتملاً على ذكر آية مستقلة . قيل : وفي الكلام حذف ، والتقدير : تجري لمجرى مستقرّ لها ، فتكون اللام للعلة : أي : لأجل مستقرّ لها ، وقيل : اللام بمعنى : إلى وقد قرىء بذلك . قيل : والمراد بالمستقرّ : يوم القيامة ، فعنده تستقرّ ، ولا يبقى لها حركة ، وقيل : مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ، ولا تجاوزه ، وقيل : نهاية ارتفاعها في الصيف ، ونهاية هبوطها في الشتاء ، وقيل : مستقرها تحت العرش؛ لأنها تذهب إلى هنالك ، فتسجد ، فتستأذن في الرجوع ، فيؤذن لها ، وهذا هو الرّاجح . وقال الحسن : إن للشمس في السنة ثلثمائة مطلعاً تنزل في كل يوم مطلعاً ، ثم لا تنزل إلى الحول ، فهي تجري في تلك المنازل ، وهو : مستقرّها ، وقيل : غير ذلك . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، وزين العابدين ، وابنه الباقر ، والصادق بن الباقر " لا مستقرّ لها " بلا التي لنفي الجنس ، وبناء مستقرّ على الفتح . وقرأ ابن أبي عبلة : " لا مستقرّ " بلا التي بمعنى : ليس ، ومستقرّ اسمها ، ولها خبرها ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى جري الشمس : أي : ذلك الجري { تَقْدِيرُ العزيز } أي : الغالب القاهر { العليم } : أي : المحيط علمه بكل شيء ، ويحتمل : أن تكون الإشارة راجعة إلى المستقرّ : أي : ذلك المستقرّ : تقدير الله .

{ والقمر قدرناه مَنَازِلَ } . قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو برفع القمر على الابتداء . وقرأ الباقون بالنصب على الاشتغال ، وانتصاب { منازل } على أنه مفعول ثانٍ ، لأن « قدرنا » بمعنى : صيرنا ، ويجوز : أن يكون منتصباً على الحال : أي : قدّرنا سيره حال كونه ذا منازل ، ويجوز : أن يكون منتصباً على الظرفية : أي : في منازل . واختار أبو عبيد النصب في القمر؛ لأن قبله فعلاً ، وهو { نسلخ } ، وبعده فعلاً ، وهو « قدّرنا » . قال النحاس : أهل العربية جميعاً فيما علمت على خلاف ما قال . منهم الفراء قال : الرفع أعجب إليّ ، قال : وإنما كان الرفع عندهم أولى؛ لأنه معطوف على ما قبله ، ومعناه : وآية لهم القمر . قال أبو حاتم : الرفع أولى ، لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير ، فرفعته بالابتداء ، والمنازل : هي : الثمانية والعشرون التي ينزل القمر في كل ليلة في واحد منها ، وهي معروفة ، وسيأتي ذكرها ، فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أوّلها ، فيقطع الفلك في ثمان وعشرين ليلة ، ثم يستتر ليلتين ، ثم يطلع هلالاً ، فيعود في قطع تلك المنازل من الفلك { حتى عَادَ كالعرجون القديم } قال الزجاج : العرجون هو عود العذق الذي فيه الشماريخ ، وهو فعلون من الانعراج ، وهو الانعطاف : أي : سار في منازله ، فإذا كان في آخرها دقّ ، واستقوس ، وصغر حتى صار كالعرجون القديم ، وعلى هذا فالنون زائدة . قال قتادة : وهو : العذق اليابس المنحني من النخلة . قال ثعلب : العرجون الذي يبقى في النخلة إذا قطعت ، والقديم : البالي . وقال الخليل : العرجون أصل العذق ، وهو أصفر عريض ، يشبه به الهلال إذا انحنى ، وكذا قال الجوهري : إنه أصل العذق الذي يعوج ، ويقطع منه الشماريخ ، فيبقى على النخل يابساً ، وعَرَجْتُه : ضربته بالعرجون ، وعلى هذا فالنون أصلية . قرأ الجمهور { العرجون } بضم العين ، والجيم : وقرأ سليمان التيمي بكسر العين ، وفتح الجيم ، وهما لغتان ، والقديم : العتيق .
{ لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر } الشمس مرفوعة بالابتداء ، لأنه لا يجوز أن تعمل لا في المعرفة : أي : لا يصح ، ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر في سرعة السير ، وتنزل في المنزل الذي فيه القمر؛ لأن لكل واحد منهما سلطاناً على انفراده ، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر ، فيذهب سلطانه إلى أن يأذن الله بالقيامة ، فتطلع الشمس من مغربها . وقال الضحاك : معناه : إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء ، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء . وقال مجاهد : أي : لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر . وقال الحسن : إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة ، وكذا قال يحيى بن سلام .

وقيل : معناه : إذا اجتمعا في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منزل لا يشتركان فيه . وقيل : القمر في سماء الدنيا ، والشمس في السماء الرابعة . ذكره النحاس ، والمهدوي . قال النحاس : وأحسن ما قيل في معناه ، وأبينه : أن سير القمر سير سريع ، والشمس لا تدركه في السير . وأما قوله : { وَجُمِعَ الشمس والقمر } [ القيامة : 9 ] ، فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على ما تقدّم بيانه في الأنعام ، ويأتي في سورة القيامة أيضاً ، وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا ، وقيام الساعة { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } أي يسبقه ، فيفوته ، ولكن يعاقبه ، ويجيء كل واحد منهما في وقته ، ولا يسبق صاحبه ، وقيل : المراد من الليل ، والنهار : آيتاهما ، وهما الشمس والقمر ، فيكون عكس قوله : { لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر } أي : ولا القمر سابق الشمس ، وإيراد السبق مكان الإدراك لسرعة سير القمر { وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } التنوين في كلّ عوض عن المضاف إليه : أي : وكل واحد منهما ، والفلك : هو الجسم المستدير ، أو السطح المستدير ، أو الدائرة ، والخلاف في كون السماء مبسوطة ، أو مستديرة معروف ، والسبح : السير بانبساط ، وسهولة ، والجمع في قوله { يَسْبَحُونَ } باعتبار اختلاف مطالعهما ، فكأنهما متعدّدان بتعدّدها ، أو المراد : الشمس ، والقمر ، والكواكب .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { وَمَا أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ } الآية يقول : ما كابدناهم بالجموع : أي ، الأمر أيسر علينا من ذلك . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ياحسرة عَلَى العباد } يقول : يا ويلاً للعباد . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { يا حسرة على العباد } قال : الندامة على العباد الذين { مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يقول : الندامة عليهم يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } قال : وجدوه معمولاً لم تعمله أيديهم : يعني : الفرات ، ودجلة ، ونهر بلخ ، وأشباهها { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } لهذا . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي ذرّ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } قال : « مستقرّها تحت العرش » وفي لفظ للبخاري ، وغيره من حديثه قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس ، فقال : « يا أبا ذرّ أتدري أين تغرب الشمس؟ » قلت : الله ، ورسوله أعلم ، قال : « إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فذلك قوله : { والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا } » وفي لفظ من حديثه أيضاً عند أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم قال : « يا أبا ذرّ ، أتدري أين تذهب هذه؟ قلت : الله ، ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها ، فتستأذن في الرجوع ، فيأذن لها ، وكأنها قد قيل لها : اطلعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها » .

ثم قرأ « ذلك مستقرّ لها » وذلك قراءة عبد الله . وأخرج الترمذي ، والنسائي ، وغيرهما من قول ابن عمر نحوه .
وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في قوله : { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } الآية قال : هي : ثمانية وعشرون منزلاً ينزلها القمر في كلّ شهر : أربعة عشر منها شامية ، وأربعة عشر منها يمانية ، أولها الشرطين ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة ، والدبرة ، والصرفة ، والعوّاء ، والسماك . وهو آخر الشامية ، والغفر ، والزبانا ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، ومقدّم الدلو ، ومؤخر الدلو ، والحوت ، وهو آخر اليمانية ، فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلاً { عَادَ كالعرجون القديم } كما كان في أوّل الشهر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { كالعرجون القديم } : يعني : أصل العذق العتيق .

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعاً آخر مما امتنّ به على عباده من النعم ، فقال : { وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون } أي دلالة وعلامة ، وقيل : معنى { آية } هنا : العبرة ، وقيل : النعمة ، وقيل : النذارة .
وقد اختلف في معنى { أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } وإلى من يرجع الضمير ، لأن الضمير الأوّل ، وهو قوله : { وَءايَةٌ لَّهُمُ } لأهل مكة ، أو لكفار العرب ، أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه وسلم ، فقيل : الضمير يرجع إلى القرون الماضية ، والمعنى : أن الله حمل ذرّيّة القرون الماضية في الفلك المشحون ، فالضميران مختلفان . وهذا حكاه النحاس عن عليّ بن سليمان الأخفش . وقيل : الضميران لكفار مكة ، ونحوهم . والمعنى : أن الله حمل ذرّيّاتهم من أولادهم ، وضعفائهم على الفلك ، فامتنّ الله عليهم بذلك : أي : إنهم يحملونهم معهم في السفن إذا سافروا ، أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها . وقيل : الذرّيّة : الآباء والأجداد ، والفلك هو : سفينة نوح ، أي : إن الله حمل آباء هؤلاء ، وأجدادهم في سفينة نوح . قال الواحدي : والذرّيّة تقع على الآباء كما تقع على الأولاد . قال أبو عثمان : وسمي الآباء ذرية ، لأن منهم ذرء الأبناء ، وقيل : الذرّية النطف الكائنة في بطون النساء ، وشبه البطون بالفلك المشحون ، والراجح : القول الثاني ، ثم الأوّل ، ثم الثالث ، وأما الرابع ففي غاية البعد ، والنكارة . وقد تقدّم الكلام في الذرية ، واشتقاقها في سورة البقرة مستوفي ، والمشحون : المملوء الموقر ، والفلك يطلق على الواحد والجمع كما تقدّم في يونس ، وارتفاع آية على أنها خبر مقدّم ، والمبتدأ { أنا حملنا } ، أو العكس على ما قدّمنا . وقيل : إن الضمير في قوله : { وَءايَةٌ لَّهُمُ } يرجع إلى العباد المذكورين في قوله : { ياحسرة عَلَى العباد } [ يس : 30 ] ؛ لأنه قال بعد ذلك : { وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة } [ يس : 33 ] ، وقال : { وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل } [ يس : 37 ] . ثم قال : { وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } ، فكأنه قال : وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين : البعض منهم ، وبالضمير : الآخر البعض الآخر ، وهذا قول حسن .
{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } أي : وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن ما هي : الموصولة . قال مجاهد ، وقتادة ، وجماعة من أهل التفسير : وهي : الإبل خلقها لهم للركوب في البرّ مثل السفن المركوبة في البحر ، والعرب تسمي الإبل سفائن البرّ ، وقيل : المعنى : وخلقنا لهم سفناً أمثال تلك السفن يركبونها ، قاله الحسن ، والضحاك ، وأبو مالك . قال النحاس : وهذا أصحّ؛ لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس ، وقيل : هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } هذا من تمام الآية التي امتنّ الله بها عليهم ، ووجه الامتنان أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك ، والضمير يرجع إما إلى أصحاب الذرية ، أو إلى الذرية ، أو إلى الجميع على اختلاف الأقوال ، والصريخ بمعنى : المصرخ ، والمصرخ هو : المغيث : أي : فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا إغراقهم ، وقيل : هو المنعة .

