كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة ، فقال : « ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم؟ فقالوا : يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه ، أو قال : مقعدته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هو هذا » وأخرج أحمد ، وابن خزيمة ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن عويم بن ساعدة الأنصاري ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : « إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم ، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟ قالوا : والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا » رواه أحمد عن حسن بن محمد . حدّثنا أبو أويس ، حدّثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة ، فذكره . وقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه . وأخرج ابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الجارود في المنتقى ، والدارقطني ، والحاكم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن طلحة بن نافع ، قال : حدّثني أبو أيوب ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك أن هذه الآية لما نزلت { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا معشر الأنصار إن الله قد أثنى عليكم خيراً في الطهور ، فما طهوركم هذا؟ قالوا : نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ، قال : فهل مع ذلك غيره؟ قالوا : لا ، غير أن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحبّ أن يستنجي بالماء ، قال : هو ذاك فعليكموه » . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، والبغوي في معجمه ، والطبراني وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، عن محمد بن عبد الله بن سلام ، عن أبيه ، قال : لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الذي أسس على التقوى مسجد قباء فقال : « إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيراً أفلا تخبروني؟ » يعني : قوله تعالى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } فقالوا : يا رسول الله ، إنا لنجده مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء ، ونحن نفعله اليوم . وإسناد أحمد في هذا الحديث هكذا : حدّثنا يحيى بن آدم ، حدّثني مالك ، يعني ابن مغول ، سمعت سياراً أبا الحكم ، عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام . وقد روى عن جماعة من التابعين في ذكر سبب نزول الآية نحو هذا . ولا يخفاك أن بعض هذه الأحاديث ليس فيه تعيين مسجد قباء وأهله ، وبعضها ضعيف ، وبعضها لا تصريح فيه بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء ، وعلى كل حال : لا تقاوم تلك الأحاديث المصرحة بأن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في صحتها وصراحتها .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ } قال : يعني قواعده في نار جهنم . وأخرج مسدّد في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لقد رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حيث انهار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس في قوله : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } قال : يعني الشك { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } يعني : الموت . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن حبيب بن أبي ثابت ، في قوله : { رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ } قال : غيظاً في قلوبهم { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } قال : إلى أن يموتوا . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سفيان ، في قوله : { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } قال : إلا أن يتوبوا .

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم ، وفرّع على كل قسم منها ما هو لائق به ، عاد على بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه ، وذكر الشراء تمثيل ، كما في قوله : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } [ البقرة : 16 ] مثل سبحانه إثابة المجاهدين بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله بالشراء ، وأصل الشراء بين العباد هو : إخراج الشيء عن الملك بشيء آخر مثله أو دونه ، أو أنفع منه ، فهؤلاء المجاهدون باعوا أنفسهم من الله بالجنة التي أعدها للمؤمنين ، أي : بأن يكونوا من جملة أهل الجنة ، وممن يسكنها فقد جادوا بأنفسهم ، وهي أنفس الأعلاق ، والجود بها غاية الجود :
يجود بالنفس أن ضنّ الجبان بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وجاد الله عليهم بالجنة ، وهي أعظم ما يطلبه العباد ، ويتوسلون إليه بالأعمال؛ والمراد بالأنفس هنا : أنفس المجاهدين ، وبالأموال : ما ينفقونه في الجهاد . قوله : { يقاتلون فِى سَبِيلِ الله } بيان للبيع الذي يقتضيه الاشتراء المذكور ، كأنه قيل : كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل : يقاتلون في سبيل الله ، ثم بيّن هذه المقاتلة في سبيل الله بقوله : { فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } والمراد أنهم : يقدمون على قتل الكفار في الحرب ، ويبذلون أنفسهم في ذلك ، فإن فعلوا فقد استحقوا الجنة ، وإن لم يقع القتل عليهم بعد الإبلاء في الجهاد ، والتعرّض للموت بالإقدام على الكفار . قرأ الأعمش ، والنخعي ، وحمزة ، والكسائي وخلف بتقديم المبنيّ للمفعول على المبنيّ للفاعل . وقرأ الباقون بتقديم المبني للفاعل على المبني للمفعول . وقوله : { وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي التوراة والإنجيل والقرءان } إخبار من الله سبحانه أن فريضة الجهاد واستحقاق الجنة بها قد ثبت الوعد بها من الله في التوراة والإنجيل ، كما وقع في القرآن ، وانتصاب و { عداً } و { حقاً } على المصدرية أو الثاني : نعت للأوّل ، و { في التوراة } متعلق بمحذوف : أي وعداً ثابتاً فيها .
قوله : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } في هذا من تأكيد الترغيب للمجاهدين في الجهاد ، والتنشيط لهم على بذل الأنفس والأموال ، ما لا يخفى ، فإنه أوّلاً أخبر بأنه قد اشترى منهم أنفسهم ، وأموالهم ، بأن لهم الجنة ، وجاء بهذه العبارة الفخيمة ، وهي كون الجنة قد صارت ملكاً لهم ، ثم أخبر ثانياً بأنه قد وعد بذلك في كتبه المنزّلة ، ثم أخبر بأنه بعد هذا الوعد الصادق ، لا بدّ من حصول الموعود به ، فإنه لا أحد أوفى بعهده من الله سبحانه ، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ، ثم زادهم سروراً وحبوراً ، فقال : { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذى بَايَعْتُمْ بِهِ } أي : أظهروا السرور بذلك ، والبشارة هي إظهار السرور ، وظهوره يكون في بشرة الوجه ، ولذا يقال : أسارير الوجه : أي التي يظهر فيها السرور .

وقد تقدّم إيضاح هذا ، والفاء لترتيب الاستبشار على ما قبله . والمعنى : أظهروا السرور بهذا البيع الذي بايعتم به الله عزّ وجلّ ، فقد ربحتم فيه ربحاً لم يربحه أحد من الناس ، إلا من فعل مثل فعلكم ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الجنة ، أو إلى نفس البيع الذي ربحوا فيه الجنة ، ووصف الفوز وهو الظفر بالمطلوب بالعظم ، يدل على أنه فوز لا فوز مثله .
قوله : { التائبون } خبر مبتدأ محذوف : أي هم التائبون ، يعني : المؤمنون ، والتائب الراجع : أي هم الراجعون إلى طاعة الله عن الحالة المخالفة للطاعة . وقال الزجاج : الذي عندي أن قوله : { التائبون العابدون } رفع بالابتداء وخبره مضمر : أي التائبون ، ومن بعدهم إلى آخر الآية لهم الجنة أيضاً ، وإن لم يجاهدوا . قال : وهذا أحسن ، إذ لو كانت هذه أوصافاً للمؤمنين المذكورين في قوله : { اشترى مِنَ المؤمنين } لكان الوعد خاصاً بمجاهدين . وقد ذهب إلى ما ذهب إليه الزجاج من أن هذا الكلام منفصل عما قبله طائفة من المفسرين ، وذهب آخرون إلى أن هذه الأوصاف راجعة إلى المؤمنين في الآية الأولى ، وأنها على جهة الشرط : أي لا يستحق الجنة بتلك المبايعة إلا من كان من المؤمنين على هذه الأوصاف . وفي مصحف عبد الله بن مسعود : التائبين العابدين إلى آخرها وفيه وجهان : أحدهما : أنها أوصاف للمؤمنين . الثاني : أن النصب على المدح . وقيل : إن ارتفاع هذه الأوصاف على البدل من ضمير { يقاتلون } ، وجوز صاحب الكشاف أن يكون { التائبون } مبتدأ ، وخبره { العابدون } ، وما بعده أخبار ، كذلك أي : التائبون من الكفر على الحقيقة ، الجامعون لهذه الخصال ، وفيه من البعد ما لا يخفى ، والعابدون القائمون بما أمروا به من عبادة الله مع الإخلاص . و { الحامدون } الذين يحمدون الله سبحانه على السرّاء والضرّاء ، و { السائحون } قيل : هم الصائمون ، وإليه ذهب جمهور المفسرين ، ومنه قوله تعالى : { عابدات سائحات } [ التحريم : 5 ] وإنما قيل للصائم سائح؛ لأنه يترك اللذات ، كما يتركها السائح في الأرض ، ومنه قول أبي طالب بن عبد المطلب :
وبالسائحين لا يذوقون فطرة ... لربهم والراكدات العوامل
وقال آخر :
تراه يصلي ليله ونهاره ... يظل كثير الذكر لله سائحا
قال الزجاج : ومذهب الحسن أن السائحين ها هنا هم الذين يصومون الفرض ، وقيل : إنهم الذين يديمون الصيام . وقال عطاء : السائحون المجاهدون . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : السائحون : المهاجرون . وقال عكرمة : هم الذين يسافرون لطلب الحديث والعلم . وقيل : هم الجائلون بأفكارهم في توحيد ربهم وملكوته ، وما خلق من العبر . والسياحة في اللغة أصلها : الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء ، وهي مما يعين العبد على الطاعة لانقطاعه عن الخلق ، ولما يحصل له من الاعتبار بالتفكر في مخلوقات الله سبحانه ، و { الركعون الساجدون } معناه : المصلون ، و { الآمرون بالمعروف } القائمون بأمر الناس بما هو معروف في الشريعة { والناهون عَنِ المنكر } القائمون بالإنكار على من فعل منكراً : أي شيئاً ينكره الشرع { والحافظون لِحُدُودِ الله } القائمون بحفظ شرائعه التي أنزلها في كتبه ، وعلى لسان رسله ، وإنما أدخل الواو في الوصفين الآخرين ، وهما : { والناهون عَنِ المنكر والحافظون } الخ ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنزلة خصلة واحدة ، ثم عطف عليه الحافظون بالواو لقربه .

