كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

قال الفراء : السفرة هنا الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله ، من السفارة وهو : السعي بين القوم ، وأنشد :
فما أدع السفارة بين قومي ... ولا أمشي بغير أب نسيب
قال الزجاج : وإنما قيل : للكتاب سفر بكسر السين ، والكاتب سافر؛ لأن معناه أنه بين ، يقال أسفر الصبح : إذا أضاء ، وأسفرت المرأة : إذا كشفت النقاب عن وجهها ، ومنه سفرت بين القوم أسفر سفارة أي : أصلحت بينهم . قال مجاهد : هم الملائكة الكرام الكاتبون لأعمال العباد . وقال قتادة : السفرة هنا هم القراء؛ لأنهم يقرءون الأسفار . وقال وهب بن منبه : هم أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ثم أثنى سبحانه على السفرة فقال : { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } أي كرام على ربهم ، كذا قال الكلبي . وقال الحسن : كرام عن المعاصي ، فهم يرفعون أنفسهم عنها . وقيل : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو قضى حاجته . وقيل : يؤثرون منافع غيرهم على منافعهم . وقيل : يتكرّمون على المؤمنين بالاستغفار لهم . والبررة : جمع بارّ مثل : كفر وكافر ، أي : أتقياء مطيعون لربهم صادقون في إيمانهم ، وقد تقدّم تفسيره .
{ قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ } أي : لعن الإنسان الكافر ما أشدّ كفره ، وقيل : عذب ، قيل : والمراد به عتبة بن أبي لهب ، ومعنى : { ما أكفره } : التعجب من إفراط كفره . قال الزجاج : معناه اعجبوا أنتم من كفره . وقيل : المراد بالإنسان من تقدم ذكره في قوله : { أَمَّا مَنِ استغنى } وقيل : المراد به الجنس ، وهذا هو الأولى ، فيدخل تحته كل كافر شديد الكفر ، ويدخل تحته من كان سبباً لنزول الآية دخولاً أوّلياً . ثم ذكر سبحانه ما كان ينبغي لهذا الكافر أن ينظر فيه حتى ينزجر عن كفره ، ويكفّ عن طغيانه فقال : { مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ } أي : من أيّ شيء خلق الله هذا الكافر ، والاستفهام للتقرير . ثم فسر ذلك فقال : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } أيّ : من ماء مهين ، وهذا تحقير له . قال الحسن : كيف يتكبر من خرج من مخرج البول مرّتين ، ومعنى { فَقَدَّرَهُ } أي : فسوّاه ، وهيأه لمصالح نفسه ، وخلق له اليدين ، والرجلين ، والعينين ، وسائر الآلات ، والحواسّ . وقيل : قدّره أطواراً من حال إلى حال ، نطفة ثم علقة إلى أن تمّ خلقه . { ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } أي : يسرّ له الطريق إلى الخير والشرّ . وقال السديّ ، ومقاتل ، وعطاء ، وقتادة : يسره للخروج من بطن أمه ، والأوّل أولى . ومثله قوله : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] وانتصاب { السبيل } بمضمر يدل عليه الفعل المذكور أي ، يسر السبيل يسره . { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي : جعله بعد أن أماته ذا قبر يوارى فيه إكراماً له ، ولم يجعله مما يلقى على وجه الأرض تأكله السباع ، والطير ، كذا قال الفرّاء وقال أبو عبيدة : جعل له قبراً وأمر أن يقبر فيه .

وقال أقبره ، ولم يقل قبره؛ لأن القابر هو الدافن بيده ، ومنه قول الأعشى :
لو أسندت ميتاً إلى صدرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر
{ ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ } أي : ثم إذا شاء إنشاره أنشره أي أحياه بعد موته ، وعلق الإنشار بالمشيئة للدلالة على أن وقته غير متعين ، بل هو تابع للمشيئة . قرأ الجمهور : { أنشره } بالألف ، وروى أبو حيوة عن نافع ، وشعيب بن أبي حمزة « نشره » بغير ألف ، وهما : لغتان فصيحتان . { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ } كلا ردع ، وزجر للإنسان الكافر أي : ليس الأمر كما يقول . ومعنى : لما يقض ما أمره ، لم يقض ما أمره الله به من العمل بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وقيل : المراد الإنسان على العموم ، وأنه لم يفعل ما أمره الله به مع طول المدّة؛ لأنه لا يخلو من تقصير . قال الحسن : أي : حقاً لم يعمل ما أمر به . وقال ابن فورك : أي : كلا لما يقض لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان ، بل أمره بما لم يقض له . قال ابن الأنباري : الوقف على « كلا » قبيح ، والوقف على { أمره } جيد ، و « كلا » على هذا بمعنى حقاً . وقيل المعنى : لما يقض جميع أفراد الإنسان ما أمره ، بل أخلّ به : بعضها بالكفر ، وبعضها بالعصيان ، وما قضى ما أمره الله إلاّ القليل .
ثم شرع سبحانه في تعداد نعمه على عباده؛ ليشكروها ، وينزجروا عن كفرانها بعد ذكر النعم المتعلقة بحدوثه فقال : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } أي : ينظر كيف خلق الله طعامه الذي جعله سبباً لحياته؟ وكيف هيأ له أسباب المعاش يستعدّ بها للسعادة الأخروية؟ قال مجاهد : معناه ، فلينظر الإنسان إلى طعامه أي : إلى مدخله ، ومخرجه ، والأوّل أولى . ثم بيّن ذلك سبحانه فقال : { أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً } قرأ الجمهور : ( إنا ) بالكسر على الاستئناف . وقرأ الكوفيون ، ورويس عن يعقوب بالفتح على أنه بدل من { طعامه } بدل اشتمال لكون نزول المطر سبباً لحصول الطعام ، فهو كالمشتمل عليه ، أو بتقدير لام العلة . قال الزجاج : الكسر على الابتداء والاستئناف ، والفتح على معنى البدل من الطعام . المعنى : فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا الماء صباً ، وأراد بصبّ الماء : المطر . وقرأ الحسن بن عليّ بالفتح والإمالة : { ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } أي : شققناها بالنبات الخارج منها بسبب نزول المطر شقاً بديعاً لائقاً بما يخرج منه في الصغر ، والكبر ، والشكل ، والهيئة .
ثم بيّن سبب هذا الشقّ ، وما وقع لأجله ، فقال : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } يعني : الحبوب الذي يتغذى بها ، والمعنى : أن النبات لا يزال ينمو ، ويتزايد إلى أن يصير { حباً } ، وقوله : { وَعِنَباً } معطوف على حباً أي : وأنبتنا فيها عنباً ، قيل : وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ، فلا ضير في خلوّ إنبات العنب عن شقّ الأرض ، والقضب : هو القتّ الرطب الذي يقضب مرّة بعد أخرى تعلف به الدواب ، ولهذا سمي قضباً على مصدر قضبه أي : قطعه كأنه لتكرّر قطعها نفس القطع .

قال الخليل : القضب الفصفصة الرطبة ، فإذا يبست فهي : القتّ . قال في الصحاح : والقضبة ، والقضب الرطبة ، قال : والموضع الذي ينبت فيه مقضبة . قال القتيبي ، وثعلب : وأهل مكة يسمون العنب القضب . والزيتون هو ما يعصر منه الزيت ، وهو شجرة الزيتون المعروفة ، والنخل هو جمع نخلة { وَحَدَائِقَ غُلْباً } جمع حديقة ، وهي البستان ، والغلب : العظام الغلاظ الرقاب . وقال مجاهد ، ومقاتل : الغلب الملتفّ بعضها ببعض ، يقال : رجل أغلب : إذا كان عظيم الرقبة ، ويقال للأسد : أغلب؛ لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلاّ جميعاً . قال العجاج :
مازلت يوم البين ألوي صلبي ... والرأس حتى صرت مثل الأغلب
وجمع أغلب وغلباء : غلب ، كما جمع أحمر ، وحمراء على حمر . وقال قتادة ، وابن زيد : الغلب النخل الكرام . وعن ابن زيد أيضاً ، وعكرمة : هي غلاظ الأوساط ، والجذوع . والفاكهة : ما يأكله الإنسان من ثمار الأشجار كالعنب ، والتين ، والخوخ ، ونحوها . والأبّ : كل ما أنبتت الأرض مما لا يأكله الناس ، ولا يزرعونه من الكلأ ، وسائر أنواع المرعى ، ومنه قول الشاعر :
جدّنا قيس ونجد دارنا ... ولنا الأبّ بها والمكرع
قال الضحاك : الأبّ كل شيء ينبت على وجه الأرض . وقال ابن أبي طلحة : هو الثمار الرطبة . وروي عن الضحاك أيضاً أنه قال : هو التين خاصة ، والأوّل أولى . ثم شرع سبحانه في بيان أحوال المعاد فقال : { فَإِذَا جَاءتِ الصاخة } يعني : صيحة يوم القيامة ، وسميت صاخة لشدّة صوتها؛ لأنها تصخ الأذان : أي تصمها فلا تسمع . وقيل : سميت صاخة؛ لأنها يصيخ لها الأسماع ، من قولك : أصخ إلى كذا أي : استمع إليه ، والأوّل أصح . قال الخليل : الصاخة صيحة تصخ الآذان حتى تصمها بشدّة وقعها ، وأصل الكلمة في اللغة مأخوذة من الصكّ الشديد ، يقال صخه بالحجر : إذا صكه بها ، وجواب إذا محذوف يدل عليه قوله : { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي : فإذا جاءت الصاخة اشتغل كل أحد بنفسه ، والظرف في قوله : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ } إما بدل من إذا جاءت ، أو منصوب بمقدّر أي : أعني ، ويكون تفسيراً للصاخة ، أو بدلاً منها مبنيّ على الفتح ، وخصّ هؤلاء بالذكر؛ لأنهم أخصّ القرابة ، وأولاهم بالحنوّ والرأفة ، فالفرار منهم لا يكون إلاّ لهول عظيم ، وخطب فظيع . { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي : لكل إنسان يوم القيامة شأن يشغله عن الأقرباء ، ويصرفه عنهم . وقيل : إنما يفرّ عنهم حذراً من مطالبتهم إياه بما بينهم ، وقيل : يفرّ عنهم؛ لئلا يروا ما هو فيه من الشدّة . وقيل : لعلمه أنهم لا ينفعونه ، ولا يغنون عنه شيئًا ، كما قال تعالى :

{ يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } [ الدخان : 41 ] والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب الفرار . قال ابن قتيبة : { يغنيه } أي : يصرفه عن قرابته ، ومنه يقال : أغن عني وجهك أي : اصرفه . قرأ الجمهور ( يغنيه ) بالغين المعجمة . وقرأ ابن محيصن بالعين المهملة مع فتح الياء أي : يهمه ، من عناه الأمر إذا أهمه .
{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } { وجوه } مبتدأ ، وإن كان نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل ، وهو من مسوّغات الابتداء بالنكرة ، ويومئذ متعلق به ، ومسفرة خبره ، ومعنى { مسفرة } : مشرقة مضيئة ، وهي : وجوه المؤمنين؛ لأنهم قد علموا إذ ذاك مالهم من النعيم ، والكرامة ، يقال أسفر الصبح : إذا أضاء . قال الضحاك : مسفرة من آثار الوضوء ، وقيل : من قيام الليل { ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي : فرحة بما نالته من الثواب الجزيل . ثم لما فرغ من ذكر حال المؤمنين ذكر حال الكفار فقال : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } أي : غبار وكدورة لما تراه مما أعدّه الله لها من العذاب . { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي : يغشاها ويعلوها سواد وكسوف . وقيل : ذلة . وقيل : شدّة ، والقتر في كلام العرب الغبار ، كذا قال أبو عبيدة ، وأنشد قول الفرزدق :
متوّج برداء الملك يتبعه ... فوج ترى فوقه الرايات والقترا
ويدفع ما قاله أبو عبيدة تقدم ذكر الغبرة ، فإنها واحدة الغبار . وقال زيد بن أسلم : القترة ما ارتفعت إلى السماء ، والغبرة : ما انحطت إلى الأرض { أولئك } يعني : أصحاب الوجوه { هُمُ الكفرة الفجرة } أي : الجامعون بين الكفر بالله ، والفجور . يقال فجر ، أي فسق وفجر ، أي : كذب ، وأصله الميل ، والفاجر المائل عن الحق .
وقد أخرج الترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : « أنزلت { عبس وتولى } في ابن أمّ مكتوم الأعمى ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول : يا رسول الله ، أرشدني ، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : أترى بما أقول بأساً؟ فيقول لا ، ففي هذا أنزلت» . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى عن أنس قال : «جاء ابن أمّ مكتوم ، وهو يكلم أبيّ بن خلف ، فأعرض عنه ، فأنزل الله : { عَبَسَ وتولى أَن جَاءهُ الأعمى } فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه» . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يناجي عتبة بن ربيعة ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبا جهل بن هشام ، وكان يتصدّى لهم كثيراً ، ويحرص عليهم أن يؤمنوا ، فأقبل عليهم رجل أعمى يقال له : عبد الله بن أمّ مكتوم يمشي ، وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرىء النبيّ صلى الله عليه وسلم آية من القرآن قال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبس في وجهه ، وتولى ، وكره كلامه ، وأقبل على الآخرين ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نجواه ، وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله ببعض بصره ، ثم خفق برأسه ، ثم أنزل الله { عَبَسَ وتولى } الآية ، فلما نزل فيه ما نزل أكرمه نبيّ ، وكلمه وقال له :

« ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ » وإذا ذهب من عنده قال : « هل لك حاجة في شيء؟ » قال ابن كثير : فيه غرابة ، وقد تكلم في إسناده .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } قال : كتبة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { بِأَيْدِى سَفَرَةٍ } قال : هم : بالنبطية القرّاء . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } قال : الملائكة : وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الذي يقرأ القرآن ، وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه ، وهو عليه شاق له أجران » وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } قال : يعني : بذلك خروجه من بطن أمه يسره له .
وأخرج ابن المنذر عن عبد الله بن الزبير في قوله : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } قال : إلى مدخله ، ومخرجه . وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } قال : إلى خرئه . وأخرج ابن المنذر عنه : { أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبّاً } قال : المطر { ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } قال : عن النبات . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَقَضْباً } قال : الفصفصة ، يعني : القتّ { وَحَدَائِقَ غُلْباً } قال : طوالاً { وفاكهة وَأَبّاً } قال : الثمار الرطبة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الحدائق كل ملتفّ ، والغلب ما غلظ ، والأبّ ما أنبتت الأرض مما تأكله الدوابّ ، ولا يأكله الناس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً { وَحَدَائِقَ غُلْباً } قال : شجر في الجنة يستظل به لا يحمل شيئًا . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : الأبّ الكلأ والمرعى . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق عن الأبّ ما هو؟ فقال : أيّ سماء تظلني ، وأيّ أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله مالا أعلم؟ . وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن يزيد : أن رجلاً سأل عمر عن قوله : { وَأَبّاً } فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرّة . وأخرج ابن سعد ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، والخطيب عن أنس أن عمر قرأ على المنبر : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً } إلى قوله : { وَأَبّاً } قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأبّ؟ ثم رفض عصى كانت في يده فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ ، اتبعوا ما بين لكم من هذا الكتاب ، فاعملوا عليه ، وما لم تعرفوه ، فكلوه إلى ربه .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : الصاخة من أسماء يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مُّسْفِرَةٌ } قال : مشرقة ، وفي قوله : { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } قال : تغشاها شدّة وذلة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه : { قَتَرَةٌ } قال : سواد الوجه .

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

قوله : { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } ارتفاع الشمس بفعل محذوف يفسره ما بعده على الاشتغال ، وهذا عند البصريين . وأما عند الكوفيين والأخفش ، فهو مرتفع على الابتداء . والتكوير الجمع ، وهو مأخوذ من كار العمامة على رأسه يكورها . قال الزجاج : لفت ، كما تلف العمامة ، يقال : كورت العمامة على رأسي أكورها كوراً ، وكوّرتها تكويراً : إذا لففتها . قال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة تلف ، فتجمع . قال الربيع بن خثيم : { كورت } أي : رمى بها ، ومنه كورته فتكوّر أي : سقط . وقال مقاتل ، وقتادة ، والكلبي : ذهب ضوؤها . وقال مجاهد : اضمحلت . قال الواحدي : قال المفسرون : تجمع الشمس بعضها إلى بعض ثم تلف ، فيرمى بها . فالحاصل أن التكوير إما بمعنى لفّ جرمها ، أو لفّ ضوئها ، أو الرمي بها { وَإِذَا النجوم انكدرت } أي : تهافتت ، وانقضت ، وتناكرت ، يقال : انكدر الطائر من الهواء إذا انقضّ ، والأصل في الانكدار الانصباب . قال الخليل : يقال : انكدر عليهم القوم إذا جاءوا أرسالاً ، فانصبوا عليهم . قال أبو عبيدة : انصبت ، كما ينصب العقاب . قال الكلبي وعطاء : تمطر السماء يومئذٍ نجوماً ، فلا يبقى نجم في السماء إلاّ وقع على الأرض ، وقيل : انكدارها طمس نورها . { وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ } أي : قلعت عن الأرض ، وسيرت في الهواء ، ومنه قوله : { وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] .
{ وَإِذَا العشار عُطّلَتْ } العشار : النوق الحوامل التي في بطونها أولادها الواحدة عشراء ، وهي التي قد أتى عليها في الحمل عشرة أشهر ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع . وخصّ العشار لأنها أنفس مال عند العرب ، وأعزّه عندهم ، ومعنى { عطلت } : تركت هملاً بلا راع ، وذلك لما شاهدوا من الهول العظيم . قيل : وهذا على وجه المثل لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء ، بل المراد : أنه لو كان للرجل ناقة عشراء في ذلك اليوم ، أو نوق عشار لتركها ، ولم يلتفت إليها اشتغالاً بما هو فيه من هول يوم القيامة ، وسيأتي آخر البحث إن شاء الله ما يفيد أن هذا في الدنيا . وقيل : العشار السحاب ، فإن العرب تشبهها بالحامل ، ومنه قوله : { فالحاملات وِقْراً } [ الذاريات : 2 ] وتعطيلها عدم إمطارها قرأ الجمهور : { عطلت } بالتشديد ، وقرأ ابن كثير في رواية عنه بالتخفيف . وقيل : المراد أن الديار تعطل ، فلا تسكن . وقيل : الأرض التي تعشر زرعها تعطل ، فلا تزرع .
{ وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } الوحوش ما توحش من دوابّ البرّ ، ومعنى { حشرت } : بعثت حتى يقتص بعضها من بعض ، فيقتصّ للجماء من القرناء . وقيل : حشرها موتها ، وقيل : إنها مع نفرتها اليوم من الناس وتبدّدها في الصحارى تضم ذلك اليوم إليهم . قرأ الجمهور { حشرت } بالتخفيف ، وقرأ الحسن ، وعمرو بن ميمون بالتشديد . { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } أي : أوقدت ، فصارت ناراً تضطرم .

وقال الفرّاء : ملئت بأن صارت بحراً واحداً ، وكثر ماؤها ، وبه قال الربيع بن خثيم ، والكلبي ، ومقاتل ، والحسن ، والضحاك . وقيل : أرسل عذبها على مالحها ، ومالحها على عذبها حتى امتلأت ، وقيل : فجرت ، فصارت بحراً واحداً . وروي عن قتادة ، وابن حبان أن معنى الآية : يبست ، ولا يبقى فيها قطرة ، يقال : سجرت الحوض أسجره سجراً إذا ملأته . وقال القشيري : هو من سجرت التنور أسجره سجراً إذا أحميته . قال ابن زيد ، وعطية ، وسفيان ، ووهب ، وغيرهم : أوقدت ، فصارت ناراً ، وقيل : معنى سجرت أنها صارت حمراء كالدم ، من قولهم عين سجراء أي : حمراء . قرأ الجمهور { سجرت } بتشديد الجيم . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بتخفيفها .
{ وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } أي : قرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ، وقرن بين رجل السوء مع رجل السوء في النار . وقال عطاء : زوّجت نفوس المؤمنين بالحور العين ، وقرنت نفوس الكافرين بالشياطين . وقيل : قرن كل شكل إلى شكله في العمل ، وهو راجع إلى القول الأوّل . وقيل : قرن كل رجل إلى من كان يلازمه من ملك أو سلطان ، كما في قوله : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم } [ الصافات : 22 ] وقال عكرمة : { وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } يعني : قرنت الأرواح بالأجساد . وقال الحسن : ألحق كل امرىء بشيعته اليهود باليهود ، والنصارى بالنصارى ، والمجوس بالمجوس ، وكل من كان يعبد شيئًا من دون الله يلحق بعضهم ببعض ، والمنافقون بالمنافقين ، والمؤمنون بالمؤمنين . وقيل : يقرن الغاوي بمن أغواه من شيطان ، أو إنسان ، ويقرن المطيع بمن دعاه إلى الطاعة من الأنبياء والمؤمنين . وقيل : قرنت النفوس بأعمالها { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ } أي : المدفونة حية ، وقد كان العرب إذا ولدت لأحدهم بنت دفنها حية مخافة العار ، أو الحاجة ، يقال : وأد يئد وأداً ، فهو وائد ، والمفعول به موءود ، وأصله مأخوذ من الثقل لأنها تدفن ، فيطرح عليها التراب ، فيثقلها فتموت ، ومنه : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] أي : لا يثقله ، ومنه قول متمم بن نويرة :
وموءودة مقبورة في مغارة ... ومنه قول الراجز :
سميتها إذ ولدت تموت ... والقبر صهر ضامن رميت
قرأ الجمهور : { الموءودة } بهمزة بين واوين ساكنين كالموعودة . وقرأ البزي في رواية عنه بهمزة مضمومة ، ثم واو ساكنة . وقرأ الأعمش : « المودة » بزنة الموزة . وقرأ الجمهور { سئلت } مبنياً للمفعول ، وقرأ الحسن بكسر السين من سال يسيل . وقرأ الجمهور { قتلت } بالتخفيف مبنياً للمفعول ، وقرأ أبو جعفر بالتشديد على التكثير . وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، وابن عباس سألت مبنياً للفاعل : « قتلت » بضم التاء الأخيرة . ومعنى { سئلت } على قراءة الجمهور أن توجيه السؤال إليها لإظهار كمال الغيظ على قاتلها حتى كان لا يستحق أن يخاطب ، ويسأل عن ذلك ، وفيه تبكيت لقاتلها ، وتوبيخ له شديد . قال الحسن : أراد الله أن يوبخ قاتلها لأنها قتلت بغير ذنب ، وفي مصحف أبيّ « وإذا الموءودة سألت بأيّ ذنب قتلتني » .

{ وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ } يعني : صحائف الأعمال نشرت للحساب؛ لأنها تطوى عند الموت ، وتنشر عند الحساب ، فيقف كل إنسان على صحيفته ، فيعلم ما فيها ، فيقول : { مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] . قرأ نافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبو عمرو { نشرت } بالتخفيف . وقرأ الباقون بالتشديد على التكثير { وَإِذَا السماء كُشِطَتْ } الكشط قلع عن شدّة التزاق ، فالسماء تكشط ، كما يكشط الجلد عن الكبش ، والقشط بالقاف لغة في الكشط ، وهي : قراءة ابن مسعود . قال الزجاج : قلعت كما يقلع السقف . وقال الفراء : نزعت ، فطويت . وقال مقاتل : كشفت عما فيها . قال الواحدي : ومعنى الكشط رفعك شيئًا عن شيء قد غطاه .
{ وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ } أي : أوقدت لأعداء الله إيقاداً شديداً . قرأ الجمهور « سعرت » بالتخفيف ، وقرأ نافع ، وابن ذكوان ، وحفص بالتشديد؛ لأنها أوقدت مرّة بعد مرّة . قال قتادة : سعرها غضب الله ، وخطايا بني آدم . { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } أي : قرّبت إلى المتقين ، وأدنيت منهم . قال الحسن : إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها . وقال ابن زيد : معنى { أزلفت } تزينت . والأوّل أولى لأن الزلفى في كلام العرب القرب . قيل : هذه الأمور الاثنا عشر : ستّ منها في الدنيا ، وهي من أوّل السورة إلى قوله : { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } ، وستّ في الآخرة وهي : { وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } إلى هنا . وجواب الجميع قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } على أن المراد الزمان الممتدّ من الدنيا إلى الآخرة ، لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كلّ جزء من أجزاء هذا الوقت الممتدّ ، بل المراد : علمت ما أحضرته عند نشر الصحف يعني : ما عملت من خير ، أو شرّ ، ومعنى { ما أحضرت } : ما أحضرت من أعمالها ، والمراد حضور صحائف الأعمال ، أو حضور الأعمال نفسها ، كما ورد أن الأعمال تصوّر بصور تدلّ عليها وتعرف بها ، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم المذكور لفرد من النفوس ، أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها من الظهور ، والوضوح بحيث لا يخفى على أحد ، ويدلّ على هذا قوله : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا } [ آل عمران : 30 ] وقيل : يجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كلّ نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت ، فكيف وكلّ نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت ، وربما ندم الإنسان على فعله . { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس } لا زائدة ، كما تقدّم تحقيقه ، وتحقيق ما فيه من الأقوال في أوّل سورة القيامة أي : فأقسم بالخنس ، وهي : الكواكب وسميت الخنس من خنس : إذا تأخر لأنها تخنس بالنهار ، فتخفى ولا ترى ، وهي : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والزهرة ، وعطارد ، كما ذكره أهل التفسير .

ووجه تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم أنها تستقبل الشمس ، وتقطع المجرّة . وقال في الصحاح : الخنس الكواكب كلها لأنها تخنس في المغيب ، أو لأنها تخفى نهاراً ، أو يقال هي الكواكب السيارة منها دون الثابتة . قال الفراء : إنها الكواكب الخمسة المذكورة لأنها تخنس في مجراها ، وتكنس أي : تستتر ، كما تكنس الظباء في المغار ، ويقال : سميت خنساً لتأخرها لأنها الكواكب المتحيرة التي ترجع وتستقيم . يقال : خنس عنه يخنس خنوساً إذا تأخر ، وأخنسه غيره : إذا خلفه ومضى عنه ، والخنس : تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع قليل في الأرنبة ، ومعنى : { الجوار } أنها تجري مع الشمس والقمر ، ومعنى : { الكنس } أنها ترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها ، وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها ، وقيل : خنوسها خفاؤها بالنهار ، وكنوسها غروبها . قال الحسن ، وقتادة : هي النجوم التي تخنس بالنهار ، وإذا غربت ، والمعنى متقارب لأنها تتأخر في النهار عن البصر لخفائها فلا ترى ، وتظهر بالليل ، وتكنس في وقت غروبها . وقيل : المراد بها بقر الوحش لأنها تتصف بالخنس ، وبالجوار ، وبالكنس . وقال عكرمة : الخنس البقر ، والكنس الظباء ، فهي : تخنس إذا رأت الإنسان ، وتنقبض ، وتتأخر ، وتدخل كناسها . وقيل : هي الملائكة . والأوّل أولى لذكر الليل والصبح بعد هذا ، والكنس مأخوذ من الكناس الذي يختفى فيه الوحش ، والخنس جمع خانس وخانسة ، والكنس جمع كانس وكانسة .
{ واليل إِذَا عَسْعَسَ } قال أهل اللغة : هو من الأضداد ، يقال : عسعس الليل إذا أقبل ، وعسعس إذا أدبر ، ويدل على أن المراد هنا أدبر قوله : { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر ، كذا حكاه عنه الجوهري ، وقال الحسن : أقبل بظلامه . قال الفراء : العرب تقول : عسعس الليل إذا أقبل ، وعسعس الليل إذا أدبر ، وهذا لا ينافي ما تقدّم عنه ، لأنه حكي عن المفسرين أنهم أجمعوا على حمل معناه في هذه الآية على أدبر ، وإن كان في الأصل مشتركاً بين الإقبال والإدبار . قال المبرد : هو من الأضداد . قال : والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ، وهو : ابتداء الظلام في أوّله ، وإدباره في آخره . قال رؤبة بن العجاج :
يا هند ما أسرع ما تعسعسا ... من بعد ما كان فتى ترعرعا
وقال امرؤ القيس :
عسعس حتى لو نشاء إذ دنا ... كان لنا من ناره مقتبس
وقوله :
الماء على الربع القديم تعسعسا ... { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } التنفس في الأصل : خروج النسيم من الجوف ، وتنفس الصبح إقباله لأنه يقبل بروح ونسيم ، فجعل ذلك تنفساً له مجازاً . قال الواحدي : تنفس أي : امتدّ ضوؤه حتى يصير نهاراً ، ومنه يقال للنهار إذا زاد تنفس ، وقيل : { إِذَا تَنَفَّسَ } إذا انشقّ ، وانفلق ، ومنه تنفست القوس أي : تصدّعت .

ثم ذكر سبحانه جواب القسم فقال : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني : جبريل لكونه نزل به من جهة الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأضاف القول إلى جبريل لكونه مرسلاً به ، وقيل : المراد بالرسول في الآية محمد صلى الله عليه وسلم ، والأوّل أولى . ثم وصف الرسول المذكور بأوصاف محمودة فقال : { ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ } أي : ذي قوّة شديدة في القيام بما كلف به ، كما في قوله : { شَدِيدُ القوى } [ النجم : 5 ] ، ومعنى : { عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ } : أنه ذو رفعة عالية ، ومكانة مكينة عند الله سبحانه ، وهو في محل نصب على الحال من مكين ، وأصله الوصف ، فلما قدّم صار حالاً ، ويجوز أن يكون نعتاً لرسول ، يقال : مكن فلان عند فلان مكانة أي : صار ذا منزلة عنده ومكانة . قال أبو صالح : من مكانته عند ذي العرش أنه يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن ، ومعنى { مطاع } أنه مطاع بين الملائكة يرجعون إليه ، ويطيعونه { ثَمَّ أَمِينٍ } قرأ الجمهور بفتح { ثمّ } على أنها ظرف مكان للبعيد ، والعامل فيه مطاع ، أو ما بعده ، والمعنى : أنه مطاع في السماوات ، أو أمين فيها أي : مؤتمن على الوحي وغيره ، وقرأ هشيم ، وأبو جعفر ، وأبو حيوة بضمها على أنها عاطفة ، وكان العطف بها للتراخي في الرتبة لأن ما بعدها أعظم مما قبلها ، ومن قال : إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، فالمعنى : أنه ذو قوّة على تبليغ الرسالة إلى الأمة مطاع يطيعه ، من أطاع الله أمين على الوحي .
{ وَمَا صاحبكم بِمَجْنُونٍ } الخطاب لأهل مكة ، والمراد بصاحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : وما محمد يا أهل مكة بمجنون ، وذكره بوصف الصحبة للإشعار بأنهم عالمون بأمره ، وأنه ليس مما يرمونه به من الجنون ، وغيره في شيء ، وأنهم افتروا عليه ذلك عن علم منهم بأنه أعقل الناس وأكملهم ، وهذه الجملة داخلة في جواب القسم ، فأقسم سبحانه بأن القرآن نزل به جبريل ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس كما يقولون من أنه مجنون ، وأنه يأتي بالقرآن من جهة نفسه { وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين } اللام جواب قسم محذوف أي : وتالله لقد رأى محمد جبريل بالأفق المبين أي : بمطلع الشمس من قبل المشرق لأن هذا الأفق إذا كانت الشمس تطلع منه فهو مبين لأن من جهته ترى الأشياء . وقيل : الأفق المبين أقطار السماء ونواحيها ، ومنه قول الشاعر :
أخذنا بأقطار السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
وإنما قال سبحانه : { وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين } مع أنه قد رآه غير مرّة لأنه رآه هذه المرّة في صورته له ستمائة جناح ، قال سفيان : إنه رآه في أفق السماء الشرقي . وقال ابن بحر : في أفق السماء الغربي .

وقال مجاهد : رآه نحو أجياد وهو مشرق مكة ، و { المبين } صفة للأفق قاله الربيع . وقيل : صفة لمن رآه قاله مجاهد : وقيل معنى الآية : ولقد رأى محمد ربه عزّ وجلّ ، وقد تقدّم القول في هذا في سورة النجم { وَمَا هُوَ } أي : محمد { عَلَى الغيب } يعني : خبر السماء وما اطلع عليه مما كان غائباً علمه من أهل مكة { بِضَنِينٍ } بمتهم أي : هو ثقة فيما يؤدّي عن الله سبحانه . وقيل : { بضنين } ببخيل أي : لا يبخل بالوحي ، ولا يقصر في التبليغ ، وسبب هذا الاختلاف اختلاف القراء ، فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، والكسائي : « بظنين » بالظاء المشالة أي : بمتهم ، والظنة التهمة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال : لأنهم لم يبخلوا ولكن كذبوه . وقرأ الباقون { بضنين } بالضاد أي : ببخيل ، من ضننت بالشيء أضنّ ضناً : إذا بخلت . قال مجاهد أي : لا يضن عليكم بما يعلم بل يعلم الخلق كلام الله وأحكامه . وقيل : المراد جبريل إنه ليس على الغيب بضنين ، والأوّل أولى .
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شيطان رَّجِيمٍ } أي : وما القرآن بقول شيطان من الشياطين المسترقة للسمع المرجومة بالشهب . قال الكلبي : يقول إن القرآن ليس بشعر لا كهانة ، كما قالت قريش . قال عطاء : يريد بالشيطان الشيطان الأبيض الذي كان يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل يريد أن يفتنه . ثم بكتهم سبحانه ووبخهم ، فقال : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } أي : أين تعدلون عن هذا القرآن وعن طاعته كذا قاله قتادة . وقال الزجاج : معناه أيّ : طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي قد بينت لكم ، يقال أين تذهب ، وإلى أين تذهب؟ وحكى الفراء عن العرب : ذهبت الشام ، وخرجت العراق ، وانطلقت السوق أي : إليها . قال : سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة ، وأنشد لبعض بني عقيل :
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا ... وأيّ الأرض تذهب بالصياح
تريد إلى أيّ الأرض تذهب ، فحذف إلى . { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } أي : ما القرآن إلاّ موعظة للخلق أجمعين ، وتذكير لهم ، وقوله : { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } بدل من العالمين بإعادة الجار ، ومفعول المشيئة : { أَن يَسْتَقِيمَ } أي : لمن شاء منكم الاستقامة على الحقّ والإيمان والطاعة { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين } أي : وما تشاءون الاستقامة إلاّ أن يشاء الله تلك المشيئة ، فأعلمهم سبحانه أن المشيئة في التوفيق إليه ، وأنهم لا يقدرون على ذلك إلاّ بمشيئة الله وتوفيقه ، ومثل هذا قوله سبحانه : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ يونس : 100 ] وقوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } [ الأنعام : 111 ] وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } [ القصص : 56 ] والآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقيّ في الشعب عن ابن عباس في قوله : { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } قال : أظلمت { وَإِذَا النجوم انكدرت } قال : تغيرت . وأخرج ابن أبي حاتم ، والديلمي عن أبي مريم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في قوله : { إِذَا السماء كُوّرَتْ } قال : كوّرت في جهنم { وَإِذَا النجوم انكدرت } قال : انكدرت في جهنم ، فكل من عبد من دون الله فهو : في جهنم ، إلاّ ما كان من عيسى وأمه ، ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن أبي العالية قال : ست آيات من هذه السورة في الدنيا ، والناس ينظرون إليها ، وست في الآخرة { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } إلى { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } هذه في الدنيا ، والناس ينظرون إليها . { وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } إلى { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } هذه في الآخرة . وأخرج ابن أبي الدنيا في الأهوال ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت ، ففزعت الجنّ إلى الإنس ، والإنس إلى الجنّ ، واختلطت الدوابّ ، والطير ، والوحش ، فماجوا بعضهم في بعض { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } قال : اختلطت { وَإِذَا العشار عُطّلَتْ } قال : أهملها أهلها { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } قال : الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحر ، فإذا هو نار تأجج ، فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة ، وإلى السماء السابعة ، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم .
وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } قال : حشر البهائم موتها ، وحشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس ، فإنهما يوافيان يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والخطيب في المتفق ، والمفترق عنه في قوله : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } قال : يحشر كلّ شيء يوم القيامة حتى إن الدوابّ لتحشر . وأخرج البيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله : { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } قال : تسجر حتى تصير ناراً . وأخرج الطبراني عنه : { سُجّرَتْ } قال : اختلط ماؤها بماء الأرض . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في البعث عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله : { وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ } قال : يقرن بين الرجل الصالح مع الصالح في الجنة ، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار ، كذلك تزويج الأنفس وفي رواية : ثم قرأ :

{ احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم } [ الصافات : 22 ] . وأخرج نحوه ابن مردويه عن النعمان بن بشير مرفوعاً . وأخرج البزار ، والحاكم في الكنى ، والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال : جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعتق عن كل واحدة رقبة ، » قال : إني صاحب إبل ، قال : « فأهد عن كل واحدة بدنة » وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } قال : قربت . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس } قال : هي الكواكب تكنس بالليل ، وتخنس بالنهار ، فلا ترى . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { لاَ أُقْسِمُ بالخنس } قال : خمسة أنجم : زحل ، وعطارد ، والمشتري ، وبهرام ، والزهرة ، ليس شيء يقطع المجرّة غيرها . وأخرج ابن مردويه ، والخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في الآية قال : هي النجوم السبعة : زحل ، وبهرام ، وعطارد ، والمشتري ، والزهرة ، والشمس ، والقمر ، خنوسها رجوعها ، وكنوسها تغيبها بالنهار . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن سعد ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود في قوله : { بالخنس الجوار الكنس } قال : هي بقر الوحش . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هي البقر تكنس إلى الظلّ . وأخرج ابن المنذر عنه قال : تكنس لأنفسها في أصول الشجر تتوارى فيه . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : هي : الظباء . وأخرج ابن راهويه ، وعبد بن حميد ، والبيهقيّ في الشعب عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { الجوار الكنس } : قال : هي : الكواكب . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس { الخنس } البقر { الجوار الكنس } الظباء ، ألم ترها إذا كانت في الظلّ كيف تكنس بأعناقها ، ومدّت نظرها . وأخرج أبو أحمد الحاكم في الكنى عن أبي العديس قال : كنا عند عمر بن الخطاب ، فأتاه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين ما { الجوار الكنس } فطعن عمر بمخصرة معه في عمامة الرجل ، فألقاها عن رأسه ، فقال عمر : أحروريّ؟ والذي نفس عمر بن الخطاب بيده لو وجدتك محلوقاً لأنحيت القمل عن رأسك ، وهذا منكر ، فالحرورية لم يكونوا في زمن عمر ، ولا كان لهم في ذلك الوقت ذكر .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { واليل إِذَا عَسْعَسَ } قال : إذا أدبر { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } قال : إذا بدا النهار حين طلوع الفجر . وأخرج الطبراني عنه { إِذَا عَسْعَسَ } قال : إقبال سواده . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } قال : جبريل .

وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود { وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين } قال : رأى جبريل له ستمائة جناح قد سدّ الأفق . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إنما عنى جبريل أن محمداً رآه في صورته عند سدرة المنتهى . وأخرج ابن مردويه عنه بالأفق المبين ، قال : السماء السابعة . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ { بضنين } بالضاد ، وقال : ببخيل . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ « وما هو على الغيب بظنين » بالظاء قال : ليس بمتهم . وأخرج الدارقطني في الأفراد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والخطيب في تاريخه عن عائشة : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرؤه { بظنين } بالظاء . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : لما نزلت { لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } قالوا : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فهبط جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : كذبوا يا محمد { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين } .

إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

قوله : { إِذَا السماء انفطرت } قال الواحدي : قال المفسرون : انفطارها انشقاقها كقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] والفطر : الشق ، يقال : فطرته فانفطر ، ومنه فطر ناب البعير : إذا طلع ، قيل : والمراد : أنها انفطرت هنا لنزول الملائكة منها ، وقيل : انفطرت لهيبة الله . { وَإِذَا الكواكب انتثرت } أي : تساقطت متفرقة يقال : نثرت الشيء أنثره نثراً . { وَإِذَا البحار فُجّرَتْ } أي : فجر بعضها في بعض ، فصارت بحراً واحداً ، واختلط العذب منها بالمالح . وقال الحسن : معنى { فجرت } ذهب ماؤها ، ويبست ، وهذه الأشياء بين يدي الساعة ، كما تقدّم في السورة التي قبل هذه { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } أي : قلب ترابها ، وأخرج الموتى الذين هم فيها ، يقال : بعثر يبعثر بعثرة : إذا قلب التراب ، ويقال : بعثر المتاع قلبه ظهراً لبطن ، وبعثرت الحوض وبعثرته إذا هدمته ، وجعلت أعلاه أسفله . قال الفراء : { بعثرت } أخرج ما في بطنها من الذهب والفضة ، وذلك من أشراط الساعة أن تخرج الأرض ذهبها وفضتها .
ثم ذكر سبحانه الجواب عما تقدّم فقال : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } والمعنى : أنها علمته عند نشر الصحف لا عند البعث لأنه وقت واحد من عند البعث إلى عند مصير أهل الجنة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار ، والكلام في إفراد نفس هنا ، كما تقدّم في السورة الأولى في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ } [ التكوير : 14 ] ومعنى { مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } : ما قدّمت من عمل خير أو شرّ ، وما أخرت من سنة حسنة أو سيئة لأن لها أجر ما سنته من السنن الحسنة ، وأجر من عمل بها ، وعليها وزر ما سنته من السنن السيئة ، ووزر من عمل بها . وقال قتادة : ما قدّمت من معصية ، وأخرت من طاعة ، وقيل : ما قدّم من فرض ، وأخّر من فرض ، وقيل : أوّل عمله وآخره . وقيل : إن النفس تعلم عند البعث بما قدّمت وأخرت علماً إجمالياً لأن المطيع يرى آثار السعادة ، والعاصي يرى آثار الشقاوة ، وأما العلم التفصيلي ، فإنما يحصل عند نشر الصحف .
{ ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } هذا خطاب الكفار : أي : ما الذي غرّك ، وخدعك حتى كفرت بربك الكريم الذي تفضل عليك في الدنيا بإكمال خلقك وحواسك ، وجعلك عاقلاً فاهماً ، ورزقك وأنعم عليك بنعمه التي لا تقدر على جحد شيء منها . قال قتادة : غرّه شيطانه المسلط عليه . وقال الحسن : غرّه شيطانه الخبيث ، وقيل : حمقه وجهله . وقيل : غرّه عفو الله إذ لم يعاجله بالعقوبة أوّل مرّة ، كذاقال مقاتل { الذى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي : خلقك من نطفة ، ولم تك شيئًا ، فسوّاك رجلاً تسمع وتبصر وتعقل ، { فعدلك } جعلك معتدلاً . قال عطاء : جعلك قائماً معتدلاً حسن الصورة .

وقال مقاتل : عدّل خلقك في العينين ، والأذنين ، واليدين ، والرجلين ، والمعنى : عدل بين ما خلق لك من الأعضاء . قرأ الجمهور : { فعدّلك } مشدّداً ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي بالتخفيف ، واختار أبو حاتم ، وأبو عبيد القراءة الأولى . قال الفراء ، وأبو عبيد : يدلّ عليها قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] ومعنى القراءة الأولى : أنه سبحانه جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها ، ومعنى القراءة الثانية : أنه صرفه ، وأماله إلى أيّ صورة شاء ، إما حسناً وإما قبيحاً ، وإما طويلاً وإما قصيراً . { في أي صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ } في أيّ صورة متعلق بركبك ، و « ما » مزيدة ، و { شاء } صفة لصورة ، أي : ركّبك في أيّ صورة شاءها من الصور المختلفة ، وتكون هذه الجملة كالبيان لقوله : { فَعَدَلَكَ } والتقدير : فعدّلك : ركبك في أيّ صورة شاءها ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال أي : ركبك حاصلاً في أيّ صورة . ونقل أبو حيان عن بعض المفسرين أنه متعلق بعدّلك . واعترض عليه بأن « أيّ » لها صدر الكلام ، فلا يعمل فيها ما قبلها . قال مقاتل ، والكلبي ، ومجاهد : في أيّ شبه من أب أو أمّ ، أو خال أو عم . وقال مكحول : إن شاء ذكراً ، وإن شاء أنثى ، وقوله : { كَلاَّ } للردع والزجر عن الاغترار بكرم الله ، وجعله ذريعة إلى الكفر به ، والمعاصي له ، ويجوز أن يكون بمعنى : حقاً ، وقوله : { بَلْ تُكَذّبُونَ بالدين } إضراب عن جملة مقدّرة ينساق إليها الكلام ، كأنه قيل : بعد الردع ، وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجاوزونه إلى ما هو أعظم منه من التكذيب بالدين وهو الجزاء ، أو بدين الإسلام . قال ابن الأنباري : الوقف الجيد على الدين ، وعلى ركبك ، وعلى { كلاً } قبيح ، والمعنى : بل تكذبون يا أهل مكة بالدين ، أي : بالحساب ، وبل لنفي شيء تقدّم ، وتحقيق غيره ، وإنكار البعث قد كان معلوماً عندهم ، وإن لم يجر له ذكر . قال الفراء : كلا ليس الأمر ، كما غررت به . قرأ الجمهور { تكذبون } بالفوقية على الخطاب . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة بالتحتية على الغيبة .
وجملة : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } في محل نصب على الحال من فاعل تكذبون ، أي : تكذبون ، والحال أن عليكم من يدفع تكذيبكم ، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان ما يبطل تكذيبهم ، والحافظين : الرقباء من الملائكة الذين يحفظون على العباد أعمالهم ، ويكتبونها في الصحف . ووصفهم سبحانه بأنهم كرام لديه يكتبون ما يأمرهم به من أعمال العباد ، وجملة : { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } في محل نصب على الحال من ضمير كاتبين ، أو على النعت ، أو مستأنفة . قال الرازي : والمعنى التعجيب من حالهم كأنه قال : إنكم تكذبون بيوم الدين ، وملائكة الله موكلون بكم يكتبون أعمالكم حتى تحاسبوا بها يوم القيامة ، ونظيره قوله تعالى : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }

[ ق : 17 ، 18 ] .
ثم بيّن سبحانه حال الفريقين فقال : { إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ } والجملة مستأنفة لتقرير هذا المعنى الذي سيقت له ، وهي كقوله سبحانه : { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } [ الشورى : 7 ] وقوله : { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين } صفة ل { جحيم } ؛ ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من الضمير في متعلق الجارّ ، والمجرور ، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل ما حالهم؟ فقيل : { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين } أي : يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به ، ومعنى { يصلونها } : أنهم يلزمونها مقاسين لوهجها ، وحرّها يومئذ . قرأ الجمهور { يصلونها } مخففاً مبنياً للفاعل ، وقرىء بالتشديد مبنياً للمفعول . { وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ } أي : لا يفارقونها أبداً ، ولا يغيبون عنها ، بل هم فيها ، وقيل : المعنى : وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون حرّها في قبورهم . ثم عظم سبحانه ذلك اليوم فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } أي : يوم الجزاء ، والحساب ، وكرّره تعظيماً لقدره ، وتفخيماً لشأنه ، وتهويلاً لأمره ، كما في قوله : { القارعة * مَا القارعة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا القارعة } [ القارعة : 1 3 ] و { الحاقة * مَا الحاقة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة } [ الحاقة : 1 - 3 ] والمعنى : أيّ شيء جعلك دارياً ما يوم الدين . قال الكلبي : الخطاب للإنسان الكافر .
ثم أخبر سبحانه عن اليوم فقال : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو برفع : « يوم » على أنه بدل من { يوم الدين } ، أو خبر مبتدأ محذوف . وقرأ أبو عمرو في رواية : « يوم » بالتنوين ، والقطع عن الإضافة . وقرأ الباقون بفتحه على أنها فتحة إعراب بتقدير : أعني أو اذكر ، فيكون مفعولاً به ، أو على أنها فتحة بناء لإضافته إلى الجملة على رأي الكوفيين ، وهو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه بدل من يوم الدين . قال الزجاج : يجوز أن يكون في موضع رفع إلا أنه مبنيّ على الفتح لإضافته إلى قوله : { لاَ تَمْلِكُ } وما أضيف إلى غير المتمكن ، فقد يبنى على الفتح ، وإن كان في موضع رفع ، وهذا الذي ذكره إنما يجوز عند الخليل ، وسيبويه إذا كانت الإضافة إلى الفعل الماضي ، وأما إلى الفعل المستقبل ، فلا يجوز عندهما ، وقد وافق الزجاج على ذلك أبو علي الفارسي ، والفرّاء ، وغيرهما ، والمعنى : أنها لا تملك نفس من النفوس لنفس أخرى شيئًا من النفع أو الضرّ { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } وحده لا يملك شيئًا من الأمر غيره كائناً ما كان . قال مقاتل : يعني لنفس كافرة شيئًا من المنفعة . قال قتادة : ليس ثم أحد يقضي شيئًا ، أو يصنع شيئًا إلا الله ربّ العالمين ، والمعنى : أن الله لا يملك أحداً في ذلك اليوم شيئًا من الأمور ، كما ملكهم في الدنيا ، ومثل هذا قوله :

{ لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا البحار فُجّرَتْ } قال : بعضها في بعض ، وفي قوله : { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } قال : بحثت . وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } قال : ما قدّمت من خير ، وما أخّرت من سنة صالحة يعمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا ، أو سنة سيئة تعمل بعده ، فإن عليه مثل وزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيئًا . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس نحوه . وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « من استنّ خيراً فاستنّ به فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه من غير منتقص من أجورهم ، ومن استن شرّاً فاستنّ به ، فعليه وزره ، ومثل أوزار من اتبعه من غير منتقص من أوزارهم » وتلا حذيفة : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية : { مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم } قال : غرّه والله جهله . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل ، وحافظين في النهار يحفظان عمله ويكتبان أثره .

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

قوله : { وَيْلٌ لّلْمُطَفّفِينَ } ويل مبتدأ ، وسوّغ الابتداء به كونه دعاء ، ولو نصب لجاز . قال مكي والمختار : في ويل ، وشبهه إذا كان غير مضاف الرفع ، ويجوز النصب ، فإن كان مضافاً أو معرّفاً كان الاختيار فيه النصب نحو قوله : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ } [ طه : 61 ] و { للمطففين } خبره ، والمطفف : المنقص ، وحقيقته الأخذ في الكيل ، أو الوزن شيئًا طفيفاً أي : نزراً حقيراً . قال أهل اللغة : المطفف مأخوذ من الطفف ، وهو القليل ، فالمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن . قال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان مطفف ، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف . قال أبو عبيدة ، والمبرد : المطفف الذي يبخس في الكيل والوزن ، والمراد بالويل هنا شدّة العذاب ، أو نفس العذاب ، أو الشرّ الشديد ، أو هو واد في جهنم . قال الكلبي : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يسيئون كيلهم ، ووزنهم لغيرهم ، ويستوفون لأنفسهم ، فنزلت هذه الآية . وقال السديّ : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وكان بها رجل يقال له أبو جهينة ، ومعه صاعان يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية . قال الفراء : هم بعد نزول هذه الآية أحسن الناس كيلاً إلى يومهم هذا .
ثم بيّن سبحانه المطففين من هم؟ فقال : { الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ } أي : يستوفون الاكتيال ، والأخذ بالكيل . قال الفرّاء : يريد اكتالوا من الناس ، وعلى ومن في هذا الموضع يعتقبان ، يقال : اكتلت منك أي : استوفيت منك ، وتقول : اكتلت عليك أي : أخذت ما عليك . قال الزجاج : إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل ، ولم يذكر اتزنوا؛ لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع ، فأحدهما يدل على الآخر . قال الواحدي : قال المفسرون : يعني : الذين إذا اشتروا لأنفسهم استوفوا في الكيل والوزن ، وإذا باعوا ووزنوا لغيرهم نقصوا ، وهو معنى قوله : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أي : كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ، فحذفت اللام فتعدّى الفعل إلى المفعول ، فهو من باب الحذف والإيصال ، ومثله : نصحتك ، ونصحت لك ، كذا قال الأخفش ، والكسائي ، والفرّاء . قال الفرّاء : وسمعت أعرابية تقول : إذا صدر الناس أتينا التاجر ، فيكيلنا المدّ والمدّين إلى الموسم المقبل . قال : وهو من كلام أهل الحجاز ، ومن جاورهم من قيس . قال الزجاج : لا يجوز الوقف على كالوا حتى يوصل بالضمير ، ومن الناس من يجعله توكيداً أي : توكيداً للضمير المستكنّ في الفعل ، فيجيز الوقف على كالوا أو وزنوا ، قال أبو عبيد : وكان عيسى بن عمر يجعلهما حرفين ، ويقف على كالوا أو وزنوا ، ثم يقول : هم يخسرون . قال : وأحسب قراءة حمزة كذلك . قال أبو عبيد : والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين : إحداهما الخط ، ولذلك كتبوها بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا أو وزنوا بالألف .

والأخرى أنه يقال : كلتك ، ووزنتك بمعنى : كلت لك ، ووزنت لك ، وهو كلام عربيّ؛ كما يقال صدتك وصدت لك ، وكسبتك وكسبت لك ، وشكرتك وشكرت لك ، ونحو ذلك . وقيل : هو على حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، والمضاف المكيل والموزون أي : وإذا كالوا مكيلهم ، أو وزنوا موزونهم ، ومعنى { يخسرون } : ينقصون كقوله : { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 9 ] والعرب تقول : خسرت الميزان ، وأخسرته .
ثم خوّفهم سبحانه فقال : { أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } والجملة مستأنفة مسوقة لتهويل ما فعلوه من التطفيف ، وتفظيعه ، وللتعجيب من حالهم في الاجتراء عليه ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المطففين ، والمعنى : أنهم لا يخطرون ببالهم أنهم مبعوثون ، فمسؤولون عما يفعلون . قيل : والظنّ هنا بمعنى اليقين أي : لا يوقن أولئك ، ولو أيقنوا ما نقصوا الكيل والوزن ، وقيل : الظنّ على بابه ، والمعنى : إن كانوا لا يستيقنون البعث ، فهلا ظنوه حتى يتدبروا فيه ، ويبحثوا عنه ، ويتركوا ما يخشون من عاقبته . واليوم العظيم : هو يوم القيامة ، ووصفه بالعظم ، لكونه زماناً لتلك الأمور العظام من البعث والحساب والعقاب ، ودخول أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار . ثم أخبر عن ذلك اليوم فقال : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } انتصاب الظرف ب { مبعوثون } المذكور قبله ، أو بفعل مقدّر يدل عليه مبعوثون . أي : يبعثون يوم يقوم الناس ، أو على البدل من محل ليوم ، أو بإضمار أعني ، أو هو في محلّ رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو في محلّ جرّ على البدل من لفظ ليوم ، وإنما بني على الفتح في هذين الوجهين لإضافته إلى الفعل . قال الزجاج : { يوم } منصوب بقوله : { مبعوثون } ، المعنى : ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة؟ ومعنى { يوم يقوم الناس } : يوم يقومون من قبورهم لأمر ربّ العالمين ، أو لجزائه ، أو لحسابه ، أو لحكمه وقضائه . وفي وصف اليوم بالعظم مع قيام الناس لله خاضعين فيه ، ووصفه سبحانه بكونه ربّ العالمين دلالة على عظم ذنب التطفيف ، ومزيد إثمه ، وفظاعة عقابه . وقيل المراد بقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الناس } قيامهم في رشحهم إلى أنصاف آذانهم ، وقيل : المراد قيامهم بما عليهم من حقوق العباد ، وقيل : المراد قيام الرسل بين يدي الله للقضاء ، والأوّل أولى . قوله : { كَلاَّ } هي : للردع ، والزجر للمطففين الغافلين عن البعث ، وما بعده . ثم استأنف فقال : { إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ } وعند أبي حاتم أن { كلا } بمعنى : حقاً متصلة بما بعدها على معنى : حقاً إن كتاب الفجار لفي سجين ، وسجين هو ما فسره به سبحانه من قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ } فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم أي : مسطور ، قيل : هو كتاب جامع لأعمال الشرّ الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة ، ولفظ سجين علم له .

وقال قتادة ، وسعيد بن جبير ، ومقاتل ، وكعب : إنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب ، فيجعل كتاب الفجار تحتها ، وبه قال مجاهد ، فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف ، والتقدير : محل كتاب مرقوم . وقال أبو عبيدة ، والأخفش ، والمبرد ، والزجاج { لَفِى سِجّينٍ } : لفي حبس وضيق شديد ، والمعنى : كأنهم في حبس ، جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وهوانها . قال الواحدي : ذكر قوم أن قوله : { كتاب مَّرْقُومٌ } تفسير لسجين ، وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين ، والوجه أن يجعل بياناً لكتاب المذكور في قوله : { إِنَّ كتاب الفجار } على تقدير هو كتاب مرقوم أي : مكتوب قد بينت حروفه انتهى ، والأولى ما ذكرناه ، ويكون المعنى : إن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون أي : ما يكتب من أعمالهم ، أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدوّن للقبائح المختصّ بالشر ، وهو سجين .
ثم ذكر ما يدل على تهويله ، وتعظيمه ، فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ } ثم بيّنه بقوله : { كتاب مَّرْقُومٌ } . قال الزجاج : معنى قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ } ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك . قال قتادة : ومعنى { مرقوم } : رقم لهم بشرّ كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر . وكذا قال مقاتل . وقد اختلفوا في نون سجين ، فقيل : هي أصلية ، واشتقاقه من السجن ، وهو الحبس ، وهو بناء مبالغة كخمير ، وسكير ، وفسيق من الخمر والسكر والفسق . وكذا قال أبو عبيدة ، والمبرد ، والزجاج . قال الواحدي : وهذا ضعيف؛ لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً . ويجاب عنه : بأنه رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة ، وتدل على أنه من لغة العرب ، ومنه قول ابن مقبل :
ورفقة يضربون البيض ضاحية ... ضرباً تواصت به الأبطال سجينا
وقيل : النون بدل من اللام ، والأصل سجيل ، مشتقاً من السجل ، وهو الكتاب . قال ابن عطية : من قال : إن سجيناً موضع ، فكتاب مرفوع على أنه خبر إن ، والظرف وهو قوله : { لَفِى سِجّينٍ } ملغى ، ومن جعله عبارة عن الكتاب ، فكتاب خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : هو كتاب ، ويكون هذا الكلام مفسراً لسجين ما هو؟ كذا قال . قال الضحاك : مرقوم مختوم بلغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة . قال الشاعر :
سأرقم بالماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } هذا متصل بقوله : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } وما بينهما اعتراض ، والمعنى : ويل يوم القيامة لمن وقع منه التكذيب بالبعث ، وبما جاءت به الرسل . ثم بيّن سبحانه هؤلاء المكذبين فقال : { الذين يُكَذّبُونَ بِيَوْمِ الدين } والموصول صفة للمكذبين ، أو بدل منه { وَمَا يُكَذّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي : فاجر جائر متجاوز في الإثم منهمك في أسبابه .

{ إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا } المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم { قَالَ أساطير الأولين } أي : أحاديثهم وأباطيلهم التي زخرفوها . قرأ الجمهور { إذا تتلى } بفوقيتين . وقرأ أبو حيوة ، وأبو السماك ، والأشهب العقيلي ، والسلمي بالتحتية ، وقوله : { كَلاَّ } للردع ، والزجر للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل ، وتكذيب له ، وقوله : { بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } بيان للسبب الذي حملهم على قولهم بأن القرآن أساطير الأوّلين . قال أبو عبيدة : ران على قلوبهم : غلب عليها ريناً ، وريوناً ، وكل ما غلبك ، وعلاك فقد ران بك ، وران عليك . قال الفرّاء : هو أنها كثرت منهم المعاصي والذنوب ، فأحاطت بقلوبهم ، فذلك الرين عليها . قال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب . قال مجاهد : القلب مثل الكف ، ورفع كفه فإذا أذنب انقبض ، وضم إصبعه ، فإذا أذنب ذنباً آخر انقبض ، وضم أخرى حتى ضم أصابعه كلها حتى يطبع على قلبه . قال : وكانوا يرون أن ذلك هو الرين . ثم قرأ هذه الآية . قال أبو زيد : يقال قد رين بالرجل ريناً : إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ، ولا قبل له به . وقال أبو معاذ النحوي : الرين أن يسودّ القلب من الذنوب ، والطبع أن يطبع على القلب ، وهو أشدّ من الرين ، والإقفال أشدّ من الطبع . قال الزجاج : الرين هو كالصدأ يغشى القلب كالغيم الرقيق ، ومثله الغين .
ثم كرّر سبحانه الردع ، والزجر فقال : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } وقيل : كلا بمعنى حقاً أي : حقاً إنهم ، يعني : الكفار عن ربهم يوم القيامة لا يرونه أبداً . قال مقاتل : يعني : أنهم بعد العرض والحساب لا ينظرون إليه نظر المؤمنين إلى ربهم . قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته . قال الزجاج : في هذه الآية دليل على أنّ الله عزّ وجلّ يرى في القيامة ، ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة . وقال جلّ ثناؤه : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 ، 23 ] فأعلم جلّ ثناؤه أن المؤمنين ينظرون ، وأعلم أن الكفار محجوبون عنه . وقيل : هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك . وقال قتادة ، وابن أبي مليكة : هو أن لا ينظر إليهم برحمته ، ولا يزكيهم . وقال مجاهد : محجوبون عن كرامته ، وكذا قال ابن كيسان { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم } أي : داخلو النار ، وملازموها غير خارجين منها ، وثم لتراخي الرتبة؛ لأن صلي الجحيم أشدّ من الإهانة ، وحرمان الكرامة .
{ ثُمَّ يُقَالُ هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ } أي : تقول لهم خزنة جهنم تبكيتاً وتوبيخاً : هذا الذي كنتم به تكذبون في الدنيا ، فانظروه وذوقوه .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوّهم ، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات ، وأخذوا بالسنين »

وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمر : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه » وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } قال : « فكيف إذا جمعكم الله ، كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة لا ينظر إليكم » وأخرج أبو يعلى ، وابن حبان ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : « { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبّ العالمين } بمقدار نصف يوم من خمسين ألف سنة ، فيهون ذلك على المؤمن كتدلي الشمس إلى الغروب إلى أن تغرب » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إذا حشر الناس قاموا أربعين عاماً . وأخرجه ابن مردويه من حديثه مرفوعاً . وأخرج الطبراني عن ابن عمر أنه قال : يا رسول الله كم مقام الناس بين يدي ربّ العالمين يوم القيامة؟ قال : « ألف سنة لا يؤذن لهم » وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله : { كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار لَفِى سِجّينٍ } قال : إن روح الفاجر يصعد بها إلى السماء ، فتأبى السماء أن تقبلها ، فيهبط بها إلى الأرض ، فتأبى أن تقبلها ، فيدخل تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجين ، وهو خدّ إبليس ، فيخرج لها من تحت خد إبليس كتاباً فيختم ، ويوضع تحت خد إبليس . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { سِجّينٍ } : أسفل الأرضين . وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ قال : « الفلق جب في جهنم مغطى ، وأما سجين فمفتوح » قال ابن كثير : هو حديث غريب منكر لا يصحّ . وأخرج ابن مردويه عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « { سِجّينٍ } الأرض السابعة السفلى » وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه مرفوعاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن ماجه ، والطبراني ، والبيهقي في البعث عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : لما حضرت كعباً الوفاة أتته أمّ بشر بنت البراء فقالت : إن لقيت ابني ، فأقرئه مني السلام ، فقال : غفر الله لك يا أمّ بشر نحن أشغل من ذلك ، فقالت : أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن نسمة المؤمن تسرح في الجنة حين شاءت ، وإن نسمة الكافر في سجين؟ » قال : بلى ، قالت : فهو ذلك . وأخرج ابن المبارك نحوه عن سلمان . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه ، وإن عاد زادت حتى تغلف قلبه ، فذلك الران الذي ذكره الله سبحانه في القرآن : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } » .

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

قوله : { كَلاَّ } للردع ، والزجر عما كانوا عليه ، والتكرير للتأكيد ، وجملة : { إِنَّ كتاب الأبرار لَفِى عِلّيّينَ } مستأنفة لبيان ما تضمنته ، ويجوز أن يكون كلا بمعنى : حقاً ، والأبرار : هم المطيعون ، وكتابهم صحائف حسناتهم . قال الفراء : عليين ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له ، ووجه هذا أنه منقول من جمع عليّ من العلوّ . قال الزجاج : هو إعلاء الأمكنة . قال الفراء والزجاج : فأعرب كإعراب الجمع؛ لأنه على لفظ الجمع ، ولا واحد له من لفظه نحو : ثلاثين ، وعشرين ، وقنسرين . قيل : هو علم لديوان الخير الذي دوّن فيه ما عمله الصالحون . وحكى الواحدي عن المفسرين أنه السماء السابعة . قال الضحاك ، ومجاهد ، وقتادة يعني : السماء السابعة فيها أرواح المؤمنين . وقال الضحاك : هو سدرة المنتهى ينتهي إليه كل شيء من أمر الله لا يعدوها ، وقيل هو الجنة ، وقال قتادة أيضاً : هو فوق السماء السابعة عند قائمة العرش اليمنى ، وقيل : إن عليين صفة للملائكة ، فإنهم في الملأ الأعلى ، كما يقال فلان في بني فلان أي : في جملتهم { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ * كتاب مَّرْقُومٌ } أي : وما أعلمك يا محمد أيّ شيء عليون على جهة التفخيم والتعظيم لعليين ، ثم فسره فقال : { كتاب مَّرْقُومٌ } أي : مسطور ، والكلام في هذا كالكلام المتقدم في قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 8 ، 9 ] وجملة : { يَشْهَدُهُ المقربون } صفة أخرى لكتاب ، والمعنى : أن الملائكة يحضرون ذلك الكتاب المرقوم ، وقيل : يشهدون بما فيه يوم القيامة . قال وهب وابن إسحاق : المقرّبون هنا إسرافيل ، فإذا عمل المؤمن عمل البرّ صعدت الملائكة بالصحيفة ، ولها نور يتلألأ في السموات كنور الشمس في الأرض حتى تنتهي بها إلى إسرافيل ، فيختم عليها .
ثم ذكر سبحانه حالهم في الجنة بعد ذكر كتابهم ، فقال : { إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ } أي : إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم لا يقادر قدره { عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ } الأرائك : الأسرة التي في الحجال ، وقد تقدّم أنها لا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة . قال الحسن : ما كنا ندري ما الأرائك حتى قدم علينا رجل من اليمن ، فزعم أن الأريكة عندهم الحجلة إذا كان فيها سرير . ومعنى : { يُنظَرُونَ } : أنهم ينظرون إلى ما أعدّ الله لهم من الكرامات ، كذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وغيرهما . وقال مقاتل : ينظرون إلى أهل النار ، وقيل : ينظرون إلى وجهه ، وجلاله . { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } أي : إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعمة لما تراه في وجوههم من النور ، والحسن ، والبياض ، والبهجة ، والرونق ، والخطاب لكلّ راء يصلح لذلك ، يقال أنضر النبات : إذا أزهر ونوّر . قال عطاء : وذلك أن الله زاد في جمالهم ، وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف .

قرأ الجمهور { تعرف } بفتح الفوقية ، وكسر الراء ، ونصب نضرة ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، ويعقوب ، وشيبة ، وطلحة ، وابن أبي إسحاق بضم الفوقية ، وفتح الراء على البناء للمفعول ، ورفع نضرة بالنيابة { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } قال أبو عبيدة ، والأخفش ، والمبرد ، والزجاج : الرحيق من الخمر ما لا غشّ فيه ، ولا شيء يفسده . والمختوم الذي له ختام . وقال الخليل : الرحيق أجود الخمر ، وفي الصحاح الرحيق صفرة الخمر . وقال مجاهد : هو الخمر العتيقة البيضاء الصافية ، ومنه قول حسان :
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
قال مجاهد : { مَّخْتُومٍ } : مطين كأنه ذهب إلى معنى الختم بالطين ، ويكون المعنى : أنه ممنوع من أن تمسه يد إلى أن يفك ختمه للأبرار . وقال سعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي : ختامه آخر طعمه . وهو معنى قوله : { ختامه مِسْكٌ } أي آخر طعمه ريح المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك . وقيل : مختوم أوانيه من الأكواب ، والأباريق بمسك مكان الطين ، وكأنه تمثيل لكمال نفاسته ، وطيب رائحته . والحاصل أن المختوم ، والختام إما أن يكون من ختام الشيء وهو آخره ، أو من ختم الشيء وهو جعل الخاتم عليه ، كما تختم الأشياء بالطين ، ونحوه . قرأ الجمهور : { ختامه } وقرأ عليّ ، وعلقمة ، وشقيق ، والضحاك ، وطاووس ، والكسائي : « خاتمه » بفتح الخاء ، والتاء ، وألف بينهما . قال علقمة : أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل خاتمه مسكاً : أي : آخره ، والخاتم ، والختام يتقاربان في المعنى ، إلا أن الخاتم الاسم ، والختام المصدر ، كذا قال الفراء قال في الصحاح : والختام الطين الذي يختم به ، وكذا قال ابن زيد . قال الفرزدق :
وبتن بجانبي مصرّعات ... وبت أفضّ أغلاف الختام
{ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } أي : فليرغب الراغبون ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الرحيق الموصوف بتلك الصفة ، وقيل : إن في بمعنى إلى ، أي : وإلى ذلك ، فليتبادر المتبادرون في العمل ، كما في قوله : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } [ الصافات : 61 ] وأصل التنافس التشاجر على الشيء ، والتنازع فيه ، بأن يحب كل واحد أن يتفرد به دون صاحبه ، يقال نفست الشيء عليه أنفسه نفاسة أي : ظننت به ، ولم أحبّ أن يصير إليه . قال البغوي : أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ، فيريده كل واحد لنفسه ، وينفس به على غيره أي : يضن به . قال عطاء : المعنى : فليستبق المستبقون . وقال مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون ، وقوله : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } معطوف على { ختامه مِسْكٌ } صفة أخرى لرحيق أي : ومزاج ذلك الرحيق من تسنيم ، وهو شراب ينصبّ عليهم من علو ، وهو أشرف شراب الجنة ، وأصل التسنيم في اللغة الارتفاع ، فهي عين ماء تجري من علوّ إلى أسفل ، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه ، ومنه تسنيم القبور ، ثم بيّن ذلك فقال : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون } وانتصاب عيناً على المدح .

وقال الزجاج : على الحال ، وإنما جاز أن تكون { عيناً } حالاً مع كونها جامدة غير مشتقة لاتصافها بقوله : { يَشْرَبُ بِهَا } وقال الأخفش : إنها منصوبة ب { يسقون } أي : يسقون عيناً ، أو من عين ، وقال الفرّاء : إنها منصوبة ب { تسنيم } على أنه مصدر مشتق من السنام ، كما في قوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً } [ البلد : 14 ، 15 ] والأوّل أولى ، وبه قال المبرّد . قيل : والباء في بها زائدة أي : يشربها ، أو بمعنى من أي : يشرب منها . قال ابن زيد : بلغنا أنها عين تجري من تحت العرش ، قيل : يشرب بها المقرّبون صرفاً ، ويمزج بها كأس أصحاب اليمين .
ثم ذكر سبحانه بعض قبائح المشركين فقال : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ } وهم كفار قريش ، ومن وافقهم على الكفر { كَانُواْ مِنَ الذين ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ } أي : كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ } أي : وإذا مرّ المؤمنون بالكفار وهم في مجالسهم { يَتَغَامَزُونَ } من الغمز ، وهو الإشارة بالجفون والحواجب : أي : يغمز بعضهم بعضاً ، ويشيرون بأعينهم وحواجبهم ، وقيل : يعيرونهم بالإسلام ، ويعيبونهم به { وَإِذَا انقلبوا } أي : الكفار { إلى أَهْلِهِمْ } من مجالسهم { انقلبوا فاكهين } أي : معجبين بما هم فيه متلذذين به ، يتفكهون بذكر المؤمنين ، والطعن فيهم ، والاستهزاء بهم ، والسخرية منهم . والانقلاب : الانصراف . قرأ الجمهور : « فاكهين » وقرأ حفص ، وابن القعقاع ، والأعرج ، والسلمي : { فكهين } بغير ألف . قال الفرّاء : هما لغتان ، مثل طمع وطامع ، وحذر وحاذر . وقد تقدّم بيانه في سورة الدخان أن الفكه : الأشر البطر ، والفاكه : الناعم المتنعم { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } أي : إذا رأى الكفار المسلمين في أي مكان { قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ } في اتباعهم محمداً ، وتمسكهم بما جاء به ، وتركهم التنعم الحاضر ، ويجوز أن يكون المعنى : وإذا رأى المسلمون الكافرين قالوا هذا القول ، والأوّل أولى ، وجملة : { وَمَا أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حافظين } في محل نصب على الحال من فاعل قالوا : أي : قالوا ذلك أنهم لم يرسلوا على المسلمين من جهة الله موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم .
{ فاليوم الذين ءامَنُواْ } المراد باليوم : اليوم الآخر { مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } والمعنى : أن المؤمنين في ذلك اليوم يضحكون من الكفار حين يرونهم أذلاء مغلوبين قد نزل بهم ما نزل من العذاب ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا ، وجملة : { عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل { يضحكون } : أي : يضحكون منهم ناظرين إليهم ، وإلى ما هم فيه من الحال الفظيع ، وقد تقدّم تفسير الأرائك قريباً . قال الواحدي : قال المفسرون : إن أهل الجنة إذا أرادوا نظروا من منازلهم إلى أعداء الله ، وهم يعذبون في النار ، فضحكوا منهم ، كما ضحكوا منهم في الدنيا .