ومعنى { ينقذون } : يخلصون ، يقال : أنقذه ، واستنقذه ، إذا خلصه من مكروه { إِلاَّ رَحْمَةً مّنَّا } استثناء مفرّغ من أعمّ العلل : أي : لا صريخ لهم ، ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلاّ لرحمة منا ، كذا قال الكسائي ، والزجاج ، وغيرهما ، وقيل : هو استثناء منقطع : أي : لكن لرحمة منا . وقيل هو منصوب على المصدرية بفعل مقدّر { و } انتصاب { متاعا } على العطف على رحمة : أي : نمتعهم بالحياة الدنيا { إلى حِينٍ } وهو : الموت ، قاله قتادة . وقال يحيى بن سلام : إلى القيامة .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } أي : ما بين أيديكم من الآفات ، والنوازل ، فإنها محيطة بكم ، وما خلفكم منها . قال قتادة : معنى { اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } أي : من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم { وَمَا خَلْفَكُمْ } في الآخرة . وقال سعيد بن جبير ، ومجاهد : { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } ما مضى من الذنوب { وَمَا خَلْفَكُمْ } ما بقي منها . وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } : الدنيا { وَمَا خَلْفَكُمْ } : الآخرة ، قاله سفيان . وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس . وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ } ما ظهر لكم { وَمَا خَلْفَكُمْ } ما خفي عنكم ، وجواب إذا محذوف ، والتقدير : إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدلّ عليه { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : رجاء أن ترحموا ، أو كي ترحموا ، أو راجين أن ترحموا { وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ مّنْ ءايات رَبّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } « ما » هي النافية ، وصيغة المضارع للدلالة على التجدّد ، ومن الأولى مزيدة للتوكيد ، والثانية للتبعيض : والمعنى : ما تأتيهم من آية دالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلاّ كانوا عنها معرضين . وظاهره يشمل الآيات التنزيلية ، والآيات التكوينية ، وجملة { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } في محلّ نصب على الحال كما مرّ تقريره في غير موضع . والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها ، وترك النظر الصحيح فيها ، وهذه الآية متعلقة بقوله : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : إذا جاءتهم الرسل كذّبوا . وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها .
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله } أي : تصدّقوا على الفقراء مما أعطاكم الله ، وأنعم به عليكم من الأموال ، قال الحسن : يعني : اليهود أمروا بإطعام الفقراء . وقال مقاتل : إن المؤمنين قالوا لكفار قريش : أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه :

{ وَجَعَلُواْ للهِ الله مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } [ الأنعام : 136 ] ، فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } استهزاءً بهم ، وتهكماً بقولهم : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ } أي : من لو يشاء الله رزقه ، وقد كانوا سمعوا المسلمين يقولون : إن الرّزّاق هو : الله ، وأنه يغني من يشاء ، ويفقر من يشاء ، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام للمسلمين ، وقالوا : نحن نوافق مشيئة الله ، فلا نطعم من لم يطعمه الله ، وهذا غلط منهم ، ومكابرة ، ومجادلة بالباطل ، فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه ، وأفقر بعضاً ، وأمر الغنيّ أن يطعم الفقير ، وابتلاه به فيما فرض له من ماله من الصدقة . وقولهم : { مَن لَّوْ يَشَاء الله أَطْعَمَهُ } هو وإن كان كلاماً صحيحاً في نفسه ، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار لقدرة الله ، أو إنكار جواز الأمر بالانفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلاً . وقوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال مُّبِينٍ } من تمام كلام الكفار . والمعنى : إنكم أيها المسلمون في سؤال المال ، وأمرنا بإطعام الفقراء لفي ضلال في غاية الوضوح والظهور . وقيل : هو من كلام الله سبحانه جواباً على هذه المقالة التي قالها الكفار . وقال القشيري ، والماوردي : إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة . وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب ، قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع ، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين ، ومناقضة لهم . وحكى نحو هذا القرطبي عن ابن عباس .
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } الذي تعدونا به من العذاب ، والقيامة ، والمصير إلى الجنة أو النار . { إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تقولون ، وتعدونا به . قالوا ذلك استهزاء منهم ، وسخرية بالمؤمنين . ومقصودهم إنكار ذلك بالمرّة ، ونفي تحققه ، وجحد وقوعه ، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله : { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } أي : ما ينتظرون إلاّ صيحة واحدة ، وهي : نفخة إسرافيل في الصور { تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصّمُونَ } أي : يختصمون في ذات بينهم في البيع ، والشراء ، ونحوهما من أمور الدنيا ، وهذه هي النفخة الأولى ، وهي : نفخة الصعق . وقد اختلف القراء في { يخصّمون } ، فقرأ حمزة بسكون الخاء ، وتخفيف الصاد من خصم يخصم ، والمعنى : يخصم بعضهم بعضاً ، فالمفعول محذوف . وقرأ أبو عمرو ، وقالون بإخفاء فتحة الخاء ، وتشديد الصاد . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وهشام كذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء ، وقرأ الباقون بكسر الخاء ، وتشديد الصاد . والأصل في القراءات الثلاث يختصمون ، فأدغمت التاء في الصاد ، فنافع ، وابن كثير ، وهشام نقلوا فتحة التاء إلى الساكن قبلها نقلاً كاملاً ، وأبو عمرو ، وقالون اختلسا حركتها تنبيهاً على أن الخاء أصلها السكون ، والباقون حذفوا حركتها ، فالتقى ساكنان ، فكسروا أوّلهما . وروي عن أبي عمرو ، وقالون : أنهما قرءا بتسكين الخاء ، وتشديد الصاد ، وهي قراءة مشكلة لاجتماع ساكنين فيها .

وقرأ أبيّ " يختصمون " على ما هو الأصل .
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي : لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض بما له ، وما عليه ، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة ، والإقلاع عن المعاصي ، بل يموتون في أسواقهم ، ومواضعهم { وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } أي : إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها . وقيل : المعنى : لا يرجعون إلى أهلهم قولاً ، وهذا إخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى . ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية ، فقال : { وَنُفِخَ فِى الصور } وهي : النفخة التي يبعثون بها من قبورهم ، ولهذا قال : { فَإِذَا هُم مّنَ الأجداث } أي : القبور { إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } أي : يسرعون ، وبين النفختين أربعون سنة . وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال : { ونفخ } تنبيهاً على تحقق وقوعه كما ذكره أهل البيان ، وجعلوا هذه الآية مثالاً له ، والصور بإسكان الواو : هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، كما وردت بذلك السنة ، وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب ، ومنه قول الشاعر :
نحن نطحناهم غداة الغورين ... نطحاً شديداً لا كنطح الصورين
أي : القرنين . وقد مضى هذا مستوفى في سورة الأنعام . وقال قتادة : الصور جمع صورة ، أي : نفخ في الصور الأرواح ، والأجداث جمع جدث ، وهو : القبر . وقرىء «الأجداف» بالفاء ، وهي لغة ، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة ، والنسل ، والنسلان : الإسراع في السير ، يقال : نسل ينسل كضرب يضرب ، ويقال : ينسل بالضم ، ومنه قول امرىء القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل ... وقول الآخر :
عسلان الذيب أمسى قارنا ... برد الليل عليه فنسل
{ قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } أي : قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة : يا ويلنا : نادوا ويلهم ، كأنهم قالوا له احضر ، فهذا أوان حضورك ، وهؤلاء القائلون هم : الكفار . قال ابن الأنباري : الوقف على { يا ويلنا } وقف حسن . ثم يبتدىء الكلام بقوله : { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول ، وما داخلهم من الفزع أنهم كانوا نياماً . قرأ الجمهور { يا ويلنا } ، وقرأ ابن أبي ليلى " يا ويلتنا " بزيادة التاء . وقرأ الجمهور { من بعثنا } بفتح ميم " من " على الاستفهام . وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جرّ ، ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب . وعلى هذه القراءة تكون " من " متعلقة بالويل ، وقرأ الجمهور { من بعثنا } . وفي قراءة أبيّ " من أهبنا " من هبّ نومه : إذا انتبه ، وأنشد ثعلب على هذه القراءة :
وعاذلة هبت بليل تلومني ... ولم يعتمدني قبل ذاك عذول
وقيل : إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم . وقال أبو صالح : إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور ، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية ، وجملة { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } جواب عليهم من جهة الملائكة ، أومن جهة المؤمنين .

وقيل : هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض . قال بالأوّل الفراء ، وبالثاني مجاهد . وقال قتادة : هي من قول الله سبحانه ، و «ما» في قوله : { مَا وَعَدَ الرحمن } موصولة ، وعائدها محذوف والمعنى : هذا الذي وعده الرحمن ، وصدق فيه المرسلون قد حق عليكم ، ونزل بكم ، ومفعولا الوعد والصدق محذوفان أي : وعدكموه الرحمن ، وصدقكموه المرسلون ، والأصل وعدكم به ، وصدقكم فيه ، أو وعدناه الرحمن ، وصدقناه المرسلون على أن هذا من قول المؤمنين ، أو من قول الكفار { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحدة } أي : ما كانت تلك النفخة المذكورة إلاّ صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخه في الصور { فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي : فإذا هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب ، والعقاب { فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ } من النفوس { شَيْئاً } مما تستحقه أي : لا ينقص من ثواب عملها شيئاً من النقص ، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : إلاّ جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا ، أو إلاّ بما كنتم تعملونه أي : بسببه ، أو في مقابلته .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية قال : في سفينة نوح حمل فيها من كلّ زوجين اثنين { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قال : السفن التي في البحر والأنهار التي يركب الناس فيها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن أبي صالح نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قال : هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : يعني : الإبل خلقها الله كما رأيت ، فهي : سفن البرّ يحملون عليها ، ويركبونها . ومثله عن الحسن ، وعكرمة ، وعبد الله بن شدّاد ، ومجاهد .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } الآية قال : تقوم الساعة ، والناس في أسواقهم يتبايعون ، ويذرعون الثياب ، ويحلبون اللقاح ، وفي حوائجهم ، { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } ، وأخرج عبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن المنذر عن الزبير بن العوّام قال : إن الساعة تقوم ، والرجل يذرع الثوب ، والرجل يحلب الناقة ، ثم قرأ { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } الآية . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لتقومنّ الساعة ، وقد نشر الرجلان ثوبهما ، فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومنّ الساعة ، وهو يليط حوضه ، فلا يسقي فيه ، ولتقومنّ الساعة ، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته ، فلا يطعمه ، ولتقومنّ الساعة ، وقد رفع أكلته إلى فيه ، فلا يطعمها " وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب في قوله : { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } قال : ينامون قبل البعث نومة .