وقيل : إن العطف في الصفات يجيء بالواو وبغيرها ، كقوله : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } [ غافر : 3 ] . وقيل : إن الواو زائدة . وقيل : هي واو الثمانية المعروفة عند النحاة ، كما في قوله تعالى : { ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] ، وقوله : { وَفُتِحَتْ أبوابها } [ الزمر : 73 ] ، وقوله : { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، وقد أنكروا الثمانية ، أبو علي الفارسي وناظره في ذلك ابن خالويه { وَبَشّرِ المؤمنين } الموصوفين بالصفات السابقة .
وقد أخرج ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، وغيره قالوا : قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، قال : « أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تنعون منه أنفسكم وأموالكم » ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : « الجنة » ، قال : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل ، فنزلت : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } فكبر الناس في المسجد ، فأقبل رجل من الأنصار ثانياً طرفي ردائه على عاتقه ، فقال : يا رسول الله ، أنزلت هذه الآية؟ قال : « نعم » ، فقال الأنصاري : بيع ربيح لا نقيل ، ولا نستقيل . وقد أخرج ابن سعد ، عن عبادة بن الصامت ، أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار : أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، والسمع والطاعة ، ولا ينازعوا في الأمر أهله ، ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم . قالوا : نعم؛ قال قائل الأنصار : نعم ، هذا لك يا رسول الله ، فما لنا؟ قال : « الجنة » وأخرجه ابن سعد أيضاً من وجه آخر ، وليس في قصة العقبة ما يدلّ على أنها سبب نزول الآية .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال : من مات على هذه التسع ، فهو في سبيل الله : { التائبون العابدون } إلى آخر الآية . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال : الشهيد من كان له التسع الخصال المذكورة في هذه الآية . وأخرج أبو الشيخ عنه قال : العابدون الذين يقيمون الصلاة .

وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عنه ، أيضاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوّل من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السرّاء والضرّاء » . وأخرج ابن جرير ، عن عبيد بن عمير ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين ، فقال : « هم الصائمون » وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، والبيهقي في شعب الإيمان ، من طريق عبيد بن عمير ، عن أبي هريرة مرفوعاً مثله . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن النجار ، من طريق أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً مثله . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، مرفوعاً مثله . وقد روي عن أبي هريرة موقوفاً ، وهو أصح من المرفوع من طريقه ، وحديث عبيد بن عمير مرسل ، وقد أسنده من طريق أبي هريرة في الرواية الثانية . وقد روي من قول جماعة من الصحابة مثل هذا : منهم عائشة عند ابن جرير ، وابن المنذر ، ومنهم ابن عباس عند ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبي الشيخ ، ومنهم ابن مسعود ، عند هؤلاء المذكورين قبله . وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن أبي أمامة أنّ رجلاً استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في السياحة فقال : « إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » وصححه عبد الحق . وأخرج أبو الشيخ ، عن الربيع ، في هذه الآية قال : هذه أعمال قال فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قضى على نفسه في التوراة والإنجيل والقرآن لهذه الأمة أن من قتل منهم على هذه الأعمال كان عند الله شهيداً ، ومن مات منهم عليها فقد وجب أجره على الله . وأخرج ابن المنذر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : الشهيد من لو مات على فراشه دخل الجنة . قال : وقال ابن عباس : من مات وفيه تسع ، فهو شهيد ، وقرأ هذه الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم } يعني : بالجنة ، ثم قال : { التائبون } إلى قوله : { والحافظون لِحُدُودِ الله } يعني : القائمين على طاعة الله ، وهو شرط اشترطه الله على أهل الجهاد ، وإذا وفوا لله بشرطه وفى لهم بشرطهم .

مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

لما بيّن الله سبحانه في أول السورة وما بعده أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة ، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيداً ، وصرّح بأن ذلك متحتم ، ولو كانوا أولي قربى ، وأن القرابة في مثل هذا الحكم لا تأثير لها . وقد ذكر أهل التفسير أن { ما كان } في القرآن يأتي على وجهين : الأوّل : على النفي نحو : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [ آل عمران : 145 ] ، والآخر : على معنى النهي نحو : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله } [ الأحزاب : 53 ] و { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين ءامَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } وهذه الآية متضمنة لقطع الموالاة للكفار ، وتحريم الاستغفار لهم ، والدعاء بما لا يجوز لمن كان كافراً ، ولا ينافي هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال يوم أحد حين كسر المشركون رباعيته وشجوا وجهه : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، لأنه يمكن أن يكون ذلك قبل أن يبلغه تحريم الاستغفار للمشركين . وعلى فرض أنه قد كان بلغه ، كما يفيده سبب النزول ، فإنه قبل يوم أحد بمدّة طويلة ، وسيأتي . فصدور هذا الاستغفار منه لقومه إنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدّمه من الأنبياء ، كما في صحيح مسلم عن عبد الله ، قال : كأني أنظر إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه ، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول : « ربّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » وفي البخاري ، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر نبياً قبله شجه قومه ، فجعل النبي يخبر عنه بأنه قال : « اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون » قوله : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أصحاب الجحيم } هذه الجملة تتضمن التعليل للنهي عن الاستغفار ، والمعنى : أن هذا التبين موجب لقطع الموالاة لمن كان هكذا ، وعدم الاعتداد بالقرابة؛ لأنهم ماتوا على الشرك . وقد قال سبحانه : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } [ النساء : 48 ] . فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده .
قوله : { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ } الآية : ذكر الله سبحانه السبب في استغفار إبراهيم لأبيه ، أنه كان لأجل وعد تقدّم من إبراهيم لأبيه بالاستغفار له ، ولكنه ترك ذلك وتبرأ منه لما تبين له أنه عدوّ لله ، وأنه غير مستحق للاستغفار ، وهذا يدلّ على أنه إنما وعده قبل أن يتبين له أنه من أهل النار ، ومن أعداء الله ، فلا حاجة إلى السؤال الذي يورده كثير من المفسرين ، أنه كيف خفي ذلك على إبراهيم ، فإنه لم يخف عليه تحريم الاستغفار لمن أصرّ على الكفر ومات عليه ، وهو لم يعلم ذلك إلا بإخبار الله سبحانه له بأنه عدوّ الله ، فإن ثبوت هذه العداوة تدلّ على الكفر ، وكذلك لم يعلم نبينا بتحريم ذلك إلا بعد أن أخبره الله بهذه الآية ، وهذا حكم إنما يثبت بالسمع لا بالعقل .