وقال أبو صالح : يقال لأهل النار اخرجوا ، ويفتح لهم أبوابها ، فإذا رأوها قد فتحت أقبلوا إليها يريدون الخروج ، والمؤمنون ينظرون إليهم على الأرائك ، فإذا انتهوا إلى أبوابها غلقت دونهم ، فذلك قوله : { فاليوم الذين ءامَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } . { هَلْ ثُوّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } الجملة مستأنفة لبيان أنه قد وقع الجزاء للكفار بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين ، والاستهزاء بهم ، والاستفهام للتقرير ، وثوّب بمعنى : أثيب ، والمعنى : هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلونه بالمؤمنين؟ وقيل : الجملة في محل نصب بينظرون ، وقيل : هي على إضمار القول : أي : يقول بعض المؤمنين لبعض هل ثوّب الكفار ، والثواب ما يرجع على العبد في مقابلة عمله ، ويطلق على الخير والشرّ .
وقد أخرج ابن المبارك في الزهد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر من طريق شمر بن عطية أن ابن عباس سأل كعب الأحبار عن قوله : { إِنَّ كتاب الابرار لَفِى عِلّيّينَ } قال : روح المؤمن إذا قبضت عرج بها إلى السماء ، ففتح لها أبواب السماء ، وتلقاها الملائكة بالبشرى حتى تنتهي بها إلى العرش ، وتعرج الملائكة ، فيخرج لها من تحت العرش رقّ ، فيرقم ويختم ويوضع تحت العرش لمعرفة النجاة لحساب يوم الدين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { لَفِى عِلّيّينَ } قال : الجنة ، وفي قوله : { يَشْهَدُهُ المقربون } قال : أهل السماء . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين » وأخرج ابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { نَضْرَةَ النعيم } قال : عين في الجنة يتوضئون منها ويغتسلون ، فتجري عليهم نضرة النعيم .
وأخرج عبد بن حميد ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود في قوله : { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } قال : الرحيق الخمر ، والمختوم يجدون عاقبتها طعم المسك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن المنذر عنه في قوله : { مَّخْتُومٍ } قال : ممزوج { ختامه مِسْكٌ } قال : طعمه وريحه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { مِن رَّحِيقٍ } قال : خمر ، وقوله : { مَّخْتُومٍ } قال : ختم بالمسك . وأخرج الفريابي ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله : { ختامه مِسْكٌ } قال : ليس بخاتم يختم به ، ولكن خلطه مسك ، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول خلطه من الطيب كذا وكذا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن أبي الدرداء { ختامه مِسْكٌ } قال : هو : شراب أبيض مثل الفضة يختمون به آخر شرابهم ، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها ، لم يبق ذو روح إلا وجد ريحها .

وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { تَسْنِيمٍ } أشرف شراب أهل الجنة ، وهو صرف للمتقين ، ويمزج لأصحاب اليمين . وأخرج ابن المبارك ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } قال : عين في الجنة تمزج لأصحاب اليمين ، ويشربها المقرّبون صرفاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } قال : هذا مما قال الله { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] .

إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

قوله : { إِذَا السماء انشقت } هو كقوله : { إِذَا الشمس كُوّرَتْ } [ التكوير : 1 ] في إضمار الفعل وعدمه . قال الواحدي : قال المفسرون : انشقاقها عن علامات القيامة ، ومعنى انشقاقها : انفطارها بالغمام الأبيض ، كما في قوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام } [ الفرقان : 25 ] وقيل : تنشقّ من المجرّة ، والمجرّة باب السماء .
واختلف في جواب إذا ، فقال الفرّاء : إنه أذنت ، والواو زائدة ، وكذلك ألقت . قال ابن الأنباري : هذا غلط ، لأن العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى إذا كقوله : { حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها } [ الزمر : 1 ] ومع لما ، كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وناديناه } [ الصافات : 103 ، 104 ] ولا تقحم مع غير هذين . وقيل : إن الجواب قوله : { فملاقيه } أي : فأنت ملاقيه ، وبه قال الأخفش . وقال المبرد : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً أي : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً ، فملاقيه إذا السماء انشقت . وقال المبرد أيضاً : إن الجواب قوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } وبه قال الكسائي ، والتقدير : إذا السماء انشقت ، فمن أوتي كتابه بيمينه ، فحكمه كذا ، وقيل هو : { يا أيها الإنسان } على إضمار الفاء ، وقيل : إنه { يا أيها الإنسان } على إضمار القول أي : يقال له يا أيها الإنسان وقيل : الجواب محذوف تقديره بعثتم ، أو لاقى كلّ إنسان عمله ، وقيل : هو ما صرّح به في سورة التكوير أي : علمت نفس هذا ، على تقدير أن إذا شرطية ، وقيل : ليست بشرطية وهي منصوبة بفعل محذوف أي اذكر ، أو هي مبتدأ ، وخبرها إذا الثانية ، والواو مزيدة ، وتقديره : وقت انشقاق السماء وقت مدّ الأرض ، ومعنى : { وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا } : أنها أطاعته في الانشقاق من الإذن ، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه { وَحُقَّتْ } أي : وحقّ لها أن تطيع وتنقاد وتسمع ، ومن استعمال الإذن في الاستماع قول الشاعر :
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقول الآخر :
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ... مني وما أذنوا من صالح دفنوا
وقيل : المعنى : وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق : أي : جعلها حقيقة بذلك . قال الضحاك : { حقت } أطاعت ، وحقّ لها أن تطيع ربها لأنه خلقها ، يقال : فلان محقوق بكذا ، ومعنى طاعتها : أنها لا تمتنع مما أراده الله بها . قال قتادة : حقّ لها أن تفعل ذلك ، ومن هذا قول كثير :
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا ... وحقت لها العتبى لدينا وقلت
{ وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } أي : بسطت كما تبسط الأدم؛ ودكت جبالها حتى صارت قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً . قال مقاتل : سوّيت كمدّ الأديم ، فلا يبقى عليها بناء ولا جبل إلا دخل فيها ، وقيل : مدّت زيد في سعتها ، من المدد ، وهو : الزيادة . { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } أي : أخرجت ما فيها من الأموات والكنوز ، وطرحتهم إلى ظهرها { وَتَخَلَّتْ } من ذلك .

قال سعيد بن جبير : ألقت ما في بطنها من الموتى ، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء ، ومثل هذا قوله : { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] { وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا } أي : سمعت وأطاعت لما أمرها من الإلقاء والتخلي { وَحُقَّتْ } أي : وجعلت حقيقة بالاستماع لذلك والانقياد له . وقد تقدّم بيان معنى الفعلين قبل هذا { يا أيّها الإنسان } المراد جنس الإنسان ، فيشمل المؤمن والكافر ، وقيل : هو الإنسان الكافر ، والأوّل أولى لما سيأتي من التفصيل { إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً } الكدح في كلام العرب : السعي في الشيء بجهد من غير فرق بين أن يكون ذلك الشيء خيراً أو شرّاً ، والمعنى : أنك ساع إلى ربك في عملك ، أو إلى لقاء ربك ، مأخوذ من كدح جلده : إذا خدشه . قال ابن مقبل :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
قال قتادة ، والضحاك ، والكلبي : عامل لربك عملاً { فملاقيه } أي : فملاق عملك ، والمعنى : أنه لا محالة ملاق لجزاء عمله ، وما يترتب عليه من الثواب والعقاب . قال القتيبي : معنى الآية : إنك كادح : أي : عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك ، والملاقاة بمعنى اللقاء : أي : تلقى ربك بعملك ، وقيل : فملاق كتاب عملك؛ لأن العمل قد انقضى { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } وهم : المؤمنون : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } لا مناقشة فيه . قال مقاتل : لأنها تغفر ذنوبه ، ولا يحاسب بها . وقال المفسرون : هو أن تعرض عليه سيئاته ، ثم يغفرها الله ، فهو الحساب اليسير { وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } أي : وينصرف بعد الحساب اليسير إلى أهله الذين هم في الجنة من عشيرته ، أو إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا من الزوجات والأولاد ، وقد سبقوه إلى الجنة ، أو إلى من أعدّه الله له في الجنة من الحور العين ، والولدان المخلدين ، أو إلى جميع هؤلاء مسروراً مبتهجاً بما أوتي من الخير والكرامة .
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه وَرَاء ظَهْرِهِ } قال الكلبي : لأن يمينه مغلولة إلى عنقه ، وتكون يده اليسرى خلفه . وقال قتادة ، ومقاتل : تفك ألواح صدره وعظامه ، ثم تدخل يده وتخرج من ظهره ، فيأخذ كتابه كذلك { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } أي : إذا قرأ كتابه قال : يا ويلاه يا ثبوراه ، والثبور الهلاك { ويصلى سَعِيراً } أي : يدخلها ، ويقاسي حرّ نارها وشدّتها . قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وعاصم بفتح الياء ، وسكون الصاد ، وتخفيف اللام . وقرأ الباقون بضم الياء ، وفتح اللام ، وتشديدها ، وروى إسماعيل المكي عن ابن كثير ، وكذلك خارجة عن نافع ، وكذلك روى إسماعيل المكي عن ابن كثير أنهم قرؤوا بضم الياء ، وإسكان الصاد من أصلى يصلى { إِنَّهُ كَانَ فِى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } أي : كان بين أهله في الدنيا مسروراً باتباع هواه ، وركوب شهوته بطراً أشراً لعدم خطور الآخرة بباله ، والجملة تعليل لما قبلها ، وجملة : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } تعليل لكونه كان في الدنيا في أهله مسروراً ، والمعنى : أن سبب ذلك السرور ظنه بأنه لا يرجع إلى الله ، ولا يبعث للحساب والعقاب لتكذيبه بالبعث ، وجحده للدار الآخرة ، و « أن » في قوله : { أَن لَّن يَحُورَ } هي : المخففة من الثقيلة سادّة مع ما في حيزها مسدّ مفعولي ظنّ ، والحور في اللغة : الرجوع ، يقال حار يحور : إذا رجع ، وقال الراغب : الحور التردّد في الأمر ، ومنه نعوذ بالله من الحور بعد الكور : أي من التردّد في الأمر بعد المضيّ فيه ، ومحاورة الكلام مراجعته ، والمحار المرجع والمصير .

قال عكرمة ، وداود بن أبي هند : يحور كلمة بالحبشية ، ومعناها يرجع . قال القرطبي : الحور في كلام العرب : الرجوع ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور » يعني : من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة ، وكذلك الحور بالضم ، وفي المثل ، حور في محار : أي : نقصان في نقصان ، ومنه قول الشاعر :
والذم يبقى وزاد القوم في حور ... والحور أيضاً : الهلكة ، ومنه قول الراجز :
في بئر لا حور سرى وما شعر ... قال أبو عبيدة : أي : في بئر حور ، ولا زائدة . { بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } بلى إيجاب للمنفيّ بلن أي : بلى ليحورنّ وليبعثنّ . ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } أي : كان به وبأعماله عالماً لا يخفى عليه منها خافية . قال الزجاج : كان به بصيراً قبل أن يخلقه عالماً بأن مرجعه إليه . { فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق } « لا » زائدة ، كما تقدّم في أمثال هذه العبارة ، وقد قدّمنا الاختلاف فيها في سورة القيامة ، فارجع إليه ، والشفق : الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة . قال الواحدي : هذا قول المفسرين ، وأهل اللغة جميعاً . قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : عليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق ، وكان أحمر ، وحكاه القرطبي عن أكثر الصحابة ، والتابعين والفقهاء . وقال أسد بن عمر ، وأبو حنيفة : في إحدى الروايتين عنه إنه البياض ، ولا وجه لهذا القول ، ولا متمسك له لا من لغة العرب ولا من الشرع . قال الخليل : الشفق الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة . قال في الصحاح : الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أوّل الليل إلى قريب العتمة ، وكتب اللغة والشرع مطبقة على هذا ، ومنه قول الشاعر :
قم يا غلام أعنى غير مرتبك ... على الزمان بكأس حشوها شفق
وقال آخر :
أحمر اللون كحمرة الشفق ... وقال مجاهد : الشفق النهار كله ألا تراه قال : { واليل وَمَا وَسَقَ } وقال عكرمة : هو ما بقي من النهار ، وإنما قالا هذا لقوله بعده : { واليل وَمَا وَسَقَ } فكأنه تعالى أقسم بالضياء والظلام ، ولا وجه لهذا ، على أنه قد روي عن عكرمة أنه قال : الشفق الذي يكون بين المغرب والعشاء ، وروي عن أسد بن عمر الرجوع { واليل وَمَا وَسَقَ } الوسق عند أهل اللغة : ضم الشيء بعضه إلى بعض ، يقال استوسقت الإبل : إذا اجتمعت وانضمت ، والراعي يسقها : أي : يجمعها .

قال الواحدي : المفسرون يقولون : وما جمع ، وضم ، وحوى ، ولف ، والمعنى : أنه جمع ، وضمّ ما كان منتشراً بالنهار في تصرّفه ، وذلك أن الليل إذا أقبل آوى كل شيء إلى مأواه ، ومنه قول ضابىء بن الحرث البرجمي :
فإني وإياكم وسوقاً إليكم ... كقابض شيئًا لم تنله أنامله
وقال عكرمة { وَمَا وَسَقَ } أي : وما ساق من شيء إلى حيث يأوي ، فجعله من السوق لا من الجمع ، وقيل : { وَمَا وَسَقَ } أي : وما جُنَّ وستر ، وقيل : { وَمَا وَسَقَ } أي : وما حمل ، وكل شيء حملته فقد وسقته ، والعرب تقول : لا أحمله ما وسقت عيني الماء ، أي : حملته ، ووسقت الناقة تسق وسقاً ، أي : حملت . قال قتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن سليمان : وما وسق ، وما حمل من الظلمة ، أو حمل من الكواكب . قال القشيري : ومعنى حمل : ضمّ وجمع ، والليل يحمل بظلمته كل شيء . وقال سعيد بن جبير : { وما وسق } أي : وما عمل فيه من التهجد والاستغفار بالأسحار ، والأوّل أولى . { والقمر إِذَا اتسق } أي : اجتمع ، وتكامل . قال الفراء : اتساقه امتلاؤه ، واجتماعه ، واستواؤه ليلة ثالث عشر ، ورابع عشر إلى ستّ عشرة ، وقد افتعل من الوسق الذي هو الجمع . قال الحسن : اتسق امتلأ ، واجتمع . وقال قتادة : استدار ، يقال : وسقته فاتسق ، كما يقال : وصلته فاتصل ، ويقال أمر فلان متسق أي : مجتمع منتظم ، ويقال اتسق الشيء : إذا تتابع .
{ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } هذا جواب القسم . قرأ حمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، وأبو عمرو : « لتركبنّ » بفتح الموحدة على أنه خطاب للواحد ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له ، وهي قراءة ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي العالية ، ومسروق ، وأبي وائل ، ومجاهد ، والنخعي ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وقرأ الباقون بضم الموحدة خطاباً للجمع ، وهم الناس . وقال الشعبي ، ومجاهد : لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء . قال الكلبي : يعني : تصعد فيها ، وهذا على القراءة الأولى ، وقيل : درجة بعد درجة ، ورتبة بعد رتبة في القرب من الله ورفعة المنزلة ، وقيل المعنى : لتركبنّ حالاً بعد حال كل حالة منها مطابقة لأختها في الشدّة ، وقيل المعنى : لتركبنّ أيها الإنسان حالاً بعد حال من كونك نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم حياً ، وميتاً ، وغنياً ، وفقيراً ، فالخطاب للإنسان المذكور في قوله : { يأَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً } واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم القراءة الثانية قالا : لأن المعنى بالناس أشبه منه بالنبيّ صلى الله عليه وسلم .

وقرأ عمر : « ليركبنّ » بالتحتية ، وضم الموحدة على الإخبار ، وروي عنه وعن ابن عباس أنهما قرآ بالغيبة ، وفتح الموحدة أي : ليركبنّ الإنسان ، وروي عن ابن مسعود ، وابن عباس أنهما قرآ بكسر حرف المضارعة وهي لغة ، وقرىء بفتح حرف المضارعة ، وكسر الموحدة على أنه خطاب للنفس . وقيل : إن معنى الآية : ليركبنّ القمر أحوالاً من سرار ، واستهلال ، وهو بعيد . قال مقاتل { طَبَقاً عَن طَبقٍ } يعني : الموت والحياة . وقال عكرمة : رضيع ، ثم فطيم ، ثم غلام ، ثم شابّ ، ثم شيخ . ومحل { عن طبق } النصب على أنه صفة ل { طبقاً } أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو على الحال من ضمير لتركبنّ أي : مجاوزين ، أو مجاوزاً .
{ فما لهم لاَ يُؤْمِنُونَ } الاستفهام للانكار ، والفاء لترتيب ما بعدها من الإنكار ، والتعجيب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة ، أو من غيرها على الاختلاف السابق ، والمعنى : أيّ شيء للكفار لا يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من القرآن مع وجود موجبات الإيمان بذلك .
{ وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ القرءان لاَ يَسْجُدُونَ } هذه الجملة الشرطية ، وجوابها في محل نصب على الحال أي : أيّ مانع لهم حال عدم سجودهم ، وخضوعهم عند قراءة القرآن . قال الحسن ، وعطاء ، والكلبي ، ومقاتل : مالهم لا يصلون . وقال أبو مسلم : المراد الخضوع ، والاستكانة . وقيل : المراد نفس السجود المعروف بسجود التلاوة . وقد وقع الخلاف هل هذا الموضع من مواضع السجود عند التلاوة أم لا؟ وقد تقدم في فاتحة هذه السورة الدليل على السجود { بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذّبُونَ } أي : يكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبما جاء به من الكتاب المشتمل على إثبات التوحيد ، والبعث ، والثواب ، والعقاب : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } أي : بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب ، وقال مقاتل : يكتمون من أفعالهم . وقال ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة ، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع ما فيه ، ومنه قول الشاعر :
الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد
ويقال : وعاه حفظه ، ووعيت الحديث أعيه وعياً ، ومنه : { أُذُنٌ واعية } [ الحاقة : 12 ] { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : اجعل ذلك بمنزلة البشارة لهم؛ لأن علمه سبحانه بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم ، والأليم المؤلم الموجع ، والكلام خارج مخرج التهكم بهم { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } هذا الاستثناء منقطع أي : لكن الذين جمعوا بين الإيمان بالله ، والعمل الصالح لهم أجر عند الله غير ممنون أي : غير مقطوع ، يقال مننت الحبل : إذا قطعته ، ومنه قول الشاعر :
فترى خلفهنّ من سرعة الرج ... ع منيناً كأنه أهباء
قال المبرد : المنين الغبار؛ لأنه تقطعه وراءها ، وكل ضعيف منين وممنون . وقيل : معنى { غير ممنون } أنه لا يمنّ عليهم به ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً إن أريد من آمن منهم .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { إِذَا السماء انشقت } قال : تنشقّ السماء من المجرّة . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس : { وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ } قال : سمعت حين كلمها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { وَأَذِنَتْ لِرَبّهَا وَحُقَّتْ } قال : أطاعت ، وحقت بالطاعة . وأخرج الحاكم عنه وصححه قال : سمعت وأطاعت { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } قال : يوم القيامة { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } قال : أخرجت ما فيها من الموتى { وَتَخَلَّتْ } عنهم . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا } قال : سواري الذهب . وأخرج الحاكم : قال السيوطي بسند جيد عن جابر قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « تمدّ الأرض يوم القيامة مدّ الأديم ، ثم لا يكون لابن آدم فيها إلا موضع قدميه » وأخرج ابن جرير عن ابن عباس : { إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبّكَ كَدْحاً } قال : عامل عملاً { فملاقيه } قال : فملاق عملك .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس أحد يحاسب إلا هلك » ، فقلت أليس يقول الله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ؟ قال : « ليس ذلك بالحساب ، ولكن ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب هلك » وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته : « اللهم حاسبني حساباً يسيراً » ، فلما انصرف قلت : يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال : « أن ينظر في كتابه ، فيتجاوز له عنه ، إنه من نوقش الحساب هلك » وفي بعض ألفاظ الحديث الأوّل ، وهذا الحديث الآخر : « من نوقش الحساب عذّب » وأخرج البزار ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي ، والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من كنّ فيه يحاسبه الله حساباً يسيراً ، ويدخله الجنة برحمته : تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك » وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يَدْعُواْ ثُبُوراً } قال : الويل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } قال : يبعث . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { أَن لَّن يَحُورَ } قال : أن لن يرجع . وأخرج سمويه في فوائده عن عمر بن الخطاب قال : { الشفق } الحمرة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : { الشفق } النهار كله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { واليل وَمَا وَسَقَ } قال : وما دخل فيه .

وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه { وَمَا وَسَقَ } قال : وما جمع . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { والقمر إِذَا اتسق } قال : إذا استوى . وأخرج عبد بن حميد ، وابن الأنباري من طرق عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { واليل وَمَا وَسَقَ } قال : وما جمع ، أما سمعت قوله :
إن لنا قلائصاً نقانقا ... مستوسقات لو يجدن سائقا
وأخرج عبد بن حميد عنه { والقمر إِذَا اتسق } قال : ليلة ثلاثة عشر . وأخرج عبد بن حميد عن عمر بن الخطاب { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال : حالاً بعد حال . وأخرج البخاري عن ابن عباس { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال ، قال : هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم . وأخرج أبو عبيد في القراءات ، وسعيد ابن منصور ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يقرأ : « لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ » يعني : بفتح الباء من { تركبنّ } . وقال : يعني : نبيكم صلى الله عليه وسلم حالاً بعد حال . وأخرج الطيالسي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عنه قال : { لَتَرْكَبُنَّ } يا محمد السماء { طَبَقاً عَن طَبقٍ } .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم في الكنى ، والطبراني ، وابن منده ، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قرأ : « لتركبنّ » يعني : بفتح الباء . وقال لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عنه : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال : يعني : السماء تنفطر ، ثم تنشق ، ثم تحمّر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عنه أيضاً في الآية قال : السماء تكون كالمهل ، وتكون وردة كالدّهان ، وتكون واهية ، وتشقق ، فتكون حالاً بعد حال . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } قال : يسرّون .

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

قوله : { والسماء ذَاتِ البروج } قد تقدّم الكلام في البروج عند تفسير قوله : { جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك : هي النجوم ، والمعنى : والسماء ذات النجوم . وقال عكرمة ، ومجاهد أيضاً : هي قصور في السماء . وقال المنهال بن عمرو : ذات الخلق الحسن . وقال أبو عبيدة ، ويحيى بن سلام وغيرهما : هي المنازل للكواكب ، وهي اثنا عشر برجاً لاثني عشر كوكباً ، وهي : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت . والبروج في كلام العرب : القصور ، ومنه قوله : { وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] شبهت منازل هذه النجوم بالقصور لكونها تنزل فيها وقيل هي أبواب السماء . وقيل هي منازل القمر ، وأصل البرج الظهور ، سميت بذلك لظهورها { واليوم الموعود } أي : الموعود به ، وهو يوم القيامة . قال الواحدي : في قول جميع المفسرين .
{ وشاهد وَمَشْهُودٍ } المراد : بالشاهد من يشهد في ذلك اليوم من الخلائق أي : يحضر فيه والمراد بالمشهود ما يشاهد في ذلك اليوم من العجائب ، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الشاهد يوم الجمعة ، وأنه يشهد على كل عامل بما عمل فيه ، والمشهود يوم عرفة؛ لأنه يشهد الناس فيه موسم الحج ، وتحضره الملائكة . قال الواحدي : وهذا قول الأكثر . وحكى القشيري عن ابن عمر ، وابن الزبير أن الشاهد يوم الأضحى . وقال سعيد بن المسيب : الشاهد يوم التروية ، والمشهود يوم عرفة . وقال النخعي : الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم النحر . وقيل : الشاهد هو الله سبحانه . وبه قال الحسن ، وسعيد بن جبير ، لقوله : { وكفى بالله شَهِيداً } [ الفتح : 166 ] وقوله : { قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 19 ] . وقيل : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] وقوله : { ياأيها النبى إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشّراً وَنَذِيراً } [ الأحزاب : 45 ] . وقوله : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] . وقيل : الشاهد جميع الأنبياء لقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } وقيل : هو عيسى بن مريم لقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دمت فِيهِمْ } [ المائدة : 117 ] والمشهود على هذه الأقوال الثلاثة : إما أمة محمد ، أو أمم الأنبياء ، أو أمة عيسى . وقيل : الشاهد آدم . والمشهود ذريته . وقال محمد بن كعب : الشاهد الإنسان لقوله : { كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا } [ الإسراء : 14 ] وقال مقاتل : أعضاؤه لقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة ، والمشهود سائر الأمم لقوله : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] . وقيل : الشاهد : الحفظة والمشهود بنو آدم . وقيل : الأيام والليالي . وقيل : الشاهد الخلق يشهدون لله عزّ وجلّ بالوحدانية ، والمشهود له بالوحدانية هو الله سبحانه ، وسيأتي بيان ما ورد في تفسير الشاهد والمشهود ، وبيان ما هو الحقّ إن شاء الله .

{ قُتِلَ أصحاب الأخدود } هذا جواب القسم ، واللام فيه مضمرة ، وهو الظاهر ، وبه قال الفراء ، وغيره . وقيل تقديره : لقد قتل ، فحذفت اللام ، وقد ، وعلى هذا تكون الجملة خبرية ، والظاهر أنها دعائية؛ لأن معنى { قتل } لعن . قال الواحدي : في قول الجميع ، والدعائية لا تكون جواباً للقسم ، فقيل : الجواب قوله : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين } وقيل : قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } وبه قال المبرد : واعترض عليه بطول الفصل . وقيل : هو مقدّر يدلّ عليه قوله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود } كأنه قال أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون ، كما لعن أصحاب الأخدود . وقيل : تقدير الجواب : لتبعثنّ ، واختاره ابن الأنباري . وقال أبو حاتم السجستاني ، وابن الأنباري أيضاً : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : قتل أصحاب الأخدود ، والسماء ذات البروج ، واعترض عليه بأنه لا يجوز أن يقال : والله قام زيد ، والأخدود : الشقّ العظيم المستطيل في الأرض كالخندق ، وجمعه أخاديد ، ومنه الخدّ لمجاري الدموع ، والمخدة لأن الخد يوضع عليها ، ويقال تخدد وجه الرجل : إذا صارت فيه أخاديد من خراج ، ومنه قول طرفة :
ووجه كأن الشمس ألقتّ رداءها ... عليه نقيّ اللون لم يتخدّد
وسيأتي بيان حديث أصحاب الأخدود إن شاء الله . قرأ الجمهور : { النار ذات الوقود } بجر النار على أنها بدل اشتمال من الأخدود؛ لأن الأخدود مشتمل عليها ، وذات الوقود وصف لها بأنها نار عظيمة ، والوقود : الحطب الذي توقد به . وقيل : هو بدل كل من كل ، لا بدل اشتمال . وقيل : إن النار مخفوضة على الجوار ، كذا حكى مكي عن الكوفيين . وقرأ الجمهور بفتح الواو من الوقود ، وقرأ قتادة ، وأبو رجاء ، ونصر بن عاصم بضمها . وقرأ أشهب العقيلي ، وأبو حيوة ، وأبو السماك العدوي ، وابن السميفع ، وعيسى برفع النار على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي النار ، أو على أنها فاعل فعل محذوف ، أي : أحرقتهم النار { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } العامل في الظرف قتل ، أي : لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين على ما يدنو منها ، ويقرب إليها . قال مقاتل : يعني : عند النار قعود يعرضونهم على الكفر . وقال مجاهد : كانوا قعوداً على الكراسي عند الأخدود . { وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } أي : الذين خدّوا الأخدود ، وهم : الملك وأصحابه ، على ما يفعلون بالمؤمنين من عرضهم على النار؛ ليرجعوا إلى دينهم شهود : أي حضور ، أو يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به . وقيل : يشهدون بما فعلوا يوم القيامة ، ثم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم . وقيل : على بمعنى مع ، والتقدير : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود . قال الزجاج : أعلم الله قصة قوم بلغت بصيرتهم ، وحقيقة إيمانهم إلى أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في الله { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } أي : ما أنكروا عليهم ، ولا عابوا منهم { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } أي : إلا أن صدّقوا بالله الغالب المحمود في كل حال .

قال الزجاج : ما أنكروا عليهم ذنباً إلا إيمانهم ، وهذا كقوله : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله } [ المائدة : 59 ] وهذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كما في قوله :
لا عيب فيهم سوى أن النزيل بهم ... يسلو عن الأهل والأوطان والحشم
وقول الآخر :
ولا عيب فيها غير شكلة عينها ... كذاك عتاق الطير شكلاً عيونها
قرأ الجمهور : { نقموا } بفتح النون ، وقرأ أبو حيوة بكسرها ، والفصيح الفتح . ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على العظم ، والفخامة فقال : { الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض } ومن كان هذا شأنه ، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحد . { والله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } من فعلهم بالمؤمنين لا يخفى عليه منه خافية ، وفي هذا وعيد شديد لأصحاب الأخدود ، ووعد خير لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين . ثم بيّن سبحانه ما أعدّ لأولئك الذين فعلوا بالمؤمنين ما فعلوا من التحريق فقال : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } : أي : حرقوهم بالنار ، والعرب تقول : فتنت الشيء ، أي : أحرقته ، وفتنت الدرهم والدينار : إذا أدخلته النار؛ لتنظر جودته . ويقال دينار مفتون ، ويسمى الصائغ الفتان ، ومنه قوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] ، أي : يحرقون . وقيل : معنى فتنوا المؤمنين : محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه ، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ، ويرجعوا عن كفرهم وفتنتهم فلهم عذاب جهنم أي : لهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم ، والجملة في محل رفع على أنها خبر إن ، أو الخبر لهم ، وعذاب جهنم مرتفع به على الفاعلية ، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، ولا يضرّ نسخه بأنّ خلافاً للأخفش ، ولهم عذاب الحريق أي : ولهم عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم ، وهو عذاب الحريق الذي وقع منهم للمؤمنين . وقيل : إن الحريق اسم من أسماء النار كالسعير . وقيل : إنهم يعذبون في جهنم بالزمهرير ، ثم يعذبون بعذاب الحريق ، فالأوّل عذاب ببردها ، والثاني عذاب بحرّها . وقال الربيع بن أنس : إن عذاب الحريق أصيبوا به في الدنيا ، وذلك أن النار ارتفعت من الأخدود إلى الملك وأصحابه ، فأحرقتهم ، وبه قال الكلبي .
ثم ذكر سبحانه ما أعدّ للمؤمنين الذين أحرقوا بالنار فقال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } وظاهر الآية العموم ، فيدخل في ذلك المحرقون في الأخدود بسبب إيمانهم دخولاً أوّلياً ، والمعنى : أن الجامعين بين الإيمان وعمل الصالحات { لَهُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي : لهم بسبب الإيمان ، والعمل الصالح جنات متصفة بهذه الصفة . وقد تقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات في غير موضع ، وأوضحنا أنه إن أريد بالجنات الأشجار ، فجري الأنهار من تحتها واضح ، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها ، فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر ، وهو الشجر؛ لأنها ساترة لساحتها ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره مما أعدّه الله لهم أي : ذلك المذكور { الفوز الكبير } الذي لا يعدله فوز ، ولا يقاربه ولا يدانيه ، والفوز الظفر بالمطلوب ، وجملة : { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } مستأنفة لخطاب النبيّ مبينة لما عند الله سبحانه من الجزاء لمن عصاه ، والمغفرة لمن أطاعه أي : أخذه للجبابرة والظلمة شديد ، والبطش : الأخذ بعنف ، ووصفه بالشدّة يدل على أنه قد تضاعف وتفاقم ، ومثل هذا قوله :

{ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ } أي : يخلق الخلق أوّلاً في الدنيا ، ويعيدهم أحياء بعد الموت . كذا قال الجمهور . وقيل : يبدىء للكفار عذاب الحريق في الدنيا ، ثم يعيده لهم في الآخرة ، واختار هذا ابن جرير ، والأوّل أولى . { وَهُوَ الغفور الودود } أي : بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها ، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه . قال مجاهد : الوادّ لأوليائه ، فهو فعول بمعنى فاعل . وقال ابن زيد : معنى الودود الرحيم . وحكى المبرد عن إسماعيل القاضي أن الودود هو الذي لا ولد له ، وأنشد :
وأركب في الروع عريانة ... ذلول الجناح لقاحاً ودوداً
أي : لا ولد لها تحنّ إليه . وقيل : الودود بمعنى المودود أي : يودّه عباده الصالحون ، ويحبونه ، كذا قال الأزهري . قال : ويجوز أن يكون فعول بمعنى فاعل ، أي : يكون محباً لهم . قال : وكلتا الصفتين مدح؛ لأنه جلّ ذكره إن أحبّ عباده المطيعين فهو فضل منه ، وإن أحبه عباده العارفون ، فلما تقرّر عندهم من كريم إحسانه . قرأ الجمهور : { ذو العرش المجيد } الآية برفع المجيد على أنه نعت لذو ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم قالا : لأن المجد هو : النهاية في الكرم والفضل ، والله سبحانه هو المنعوت بذلك . وقرأ الكوفيون إلا عاصماً بالجر على أنه نعت للعرش . وقد وصف سبحانه عرشه بالكرم ، كما في آخر سورة المؤمنون . وقيل : هو نعت لربك ، ولا يضرّ الفصل بينهما؛ لأنها صفات لله سبحانه . وقال مكي : هو خبر بعد خبر ، والأوّل أولى . ومعنى { ذو العرش } : ذو الملك والسلطان ، كما يقال : فلان على سرير ملكه ، ومنه قول الشاعر :
رأوا عرشى تثلم جانباه ... فلما أن تثلم أفردوني
وقول الآخر :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعتيبة بن الحارث بن شهاب
وقيل : المراد خالق العرش { فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } أي : من الإبداء والإعادة . قال عطاء : لا يعجز عن شيء يريده ، ولا يمتنع منه شيء طلبه ، وارتفاع فعال على أنه خبر مبتدأ محذوف . قال الفراء : هو رفع على التكرير والاستئناف؛ لأنه نكرة محضة . قال ابن جرير : رفع فعال ، وهو نكرة محضة على وجه الاتباع لإعراب الغفور الودود ، وإنما قال : فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة .

ثم ذكر سبحانه خبر الجموع الكافرة فقال : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود } والجملة مستأنفة مقرّرة لما تقدّم من شدّة بطشه سبحانه ، وكونه فعالاً لما يريده ، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي : هل أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم المتجندة عليها . ثم بيّنهم فقال : { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } وهو بدل من الجنود ، والمراد بفرعون هو وقومه ، والمراد بثمود : القوم المعروفون ، والمراد بحديثهم ما وقع منهم من الكفر والعناد ، وما وقع عليهم من العذاب ، وقصتهم مشهورة قد تكرّر في الكتاب العزيز ذكرها في غير موضع ، واقتصر على الطائفتين لاشتهار أمرهما عند أهل الكتاب ، وعند مشركي العرب ، ودلّ بهما على أمثالهما .
ثم أضرب عن مماثلة هؤلاء الكفار الموجودين في عصره صلى الله عليه وسلم لمن تقدّم ذكره ، وبيّن أنهم أشدّ منهم في الكفر والتكذيب فقال : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ } أي : بل هؤلاء المشركون من العرب في تكذيب شديد لك ، ولما جئت به ، ولم يعتبروا بمن كان قبلهم من الكفار { والله مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } أي : يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بأولئك ، والإحاطة بالشيء : الحصر له من جميع جوانبه ، فهو تمثيل لعدم نجاتهم بعدم فوت المحاط به على المحيط . ثم ردّ سبحانه تكذيبهم بالقرآن فقال : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ } أي : متناه في الشرف والكرم ، والبركة لكونه بياناً لما شرعه الله لعباده من أحكام الدين والدنيا ، وليس هو كما يقولون إنه شعر وكهانة وسحر { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } أي : مكتوب في لوح ، وهو أمّ الكتاب محفوظ عند الله من وصول الشياطين إليه . قرأ الجمهور محفوظ بالجرّ على أنه نعت للوح ، وقرأ نافع برفعه على أنه نعت للقرآن ، أي : بل هو قرآن مجيد محفوظ في لوح . واتفق القراء على فتح اللام من { لوح } إلا يحيى بن يعمر ، وابن السميفع ، فإنهما قرآ بضمها . قال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش . قيل : والمراد باللوح بضم اللام : الهواء الذي فوق السماء السابعة . قال أبو الفضل : اللوح بضم اللام : الهواء ، وكذا قال ابن خالويه . قال في الصحاح : اللوح بالضم : الهواء بين السماء ، والأرض .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال { البروج } قصور في السماء . وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن : { السماء ذَاتِ البروج } فقال : الكواكب ، وسئل عن قوله : { الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] قال : « الكواكب » . وعن قوله : { فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] قال : « القصور » . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { واليوم الموعود * وشاهد وَمَشْهُودٍ } قال : اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، وهو الحج الأكبر ، فيوم الجمعة جعله الله عيداً لمحمد وأمته ، وفضله بها على الخلق أجمعين وهو سيد الأيام عند الله ، وأحبّ الأعمال فيه إلى الله ، وفيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إياه .

وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اليوم الموعود يوم القيامة ، واليوم المشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، وما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل منه ، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له ، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه » وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة رفعه : { وشاهد وَمَشْهُودٍ } قال : « الشاهد » يوم عرفة ويوم الجمعة ، والمشهود هو الموعود يوم القيامة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : اليوم الموعود يوم القيامة ، والمشهود يوم النحر ، والشاهد يوم الجمعة .
وأخرج ابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة » وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية : « الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة » وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ، وأبي هريرة مثله موقوفاً . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة » وهذا مرسل من مراسيل سعيد بن المسيب . وأخرج ابن ماجه ، والطبراني ، وابن جرير عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة ، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة » وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب في الآية قال : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن الحسن بن علي أنّ رجلاً سأله عن قوله : { وشاهد وَمَشْهُودٍ } قال : هل سألت أحداً قبلي؟ قال : نعم سألت ابن عمر ، وابن الزبير فقالا : يوم الذبح ، ويوم الجمعة . قال : لا ، ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ : { وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] والمشهود : يوم القيامة ، ثم قرأ : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ }

[ هود : 103 ] . أخرج عبد بن حميد ، والطبراني في الأوسط ، والصغير ، وابن مردويه عن الحسين بن عليّ في الآية قال : الشاهد جدّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم القيامة ، ثم تلا : { إِنَّا أرسلناك شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] { ذَلِكَ يَوْمُ مَّشْهُودٌ } . وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي الدنيا ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال : اليوم الموعود يوم القيامة ، والشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم القيامة ، ثم تلا : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] . وأخرج ابن جرير عنه قال : الشاهد الله ، والمشهود يوم القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الشاهد الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الشاهد الله ، والمشهود يوم القيامة .
قلت : وهذه التفاسير عن الصحابة رضي الله عنهم قد اختلفت كما ترى ، وكذلك اختلفت تفاسير التابعين بعدهم ، واستدلّ من استدلّ منهم بآيات ذكر الله فيها أن ذلك الشيء شاهد أو مشهود ، فجعله دليلاً على أنه المراد بالشاهد ، والمشهود في هذه الآية المطلقة ، وليس ذلك بدليل يستدل به على أن الشاهد ، والمشهود المذكورين في هذا المقام هو : ذلك الشاهد ، والمشهود الذي ذكر في آية أخرى ، وإلا لزم أن يكون قوله هنا : { وشاهد وَمَشْهُودٍ } هو جميع ما أطلق عليه في الكتاب العزيز ، أو السنة المطهرة أنه يشهد ، أو أنه مشهود ، وليس بعض ما استدلوا به مع اختلافه بأولى من بعض ، ولم يقل قائل بذلك . فإن قلت : هل في المرفوع الذي ذكرته من حديثي أبي هريرة ، وحديث أبي مالك ، وحديث جبير بن مطعم ، ومرسل سعيد بن المسيب ما يعين هذا اليوم الموعود ، والشاهد والمشهود؟ قلت : أما اليوم الموعود ، فلم تختلف هذه الروايات التي ذكر فيها ، بل اتفقت على أنه يوم القيامة ، وأما الشاهد ففي حديث أبي هريرة الأوّل أنه يوم الجمعة ، وفي حديثه الثاني أنه يوم عرفة ، ويوم الجمعة ، وفي حديث أبي مالك أنه يوم الجمعة ، وفي حديث جبير أنه يوم الجمعة ، وفي مرسل سعيد أنه يوم الجمعة ، فاتفقت هذه الأحاديث عليه ، ولا تضرّ زيادة يوم عرفة عليه في حديث أبي هريرة الثاني؛ وأما المشهود ففي حديث أبي هريرة الأوّل أنه يوم عرفة ، وفي حديثه الثاني أنه يوم القيامة ، وفي حديث أبي مالك أنه يوم عرفة ، وفي حديث جبير بن مطعم أنه يوم عرفة ، وكذا في حديث سعيد ، فقد تعين في هذه الروايات أنه يوم عرفة ، وهي أرجح من تلك الرواية التي صرح فيها بأنه يوم القيامة ، فحصل من مجموع هذا رجحان ما ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم أن الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، وأما اليوم الموعود ، فقد قدّمنا أنه وقع الإجماع على أنه يوم القيامة .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، والطبراني عن صهيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كان ملك من الملوك فيمن كان قبلكم ، وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن : انظروا لي غلاماً فهماً أو قال فطناً لقناً ، فأعلمه علمي ، فإني أخاف أن أموت ، فينقطع منكم هذا العلم ، ولا يكون فيكم من يعلمه ، قال : فنظروا له على ما وصف ، فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن ، وأن يختلف إليه ، فجعل الغلام يختلف إليه ، وكان على طريق الغلام راهب في صومعة ، فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مرّ به ، فلم يزل به حتى أخبره ، فقال : إنما أعبد الله ، فجعل الغلام يمكث عند هذا الراهب ، ويبطىء على الكاهن ، فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام أنه لا يكاد يحضرني ، فأخبر الغلام الراهب بذلك ، فقال له الراهب : إذا قال لك أين كنت؟ فقل عند أهلي ، وإذا قال لك أهلك أين كنت؟ فأخبرهم أني كنت عند الكاهن ، فبينما الغلام على ذلك إذ مرّ بجماعة من الناس كثير قد حبستهم دابة ، يقال إنها كانت أسداً ، فأخذ الغلام حجراً فقال : اللَّهم إن كان ما يقول ذلك الراهب حقاً ، فأسألك أن أقتل هذه الدابة ، وإن كان ما يقول الكاهن حقاً ، فأسألك أن لا أقتلها ، ثم رمى فقتل الدابة ، فقال الناس : من قتلها؟ فقالوا الغلام ، ففزع الناس ، وقالوا : قد علم هذا الغلام علماً لم يعلمه أحد ، فسمع أعمى ، فجاءه ، فقال له : إن أنت رددت عليّ بصري ، فلك كذا ، وكذا ، فقال الغلام : لا أريد منك هذا ، ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي ردَّه عليك؟ قال نعم ، فدعا الله ، فردّ عليه بصره ، فآمن الأعمى ، فبلغ الملك أمرهم ، فبعث إليهم ، فأتى بهم ، فقال : لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه ، فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى ، فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله ، وقتل الآخر بقتلة أخرى ، ثم أمر بالغلام ، فقال : انطلقوا به إلى جبل كذا ، وكذا ، فألقوه من رأسه ، فانطلقوا به إلى ذلك الجبل ، فلما انتهوا إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ، ويتردّون حتى لم يبق منهم إلا الغلام ، ثم رجع الغلام ، فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر ، فيلقوه فيه ، فانطلقوا به إلى البحر ، فغرّق الله الذين كانوا معه ، وأنجاه ، فقال الغلام للملك : إنك لن تقتلني حتى تصلبني وترميني ، وتقول إذا رميتني : بسم الله ربّ الغلام ، فأمر به فصلب ، ثم رماه ، وقال : بسم الله ربّ الغلام ، فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ، ثم مات ، فقال الناس : لقد علم هذا الغلام علماً ما علمه أحد ، فإنا نؤمن بربّ هذا الغلام ، فقيل للملك : أجزعت أن خالفك ثلاثة ، فهذا العالم كلهم قد خالفوك ، قال : فخدّ أخدوداً ، ثم ألقي فيه الحطب والنار ، ثم جمع الناس ، فقال : من رجع عن دينه تركناه ، ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار ، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود ، فقال : يقول الله : { قُتِلَ أصحاب الأخدود * النار ذَاتِ الوقود } - حتى بلغ - { العزيز الحميد } . فأما الغلام ، فإنه دفن ، ثم أخرج ، فيذكر أنه أخرج في زمن عمر بن الخطاب ، وأصبعه على صدغه ، كما وضعها حين قتل »

ولهذه القصة ألفاظ فيها بعض اختلاف . وقد رواها مسلم في أواخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب . وأخرجها أحمد من طريق عفان عن حماد به . وأخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن حماد بن سلمة به . وأخرجها الترمذي عن محمود بن غيلان ، وعبد بن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن ثابت به .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { أصحاب الأخدود } قال : هم الحبشة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : هم ناس من بني إسرائيل خدّوا أخدوداً في الأرض أوقدوا فيه ناراً ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجالاً ونساء ، فعرضوا عليها . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : { والسماء ذَاتِ البروج } إلى قوله : { وشاهد وَمَشْهُودٍ } قال : هذا قسم على { إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ } إلى آخرها . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىء وَيُعِيدُ } قال : يبديء العذاب ، ويعيده . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء ، والصفات عن ابن عباس في قوله : { الودود } قال : الحبيب ، وفي قوله : { ذُو العرش المجيد } قال : الكريم . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } قال : أخبرت أنه لوح الذكر لوح واحد فيه الذكر ، وإن ذلك اللوح من نور ، وإنه مسيرة ثلثمائة سنة . وأخرج ابن جرير عن أنس قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في قوله : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } في جبهة إسرافيل . وأخرج أبو الشيخ ، قال السيوطي بسند جيد عن ابن عباس قال : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام ، فقال للقلم قبل أن يخلق الخلق : اكتب علمي في خلقي ، فجرى ما هو كائن إلى يوم القيامة .

وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

أقسم سبحانه بالسماء والطارق ، وهو : النجم الثاقب ، كما صرّح به التنزيل . قال الواحدي : قال المفسرون : أقسم الله بالسماء والطارق ، يعني : الكواكب تطرق بالليل ، وتخفى بالنهار . قال الفرّاء : الطارق النجم؛ لأنه يطلع بالليل ، وما أتاك ليلاً فهو طارق . وكذا قال الزجاج ، والمبرد : ومنه قول امرىء القيس :
ومثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
وقوله أيضاً :
ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيباً وإن لم تطيب
وقد اختلف في الطارق هل هو نجم معين ، أو جنس النجم؟ فقيل : هو زحل . وقيل : الثريا . وقيل : هو الذي ترمى به الشياطين . وقيل : هو جنس النجم . قال في الصحاح : { والطارق } : النجم الذي يقال له كوكب الصبح ، ومنه قول هند بنت عتبة :
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
أي : إن أبانا في الشرف كالنجم المضيء ، وأصل الطروق : الدقّ ، فسمي قاصد الليل طارقاً لاحتياجه في الوصول إلى الدق . وقال قوم : إن الطروق قد يكون نهاراً ، والعرب تقول : أتيتك اليوم طرقتين أي : مرتين ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « أعوذ بك من شرّ طوارق الليل والنهار إلاَّ طارقاً يطرق بخير » ثم بيّن سبحانه ما هو الطارق ، تفخيماً لشأنه بعد تعظيمه بالإقسام به فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطارق * النجم الثاقب } الثاقب : المضيء ، ومنه يقال : ثقب النجم ثقوباً ، وثقابة : إذا أضاء ، وثقوبه ضوؤه ، ومنه قول الشاعر :
أذاع به في الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب
قال الواحدي : الطارق يقع على كل ما طرق ليلاً ، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه وسلم يدري ما المراد به لو لم يبينه بقوله : { النجم الثاقب } قال مجاهد : الثاقب المتوهج . قال سفيان : كل ما في القرآن { وَمَا أَدْرَاكَ } ، فقد أخبره ، وكل شيء قال : { وَمَا يُدْرِيكَ } لم يخبره به ، وارتفاع قوله : { النجم الثاقب } على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر نشأ مما قبله ، كأنه قيل : ما هو؟ فقيل : هو النجم الثاقب . { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } هذا جواب القسم ، وما بينهما اعتراض ، وقد تقدّم في سورة هود اختلاف القرّاء في : « لما » ، فمن قرأ بتخفيفها كانت إن هنا هي المخففة من الثقيلة فيها ضمير الشأن المقدّر ، وهو اسمها ، واللام هي الفارقة ، وما مزيدة ، أي : إن الشأن كل نفس لعليها حافظ ، ومن قرأ بالتشديد ، فإن نافية ، ولما بمعنى إلا ، أي : ما كل نفس إلاّ عليها حافظ ، وقد قرأ هنا بالتشديد ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة . وقرأ الباقون بالتخفيف . قيل : والحافظ هم الحفظة من الملائكة الذين يحفظون عليها عملها ، وقولها وفعلها ، ويحصون ما تكسب من خير وشرّ وقيل : الحافظ هو الله عزّ وجلّ .

وقيل : هو العقل يرشدهم إلى المصالح ، ويكفهم عن المفاسد ، والأوّل أولى لقوله : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } [ الانفطار : 10 ] وقوله : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } [ الأنعام : 61 ] وقوله : { لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ } [ الرعد : 11 ] والحافظ على الحقيقة هو الله عزّ وجلّ ، كما في قوله : { فالله خَيْرٌ حافظا } [ يوسف : 64 ] وحفظ الملائكة من حفظه؛ لأنهم بأمره .
{ فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ } الفاء للدلالة على أن كون على كل نفس حافظ يوجب على الإنسان أن يتفكر في مبتدأ خلقه؛ ليعلم قدرة الله على ما هو دون ذلك من البعث . قال مقاتل : يعني : المكذب بالبعث { مِمَّ خُلِقَ } من أي شيء خلقه الله ، والمعنى : فلينظر نظر التفكر ، والاستدلال حتى يعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادر على إعادته . ثم بيّن سبحانه ذلك فقال : { خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والماء : هو المنيّ ، والدفق : الصب ، يقال دفقت الماء ، أي : صببته ، يقال ماء دافق أي : مدفوق ، مثل : { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ القارعة : 7 ] أي : مرضية . قال الفرّاء ، والأخفش : { ماء دافق } ، أي : مصبوب في الرحم . قال الفرّاء : وأهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول في كثير من كلامهم كقولهم : سرّ كاتم أي : مكتوم ، وهمّ ناصب : أي منصوب ، وليل نائم ، ونحو ذلك . قال الزجاج : من ماء ذي اندفاق ، يقال دارع ، وقايس ، ونابل : أي ذو درع ، وقوس ، ونبل ، وأراد سبحانه ماء الرجل والمرأة؛ لأن الإنسان مخلوق منهما ، لكن جعلهما ماء واحداً لامتزاجهما .
ثم وصف هذا الماء ، فقال : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب } أي : صلب الرجل ، وترائب المرأة ، والترائب جمع تريبة ، وهي : موضع القلادة من الصدر ، والولد لا يكون إلا من الماءين . قرأ الجمهور : { يخرج } مبنياً للفاعل . وقرأ ابن أبي عبلة ، وابن مقسم مبنياً للمفعول ، وفي الصلب وهو الظهر لغات . قرأ الجمهور بضم الصاد وسكون اللام ، وقرأ أهل مكة بضم الصاد واللام . وقرأ اليماني بفتحهما . ويقال صالب على وزن قالب ، ومنه قول العباس بن عبد المطلب :
تنقل من صلب إلى رحم ... في أبياته المشهورة في مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد تقدّم كلام في هذا عند تفسير قوله : { الذين مِنْ أصلابكم } [ النساء : 23 ] وقيل : الترائب ما بين الثديين . وقال الضحاك : ترائب المرأة : اليدين ، والرجلين ، والعينين . وقال سعيد بن جبير : هي الجيد . وقال مجاهد : هي ما بين المنكبين والصدر . وروي عنه أيضاً أنه قال : هي الصدر . وروي عنه أيضاً أنه قال : هي التراقي . وحكى الزجاج : أن الترائب عصارة القلب ، ومنه يكون الولد ، والمشهور في اللغة أنها عظام الصدر ، والنحر ، ومنه قول دريد بن الصمة :
فإن تدبروا نأخذكم في ظهوركم ... وإن تقبلوا نأخذكم في الترائب
قال عكرمة : الترائب الصدر ، وأنشد :
نظام درّ على ترائبها ...

قال في الصحاح : التريبة واحدة الترائب . وهي : عظام الصدر . قال أبو عبيدة : جمع التريبة تريب ، ومنه قول المثقب العبدي :
ومن ذهب يبين على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون
وقول امرىء القيس :
ترائبها مصقولة كالسجنجل ... وحكى الزجاج : أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر ، وأربع أضلاع من يسرة الصدر . قال قتادة ، والحسن : المعنى ، ويخرج من صلب الرجل ، وترائب المرأة . وحكى الفرّاء أن مثل هذا يأتي عن العرب يكون معنى { من بين الصلب } . من الصلب . وقيل : إن ماء الرجل ينزل من الدماغ ، ولا يخالف هذا ما في الآية؛ لأنه إذا نزل من الدماغ نزل من بين الصلب والترائب . وقيل : إن المعنى : يخرج من جميع أجزاء البدن ، ولا يخالف هذا ما في الآية؛ لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب ، باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي : الصلب والترائب ، وما يجاورها ، وما فوقها مما يكون تنزله منها { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } الضمير في { إنه } يرجع إلى الله سبحانه لدلالة قوله : { خُلِقَ } عليه ، فإن الذي خلقه هو الله سبحانه ، والضمير في { رجعه } عائد إلى الإنسان . والمعنى : أن الله سبحانه على رجع الإنسان ، أي : إعادته بالبعث بعد الموت : { لَقَادِرٌ } هكذا قال جماعة من المفسرين : وقال مجاهد : على أن يردّ الماء في الإحليل . وقال عكرمة ، والضحاك : على أن يردّ الماء في الصلب . وقال مقاتل بن حيان يقول : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ، ومن الشباب إلى الصبا ، ومن الصبا إلى النطفة . وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج لقادر . والأوّل أظهر ، ورجحه ابن جرير ، والثعلبي ، والقرطبي . { يَوْمَ تبلى السرائر } العامل في الظرف على التفسير الأوّل ، هو { رجعه } . وقيل : { لقادر } . واعترض عليه بأنه يلزم تخصيص القدرة بهذا اليوم ، وقيل : العامل فيه مقدّر أي : يرجعه يوم تبلى السرائر ، وقيل : العامل فيه مقدّر ، وهو اذكر ، فيكون مفعولاً به ، وأما على قول من قال : إن المراد رجع الماء ، فالعامل في الظرف مقدّر ، وهو اذكر ، ومعنى { تبلى السرائر } : تختبر ، وتعرف ، ومنه قول الراجز :
قد كنت قبل اليوم تزدريني ... فاليوم أبلوك وتبتليني
أي : أختبرك وتختبرني ، وأمتحنك وتمتحنني ، والسرائر : ما يسرّ في القلوب من العقائد والنيات ، وغيرها ، والمراد هنا عرض الأعمال ، ونشر الصحف ، فعند ذلك يتميز الحسن منها من القبيح ، والغثّ من السمين { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } أي : فما للإنسان من قوّة في نفسه يمتنع بها عن عذاب الله ، ولا ناصر ينصره مما نزل به ، وقال عكرمة : هؤلاء الملوك ما لهم يوم القيامة من قوّة ولا ناصر . قال سفيان : القوة العشيرة ، والناصر الحليف ، والأوّل أولى . { والسماء ذَاتِ الرجع } الرجع : المطر . قال الزجاج : الرجع : المطر؛ لأنه يجيء ويرجع ويتكرر .

قال الخليل : الرجع المطر نفسه ، والرجع نبات الربيع . قال أهل اللغة : الرجع المطر . قال المتنخل يصف سيفاً له :
أبيض كالرجع رسوب إذا ... ما باح في محتفل يختلي
قال الواحدي : الرجع المطر في قول جميع المفسرين ، وفي هذا الذي حكاه عن جميع المفسرين نظر ، فإن ابن زيد قال : الرجع الشمس ، والقمر ، والنجوم يرجعن في السماء تطلع من ناحية ، وتغيب في أخرى . وقال بعض المفسرين : { ذات الرجع } : ذات الملائكة لرجوعهم إليها بأعمال العباد . وقال بعضهم : معنى ذات الرجع : ذات النفع ، ووجه تسمية المطر رجعاً ما قاله القفال إنه مأخوذ من ترجيع الصوت ، وهو إعادته ، وكذا المطر لكونه يعود مرّة بعد أخرى سمي رجعاً . وقيل : إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ، ثم يرجعه إلى الأرض . وقيل : سمته العرب رجعاً لأجل التفاؤل ليرجع عليهم . وقيل : لأن الله يرجعه وقتاً بعد وقت . { والأرض ذَاتِ الصدع } هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات ، والثمار والشجر . والصدع : الشقّ؛ لأنه يصدع الأرض ، فتنصدع له . قال أبو عبيدة ، والفرّاء : تتصدّع بالنبات . قال مجاهد : والأرض ذات الطرق التي تصدعها المياه . وقيل : ذات الحرث لأنه يصدعها . وقيل : ذات الأموات لانصداعها عنهم عند البعث .
والحاصل أن الصدع إن كان اسماً للنبات فكأنه قال : والأرض ذات النبات؛ وإن كان المراد به الشق ، فكأنه قال : والأرض ذات الشق الذي يخرج منه النبات ونحوه ، وجواب القسم قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } أي : إن القرآن لقول يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما { وَمَا هوَ بالهزل } أي : لم ينزل باللعب ، فهو جدّ ليس بالهزل ، والهزل ضدّ الجدّ . قال الكميت :
تجدّ بنا في كل يوم وتهزل ... { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } أي : يمكرون في إبطال ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين الحق . قال الزجاج : يخاتلون النبيّ ، ويظهرون ما هم على خلافه . { وَأَكِيدُ كَيْداً } أي : أستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأجازيهم جزاء كيدهم . قيل : هو ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل والأسر { فَمَهّلِ الكافرين } أي : أخرهم ، ولا تسأل الله سبحانه تعجيل هلاكهم ، وارض بما يدبره لك في أمورهم ، وقوله : { أَمْهِلْهُمْ } بدل من مهل ، ومهل وأمهل بمعنى : مثل نزل وأنزل ، والإمهال : الإنظار ، وتمهل في الأمر ، اتأد ، وانتصاب { رُوَيْداً } على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور ، أو نعت لمصدر محذوف ، أي : أمهلهم إمهالاً رويداً أي : قريباً أو قليلاً . قال أبو عبيدة : والرويد في كلام العرب تصغيراً الرود ، وأنشد :
كأنها تمشي على رود ... أي : على مهل . وقيل : تصغير أرواد مصدر رود تصغير الترخيم ، ويأتي اسم فعل نحو رويد زيداً ، أي : أمهله ، ويأتي حالاً نحو سار القوم رويداً ، أي : متمهلين ، ذكر معنى هذا الجوهريّ ، والبحث مستوفى في علم النحو .

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والسماء والطارق } قال : أقسم ربك بالطارق : وكل شيء طرقك بالليل فهو طارق . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } قال : كل نفس عليها حفظة من الملائكة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : { النجم الثاقب } قال : النجم المضيء { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } قال : إلاّ عليها حافظ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترائب } قال : ما بين الجيد والنحر . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : تريبة المرأة ، وهي موضع القلادة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً قال : الترائب بين ثديي المرأة . وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً قال : الترائب أربعة أضلاع من كلّ جانب من أسفل الأضلاع . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } قال : على أن يجعل الشيخ شاباً ، والشابّ شيخاً .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { والسماء ذَاتِ الرجع } قال : المطر بعد المطر { والأرض ذَاتِ الصدع } قال : صدعها عن النبات . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { والأرض ذَاتِ الصدع } تصدّع الأودية . وأخرج ابن منده ، والديلمي عن معاذ بن أنس مرفوعاً { والارض ذَاتِ الصدع } قال : تصدع بإذن الله عن الأموال والنبات . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } قال : حقّ ، { وَمَا هوَ بالهزل } قال : بالباطل ، وفي قوله : { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } قال : قريباً .

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

قوله : { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } أي : نزّهه عن كل ما لا يليق به . قال السديّ : { سبّح اسم ربك الأعلى } : أي : عظمه . قيل : والاسم هنا مقحم لقصد التعظيم ، كما في قول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
والمعنى : سبّح ربك الأعلى . قال ابن جرير : المعنى نزّه اسم ربك أن يسمى به أحد سواه ، فلا تكون على هذا مقحمة . وقيل المعنى : نزّه تسمية ربك ، وذكرك إياه أن تذكره إلاّ وأنت خاشع معظم ، ولذكره محترم . وقال الحسن : معنى سبّح اسم ربك الأعلى : صلّ له . وقيل المعنى : صلّ بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية . وقيل المعنى : ارفع صوتك بذكر ربك ، ومنه قول جرير :
قبح الإله وجوه تغلب كلما ... سبّح الحجيج وكبّروا تكبيرا
والأعلى صفة للربّ . وقيل للاسم ، والأوّل أولى . وقوله : { الذى خَلَقَ فسوى } صفة أخرى للربّ . قال الزجاج : خلق الإنسان مستوياً ، ومعنى سوّى : عدّل قامته . قال الضحاك : خلقه فسوّى خلقه . وقيل : خلق الأجساد ، فسوّى الأفهام . وقيل : خلق الإنسان وهيأه للتكليف . { والذى قَدَّرَ فهدى } صفة أخرى للربّ ، أو معطوف على الموصول الذي قبله . قرأ عليّ بن أبي طالب ، والكسائي ، والسلمي : ( قدر ) مخففاً ، وقرأ الباقون بالتشديد ، قال الواحدي : قال المفسرون : قدّر خلق الذكر والأنثى من الدّواب ، فهدى الذكر للأنثى كيف يأتيها . وقال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ ، والسعادة والشقاوة ، وروي عنه أيضاً أنه قال في معنى الآية : قدّر السعادة والشقاوة ، وهدى للرشد والضلالة ، وهدى الأنعام لمراعيها . وقيل : قدّر أرزاقهم وأقواتهم ، وهداهم لمعايشهم إن كانوا إنساً ، ولمراعيهم إن كانوا وحشاً . وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له . وقيل : خلق المنافع في الأشياء ، وهدى الإنسان لوجه استخراجها منها . وقال السديّ : قدّر مدّة الجنين في الرحم تسعة أشهر وأقلّ وأكثر ، ثم هداه للخروج من الرحم . قال الفراء : أي قدّر ، فهدى ، وأضلّ فاكتفى بأحدهما ، وفي تفسير الآية أقوال غير ما ذكرنا . والأولى عدم تعيين فرد ، أو أفراد مما يصدق عليه قدّر ، وهدى إلا بدليل يدلّ عليه ، ومع عدم الدليل يحمل على ما يصدق عليه معنى الفعلين ، إما على البدل ، أو على الشمول ، والمعنى : قدّر أجناس الأشياء وأنواعها ، وصفاتها ، وأفعالها ، وأقوالها ، وآجالها ، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له ، ويسره لما خلق له ، وألهمه إلى أمور دينه ودنياه . { والذى أَخْرَجَ المرعى } صفة أخرى للربّ ، أي : أنبت العشب ، وما ترعاه النعم من النبات الأخضر { فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى } أي : فجعله بعد أن كان أخضر غثاء ، أي : هشيماً جافاً كالغثاء الذي يكون فوق السيل أحوى أي : أسود بعد اخضراره ، وذلك أن الكلأ إذا يبس اسودّ .

قال قتادة : الغثاء الشيء اليابس ، ويقال : للبقل والحشيش إذا انحطم ، ويبس غثاء وهشيم . قال امرؤ القيس :
كأنّ ذرى رأس المجمر غدوة ... من السيل والأغثاء فلكة مغزل
وانتصاب { غثاء } على أنه المفعول الثاني ، أو على الحال ، و { أحوى } صفة له . وقال الكسائي : هو حال من المرعى ، أي : أخرجه أحوى من شدّة الخضرة والريّ { فَجَعَلَهُ غُثَاء } بعد ذلك ، والأحوى مأخوذ من الحوة ، وهي : سواد يضرب إلى الخضرة . قال في الصحاح : والحوة سمرة الشفة ، ومنه قول ذي الرمة :
لمياء في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب
{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } أي : سنجعلك قارئاً بأن نلهمك القراءة ، فلا تنسى ما تقرؤه ، والجملة مستأنفة لبيان هدايته الخاصة به بعد بيان الهداية العامة ، وهي هدايته صلى الله عليه وسلم لحفظ القرآن . قال مجاهد ، والكلبي : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي لم يفرغ جبريل من آخر الآية حتى يتكلم النبيّ صلى الله عليه وسلم بأوّلها مخافة أن ينساها ، فنزلت : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } وقوله : { إِلاَّ مَا شَاء الله } استثناء مفرغ من أعمّ المفاعيل . أي : لا تنسى مما تقرؤه شيئًا من الأشياء إلاَّ ما شاء الله أن تنساه . قال الفرّاء : وهو لم يشأ سبحانه أن ينسي محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا كقوله : { خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } [ هود : 107 ] . وقيل : إلا ما شاء الله أن تنسى ، ثم تذكر بعد ذلك ، فإذن قد نسي ، ولكنه يتذكر ولا ينسى شيئًا نسياناً كلياً . وقيل : بمعنى النسخ أي : إلاَّ ما شاء الله أن ينسخه مما نسخ تلاوته . وقيل : معنى { فلا تنسى } : فلا تترك العمل إلاَّ ما شاء الله أن تتركه لنسخه ورفع حكمه . وقيل المعنى : إلاَّ ما شاء الله أن يؤخر إنزاله . وقيل : « لا » في قوله : { فَلاَ تنسى } للنهي . والألف مزيدة لرعاية الفاصلة ، كما في قوله : { فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] يعني : فلا تغفل قراءته وتذكره . { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } الجملة تعليل لما قبلها ، أي : يعلم ما ظهر وما بطن ، والإعلان والإسرار ، وظاهره العموم ، فيندرج تحته ما قيل : إن الجهر ما حفظه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وما يخفى هو ما نسخ من صدره ، ويدخل تحته أيضاً ما قيل من أن الجهر هو إعلان الصدقة ، وما يخفى هو إخفاؤها ، ويدخل تحته أيضاً ما قيل : إن الجهر جهره صلى الله عليه وسلم بالقرآن مع قراءة جبريل مخافة أن يتفلت عليه ، وما يخفى ما في نفسه مما يدعوه إلى الجهر .
{ وَنُيَسّرُكَ لليسرى } معطوف على سنقرئك ، وما بينهما اعتراض . قال مقاتل : أي نهوّن عليك عمل الجنة .

وقيل : نوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل . وقيل : للشريعة اليسرى ، وهي الحنيفية السهلة . وقيل : نهوّن عليك الوحي حتى تحفظه وتعمل به ، والأولى حمل الآية على العموم ، أي : نوفقك للطريقة اليسرى في الدين والدنيا في كلّ أمر من أمورهما التي تتوجه إليك . { فَذَكّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى } أي : عظ يا محمد الناس بما أوحينا إليك ، وأرشدهم إلى سبل الخير ، واهدهم إلى شرائع الدين . قال الحسن : تذكرة للمؤمن ، وحجة على الكافر . قال الواحدي : إن نفعت أو لم تنفع؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث مبلغاً للإعذار والإنذار ، فعليه التذكير في كل حال نفع ، أو لم ينفع ولم يذكر الحالة الثانية كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] الآية . قال الجرجاني : التذكير واجب ، وإن لم ينفع ، فالمعنى : إن نفعت الذكرى أو لم تنفع . وقيل : إنه مخصوص في قوم بأعيانهم . وقيل : إن بمعنى ما ، أي : فذكر ما نفعت الذكرى؛ لأن الذكرى نافعة بكل حال . وقيل : إنها بمعنى قد ، وقيل : إنها بمعنى إذ . وما قاله الواحدي ، والجرجاني أولى ، وقد سبقهما إلى القول به الفراء ، والنحاس . قال الرازي : إنّ قوله : { إِن نَّفَعَتِ الذكرى } للتنبيه على أشرف الحالين ، وهو : وجود النفع الذي لأجله شرعت الذكرى ، والمعلق بإن على الشيء لا يلزم أن يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء ، ويدل عليه آيات : منها هذه الآية ، ومنها قوله تعالى : { واشكروا للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ البقرة : 172 ] . ومنها قوله : { فليس جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ } [ النساء : 101 ] فإن القصر جائز عند الخوف وعدمه ، ومنها قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 230 ] والمراجعة جائزة بدون هذا الظنّ ، فهذا الشرط فيه فوائد : منها ما تقدّم ، ومنها البعث على الانتفاع بالذكرى ، كما يقول الرجل لمن يرشده : قد أوضحت لك إن كنت تعقل ، وهو تنبيه للنبيّ صلى الله عليه وسلم على أنها لا تنفعهم الذكرى ، أو يكون هذا في تكرير الدعوة ، فأما الدعاء الأوّل فعامّ انتهى .
ثم بيّن سبحانه الفرق بين من تنفعه الذكرى ، ومن لا تنفعه ، فقال : { سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى } أي : سيتعظ بوعظك من يخشى الله ، فيزداد بالتذكير خشية وصلاحاً . { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى } أي : ويتجنب الذكرى ، ويبعد عنها الأشقى من الكفار لإصراره على الكفر بالله ، وانهماكه في معاصيه . ثم وصف الأشقى فقال : { الذى يَصْلَى النار الكبرى } أي : العظيمة الفظيعة؛ لأنها أشدّ حراً من غيرها . قال الحسن : النار الكبرى نار جهنم ، والنار الصغرى نار الدنيا . وقال الزجاج : هي السفلى من أطباق النار { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } أي : لا يموت فيها ، فيستريح مما هو فيه من العذاب ، ولا يحيا حياة ينتفع بها ، ومنه قول الشاعر :
ألا ما لنفس لا تموت فينقضي ... عناها ولا تحيا حياة لها طعم

و " ثم " للتراخي في مراتب الشدّة؛ لأن التردّد بين الموت ، والحياة أفظع من صلي النار الكبرى . { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } أي : من تطهر من الشرك ، فآمن بالله ووحده ، وعمل بشرائعه . قال عطاء ، والربيع : من كان عمله زاكياً نامياً . وقال قتادة : تزكى بعمل صالح . قال قتادة ، وعطاء ، وأبو العالية : نزلت في صدقة الفطر . قال عكرمة : كان الرجل يقول : أقدّم زكاتي بين يدي صلاتي . وأصل الزكاة في اللغة النماء . وقيل : المراد بالآية زكاة الأموال كلها . وقيل : المراد بها زكاة الأعمال لا زكاة الأموال؛ لأن الأكثر أن يقال في الأموال زكي لا تزكي . { وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } قيل المعنى : ذكر اسم ربه بالخوف ، فعبده وصلى له ، وقيل : ذكر اسم ربه بلسانه فصلى أي : فأقام الصلوات الخمس . وقيل : ذكر موقفه ومعاده فعبده ، وهو كالقول الأوّل . وقيل : ذكر اسم ربه بالتكبير في أوّل الصلاة ، لأنها لا تنعقد إلا بذكره ، وهو : قوله «الله أكبر» وقيل : ذكر اسم ربه في طريق المصلى فصلى . وقيل : هو أن يتطوّع بصلاة بعد زكاة . وقيل : المراد بالصلاة هنا صلاة العيد ، كما أن المراد بالتزكي في الآية الأولى زكاة الفطر ، ولا يخفى بعد هذا القول؛ لأن السورة مكية ، ولم تفرض زكاة الفطر ، وصلاة العيد إلا بالمدينة .
{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا } هذا إضراب عن كلام مقدّر يدلّ عليه السياق ، أي : لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات الفانية في الدنيا . قرأ الجمهور : { تؤثرون } بالفوقية على الخطاب ، ويؤيدها قراءة أبيّ : ( بل أنتم تؤثرون ) وقرأ أبو عمرو بالتحتية على الغيبة . قيل : والمراد بالآية الكفرة ، والمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضا بها ، والاطمئنان إليها ، والإعراض عن الآخرة بالكلية . وقيل : المراد بها جميع الناس من مؤمن وكافر ، والمراد بإيثارها ما هو أعمّ من ذلك مما لا يخلو عنه غالب الناس من تأثير جانب الدنيا على الآخرة ، والتوجه إلى تحصيل منافعها ، والاهتمام بها اهتماماً زائداً على اهتمامه بالطاعات . وجملة : { والآخرة خَيْرٌ وأبقى } في محل نصب على الحال من فاعل تؤثرون ، أي : والحال أن الدار الآخرة التي هي الجنة أفضل ، وأدوم من الدنيا . قال مالك بن دينار : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى ، فكيف والآخرة من ذهب يبقى ، والدنيا من خزف يفنى؟
والإشارة بقوله : { إِنَّ هَذَا } إلى ما تقدّم من فلاح من تزكى وما بعده ، وقيل : إنه إشارة إلى جميع السورة ، ومعنى { لَفِى الصحف الأولى } أي : ثابت فيها . وقوله : { صُحُفِ إبراهيم وموسى } بدل من الصحف الأولى . قال قتادة ، وابن زيد : يريد بقوله : { إِنَّ هَذَا } والآخرة خير وأبقى . وقالا : تتابعت كتب الله عزّ وجلّ أنّ الآخرة خير وأبقى من الدنيا .