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)

لما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين . وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذٍ زيادة لحسرتهم ، وتكميلاً لجزعهم ، وتتميماً لما نزل بهم من البلاء ، وما شاهدوه من الشقاء ، فإذا رأوا ما أعدّه الله لهم من أنواع العذاب ، وما أعدّه لأوليائه من أنواع النعيم ، بلغ ذلك من قلوبهم مبلغاً عظيماً ، وزاد في ضيق صدورهم زيادة لا يقادر قدرها . والمعنى : { إِنَّ أصحاب الجنة } في ذلك { اليوم فِى شُغُلٍ } بما هم فيه من اللذات ، التي هي ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، عن الاهتمام بأمر الكفار ، ومصيرهم إلى النار ، وإن كانوا من قراباتهم . والأولى عدم تخصيص الشغل بشيء معين . وقال قتادة ، ومجاهد : شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى . وقال وكيع : شغلهم بالسماع . وقال ابن كيسان : بزيارة بعضهم بعضاً ، وقيل : شغلهم كونهم ذلك اليوم في ضيافة الله . قرأ الكوفيون وابن عامر : { شغل } بضمتين . وقرأ الباقون بضم الشين ، وسكون الغين : وهما لغتان كما قال الفراء . وقرأ مجاهد ، وأبو السماك بفتحتين . وقرأ النحوي ، وابن هبيرة بفتح الشين ، وسكون الغين . وقرأ الجمهور { فاكهون } بالرفع على أنه خبر إنّ ، و { في شغل } متعلق به ، أو في محل نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر إنّ ، و { فاكهون } خبر ثانٍ . وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف « فاكهين » بالنصب على أنه حال ، و { في شغل } هو : الخبر . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وأبو حيوة ، وأبو رجاء ، وشيبة ، وقتادة ، ومجاهد « فكهون » قال الفراء : هما لغتان كالفاره ، والفره ، والحاذر ، والحذر . وقال الكسائي ، وأبو عبيدة الفاكه : ذو الفاكهة مثل تامر ولابن ، والفكه : المتفكه ، والمتنعم . وقال قتادة : الفكهون : المعجبون . وقال أبو زيد : يقال رجل فكه : إذا كان طيب النفس ضحوكاً . وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة . وقال السدّي كما قال الكسائي .
{ هُمْ وأزواجهم فِى ظلال عَلَى الأرائك مُتَّكِئُونَ } هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم ، وتفكههم ، وتكميلها بما يزيدهم سروراً ، وبهجة من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك ، فالضمير ، وهو : { هم } مبتدأ ، { وأزواجهم } معطوف عليه ، والخبر { متكئون } ، ويجوز أن يكون هم تأكيداً للضمير في { فاكهون } ، وأزواجهم معطوف على ذلك الضمير ، وارتفاع متكئون على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، و { في ظلال } متعلق به أو حال ، وكذا على الأرائك ، وجوّز ، أبو البقاء : أن يكون { فِى ظلال } هو : الخبر ، و { على الأرائك } مستأنف . قرأ الجمهور : { في ظلال } بكسر الظاء ، وبالألف ، وهو : جمع ظلّ . وقرأ ابن مسعود ، وعبيد بن عمير ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف « في ظلل » بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة ، وعلى القراءتين ، فالمراد : الفرش ، والستور التي تظللهم كالخيام ، والحجال ، والأرائك جمع أريكة ، كسفائن جمع سفينة ، والمراد بها : السرر التي في الحجال .

قال أحمد بن يحيى ثعلب : الأريكة لا يكون إلا سريراً في قبة . وقال مقاتل : إن المراد بالظلال أكنان القصور .
وجملة { لَهُمْ فِيهَا فاكهة } مبينة لما يتمتعون به في الجنة من المآكل ، والمشارب ، ونحوها . والمراد فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } « ما » هذه هي : الموصولة ، والعائد محذوف ، أو موصوفة ، أو مصدرية ، و { يدّعون } مضارع ادّعى . قال أبو عبيدة : يدّعون : يتمنون ، والعرب تقول : ادّع عليّ ما شئت : أي تمنّ ، وفلان في خير ما يدّعي أي : ما يتمنى . وقال الزجاج : هو من الدعاء ، أي : ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم ، من دعوت غلامي ، فيكون الافتعال بمعنى : الفعل كالاحتمال بمعنى : الحمل ، والارتحال بمعنى : الرحل . وقيل : افتعل بمعنى : تفاعل ، أي : ما يتداعونه كقولهم : ارتموا ، وتراموا . وقيل : المعنى : إن من ادّعى منهم شيئاً ، فهو له ، لأن الله قد طبعهم على أن لا يدّعي أحد منهم شيئاً إلاّ وهو يحسن ويجمل به أن يدّعيه ، « وما » مبتدأ ، وخبرها { لهم } ، والجملة معطوفة على ما قبلها . وقرىء « يدعون » بالتخفيف ، ومعناها واضح . قال ابن الأنباري : والوقف على يدّعون وقف حسن ، ثم يبتدىء { سلام } على معنى : لهم سلام ، وقيل : إن سلام هو خبر « ما » أي : مسلم خالص ، أو ذو سلامة . وقال الزجاج : سلام مرفوع على البدل من « ما » أي : ولهم أن يسلم الله عليهم ، وهذا مني أهل الجنة ، والأولى أن يحمل قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } على العموم ، وهذا السلام يدخل تحته دخولاً أوّلياً ، ولا وجه لقصره على نوع خاص ، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقاً لمعنى العموم ، ورعاية لما يقتضيه النظم القرآني . وقيل : إن سلام مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : سلام يقال لهم { قَوْلاً } ، وقيل : إن سلام مبتدأ ، وخبره الناصب ل { قولا } : أي سلام يقال لهم قولاً ، وقيل : خبره من ربّ العالمين ، وقيل : التقدير : سلام عليكم هذا على قراءة الجمهور ، وقرأ أبيّ ، وابن مسعود ، وعيسى « سلاماً » بالنصب إما على المصدرية ، أو على الحالية بمعنى : خالصاً ، والسلام : إما من التحية ، أو من السلامة . وقرأ محمد بن كعب القرظي « سلم » كأنه قال : سلم لهم لا يتنازعون فيه ، وانتصاب { قولاً } على المصدرية بفعل محذوف على معنى : قال الله لهم ذلك قولاً ، أو يقوله لهم قولاً ، أو يقال لهم قولاً : { مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } أي : من جهته . قيل : يرسل الله سحابة إليهم بالسلام . وقال مقاتل : إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل باب يقولون : سلام عليكم يا أهل الجنة من ربّ رحيم .

{ وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } هو على إضمار القول مقابل ما قيل للمؤمنين أي : ويقال للمجرمين : امتازوا أي : انعزلوا ، من مازه غيره ، يقال : مزت الشيء من الشيء : إذا عزلته عنه ، ونحيته . قال مقاتل : معناه اعتزلوا اليوم - يعني : في الآخرة - من الصالحين . وقال السدّي : كونوا على حدة . وقال الزجاج : انفردوا عن المؤمنين . وقال قتادة : عزلوا عن كل خير . وقال الضحاك : يمتاز المجرمون بعضهم من بعض ، فيمتاز اليهود فرقة ، والنصارى فرقة ، والمجوس فرقة ، والصابئون فرقة ، وعبدة الأوثان فرقة . وقال داود بن الجراح : يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء ، فإنهم يكونون مع المجرمين .
ثم وبخهم الله سبحانه ، وقرعهم بقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } ، وهذا من جملة ما يقال لهم . والعهد : الوصية ، أي : ألم أوصكم ، وأبلغكم على ألسن رسلي : أن لا تعبدوا الشيطان أي : لا تطيعوه . قال الزجاج : المعنى : ألم أتقدّم إليكم على لسان الرسل يا بني آدم . وقال مقاتل : يعني : الذين أمروا بالاعتزال . قال الكسائي : لا للنهي ، وقيل : المراد بالعهد هنا : الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم . وقيل : هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي في سماواته ، وأرضه ، وجملة { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان ، وقبول وسوسته ، وجملة { وَأَنِ اعبدونى } عطف على { أن لا تعبدوا } ، وأن : في الموضعين هي المفسرة للعهد الذي فيه معنى القول ، ويجوز أن تكون مصدرية فيهما أي : لم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا بأن اعبدوني ، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان ، وفي عبادتي { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } أي : عبادة الله ، وتوحيده ، أو الإشارة إلى دين الإسلام .
ثم ذكر سبحانه عداوة الشيطان لبني آدم ، فقال : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } اللام هي : الموطئة للقسم ، والجملة مستأنفة للتقريع والتوبيخ ، أي : والله لقد أضلّ إلخ . قرأ نافع ، وعاصم { جبلاً } بكسر الجيم ، والباء ، وتشديد اللام ، وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر بضم الجيم ، وسكون الباء ، وقرأ الباقون بضمتين مع تخفيف اللام ، وقرأ ابن أبي إسحاق ، والزهري ، وابن هرمز بضمتين مع تشديد اللام ، وكذلك قرأ الحسن ، وعيسى بن عمر ، والنضر بن أنس ، وقرأ أبو يحيى ، وحماد بن سلمة ، والأشهب العقيلي بكسر الجيم ، وإسكان الباء ، وتخفيف اللام قال النحاس : وأبينها القراءة الأولى . والدليل على ذلك أنهم قد قرءوا جميعاً { والجبلة الأوّلين } [ الشعراء : 184 ] بكسر الجيم ، والباء ، وتشديد اللام . فيكون جبلاً جمع جبلة ، واشتقاق الكل من جبل الله الخلق أي : خلقهم ، ومعنى الآية : أن الشيطان قد أغوى خلقاً كثيراً كما قال مجاهد . وقال قتادة : جموعاً كثيرة ، وقال الكلبي : أمماً كثيرة . قال الثعلبي : والقراءات كلها بمعنى : الخلق ، وقرىء « جيلاً » بالجيم ، والياء التحتية .