وقيل : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه : دعاؤه إلى الإسلام ، وهو ضعيف جداً . وقيل المراد بالاستغفار في هذه الآية : النهي عن الصلاة على جنائز الكفار ، فهو كقوله : { وَلاَ تُصَلّ على أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } [ التوبة : 84 ] ولا حاجة إلى تفسير الاستغفار بالصلاة ولا ملجىء إلى ذلك ، ثم ختم الله سبحانه هذه الآية بالثناء العظيم على إبراهيم . فقال : { إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ } وهو كثير التأوّه ، كما تدل على ذلك صيغة المبالغة .
وقد اختلف أهل العلم في معنى الأوّاه ، فقال ابن مسعود ، وعبيد بن عمير : إنه الذي يكثر الدعاء . وقال الحسن ، وقتادة : إنه الرّحيم بعباد الله . وروي عن ابن عباس : أنه المؤمن بلغة الحبشة . وقال الكلبي : إنه الذي يذكر الله في الأرض القفر . وروي مثله : عن ابن المسيب ، وقيل : الذي يكثر الذكر لله من غير تقييد ، روي ذلك عن عقبة بن عامر . وقيل : هو الذي يكثر التلاوة ، حكي ذلك عن ابن عباس . وقيل : إنه الفقيه ، قاله مجاهد والنخعي . وقيل : المتضرع الخاضع ، روى ذلك عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد . وقيل : هو الذي إذا ذكر خطاياه استغفر لها ، روي ذلك عن أبي أيوب . وقيل : هو الشفيق قاله عبد العزيز بن يحيى . وقيل : إنه المعلم للخير . وقيل : إنه الراجع عن كل ما يكرهه الله ، قاله عطاء . والمطابق لمعنى الأوّاه لغة أن يقال : إنه الذي يكثر التأوّه من ذنوبه ، فيقول مثلاً : آه من ذنوبي آه ، مما أعاقب به بسببها ، ونحو ذلك ، وبه قال الفراء ، وهو مروي عن أبي ذرّ ، ومعنى التأوّه : هو : أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء . قال في الصحاح : وقد أوّه الرجل تأويهاً ، وتأوه تأوهاً إذا قال أوّه ، والاسم منه آهة بالمدّ ، قال :
إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوّه آهة الرجل الحزين
و { الحليم } الكثير الحلم ، كما تفيده صيغة المبالغة ، وهو الذي يصفح عن الذنوب ، ويصبر على الأذى . وقيل : الذي لا يعاقب أحداً قط إلا لله .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت الوفاة أبا طالب دخل النبي صلى الله عليه وسلم ، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أمية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أي عمّ ، قل لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله » ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، وأبو جهل وعبد الله ، يعاندانه بتلك المقالة . فقال أبو طالب آخر ما كلمهم : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول : لا إله إلا الله .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك » ، فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } الآية ، وأنزل الله في أبي طالب : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء } [ القصص : 56 ] . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، والضياء في المختارة ، عن عليّ قال : سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان ، فقلت : تستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال : أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } الآية . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر ، عن عليّ قال : أخبرت النبيّ صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب ، فبكى ، فقال : « اذهب فغسله وكفنه ، وواره غفر الله له ورحمه » ، ففعلت ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر له أياماً ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } الآية .
وقد روي كون سبب نزول الآية : استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب من طرق كثيرة : منها عن محمد بن كعب ، عند ابن أبي حاتم وأبي الشيخ ، وهو مرسل . ومنها عن عمرو بن دينار ، عند ابن جرير ، وهو مرسل أيضاً . ومنها عن سعيد بن المسيب ، عند ابن جرير ، وهو مرسل أيضاً . ومنها عن عمر بن الخطاب عند ابن سعد ، وأبي الشيخ وابن عساكر . ومنها عن الحسن البصري عند ابن عساكر ، وهو مرسل . وروي أنها نزلت بسبب زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لقبر أمه ، واستغفاره لها ، من طريق ابن عباس عند الطبراني وابن مردويه ، ومن طريق ابن مسعود عند ابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، وعن بريدة عند ابن مردويه ، وما في الصحيحين مقدّم على ما لم يكن فيهما ، على فرض أنه صحيح ، فكيف وهو ضعيف غالبه .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه } إلى قوله : { كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } [ الإسراء : 24 ] قال : ثم استثنى فقال : { مَا كَانَ لِلنَّبِىّ } إلى قوله : { إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ } قال : تبين له حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت منه . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وأبو بكر الشافعي في فوائده ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله ، فتبرأ منه . وأخرج ابن مردويه ، عن جابر ، أن رجلاً كان يرفع صوته بالذكر ، فقال رجل : لو أن هذا خفض صوته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« دعه فإنه أوّاه » وأخرج الطبراني وابن مردويه ، عن عقبة بن عامر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين : « إنه أوّاه » ، وذلك أنه كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء . وأخرجه أيضاً أحمد قال : حدّثنا موسى بن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن عليّ بن رباح ، عن عقبة بن عامر ، فذكره . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد قال : قال رجل : يا رسول ، الله ما الأوّاه؟ قال : « الخاشع المتضرّع الدّعاء » وهذا إن ثبت وجب المصير إليه وتقديمه على ما ذكره أهل اللغة في معنى الأوّاه ، وإسناده عند ابن جرير هكذا : حدّثني المثنى ، حدثني الحجاج بن منهال ، حدّثنا عبد الحميد بن بهرام ، حدّثنا شهر بن حوشب ، عن عبد الله بن شداد ، فذكره . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ إبراهيم لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } قال : كان من حلمه أنه كان إذا أذاه الرجل من قومه قال له : هداك الله .

وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

لما نزلت الآية المتقدّمة في النهي عن الاستغفار للمشركين ، خاف جماعة ممن كان يستغفر لهمَ العقوبة من الله بسبب ذلك الاستغفار ، فأنزل الله سبحانه : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً } إلخ : أي أن الله سبحانه لا يوقع الضلال على قوم ، ولا يسميهم ضلالاً بعد أن هداهم إلى الإسلام ، والقيام بشرائعه ، مالم يقدموا على شيء من المحرّمات بعد أن يتبين لهم أنه محرّم ، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك ، فلا إثم عليهم ولا يؤاخذون به ، ومعنى : { حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } حتى يتبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من محرّمات الشرع { إِن الله بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ } مما يحلّ لعباده ، ويحرم عليه ، ومن سائر الأشياء التي خلقها ، ثم بين لهم أن له سبحانه ملك السموات والأرض لا يشاركه في ذلك مشارك ، ولا ينازعه منازع يتصرف في ملكه بما شاء من التصرفات التي من جملتها أنه يحيى من قضت مشيئته بإحيائه ، ويميت من قضت مشيته بإماتته ، وما لعباده من دونه من وليّ يواليهم ، ولا نصير ينصرهم ، فلا يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ، فإن القرابة لا تنفع شيئاً ولا تؤثر أثراً ، بل التصرف في جميع الأشياء لله وحده .
قوله : { لَقَدْ تَابَ الله على النبى } فيما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الإذن في التخلف ، أو فيما وقع منه من الاستغفار للمشركين . وليس من لازم التوبة أن يسبق الذنب ممن وقعت منه أوله ، لأن كل العباد محتاج إلى التوبة والاستغفار . وقد تكون التوبة منه تعالى على النبي من باب أنه ترك ما هو الأولى ، والأليق ، كما في قوله : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] . ويجوز أن يكون ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التعريض للمذنبين بأن يتجنبوا الذنوب ، ويتوبوا عما قد لابسوه منها ، وكذلك تاب الله سبحانه على المهاجرين والأنصار ، فيما قد اقترفوه من الذنوب . ومن هذا القبيل ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله : " إن الله اطلع على أهل بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ثم وصف سبحانه المهاجرين والأنصار بأنهم الذين اتبعوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم يتخلفوا عنه ، وساعة العسرة هي غزوة تبوك ، فإنهم كانوا في عسرة شديدة ، فالمراد بالساعة جميع أوقات تلك الغزاة ، ولم يرد ساعة بعينها ، والعسرة : صعوبة الأمر .
قوله : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ } في { كاد } ضمير الشأن ، و { قلوب } مرفوع ب { يزيغ } عند سيبويه . وقيل : هي مرفوعة ب { كاد } ، ويكون التقدير : من بعد ما كان قلوب فريق منهم تزيغ . وقرأ الأعمش وحمزة وحفص «يزيغ» بالتحتية .