وقال الحسن : تتابعت كتب الله جلّ ثناؤه إن هذا لفي الصحف الأولى ، وهو قوله : { قَدْ أَفْلَحَ } إلى آخر السورة . قرأ الجمهور : { لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم } بضم الحاء في الموضعين ، وقرأ الأعمش ، وهارون ، وأبو عمرو في رواية عنه بسكونها فيهما ، وقرأ الجمهور : { إبراهيم } بالألف بعد الراء ، وبالياء بعد الهاء . وقرأ أبو رجاء بحذفهما وفتح الهاء . وقرأ أبو موسى ، وابن الزبير : " إبراهام " بألفين .
وقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت : { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } [ الواقعة : 74 ] قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } [ أي : سورة الأعلى ] قال : " اجعلوها في سجودكم " ولا مطعن في إسناده . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } [ الأعلى : 1 ] قال : " سبحان ربي الأعلى " قال أبو داود : خولف فيه وكيع ، فرواه شعبة عن أبي إسحاق عن سعيد عن ابن عباس موقوفاً . وأخرجه موقوفاً أيضاً عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ : { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } قال : «سبحان ربي الأعلى» ، وفي لفظ لعبد بن حميد عنه قال : «إذا قرأت { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } . فقل : سبحان ربي الأعلى» . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ بن أبي طالب أنه قرأ { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } فقال : «سبحان ربي الأعلى» وهو في الصلاة ، فقيل له أتزيد في القرآن؟ قال : لا ، إنما أمرنا بشيء ، فقلته . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن أبي موسى الأشعري أنه قرأ في الجمعة : ب { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } فقال : «سبحان ربي الأعلى» .
وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال : سمعت ابن عمر يقرأ { سَبِّحِ اسم رَبّكَ } الأعلى فقال : «سبحان ربي الأعلى» ، وكذلك هي في قراءة أبيّ بن كعب . وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر أنه قال : إذا قرأ { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } قال : «سبحان ربي الأعلى» . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد عن عبد الله بن الزبير أنه قرأ { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } فقال : «سبحان ربي الأعلى» وهو في الصلاة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَجَعَلَهُ غُثَاء } قال : هشيماً { أحوى } قال متغيراً . وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستذكر القرآن مخافة أن ينسى ، فقيل له قد كفيناك ذلك ، ونزلت : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى } .

وأخرج الحاكم عن سعد بن أبي وقاص نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { إِلاَّ مَا شَاء الله } يقول : إلا ما شئت أنا ، فأنسيك . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { وَنُيَسّرُكَ لليسرى } قال : للخير . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود : { وَنُيَسّرُكَ لليسرى } قال : الجنة . وأخرج البزار ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } قال : " من شهد أن لا إله إلاّ الله ، وقطع الأنداد ، وشهد أني رسول الله " { وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } قال : هي الصلوات الخمس ، والمحافظة عليها ، والاهتمام بمواقيتها» . قال البزار : لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } قال : من الشرك { وَذَكَرَ اسم رَبّهِ } قال : وحد الله { فصلى } قال : الصلوات الخمس . وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } قال : من قال لا إله إلا الله . وأخرج البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن مردويه والبيهقي في سننه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أنه كان يأمر بزكاة الفطر قبل أن يصلي صلاة العيد ، ويتلو هذه الآية { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } » . وفي لفظ قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن زكاة الفطر ، فقال : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } قال : " هي زكاة الفطر " وكثير بن عبد الله ضعيف جدّاً ، قال فيه أبو داود : هو ركن من أركان الكذب ، وقد صحح الترمذي حديثاً من طريقه ، وخطىء في ذلك ، ولكنه يشهد له ما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } ثم يقسم الفطرة قبل أن يغدو إلى المصلى يوم الفطر " وليس في هذين الحديثين ما يدل على أن ذلك سبب النزول ، بل فيهما أنه تلا الآية ، وقوله : هي زكاة الفطر ، يمكن أن يراد به أنها مما يصدق عليه التزكي ، وقد قدّمنا أن السورة مكية ، ولم تكن في مكة صلاة عيد ولا فطرة وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } قال : أعطى صدقة الفطر قبل أن يخرج إلى العيد .

{ وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } قال : خرج إلى العيد وصلى . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عمر قال : إنما أنزلت هذه الآية في إخراج صدقة الفطر قبل صلاة العيد : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى } . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : قلت لابن عباس : أرأيت قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } للفطر قال : لم أسمع بذلك ، ولكن للزكاة كلها . ثم عاودته فقال لي : والصدقات كلها .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عرفجة الثقفي قال : استقرأت ابن مسعود { سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى } فلما بلغ : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا } ترك القراءة ، وأقبل على أصحابه ، فقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ، ونساءها ، وطعامها ، وشرابها ، وزويت عنا الآخرة ، فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل ، وقال : ( بل يؤثرون الحياة الدنيا ) بالياء . وأخرج البزار ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى * صُحُفِ إبراهيم وموسى } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هي كلها في صحف إبراهيم ، وموسى » وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في الآية قال : نسخت هذه السورة من صحف إبراهيم وموسى ، وفي لفظ : هذه السورة في صحف إبراهيم وموسى . وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن أبي ذرّ قال : قلت يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب؟ قال : « مائة كتاب ، وأربعة كتب » الحديث .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

قوله : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } قال جماعة من المفسرين : هل هنا بمعنى قد ، وبه قال قطرب ، أي : قد جاءك يا محمد حديث الغاشية ، وهي القيامة؛ لأنها تغشى الخلائق بأهوالها . وقيل : إن بقاء هل هنا على معناها الاستفهامي المتضمن للتعجيب بما في خبره ، والتشويق إلى استماعه أولى . وقد ذهب إلى أن المراد بالغاشية هنا القيامة أكثر المفسرين . وقال سعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب : الغاشية النار تغشى وجوه الكفار كما في قوله : { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } [ إبراهيم : 50 ] وقيل : الغاشية أهل النار؛ لأنهم يغشونها ويقتحمونها . والأوّل أولى . قال الكلبي : المعنى إن لم يكن أتاك حديث الغاشية ، فقد أتاك . { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة } الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل ما هو؟ أو مستأنفة استئنافاً نحوّياً لبيان ما تضمنته من كون ، ثم وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفة المذكورة . ووجوه مرتفع على الابتداء ، وإن كانت نكرة لوقوعه في مقام التفصيل . وقد تقدّم مثل هذا في سورة القيامة ، وفي سورة النازعات . والتنوين في يومئذ عوض عن المضاف إليه ، أي : يوم غشيان الغاشية . والخاشعة : الذليلة الخاضعة . وكل متضائل ساكن يقال له خاشع ، يقال خشع الصوت : إذا خفي ، وخشع في صلاته : إذا تذلل ونكس رأسه . والمراد بالوجوه هنا أصحابها . قال مقاتل : يعني الكفار؛ لأنهم تكبروا عن عبادة الله . قال قتادة ، وابن زيد : خاشعة في النار . وقيل : أراد وجوه اليهود والنصارى على الخصوص ، والأوّل أولى .
قوله : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } معنى { عاملة } أنها تعمل عملاً شاقاً . قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : عمل يعمل عملاً ، ويقال للسحاب إذا دام برقه : قد عمل يعمل عملاً . قيل : وهذا العمل هو جرّ السلاسل والأغلال ، والخوض في النار . { نَّاصِبَةٌ } أي : تعبة . يقال نصب بالكسر ينصب نصباً : إذا تعب ، والمعنى : أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله . وقيل : إن قوله : { عَامِلَةٌ } في الدنيا إذ لا عمل في الآخرة ، أي : تعمل في الدنيا بالكفر والمعاصي ، وتنصب في ذلك . وقيل : إنها عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة ، والأوّل أولى . قال قتادة { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله ، فأعملها الله ، وأنصبها في النار بجرّ السلاسل الثقال ، وحمل الأغلال ، والوقوف حفاة عراة في العرصات { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] قال الحسن ، وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ، ولم تنصب فأعملها ، وأنصبها في جهنم . قال الكلبي : يجرّون على وجوههم في النار . وقال أيضاً : يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم ، فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب بمعالجة السلاسل ، والأغلال ، والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل .

قرأ الجمهور : { عاملة ناصبة } بالرفع فيهما على أنهما خبران آخران للمبتدأ ، أو على تقدير مبتدأ ، وهما خبران له ، وقرأ ابن محيصن ، وعيسى ، وحميد ، وابن كثير في رواية عنه بنصبهما على الحال ، أو على الذم . وقوله : { تصلى نَاراً حَامِيَةً } خبر آخر للمبتدأ ، أي : تدخل ناراً متناهية في الحرّ ، يقال : حمي النهار ، وحمي التنور ، أي : اشتدّ حرّهما . قال الكسائي : يقال : اشتدّ حمى النهار ، وحموه بمعنى . قرأ الجمهور : « تصلى » بفتح التاء مبنياً للفاعل . وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو بكر بضمها مبنياً للمفعول . وقرأ أبو رجاء بضم التاء ، وفتح الصاد ، وتشديد اللام ، والضمير راجع إلى الوجوه على جميع هذه القراءات . والمراد أصحابها ، كما تقدّم . وهكذا الضمير { تسقى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ } والمراد بالعين الآنية : المتناهية في الحرّ . والآني : الذي قد انتهى حره ، من الإيناء بمعنى التأخر ، يقال آناه يؤنيه إيناء ، أي : أخرّه وحبسه ، كما في قوله : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءانٍ } [ الرحمن : 44 ] قال الواحدي : قال المفسرون : لو وقعت منها نطفة على جبال الدنيا لذابت .
ولما ذكر سبحانه شرابهم عقبه بذكر طعامهم فقال : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } ، هو : نوع من الشوك يقال له الشبرق في لسان قريش إذا كان رطباً ، فإذا يبس فهو الضريع . كذا قال مجاهد ، وقتادة ، وغيرهما من المفسرين . قيل : وهو سمّ قاتل ، وإذا يبس لا تقربه دابة ولا ترعاه . وقيل : هو شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام ، لا من أقوات الناس ، فإذا رعت منه الإبل لم تشبع ، وهلكت هزالاً . قال الخليل : الضريع نبات أخضر منتن الريح يرمي به البحر . وجمهور أهل اللغة والتفسير قالوا بالأوّل ، ومنه قول أبي ذؤيب :
رعى الشبرق الرّيان حتى إذا ذوى ... وعاد ضريعاً بان عنه التحايص
وقال الهذلي يذكر إبلاً ، وسوء مرعاها :
وحبسن في هرم الضريع وكلها ... قرناء دامية اليدين جرود
وقال سعيد بن جبير : الضريع الحجارة . وقيل : هو شجرة في نار جهنم . وقال الحسن : هو بعض ما أخفاه الله من العذاب . وقال ابن كيسان : هو طعام يضرعون عنده ويذلون ، ويتضرّعون إلى الله بالخلاص منه ، فسمي بذلك؛ لأن آكله يتضرّع إلى الله في أن يغض عنه لكراهته وخشونته . قال النحاس : قد يكون مشتقاً من الضارع وهو الذليل ، أي : من شربه يلحقه ضراعة وذلة . وقال الحسن أيضاً : هو الزقوم . وقيل : هو واد في جهنم ، وقد تقدّم في سورة الحاقة : { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 35 ، 36 ] : والغسلين غير الضريع ، كما تقدّم . وجمع بين الآيتين بأن النار دركات ، فمنهم من طعامه الضريع ، ومنهم من طعامه الغسلين . ثم وصف سبحانه الضريع فقال : { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ } أي : لا يسمن الضريع آكله ، ولا يدفع عنه ما به من الجوع .

قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية . قال المشركون : إن إبلنا تسمن من الضريع ، فنزلت : { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ } وكذبوا في قولهم هذا ، فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه . وقيل : اشتبه عليهم أمره ، فظنوه كغيره من النبات النافع .
ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ } أي : ذات نعمة وبهجة ، وهي وجوه المؤمنين صارت وجوههم ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمرهم ، وما أعدّه الله لهم من الخير الذي يفوق الوصف ، ومثله قوله : { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } [ المطففين : 24 ] ثم قال : { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } أي : لعملها الذي عملته في الدنيا راضية ، لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها ، وقرّت به عيونها ، والمراد بالوجوه هنا أصحابها ، كما تقدّم . { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي : عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة ، أو عالية القدر؛ لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين . { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغية } قرأ الجمهور : { لا تسمع } بفتح الفوقية ، ونصب لاغية أي : لا تسمع أنت أيها المخاطب ، أو لا تسمع تلك الوجوه . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالتحتية مضمومة مبنياً للمفعول ، ورفع { لاغية } . وقرأ نافع بالفوقية مضمومة مبنياً للمفعول ، ورفع { لاغية } . وقرأ الفضل ، والجحدري بفتح التحتية مبنياً للفاعل ونصب { لاغية } ، واللغو الكلام الساقط . قال الفرّاء ، والأخفش ، أي : لا تسمع فيها كلمة لغو . قيل : المراد بذلك الكذب والبهتان ، والكفر قاله قتادة ، وقال مجاهد : أي : الشتم . وقال الفرّاء : لا تسمع فيها حالفاً يحلف بكذب . وقال الكلبي : لا تسمع في الجنة حالفاً بيمين برّة ولا فاجرة . وقال الفرّاء أيضاً : لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة تلغى؛ لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم ، وهذا أرجح الأقوال؛ لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم ، ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصص يصلح للتخصيص . و { لاغية } إما صفة موصوف محذوف ، أي : كلمة لاغية ، أو نفس لاغية ، أو مصدر ، أي : لا تسمع فيها لغواً .
{ فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } قد تقدّم في سورة الإنسان أن فيها عيوناً ، والعين هنا بمعنى العيون ، كما في قوله : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] ومعنى { جارية } أنها تجري مياهها ، وتتدفق بأنواع الأشربة المستلذة . قال الكلبي : لا أدري بماء أو بغيره . { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } أي : عالية مرتفعة السمك ، أو عالية القدر . { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } قد تقدّم أن الأكواب جمع كوب ، وأنه القدح الذي لا عروة له . ومعنى { موضوعة } : أنها موضوعة بين أيديهم يشربون منها . { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } النمارق : الوسائد . قال الواحدي : في قول الجميع ، واحدتها نُمرقة بضم النون . وزاد الفرّاء سماعاً عن العرب : نِمرقة بكسرها .

قال الكلبي : وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض ، ومنه قول الشاعر :
وإنا لنجري الكأس بين شروبنا ... وبين أبي قابوس فوق النمارق
وقال الآخر :
كهول وشبان حسان وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق
قال في الصحاح : النمرق ، والنمرقة وسادة صغيرة ، وكذلك النمرقة بالكسر لغة حكاها يعقوب . { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } يعني : البسط ، واحدها زربي وزربية . قال أبو عبيدة ، والفرّاء : الزرابيّ الطنافس التي لها خمل رقيق ، واحدها زربية ، والمبثوثة المبسوطة قاله قتادة . وقال عكرمة : بعضها فوق بعض . قال الواحدي : ويجوز أن يكون المعنى : أنها مفرّقة في المجالس . وبه قال القتيبي . وقال الفرّاء : معنى مبثوثة كثيرة ، والظاهر أن معنى البث : التفرّق مع كثرة ، ومنه : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } [ البقرة : 164 ] .
{ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر ، كما في نظائره مما مرّ غير مرّة ، والجملة مسوقة لتقرير أمر البعث والاستدلال عليه ، وكذا ما بعدها ، وكيف منصوبة بما بعدها ، والجملة في محل جر على أنها بدل اشتمال من الإبل ، والمعنى : أينكرون أمر البعث ، ويستبعدون وقوعه ، أفلا ينظرون إلى الإبل التي هي غالب مواشيهم ، وأكبر ما يشاهدونه من المخلوقات { كَيْفَ خُلِقَتْ } على ما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ، ومزيد قوّتها ، وبديع أوصافها . قال أبو عمرو بن العلاء : إنما خصّ الإبل؛ لأنها من ذوات الأربع ، تبرك فتحمل عليها الحمولة ، وغيرها من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلاَّ وهو قائم ، قال الزجاج : نبههم على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير يقوده ، وينيخه ، وينهضه ، ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك ، فينهض بثقل حمله ، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره ، فأراهم عظيماً من خلقه ليدلّ بذلك على توحيده . وسئل الحسن عن هذه الآية ، وقيل له : الفيل أعظم في الأعجوبة ، فقال : أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به ، ثم هو خنزير لا يركب ظهره ، ولا يؤكل لحمه ، ولا يحلب درّه . والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه ، تأكل النوى والقت ، وتخرج اللبن . ويأخذ الصبيّ بزمامها ، فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها . وقال المبرد : الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب ، وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة . وروي عن الأصمعي أنه قال : من قرأ { خلقت } بالتخفيف عنى به البعير ، ومن قرأ بالتشديد عنى به السحاب . { وَإِلَى السماء كَيْفَ رُفِعَتْ } أي : رفعت فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل . وقيل : رفعت فلا ينالها شيء . { وَإِلَى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ } على الأرض مرساة راسخة لا تميد ولا تميل ، ولا تزول . { وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ } أي : بسطت . والسطح : بسط الشيء ، يقال لظهر البيت إذا كان مستوياً : سطح . قرأ الجمهور : { سطحت } مبنياً للمفعول مخففاً .

وقرأ الحسن : بالتشديد . وقرأ عليّ بن أبي طالب ، وابن السميفع ، وأبو العالية : « خلقت » ، « ورفعت » ، « ونصبت » ، وسطحت على البناء للفاعل ، وضم التاء فيها كلها . ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير فقال : { فَذَكّرْ } والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، أي : فعظهم يا محمد ، وخوّفهم ثم علل الأمر بالتذكير فقال : { إِنَّمَا أَنتَ مُذَكّرٌ } أي : ليس عليك إلا ذلك . و { لَّسْتَ عَلَيْهِم بمسيطر } المصيطر والمسيطر بالسين والصاد : المسلط على الشيء ليشرف عليه ، ويتعهد أحواله كذا في الصحاح ، أي : لست عليهم بمصيطر حتى تكرههم على الإيمان ، وهذا منسوخ بآية السيف . قرأ الجمهور : { بمصيطر } بالصاد ، وقرأ هشام ، وقنبل في رواية بالسين . وقرأ خلف بإشمام الصاد زاياً . وقرأ هارون الأعور بفتح الطاء اسم مفعول { إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ } هذا استثناء منقطع ، أي : لكن من تولى عن الوعظ والتذكير . { فَيْعَذّبُهُ الله العذاب الأكبر } وهو عذاب جهنم الدائم . وقيل : هو استثناء متصل من قوله : { فَذَكّرْ } أي : فذكر كلّ أحد إلا من انقطع طمعك عن إيمانه ، وتولى فاستحقّ العذاب الأكبر ، والأوّل أولى . وإنما قال : { الأكبر } لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط ، والقتل والأسر . وقرأ ابن مسعود : « فإنه يعذبه الله » . وقرأ ابن عباس ، وقتادة ( إلا من تولى وكفر ) على أنها « إلا » التي للتنبيه والاستفتاح { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } أي : رجوعهم بعد الموت . يقال : آب يئوب : إذا رجع ، ومنه قول عبيد بن الأبرص :
وكلّ ذي غيبة يئوب ... وغائب الموت لا يؤوب
قرأ الجمهور : { إيابهم } بالتخفيف . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة بالتشديد . قال أبو حاتم : لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام . وقيل : هما لغتان بمعنى . قال الواحدي : وأما « إيابهم » بتشديد الياء ، فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج . { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } يعني : جزاءهم بعد رجوعهم إلى الله بالبعث . و « ثم » للتراخي في الرتبة لبعد منزلة الحساب في الشدّة عن منزلة الإياب .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الغاشية من أسماء القيامة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } قال : الساعة { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } قال : تعمل ، وتنصب في النار { تسقى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ } قال : هي التي قد طال أنيها . { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } قال : الشبرق . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشعة * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } قال : يعني اليهود والنصارى تخشع ، ولا ينفعها عملها . { تسقى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ } قال : قد أني غليانها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { تصلى نَاراً حَامِيَةً } قال : حارّة .

{ تسقى مِنْ عَيْنٍ ءانِيَةٍ } قال : انتهى حرّها { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } يقول : من شجر من نار . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً { إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } قال : الشبرق اليابس .
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغية } يقول : لا تسمع أذى ولا باطل ، وفي قوله : { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } قال : بعضها فوق بعض . { وَنَمَارِقُ } قال : مجالس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { وَنَمَارِقُ } قال : المرافق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بمصيطر } قال : جبار . { إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ } قال حسابه على الله . وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } ثم نسخ ذلك فقال : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً : { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ } قال : مرجعهم .

وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

أقسم سبحانه بهذه الأشياء ، كما أقسم بغيرها من مخلوقاته . واختلف في الفجر الذي أقسم الله به هنا فقيل : هو الوقت المعروف . وسمي فجراً؛ لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم . وقال قتادة : إنه فجر أوّل يوم من شهر محرّم ، لأن منه تتفجر السنة . وقال مجاهد : يريد يوم النحر . وقال الضحاك : فجر ذي الحجة؛ لأن الله قرن الأيام به فقال : { وَلَيالٍ عَشْرٍ } أي ليالي عشر من ذي الحجة . وبه قال السديّ ، والكلبي . وقيل المعنى : وصلاة الفجر ، أو ربّ الفجر . والأوّل أولى ، وجواب هذا القسم وما بعده هو قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } كذا قال ابن الأنباري . وقيل : محذوف لدلالة السياق عليه ، أي : ليجازينّ كل أحد بما عمل ، أو ليعذبن ، وقدّره أبو حيان بما دلت عليه خاتمة السورة التي قبله ، أي : { والفجر . . . } إلخ لإيابهم إلينا ، وحسابهم علينا ، وهذا ضعيف جدّاً ، وأضعف منه قول من قال : إن الجواب قوله : { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } . وأن هل بمعنى قد؛ لأن هذا لا يصح أن يكون مقسماً عليه أبداً . { وَلَيالٍ عَشْرٍ } هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين . وقال الضحاك : إنها الأواخر من رمضان . وقيل : العشر الأوّل من المحرّم إلى عاشرها يوم عاشوراء . قرأ الجمهور : ( ليال ) بالتنوين ، وعشر صفة لها . وقرأ ابن عباس : ( وليالي عشر ) بالإضافة . قيل : والمراد ليالي أيام عشر ، وكان حقه على هذا أن يقال عشرة لأن المعدود مذكر . وأجيب عنه بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان .
{ والشفع والوتر } الشفع والوتر يعمان كل الأشياء شفعها ووترها ، وقيل : شفع الليالي ووترها . وقال قتادة : الشفع والوتر شفع الصلاة ووترها . منها شفع ، ومنها وتر . وقيل : الشفع يوم عرفة ويوم النحر ، والوتر ليلة يوم النحر . وقال مجاهد ، وعطية العوفي : الشفع الخلق ، والوتر الله الواحد الصمد ، وبه قال محمد بن سيرين ، ومسروق ، وأبو صالح ، وقتادة . وقال الربيع بن أنس ، وأبو العالية : هي صلاة المغرب فيها ركعتان ، والوتر الركعة . وقال الضحاك : الشفع عشر ذي الحجة ، والوتر أيام منى الثلاثة ، وبه قال عطاء . وقيل : هما آدم وحواء؛ لأن آدم كان وتراً فشفع بحوّاء . وقيل : الشفع درجات الجنة وهي ثمان ، والوتر دركات النار وهي سبع ، وبه قال الحسين بن الفضل . وقيل : الشفع الصفا والمروة ، والوتر الكعبة . وقال مقاتل : الشفع الأيام والليالي ، والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده ، وهو يوم القيامة وقال سفيان بن عيينة : الوتر : هو الله سبحانه ، وهو الشفع أيضاً لقوله : { مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ . . . } [ المجادلة : 7 ] الآية . وقال الحسن : المراد بالشفع والوتر العدد كله؛ لأن العدد لا يخلو عنهما . وقيل : الشفع مسجد مكة والمدينة ، والوتر مسجد بيت المقدس .

وقيل : الشفع حجج القرآن ، والوتر الإفراد . وقيل : الشفع الحيوان لأنه ذكر وأنثى ، والوتر الجماد . وقيل : الشفع ما سمي ، والوتر ما لا يسمى .
ولا يخفاك ما في غالب هذه الأقوال من السقوط البين ، والضعف الظاهر ، والاتكال في التعيين على مجرّد الرأي الزائف ، والخاطر الخاطىء .
والذي ينبغي التعويل عليه ، ويتعين المصير إليه ما يدل عليه معنى الشفع والوتر في كلام العرب ، وهما معروفان واضحان ، فالشفع عند العرب الزوج ، والوتر الفرد . فالمراد بالآية إما نفس العدد ، أو ما يصدق عليه من المعدودات بأنه شفع أو وتر . وإذا قام دليل على تعيين شيء من المعدودات في تفسير هذه الآية ، فإن كان الدليل يدلّ على أنه المراد نفسه دون غيره فذاك ، وإن كان الدليل يدلّ على أنه مما تناولته هذه الآية لم يكن ذلك مانعاً من تناولها لغيره . قرأ الجمهور : { والوتر } بفتح الواو . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف بكسرها ، وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه ، وهما لغتان ، والفتح لغة قريش وأهل الحجاز ، والكسر لغة تميم . قال الأصمعي : كلّ فرد وتر ، وأهل الحجاز يفتحون فيقولون وتر في الفرد . وحكى يونس عن ابن كثير أنه قرأ بفتح الواو ، وكسر التاء ، فيحتمل أن تكون لغة ثالثة ، ويحتمل أنه نقل كسرة الراء إلى التاء إجراء للوصل مجرى الوقف .
{ واليل إِذَا يَسْرِ } قرأ الجمهور : { يسر } بحذف الياء وصلاً ووقفاً اتباعاً لرسم المصحف . وقرأ نافع ، وأبو عمرو بحذفها في الوقف ، وإثباتها في الوصل . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، ويعقوب بإثباتها في الوصل والوقف .
قال الخليل : تسقط الياء منها موافقة لرؤوس الآي . قال الزجاج : والحذف أحب إليّ لأنها فاصلة ، والفواصل تحذف منها الياآت . قال الفرّاء : قد تحذف العرب الياء وتكتفي بكسر ما قبلها ، وأنشد بعضهم :
كفاك كفّ ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف دما
ما تليق ، أي : ما تمسك . قال المؤرج : سألت الأخفش عن العلة في إسقاط الياء من يسر فقال : لا أجيبك حتى تبيت على باب داري سنة ، فبتّ على باب داره سنة ، فقال : الليل لا يسري ، وإنما يسرى فيه ، فهو مصروف عن جهته ، وكلّ ما صرفته عن جهته بخسته من إعرابه ، ألا ترى إلى قوله : { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } [ مريم : 28 ] ولم يقل بغية؛ لأنه صرفها من باغية .
وفي كلام الأخفش هذا نظر ، فإن صرف الشيء عن معناه لسبب من الأسباب لا يستلزم صرف لفظه عن بعض ما يستحقه ، ولو صحّ ذلك للزم في كلّ المجازات العقلية واللفظية ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله ، والأصل ههنا إثبات الياء؛ لأنها لام الفعل المضارع المرفوع ، ولم تحذف لعلة من العلل إلا لاتباع رسم المصحف ، وموافقة رءوس الآي إجراء للفواصل مجرى القوافي . ومعنى { واليل إِذَا يَسْرِ } : إذا يمضي ، كقوله :

{ واليل إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] { واليل إِذَا عَسْعَسَ } [ التكوير : 17 ] وقيل : معنى يسر : يسار فيه ، كما يقال ليل نائم ، ونهار صائم ، كما في قول الشاعر :
لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطيّ بنائم
وبهذا قال الأخفش ، والقتيبي وغيرهما من أهل المعاني ، وبالأوّل قال جمهور المفسرين . وقال قتادة ، وأبو العالية : { واليل إِذَا يَسْرِ } أي : جاء وأقبل . وقال النخعي ، أي : استوى . قال عكرمة ، وقتادة ، والكلبي ، ومحمد بن كعب : هي ليلة المزدلفة خاصة لاختصاصها باجتماع الناس فيها لطاعة الله سبحانه . وقيل : ليلة القدر لسراية الرحمة فيها . والراجح عدم تخصيص ليلة من الليالي دون أخرى . { هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } هذا الاستفهام لتقرير تعظيم ما أقسم سبحانه به ، وتفخيمه من هذه الأمور المذكورة ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى تلك الأمور ، والتذكير بتأويل المذكور ، أي : هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها قسم ، أي : مقسم به حقيق بأن تؤكد به الأخبار . { لّذِى حِجْرٍ } أي : عقل ولبّ . فمن كان ذا عقل ولبّ علم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء حقيق بأن يقسم به ، ومثل هذا قوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ] قال الحسن : { لّذِى حِجْرٍ } أي : لذي حلم . وقال أبو مالك : لذي ستر من الناس . وقال الجمهور : الحجر العقل . قال الفرّاء : الكلّ يرجع إلى معنى واحد ، لذي عقل ، ولذي حلم ، ولذي ستر ، الكلّ بمعنى العقل . وأصل الحجر المنع ، يقال لمن ملك نفسه ومنعها : إنه لذو حجر ، ومنه سمي الحجر لامتناعه بصلابته ، ومنه حجر الحاكم على فلان ، أي : منعه . قال ، والعرب تقول : إنه لذو حجر : إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها .
ثم ذكر سبحانه على طريقة الاستشهاد ما وقع من عذابه على بعض طوائف الكفار بسبب كفرهم ، وعنادهم وتكذيبهم للرسل تحذيراً للكفار في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم وتخويفاً لهم أن يصيبهم ما أصابهم فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد } قرأ الجمهور بتنوين { عاد } على أن يكون { إرم } عطف بيان لعاد ، والمراد بعاد : اسم أبيهم . وإرم اسم القبيلة ، أو بدلاً منه . وامتناع صرف إرم للتعريف والتأنيث . وقيل : المراد بعاد أولاد عاد ، وهم عاد الأولى ، ويقال لمن بعدهم عاد الأخرى ، فيكون ذكر إرم على طريقة عطف البيان أو البدل ، للدلالة على أنهم عاد الأولى لا عاد الأخرى ، ولا بدّ من تقدير مضاف على كلا القولين ، أي : أهل إرم ، أو سبط إرم؟ فإن إرم هو : جدّ عاد؛ لأنه عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح . وقرأ الحسن ، وأبو العالية بإضافة عاد إلى إرم . وقرأ الجمهور : { إرم } بكسر الهمزة . وفتح الراء ، والميم . وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك : { أرم } بفتح الهمزة ، والراء .

وقرأ معاذ بسكون الراء تخفيفاً ، وقرىء بإضافة إرم إلى ذات العماد . قال مجاهد : من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالإرم التي هي الأعلام . واحدها أرم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي : والفجر وكذا ، وكذا { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } . { ألم تر } أي : ألم ينته علمك إلى ما فعل ربك بعاد ، وهذه الرؤية رؤية القلب ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو لكلّ من يصلح له ، وقد كان أمر عاد وثمود مشهوراً عند العرب؛ لأن ديارهم متصلة بديار العرب ، وكانوا يسمعون من أهل الكتاب أمر فرعون . وقال مجاهد أيضاً : إرم أمة من الأمم ، وقال قتادة : هي قبيلة من عاد . وقيل : هما عادان ، فالأولى هي إرم ، ومنه قول قيس بن الرقيات :
مجداً تليداً بناه أوّلهم ... أدرك عاداً وقبله إرم
قال معمر : إرم إليه مجتمع عاد وثمود ، وكان يقال عاد إرم وعاد ثمود ، وكانت القبيلتان تنسب إلى إرم ، قال أبو عبيدة : هما عادان ، فالأولى إرم . ومعنى { ذات العماد } : ذات القوّة والشدّة ، مأخوذ من قوة الأعمدة ، كذا قال الضحاك . وقال قتادة ، ومجاهد : إنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع ، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم . وقال مقاتل : ذات العماد يعني طولهم ، كان طول الرجل منهم اثني عشرة ذراعاً . ويقال : رجل طويل العماد ، أي : القامة .
قال أبو عبيدة : ذات العماد ذات الطول ، يقال رجل معمد إذا كان طويلاً . وقال مجاهد ، وقتادة : أيضاً كان عماداً لقومهم ، يقال : فلان عميد القوم وعمودهم ، أي : سيدهم . وقال ابن زيد : ذات العماد يعني إحكام البنيان بالعمد . قال في الصحاح : والعماد الأبنية الرفيعة تذكر وتؤنث ، قال عمرو بن كلثوم :
ونحن إذا عماد الحيّ خرّت ... على الإخفاض نمنع من يلينا
وقال عكرمة ، وسعيد المقبري هي دمشق ، ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك . وقال محمد بن كعب : هي الإسكندرية . { التى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى البلاد } هذه صفة لعاد : أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في الطول والشدّة والقوّة ، وهم الذين قالوا : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] أو صفة للقرية على قول من قال : إن إرم اسم لقريتهم ، أو للأرض التي كانوا فيها . والأوّل أولى ، ويدل عليه قراءة أبيّ : ( التي لم يخلق مثلهم في البلاد ) وقيل : الإرم الهلاك . قال الضحاك : { إرم ذات العماد } أي : أهلكهم فجعلهم رميماً ، وبه قال شهر بن حوشب . وقد ذكر جماعة من المفسرين أن إرم ذات العماد اسم مدينة مبنية بالذهب والفضة قصورها ودورها ، وبساتينها ، وإن حصباءها جواهر ، وترابها مسك ، وليس بها أنيس ، ولا فيها ساكن من بني آدم ، وإنها لا تزال تنتقل من موضع إلى موضع ، فتارة تكون باليمن ، وتارة تكون بالشام ، وتارة تكون بالعراق ، وتارة تكون بسائر البلاد ، وهذا كذب بحت لا ينفق على من له أدنى تميز .