قال الضحاك : الجيل الواحد عشرة آلاف ، والكثير ما يحصيه إلا الله عزّ وجلّ ، ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب ، والهمزة في قوله : { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } للتقريع ، والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر يقتضيه المقام كما تقدّم في نظائره أي : أتشاهدون آثار العقوبات؟ أفلم تكونوا تعقلون؟ أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان لكم؟ أو أفلم تكونوا تعقلون شيئاً أصلاً؟ قرأ الجمهور : { أفلم تكونوا تعقلون } بالخطاب ، وقرأ طلحة ، وعيسى بالغيبة .
{ هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي : ويقال لهم عند أن يدنوا من النار : هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا على ألسنة الرسل ، والقائل لهم الملائكة ، ثم يقولون لهم : { اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : قاسوا حرّها اليوم ، وادخلوها ، وذوقوا أنواع العذاب فيها بما كنتم تكفرون أي : بسبب كفركم بالله في الدنيا ، وطاعتكم للشيطان ، وعبادتكم للأوثان ، وهذا الأمر أمر تنكيل ، وإهانة كقوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم } اليوم ظرف لما بعده ، وقرىء « يختم » على البناء للمفعول ، والنائب الجار والمجرور بعده . قال المفسرون : إنهم ينكرون الشرك ، وتكذيب الرسل كما في قولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، فيختم الله على أفواههم ختماً لا يقدرون معه على الكلام ، وفي هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم ، ثم قال : { وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي : تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه ، وشهدت أرجلهم عليهم بما كانوا يعملون . قرأ الجمهور { تكلمنا } و { تشهد } ، وقرأ طلحة بن مصرف « ولتكلمنا » و « لتشهد » بلام كي . وقيل : سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف . وقيل : ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم؛ لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز . وقيل : ليعلموا أن أعضاءهم التي كانت أعواناً لهم في معاصي الله صارت شهوداً عليهم ، وجعل ما تنطق به الأيدي كلاماً ، وإقراراً؛ لأنها كانت المباشرة لغالب المعاصي ، وجعل نطق الأرجل شهادة؛ لأنها حاضرة عند كل معصية ، وكلام الفاعل إقرار ، وكلام الحاضر شهادة ، وهذا اعتبار بالغالب ، وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها .
{ وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } أي : أذهبنا أعينهم ، وجعلناها بحيث لا يبدو لها شقّ ، ولا جفن . قال الكسائي : طمس يطمس ، ويطمس ، والمطموس ، والطميس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شقّ كما في قوله : { وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم } [ البقرة : 20 ] . ومفعول المشيئة محذوف أي : لو نشاء أن نطمس على أعينهم لطمسنا . قال السدّي ، والحسن : المعنى : لتركناهم عمياً يتردّدون لا يبصرون طريق الهدى ، واختار هذا ابن جرير { فاستبقوا الصراط } معطوف على { لطمسنا } أي : تبادروا إلى الطريق ليجوزوه ، ويمضوا فيه ، والصراط منصوب بنزع الخافض أي : فاستبقوا إليه ، وقال عطاء ، ومقاتل ، وقتادة : المعنى : لو نشاء لفقأنا أعينهم ، وأعميناهم عن غيهم ، وحوّلنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ، فأبصروا رشدهم ، واهتدوا ، وتبادروا إلى طريق الآخرة ، ومعنى { فأنى يُبْصِرُونَ } أي : كيف يبصرون الطريق ، ويحسنون سلوكه ، ولا أبصار لهم .

وقرأ عيسى بن عمر « فاستبقوا » على صيغة الأمر ، أي : فيقال لهم : استبقوا ، وفي هذا تهديد لهم .
ثم كرّر التهديد لهم ، فقال : { وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم على مكانتهم } المسخ : تبديل الخلقة إلى حجر ، أو غيره من الجماد ، أو بهيمة ، والمكانة : المكان ، أي : لو شئنا لبدّلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه . قيل : والمكانة أخص من المكان كالمقامة ، والمقام . قال الحسن : أي : لأقعدناهم { فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } أي : لا يقدرون على ذهاب ، ولا مجيء . قال الحسن : فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم؛ ولا يرجعوا وراءهم ، وكذلك الجماد لا يتقدّم ، ولا يتأخر . وقيل : المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم ، وقيل : لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية . وقال يحيى بن سلام : هذا كله يوم القيامة . قرأ الجمهور { على مكانتهم } بالإفراد . وقرأ الحسن ، والسلمي ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم « مكاناتهم » بالجمع . وقرأ الجمهور { مضياً } بضم الميم ، وقرأ أبو حيوة « مضياً » بفتحها ، وروي عنه : أنه قرأ بكسرها ، ورويت هذه القراءة عن الكسائي . قيل : والمعنى : ولا يستطيعون رجوعاً ، فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة ، يقال : مضى يمضي مضياً : إذا ذهب في الأرض ، ورجع يرجع رجوعاً : إذا عاد من حيث جاء .
{ وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِى الخلق } قرأ الجمهور { ننكسه } بفتح النون الأولى ، وسكون الثانية ، وضم الكاف مخففة . وقرأ عاصم ، وحمزة بضم النون الأولى ، وفتح الثانية ، وكسر الكاف مشدّدة . والمعنى : من نطل عمره نغير خلقه ، ونجعله على عكس ما كان عليه أوّلاً من القوّة والطراوة . قال الزجاج : المعنى : من أطلنا عمره نكسنا خلقه ، فصار بدل القوّة الضعف ، وبدل الشباب الهرم ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } [ الحج : 5 ] ، وقوله : { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } [ التين : 5 ] ، ومعنى { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } : أفلا تعلمون بعقولكم أن من قدر على ذلك قدر على البعث ، والنشور . قرأ الجمهور : « يعقلون » بالتحتية . وقرأ نافع ، وابن ذكوان بالفوقية على الخطاب .
ولما قال كفار مكة : إن القرآن شعر ، وإن محمداً شاعر ، ردّ الله عليهم بقوله : { وَمَا علمناه الشعر } ، والمعنى : نفى كون القرآن شعراً ، ثم نفى أن يكون النبيّ شاعراً ، فقال : { وَمَا يَنبَغِى لَهُ } أي : لا يصح له الشعر ، ولا يتأتى منه ، ولا يسهل عليه لو طلبه ، وأراد أن يقوله ، بل كان إذا أراد أن ينشد بيتاً قد قاله شاعر متمثلاً به كسر وزنه ، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور ، وهو قوله :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
قال : ويأتيك من لم تزوّده بالأخبار ، وأنشد مرّة أخرى قول العباس بن مرداس السلمي :
أتجعل نهبي ونهب العبي ... د بين عيينة والأقرع
فقال : بين الأقرع وعيينة ، وأنشد أيضاً :
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ... فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إنما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً ... فقال : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله عزّ وجلّ : { وَمَا علمناه الشعر وَمَا يَنبَغِى لَهُ } وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم كثير من مثل هذا . قال الخليل : كان الشعر أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ، ولكن لا يتأتى منه . انتهى . ووجه عدم تعليمه الشعر ، وعدم قدرته عليه . التكميل للحجة ، والدحض للشبهة ، كما جعله الله أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، وأما ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله :
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله :
أنا النبيّ لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
ونحو ذلك ، فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن ، وليس بشعر ، ولا مراد به الشعر ، بل اتفق ذلك اتفاقاً كما يقع في كثير من كلام الناس ، فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر ، ولا يعدّونه شعراً ، وذلك كقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقوله : { وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } [ سبأ : 13 ] على أنه قد قال الأخفش إن قوله :
أنا النبيّ لا كذب ... ليس بشعر . وقال الخليل في كتاب العين : إن ما جاء من السجع على جزأين لا يكون شعراً . قال ابن العربي : والأظهر من حاله أنه قال : لا كذب برفع الباء من كذب ، وبخفضها من عبد المطلب . قال النحاس : قال بعضهم : إنما الرواية بالإعراب ، وإذا كانت بالإعراب لم يكن شعراً ، لأنه إذا فتح الباء من الأوّل ، أو ضمهما ، أو نوّنها ، وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر . وقيل : إن الضمير في { له } عائد إلى القرآن أي : وما ينبغي للقرآن أن يكون شعراً { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } أي : ما القرآن إلا ذكر من الأذكار ، وموعظة من المواعظ { وَقُرْآنٌ مُّبِين } أي : كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية { لّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } أي : لينذر القرآن من كان حياً ، أي : قلبه صحيح يقبل الحق ، ويأبى الباطل ، أو لينذر الرسول من كان حياً . قرأ الجمهور بالياء التحتية ، وقرأ نافع ، وابن عامر بالفوقية ، فعلى القراءة الأولى المراد : القرآن ، وعلى الثانية المراد : النبي صلى الله عليه وسلم { وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين } أي : وتجب كلمة العذاب على المصرّين على الكفر الممتنعين من الإيمان بالله ، وبرسله .

وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فِى شُغُلٍ فاكهون } قال : في افتضاض الأبكار . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال : شغلهم : افتضاض العذارى . وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة ، وقتادة مثله . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمر قال : إن المؤمن كلما أراد زوجة وجدها عذراء . وقد روي نحوه مرفوعاً عن أبي سعيد ، مرفوعاً عند الطبراني في الصغير ، وأبي الشيخ في العظمة . وروي أيضاً نحوه عن أبي هريرة مرفوعاً عند الضياء المقدسي في صفة الجنة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فِى شُغُلٍ فاكهون } قال : ضرب الأوتار . قال أبو حاتم : هذا لعله خطأ من المستمع ، وإنما هو افتضاض الأبكار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : { فاكهون } : فرحون . وأخرج ابن ماجه ، وابن أبي الدنيا في صفة الجنة ، والبزار ، وابن أبي حاتم ، والأجرّي في الرؤية ، وابن مردويه عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربّ قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، وذلك قول الله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مّن رَّبّ رَّحِيمٍ } قال : فينظر إليهم ، وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره ، وبركته عليهم في ديارهم » قال ابن كثير : في إسناده نظر . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : إن الله هو يسلم عليهم .
وأخرج أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، والبزار ، وابن أبي الدنيا في التوبة ، واللفظ له ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس في قوله : { اليوم نَخْتِمُ على أفواههم } قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فضحك حتى بدت نواجذه ، قال : « أتدرون مما ضحكت؟ » قلنا : لا يا رسول الله ، قال : « من مخاطبة العبد ربه يقول : يا ربّ ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى ، فيقول : إني لا أجيز عليّ إلا شاهداً مني ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه . ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بأعماله ، ثم يخلى بينه ، وبين الكلام ، فيقول : بعداً لكنّ ، وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل »

وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي سعيد ، وأبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يلقى العبد ربه ، فيقول الله : قل : ألم أكرمك ، وأسوّدك ، وأزوّجك ، وأسخر لك الخيل ، والإبل ، وأذرك ترأس ، وترتع؟ فيقول : بلى أي ربّ ، فيقول : أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول : لا ، فيقول : إني أنساك كما نسيتني . ثم يلقى الثاني ، فيقول مثل ذلك ، ثم يلقى الثالث ، فيقول له مثل ذلك ، فيقول : آمنت بك ، وبكتابك ، وبرسولك ، وصليت ، وصمت ، وتصدّقت ، ويثني بخير ما استطاع ، فيقول : ألا نبعث شاهدنا عليك ، فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليّ ، فيختم على فيه ، ويقال لفخذه : انطقي ، فتنطق فخذه ، وفمه ، وعظامه بعمله ما كان ، وذلك ليعذر من نفسه ، وذلك المنافق ، وذلك الذي يسخط عليه » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } قال : أعميناهم ، وأضللناهم عن الهدى { فأنى يُبْصِرُونَ } فكيف يهتدون . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم } قال : أهلكناهم { على مكانتهم } قال : في مساكنهم . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم قال : بلغني أنه قيل لعائشة : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ قالت : كان أبغض الحديث إليه ، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بني قيس ، فيجعل أوّله آخره يقول : ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار ، فقال أبو بكر : ليس هكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني والله ما أنا بشاعر ، ولا ينبغي لي » وهذا يردُّ ما نقلناه عن الخليل سابقاً أن الشعر كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة :
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد ... وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الأشعار :
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد ... وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة قالت : ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتاً واحداً :
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما ... يقال لشيء : كان ، إلا تحقق
قالت عائشة : ولم يقل تحققاً لئلا يعربه ، فيصير شعراً ، وإسناده هكذا : قال : أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ : يعني : الحاكم حدّثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم ، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير ، حدّثنا علي بن عمرو الأنصاري ، حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، فذكره . وقد سئل المزّي عن هذا الحديث فقال : هو منكر ، ولم يعرف شيخ الحاكم ، ولا الضرير .