قال أبو حاتم : من قرأ بالياء التحتية ، فلا يجوز له أن يرفع القلوب ب { كاد } . قال النحاس : والذي لم يجزه جائز عند غيره على تذكير الجمع ، ومعنى : { تزيغ } تتلف بالجهد والمشقة والشدّة . وقيل معناه : تميل عن الحق وتترك المناصرة والممانعة . وقيل معناه : تهمّ بالتخلف عن الغزو لما هم فيه من الشدّة العظيمة . وفي قراءة ابن مسعود «من بعد ما زاغت» وهم المتخلفون على هذه القراءة . وفي تكرير التوبة عليهم بقوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } تأكيد ظاهر واعتناء بشأنها ، هذا إن كان الضمير راجعاً إلى من تقدّم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق فلا تكرار .
قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } أي : وتاب على الثلاثة الذين خلفوا : أي أخروا ، ولم تقبل توبتهم في الحال كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم . قال ابن جرير : معنى خلفوا : تركوا ، يقال : خلفت فلاناً فارقته . وقرأ عكرمة بن خالد «خلفوا» بالتخفيف : أي أقاموا بعد نهوض رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين إلى الغزو . وقرأ جعفر بن محمد «خالفوا» وهؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، أو ابن ربيعة العامري ، وهلال ابن أمية الواقفي ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم ، حتى نزل القرآن بأن الله قد تاب عليهم؛ وقيل : معنى { خلفوا } : فسدوا ، مأخوذ من خلوف الفم . قوله : { حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } معناه : أنهم أخروا عن قبول التوبة إلى هذه الغاية ، وهي وقت أن ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، و " ما " مصدرية : أي برحبها ، لإعراض الناس عنهم وعدم مكالمتهم من كل أحد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الناس أن يكالموهم . والرحب : الواسع . يقال : منزل رحب ورحيب ورحاب . وفي هذه الآية دليل على جواز هجران أهل المعاصي تأديباً لهم؛ لينزجروا عن المعاصي . ومعنى ضيق أنفسهم عليهم : أنها ضاقت صدورهم بما نالهم من الوحشة وبما حصل لهم من الجفوة ، وعبر بالظن في قوله : { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ } عن العلم : أي علموا أن لا ملجأ يلجؤون إليه قط ، إلا إلى الله سبحانه بالتوبة والاستغفار . قوله : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ } أي : رجع عليهم بالقبول والرحمة ، وأنزل في القرآن التوبة عليهم ليستقيموا أو وفقهم للتوبة فيما يستقبل من الزمان إن فرطت منهم خطيئة ليتوبوا عنها ، ويرجعوا إلى الله فيها ويندموا على ما وقع منهم { إِنَّ الله هُوَ التواب } أي : الكثير القبول لتوبة التائبين ، { الرحيم } أي : الكثير الرحمة لمن طلبها من عباده . قوله : { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } هذا الأمر بالكون مع الصادقين بعد قصة الثلاثة فيه الإشارة إلى أن هؤلاء الثلاثة حصل لهم بالصدق ما حصل من توبة الله ، وظاهر الآية الأمر للعباد على العموم .

وقد أخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ } قال : نزلت حين أخذوا الفداء من المشركين يوم الأسارى . قال : لم يكن لكم أن تأخذوه حتى يؤذن لكم ، ولكن ما كان الله ليعذب قوماً بذنب أذنبوه { حتى يُبَيّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } قال : حتى ينهاهم قبل ذلك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في الآية قال : بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عاما ما فعلوا أو تركوا .
وأخرج ابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، أنه قال لعمر بن الخطاب : حدّثنا من شأن ساعة العسرة ، فقال : خرجنا مع رسول الله إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، حتى إن الرجل لينحر بعيره ، فيعصر فرثه ، فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله ، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع لنا ، فرفع يديه ، فلم يرجعهما حتى قالت السماء ، فأهطلت ثم سكبت ، فملؤوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر ، فلم نجدها جاوزت العسكر . وقد وقع الاتفاق بين الرواة أن ساعة العسرة هي غزوة تبوك .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن منده ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن جابر بن عبد الله ، في قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } قال : كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وكلهم من الأنصار . وأخرج ابن منده ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، مثله . وأخرج البخاري ومسلم ، وغيرهما ، عن كعب بن مالك قال : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر ، ولم يعاتب أحداً تخلف عنها ، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين توافقنا على الإسلام ، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر منها في الناس وأشهر ، ثم ذكر القصة الطويلة المشهورة في كتب الحديث والسير ، وهي معلومة عند أهل العلم فلا نطول بذكرها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك ، في قوله : { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلّفُواْ } قال : يعني : خلفوا عن التوبة ، لم يتب عليهم حين تاب الله على أبي لبابة وأصحابه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن عكرمة نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن نافع ، في قوله : { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } قال : نزلت في الثلاثة الذين خلفوا ، قيل لهم : كونوا مع محمد وأصحابه . وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } قال : مع أبي بكر وعمر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن الضحاك في الآية قال : مع أبي بكر ، وعمر ، وأصحابهما . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : مع عليّ بن أبي طالب . وأخرج ابن عساكر ، عن أبي جعفر ، قال : مع الثلاثة الذين خلفوا .

مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)

في قوله : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة } إلخ ، زيادة تأكيد لوجوب الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحريم التخلف عنه : أي ما صح وما استقام لأهل المدينة { وَمَنْ حَوْلَهُمْ مّنَ الأعراب } كمزينة وجهينة ، وأشجع وأسلم وغفار { أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ الله } ، صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وإنما خصهم الله سبحانه لأنهم قد استنفروا ، فلم ينفروا ، بخلاف غيرهم من العرب ، فإنهم لم يستنفروا مع كون هؤلاء لقربهم وجوارهم أحق بالنصرة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } أي : وما كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، فيشحون بها ويصونونها ، ولا يشحون بنفس رسول الله ، ويصونونها كما شحوا بأنفسهم وصانوها ، يقال : رغبت عن كذا : أي ترفعت عنه ، بل واجب عليهم أن يكابدوا معه المشاق ، ويجاهدوا بين يديه أهل الشقاق . ويبذلوا أنفسهم دون نفسه؛ وفي هذا الإخبار معنى الأمر لهم مع ما يفيده إيراده على هذه الصيغة من التوبيخ لهم ، والتقريع الشديد ، والتهييج لهم ، والإزراء عليهم . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما يفيده السياق من وجوب المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي ذلك الوجوب عليهم بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب ، وأصناف الشدائد . والظمأ : العطش ، والنصب : التعب ، والمخمصة : المجاعة الشديدة التي يظهر عندها ضمور البطن . وقرأ عبيد بن عمير «ظماء» بالمد . وقرأ غيره بالقصر ، وهما لغتان مثل خطأ وخطاء ، و " لا " في هذه المواضع زائدة للتأكيد . ومعنى { فِى سَبِيلِ الله } في طاعة الله .
قوله : { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكفار } أي : لا يدوسون مكاناً من أمكنة الكفار بأقدامهم ، أو بحوافر خيولهم أو بأخفاف رواحلهم ، فيحصل بسبب ذلك الغيظ للكفار . والموطىء : اسم مكان ، ويجوز أن يكون مصدراً { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } أي : يصيبون من عدوّهم قتلاً أو أسراً أو هزيمة أو غنيمة ، وأصله : من نلت الشيء أنال : أي أصيب . قال الكسائي : هو من قولهم : أمر منيل منه ، وليس هو من التناول ، إنما التناول من نلته بالعطية . قال غيره : نلت أنول من العطية ، ونلته أناله : أدركته ، والضمير في { بِهِ } يعود إلى كل واحد من الأمور المذكورة ، والعمل الصالح : الحسنة المقبولة : أي إلا كتبه الله لهم حسنة مقبولة يجازيهم بها ، وجملة : { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } في حكم التعليل لما سبق مع كونه يشمل كل محسن ، ويصدق على المذكورين هنا صدقاً أوّلياً .
قوله : { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً } معطوف على ما قبله : أي ولا يقع منهم الإنفاق في الحرب ، وإن كان شيئاً صغيراً يسيراً { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا } وهو في الأصل كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل ، والعرب تقول : واد وأودية على غير قياس .