وزاد الثعلبي في تفسيره فقال : إن عبد الله بن قلابة في زمان معاوية دخل هذه المدينة ، وهذا كذب على كذب ، وافتراء على افتراء ، وقد أصيب الإسلام ، وأهله بداهية دهياء ، وفاقرة عظمى ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترئون على الكذب ، تارة على بني إسرائيل ، وتارة على الأنبياء ، وتارة على الصالحين ، وتارة على ربّ العالمين ، وتضاعف هذا الشرّ ، وزاد كثرة بتصدّر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف ، والتفسير للكتاب العزيز ، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة ، والأقاصيص المنحولة ، والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه ، فحرّفوا ، وغيروا ، وبدّلوا . ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا ، فلينظر في كتابي الذي سميته ( الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ) .
ثم عطف سبحانه القبيلة الآخرة ، وهي : ثمود على قبيلة عاد فقال : { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد } وهم : قوم صالح سموا باسم جدّهم ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح . ومعنى { جابوا الصخر } : قطعوه . والجوب القطع ، ومنه جاب البلاد : إذا قطعها ، ومنه سمي جيب القميص؛ لأنه جيب ، أي : قطع . قال المفسرون : أوّل من نحت الجبال والصخور ثمود ، فبنوا من المدائن ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ، ومنه قوله سبحانه : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فارهين } [ الشعراء : 149 ] وكانوا ينحتون الجبال وينقبونها ويجعلون تلك الأنقاب بيوتاً يسكنون فيها . وقوله : { بالواد } متعلق ب { جابوا } ، أو بمحذوف على أنه حال من الصخر ، وهو وادي القرى . قرأ الجمهور : { ثمود } بمنع الصرف على أنه اسم للقبيلة ، ففيه التأنيث والتعريف . وقرأ يحيى بن وثاب بالصرف على أنه اسم لأبيها . وقرأ الجمهور أيضاً بالواد بحذف الياء وصلاً ، ووقفاً اتباعاً لرسم المصحف . وقرأ ابن كثير بإثباتها فيهما . وقرأ قنبل في رواية عنه بإثباتها في الوصل دون الوقف .
{ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } أي : ذو الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدّونها بالأوتاد ، أو جعل الجنود أنفسهم أوتاداً لأنهم يشدّون الملك ، كما تشد الأوتاد الخيام . وقيل : كان له أوتاد يعذب الناس بها ويشدّهم إليها . وقد تقدّم بيان هذا في سورة ص . { الذين طَغَوْاْ فِى البلاد } الموصول صفة لعاد وثمود وفرعون ، أي : طغت كل طائفة منهم في بلادهم ، وتمرّدت ، وعتت ، والطغيان مجاوزة الحدّ . { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد } بالكفر ، ومعاصي الله ، والجور على عباده ، ويجوز أن يكون الموصول في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين طغوا ، أو في محل نصب على الذم . { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي : أفرغ عليهم وألقى على تلك الطوائف سوط عذاب ، وهو ما عذبهم به . قال الزجاج : جعل صوته الذي ضربهم به العذاب ، يقال : صبّ على فلان خلعة ، أي : ألقاها عليه ، ومنه قول النابغة :
فصبّ الله عليه أحسن صبغة ... وكان له بين البرية ناصر

ومنه قول الآخر :
ألم تر أن الله أظهر دينه ... وصبّ على الكفار سوط عذاب
ومعنى { سوط عذاب } نصيب عذاب ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم هو بالنسبة إلى ما أعدّه لهم في الآخرة كالسوط ، إذا قيس إلى سائر ما يعذب به . وقيل : ذكر السوط للدلالة على شدة ما نزل بهم ، وكان السوط عندهم هو نهاية ما يعذب به . قال الفرّاء : هي كلمة تقولها العرب لكل نوع من أنواع العذاب ، وأصل ذلك أن السوط هو عذابهم الذي يعذبون به ، فجرى لكل عذاب إذا كان فيه عندهم غاية العذاب . وقيل معناه : عذاب يخالط اللحم والدم ، من قولهم ساطه يسوطه سوطاً ، أي : خلطه ، فالسوط خلط الشيء بعضه ببعض ، ومنه قول كعب بن زهير :
لكن خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
وقال الآخر :
أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمسّ دم دما
وقال آخر :
فسطها ذميم الرأي غير موفق ... فلست على تسويطها بمعان
{ إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } قد قدّمنا قول من قال إن هذا جواب القسم ، والأولى أن الجواب محذوف ، وهذه الجملة تعليل لما قبلها ، وفيها إرشاد إلى أن كفار قومه صلى الله عليه وسلم سيصيبهم ما أصاب أولئك الكفار ، ومعنى بالمرصاد : أنه يرصد عمل كل إنسان حتى يجازيه عليه بالخير خيراً ، وبالشرّ شرّاً . قال الحسن ، وعكرمة ، أي : عليه طريق العباد لا يفوته أحد ، والرصد والمرصاد : الطريق . وقد تقدّم بيانه في سورة براءة ، وتقدّم أيضاً عند قوله : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } [ النبأ : 21 ] .
وقد أخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { والفجر } قال : فجر النهار . وأخرج ابن جرير عنه قال : يعني : صلاة الفجر . وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي في الشعب ، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله : { والفجر } قال : هو : المحرّم فجر السنة ، وقد ورد في فضل صوم شهر محرّم أحاديث صحيحة ، ولكنها لا تدلّ على أنه المراد بالآية لا مطابقة ، ولا تضمناً ، ولا التزاماً . وأخرج أحمد ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن جابر : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : { والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ * والشفع والوتر } قال : « إن العشر عشر الأضحى ، والوتر : يوم عرفة ، والشفع : يوم النحر » وفي لفظ : « هي ليالي من ذي الحجة » وأخرج عبد بن حميد عن طلحة بن عبد الله أنه دخل على ابن عمر هو وأبو سلمة بن عبد الرحمن؛ فدعاهم ابن عمر إلى الغداء يوم عرفة ، فقال أبو سلمة : أليس هذه الليالي العشر التي ذكرها الله في القرآن؟ فقال ابن عمر : وما يدريك؟ قال : ما أشك ، قال : بلى ، فاشكك .

وقد ورد في فضل هذه العشر أحاديث ، وليس فيها ما يدلّ على أنها المرادة بما في القرآن هنا بوجه من الوجوه .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلَيالٍ عَشْرٍ } قال : هي العشر الأواخر من رمضان . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، وابن مردويه عن عمران بن حصين ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر ، فقال : « هي الصلاة بعضها شفع ، وبعضها وتر » وفي إسناده رجل مجهول ، وهو الراوي له عن عمران بن حصين . وقد روي عن عمران بن عصام على عمران بن حصين بإسقاط الرجل المجهول . وقال الترمذي بعد إخراجه بالإسناد الذي فيه الرجل المجهول هو حديث غريب لا نعرفه إلاّ من حديث قتادة . قال ابن كثير : وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه ، والله أعلم . قال : ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر . وقد أخرج هذا الحديث موقوفاً على عمران بن حصين عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، فهذا يقوّي ما قاله ابن كثير .
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { والشفع والوتر } فقال : كل شيء شفع ، فهو اثنان ، والوتر واحد . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند ضعيف عن أبي أيوب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : أنه سئل عن الشفع والوتر فقال : « يومان وليلة ، يوم عرفة ، ويوم النحر ، والوتر ليلة النحر ليلة جمع » وأخرج ابن جرير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الشفع يومان ، والوتر اليوم الثالث » وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير أنه سئل عن الشفع والوتر فقال : الشفع قول الله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ] والوتر : اليوم الثالث . وفي لفظ : الوتر أوسط أيام التشريق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس قال : الشفع يوم النحر ، والوتر يوم عرفة . وأخرج ابن جرير عنه { واليل إِذَا يَسْرِ } قال : إذا ذهب . وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ : { والفجر } إلى قوله : { إِذَا يَسْرِ } ، قال : هذا قسم على إن ربك بالمرصاد .
وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله : { قَسَمٌ لّذِى حِجْرٍ } قال : لذي حجى وعقل ونهي .

وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { بِعَادٍ * إِرَمَ } قال : يعني : بالإرم الهالك ، ألا ترى أنك تقول أرم بنو فلان { ذَاتِ العماد } يعني : طولهم مثل العماد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر { إِرَمَ ذَاتِ العماد } فقال : « كان الرجل منهم يأتي إلى الصخرة ، فيحملها على كاهله ، فيلقيها على أيّ حيّ أراد فيهلكهم » ، وفي إسناده رجل مجهول؛ لأن معاوية بن صالح رواه عمن حدّثه عن المقدام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { جَابُواْ الصخر بالواد } قال : خرقوها . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً . { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } قال : الأوتاد : الجنود الذين يشدّون له أمره . وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { ذِى الأوتاد } قال : وتد فرعون لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } قال : يسمع ويرى . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } قال : من وراء الصراط جسور : جسر عليه الأمانة ، وجسر عليه الرحم ، وجسر عليه الربّ عزّ وجلّ .

فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

لما ذكر سبحانه أنه بالمرصاد ذكر ما يدلّ على اختلاف أحوال عباده عند إصابة الخير ، وعند إصابة الشرّ ، وأن مطمح أنظارهم ، ومعظم مقاصدهم هو الدنيا فقال : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ } أي : امتحنه ، واختبره بالنعم { فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } أي : أكرمه بالمال ، ووسع عليه رزقه { فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ } فرحاً بما نال ، وسروراً بما أعطي ، غير شاكر لله على ذلك ، ولا خاطر بباله أن ذلك امتحان له من ربه ، واختبار لحاله وكشف لما يشتمل عليه من الصبر والجزع ، والشكر للنعمة وكفرانها ، و «ما» في قوله : { إِذَا مَا } زائدة . وقوله : { فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } تفسير للابتلاء . ومعنى : { أَكْرَمَنِ } أي : فضلني بما أعطاني من المال ، وأسبغه عليّ من النعم لمزيد استحقاقي لذلك ، وكوني موضعاً له ، والإنسان مبتدأ وخبره : { فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ } ودخلت الفاء فيه لتضمن أما معنى الشرط ، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر ، وإن تقدّم لفظاً فهو مؤخر في المعنى ، أي : فأما الإنسان فيقول ربي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام . قال الكلبي : الإنسان هو الكافر أبيّ بن خلف . وقال مقاتل : نزلت في أمية بن خلف . وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة ، وأبي حذيفة بن المغيرة .
{ وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه } أي : اختبره ، وعامله معاملة من يختبره { فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } أي : ضيقه ، ولم يوسعه له ، ولا بسط له فيه . { فَيَقُولُ رَبّى أَهَانَنِ } أي : أولاني هواناً ، وهذه صفة الكافر الذي لا يؤمن بالبعث؛ لأنه لا كرامة عنده إلاّ الدنيا والتوسع في متاعها ، ولا إهانة عنده إلاّ فوتها ، وعدم وصوله إلى ما يريد من زينتها ، فأما المؤمن ، فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته ، ويوفقه لعمل الآخرة ، ويحتمل أن يراد الإنسان على العموم لعدم تيقظه أن ما صار إليه من الخير ، وما أصيب به من الشرّ في الدنيا ليس إلاّ للاختبار والامتحان ، وأن الدنيا بأسرها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ، ولو كانت تعدل جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء . قرأ نافع بإثبات الياء في { أكرمن } و { أهانن } وصلاً وحذفهما وقفاً ، وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه ، وابن محيصن ، ويعقوب بإثباتهما وصلاً ، ووقفاً ، وقرأ الباقون بحذفهما في الوصل ، والوقف اتباعاً لرسم المصحف ، ولموافقة رؤوس الآي ، والأصل إثباتها؛ لأنها اسم ، ومن الحذف قول الشاعر :
ومن كاشح ظاهر غمره ... إذا ما انتصبت له أنكرن
أي : أنكرني . وقرأ الجمهور : { فقدر } بالتخفيف ، وقرأ ابن عامر بالتشديد ، وهما لغتان . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : " ربي " بفتح الياء في الموضعين ، وأسكنها الباقون . وقوله : { كَلاَّ } ردع للإنسان القائل في الحالتين ما قال وزجر له ، فإن الله سبحانه قد يوسع الرزق ، ويبسط النعم للإنسان لا لكرامته ، ويضيقه عليه لا لإهانته ، بل للاختبار والامتحان ، كما تقدّم .

قال الفراء : كلا في هذا الموضع بمعنى أنه لم يكن ينبغي للعبد أن يكون هكذا ، ولكن يحمد الله على الغنى والفقر .
ثم انتقل سبحانه من بيان سوء أقوال الإنسان إلى بيان سوء أفعاله فقال : { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم } والالتفات إلى الخطاب لقصد التوبيخ ، والتقريع على قراءة الجمهور بالفوقية . وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتحتية على الخبر . وهكذا اختلفوا فيما بعد هذا من الأفعال ، فقرأ الجمهور { تحضون } و { تأكلون } و { تحبون } بالفوقية على الخطاب فيها . وقرأ أبو عمرو ، ويعقوب بالتحتية فيها ، والجمع في هذه الأفعال باعتبار معنى الإنسان؛ لأن المراد به الجنس ، أي : بل لكم أفعال هي أقبح مما ذكر ، وهي أنكم تتركون إكرام اليتيم ، فتأكلون ماله ، وتمنعونه من فضل أموالكم . قال مقاتل : نزلت في قدامة بن مظعون ، وكان يتيماً في حجر أمية بن خلف . { وَلاَ تحاضون على طَعَامِ المسكين } قرأ الجمهور : « تحضون » من حضه على كذا ، أي : أغراه به ، ومفعوله محذوف ، أي : لا تحضون أنفسكم ، أو لا يحضّ بعضكم بعضاً على ذلك ، ولا يأمر به ، ولا يرشد إليه . وقرأ الكوفيون { تحاضون } بفتح التاء والحاء بعدها ألف ، وأصله تتحاضون ، فحذف إحدى التاءين . أي : لا يحضّ بعضكم بعضاً . وقرأ الكسائي في رواية عنه والسلمي : « تحاضون » بضم التاء من الحضّ ، وهو الحث ، وقوله : { على طَعَامِ المسكين } متعلق ب { تحضون } ، وهو إما اسم مصدر ، أي : على إطعام المسكين ، أو اسم للمطعوم ، ويكون على حذف مضاف ، أي : على بذل طعام المسكين ، أو على إعطاء طعام المسكين { وَتَأْكُلُونَ التراث } أصله الوارث ، فأبدلت التاء من الواو المضمومة ، كما في تجاه ، ووجاه ، والمراد به أموال اليتامى الذين يرثونه من قراباتهم ، وكذلك أموال النساء ، وذلك أنهم كانوا لا يورّثون النساء والصبيان ، ويأكلون أموالهم { أَكْلاً لَّمّاً } أي : أكلاً شديداً . وقيل : معنى { لماً } جمعاً ، من قولهم : لممت الطعام : إذا أكلته جميعاً . قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب اليتيم ، وكذا قال أبو عبيدة . وأصل اللمّ في كلام العرب : الجمع ، يقال لممت الشيء ألمه لماً : جمعته ، ومنه قولهم : لمّ الله شعثه ، أي : جمع ما تفرّق من أموره ، ومنه قول النابغة :
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أيّ الرجال المهذب
قال الليث : اللمّ : الجمع الشديد ، ومنه حجر ملموم ، وكتيبة ملمومة . وللآكل يلمّ الثريد ، فيجمعه ، ثم يأكله . وقال مجاهد : يسفه سفاً . وقال ابن زيد : هو إذا أكل ماله ألمّ بمال غيره ، فأكله ، ولا يفكر فيما أكل من خبيث وطيب . { وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً } أي : حباً كثيراً؛ والجمّ الكثير ، يقال جمّ الماء في الحوض : إذا كثر واجتمع . والجمة : المكان الذي يجتمع فيه الماء .

ثم كرّر سبحانه الردع لهم والزجر فقال : { كَلاَّ } أي : ما هكذا ينبغي أن يكون عملكم ، ثم استأنف سبحانه فقال : { إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } وفيه وعيد لهم بعد الردع والزجر ، والدكَّ : الكسر والدق . والمعنى هنا : أنها زلزلت ، وحركت تحريكاً بعد تحريك . قال ابن قتيبة : دكت جبالها حتى استوت . قال الزجاج أي : تزلزلت ، فدكّ بعضها بعضاً . قال المبرّد : أي : بسطت ، وذهب ارتفاعها . قال والدك : حط المرتفع بالبسط ، وقد تقدّم الكلام على الدك في سورة الأعراف ، وفي سورة الحاقة ، والمعنى : أنها دكت مرة بعد أخرى . وانتصاب { دكاً } الأوّل على أنه مصدر مؤكد للفعل . و { دكاً } الثاني تأكيد للأوّل . كذا قال ابن عصفور . ويجوز أن يكون النصب على الحال ، أي : حال كونها مدكوكة مرة بعد مرة ، كما يقال : علمته الحساب باباً باباً ، وعلمته الخط حرفاً حرفاً . والمعنى : أنه كرّر الدك عليها حتى صارت هباء منبثاً .
{ وَجَاء رَبُّكَ } أي : جاء أمره وقضاؤه ، وظهرت آياته ، وقيل المعنى : أنها زالت الشبه في ذلك اليوم ، وظهرت المعارف ، وصارت ضرورية ، كما يزول الشكّ عند مجيء الشيء الذي كان يشكّ فيه . وقيل : جاء قهر ربك وسلطانه ، وانفراده بالأمر ، والتدبير من دون أن يجعل إلى أحد من عباده شيئًا من ذلك . { والملك صَفّاً صَفّاً } انتصاب { صفاً صفاً } على الحال ، أي : مصطفين ، أو ذوي صفوف . قال عطاء : يريد صفوف الملائكة ، وأهل كلّ سماه صفّ على حدة . قال الضحاك : أهل كلّ سماء إذا نزلوا يوم القيامة كانوا صفاً محيطين بالأرض ومن فيها ، فيكونون سبعة صفوف . { وَجِىء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } { يومئذ } منصوب ب { جيء } ، والقائم مقام الفاعل ب { جهنم } ، وجوّز مكيّ أن يكون يومئذ هو القائم مقام الفاعل ، وليس بذاك . قال الواحدي : قال جماعة من المفسرين : جيء بها يوم القيامة مزمومة بسبعين ألف زمام مع كلّ زمام سبعون ألف ملك يجرّونها حتى تنصب عن يسار العرش ، فلا يبقى ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل إلاّ جثا لركبتيه يقول : يا ربّ نفسي نفسي . وسيأتي الذي هذا نقله عن جماعة المفسرين مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله .
{ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان } { يومئذ } هذا بدل من { يومئذ } الذي قبله ، أي : يوم جيء بجهنم يتذكر الإنسان ، أي : يتعظ ، ويذكر ما فرط منه ، ويندم على ما قدّمه في الدنيا من الكفر والمعاصي . وقيل : إن قوله : { يَوْمَئِذٍ } الثاني بدل من قوله : { إِذَا دُكَّتِ } والعامل فيهما هو قوله : { يَتَذَكَّرُ الإنسان } و { أنى لَهُ الذكرى } أي : ومن أين له التذكر والاتعاظ . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : ومن أين له منفعة الذكرى . قال الزجاج : يظهر التوبة ، ومن أين له التوبة؟ { يَقُولُ ياليتنى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى } الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا يقول الإنسان؟ ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من قوله : { يتذكر } .

والمعنى : يتمنى أنه قدّم الخير ، والعمل الصالح . واللام في { لحياتي } بمعنى لأجل حياتي ، والمراد حياة الآخرة ، فإنها الحياة بالحقيقة؛ لأنها دائمة غير منقطعة . وقيل : إن اللام بمعنى « في » ، والمراد حياة الدنيا : أي : يا ليتني قدّمت الأعمال الصالحة في وقت حياتي في الدنيا أنتفع بها هذا اليوم ، والأوّل أولى . قال الحسن : علم والله أنه صادف حياة طويلة لا موت فيها .
{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي : يوم يكون زمان ما ذكر من الأحوال لا يعذب كعذاب الله أحد ، { وَلاَ يُوثِقُ } ك { وَثَاقَهُ أَحَدٌ } أو لا يتولى عذاب الله ووثاقه أحد سواه إذ الأمر كله له . والضميران على التقديرين في عذابه ووثاقه لله عزّ وجلّ ، وهذا على قراءة الجمهور { يعذب } ، و { يوثق } مبنيين للفاعل . وقرأ الكسائي على البناء للمفعول فيهما ، فيكون الضميران راجعين إلى الإنسان ، أي : لا يعذب كعذاب ذلك الإنسان أحد ، ولا يوثق كوثاقه أحد ، والمراد بالإنسان الكافر ، أي : لا يعذب من ليس بكافر كعذاب الكافر . وقيل : إبليس . وقيل : المراد به أبيّ بن خلف . قال الفرّاء : المعنى أنه لا يعذب كعذاب هذا الكافر المعين أحد ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال كوثاقه أحد لتناهيه في الكفر والعناد . وقيل المعنى : أنه لا يعذب مكانه أحد ، ولا يوثق مكانه أحد ، فلا تؤخذ منه فدية ، وهو كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] ، والعذاب بمعنى التعذيب ، والوثاق بمعنى التوثيق . واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم قراءة الكسائي ، قال : وتكون الهاء في الموضعين ضمير الكافر؛ لأنه معروف أنه لا يعذب أحد كعذاب الله . قال أبو عليّ الفارسي : يجوز أن يكون الضمير للكافر على قراءة الجماعة أي ، لا يعذب أحد أحداً مثل تعذيب هذا الكافر .
ولما فرغ سبحانه من حكاية أحوال الأشقياء ذكر بعض أحوال السعداء فقال : { يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة } المطمئنة : هي الساكنة الموقنة بالإيمان وتوحيد الله ، الواصلة إلى ثلج اليقين بحيث لا يخالطها شكّ ، ولا يعتريها ريب . قال الحسن : هي المؤمنة الموقنة . وقال مجاهد : الراضية بقضاء الله التي علمت أن ما أخطأها لم يكن ليصيبها ، وأن ما أصابها لم يكن ليخطئها . وقال مقاتل هي الآمنة المطمئنة . وقال ابن كيسان : المطمئنة بذكر الله . وقيل : المخلصة . قال ابن زيد : المطمئنة؛ لأنها بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث . { ارجعى إلى رَبّكِ } أي : ارجعي إلى الله { رَّاضِيَةٍ } بالثواب الذي أعطاك . { مَّرْضِيَّةً } عنده . وقيل : ارجعي إلى موعده . وقيل : إلى أمره . وقال عكرمة ، وعطاء : معنى { ارجعى إلى رَبّكِ } إلى جسدك الذي كنت فيه ، واختاره ابن جرير ، ويدل على هذا قراءة ابن عباس : ( فادخلي في عبدي ) بالإفراد ، والأوّل أولى { فادخلى فِى عِبَادِى } أي : في زمرة عبادي الصالحين ، وكوني من جملتهم ، وانتظمي في سلكهم { وادخلى جَنَّتِى } معهم قيل : إنه يقال لها ارجعي إلى ربك عند خروجها من الدنيا .

ويقال لها : ادخلي في عبادي ، وادخلي جنتي يوم القيامة ، والمراد بالآية كل نفس مطمئنة على العموم ، ولا ينافي ذلك نزولها في نفس معينة ، فالاعتبار بعموم اللفظ ، لا بخصوص السبب .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَكْلاً لَّمّاً } قال : سفاً . وفي قوله : { حُبّاً جَمّاً } قال : شديداً . وأخرج ابن جرير عنه { أَكْلاً لَّمّاً } قال : شديداً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } قال : تحريكها . وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وأنى لَهُ الذكرى } يقول : وكيف له؟ وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذّبُ } الآية قال : لا يعذب بعذاب الله أحد ، ولا يوثق بوثاق الله أحد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً في قوله : { أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة } قال : المؤمنة { ارجعى إلى رَبّكِ } يقول : إلى جسدك . قال : «نزلت هذه الآية ، وأبو بكر جالس ، فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا ، فقال : أما إنه سيقال لك هذا» .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية عن سعيد بن جبير نحوه مرسلاً . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول نحوه عن أبي بكر الصديق .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة } قال : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : { النفس المطمئنة } المصدّقة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال : تردّ الأرواح يوم القيامة في الأجساد . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً } قال : بما أعطيت من الثواب { مَّرْضِيَّةً } عنها بعملها . { فادخلى فِى عِبَادِى } المؤمنين . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عباس بالطائف ، فجاء طير لم ير على خلقته ، فدخل نعشه ، ثم لم ير خارجاً منه . فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا ندري من تلاها : { يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة ارجعى إلى رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فادخلى فِى عِبَادِى * وادخلى جَنَّتِى } . وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عكرمة مثله .

لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

قوله : { لاَ أُقْسِمُ } " لا " زائدة ، والمعنى : أقسم { بهذا البلد } . وقد تقدّم الكلام على هذا في تفسير { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } [ القيامة : 1 ] ومن زيادة «لا» في الكلام في غير القسم قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة ... وكاد صميم القلب لا يتصدّع
أي : يتصدّع . ومن ذلك قوله : { مَا مَنَعَكَ أَن لاَ تَسْجُدُ } [ الأعراف : 12 ] ، أي : أن تسجد . قال الواحدي : أجمع المفسرون على أن هذا قسم بالبلد الحرام وهو مكة . قرأ الجمهور : { لا أقسم } وقرأ الحسن ، والأعمش : ( لأقسم ) من غير ألف . وقيل : هو نفي للقسم . والمعنى : لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه . وقال مجاهد : إن " لا " رد على من أنكر البعث ، ثم ابتدأ ، فقال أقسم ، والمعنى : ليس الأمر كما تحسبون ، والأوّل أولى . والمعنى : أقسم بالبلد الحرام الذي أنت حلّ فيه . وقال الواسطي : إن المراد بالبلد المدينة ، وهو مع كونه خلاف إجماع المفسرين هو أيضاً مدفوع لكون السورة مكية لا مدنية . وجملة قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } معترضة . والمعنى : أقسم بهذا البلد { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } واعترض بينهما بهذه الجملة . والمعنى : ومن المكابد أن مثلك عليّ عظيم حرمته يستحل بهذا البلد ، كما يستحلّ الصيد في غير الحرم .
وقال الواحدي : الحلّ والحلال والمحل واحد ، وهو ضدّ المحرّم ، أحلّ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح حتى قاتل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لم تحلّ لأحد قبلي ، ولا تحلّ لأحد بعدي ، ولم تحلّ لي إلاّ ساعة من نهار " قال : والمعنى أن الله لما ذكر القسم بمكة دلّ ذلك على عظم قدرها مع كونها حراماً ، فوعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يحلها له حتى يقاتل فيها ويفتحها على يده ، فهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حلاً . انتهى . فالمعنى : وأنت حلّ بهذا البلد في المستقبل ، كما في قوله : { إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ } [ الزمر : 30 ] قال مجاهد : المعنى ما صنعت فيه من شيء فأنت حلّ . قال قتادة أنت حلّ به لست بآثم ، يعني : أنك غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه ، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر والمعاصي . وقيل المعنى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حالّ به ، ومقيم فيه ، وهو محلك ، فعلى القول بأن لا نافية غير زائدة ، يكون المعنى : لا أقسم به وأنت حالّ به ، فأنت أحقّ بالإقسام بك ، وعلى القول بأنها زائدة يكون المعنى : أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك؛ لأنه قد صار بإقامتك فيه عظيماً شريفاً ، وزاد على ما كان عليه من الشرف والعظم ، ولكن هذا إذا تقرّر في لغة العرب أن لفظ حلّ يجيء بمعنى حالّ ، وكما يجوز أن تكون الجملة معترضة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال .

{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } عطف على البلد . قال قتادة ، ومجاهد ، والضحاك ، والحسن ، وأبو صالح ، { وَوَالِدٍ } أي : آدم { وَمَا وَلَدَ } أي : وما تناسل من ولده أقسم بهم؛ لأنهم أعجب ما خلق الله على وجه الأرض لما فيهم من البيان والعقل والتدبير ، وفيهم الأنبياء والعلماء والصالحون . وقال أبو عمران الجوني : الوالد إبراهيم ، وما ولد : ذريته . قال الفرّاء : إن : «ما» عبارة عن الناس كقوله : { مَا طَابَ لَكُمْ } [ النساء : 3 ] . وقيل : الوالد إبراهيم ، والولد إسماعيل ، ومحمد صلى الله عليه وسلم . وقال عكرمة ، وسعيد بن جبير : { وَوَالِدٍ } يعني : الذي يولد له { وَمَا وَلَدَ } يعني : العاقر الذي لا يولد له ، وكأنهما جعلا ما نافية ، وهو بعيد ، ولا يصح ذلك إلاّ بإضمار الموصول ، أي : ووالد والذي ما ولد ، ولا يجوز إضمار الموصول عند البصريين ، وقال عطية العوفي : هو عام في كل والد ومولود من جميع الحيوانات ، واختار هذا ابن جرير . { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } هذا جواب القسم ، والإنسان هو هذا النوع الإنساني ، والكبد : الشدّة والمشقة ، يقال كابدت الأمر : قاسيت شدّته ، والإنسان لا يزال في مكابدة الدنيا ، ومقاساة شدائدها حتى يموت ، وأصل الكبد الشدّة ، ومنه تكبد اللبن : إذا غلظ واشتد ، ويقال كبد الرجل : إذا وجعت كبده ، ثم استعمل في كل شدّة ومشقة ، ومنه قول أبي الاصبغ :
لي ابن عم لو أن الناس في كبد ... لظلّ محتجراً بالنبل يرميني
قال الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة . وقال أيضاً : يكابد الشكر على السرّاء ، ويكابد الصبر على الضرّاء ، لا يخلو عن أحدهما . قال الكلبي : نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له أبو الأشدين ، وكان يأخذ الأديم العكاظي ويجعله تحت رجليه ويقول : من أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة حتى يتمزّق ، ولا تزول قدماه ، وكان من أعداء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفيه نزل . { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } يعني : لقوّته . ويكون معنى { فِى كَبَدٍ } على هذا : في شدّة خلق . وقيل معنى : { فِى كَبَدٍ } أنه جريء القلب غليظ الكبد . { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } أي : يظن ابن آدم أن لن يقدر عليه ولا ينتقم منه أحد ، أو يظنّ أبو الأشدّين أن لن يقدر عليه أحد ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن مقدّر .
ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا الإنسان فقال : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي : كثيراً مجتمعاً بعضه على بعض . قال الليث : مال لبد لا يخاف فناؤه من كثرته .

قال الكلبي ، ومقاتل : يقول أهلكت في عداوة محمد مالاً كثيراً . وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل : أذنب ، فاستفتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يكفر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد . قرأ الجمهور : { لبداً } بضم اللام ، وفتح الباء مخففاً . وقرأ مجاهد ، وحميد بضم اللام والباء مخففاً . وقرأ أبو جعفر بضم اللام ، وفتح الباء مشدّداً . قال أبو عبيدة : لبد فعل من التلبيد ، وهو المال الكثير بعضه على بعض . قال الزجاج : فعل للكثرة ، يقال رجل حطم : إذا كان كثير الحطم . قال الفرّاء : واحدته لبدة ، والجمع لبد . وقد تقدّم بيان هذا في سورة الجنّ . { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } أي : أيظنّ أنه لم يعاينه أحد . قال قتادة : أيظنّ أن الله سبحانه لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين كسبه ، وأين أنفقه؟ وقال الكلبي : كان كاذباً لم ينفق ما قال ، فقال الله : أيظنّ أن الله لم ير ذلك منه ، فعل أو لم يفعل ، أنفق أو لم ينفق .
ثم ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم ليعتبروا فقال : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } يبصر بهما { وَلِسَاناً } ينطق به { وَشَفَتَيْنِ } يستر بهما ثغره . قال الزجاج : المعنى ألم نفعل به ما يدل على أن الله قادر على أن يبعثه ، والشفة محذوفة اللام ، وأصلها شفهة بدليل تصغيرها على شفيهة { وهديناه النجدين } النجد : الطريق في ارتفاع . قال المفسرون : بينا له طريق الخير وطريق الشرّ . قال الزجاج : المعنى ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشرّ ، مبينتين كتبين الطريقين العاليتين . وقال عكرمة ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك : النجدان : الثديان؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ، ورزقه ، والأوّل أولى . وأصل النجد المكان المرتفع ، وجمعه نجود ، ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة ، فالنجدان الطريقان العاليان ، ومنه قول امرىء القيس :
فريقان منهم قاطع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب
{ فَلاَ اقتحم العقبة } الاقتحام : الرمي بالنفس في شيء من غير روية ، يقال منه : قحم في الأمر قحوماً ، أي : رمى بنفسه فيه من غير روية ، وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية ، والقحمة بالضم المهلكة . والعقبة في الأصل الطريق التي في الجبل ، سميت بذلك لصعوبة سلوكها ، وهو مثل ضربه سبحانه لمجاهدة النفس والهوى والشيطان في أعمال البر ، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة . قال الفرّاء ، والزجاج : ذكر سبحانه هنا : «لا» مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع حتى يعيدوها في كلام آخر كقوله : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } [ القيامة : 31 ] وإنما أفردها هنا لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } قائماً مقام التكرير كأنه قال : فلا اقتحم العقبة ، ولا آمن .

قال المبرد ، وأبو علي الفارسي : إن «لا» هنا بمعنى لم ، أي : فلم يقتحم العقبة ، وروي نحو ذلك عن مجاهد ، فلهذا لم يحتج إلى التكرير ، ومنه قول زهير :
وكان طوى كشحا على مستكنة ... فلا هو أبداها ولم يتقدّم
أي : فلم يبدها ، ولم يتقدم . وقيل : هو جار مجرى الدعاء كقولهم : لا نجاء . قال أبو زيد ، وجماعة من المفسرين : معنى الكلام هنا الاستفهام الذي بمعنى الإنكار . تقديره : أفلا اقتحم العقبة ، أو هلا اقتحم العقبة . ثم بيّن سبحانه العقبة فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة } أي : أيّ شيء أعلمك ما اقتحامها . { فَكُّ رَقَبَةٍ } أي : هي إعتاق رقبة ، وتخليصها من أسار الرق . وكل شيء أطلقته فقد فككته ، ومنه : فك الرهن ، وفك الكتاب ، فقد بيّن سبحانه أن العقبة هي هذه القرب المذكورة التي تكون بها النجاة من النار . قال الحسن ، وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر ، فاقتحموها بطاعة الله . وقال مجاهد ، والضحاك ، والكلبي : هي الصراط الذي يضرب على جهنم كحد السيف . وقال كعب : هي نار دون الجسر . قيل : وفي الكلام حذف أي : وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، والكسائي ( فكّ رقبة ) على أنه فعل ماض ، ونصب رقبة على المفعولية ، وهكذا قرآ ، أو اطعم : على أنه فعل ماض . وقرأ الباقون ( فك ، أو إطعام ) على أنهما مصدران ، وجرّ رقبة بإضافة المصدر إليها ، فعلى القراءة الأولى يكون الفعلان بدلاً من اقتحم ، أو بياناً له كأنه قيل : فلا فك ولا أطعم ، والفكّ في الأصل : حلّ القيد ، سمي العتق فكاً؛ لأن الرق كالقيد ، وسمي المرقوق رقبة؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته . { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ } المسغبة المجاعة ، والسغب الجوع ، والساغب الجائع . قال الراغب : يقال منه سغب الرجل سغباً ، وسغوباً فهو ساغب ، وسغبان ، والمسغبة مفعلة منه ، وأنشد أبو عبيدة :
فلو كنت حرّاً يابن قيس بن عاصم ... لما بتّ شبعاناً وجارك ساغبا
قال النخعي : { فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ } أي : عزيز فيه الطعام . { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } أي : قرابة . يقال : فلان ذو قرابتي ، وذو مقربتي : واليتيم في الأصل : الضعيف . يقال : يتم الرجل : إذا ضعف . واليتيم عند أهل اللغة : من لا أب له . وقيل : هو من لا أب له ولا أمّ ، ومنه قول قيس بن الملوّح :
إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا ... إلى الله فقد الوالدين يتيم
{ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } أي : لا شيء له كأنه لصق بالتراب لفقره ، وليس له مأوى إلاّ التراب ، يقال : ترب الرجل يترب ترباً ومتربة : إذا افتقر حتى لصق بالتراب ضرّاً . قال مجاهد : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره . وقال قتادة : هو ذو العيال . وقال عكرمة : هو المديون .

وقال أبو سنان : هو ذو الزمانة . وقال ابن جبير : هو الذي ليس له أحد . وقال عكرمة : هو البعيد التربة الغريب عن وطنه ، والأوّل أولى ، ومنه قول الهذلي :
وكنا إذا ما الضيف حلّ بأرضنا ... سفكنا دماء البدن في تربة الحال
قرأ الجمهور : { ذي مسغبة } على أنه صفة ليوم ، و « يتيماً » هو مفعول إطعام . وقرأ الحسن : « ذا مسغبة » بالنصب على أنه مفعول إطعام ، أي : يطعمون ذا مسغبة ، ويتيماً بدل منه . { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } عطف على المنفيّ بلا . وجاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله . وفيه دليل على أن هذه القرب إنما تنفع مع الإيمان . وقيل المعنى : ثم كان من الذين آمنوا بأن هذا نافع لهم . وقيل المعنى : أنه أتى بهذه القرب لوجه الله . { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } معطوف على { آمنوا } أي : أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وعلى ما أصابهم من البلايا ، والمصائب . { وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة } أي : بالرحمة على عباد الله . فإنهم إذا فعلوا ذلك رحموا اليتيم والمسكين ، واستكثروا من فعل الخير بالصدقة ونحوها . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصفات المذكورة هم { الميمنة مَا } أي : أصحاب جهة اليمين ، أو أصحاب اليمن ، أو الذين يعطون كتبهم بأيمانهم . وقيل : غير ذلك مما قد قدّمنا ذكره في سورة الواقعة . { والذين كَفَرُواْ بئاياتنا } أي : بالقرآن ، أو بما هو أعمّ منه ، فتدخل الآيات التنزيلية ، والآيات التكوينية التي تدل على الصانع سبحانه { هُمْ أصحاب المشئمة } أي : أصحاب الشمال ، أو أصحاب الشؤم . أو الذين يعطون كتبهم بشمالهم ، أو غير ذلك مما تقدّم . { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ } أي : مطبقة مغلقة ، يقال : أصدت الباب ، وأوصدته إذا أغلقته ، وأطبقته ، ومنه قول الشاعر :
تحنّ إلى أجبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
قرأ الجمهور : ( موصدة ) بالواو . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، وحفص بالهمزة مكان الواو ، وهما : لغتان ، والمعنى واحد .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } قال : مكة { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } يعني : بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، أحلّ الله له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء ، ويستحيي من شاء . فقتل له يومئذ ابن خطل صبراً ، وهو آخذ بأستار الكعبة ، فلم يحلّ لأحد من الناس بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يفعل فيها حراماً حرّمه الله ، فأحلّ الله له ما صنع بأهل مكة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } قال : مكة . { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } قال : أنت يا محمد يحلّ لك أن تقاتل فيه . وأما غيرك فلا . وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : نزلت هذه الآية : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد * وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } فيّ ، خرجت ، فوجدت عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، فضربت عنقه بين الركن والمقام .

وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } قال : أحلّ له أن يصنع فيه ما شاء .
{ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } قال : يعني : بالوالد آدم ، وما ولد ولده . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : الوالد الذي يلد ، { وما ولد } : العاقر لا يلد من الرجال والنساء . وأخرج ابن جرير ، والطبراني عنه أيضاً : { ووالد } قال : آدم . { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال : في اعتدال وانتصاب . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال : في نصب . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال : في شدّة . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال : في شدة خلق ولادته ، ونبت أسنانه ، ومعيشته ، وختانه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال : خلق الله كل شيء يمشي على أربعة إلاّ الإنسان فإنه خلق منتصباً . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضاً : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ } قال : منتصباً في بطن أمه أنه قد وكل به ملك إذا نامت الأمّ أو أضطجعت رفع رأسه لولا ذلك لغرق في الدم . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { مَالاً لُّبَداً } قال : كثيراً .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { وهديناه النجدين } قال : سبيل الخير والشرّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وهديناه النجدين } قال : الهدى والضلالة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عنه قال : سبيل الخير والشرّ . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سنان بن سعد عن أنس قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « هما نجدان ، فما جعل نجد الشرّ أحب إليكم من نجد الخير » تفرّد به سنان بن سعد ، ويقال سعد بن سنان . وقد وثقه يحيى بن معين . وقال الإمام أحمد ، والنسائي ، والجوزجاني : منكر الحديث . وقال أحمد : تركت حديثه لاضطرابه ، قد روى خمسة عشر حديثاً منكرة كلها ما أعرف منها حديثاً واحداً ، يشبه حديثه حديث الحسن البصري ، لا يشبه حديث أنس . وأخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه من طرق عن الحسن قال : ذكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول .

. . فذكره . وهذا مرسل ، وكذا رواه قتادة مرسلاً . أخرجه عنه ابن جرير ، ويشهد له ما أخرج الطبراني عن أبي أمامة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يا أيها الناس إنهما نجدان : نجد خير ، ونجد شرّ ، فما جعل نجد الشرّ أحب إليكم من نجد الخير » ويشهد له أيضاً ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنما هما نجدان ، نجد الخير ، ونجد الشرّ ، فلا يكن نجد الشرّ أحب إليكم من نجد الخير » وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { وهديناه النجدين } قال : الثديين .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : { فَلاَ اقتحم العقبة } قال : جبل زلال في جهنم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العقبة النار . وأخرج عبد بن حميد عنه قال : العقبة بين الجنة والنار . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عائشة قالت : لما نزل : { فَلاَ اقتحم العقبة } قيل : يا رسول الله ما عند أحدنا ما يعتق إلاّ أن عند أحدنا الجارية السوداء تخدمه ، فلو أمرناهنّ بالزنا ، فجئن بالأولاد ، فأعتقناهم ، فقال رسول الله : « لأن أمتع بسوط في سبيل الله أحبّ إليّ من أن آمر بالزنا ، ثم أعتق الولد » وأخرجه ابن جرير عنها بلفظ : « لعلاقة سوط في سبيل الله أعظم أجراً من هذا » وقد ثبت الترغيب في عتق الرقاب بأحاديث كثيرة : منها في الصحيحين ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى الفرج بالفرج » وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ } قال : مجاعة . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : { فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ } قال : جوع . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } قال : ذا قرابة ، وفي قوله : { ذَا مَتْرَبَةٍ } قال : بعيد التربة ، أي : غريباً عن وطنه ، وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه أيضاً : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } قال : هو المطروح الذي ليس له بيت . وفي لفظ للحاكم : هو الذي لا يقيه من التراب شيء . وفي لفظ : هو اللازق بالتراب من شدّة الفقر . وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : { مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } قال : « الذي مأواه المزابل » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة } يعني : بذلك رحمة الناس كلهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه : { مُّؤْصَدَةُ } قال : مغلقة الأبواب . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة : { مُّؤْصَدَةُ } قال مطبقة .

وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

أقسم سبحانه بهذه الأمور ، وله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته . وقال قوم : إن القسم بهذه الأمور ، ونحوها مما تقدّم ، ومما سيأتي هو على حذف مضاف أي : الشمس وربّ القمر ، وهكذا سائرها ، ولا ملجىء إلى هذا ، ولا موجب له . وقوله : { وضحاها } هو : قسم ثان قال مجاهد : وضحاها ، أي : ضوئها وإشراقها . وأضاف الضحى إلى الشمس؛ لأنه إنما يكون عند ارتفاعها ، وكذا قال الكلبي . وقال قتادة : { ضحاها } نهارها كله . قال الفراء : الضحى هو النهار . وقال المبرد : أصل الضحى الصبح ، وهو نور الشمس . قال أبو الهيثم : الضحى نقيض الظلّ ، وهو نور الشمس على وجه الأرض ، وأصله الضحى ، فاستثقلوا الياء ، فقلبوها ألفاً . قيل : والمعروف عند العرب أن الضحى إذا طلعت الشمس وبعيد ذلك قليلاً ، فإذا زاد فهو الضحاء بالمدّ . قال المبرد : الضحى ، والضحوة مشتقان من الضحّ ، وهو النور ، فأبدلت الألف ، والواو من الحاء .
واختلف في جواب القسم ماذا هو؟ فقيل : هو قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } . قاله الزجاج وغيره . قال الزجاج وحذفت اللام؛ لأن الكلام قد طال ، فصار طوله عوضاً منها . وقيل : الجواب محذوف ، أي : والشمس ، وكذا لتبعثنّ . وقيل تقديره : ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما دمدم على ثمود؛ لأنهم كذبوا صالحاً ، وأما : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } فكلام تابع لقوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء . وقيل : هو على التقديم والتأخير بغير حذف ، والمعنى : قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ، والشمس وضحاها . والأوّل أولى .
{ والقمر إِذَا تلاها } أي : تبعها ، وذلك بأن طلع بعد غروبها ، يقال تلا يتلو تلواً : إذا تبع . قال المفسرون : وذلك في النصف الأوّل من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة ، وخلفها في النور . قال الزجاج : تلاها حين استدار ، فكان يتلو الشمس في الضياء والنور ، يعني : إذا كمل ضوءه ، فصار تابعاً للشمس في الإنارة ، يعني : كان مثلها في الإضاءة ، وذلك في الليالي البيض . وقيل : إذا تلا طلوعه طلوعها . قال قتادة : إن ذلك ليلة الهلال إذا سقطت رؤي الهلال . قال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأوّل من الشهر تلاها القمر بالطلوع ، وفي آخرها يتلوها بالغروب ، وقال الفراء تلاها أخذ منها يعني : أن القمر يأخذ من ضوء الشمس . { والنهار إِذَا جلاها } أي : جلى الشمس ، وذلك أن الشمس عند انبساط النهار تنجلي تمام الانجلاء ، فكأنه جلاها مع أنها الذي تبسطه . وقيل : الضمير عائد إلى الظلمة ، أي : جلى الظلمة ، وإن لم يجر للظلمة ذكر؛ لأن المعنى معروف . قال الفراء : كما تقول أصبحت باردة أي : أصبحت غداتنا باردة ، والأوّل أولى .

ومنه قول قيس بن الحطيم :
تجلت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب
وقيل المعنى : جلى ما في الأرض من الحيوانات ، وغيرها بعد أن كانت مستترة في الليل . وقيل : جلى الدنيا . وقيل : جلى الأرض . { واليل إِذَا يغشاها } أي : يغشي الشمس ، فيذهب بضوئها ، فتغيب ، وتظلم الآفاق ، وقيل : يغشى الآفاق . وقيل : الأرض ، وإن لم يجر لهما ذكر؛ لأن ذلك معروف . والأوّل أولى . { والسماء وَمَا بناها } يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي : والسماء وبنيانها ، ويجوز أن تكون موصولة ، أي : والذي بناها ، وإيثار «ما» على من لإرادة الوصفية لقصد التفخيم كأنه قال : والقادر العظيم الشأن الذي بناها . ورجح الأوّل الفراء ، والزجاج ، ولا وجه لقول من قال : إن جعلها مصدرية مخلّ بالنظم . ورجح الثاني ابن جرير . { والأرض وَمَا طحاها } الكلام في «ما» هذه كالكلام في التي قبلها ، ومعنى طحاها بسطها . كذا قال عامة المفسرين ، كما في قوله : { دحاها } قالوا : طحاها ودحاها واحد ، أي : بسطها من كل جانب ، والطحو : البسط . وقيل : معنى { طحاها } قسمها . وقيل : خلقها ، ومنه قول الشاعر :
وما يدري جذيمة من طحاها ... ولا من ساكن العرش الرفيع
والأوّل أولى . والطحو أيضاً : الذهاب . قال أبو عمرو بن العلاء : طحا الرجل : إذا ذهب في الأرض . يقال : ما أدري أين طحا؟ ويقال : طحا به قلبه : إذا ذهب به ، ومنه قول الشاعر :
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب
{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } الكلام في «ما» هذه ، كما تقدّم ، ومعنى { سوّاها } خلقها وأنشأها ، وسوّى أعضاءها . قال عطاء : يريد جميع ما خلق من الجنّ والإنس ، والتنكير للتفخيم . وقيل : المراد نفس آدم . { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } أي : عرّفها وأفهمها حالهما ، وما فيهما من الحسن والقبح . قال مجاهد : عرّفها طريق الفجور ، والتقوى ، والطاعة ، والمعصية . قال الفراء : فألهمها عرّفها طريق الخير ، وطريق الشرّ ، كما قال : { وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] . قال محمد بن كعب : إذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به ، وإذا أراد به الشرّ ألهمه الشرّ فعمل به . قال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى ، وخذلانه إياها للفجور ، واختار هذا الزجاج ، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان . قال الواحدي : وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام ، فإن التبيين والتعليم ، والتعريف دون الإلهام ، والإلهام أن يوقع في قلبه ، ويجعل فيه ، وإذا أوقع الله في قلب عبده شيئًا ألزمه ذلك الشيء . قال : وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه ، وفي الكافر فجوره .
{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } أي : قد فاز من زكى نفسه وأنماها ، وأعلاها بالتقوى بكلّ مطلوب ، وظفر بكلّ محبوب ، وقد قدّمنا أن هذا جواب القسم على الراجح ، وأصل الزكاة : النموّ والزيادة ، ومنه زكا الزرع : إذا كثر .

{ وَقَدْ خَابَ مَن دساها } أي : خسر من أضلها وأغواها . قال أهل اللغة : دساها أصله دسسها ، من التدسيس ، وهو إخفاء الشيء في الشيء ، فمعنى دساها في الآية : أخفاها وأخملها ، ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح ، وكانت أجواد العرب تنزل الأمكنة المرتفعة ليشتهر مكانها ، فيقصدها الضيوف ، وكانت لئام العرب تنزل الهضاب ، والأمكنة المنخفضة؛ ليخفى مكانها عن الوافدين . وقيل : معنى { دساها } أغواها ، ومنه قول الشاعر :
وأنت الذي دسيت عمرا فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيعا
وقال ابن الأعرابي : { وَقَدْ خَابَ مَن دساها } أي : دسّ نفسه في جملة الصالحين ، وليس منهم : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا } الطغوى : اسم من الطغيان كالدعوى من الدعاء . قال الواحدي : قال المفسرون : كذبت ثمود بطغيانها ، أي : الطغيان حملتهم على التكذيب ، والطغيان مجاوزة الحدّ في المعاصي ، والباء للسببية . وقيل : كذبت ثمود بطغواها ، أي : بعذابها الذي وعدت به ، وسمي العذاب طغوى لأنه طغى عليهم ، فتكون الباء على هذا للتعدية . وقال محمد بن كعب : بطغواها ، أي : بأجمعها . قرأ الجمهور : { بطغواها } بفتح الطاء . وقرأ الحسن ، والجحدري ، ومحمد بن كعب ، وحماد بن سلمة بضم الطاء؛ فعلى القراءة الأولى هو مصدر بمعنى الطغيان ، وإنما قلبت الياء والواو للفرق بين الاسم والصفة؛ لأنهم يقلبون الياء في الأسماء كثيراً نحو تقوى ، وسروى ، وعلى القراءة الثانية هو مصدر كالرجعى والحسنى ، ونحوهما ، وقيل : هما لغتان . { إِذِ انبعث أشقاها } العامل في الظرف { كذبت } ، أو { بطغواها } ، أي : حين قام أشقى ثمود ، وهو قدار بن سالف ، فعقر الناقة ، ومعنى انبعث : انتدب لذلك وقام به ، يقال بعثته على الأمر ، فانبعث له ، وقد تقدّم بيان هذا في الأعراف .
{ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله } يعني : صالحاً { نَاقَةُ الله } . قال الزجاج : { ناقة الله } منصوبة على معنى : ذروا ناقة الله . قال الفراء : حذرهم إياها ، وكل تحذير فهو نصب { وسقياها } معطوف على ناقة ، وهو شربها من الماء . قال الكلبي ، ومقاتل : قال لهم صالح : ذروا ناقة الله ، فلا تعقروها ، وذروا سقياها ، وهو شربها من النهر ، فلا تعرّضوا له يوم شربها ، فكذبوا بتحذيره إياهم . { فَعَقَرُوهَا } أي : عقرها الأشقى ، وإنما أسند العقر إلى الجميع؛ لأنهم رضوا بما فعله . قال قتادة : إنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم . قال الفراء : عقرها اثنان ، والعرب تقول : هذان أفضل الناس ، وهذان خير الناس ، فلهذا لم يقل أشقياها .
{ فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } أي : أهلكهم ، وأطبق عليهم العذاب ، وحقيقة الدمدمة : تضعيف العذاب ، وترديده ، يقال دمدمت على الشيء ، أي : أطبقت عليه ، ودمدم عليه القبر ، أي : أطبقه ، وناقة مدمومة : إذا لبسها الشحم ، والدمدمة : إهلاك باستئصال ، كذا قال المؤرج . قال في الصحاح : دمدمت الشيء : إذا ألزقته بالأرض ، وطحطحته ، ودمدم الله عليهم ، أي : أهلكهم . وقال ابن الأعرابي : دمدم إذا عذّب عذاباً تاماً .

والضمير في { فسوّاها } يعود إلى الدمدمة ، أي : فسوّى الدمدمة عليهم ، وعمهم بها ، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم . وقيل : يعود إلى الأرض ، أي : فسوّى الأرض عليهم ، فجعلهم تحت التراب . وقيل : يعود إلى الأمة ، أي : ثمود . قال الفراء : سوّى الأمة أنزل العذاب بصغيرها وكبيرها بمعنى سوّى بينهم . قرأ الجمهور : ( فدمدم ) بميم بين الدالين ، وقرأ ابن الزبير : ( فدهدم ) بهاء بين الدالين . قال القرطبي : وهما لغتان ، كما يقال : امتقع لونه ، واهتقع لونه . { فَلاَ يَخَافُ عقباها } أي : فعل الله ذلك بهم غير خائف من عاقبة ، ولا تبعة . والضمير في { عقباها } يرجع إلى الفعلة ، أو إلى الدمدمة المدلول عليها بدمدم . وقال السديّ ، والضحاك ، والكلبي : إن الكلام يرجع إلى العاقر لا إلى الله سبحانه ، أي : لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع . وقيل : لا يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقبة إهلاك قومه ، ولا يخشى ضرراً يعود عليه من عذابهم؛ لأنه قد أنذرهم ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور : { ولا يخاف } بالواو ، وقرأ نافع ، وابن عامر بالفاء .
وقد أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس { وضحاها } قال : ضوئها { والقمر إِذَا تلاها } قال : تبعها . { والنهار إِذَا جلاها } قال : أضاءها . { والسماء وَمَا بناها } قال : الله بنى السماء { والأرض وَمَا طحاها } قال : دحاها . { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال : علمها الطاعة ، والمعصية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { والأرض وَمَا طحاها } يقول : قسمها . { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال : من الخير والشرّ . وأخرج الحاكم وصححه عنه أيضاً : { فَأَلْهَمَهَا } قال : ألزمها فجورها وتقواها . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عمران بن حصين؛ أن رجلاً قال : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ، ويكدحون فيه ، شيء قد قضي عليهم ، ومضى في قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون مما أتاهم نبيهم ، واتخذت عليهم به الحجة ، قال : " بل شيء قد قضي عليهم " قال : فلم يعملون إذن؟ قال : " من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين يهيئه لعملها ، وتصديق ذلك في كتاب الله : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } " وسيأتي في السورة التي بعد هذه نحو هذا الحديث . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والنسائي عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللَّهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها " وأخرجه ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه من حديث ابن عباس ، وزاد : «كان إذا تلا هذه الآية : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال : فذكره . وزاد أيضاً : «وهو في الصلاة» . وأخرج حديث زيد بن أرقم مسلم أيضاً . وأخرج نحوه أحمد من حديث عائشة .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه : { وَقَدْ خَابَ مَن دساها } يقول : قد خاب من دسّ الله نفسه فأضله . { وَلاَ يَخَافُ عقباها } قال : لا يخاف من أحد تبعة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : { وَقَدْ خَابَ مَن دساها } يعني : مكر بها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها } الآية " أفلحت نفس زكاها الله ، وخابت نفس خيبها الله من كل خير " وجويبر ضعيف . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { بِطَغْوَاهَا } قال : اسم العذاب الذي جاءها الطغوى ، فقال : كذبت ثمود بعذابها . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عبد الله بن زمعة قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة ، وذكر الذي عقرها ، فقال : { إِذِ انبعث أشقاها } قال : " انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة " وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والبغوي ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم ، وأبو نعيم في الدلائل عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : " ألا أحدّثك بأشقى الناس؟ " قال : بلى . قال " رجلان : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك على هذا -«يعني قرنه»- حتى تبتل منه هذه - يعني : لحيته " .

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

قوله : { واليل إِذَا يغشى } أي : يغطي بظلمته ما كان مضيئاً . قال الزجاج : يغشى الليل الأفق ، وجميع ما بين السماء والأرض ، فيذهب ضوء النهار ، وقيل : يغشى النهار . وقيل : يغشى الأرض . والأوّل أولى . { والنهار إِذَا تجلى } أي : ظهر وانكشف ، ووضح لزوال الظلمة التي كانت في الليل ، وذلك بطلوع الشمس { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } " ما " هنا هي الموصولة ، أي : والذي خلق الذكر والأنثى ، وعبر عن من بما للدلالة على الوصفية ، ولقصد التفخم ، أي : والقادر العظيم الذي خلق صنفي الذكر والأنثى . قال الحسن ، والكلبي : معناه ، والذي خلق الذكر والأنثى فيكون قد أقسم بنفسه . قال أبو عبيدة : { وما خلق } ، أي : ومن خلق . وقال مقاتل : يعني : وخلق الذكر والأنثى فتكون «ما» على هذا مصدرية . قال الكلبي ، ومقاتل : يعني : آدم وحواء ، والظاهر العموم . قرأ الجمهور : { وما خلق الذكر والأنثى } . وقرأ ابن مسعود ( والذكر والأنثى ) بدون " ما خلق " . { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } هذا جواب القسم ، أي : إن عملكم لمختلف : فمنه عمل للجنة ، ومنه عمل للنار . قال جمهور المفسرين : السعي العمل ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها . و { شتى } جمع شتيت : كمرضى ومريض . وقيل : للمختلف شتى لتباعد ما بين بعضه وبعض .
{ فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } أي : بذل ماله في وجوه الخير ، واتقى محارم الله التي نهى عنها { وَصَدَّقَ بالحسنى } أي : بالخلف من الله . قال المفسرون : فأما من أعطى المعسرين . وقال قتادة : أعطى حقّ الله الذي عليه . وقال الحسن : أعطى الصدق من قلبه ، وصدّق بالحسنى ، أي : بلا إله إلاّ الله ، وبه قال الضحاك ، والسلمي . وقال مجاهد : بالحسنى بالجنة . وقال زيد بن أسلم : بالصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والأوّل أولى . قال قتادة : بالحسنى ، أي : بموعود الله الذي وعده أن يثيبه . قال الحسن : بالخلف من عطائه ، واختار هذا ابن جرير { فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى } أي : فسنهيئه للخصلة الحسنى ، وهي : عمل الخير ، والمعنى : فسنيسر له الإنفاق في سبيل الخير ، والعمل بالطاعة لله . قال الواحدي : قال المفسرون : نزلت هذه الآيات في أبي بكر الصدّيق اشترى ستة نفر من المؤمنين كانوا في أيدي أهل مكة يعذبونهم في الله .
{ وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى } أي بخل بماله ، فلم يبذله في سبل الخير ، واستغنى أي : زهد في الأجر والثواب ، أو { استغنى } بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة . { وَكَذَّبَ بالحسنى } أي : بالخلف من الله عزّ وجلّ ، وقال مجاهد : بالجنة ، وروي عنه أيضاً أنه قال : بلا إله إلاّ الله { فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى } أي : فسنهيئه للخصلة العسرى ، ونسهلها له حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح ، ويضعف عن فعلها ، فيؤديه ذلك إلى النار . قال مقاتل : يعسر عليه أن يعطي خيراً .

قيل العسرى الشرّ ، وذلك أن الشرّ يؤدي إلى العذاب ، والعسرة في العذاب ، والمعنى : سنهيئه للشرّ بأن نجريه على يديه . قال الفراء : سنيسره سنهيئه ، والعرب تقول : قد يسرت الغنم إذا ولدت ، أو تهيأت للولادة . قال الشاعر :
هما سيدانا يزعمان وإنما ... يسوداننا إن يسرت غنماهما
{ وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } أي : لا يغني عنه شيئًا ماله الذي بخل به ، أو أي شيء يغني عنه إذا تردّى ، أي : هلك ، يقال : ردي الرجل يردى ردى ، وتردى يتردّى : إذا هلك . وقال قتادة ، وأبو صالح ، وزيد بن أسلم : { إذا تردّى } : إذا سقط في جهنم ، يقال ردي في البئر ، وتردّى : إذا سقط فيها ، ويقال : ما أدري أين ردى ، أي : أين ذهب؟ { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } هذه الجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، أي : إن علينا البيان . قال الزجاج : علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال . قال قتادة : على الله البيان : بيان حرامه ، وطاعته ، ومعصيته . قال الفراء : من سلك الهدى ، فعلى الله سبيله ، لقوله : { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } [ النحل : 9 ] يقول : من أراد الله ، فهو على السبيل القاصد . قال الفراء أيضاً : المعنى إن علينا للهدى والإضلال ، فحذف الإضلال كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] وقيل المعنى : إن علينا ثواب هداه الذي هديناه { وَإِنَّ لَنَا لَلأَخِرَةَ والأولى } أي : لنا كلّ ما في الآخرة ، وكلّ ما في الدنيا نتصرف به كيف نشاء . فمن أرادهما أو إحداهما ، فليطلب ذلك منا ، وقيل المعنى : إن لنا ثواب الآخرة ، وثواب الدنيا .
{ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } أي : حذرتكم وخوّفتكم ناراً تتوقد وتتوهج ، وأصله تتلظى ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً . وقرأ على الأصل عبيد بن عمير ، ويحيى بن يعمر ، وطلحة بن مصرف . { لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى } أي : يصلاها صلياً لازماً على جهة الخلود إلاّ الأشقى وهو الكافر ، وإن صليها غيره من العصاة ، فليس صليه كصليه . والمراد بقوله : { يصلاها } : يدخلها ، أو يجد صلاها ، وهو حرّها . ثم وصف الأشقى فقال : { الذى كَذَّبَ وتولى } أي : كذب بالحق الذي جاءت به الرسل ، وأعرض عن الطاعة والإيمان . قال الفراء : { إِلاَّ الأشقى } إلاَّ من كان شقياً في علم الله جلّ ثناؤه . قال أيضاً : لم يكن كذب بردّ ظاهر ، ولكن قصر عما أمر به من الطاعة ، فجعل تكذيباً ، كما تقول لقي فلان العدوّ ، فكذّب : إذا نكل ، ورجع عن اتباعه . قال الزجاج : هذه الآية هي التي من أجلها قال أهل الإرجاء بالإرجاء ، فزعموا أنه لا يدخل النار إلاّ كافر؛ ولأهل النار منازل ، فمنها أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار . والله سبحانه كلّ ما وعد عليه بجنس من العذاب ، فجدير أن يعذب به ، وقد قال : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء }

[ النساء : 48 ] فلو كان كلّ من لم يشرك لم يعذب لم يكن في قوله : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } فائدة . وقال في الكشاف : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين ، وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين . فقيل : الأشقى ، وجعل مختصاً بالصلي كأن النار لم تخلق إلاّ له .
وقيل : الأتقى ، وجعل مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلاّ له ، وقيل : المراد بالأشقى أبو جهل ، أو أمية بن خلف ، وبالأتقى : أبو بكر الصدّيق ، ومعنى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } سيباعد عنها المتقي للكفر اتقاء بالغاً . قال الواحدي : الأتقى أبو بكر الصدّيق في قول جميع المفسرين انتهى ، والأولى حمل الأشقى والأتقى على كل متصف بالصفتين المذكورتين ، ويكون المعنى أنه لا يصلاها صلياً تاماً إلاّ الكامل في الشقاء ، وهو الكافر ، ولا يجنبها ويبعد عنها تبعيداً كاملاً بحيث لا يحوم حولها فضلاً عن أن يدخلها إلاّ الكامل في التقوى ، فلا ينافي هذا دخول بعض العصاة من المسلمين النار دخولاً غير لازم ، ولا تبعيد بعض من لم يكن كامل التقوى عن النار تبعيداً غير بالغ مبلغ تبعيد الكامل في التقوى عنها .
والحاصل أن من تمسك من المرجئة بقوله : { لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى } زاعماً أن الأشقى الكافر؛ لأنه الذي كذب وتولى ، ولم يقع التكذيب من عصاة المسلمين ، فيقال له : فما تقول في قوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا الاتقى } فإنه يدلّ على أنه لا يجنب النار إلاّ الكامل في التقوى ، فمن لم يكن كاملاً فيها كعصاة المسلمين لم يكن ممن يجنب النار . فإن أوّلت الأتقى بوجه من وجوه التأويل لزمك مثله في الأشقى ، فخذ إليك هذه مع تلك ، وكن كما قال الشاعر :
على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخرج منه لا عليّ ولا ليه
وقيل : أراد بالأشقى ، والأتقى الشقيّ ، والتقيّ ، كما قال طرفة بن العبد :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي : بواحد . ولا يخفاك أنه ينافي هذا وصف الأشقى بالتكذيب ، فإن ذلك لا يكون إلاّ من الكافر ، فلا يتمّ ما أراده قائل هذا القول من شمول الوصفين لعصاة المسلمين . ثم ذكر سبحانه صفة الأتقى فقال : { الذى يُؤْتِى مَالَهُ } أي : يعطيه ، ويصرفه في وجوه الخير ، وقوله : { يتزكى } في محل نصب على الحال من فاعل يؤتي ، أي : حال كونه يطلب أن يكون عند الله زكياً لا يطلب رياء ولا سمعة ، ويجوز أن يكون بدلاً من يؤتي داخلاً معه في حكم الصلة . قرأ الجمهور : { يتزكى } مضارع « تزكى » . وقرأ عليّ بن الحسين بن علي : ( تزكى ) بإدغام التاء في الزاي . { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى } الجملة مستأنفة؛ لتقرير ما قبلها من كون التزكي على جهة الخلوص ، غير مشوب بشائبة تنافي الخلوص أي : ليس ممن يتصدّق بماله ليجازي بصدقته نعمة لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها ، وإنما يبتغي بصدقته وجه الله تعالى؛ ومعنى الآية : أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازى عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها ، وإنما قال : { تجزى } مضارعاً مبنياً للمفعول لأجل الفواصل ، والأصل يجزيها إياه ، أو يجزيه إياها .

{ إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الاعلى } قرأ الجمهور : { إلاّ ابتغاء } بالنصب على الاستثناء المنقطع لعدم اندراجه تحت جنس النعمة ، أي : لكن ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ويجوز أن يكون منصوباً على أنه مفعول له على المعنى ، أي : لا يؤتي إلاّ لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة . قال الفراء : هو منصوب على التأويل ، أي : ما أعطيتك ابتغاء جزائك بل ابتغاء وجه الله ، وقرأ يحيى بن وثاب بالرفع على البدل من محل نعمة؛ لأن محلها الرفع إما على الفاعلية ، وإما على الابتداء ، ومن مزيدة ، والرفع لغة تميم؛ لأنهم يجوّزون البدل في المنقطع ، ويجرونه مجرى المتصل . قال مكي : وأجاز الفراء الرفع في «ابتغاء» على البدل من موضع نعمة ، وهو بعيد . قال شهاب الدين : كأنه لم يطلع عليها قراءة ، واستبعاده ، هو البعيد فإنها لغة فاشية ، وقرأ الجمهور أيضاً : { ابتغاء } بالمدّ . وقرأ ابن أبي عبلة بالقصر و { الأعلى } : نعت للربّ . { وَلَسَوْفَ يرضى } اللام هي : الموطئة للقسم ، أي : وتالله لسوف يرضى بما نعطيه من الكرامة والجزاء العظيم . قرأ الجمهور : { يرضى } مبنياً للفاعل ، وقرىء مبنياً للمفعول .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس : { واليل إِذَا يغشى } قال : إذا أظلم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر عن ابن مسعود قال : إن أبا بكر الصدّيق اشترى بلالاً من أمية بن خلف ، وأبيّ بن خلف ببردة ، وعشر أواق ، فأعتقه لله ، فأنزل الله : { واليل إِذَا يغشى } إلى قوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } سعي أبي بكر ، وأمية وأبيّ إلى قوله : { وَكَذَّبَ بالحسنى } قال : لا إله إلاّ الله إلى قوله : { فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى } قال : النار . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { فَأَمَّا مَنْ أعطى } من الفضل : { واتقى } قال : اتقى ربه { وَصَدَّقَ بالحسنى } قال : صدّق بالخلف من الله . { فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى } قال : للخير من الله . { وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى } قال : بخل بماله ، واستغنى عن ربه . { وَكَذَّبَ بالحسنى } قال : بالخلف من الله . { فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى } قال : للشرّ من الله . وأخرج ابن جرير عنه : { وَصَدَّقَ بالحسنى } قال : أيقن بالخلف . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : { وَصَدَّقَ بالحسنى } يقول : صدّق بلا إله إلاّ الله . { وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى } يقول : من أغناه الله ، فبخل بالزكاة .

وأخرج ابن جرير ، وابن عساكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر يعتق على الإسلام بمكة ، وكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بنيّ أراك تعتق أناساً ضعفاً ، فلو أنك تعتق رجالاً جلداً يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك . قال : أي أبت إنما أريد ما عند الله ، قال : فحدّثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية نزلت فيه { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسّرُهُ لليسرى } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى } قال : أبو بكر الصدّيق { وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى * وَكَذَّبَ بالحسنى } قال : أبو سفيان بن حرب . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن عليّ بن أبي طالب قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فقال : " ما منكم من أحد إلاّ وقد كتب مقعده من الجنة ، ومقعده من النار " فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال : " اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له؛ أما من كان من أهل السعادة ، فييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاء ، فييسر لعمل أهل الشقاء " ثم قرأ : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى } إلى قوله : { للعسرى } . وأخرج أحمد ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله : أن سراقة بن مالك قال : يا رسول الله في أيّ شيء نعمل؟ أفي شيء ثبتت فيه المقادير ، وجرت به الأقلام ، أم في شيء يستقبل فيه العمل؟ قال : " بل في شيء ثبتت فيه المقادير ، وجرت فيه الأقلام " قال سراقة : ففيم العمل إذن يا رسول الله؟ قال : " اعملوا ، فكلّ ميسر لما خلق له " وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } إلى قوله : { فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى } » . وقد تقدّم حديث عمران بن حصين في السورة التي قبل هذه . وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة .
وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال : «لتدخلن الجنة إلاّ من يأبى ، قالوا : ومن يأبى أن يدخل الجنة؟ فقرأ : { الذى كَذَّبَ وتولى } » . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي أمامة قال : لا يبقى أحد من هذه الأمة إلاّ أدخله الله الجنة ، إلاّ من شرد على الله ، كما يشرد البعير السوء على أهله ، فمن لم يصدّقني فإن الله يقول : { لاَ يصلاها إِلاَّ الأشقى * الذى كَذَّبَ وتولى } كذّب بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وتولى عنه . وأخرج أحمد ، والحاكم ، والضياء عن أبي أمامة الباهلي أنه سئل عن ألين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

« ألا كلكم يدخل الله الجنة إلاّ من شرد على الله شراد البعير على أهله » وأخرج أحمد ، وابن ماجه ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل النار إلاّ شقيّ . قيل : ومن الشقيّ؟ قال : الذي لا يعمل لله بطاعة ، ولا يترك لله معصية » وأخرج أحمد ، والبخاري عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلّ أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلاّ من أبى ، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى » وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة أنّ أبا بكر الصدّيق أعتق سبعة كلهم يعذب في الله : بلال ، وعامر بن فهيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وزنيرة ، وأمّ عيسى ، وأمة بني المؤمل . وفيه نزلت : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } إلى آخر السورة . وأخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير ما قدّمنا عنه ، وزاد فيه ، فنزلت فيه هذه الآية : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } إلى قوله : { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تجزى * إِلاَّ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِ الأعلى * وَلَسَوْفَ يرضى } . وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن عساكر عنه نحو هذا من وجه آخر . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } قال : هو : أبو بكر الصدّيق .

وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

والمراد بالضحى هنا : النهار كله ، لقوله : { واليل إِذَا سجى } فلما قابل الضحى بالليل دلّ على أن المراد به النهار كله لا بعضه . وهو في الأصل اسم لوقت ارتفاع الشمس ، كما تقدّم في قوله : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] . والظاهر أن المراد به الضحى من غير تعيين . وقال قتادة ، ومقاتل ، وجعفر الصادق : إن المراد به الضحى الذي كلم الله فيه موسى ، والمراد بقوله : { واليل إِذَا سجى } ليلة المعراج . وقيل : المراد بالضحى هو الساعة التي خرّ فيها السحرة سجداً ، كما في قوله : { وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى } [ طه : 59 ] . وقيل : المقسم به مضاف مقدّر ، كما تقدّم في نظائره ، أي : وربّ الضحى . وقيل تقديره : وضحاوة الضحى ، ولا وجه لهذا ، فللّه سبحانه أن يقسم بما شاء من خلقه . وقيل : الضحى نور الجنة ، والليل ظلمة النار . وقيل : الضحى نور قلوب العارفين ، والليل سواد قلوب الكافرين . { واليل إِذَا سجى } أي : سكن ، كذا قال قتادة ، ومجاهد ، وابن زيد ، وعكرمة ، وغيرهم : يقال : ليلة ساجية ، أي : ساكنة ، ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية ، يقال : سجا الشيء يسجو سجواً : إذا سكن . قال عطاء : سجا إذا غطي بالظلمة . وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : سجا امتدّ ظلامه . وقال الأصمعي : سجو الليل تغطيته النهار ، مثل ما يسجى الرجل بالثوب . وقال الحسن : غشي بظلامه . وقال سعيد بن جبير : أقبل . وقال مجاهد : أيضاً استوى ، والأوّل أولى ، وعليه جمهور المفسرين وأهل اللغة . ومعنى سكونه : استقرار ظلامه واستواؤه ، فلا يزاد بعد ذلك . { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } هذا جواب القسم ، أي : ما قطعك قطع المودّع . قرأ الجمهور : { ما ودّعك } بتشديد الدال من التوديع ، وهو توديع المفارق . وقرأ ابن عباس ، وعروة بن الزبير ، وابنه هاشم ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة بتخفيفها ، من قولهم : ودعه أي : تركه ، ومنه قول الشاعر :
سل أميري ما الذي غيره ... عن وصالي اليوم حتى ودّعه
والتوديع أبلغ في الودع؛ لأن من ودّعك مفارقاً ، فقد بالغ في تركك . قال المبرد : لا يكادون يقولون ودع ولا وذر لضعف الواو إذا قدّمت ، واستغنوا عنها بترك . قال أبو عبيدة : ودّعك من التوديع ، كما يودّع المفارق . وقال الزجاج : لم يقطع الوحي ، وقد قدّمنا سبب نزول هذه الآية في فاتحة هذه السورة . { وَمَا قلى } القلي البغض . يقال : قلاه يقليه قلاء . قال الزجاج : وما أبغضك ، وقال : { وما قلى } ، ولم يقل ، وما قلاك لموافقة رؤوس الآي . والمعنى : وما أبغضك ، ومنه قول امرىء القيس :
ولست بمقليّ الخلال ولا قالي ... { وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولى } اللام جواب قسم محذوف ، أي : الجنة خير لك من الدنيا ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد أوتي في الدنيا من شرف النبوّة ما يصغر عنده كلّ شرف ، ويتضاءل بالنسبة إليه كلّ مكرمة في الدنيا؛ ولكنها لما كانت الدنيا بأسرها مشوبة بالأكدار منغصة بالعوارض البشرية ، وكانت الحياة فيها كأحلام نائم ، أو كظل زائل لم تكن بالنسبة إلى الآخرة شيئًا؛ ولما كانت طريقاً إلى الآخرة ، وسبباً لنيل ما أعدّه الله لعباده الصالحين من الخير العظيم بما يفعلونه فيها من الأعمال الموجبة للفوز بالجنة كان فيها خير في الجملة من هذه الحيثية .