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة ، وإنعامه على عبيده ، وجحد الكفار لنعمه ، فقال : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أنعاما } والهمزة للإنكار ، والتعجيب من حالهم ، والواو للعطف على مقدّر كما في نظائره ، والرؤية هي القلبية أي : أو لم يعلموا بالتفكر ، والاعتبار { أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم } أي : لأجلهم { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } أي : مما أبدعناه ، وعملناه من غير واسطة ، ولا شركة ، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص ، والتفرّد بالخلق كما يقول الواحد منا : عملته بيدي للدلالة على تفرّده بعمله ، « وما » بمعنى : الذي ، وحذف العائد لطول الصلة ، ويجوز أن تكون مصدرية ، والأنعام جمع نعم ، وهي : البقر ، والغنم ، والإبل ، وقد سبق تحقيق الكلام فيها . ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق الأنعام ، فقال : { فَهُمْ لَهَا مالكون } أي : ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا ، ولو خلقناها وحشية لنفرت عنهم ، ولم يقدروا على ضبطها ، ويجوز أن يكون المراد : أنها صارت في أملاكهم ، ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة إليهم نسبة الملك .
{ وذللناها لَهُمْ } أي : جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح ، ويقودها الصبيّ ، فتنقاد له ، ويزجرها ، فتنزجر ، والفاء في قوله : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } لتفريع أحكام التذليل عليه أي : فمنها مركوبهم الذي يركبونه كما يقال : ناقة حلوب أي : محلوبة . قرأ الجمهور { ركوبهم } بفتح الراء . وقرأ الأعمش ، والحسن ، وابن السميفع بضم الراء على المصدر . وقرأ أبيّ ، وعائشة « ركوبتهم » ، والركوب والركوبة واحد ، مثل الحلوب والحلوبة ، والحمول والحمولة . وقال أبو عبيدة : الركوبة تكون للواحدة والجماعة ، والركوب لا يكون إلا للجماعة . وزعم أبو حاتم : أنه لا يجوز ، فمنها ركوبهم بضم الراء؛ لأنه مصدر ، والركوب ما يركب ، وأجاز ذلك الفراء كما يقال : فمنها أكلهم ، ومنها شربهم ، ومعنى { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } : ما يأكلونه من لحمها ، و « من » للتبعيض { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي : لهم في الأنعام منافع غير الركوب لها ، والأكل منها ، وهي ما ينتفعون به من أصوافها ، وأوبارها ، وأشعارها ، وما يتخذونه من الأدهان من شحومها ، وكذلك الحمل عليها ، والحراثة بها { ومشارب } أي : ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } الله على هذه النعم ، ويوحدونه ، ويخصونه بالعبادة .
ثم ذكر سبحانه جهلهم ، واغترارهم ، ووضعهم كفران النعم مكان شكرها ، فقال : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً } من الأصنام ، ونحوها يعبدونها ، ولا قدرة لها على شيء ، ولم يحصل لهم منها فائدة ، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة { لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } أي : رجاء أن ينصروا من جهتهم إن نزل بهم عذاب ، أو دهمهم أمر من الأمور ، وجملة { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها ، وأملوه من نفعها ، وجمعهم بالواو ، والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ، ويضرون ، ويعقلون { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّحْضَرُونَ } أي : والكفار جند للأصنام محضرون أي : يحضرونهم في الدنيا .

قال الحسن : يمنعون منهم ، ويدفعون عنهم ، وقال قتادة : أي : يغضبون لهم في الدنيا . قال الزجاج : ينتصرون للأصنام ، وهي لا تستطيع نصرهم . وقيل : المعنى يعبدون الآلهة ، ويقومون بها ، فهم لهم بمنزلة الجند ، هذه الأقوال على جعل ضمير " هم " للمشركين ، وضمير " لهم " للآلهة ، وقيل : { وهم } أي : الآلهة لهم أي : للمشركين { جند محضرون } معهم في النار ، فلا يدفع بعضهم عن بعض . وقيل : معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم ، ويتبرءون منهم . وقيل : المعنى : إن الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم .
ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } هذا القول هو ما يفيده قوله : { واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً } فإنهم لا بدّ أن يقولوا : هؤلاء آلهتنا ، وإنها شركاء لله في المعبودية ، ونحو ذلك . وهو نهي للرسول صلى الله عليه وسلم عن التأثر بذلك . وقيل : إنه نهي لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب : «لا أرينك ها هنا» فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه ، لا نهي نفسه عن الرؤية ، وهذا بعيد ، والأوّل أولى ، والكلام من باب التسلية كما ذكرنا ، ويجوز أن يكون المراد بالقول المذكور هو : قولهم إنه ساحر ، وشاعر ، ومجنون . وجملة { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } لتعليل ما تقدّم من النهي ، فإن علمه سبحانه بما يظهرون ، ويضمرون مستلزم المجازاة لهم بذلك . وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه سواء كان خافياً ، أو بادياً سرًّا ، أو جهراً مظهراً ، أو مضمراً . وتقديم السرّ على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات .
وجملة { أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ } مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث ، وللتعجيب من جهله ، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام ، وردّها كما كانت ، والإنسان المذكور في الآية المراد به : جنس الإنسان كما في قوله : { أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [ مريم : 67 ] ، ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل : إنه عبد الله بن أبيّ ، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث . وقال الحسن : هو : أمية بن خلف . وقال سعيد بن جبير : هو : العاص بن وائل السهمي .

وقال قتادة ، ومجاهد : هو : أبيّ بن خلف الجمحي ، فإن أحد هؤلاء ، وإن كان سبباً للنزول ، فمعنى الآية : خطاب الإنسان من حيث هو ، لا إنسان معين ، ويدخل من كان سبباً للنزول تحت جنس الإنسان دخولاً أوّلياً ، والنطفة هي : اليسير من الماء ، وقد تقدّم تحقيق معناها { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } هذه الجملة معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام ، و « إذا » هي : الفجائية أي : ألم يرَ الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء ، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله ، وبراهينه ، والخصيم : الشديد الخصومة الكثير الجدال ، ومعنى المبين : المظهر لما يقوله الموضح له بقوّة عارضته ، وطلاقة لسانه ، وهكذا جملة : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ } معطوفة على الجملة المنفية داخلة في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام ، فهي تكميل للتعجيب من حال الإنسان ، وبيان جهله بالحقائق ، وإهماله في نفسه فضلاً عن التفكر في سائر مخلوقات الله ، ويجوز أن تكون جملة { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } معطوفة على خلقنا ، وهذه معطوفة عليها أي : أورد في شأننا قصة غريبة كالمثل : وهي إنكاره أحياناً للعظام ، ونسي خلقه ، أي : خلقنا إياه ، وهذه الجملة معطوفة على ضرب ، أو في محلّ نصب على الحال بتقدير قد .
وجملة { قَالَ مَن يُحييِ العظام وَهِىَ رَمِيمٌ } استئناف جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل : ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل : قال : من يحيي العظام ، وهي رميم ، وهذا الاستفهام للإنكار؛ لأنه قاس قدرة الله على قدرة العبد ، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر ، يقال : رمّ العظم يرمّ رماً إذا بلي ، فهو رميم ، ورمام ، وإنما قال : { رميم } ، ولم يقل : « رميمة » مع كونه خبراً للمؤنث؛ لأنه اسم لما بلي من العظام غير صفة كالرمة والرفات . وقيل : لكونه معدولاً عن فاعلة ، وكل معدول عن وجهه يكون مصروفاً عن إعرابه كما في قوله : { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] ؛ لأنه مصروف عن باغية ، كذا قال البغوي ، والقرطبي ، وقال بالأوّل صاحب الكشاف . والأولى أن يقال : إنه فعيل بمعنى : فاعل ، أو مفعول ، وهو يستوي فيه المذكر ، والمؤنث كما قيل في جريح ، وصبور .
ثم أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل ، فقال : { قُلْ يُحْيِيهَا الذى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : ابتدأها ، وخلقها أوّل مرة من غير شيء ، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية { وَهُوَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } لا يخفى عليه خافية ، ولا يخرج عن علمه خارج كائناً ما كان . وقد استدلّ أبو حنيفة ، وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة . وقال الشافعي : لا تحله الحياة ، وأن المراد بقوله : { مَن يُحىِ العظام } من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف ، وردّ بأن هذا التقدير خلاف الظاهر { الذى جَعَلَ لَكُم مّنَ الشجر الأخضر نَاراً } هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير ما تقدّم من دفع استبعادهم ، فنبه سبحانه على وحدانيته ، ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج النار المحرقة من العود النديّ الرطب ، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ ، والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما عودان ، وضرب أحدهما على الآخر انقدحت منهما النار ، وهما أخضران .

وقيل : المرخ هو : الذكر ، والعفار هو : الأنثى ، ويسمى الأوّل الزند ، والثاني الزندة ، وقال : { الأخضر } ، ولم يقل : « الخضراء » اعتباراً باللفظ . وقرىء « الخضر » اعتباراً بالمعنى ، وقد تقرّر أنه يجوز تذكير اسم الجنس ، وتأنيثه كما في قوله : { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] وقوله : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] فبنو تميم ، ونجد يذكَّرونه ، وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادراً ، والموصول بدل من الموصول الأوّل { فَإِذَا أَنتُم مّنْه تُوقِدُونَ } أي : تقدحون منه النار ، وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر .
ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقاً من الإنسان ، فقال : { أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر كنظائره ، ومعنى الآية : أن من قدر على خلق السماوات ، والأرض - وهما في غاية العظم ، وكبر الأجزاء - يقدر على إعادة خلق البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوّة ، كما قال سبحانه : { لَخَلْقُ السموات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] قرأ الجمهور { بقادر } بصيغة اسم الفاعل . وقرأ الجحدري ، وابن أبي إسحاق ، والأعرج ، وسلام بن المنذر ، وأبو يعقوب الحضرمي « يقدر » بصيغة الفعل المضارع . ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريريّ بقوله : { بلى وَهُوَ الخلاق العليم } أي : بلى هو قادر على ذلك ، وهو المبالغ في الخلق ، والعلم على أكمل وجه ، وأتمه . وقرأ الحسن ، والجحدري ، ومالك بن دينار « وهو الخالق » .
ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته ، وتيسر المبدأ ، والإعادة عليه ، فقال : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي : إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشيء من الأشياء أن يقول له : احدث ، فيحدث من غير توقف على شيء آخر أصلاً ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النحل ، وفي البقرة . قرأ الجمهور { فيكون } بالرفع على الاستئناف . وقرأ الكسائي بالنصب عطفاً على { يقول } . ثم نزّه سبحانه نفسه عن أن يوصف بغير القدرة ، فقال : { فسبحان الذى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } ، والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت ، والرحموت كأنه قال : فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية . قال قتادة : ملكوت كلّ شيء : مفاتح كلّ شيء . قرأ الجمهور { ملكوت } وقرأ الأعمش ، وطلحة بن مصرف ، وإبراهيم التيمي « ملكة » بزنة شجرة ، وقرىء « مملكة » بزنة مفعلة ، وقرىء « ملك » ، والملكوت أبلغ من الجميع .