قال النحاس : ولا يعرف فيما علمت فاعل وأفعلة { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } أي : كتب لهم ذلك الذي عملوه من النفقة والسفر في الجهاد { لِيَجْزِيَهُمُ الله } به { أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : أحسن جزاء ما كانوا يعملون من الأعمال ، ويجوز أن يكون في قوله : { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } ضمير يرجع إلى عمل صالح . وقد ذهب جماعة إلى أن هذه الآية منسوخة بالآية المذكورة بعدها ، وهي قوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } فإنها تدل على جواز التخلف من البعض ، مع القيام بالجهاد من البعض ، وسيأتي .
وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق عمر بن مالك ، عن بعض الصحابة قال : لما نزلت : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة } الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي بعثني بالحق لولا ضعفاء الناس ما كانت سرية إلا كنت فيها » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله : { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة } قال هذا حين كان الإسلام قليلاً لم يكن لأحد أن يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما كثر الإسلام وفشا قال الله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الأوزاعي ، وعبد الله بن المبارك ، وإبراهيم بن محمد الفزاري ، وعيسى بن يونس السبيعي ، أنهم قالوا في قوله تعالى : { وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً } قالوا : هذه الآية للمسلمين إلى أن تقوم الساعة .

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

اختلف المفسرون في معنى : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } فذهب جماعة إلى أنه من بقية أحكام الجهاد؛ لأن سبحانه لما بالغ في الأمر بالجهاد والانتداب إلى الغزو ، كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من الكفار ينفرون جميعاً ويتركون المدينة خالية ، فأخبرهم الله سبحانه بأنه ما كان لهم ذلك ، أي ما صحّ لهم ، ولا استقام أن ينفروا جميعاً ، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة من تلك الفرقة ، ويبقى من عدا هذه الطائفة النافرة . قالوا : ويكون الضمير في قوله : { لّيَتَفَقَّهُواْ } عائداً إلى الفرقة الباقية . والمعنى : أن الطائفة من هذه الفرقة تخرج إلى الغزو ، ومن بقي من الفرقة يقفون لطلب العلم ، ويعلمون الغزاة إذا رجعوا إليهم من الغزو ، أو يذهبون في طلبه إلى المكان الذي يجدون فيه من يتعلمون منه ، ليأخذوا عنه الفقه في الدين ، وينذروا قومهم وقت رجوعهم إليهم . وذهب آخرون إلى أن هذه الآية ليست من بقية أحكام الجهاد ، وهي حكم مستقلّ بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم ، والتفقه في الدين ، جعله الله سبحانه متصلاً بما دلّ على إيجاب الخروج إلى الجهاد ، فيكون السفر نوعين : الأوّل : سفر الجهاد ، والثاني : السفر لطلب العلم . ولا شك أن وجوب الخروج لطلب العلم إنما يكون إذا لم يجد الطالب من يتعلم منه في الحضر من غير سفر . والفقه : هو العلم بالأحكام الشرعية ، وبما يتوصل به إلى العلم بها من لغة ونحو ، وصرف وبيان وأصول . ومعنى : { فَلَوْلاَ نَفَرَ } فهلا نفر ، والطائفة في اللغة : الجماعة . وقد جعل الله سبحانه الغرض من هذا هو التفقه في الدين ، وإنذار من لم يتفقه . فجمع بين المقصدين الصالحين والمطلبين الصحيحين ، وهما تعلم العلم وتعليمه ، فمن كان غرضه بطلب العلم غير هذين ، فهو طالب لغرض دنيوي لا لغرض دينيّ ، فهو كماقلت :
وطالب الدنيا بعلم الدين أي بائس ... كمن غدا لنعله يمسح بالقلانس
ومعنى : { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } الترجي لوقوع الحذر منهم عن التعريض فيما يجب فعله فيترك ، أو فيما يجب تركه فيفعل ، ثم أمر سبحانه المؤمنين بأن يجتهدوا في مقاتلة من يليهم من الكفار ، وأن يأخذوا في حربهم بالغلظة والشدّة ، والجهاد واجب لكل الكفار ، وإن كان الابتداء بمن يلى المجاهدين منهم أهمّ وأقدم ، ثم الأقرب فالأقرب؛ ثم أخبرهم الله بما يقوّي عزائمهم ، ويثبت أقدامهم فقال : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي : بالنصرة لهم ، وتأييدهم على عدوّهم ، ومن كان الله معه لم يقم له شيء .
وقد أخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : نسخ هؤلاء الآيات : { انفروا خِفَافًا وَثِقَالاً } [ التوبة : 41 ] و

{ إِلاّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ } [ التوبة : 39 ] قوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } يقول : لتنفر طائفة ، وتمكث طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالماكثون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقهون في الدين ، وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزو ، ولعلهم يحذرون ما نزل من بعدهم من قضاء الله في كتابه وحدوده . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عنه ، نحوه من طريق أخرى بسياق أتمّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه ، أيضاً في هذه الآية قال : ليست هذه الآية في الجهاد ، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين ، أجدبت بلادهم ، فكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يخلوا بالمدينة من الجهد ، ويقبلوا بالإسلام وهم كاذبون ، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم ، فأنزل الله يخبر رسوله أنهم ليسوا بمؤمنين ، فردّهم إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم ، فذلك قوله : { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وفي الباب روايات عن جماعة من التابعين .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُم } قال : الأدنى ، فالأدنى . وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، مثله . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عمر ، أنه سئل عن غزو الديلم فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مّنَ الكفار } قال : « الروم » . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } قال : شدّة .

وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

قوله : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ } حكاية منه سبحانه لقية فضائح المنافقين ، أي إذا ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة من كتابه العزيز ، فمن المنافقين { مَن يِقُولُ } لإخوانه منهم { أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه } السورة النازلة { إيمانا } يقولون هذا استهزاء بالمؤمنين ، ويجوز أن يقولوه لجماعة من المسلمين قاصدين بذلك صرفهم عن الإسلام وزهيدهم فيه ، و { أيكم } مرفوع بالابتداء وخبره زادته . وقد تقدّم بيان معنى السورة . ثم حكى الله سبحانه بعد مقالتهم هذه أن المؤمنين زادتهم إيماناً إلى إيمانهم ، والحال أنهم يستبشرون مع هذه الزيادة بنزول الوحي ، وما يشتمل عليه من المنافع الدينية والدنيوية { وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } وهم : المنافقون { فَزَادَتْهُمْ } السورة المنزلة { رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } أي : خبثاً إلى خبثهم الذين هم عليه من الكفر وفساد الاعتقاد ، وإظهار غير ما يضمرونه ، وثبتوا على ذلك واستمروا عليه إلى أن ماتوا كفاراً منافقين ، والمراد بالمرض هنا : الشك والنفاق؛ وقيل المعنى : زادتهم إثماً إلى إثمهم .
قوله : { أَوْ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِى كُلّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ } قرأ الجمهور { يرون } بالتحتية . وقرأ حمزة ويعقوب بالفوقية خطاباً للمؤمنين . وقرأ الأعمش «أو لم يروا» . وقرأ طلحة بن مصرف «أو لا ترى» خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي قراءة ابن مسعود . ومعنى : { يُفْتَنُونَ } : يختبرون ، قاله ابن جرير ، وغيره ، أو يبتليهم الله سبحانه بالقحط والشدّة ، قاله مجاهد . وقال ابن عطية بالأمراض والأوجاع . وقال قتادة ، والحسن ، بالغزو والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ويرون ما وعد الله من النصر { ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ } بسبب ذلك { وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } و " ثم " لعطف ما بعدها على يرون ، والهمزة في أو لا يرون للإنكار والتوبيخ ، والواو للعطف على مقدّر ، أي لا ينظرون ولا يرون ، وهذا تعجيب من الله سبحانه للمؤمنين من حال المنافقين وتصلبهم في النفاق ، وإهمالهم للنظر والاعتبار .
ثم ذكر الله سبحانه ما كانوا يفعلونه عند نزول السورة بعد ذكره لما كانوا يقولونه ، فقال : { وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } أي : نظر بعض المنافقين إلى البعض الآخر قائلين : { هَلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَحَدٍ } من المؤمنين ، لننصرف عن المقام الذي ينزل فيه الوحي ، فإنه لا صبر لنا على استماعه ، ولنتكلم بما نريد من الطعن والسخرية والضحك . وقيل المعنى : وإذا أنزلت سورة ذكر الله فيها فضائح المنافقين ومخازيهم ، قال بعض من يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم للبعض الآخر منهم : هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا إلى منازلهم . وحكى ابن جرير ، عن بعض أهل العلم ، أنه قال : { نَظَرَ } في هذه الآية موضوع موضع قال : أي قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد؟ قوله : { ثُمَّ انصرفوا } أي : عن ذلك المجلس إلى منازلهم ، أو عن ما يتقضي الهداية والإيمان إلى ما يقتضى الكفر والنفاق ، ثم دعا الله سبحانه عليهم ، فقال : { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } أي : صرفها عن الخير وما فيه الرشد لهم والهداية ، وهو سبحانه مصرّف القلوب ومقلبها .

وقيل المعنى : أنه خذلهم عن قبول الهداية . وقيل : هو دعاء لا يراد به وقوع مضمونه ، كقولهم : قاتله الله . ثم ذكر سبحانه السبب الذي لأجله انصرفوا عن مواطن الهداية ، أو السبب الذي لأجله استحقوا الدعاء عليهم بقوله : { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } فقال : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ما يسمعونه لعدم تدبرهم وإنصافهم .
ثم ختم الله سبحانه هذه السورة بما يهوّن عنده بعض ما اشتملت عليه من التكاليف الشاقة ، فقال : { لَقَدْ جَاءكُمْ } يا معشر العرب { رَّسُولٍ } أرسله الله إليكم ، له شأن عظيم { مّنْ أَنفُسِكُمْ } من جنسكم في كونه عربياً وإلى كون هذه الآية خطاباً للعرب ذهب جمهور المفسرين . وقال الزجاج : هي خطاب لجميع العالم . والمعنى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ } جنسكم في البشرية { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } « ما » مصدرية . والمعنى : شاق عليه عنتكم لكونه من جنسكم ، ومبعوثاً لهدايتكم ، والعنت : التعب لهم والمشقة عليهم بعذاب الدنيا بالسيف ونحوه ، أو بعذاب الآخرة بالنار ، أو بمجموعهما { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي : شحيح عليكم بأن تدخلوا النار ، أو حريص على إيمانكم . والأوّل : أولى ، وبه قال الفراء . والرؤوف الرحيم ، قد تقدّم بيان معناهما : أي هذا الرسول { بالمؤمنين } منكم أيها العرب أو الناس { رَءوفٌ رَّحِيمٌ } ثم قال مخاطباً لرسوله ومسلياً له ، ومرشداً له ، إلى ما يقوله عند أن يُعصى { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : أعرضوا عنك ولم يعملوا بما جئت به ولا قبلوه { فَقُلْ } يا محمد { حَسْبِىَ الله } أي : كافيّ الله سبحانه المنفرد بالألوهية { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : فوّضت جميع أموري { وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } وصفه بالعظم ، لأنه أعظم المخلوقات . وقد قرأ الجمهور بالجرّ على أنه صفة لعرش . وقرأ ابن محيصن بالرفع صفة لرب . وقد رويت هذه القراءة عن ابن كثير .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } قال : كان إذا نزلت سورة آمنوا بها فزادهم الله إيماناً وتصديقاً ، وكانوا بها يستبشرون . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ } قال : شكاً إلى شكهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } قال : يقتلون . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، نحوه وقال : بالسنة والجوع .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، قال : بالعدوّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال : بالغزو في سبيل الله . وأخرج أبو الشيخ ، عن بكار بن مالك ، قال : يمرضون في كل عام مرّة أو مرّتين . وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد ، قال : كانت لهم في كل عام كذبة أو كذبتان . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن حذيفة ، قال : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضل بها فئام من الناس كثير .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } قال : هم المنافقون . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة ، فإن قوماً انصرفوا ، صرف الله قلوبهم ولكن قولوا قضينا الصلاة . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر ، نحوه . وأقول : الانصراف يكون عن الخير ، كما يكون عن الشرّ ، وليس في إطلاقه هنا على رجوع المنافقين عن مجلس الخير ما يدل على أنه لا يطلق إلا على نحو ذلك ، وإلا لزم أن كل لفظ يستعمل في لغة العرب في الأمور المتعدّدة إذا استعمل في القرآن في حكاية ما وقع من الكفار ، لا يجوز استعماله في حكاية ما وقع عن أهل الخير ، كالرجوع والذهاب ، والدخول والخروج ، والقيام والقعود . واللازم باطل بالإجماع ، فالملزوم مثله ، ووجه الملازمة ظاهر لا يخفى .
وأخرج عبد بن حميد ، والحارث بن أبي أسامة ، في مسنده ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، في دلائل النبوّة ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، في قوله : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } قال : ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم مضريها وربيعها ويمانيها . وأخرج ابن سعد عنه ، في قوله : { مّنْ أَنفُسِكُمْ } قال : قد ولدتموه يا معشر العرب . وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، وأبو الشيخ ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، في قوله : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح » وهذا فيه انقطاع ، ولكنه قد وصله الحافظ الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي ، فقال : حدثنا أبو أحمد ، يوسف بن هارون بن زياد ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال : أشهد على أبي يحدثني ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي " وأخرج ابن مردويه ، عن أنس ، قال : «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } فقال عليّ بن أبي طالب : يا رسول الله ، ما معنى { من أنفسكم } ؟ قال : " نسباً وصهراً وحسباً ، ليس فيّ ولا في آبائي من لدن آدم سفاح كلنا نكاح " وأخرج الحاكم ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } يعني : من أعظمكم قدراً . وأخرج ابن سعد عنه نحو حديث على الأول . وأخرج الطبراني عنه أيضاً نحوه . وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر ، عن عائشة ، نحوه . وفي الباب أحاديث بمعناه ، ويؤيد ما في صحيح مسلم ، وغيره ، من حديث واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم " وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن العباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حين خلق الخلق جعلني من خير خلقه ، ثم حين فرقهم جعلني في خير الفريقين ، ثم حين خلق القبائل جعلني من خير قبيلة ، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم ، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً " وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، وابن منيع ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل من طريق يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، قال : آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي لفظ : آخر ما أنزل من القرآن : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } إلى آخر الآية ، وروي عنه نحوه من طريق أخرى؛ أخرجها عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن الضريس ، في فضائله ، وابن أبي داود في المصاحف ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، والخطيب في تلخيص المتشابه ، والضياء في المختارة . وأخرج ابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له : إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال : ولم سألتم هذا؟ قالوا : نطلب الأمن ، فأنزل الله هذه الآية : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ الله } يعني : الكفار تولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، قال : إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه ، وقد رويت أحاديث كثيرة في صفة العرش وماهيته ، وقدره .
وإلى هنا انتهى الثلث الأوّل من التفسير المسمى : «فتح القدير» الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ، بقلم مؤلفه : محمد بن علي الشوكاني ، غفر الله لهما . وكان تمام هذا الثلث في نهار يوم الثلاثاء لعله يوم عشرين من شهر محرّم سنة 1227 ه .
والحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين .
الحمد لله : انتهى سماعاً على مؤلفه . أطال الله مدّته في شهر جمادى الأولى من عام سنة 1235 ه .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)