{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } هذه اللام قيل هي لام الابتداء دخلت على الخبر لتأكيد مضمون الجملة ، والمبتدأ محذوف تقديره ، ولأنت سوف يعطيك الخ ، وليست للقسم؛ لأنها لا تدخل على المضارع إلاّ مع النون المؤكدة . وقيل : هي للقسم . قال أبو عليّ الفارسي : ليست هذه اللام هي التي في قولك : إن زيداً لقائم ، بل هي التي في قولك لأقومنّ ، ونابت « سوف » عن إحدى نوني التأكيد ، فكأنه قال : وليعطينك . قيل المعنى : ولسوف يعطيك ربك الفتح في الدنيا والثواب في الآخرة ، فترضى . وقيل : الحوض والشفاعة . وقيل : ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك . وقيل : غير ذلك . والظاهر أنه سبحانه يعطيه ما يرضى به من خيري الدنيا والآخرة ، ومن أهمّ ذلك عنده ، وأقدمه لديه قبول شفاعته لأمته .
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فاوى } هذا شروع في تعداد ما أفاضه الله سبحانه عليه من النعم ، أي : وجدك يتيماً لا أب لك ، { فآوى } أي : جعل لك مأوى تأوي إليه ، قرأ الجمهور : { فآوى } بألف بعد الهمزة رباعياً ، من آواه يؤويه ، وقرأ أبو الأشهب : ( فآوى ) ثلاثياً ، وهو إما بمعنى الرباعي ، أو هو من أوى له إذا رحمه . وعن مجاهد معنى الآية : ألم يجدك واحداً في شرفك لا نظير لك ، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك ، فجعل يتيماً من قولهم درّة يتيمة ، وهو بعيد جداً ، والهمزة لإنكار النفي ، وتقرير المنفيّ على أبلغ وجه ، فكأنه قال : قد وجدك يتيماً فآوى ، والوجود بمعنى العلم ، ويتيماً مفعوله الثاني . وقيل : بمعنى المصادفة ، ويتيماً حال من مفعوله { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى } معطوف على المضارع المنفي . وقيل : هو معطوف على ما يقتضيه الكلام الذي قبله ، كما ذكرنا ، أي : قد وجدك يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ، والضلال هنا بمعنى الغفلة ، كما في قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] وكما في قوله : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } [ يوسف : 3 ] والمعنى : أنه وجدك غافلاً عما يراد بك من أمر النبوّة ، واختار هذا الزجاج . وقيل : معنى ضالاً لم تكن تدري القرآن ولا الشرائع ، فهداك لذلك . وقال الكلبي ، والسديّ ، والفراء : وجدك في قوم ضلال ، فهداهم الله لك . وقيل : وجدك طالباً للقبلة ، فهداك إليها ، كما في قوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [ البقرة : 144 ] . ويكون الضلال بمعنى الطلب . وقيل : وجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه ، ويكون الضلال بمعنى الضياع .

وقيل : وجدك محباً للهداية فهداك إليها ، ويكون الضلال بمعنى المحبة ، ومنه قول الشاعر :
عجباً لعزة في اختيار قطيعتي ... بعد الضلال فحبلها قد أخلقا
وقيل : وجدك ضالاً في شعاب مكة ، فهداك ، أي : ردّك إلى جدّك عبد المطلب . { وَوَجَدَكَ عَائِلاً فأغنى } أي : وجدك فقيراً لا مال لك فأغناك . يقال : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ، ومنه قول أحيحة بن الجلاح :
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنيّ متى يعيل
أي : يفتقر . قال الكلبي : { فأغنى } : أي رضّاك بما أعطاك من الرزق ، واختار هذا الفراء ، قال : لأنه لم يكن غنياً من كثرة ، ولكن الله سبحانه رضاه بما آتاه ، وذلك حقيقة الغنى . وقال الأخفش : عائلاً ذا عيال ، ومنه قول جرير :
الله أنزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل ، وللفقير العائل
وقيل : فأغنى بما فتح لك من الفتوح . وفيه نظر؛ لأن السورة مكية . وقيل : بمال خديجة بنت خويلد . وقيل : وجدك فقيراً من الحجج والبراهين ، فأغناك بها . قرأ الجمهور : { عائلاً } وقرأ محمد بن السميفع ، واليماني : ( عيلاً ) بكسر الياء المشدّدة كسيد . ثم أوصاه سبحانه باليتامى والفقراء فقال : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } أي : لا تقهره بوجه من وجوه القهر كائناً ما كان . قال مجاهد : لا تحقر اليتيم ، فقد كنت يتيماً . قال الأخفش : لا تسلط عليه بالظلم ، ادفع إليه حقه ، واذكر يتمك . قال الفراء ، والزجاج : لا تقهره على ماله ، فتذهب بحقه لضعفه ، وكذا كانت العرب تفعل في حقّ اليتامى تأخذ أموالهم ، وتظلمهم حقوقهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسن إلى اليتيم ، ويبرّه ، ويوصي باليتامى . قرأ الجمهور : { فلا تقهر } بالقاف ، وقرأ ابن مسعود ، والنخعي ، والشعبيّ ، والأشهب العقيلي : ( تكهر ) بالكاف . والعرب تعاقب بين القاف والكاف . قال النحاس : إنما يقال كهره : إذا اشتدّ عليه وغلظ . وقيل : القهر الغلبة ، والكهر الزجر . قال أبو حيان : هي لغة يعني قراءة الكاف مثل قراءة الجمهور . و { اليتيم } منصوب ب { تقهر } . { وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ } يقال : نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره ، فهو نهي عن زجر السائل والإغلاظ له ، ولكن يبذل له اليسير ، أو يردّه بالجميل . قال الواحدي : قال المفسرون : يريد السائل على الباب ، يقول لا تنهره : إذا سألك فقد كنت فقيراً ، فإما أن تطعمه ، وإما أن تردّه ردّاً ليناً . قال قتادة : معناه ردّ السائل برحمة ولين . وقيل : المراد بالسائل الذي يسأل عن الدين ، فلا تنهره بالغلظة والجفوة ، وأجبه برفق ولين ، كذا قال سفيان ، و { السائل } منصوب ب { تنهر } ، والتقدير : مهما يكن من شيء ، فلا تقهر اليتيم ، ولا تنهر السائل .
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } أمره سبحانه بالتحدّث بنعم الله عليه ، وإظهارها للناس ، وإشهارها بينهم . والظاهر النعمة على العموم من غير تخصيص بفرد من أفرادها ، أو نوع من أنواعها .

وقال مجاهد ، والكلبي : المراد بالنعمة هنا القرآن . قال الكلبي : وكان القرآن أعظم ما أنعم الله به عليه ، فأمره أن يقرأه . قال الفراء : وكان يقرؤه ويحدّث به . وقال مجاهد أيضاً : المراد بالنعمة النبوّة التي أعطاه الله . واختار هذا الزجاج فقال : أي : بلغ ما أرسلت به ، وحدّث بالنبوّة التي آتاك الله ، وهي أجلّ النعم . وقال مقاتل : يعني : اشكر ما ذكر من النعمة عليك في هذه السورة من الهدي بعد الضلالة ، وجبر اليتم ، والإغناء بعد العيلة ، فاشكر هذه النعم . والتحدّث بنعمة الله شكر ، والجارّ والمجرور متعلق بحدّث ، والفاء غير مانعة من تعلقه به ، وهذه النواهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي نواه له ولأمته؛ لأنهم أسوته ، فكل فرد من أفراد هذه الأمة منهيّ بكلّ فرد من أفراد هذه النواهي .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس : { واليل إِذَا سجى } قال : إذا أقبل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه : { إِذَا سجى } قال : إذا ذهب { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } قال : ما تركك { وَمَا قلى } قال : ما أبغضك . وأخرج الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرض عليّ ما هو مفتوح لأمتي بعدي " فأنزل الله : { وَلَلأَخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وأبو نعيم عنه أيضاً قال : «عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده ، فسرّ بذلك ، فأنزل الله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } فأعطاه في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم» . وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } قال : رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال : من رضا محمد أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار . وأخرج الخطيب في التلخيص من وجه آخر عنه أيضاً في الآية قال : لا يرضى محمد ، وأحد من أمته في النار ، ويدلّ على هذا ما أخرجه مسلم عن ابن عمرو : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا قول الله في إبراهيم : { فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى } [ إبراهيم : 36 ] وقول عيسى : { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] الآية ، فرفع يديه ، وقال : " اللَّهم أمتي أمتي ، وبكى " فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ، ولا نسوؤك .
وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال : قلت لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدّث بها أهل العراق أحقّ هي؟ قال : إي والله .

حدّثني محمد بن الحنفية عن عليّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أشفع لأمتي حتى يناديني ربي أرضيت يا محمد؟ فأقول : نعم يا رب رضيت » ثم أقبل عليّ فقال : إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] . قلت : إنا لنقول ذلك ، قال : فكنا أهل البيت نقول : إن أرجى آية في كتاب الله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } وهي الشفاعة . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا » { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } . وأخرج العسكري في المواعظ ، وابن مردويه ، وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاطمة ، وهي تطحن بالرّحى ، وعليها كساء من جلد الإبل ، فلما نظر إليها قال : « يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة » فأنزل الله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، وابن عساكر عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته ، قلت : قد كانت قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ، ومنهم من كان يحيي الموتى ، فقال تعالى : يا محمد ألم أجدك يتيماً ، فآويتك؟ ألم أجدك ضالاً ، فهديتك؟ ألم أجدك عائلاً ، فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت بلى يا ربّ » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت : { والضحى } على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يمنّ عليّ ربي وأهل أن يمنّ ربي » وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فهدى } قال : وجدك بين الضالين ، فاستنقذك من ضلالتهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن عليّ في قوله : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } قال : ما علمت من الخير . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : إذا أصبت خيراً ، فحدّث إخوانك . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والبيهقي في الشعب ، والخطيب في المتفق ، قال السيوطي بسند ضعيف عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر : « من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدّث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ، والجماعة رحمة »

وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، والبيهقي ، والضياء عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من أبلى بلاء فذكره فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره » وأخرج البخاري في الأدب ، وأبو داود ، والضياء عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أعطى عطاء فوجد ، فليجز به ، فإن لم يجد فليثن به . فمن أثنى به فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط فإنه كلابس ثوبي زور » وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أولى معروفاً فليكافىء به ، فإن لم يستطع فليذكره ، فإن من ذكره ، فقد شكره » .

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

معنى شرح الصدر : فتحه بإذهاب ما يصدّ عن الإدراك . والاستفهام إذا دخل على النفي قرّره ، فصار المعنى : قد شرحنا لك صدرك . وإنما خصّ الصدر؛ لأنه محل أحوال النفس من العلوم ، والإدراكات . والمراد : الامتنان عليه صلى الله عليه وسلم بفتح صدره ، وتوسيعه حتى قام بما قال به من الدعوة ، وقدر على ما قدر عليه من حمل أعباء النبوّة ، وحفظ الوحي ، وقد مضى القول في هذا عند تفسير قوله : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام فَهُوَ على نُورٍ مّن رَّبّهِ } [ الزمر : 22 ] { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } معطوف على معنى ما تقدّم ، لا على لفظه ، أي : قد شرحنا لك صدرك ، ووضعنا . . . الخ ، ومنه قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
أي : أنتم خير من ركب المطايا ، وأندى . . . الخ . قرأ الجمهور : { نشرح } بسكون الحاء بالجزم ، وقرأ أبو جعفر المنصور العباسي بفتحها . قال الزمخشري : قالوا لعله بين الحاء ، وأشبعها في مخرجها ، فظنّ السامع أنه فتحها . وقال ابن عطية : إن الأصل « ألم نشرحن » بالنون الخفيفة ، ثم إبدالها ألفاً ، ثم حذفها تخفيفاً ، كما أنشد أبو زيد :
من أي يوميَّ من الموت أفر ... أيوم لم يقدّر أم يوم قدر
بفتح الراء من « لم يقدر » . ومثله قوله :
اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس
بفتح الباء من اضرب . وهذا مبني على جواز توكيد المجزوم ب « لم » ، وهو قليل جداً كقوله :
يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخا على كرسيه معمما
فقد تركبت هذه القراءة من ثلاثة أصول ، كلها ضعيفة : الأول توكيد المجزوم ب « لم » ، وهو ضعيف . الثاني إبدالها ألفاً ، وهو خاص بالوقف ، فإجراء الوصل مجرى الوقف ضعيف . والثالث : حذف الألف ، وهو ضعيف أيضاً؛ لأنه خلاف الأصل ، وخرّجها بعضهم على لغة بعض العرب الذين ينصبون ب « لم » ويجزمون ب « لن » ، ومنه قول الشاعر :
في كل ما همّ أمضى رأيه قدما ... ولم يشاور في إقدامه أحدا
بنصب الراء من « يشاور » ، وهذه اللغة لبعض العرب ما أظنها تصح . وإن صحت ، فليست من اللغات المعتبرة ، فإنها جاءت بعكس ما عليه لغة العرب بأسرها . وعلى كل حال ، فقراءة هذا الرجل مع شدّة جوره ، ومزيد ظلمه ، وكثرة جبروته ، وقلة علمه ليس بحقيقة بالاشتغال بها . والوزر : الذنب ، أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية . قال الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل : المعنى حططنا عنك الذي سلف منك في الجاهلية ، وهذا كقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ثم وصف هذا الوزر فقال : { الذى أَنقَضَ ظَهْرَكَ } .

قال المفسرون : أي أثقل ظهرك . قال الزجاج : أثقله حتى سمع له نقيض ، أي : صوت ، وهذا مثل معناه : أنه لو كان حملاً يحمل لسمع نقيض ظهره ، وأهل اللغة يقولون : أنقض الحمل ظهر الناقة : إذا سمع له صرير ، ومنه قول جميل :
وحتى تداعت بالنقيض حباله ... وهمت ثواني زوره أن تحطما
وقول العباس بن مرداس :
وأنقض ظهري ما تطويت منهم ... وكنت عليهم مشفقا متحننا
قال قتادة : كان للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذنوب قد أثقلته ، فغفرها الله له ، وقوم يذهبون إلى أن هذا تخفيف أعباء النبوّة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها سهل الله ذلك عليه حتى تيسرت له : وكذا قال أبو عبيدة وغيره . وقرأ ابن مسعود : ( وحللنا عنك وقرك ) . ثم ذكر سبحانه منته عليه وكرامته فقال : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } قال الحسن : وذلك أن الله لا يذكر في موضع إلاّ ذكر معه صلى الله عليه وسلم . قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ، ولا متشهد ، ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي ، فيقول : أشهد أن لا إله إلاّ الله أشهد أن محمداً رسول الله . قال مجاهد : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } يعني : بالتأذين . وقيل المعنى : ذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبله ، وأمرناهم بالبشارة به . وقيل : رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء ، وعند المؤمنين في الأرض . والظاهر أن هذا الرفع لذكره الذي امتنّ الله به عليه يتناول جميع هذه الأمور ، فكل واحد منها من أسباب رفع الذكر ، وكذلك أمره بالصلاة والسلام عليه ، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الله عزّ وجلّ أن من صلّى عليه ، واحدة صلى الله عليه بها عشراً ، وأمر الله بطاعته كقوله : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } [ النساء : 59 ] وقوله : { وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا } [ الحشر : 7 ] ، وقوله : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى يُحْبِبْكُمُ الله } [ آل عمران : 31 ] وغير ذلك . وبالجملة فقد ملأ ذكره الجليل السموات والأرضين ، وجعل الله له من لسان الصدق ، والذكر الحسن ، والثناء الصالح ما لم يجعله لأحد من عباده ، { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم } [ الحديد : 21 ] اللَّهم صلّ وسلم عليه وعلى آله عدد ما صلى عليه المصلون بكل لسان في كل زمان ، وما أحسن قول حسان :
أغرّ عليه للنبوّة خاتم ... من الله مشهور يلوح ، ويشهد
وضم الإله اسم النبيّ مع اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود ، وهذا محمد
{ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } أي : إن مع الضيقة سعة ، ومع الشدّة رخاء ، ومع الكرب فرج . وفي هذا وعد منه سبحانه بأن كل عسير يتيسر ، وكل شديد يهون ، وكل صعب يلين . ثم زاد سبحانه هذا الوعد تقريراً وتأكيداً ، فقال : مكرّراً له بلفظ { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } أي : إن مع ذلك العسر المذكور سابقاً يسراً آخر لما تقرّر من أنه إذا أعيد المعرّف يكون الثاني عين الأوّل سواء كان المراد به الجنس أو العهد ، بخلاف المنكر إذا أعيد ، فإنه يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالفرد الأوّل في الغالب ، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في معنى هذه الآية :

« لن يغلب عسر يسرين » قال الواحدي : وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والمفسرين على أن العسر واحد ، واليسر اثنان . قال الزجاج : ذكر العسر مع الألف واللام ثم ثنى ذكره ، فصار المعنى : إن مع العسر يسرين . قيل ، والتنكير في اليسر للتفخيم والتعظيم ، وهو في مصحف ابن مسعود غير مكرّر . قرأ الجمهور بسكون السين في العسر ، واليسر في الموضعين . وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو جعفر ، وعيسى بضمها في الجميع .
{ فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } أي : إذا فرغت من صلاتك ، أو من التبليغ ، أو من الغزو ، فانصب ، أي : فاجتهد في الدعاء ، واطلب من الله حاجتك ، أو فانصب في العبادة . والنصب : التعب . يقال : نصب ينصب نصباً ، أي : تعب . قال قتادة ، والضحاك ، ومقاتل ، والكلبي : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة ، فانصب إلى ربك في الدعاء ، وارغب إليه في المسألة يعطك ، وكذا قال مجاهد . قال الشعبي : إذا فرغت من التشهد ، فادعو لدنياك وآخرتك ، وكذا قال الزهري . وقال الكلبي أيضاً : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب أي : استغفر لذنبك ، وللمؤمنين والمؤمنات . وقال الحسن ، وقتادة : إذا فرغت من جهاد عدوّك ، فانصب لعبادة ربك . وقال مجاهد أيضاً : إذا فرغت من دنياك ، فانصب في صلاتك ، { وإلى رَبّكَ فارغب } قال الزجاج : أي : اجعل رغبتك إلى الله وحده . قال عطاء : يريد أنه يضرع إليه راهباً من النار ، راغباً في الجنة . والمعنى : أنه يرغب إليه سبحانه لا إلى غيره كائناً من كان ، فلا يطلب حاجاته إلاّ منه ، ولا يعوّل في جميع أموره إلاّ عليه . قرأ الجمهور : { فارغب } وقرأ زيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة : ( فرغب ) بتشديد الغين ، أي : فرغب الناس إلى الله ، وشوّقهم إلى ما عنده من الخير .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } قال : شرح الله صدره للإسلام . وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أتاني جبريل فقال : إن ربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : إذا ذكرت ذكرت معي » وإسناد ابن جرير هكذا : حدّثني يونس أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد .

وأخرجه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج . وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق يونس بن عبد الأعلى به . وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } الآية ، قال : لا يذكر الله إلاّ ذكر معه .
وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : «كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً ، وحياله جحر ، فقال : " لو دخل العسر هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه " فأنزل الله : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً . } ولفظ الطبراني : «وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } » . وأخرج ابن النجار عنه مرفوعاً نحوه . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه أيضاً مرفوعاً نحوه ، قال السيوطي ، وسنده ضعيف . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في الصبر ، وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود مرفوعاً : " لو كان العسر في جحر لتبعه اليسر حتى يدخل فيه ، فيخرجه ، ولن يغلب عسر يسرين إن الله يقول : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } " قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلاّ عائذ بن شريح . قال فيه أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف ، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرّة عن رجل عن عبد الله بن مسعود . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، والحاكم ، والبيهقي عن الحسن قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فرحاً مسروراً وهو يضحك ، ويقول : " لن يغلب عسر يسرين ، { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } " وهذا مرسل . وروي نحوه مرفوعاً مرسلاً عن قتادة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } الآية قال : إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء ، واسأل الله ، وارغب إليه . وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال الله لرسوله : إذا فرغت من الصلاة وتشهدت ، فانصب إلى ربك واسأله حاجتك . وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن ابن مسعود : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } إلى الدعاء . { وإلى رَبّكَ فارغب } في المسألة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } قال : إذا فرغت من الفرائض ، فانصب في قيام الليل .

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)

قال أكثر المفسرين : هو التين الذي يأكله الناس { والزيتون } الذي يعصرون منه الزيت ، وإنما أقسم بالتين؛ لأنه فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص ، وفيها أعظم عبرة لدلالتها على من هيأها لذلك ، وجعلها على مقدار اللقمة . قال كثير من أهل الطب : إن التين أنفع الفواكه للبدن ، وأكثرها غذاء ، وذكروا له فوائد ، كما في كتب المفردات والمركبات ، وأما الزيتون ، فإنه يعصر منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم ، ويدخل في كثير من الأدوية . وقال الضحاك : التين المسجد الحرام ، والزيتون المسجد الأقصى . وقال ابن زيد : التين مسجد دمشق ، والزيتون مسجد بيت المقدس؛ وقال قتادة : التين الجبل الذي عليه دمشق ، والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس . وقال عكرمة ، وكعب الأحبار : التين دمشق ، والزيتون بيت المقدس .
وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية ، والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى ، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ولا نقل . وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية . قال الفراء : سمعت رجلاً يقول : التين جبال حلوان إلى همدان ، والزيتون جبال الشام . قلت : هب أنك سمعت هذا الرجل ، فكان ماذا؟ فليس بمثل هذا تثبت اللغة ، ولا هو نقل عن الشارع . وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون مسجد إيلياء . وقيل : إنه على حذف مضاف ، أي : ومنابت التين والزيتون . قال النحاس : لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل ، ولا من قول من لا يجوِّز خلافه .
{ وَطُورِ سِينِينَ } هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى اسمه الطور ، ومعنى { سينين } : المبارك الحسن بلغة الحبشة قاله قتادة . وقال مجاهد : هو المبارك بالسريانية . وقال مجاهد ، والكلبي : { سينين } كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين ، وسيناء بلغة النبط . قال الأخفش : طور جبل ، وسينين شجر ، واحدته سينة . قال أبو علي الفارسي : سينين ، فعليل ، فكرّرت اللام التي هي نون فيه ، ولم ينصرف سينين ، كما لم ينصرف سيناء؛ لأنه جعل اسماً للبقعة . وإنما أقسم بهذا الجبل؛ لأنه بالشام ، وهي الأرض المقدسة ، كما في قوله : { إلى المسجد الأقصى الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ } [ الإسراء : 1 ] وأعظم بركة حلت به ، ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه . قرأ الجمهور : { سينين } بكسر السين . وقرأ ابن إسحاق ، وعمرو بن ميمون ، وأبو رجاء بفتحها ، وهي لغة بكر وتميم . وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن مسعود ، والحسن ، وطلحة : ( سيناء ) بالكسر والمدّ . { وهذا البلد الأمين } يعني : مكة ، سماه أميناً؛ لأنه آمن ، كما قال : { أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] . يقال أمن الرجل أمانة فهو أمين . قال الفراء وغيره : الأمين بمعنى الآمن ، ويجوز أن يكون ، فعيلاً بمعنى مفعول من أمنه؛ لأنه مأمون الغوائل .

{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } هذا جواب القسم ، أي : خلقنا جنس الإنسان كائناً في أحسن تقويم وتعديل . قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلاّ الإنسان ، خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده ، ومعنى التقويم : التعديل . يقال : قوّمته ، فاستقام . قال القرطبي : هو اعتداله واستواء شأنه ، كذا قال عامة المفسرين . قال ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً ، وهذه صفات الرب سبحانه ، وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله خلق آدم على صورته » يعني : على صفاته التي تقدم ذكرها . قلت : وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } [ الشورى : 11 ] وقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق ، وعجيب الصنع ، فلينظر في كتاب : ( العبر والاعتبار ) للجاحظ ، وفي الكتاب الذي عقده النيسابوري على قوله : { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] وهو في مجلدين ضخمين .
{ ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } أي : رددناه إلى أرذل العمر ، وهو الهرم ، والضعف بعد الشباب والقوّة ، حتى يصير كالصبيّ ، فيخرف وينقص عقله ، كذا قال جماعة من المفسرين . قال الواحدي : والسافلون هم : الضعفاء ، والزمناء ، والأطفال ، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً . وقال مجاهد ، وأبو العالية ، والحسن : المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار ، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض ، فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة ، ولا ينافي هذا قوله تعالى : { إِنَّ المنافقين فِى الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] فلا مانع من كون الكفار ، والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل ، وقوله : { أَسْفَلَ سافلين } إما حال من المفعول ، أي : رددناه حال كونه أسفل سافلين ، أو صفة لمقدر محذوف ، أي : مكاناً أسفل سافلين { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } هذا الاستثناء على القول الأوّل منقطع ، أي لكن الذين آمنوا إلخ ، ووجهه أن الهرم والردّ إلى أرذل العمر يصاب به المؤمن ، كما يصاب به الكافر ، فلا يكون لاستثناء المؤمنين على وجه الاتصال معنى . وعلى القول الثاني يكون الاستثناء متصلاً من ضمير { رددناه } ، فإنه في معنى الجمع ، أي : رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 3 ] { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير مقطوع ، أي : فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم؛ فهذه الجملة على القول الأوّل مبينة لكيفية حال المؤمنين ، وعلى القول الثاني مقرّرة لما يفيده الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الردّ ، وقال : أسفل سافلين على الجمع؛ لأن الإنسان في معنى الجمع ، ولو قال : أسفل سافل لجاز؛ لأن الإنسان باعتبار اللفظ واحد .

وقيل : معنى رددناه أسفل سافلين : رددناه إلى الضلال ، كما قال : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 2 ، 3 ] أي : إلاّ هؤلاء ، فلا يردّون إلى ذلك .
{ فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين } الخطاب للإنسان الكافر ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وإلزام الحجة ، أي : إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم ، وأنه يردّك أسفل سافلين ، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ وقيل : الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أي : أيّ شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة ، فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين . قال الفراء ، والأخفش : المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين ، كأنه قال : من يقدر على ذلك؟ أي : على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من قدرتنا على خلق الإنسان ما ظهر ، واختار هذا ابن جرير . والدين الجزاء ، ومنه قول الشاعر :
دنَّا تميما كما كانت أوائلنا ... دانت أوائلهم من سالف الزمن
وقال الآخر :
ولما صرّح الشر ... فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا ... ن دنَّاهم كما دانوا
{ أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } أي : أليس الذي فعل ما فعل مما ذكرنا بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً؟ حتى تتوهم عدم الإعادة والجزاء . وفيه وعيد شديد للكفار . ومعنى : أحكم الحاكمين : أتقن الحاكمين في كل ما يخلق . وقيل : أحكم الحاكمين قضاء وعدلاً . والاستفهام إذا دخل على النفي صار الكلام إيجاباً ، كما تقدّم تفسير قوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] .
وقد أخرج الخطيب ، وابن عساكر قال السيوطي بسند فيه مجهول عن الزهري عن أنس قال : لما أنزلت سورة { التين والزيتون } على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرح فرحاً شديداً حتى تبين لنا شدّة فرحه ، فسألنا ابن عباس عن تفسيرها فقال : التين بلاد الشام . والزيتون بلاد فلسطين . وطور سيناء الذي كلم الله عليه موسى { وهذا البلد الأمين } : مكة { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } محمداً { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } : عبدة اللات والعزّى : { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ { فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين * أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } إذ بعثك فيهم نبياً ، وجمعك على التقوى يا محمد ، ومثل هذا التفسير من ابن عباس لا تقوم به حجة لما تقدّم من كون في إسناده ذلك المجهول .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والتين والزيتون } قال : مسجد نوح الذي بني على الجوديّ ، والزيتون قال : بيت المقدس : { وَطُورِ سِينِينَ } قال : مسجد الطور . { وهذا البلد الأمين } قال : مكة { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } يقول : يردّ إلى أرذل العمر ، كبر حتى ذهب عقله ، هم نفر كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سفهت عقولهم ، فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم .

{ فَمَا يُكَذّبُكَ بَعْدُ بالدين } يقول : بحكم الله . وأخرج ابن مردويه عنه نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه أيضاً { والتين والزيتون } قال : الفاكهة التي يأكلها الناس { وَطُورِ سِينِينَ } قال : الطور الجبل . والسينين المبارك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : سينين هو الحسن . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } قال : في أعدل خلق : { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } يقول : إلى أرذل العمر : { إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } يعني غير منقوص . يقول فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر ، وكان يعمل في شبابه عملاً صالحاً كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ، ولم يضرّه ما عمل في كبره ، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر .
وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر ، وذلك قوله : { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين * إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } قال : لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئًا . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } يقول : إلى الكبر وضعفه ، فإذا كبر وضعف عن العمل ، كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته . وأخرج أحمد ، والبخاري ، وغيرهما عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا مرض العبد ، أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً » وأخرج الترمذي ، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً : « من قرأ { والتين والزيتون } فقرأ : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين » وأخرج ابن مردويه عن جابر مرفوعاً : « إذا قرأت { والتين والزيتون } فقرأت : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } فقل بلى » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان إذا قرأ : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } قال : سبحانك اللَّهم فبلى ا . ه .

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)

قرأ الجمهور : { اقرأ } بسكون الهمزة أمراً من القراءة . وقرأ عاصم في رواية عنه بفتح الراء ، وكأنه قلب الهمزة ألفاً ثم حذفها للأمر . والأمر بالقراءة يقتضي مقروءاً ، فالتقدير : اقرأ ما يوحى إليك ، أو ما نزل عليك ، أو ما أمرت بقراءته ، وقوله : { باسم رَبّكَ } متعلق بمحذوف هو حال ، أي : اقرأ ملتبساً باسم ربك ، أو مبتدئاً باسم ربك ، أو مفتتحاً ، ويجوز أن تكون الباء زائدة ، والتقدير : اقرأ اسم ربك كقول الشاعر :
سود المحاجر لا يقرأن بالسور ... قاله أبو عبيدة . وقال أيضاً : الاسم صلة ، أي : اذكر ربك . وقيل الباء بمعنى على ، أي : اقرأ على اسم ربك ، يقال افعل كذا بسم الله ، وعلى اسم الله قاله الأخفش . وقيل : الباء للاستعانة ، أي : مستعيناً باسم ربك ، ووصف الربّ بقوله : { الذى خَلَقَ } لتذكير النعمة لأن الخلق هو أعظم النعم ، وعليه يترتب سائر النعم . قال الكلبي : يعني الخلائق . { خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ } يعني : بني آدم . والعلقة الدم الجامد ، وإذا جرى فهو المسفوح . وقال : { من علق } بجمع علق؛ لأن المراد بالإنسان الجنس . والمعنى : خلق جنس الإنسان من جنس العلق ، وإذا كان المراد بقوله : { الذى خَلَقَ } كل المخلوقات ، فيكون تخصيص الإنسان بالذكر تشريفاً له لما فيه من بديع الخلق ، وعجيب الصنع ، وإذا كان المراد بالذي خلق الذي خلق الإنسان فيكون الثاني تفسيراً للأول . والنكتة ما في الإبهام ، ثم التفسير من التفات الذهن وتطلعه إلى معرفة ما أبهم أوّلاً ، ثم فسرّ ثانياً . ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير ، فقال : { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم } أي : افعل ما أمرت به من القراءة ، وجملة : { وَرَبُّكَ الأكرم } مستأنفة لإزاحة ما اعتذر به صلى الله عليه وسلم من قوله : « ما أنا بقارىء » يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وهو أميّ . فقيل له : اقرأ ، وربك الذي أمرك بالقراءة هو الأكرم . قال الكلبي : يعني الحليم عن جهل العباد ، فلم يعجل بعقوبتهم . وقيل : إنه أمره بالقراءة أوّلاً لنفسه ، ثم أمره بالقراءة ثانياً للتبليغ ، فلا يكون من باب التأكيد ، والأوّل أولى .
{ الذى عَلَّمَ بالقلم } أي : علم الإنسان الخط بالقلم . فكان بواسطة ذلك يقدر على أن يعلم كل مكتوب . قال الزجاج : علم الإنسان الكتابة بالقلم . قال قتادة : القلم نعمة من الله عزّ وجلّ عظيمة ، لولا ذلك لم يقم دين ، ولم يصلح عيش . فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده مالم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلاّ هو ، وما دوّنت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلاّ بالكتابة ، ولولا هي ما استقامت أمور الدين ، ولا أمور الدنيا ، وسمي قلماً لأنه يقلم أي : يقطع .

{ عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } هذه الجملة بدل اشتمال من التي قبلها ، أي : علمه بالقلم من الأمور الكلية والجزئية ما لم يعلم به منها . قيل : المراد بالإنسان هنا آدم كما في قوله : { وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا } [ البقرة : 31 ] . وقيل : الإنسان هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . والأولى حمل الإنسان على العموم ، والمعنى : أن من علمه الله سبحانه من هذا الجنس بواسطة القلم فقد علمه ما لم يعلم .
وقوله : { كَلاَّ } ردع وزجر لمن كفر نعم الله عليه بسبب طغيانه وإن لم يتقدم له ذكر . ومعنى { إِنَّ الإنسان ليطغى } أنه يجاوز الحد ، ويستكبر عل ربه . وقيل : المراد بالإنسان هنا أبو جهل ، وهو المراد بهذا ، وما بعده إلى آخر السورة ، وأنه تأخر نزول هذا وما بعده عن الخمس الآيات المذكورة في أوّل هذه السورة . وقيل : { كَلاَّ } هنا بمعنى حقاً قاله الجرجاني ، وعلل ذلك بأنه ليس قبله ولا بعده شيء يكون « كلا » ردّاً له ، وقوله : { أَن رَّءاهُ استغنى } علة ليطغى ، أي ليطغى أن رأى نفسه مستغنياً ، والرؤية هنا بمعنى العلم ، ولو كانت البصرية لامتنع الجمع بين الضميرين في فعلها لشيء واحد لأن ذلك من خواص باب علم ، ونحوه . قال الفرّاء : لم يقل رأى نفسه كما قيل قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تريد اسماً وخبراً نحو الظنّ والحسبان فلا يقتصر فيه على مفعول واحد ، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس تقول : رأيتني وحسبتني ، ومتى تراك خارجاً ، ومتى تظنك خارجاً . قيل : والمراد هنا أنه استغنى بالعشيرة والأنصار والأموال . قرأ الجمهور : { أن رآه } بمد الهمزة . وقرأ قنبل عن ابن كثير بقصرها . قال مقاتل : كان أبو جهل إذا أصاب مالاً زاد في ثيابه ، ومركبه ، وطعامه ، وشرابه ، فذلك طغيانه . وكذا قال الكلبي .
ثم هدد سبحانه وخوّف ، فقال : { إِنَّ إلى رَبّكَ الرجعى } أي . المرجع ، والرجعى والمرجع والرجوع مصادر . يقال : رجع إليه مرجعاً ورجوعاً ورجعى . وتقدّم الجار والمجرور للقصر ، أي : الرجعى إليه سبحانه لا إلى غيره . { أَرَأَيْتَ الذى ينهى * عَبْداً إِذَا صلى } قال المفسرون : الذي ينهي أبو جهل ، والمراد بالعبد محمد ، وفيه تقبيح لصنعه ، وتشنيع لفعله حتى كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية . { أَرَءيْتَ إِن كَانَ على الهدى } يعني : العبد المنهيّ إذا صلى ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . { أَوْ أَمَرَ بالتقوى } أي : بالإخلاص والتوحيد ، والعمل الصالح الذي تتقي به النار . { أَرَءيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى } يعني أبا جهل ، كذب بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتولى عن الإيمان .
وقوله : { أَرَأَيْتَ } في الثلاثة المواضع بمعنى أخبرني؛ لأن الرؤية لما كانت سبباً للإخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستفهام عن متعلقها ، والخطاب لكل من يصلح له .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34