وقرأ الجمهور { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } بالفوقية على الخطاب مبنياً للمفعول . وقرأ السلمي ، وزر بن حبيش ، وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة مبنياً للمفعول أيضاً . وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل أي : ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد البعث .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في معجمه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ، ففته بيده ، فقال : يا محمد أيحيي الله هذا بعد ما أرم؟ قال : « نعم يبعث الله هذا ، ثم يميتك ، ثم يحييك ، ثم يدخلك نار جهنم » فنزلت الآيات من آخر ياس { أَوَ لَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ } إلى آخر السورة . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه قال : جاء عبد الله بن أبيّ في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر مثل ما تقدّم قال ابن كثير : وهذا منكر؛ لأن السورة مكية ، وعبد الله بن أبيّ إنما كان بالمدينة . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : جاء أبيّ بن خلف الجمحي ، وذكر نحو ما تقدّم . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : نزلت في أبي جهل ، وذكر نحو ما تقدّم .

وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)

قوله : { والصافات صَفَّا } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وقيل : حمزة فقط ، بإدغام التاء من الصافات في صاد صفاً ، وإدغام التاء من الزاجرات في زاي زجراً ، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكراً ، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل لما سمعها . قال النحاس : وهي بعيدة في العربية من ثلاثة جهات : الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد ، ولا من مخرج الزاي ، ولا من مخرج الدال ، ولا من أخواتهن . الجهة الثانية أن التاء في كلمة ، وما بعدها في كلمة أخرى . الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين ، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في كلمة واحدة . وقال الواحدي : إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين ، ألا ترى أنهما من طرف اللسان . وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك ، والواو للقسم ، والمقسم به : الملائكة : الصافات ، والزاجرات ، والتاليات . والمراد ب { الصافات } : التي تصفّ في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة . وقيل : إنها تصفّ أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد . وقال الحسن : صفاً كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم . وقيل : المراد بالصافات هنا : الطير كما في قوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات } [ الملك : 19 ] والأوّل أولى ، والصفّ : ترتيب الجمع على خطّ كالصفّ في الصلاة . وقيل : الصافات جماعة الناس المؤمنين إذا قاموا صفاً في الصلاة ، أو في الجهاد ، ذكره القشيري . والمراد ب { الزاجرات } الفاعلات للزجر من الملائكة ، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدّي ، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ ، والنصائح . وقال قتادة : المراد بالزاجرات : الزواجر من القرآن ، وهي كل ما ينهى ، ويزجر عن القبيح ، والأوّل أولى . وانتصاب { صفا } و { زجراً } على المصدرية لتأكيد ما قبلهما . وقيل : المراد بالزاجرات : العلماء؛ لأنهم هم الذين يزجرون أهل المعاصي . والزجر في الأصل : الدفع بقوّة ، وهو هنا قوّة التصويت ، ومنه قول الشاعر :
زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم
ومنه زجرت الإبل ، والغنم : إذا أفزعتها بصوتك ، والمراد ب { التاليات ذِكْراً } الملائكة التي تتلو القرآن كما قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وابن جبير ، والسدّي . وقيل : المراد : جبريل وحده ، فذكر بلفظ الجمع تعظيماً له مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة . وقال قتادة : المراد كل من تلا ذكر الله ، وكتبه . وقيل : المراد : آيات القرآن ، ووصفها بالتلاوة ، وإن كانت متلوّة كما في قوله : { إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل } [ النمل : 76 ] . وقيل : لأن بعضها يتلو بعضاً ، ويتبعه . وذكر الماوردي : أن التاليات هم : الأنبياء يتلون الذكر على أممهم ، وانتصاب { ذكراً } على أنه مفعول به ، ويجوز أن يكون مصدراً كما قبله من قوله { صفاً } ، و { زجراً } .

قيل : وهذه الفاء في قوله : { فالزاجرات } ، { فالتاليات } إما لترتب الصفات أنفسها في الوجود ، أو لترتب موصوفاتها في الفضل ، وفي الكلّ نظر .
وقوله : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } جواب القسم ، أي : أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك . وأجاز الكسائي فتح « إن » الواقعة في جواب القسم { رَبّ السموات والأرض } يجوز أن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون بدلاً من { لواحد } ، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف . قال ابن الأنباري : الوقف على { لواحد } وقف حسن ، ثم يبتدىء { ربّ السماوات ، والأرض } على معنى : هو ربّ السماوات ، والأرض . قال النحاس : ويجوز أن يكون بدلاً من { لواحد } . والمعنى في الآية : أن وجود هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع ، وقدرته ، وأنه ربّ ذلك كله ، أي : خالقه ، ومالكه . والمراد بما بينهما : ما بين السماوات ، والأرض من المخلوقات . والمراد ب { المشارق } مشارق الشمس . قيل : إن الله سبحانه خلق للشمس كل يوم مشرقاً ، ومغرباً بعدد أيام السنة ، تطلع كل يوم من واحد منها ، وتغرب من واحد ، كذا قال ابن الأنباري ، وابن عبد البرّ . وأما قوله في سورة الرحمن : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } [ الرحمن : 17 ] فالمراد بالمشرقين : أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال ، وأقصر يوم في الأيام القصار ، وكذلك في المغربين . وأما ذكر المشرق ، والمغرب بالإفراد ، فالمراد به : الجهة التي تشرق منها الشمس ، والجهة التي تغرب منها ، ولعله قد تقدّم لنا في هذا كلام أوسع من هذا .
{ إِنَّا زَيَّنَّا السماء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب } المراد بالسماء الدنيا : التي تلي الأرض ، من الدنوّ ، وهو : القرب ، فهي أقرب السموات إلى الأرض . قرأ الجمهور { بزينة الكواكب } بإضافة زينة إلى الكواكب . والمعنى : زيناها بتزيين الكواكب ، أي : بحسنها . وقرأ مسروق ، والأعمش ، والنخعي ، وحمزة بتنوين { زينة } ، وخفض { الكواكب } على أنها بدل من الزينة : على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر . والتقدير بعد طرح المبدل منه : إنا زينا السماء بالكواكب ، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة؛ فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر المتلألئة . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين « زينة » ، ونصب « الكواكب » على أن الزينة مصدر ، وفاعله محذوف . والتقدير : بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها ، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار أعني ، أو بدلاً من السماء بدل اشتمال ، وانتصاب { حفظاً } على المصدرية بإضمار فعل ، أي : حفظناها حفظاً ، أو على أنه مفعول لأجله ، أي : زيناها بالكواكب للحفظ ، أو بالعطف على محل زينة كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء . { وَحِفْظاً مّن كُلّ شيطان مَّارِدٍ } أي : متمرّد خارج عن الطاعة يرمى بالكواكب ، كقوله : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رُجُوماً للشياطين }

[ الملك : 5 ] .
وجملة { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى } مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء منهم . وقال أبو حاتم : أي : لئلا يسمعوا ، ثم حذف « إن » فرفع الفعل ، وكذا قال الكلبي ، والملأ الأعلى : أهل السماء الدنيا فما فوقها ، وسمى الكلّ منهم أعلى بإضافته إلى ملإ الأرض ، والضمير في { يسمعون } إلى الشياطين . وقيل : إن جملة { لا يسمعون } صفة لكل شيطان ، وقيل : جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل : فما كان حالهم بعد حفظ السماء عنهم؟ فقال : { لاَ يَسْمَعُونَ إِلا الملإ الأعلى } قرأ الجمهور « يسمعون » بسكون السين ، وتخفيف الميم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم ، والسين ، والأصل يتسمعون ، فأدغم التاء في السين ، فالقراءة الأولى تدلّ على انتفاء سماعهم دون استماعهم ، والقراءة الثانية تدلّ على انتفائهما ، وفي معنى القراءة الأولى قوله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 212 ] قال مجاهد : كانوا يتسمعون ، ولكن لا يسمعون . واختار أبو عبيدة القراءة الثانية ، قال : لأن العرب لا تكاد تقول : سمعت إليه ، وتقول : تسمعت إليه { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلّ جَانِبٍ * دُحُوراً } أي : يرمون من كلّ جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع ، وانتصاب { دحوراً } على أنه مفعول لأجله . والدحور : الطرد ، تقول : دحرته دحراً ، ودحوراً : طردته . قرأ الجمهور { دحوراً } بضم الدال ، وقرأ عليّ ، والسلمي ، ويعقوب الحضرمي ، وابن أبي عبلة بفتحها . وروي عن أبي عمرو : أنه قرأ « يقذفون » مبنياً للفاعل ، وهي قراءة غير مطابقة لما هو المراد من النظم القرآني ، وقيل : إن انتصاب { دحوراً } على الحال ، أي : مدحورين ، وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد ، وقعود ، فيكون حالاً أيضاً . وقيل : إنه مصدر لمقدّر ، أي : يدحرون دحوراً . وقال الفراء : إن المعنى : يقذفون بما يدحرهم ، أي : بدحور ، ثم حذفت الباء ، فانتصب بنزع الخافض .
واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث ، أو بعده؟ فقال بالأوّل طائفة . وبالآخر آخرون . وقالت طائفة بالجمع بين القولين : إن الشياطين لم تكن ترمى قبل المبعث رمياً يقطعها عن السمع ، ولكن كانت ترمى وقتاً ، ولا ترمى وقتاً آخر ، وترمى من جانب ، ولا ترمى من جانب آخر ، ثم بعد المبعث رميت في كلّ وقت ، ومن كلّ جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شيء من السمع إلا من اختطف الخطفة ، فأتبعه شهاب ثاقب ، ومعنى { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } : ولهم عذاب دائم لا ينقطع ، والمراد به : العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في الدنيا من الرمي بالشهب . وقال مقاتل : يعني : دائماً إلى النفخة الأولى ، والأوّل أولى . وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن الواصب : الدائم . وقال السدّي ، وأبو صالح ، والكلبي : هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب ، مأخوذ من الوصب ، وهو : المرض ، وقيل : هو الشديد ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة } هو من قوله : { لاَ يَسْمَعُونَ } ، أو من قوله : { وَيَقْذِفُونَ } .