قوله : { الر } قد تقدّم الكلام مستوفى على هذه الحروف الواقعة في أوائل السور في أوّل سورة البقرة ، فلا نعيده . ففيه ما يغني عن الإعادة . وقد قرأ بالإمالة أبو عمرو ، وحمزة ، وخلف ، وغيرهم . وقرأ جماعة من غير إمالة . وقد قيل : إن معنى { الر } أنا الله أرى . قال النحاس : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا القول ، لأن سيبويه قد حكى مثله عن العرب ، وأنشد :
بالخير خيرات وإن شرافا ... أي : وإن شرّاً فشرّ . وقال الحسن وعكرمة : { الر } قسم ، وقال سعيد عن قتادة : { الر } اسم للسورة . وقيل : غير ذلك مما فيه تكلف لعلم ما استأثر الله بعلمه ، وقد اتفق القراء على أن { الر } ليس بآية . وعلى أن { طه } آية ، وفي مقنع أبي عمرو الداني ، أن العادّين لطه آية هم : الكوفيون فقط ، قيل : ولعل الفرق أن { الرا } لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده . والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والتبعيد للتعظيم ، واسم الإشارة مبتدأ وخبره ما بعده . وقال مجاهد وقتادة : أراد التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة ، فإن تلك إشارة إلى غائب مؤنث ، وقيل : { تِلْكَ } بمعنى هذه : أي هذه آيات الكتاب الحكيم ، وهو القرآن ، ويؤيد كون الإشارة إلى القرآن أنه لم يجر للكتب المتقدمة ذكر ، وأن الحكيم من صفات القرآن لا من صفات غيره ، و { الحكيم } المحكم بالحلال والحرام ، والحدود والأحكام ، قاله أبو عبيدة وغيره . وقيل : الحكيم معناه : الحاكم ، فهو فعيل بمعنى : فاعل ، كقوله : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ } [ البقرة : 213 ] . وقيل : الحكيم بمعنى المحكوم فيه ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، أي حكم الله فيه بالعدل والإحسان ، قاله الحسن وغيره . وقيل : الحكيم ذو الحكمة ، لاشتماله عليها .
والاستفهام في قوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا } لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ ، واسم كان { أَنْ أَوْحَيْنَا } وخبرها { عَجَبًا } أي : أكان إيحاؤنا عجباً للناس . وقرأ ابن مسعود «عجب» على أنه اسم كان ، على أن كان تامة ، و { أَنْ أَوْحَيْنَا } بدل من عجب . وقرىء بإسكان الجيم من { رجل } في قوله : { إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ } أي : من جنسهم ، وليس في هذا الإيحاء إلى رجل من جنسهم ما يقتضى العجب ، فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه ، إلا من كان من جنسه ، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة ، أو من الجنّ ، ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال؛ لأنهم لا يأنسون إليه ، ولا يشاهدونه . ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره ، فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني ، وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم ، أو في الشكل الإنساني ، فلا بدّ من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان ، هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم ، وإن كان لكونه يتيماً أو فقيراً .

فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعاً من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره ، وبالغاً في كمال الصفات إلى حدّ يقصّر عنه من كان غنياً ، أو كان غير يتيم . وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصطفيه الله بإرساله من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس ، وأظهر من النهار ، حتى كانوا يسمونه الأمين . قوله : { أَنْ أَنذِرِ الناس } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي بأن أنذر الناس . وقيل : هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول ، وقيل : هي المخففة من الثقيلة ، قوله : { قَدَمَ صِدْقٍ } أي : منزل صدق ، وقال الزجاج : درجة عالية ، ومنه قول ذي الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العالي طمت على البحر
وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدّم في الشرف . وقال أبو عبيدة والكسائي : كل سابق من خير أو شر ، فهو عند العرب قدم ، يقال : لفلان قدم في الإسلام ، وله عندي قدم صدق ، وقدم خير ، وقدم شرّ ، ومنه قول العجاج :
زلّ بنو العوام عند آل الحكم ... وتركوا الملك لملك ذي قدم
وقال ثعلب : القدم كل ما قدمت من خير ، وقال ابن الأنباري : القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ، ولا إبطاء . وقال قتادة : سلف صدق . وقال الربيع : ثواب صدق ، وقال الحسن : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحكيم الترمذي : قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود ، وقال مقاتل : أعمالاً قدّموها واختاره ابن جرير ، ومنه قول الوضاح :
صلِّ لذي العرش واتخذ قوما ... ينجيك يوم الخصام والزلل
وقيل : غير ما تقدّم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده . قوله : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } . قرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف ، والأعمش ، وابن محيصن : { لساحر } على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم باسم الإشارة . وقرأ الباقون «لسحر» على أنهم أرادوا القرآن ، وقد تقدّم معنى السحر في البقرة . وجملة : { قَالَ الكافرون } مستأنفة كأنه قيل : ماذا صنعوا بعد التعجب؛ وقال القفال : فيه إضمار . والتقدير : فلما أنذرهم قال الكافرون ذلك .
ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء إلى رجل منهم ، فقال : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي : من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوّره ، كيف يكون إرساله لرسول إلى الناس من جنسهم محلاً للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك ، فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة بهذا الرسول ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في الأعراف في قوله :

{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } [ الأعراف : 54 ] فلا نعيده هنا ، ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه فقال : { يُدَبّرُ الأمر مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } وترك العاطف ، لأن جملة { يدبر } كالتفسير والتفصيل ، لما قبلها ، وقيل : هي في محل نصب على الحال من ضمير استوى . وقيل : مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها؛ لتقع على الوجه المقبول . وقال مجاهد : يقضيه ويقدّره وحده ، وقيل : يبعث الأمر ، وقيل : ينزل الأمر ، وقيل : يأمر به ويمضيه ، والمعنى متقارب ، واشتقاقه من الدبر ، والأمر الشأن ، وهو أحوال ملكوت السموات والأرض ، والعرش ، وسائر الخلق . قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فردّ الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه ، لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب . وقد تقدّم معنى الشفاعة في البقرة ، وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى فاعل هذه الأشياء من الخلق والتدبير : أي الذي فعل هذه الأشياء العظيمة { الله رَبُّكُمُ } واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره : الاسم الشريف ، و { ربكم } : بدل منه ، أو بيان له ، أو خبر ثان ، وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض } ثم أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن بين لهم أنه الحقيق بها دون غيره لبديع صنعه وعظيم اقتداره . فكيف يعبدون الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر؟ والاستفهام في قوله : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } للإنكار ، والتوبيخ ، والتقريع؛ لأن من له أدنى تذكر ، وأقلّ اعتبار ، يعلم بهذا ولا يخفى عليه . ثم بيّن لهم ما يكون آخر أمرهم بعد الحياة الدنيا ، فقال : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } وفي هذا من التهديد والتخويف ما لا يخفى ، وانتصاب : { وَعَدَ الله } على المصدر؛ لأن في قوله : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } معنى الوعد أو هو منصوب بفعل مقدر ، والمراد بالمرجع الرجوع إليه سبحانه : إما بالموت ، أو بالبعث ، أو بكل واحد منهما ، ثم أكد ذلك الوعد بقوله : { حَقّاً } فهو تأكيد لتأكيد ، فيكون في الكلام من الوكادة ما هو الغاية في ذلك . وقرأ ابن أبي عبلة " وَعْدَ الله حَقٌّ " على الاستئناف ، ثم علل سبحانه ما تقدّم بقوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي : إن هذا شأنه يبتدىء خلقه من التراب ثم يعيده إلى التراب ، أو معنى الإعادة الجزاء يوم القيامة . قال مجاهد : ينشئه ثم يميته ، ثم يحييه للبعث؛ وقيل ينشئه من الماء ثم يعيده من حال إلى حال . وقرأ يزيد بن القعقاع : أنه يبدأ الخلق بفتح الهمزة ، فتكون الجملة في وضع نصب بما نصب به وعد الله : أي وعدكم أنه يبدأ الخلق ثم يعيده ، ويجوز أن يكون التقدير لأنه يبدأ الخلق ، وأجاز الفراء أن تكون «أن» في موضع رفع ، فتكون اسماً .