وقيل : الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله : { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 212 ] بل يخطف الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ، ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض . والخطف : الاختلاس مسارقة ، وأخذ الشيء بسرعة . قرأ الجمهور { خطف } بفتح الخاء ، وكسر الطاء مخففة ، وقرأ قتادة ، والحسن بكسرهما ، وتشديد الطاء ، وهي لغة تميم بن مرّ ، وبكر بن وائل . وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء ، وكسر الطاء مشددة . وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء ، وقيل : إن الاستثناء منقطع { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي : لحقه ، وتبعه شهاب ثاقب : نجم مضيء ، فيحرقه ، وربما لا يحرقه فيلقي إلى إخوانه ما خطفه ، وليست الشهب التي يرجم بها هي من الكواكب الثوابت بل من غير الثوابت ، وأصل الثقوب : الإضاءة . قال الكسائي : ثقبت النار تثقب ثقابة ، وثقوباً : إذا اتقدت ، وهذه الآية هي كقوله : { إِلاَّ مَنِ استرق السمع فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } [ الحجر : 18 ] .
{ فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا } أي : اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشدّ خلقاً ، وأقوى أجساماً ، وأعظم أعضاء ، أم من خلقنا من السماوات ، والأرض ، والملائكة؟ قال الزجاج : المعنى : فاسألهم سؤال تقرير أهم أشدّ خلقاً ، أي : أحكم صنعة أم من خلقنا قبلهم من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم ، وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان ، فقال : { إِنَّا خلقناهم مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } أي : إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من طين لازب ، أي : لاصق ، يقال : لزب يلزب لزوباً : إذا لصق . وقال قتادة ، وابن زيد : اللازب : اللازق . وقال عكرمة : اللازب : اللزج . وقال سعيد بن جبير : اللازب : الجيد الذي يلصق باليد . وقال مجاهد : هو اللازم ، والعرب تقول : طين لازب ، ولازم تبدل الباء من الميم ، واللازم : الثابت كما يقال : صار الشيء ضربة لازب ، ومنه قول النابغة :
ولا تحسبون الخير لا شرّ بعده ... ولا تحسبون الشرّ ضربة لازب
وحكى الفراء عن العرب : طين لاتب بمعنى : لازم ، واللاتب الثابت . قال الأصمعي : واللاتب اللاصق مثل اللازب . والمعنى في الآية : أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد ، وهم مخلقون من هذا الخلق الضعيف ، ولم ينكره من هو مخلوق خلقاً أقوى منهم ، وأعظم ، وأكمل ، وأتمّ . وقيل : اللازب هو : المنتن قاله مجاهد ، والضحاك . قرأ الجمهور { أم من خلقنا } بتشديد الميم ، وهي : أم المتصلة ، وقرأ الأعمش بالتخفيف ، وهو استفهام ثان على قراءته . قيل : وقد قرىء لازم ، ولاتب ، ولا أدري من قرأ بذلك .
ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق ، فقال : { بَلْ عَجِبْتَ } يا محمد من قدرة الله سبحانه { وَيَسْخُرُونَ } منك بسبب تعجبك ، أو ويسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد .

قرأ الجمهور بفتح التاء من { عجبت } على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ حمزة ، والكسائي بضمها . ورويت هذه القراءة عن عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس ، واختارها أبو عبيد ، والفراء . قال الفراء : قرأها الناس بنصب التاء ، ورفعها ، والرفع أحبّ إليّ؛ لأنها عن عليّ ، وعبد الله ، وابن عباس . قال : والعجب أن أسند إلى الله ، فليس معناه من الله كمعناه من العباد . قال الهروي : وقال بعض الأئمة : معنى قوله : { بَلْ عَجِبْتَ } بل جازيتهم على عجبهم؛ لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال : { وَعَجِبُواْ أَن جَاءهُم مٌّنذِرٌ مّنْهُمْ } [ ص : 4 ] وقالوا : { إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ } [ ص : 5 ] { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ } [ يونس : 2 ] وقال عليّ بن سليمان : معنى القراءتين واحد ، والتقدير : قل : يا محمد : بل عجبت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مخاطب بالقرآن . قال النحاس : وهذا قول حسن ، وإضمار القول كثير . وقيل : إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره ، وسخطه على من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين . قال الهروي : ويقال : معنى عجب ربكم ، أي : رضي ربكم وأثاب ، فسماه عجباً ، وليس بعجب في الحقيقة ، فيكون معنى { عجبت } هنا : عظم فعلهم عندي . وحكى النقاش : أن معنى { بل عجبت } : بل أنكرت . قال الحسن بن الفضل : التعجب من الله : إنكار الشيء وتعظيمه ، وهو لغة العرب ، وقيل : معناه : أنه بلغ في كمال قدرته ، وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها ، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها ، والواو في { وَيَسْخُرُونَ } للحال ، أي : بل عجبت ، والحال أنهم يسخرون ، ويجوز أن تكون للاستئناف .
{ وَإِذَا ذُكّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } أي : وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله ، أو مواعظ رسوله لا يذكرون ، أي : لا يتعظون بها ، ولا ينتفعون بما فيها . قال سعيد بن المسيب ، أي : إذا ذكر لهم ما حلّ بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا { وَإِذَا رَأَوْاْ ءايَةً } أي : معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم { يَسْتَسْخِرُونَ } أي : يبالغون في السخرية . قال قتادة : يسخرون ، ويقولون : إنها سخرية ، يقال : سخر ، واستسخر بمعنى : مثل قرّ واستقرّ ، وعجب واستعجب . والأوّل أولى ، لأن زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى . وقيل : معنى { يستسخرون } : يستدعون السخرى من غيرهم . وقال مجاهد : يستهزئون { وَقَالُواْ إِن هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وعظاما } الاستفهام للإنكار ، أي : أنبعث إذا متنا؟ ، فالعامل في « إذا » هو ما دلّ عليه { أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ، وهو أنبعث ، لأنفس مبعوثون ، لتوسط ما يمنع من عمله فيه ، وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا الرسل ، وما نزل عليهم ، واستهزءوا بما جاءوا به من المعجزات ، وقد تقدّم تفسير معنى هذه الآية في مواضع .

{ أَوَ ءابَاؤُنَا الأولون } هو مبتدأ ، وخبره محذوف ، أي : أو آباؤنا الأوّلون مبعوثون ، وقيل : معطوف على محل إن واسمها ، وقيل : على الضمير في { مبعوثون } لوقوع الفصل بينهما ، والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف ، ولهذا قرأ الجمهور بفتح الواو ، وقرأ ابن عامر ، وقالون بسكونها على أن ، « أو » هي العاطفة ، وليست الهمزة للاستفهام . ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتاً لهم ، فقال : { قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ داخرون } أي : نعم تبعثون ، وأنتم صاغرون ذليلون . قال الواحدي : والدخور أشدّ الصغار ، وجملة { وأنتم داخرون } في محل نصب على الحال . ثم ذكر سبحانه : أن بعثهم يقع بزجرة واحدة ، فقال : { فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ واحدة } الضمير للقصة ، أو البعثة المفهومة مما قبلها ، أي : إنما قصة البعث ، أو البعثة زجرة واحدة ، أي : صيحة واحدة من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث : { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } أي يبصرون ما يفعل الله بهم من العذاب . وقال الحسن : هي : النفخة الثانية ، وسميت الصيحة زجرة؛ لأن المقصود منها الزجر ، وقيل : معنى { ينظرون } : ينتظرون ما يفعل بهم . والأوّل أولى .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والطبراني ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود { والصافات صَفَّا } قال : الملائكة { فالزجرات زَجْراً } قال : الملائكة { فالتاليات ذِكْراً } قال : الملائكة . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد ، وعكرمة مثله . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ « لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى » مخففة ، وقال : إنهم كانوا يتسمعون ، ولكن لا يسمعون . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { عَذابٌ وَاصِبٌ } قال : دائم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضاً : إذا رمي الشهاب لم يخط من رمي به ، وتلا { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } قال : لا يقتلون بالشهاب ، ولا يموتون ، ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { مِن طين لاَّزِبٍ } قال : ملتصق . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { مّن طِينٍ لاَّزِبٍ } قال : اللزج الجيد . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : اللازب ، والحمأ ، والطين واحد : كان أوّله تراباً ، ثم صار حمأ منتناً ، ثم صار طيناً لازباً ، فخلق الله منه آدم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : اللازب : الذي يلصق بعضه إلى بعض . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود : أنه كان يقرأ « بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ » بالرفع للتاء من عجبت .

وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

قوله : { وَقَالُواْ ياويلنا } أي : قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا : يا ويلنا ، دعوا بالويل على أنفسهم . قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، وقال الفراء : إن أصله : يا وي لنا ، ووي بمعنى : الحزن كأنه قال : يا حزن لنا . قال النحاس : ولو كان كما قال لكان منفصلاً ، وهو في المصحف متصل ، ولا نعلم أحداً يكتبه إلا متصلاً ، وجملة { هذا يَوْمُ الدين } تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم ، والدين : الجزاء ، فكأنهم قالوا : هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا من الكفر ، والتكذيب للرسل ، فأجاب عليهم الملائكة بقولهم : { هذا يَوْمُ الفصل الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } ، ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض ، والفصل : الحكم ، والقضاء؛ لأنه يفصل فيه بين المحسن ، والمسيء .
وقوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم } هو أمر من الله سبحانه للملائكة بأن يحشروا المشركين ، وأزواجهم ، وهم : أشباههم في الشرك ، والمتابعون لهم في الكفر ، والمشايعون لهم في تكذيب الرسل ، كذا قال قتادة ، وأبو العالية . وقال الحسن ، ومجاهد : المراد بأزواجهم : نساؤهم المشركات الموافقات لهم على الكفر ، والظلم . وقال الضحاك : أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كلّ كافر مع شيطانه ، وبه قال مقاتل { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } من الأصنام ، والشياطين ، وهذا العموم المستفاد من « ما » الموصولة ، فإنها عبارة عن المعبودين ، لا عن العابدين ، كما قيل - مخصوص؛ لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح ، ومنهم من عبد الملائكة ، فيخرجون بقوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] ، ووجه حشر الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها ، وتخجيلهم ، وإظهار أنها لا تنفع ، ولا تضرّ . { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } أي : عرّفوا هؤلاء المحشورين طريق النار ، وسوقوهم إليها ، يقال : هديته الطريق ، وهديته إليها ، أي : دللته عليها ، وفي هذا تهكم بهم .
{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } أي : احبسوهم ، يقال : وقفت الدابة أقفها وقفاً ، فوقفت هي وقوفاً يتعدّى ، ولا يتعدّى ، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم ، أي : وقفوهم للحساب ، ثم سوقوهم إلى النار بعد ذلك ، وجملة { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } تعليل للجملة الأولى . قال الكلبي : أي : مسئولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم . وقال الضحاك : عن خطاياهم ، وقيل : عن لا إله إلاّ الله ، وقيل : عن ظلم العباد ، وقيل : هذا السؤال هو المذكور بعد هذا بقوله : { مَا لَكُمْ لاَ تناصرون } أي : أيّ شيء لكم لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا ، وهذا توبيخ لهم ، وتقريع وتهكم بهم ، وأصله تتناصرون ، فطرحت إحدى التاءين تخفيفاً . قرأ الجمهور { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } بكسر الهمزة ، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها .

قال الكسائي : أي : لأنهم ، أو بأنهم ، وقيل : الإشارة بقوله : { مَا لَكُمْ لاَ تناصرون } إلى قول أبي جهل يوم بدر : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] . ثم أضرب سبحانه عما تقدّم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك ، فقال : { بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } أي : منقادون لعجزهم عن الحيلة . قال قتادة : مستسلمون في عذاب الله . وقال الأخفش : ملقون بأيديهم ، يقال : استسلم للشيء : إذا انقاد له وخضع .
{ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } أي : أقبل بعض الكفار على بعض يتساءلون . قيل : هم الأتباع ، والرّؤساء يسأل بعضهم بعضاً سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة . وقال مجاهد : هو قول الكفار للشياطين . وقال قتادة : هو قول الإنس للجنّ ، والأوّل أولى لقوله : { قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } أي : كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين ، أي : من جهة الحقّ ، والدين ، والطاعة ، وتصدّونا عنها . قال الزجاج : كنتم تأتوننا من قبل الدين ، فتروننا أن الدين ، والحق ما تضلوننا به ، واليمين عبارة عن الحق ، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن إبليس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم } [ الأعراف : 17 ] قال الواحدي : قال أهل المعاني : إن الرّؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق ، فوثقوا بأيمانهم : فمعنى { تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } أي : من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها ، فوثقنا بها . قال : والمفسرون على القول الأوّل . وقيل : المعنى : تأتوننا عن اليمين التي نحبها ، ونتفاءل بها ، لتغرّونا بذلك عن جهة النصح ، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين ، وتسميه السانح . وقيل : اليمين بمعنى : القوّة ، أي : تمنعوننا بقوّة ، وغلبة ، وقهر كما في قوله : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } [ الصافات : 93 ] أي : بالقوّة ، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، وكذلك جملة { قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ والمعنى : أنه قال الرؤساء ، أو الشياطين لهؤلاء القائلين : كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين ، ولم نمنعكم من الإيمان . والمعنى : أنكم لم تكونوا مؤمنين قطّ حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر ، بل كنتم من الأصل على الكفر ، فأقمتم عليه .
{ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان } من تسلط بقهر ، وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ، ونخرجكم من الكفر { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طاغين } أي : متجاوزين الحدّ في الكفر ، والضلال ، وقوله : { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ } من قول المتبوعين ، أي : وجب علينا ، وعليكم ، ولزمنا قول ربنا ، يعنون قوله تعالى : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] إنا لذائقو العذاب ، أي : إنا جميعاً لذائقو العذاب الذي ورد به الوعيد . قال الزجاج : أي : إن المضلّ ، والضّال في النار { فأغويناكم } أي : أضللناكم عن الهدى ، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغيّ ، وزينا لكم ما كنتم عليه من الكفر { إِنَّا كُنَّا غاوين } فلا عتب علينا في تعرّضنا لإغوائكم؛ لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية؛ ومعنى الآية : أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية ، فأقرّوا ها هنا بأنهم تسببوا لإغوائهم ، لكن لا بطريق القهر ، والغلبة ، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم ، وغلبوهم ، فقالوا : { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مّن سلطان } .

ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع ، والمتبوعين بقوله : { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } كما كانوا مشتركين في الغواية { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين } أي : إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين ، أي : أهل الإجرام ، وهم المشركون كما يفيده قوله سبحانه : { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } أي : إذا قيل لهم : قولوا : لا إله إلاّ الله يستكبرون عن القبول ، ومحل يستكبرون النصب على أنه خبر كان ، أو الرفع على أنه خبر إن ، وكان ملغاة { وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } يعنون : النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : لقول شاعر مجنون ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { بَلْ جَاء بالحق } يعني : القرآن المشتمل على التوحيد ، والوعد ، والوعيد { وَصَدَّقَ المرسلين } أي : صدّقهم فيما جاءوا به من التوحيد ، والوعيد ، وإثبات الدار الآخرة ، ولم يخالفهم ، ولا جاء بشيء لم تأت به الرسل قبله { إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم } أي : إنكم بسبب شرككم ، وتكذيبكم لذائقوا العذاب الشديد الألم . قرأ الجمهور { لذائقوا } بحذف النون ، وخفض العذاب ، وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم ، وأبو السماك بحذفها ، ونصب العذاب ، وأنشد سيبويه في مثل هذه القراءة بالحذف للنون ، والنصب للعذاب قول الشاعر :
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلاً
وأجاز سيبويه أيضاً : « والمقيمي الصلاة » بنصب الصلاة على هذا التوجيه . وقد قرىء بإثبات النون ، ونصب العذاب على الأصل . ثم بيّن سبحانه : أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم ، فقال : { وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر ، والمعاصي ، أو إلا بما كنتم تعملون . ثم استثنى المؤمنين فقال : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } . قرأ أهل المدينة ، والكوفة { المخلصين } بفتح اللام ، أي : الذين أخلصهم الله لطاعته ، وتوحيده . وقرأ الباقون بكسرها ، أي : الذين أخلصوا لله العبادة ، والتوحيد ، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في { تجزون } لجميع المكلفين . أو منقطع ، أي : لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المخلصين ، وهو : مبتدأ ، وخبره قوله : { لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } أي : لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه ، وطيبه ، وعدم انقطاعه . قال قتادة : يعني : الجنة ، وقيل : معلوم الوقت ، وهو أن يعطوا منه بكرة ، وعشية كما في قوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 62 ] وقيل : هو المذكور في قوله بعده : { فواكه } فإنه بدل من { رزق } ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو فواكه ، وهذا هو الظاهر .

والفواكه جمع الفاكهة ، وهي : الثمار كلها رطبها ، ويابسها ، وخصص الفواكه بالذكر؛ لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل . والأولى أن يقال : إن تخصيصها بالذكر؛ لأنها أطيب ما يأكلونه ، وألذّ ما تشتهيه أنفسهم . وقيل : إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة ، فذكرها يغني عن ذكر غيرها ، وجملة : { وَهُم مُّكْرَمُونَ } في محل نصب على الحال ، أي : ولهم من الله عزّ وجلّ إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده ، وسماع كلامه ، ولقائه في الجنة . قرأ الجمهور { مكرمون } بتخفيف الراء . وقرأ أبو مقسم بتشديدها ، وقوله : { فِي جنات النعيم } يجوز أن يتعلق ب { مكرمون } ، وأن يكون خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً ، وقوله : { على سُرُرٍ } يحتمل أن يكون حالاً ، وأن يكون خبراً ثالثاً ، وانتصاب { متقابلين } على الحالية من الضمير في { مكرمون } ، أو من الضمير في متعلق على { سرر } . قال عكرمة ، ومجاهد : معنى التقابل : أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض ، وقيل : إنها تدور بهم الأسرّة كيف شاءوا ، فلا يرى بعضهم قفا بعض . قرأ الجمهور { سرر } بضم الراء . وقرأ أبو السماك بفتحها ، وهي لغة بعض تميم .
ثم ذكر سبحانه صفة أخرى لهم ، فقال : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مّن مَّعِينٍ } ، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير { متقابلين } ، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكلّ إناء فيه الشراب ، فإن كان فارغاً ، فليس بكأس . وقال الضحاك ، والسدّي : كل كأس في القرآن ، فهي الخمر . قال النحاس : وحكى من يوثق به من أهل اللغة : أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر : كأس ، فإذا لم يكن فيه خمر ، فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام : مائدة ، فإذا لم يكن عليه طعام : لم يقل له مائدة ، و { من معين } متعلق بمحذوف هو : صفة لكأس . قال الزجاج : { بكأس من معين } ، أي : من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض . والمعين : الماء الجاري ، وقوله : { بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين } صفتان لكأس . قال الزجاج : أي : ذات لذّة ، فحذف المضاف ، ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذّة ، فلا يحتاج إلى تقدير المضاف . قال الحسن : خمر الجنة أشدّ بياضاً من اللبن له لذّة لذيذة ، يقال : شراب لذّ ، ولذيذ كما يقال : نبات غضّ وغضيض ، ومنه قول الشاعر :
بحديثها اللذّ الذي لو كلمت ... أسد الفلاة به أتين سراعا
واللذيذ : كل شيء مستطاب ، وقيل : البيضاء : هي : التي لم يعتصرها الرجال . ثم وصف هذه الكأس من الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا ، فقال : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي : لا تغتال عقولهم ، فتذهب بها ، ولا يصيبهم منها مرض ، ولا صداع { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } أي : يسكرون ، يقال : نزف الشارب ، فهو منزوف ، ونزيف إذا سكر ، ومنه قول امرىء القيس :

وإذا هي تمشي كمشي النزي ... ف يصرعه بالكثيب البهر
وقال أيضاً :
نزيف إذا قامت لوجه تمايلت ... ومنه قول الآخر :
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
قال الفراء : العرب تقول : ليس فيها غيلة ، وغائلة ، وغول سواء . وقال أبو عبيدة : الغول أن تغتال عقولهم ، وأنشد قول مطيع بن إياس :
وما زالت الكأس تغتالهم ... وتذهب بالأوّل الأوّل
وقال الواحدي : الغول حقيقته : الإهلاك ، يقال : غاله غولاً ، واغتاله ، أي : أهلكه ، والغول كل ما اغتالك ، أي : أهلكك . قرأ الجمهور { ينزفون } بضم الياء ، وفتح الزاي مبنياً للمفعول . وقرأ حمزة ، والكسائي بضم الياء ، وكسر الزاي من أنزف الرجل : إذا ذهب عقله من السكر فهو : نزيف ، ومنزوف ، ومنزف ، يقال : أحصد الزرع : إذا حان حصاده ، وأقطف الكرم : إذا حان قطافه . قال الفراء : من كسر الزاي ، فله معنيان ، يقال : أنزف الرجل : إذا فنيت خمره ، وأنزف : إذا ذهب عقله من السكر ، وتحمل هذه القراءة على معنى : لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة . قال النحاس : والقراءة الأولى أبين ، وأصحّ في المعنى؛ لأن معنى { لا ينزفون } عند جمهور المفسرين : لا تذهب عقولهم ، فنفى الله عزّ وجلّ عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع ، والسكر . وقال الزجاج ، وأبو علي الفارسي : معنى لا ينزفون بكسر الزاي : لا يسكرون . قال المهدوي : لا يكون معنى ينزفون : يسكرون ، لأن قبله { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } أي : لا تغتال عقولهم ، فيكون تكريراً ، وهذا يقوّي ما قاله قتادة : إن الغول وجع البطن ، وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد . وقال الحسن : إن الغول الصداع . وقال ابن كيسان : هو : المغص ، فيكون معنى الآية : لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص ، أو وجع بطن ، أو صداع ، أو عربدة ، أو لغو ، أو تأثيم ، ولا هم يسكرون منها . ويؤيد هذا أن أصل الغول : الفساد الذي يلحق في خفاء ، يقال : اغتاله اغتيالاً : إذا أفسد عليه أمره في خفية ، ومنه الغول ، والغيلة القتل خفية . وقرأ ابن أبي إسحاق « ينزفون » بفتح الياء ، وكسر الزاي . وقرأ طلحة بن مصرّف بفتح الياء وضم الزاي . ولما ذكر سبحانه صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم ، فقال : { وَعِندَهُمْ قاصرات الطرف } أي : نساء قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم ، والقصر : معناه الحبس ، ومنه قول امرىء القيس :
من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذرّ فوق الأتب منها لأثرا
والمحول الصغير من الذرّ ، والأتب القميص ، وقيل : القاصرات : المحبوسات على أزواجهنّ ، والأوّل أولى؛ لأنه قال : قاصرات الطرف . ولم يقل : مقصورات . والعين : عظام العيون جمع عيناء ، وهي : الواسعة العين .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34