قال أحمد بن يحيى بن ثعلب يكون التقدير حقاً إبداؤه الخلق ، ثم ذكر غاية ما يترتب على الإعادة فقال : { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط } أي : بالعدل الذي لا جور فيه { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } يحتمل أن يكون الموصول الآخر معطوفاً على الموصول الأوّل : أي ليجزي الذين آمنوا ، ويجزي الذين كفروا ، وتكون جملة : { لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ } في محل نصب على الحال ، هي وما عطف عليها : أي وعذاب أليم ، ويكون التقدير هكذا ، ويجزي الذين كفروا حال كون لهم هذا الشراب وهذا العذاب ، ولكن يشكل على ذلك أن هذا الشراب وهذا العذاب الأليم هما من الجزاء ، ويمكن أن يقال : إن الموصول في { والذين كَفَرُواْ } مبتدأ وما بعده خبره ، فلا يكون معطوفاً على الموصول الأوّل ، والباء في { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } للسببية : أي بسبب كفرهم ، والحميم : الماء الحار ، وكل مسخن عند العرب ، فهو حميم .
وقد أخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { الر } قال : فواتح [ السور ] أسماء من أسماء الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن النجار في تاريخه ، عنه ، قال : في قوله : { الر } أنا الله أرى . وأخرج ابن المنذر ، عن سعيد بن جبير ، مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك ، مثله أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك ، في قوله : { تِلْكَ ءايات الكتاب } قال : يعني هذه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { تِلْكَ ءايات الكتاب } قال : الكتب التي خلت قبل القرآن .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد ، فأنزل الله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ } الآية { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } الآية [ النحل : 43 ] ، فلما كرّر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشراً ، فغير محمد كان أحق بالرسالة . { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يقول : أشرف من محمد ، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة ، ومسعود بن عمرو الثقفي من الطائف ، فأنزل الله ردّاً عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } [ الزخرف : 32 ] الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، في قوله : { وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ } قال : ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأوّل .

وأخرج ابن جرير ، عنه ، أيضاً قال : أجراً حسناً بما قدّموا من أعمالهم . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود ، قال : القدم هو العمل الذي قدموا . قال الله سبحانه : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءاثَارَهُمْ } [ ياس : 12 ] . والآثار : ممشاهم . قال : مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أسطوانتين من مسجدهم ثم قال : هذا أثر مكتوب . وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، في قوله : { قَدَمَ صِدْقٍ } قال : محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم . وأخرج ابن مردويه ، عن عليّ بن أبي طالب مثله . وأخرج الحاكم ، وصححه ، عن أبيّ بن كعب ، قال : سلف صدق . والروايات عن التابعين وغيرهم في هذا كثيرة ، وقد قدّمنا أكثرها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { يُدَبّرُ الأمر } قال : يقضيه وحده ، وفي قوله : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } قال : يحييه ثم يميته ثم يحييه .

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

ذكر ها هنا بعض نعمه على المكلفين ، وهي مما يستدل به على وجوده ووحدته ، وقدرته وعلمه ، وحكمته بإتقان صنعه في هذين النيرين المتعاقبين على الدوام ، بعدما ذكر قبل هذا إبداعه للسموات والأرض ، واستواءه على العرش ، وغير ذلك . والضياء قيل : جمع ضوء ، كالسياط والحياض . وقرأ قنبل عن ابن كثير «ضئاء» بجعل الياء همزة مع الهمزة . ولا وجه له ، لأن ياءه كانت واواً مفتوحة ، وأصله : «ضواء» فقلبت ياء لكسر ما قبلها . قال المهدوي : ومن قرأ " ضئاء " بالهمزة فهو مقلوب قدّمت الهمزة التي بعد الألف ، فصارت قبل الألف ، ثم قلبت الياء همزة ، والأولى : أن يكون { ضياء } مصدراً لا جمعاً ، مثل قام يقوم قياماً ، وصام يصوم صياماً ، ولا بدّ من تقدير مضاف : أي : جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة ، وكأنهما جعلا نفس الضياء والنور . قيل : الضياء أقوى من النور ، وقيل الضياء هو ما كان بالذات ، والنور ما كان بالعرض ، ومن هنا قال الحكماء : إن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس .
قوله : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } أي : قدر مسيره في منازل ، أو قدره ذا منازل ، والضمير راجع إلى القمر ، ومنازل القمر : هي المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به ، وجملتها ثمانية وعشرون وهي معروفة ، ينزل القمر في كل ليلة منها منزلاً لا يتخطاه ، فيبدو صغيراً في أول منازله ، ثم يكبر قليلاً قليلاً حتى يبدو كاملاً ، وإذا كان في آخر منازله رقّ واستقوس ، ثم يستتر ليلتين إذا كان الشهر كاملاً ، أو ليلة إذا كان ناقصاً ، والكلام في هذا يطول ، وقد جمعنا فيه رسالة مستقلة جواباً عن سؤال أورده علينا بعض الأعلام . وقيل : إن الضمير راجع إلى كل واحد من الشمس والقمر ، كما قيل في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] . وفي قول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وقد قدّمنا تحقيق هذا فيما سبق من هذا التفسير ، والأولى رجوع الضمير إلى القمر وحده ، كما في قوله تعالى : { والقمر قدرناه مَنَازِلَ } [ ياس : 39 ] ، ثم ذكر بعض المنافع المتعلقة بهذا التقدير ، فقال : { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } فإن في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية والدنيوية ما لا يحصى ، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى ، ولولا هذا التقدير الذي قدّره الله سبحانه ، لم يعلم الناس بذلك ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم . والسنة تتحصل من اثني عشر شهراً ، والشهر يتحصل من ثلاثين يوماً إن كان كاملاً ، واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي : أربع وعشرون ساعة لليل والنهار ، قد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء ، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة وأيام النقصان ، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف؛ ثم بيّن سبحانه أنه ما خلق الشمس والقمر ، واختلاف تلك الأحوال إلا بالحق والصواب ، دون الباطل والعبث ، فالإشارة بقوله : { ذلك } إلى المذكور قبله ، واستثناء مفرّغ من أعم الأحوال ، ومعنى تفصيل الآيات تبينها ، والمراد بالآيات التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما ، وتدخل هذه الآيات التكوينية المذكورة هنا دخولاً أوّلياً في ذلك .

قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، ويعقوب : { يفصل } بالتحتية . وقرأ ابن السميفع «تفصل» بالفوقية على البناء للمفعول . وقرأ الباقون بالنون . واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم ، القراءة الأولى ، ولعل وجه هذا الاختيار أن قبل هذا الفعل { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } وبعده { وَمَا خَلَقَ الله فِى السموات والارض } .
ثم ذكر سبحانه المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار ، وما خلق في السموات والأرض من تلك المخلوقات ، فقال : { إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار وَمَا خَلَقَ الله فِى السموات والأرض لآيات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } أي : الذين يتقون الله سبحانه ، ويجتنبون معاصيه ، وخصهم بهذه الآيات لأنهم الذين يمعنون النظر والتفكر في مخلوقات الله سبحانه حذراً منهم عن الوقوع في شيء مما يخالف مراد الله سبحانه ، ونظراً لعاقبة أمرهم ، وما يصلحهم في معادهم . قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لبقاء الناس فيها ، وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم ، بل جعلها لهم دار عمل ، وإذا كان كذلك فلا بدّ من أمر ونهي .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله تعالى : { جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُوراً } قال : لم يجعل الشمس كهيئة القمر لكي يعرف الليل من النهار ، وهو قوله : { فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل } [ الإسراء : 12 ] . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في الآية قال : وجوههما إلى السموات ، وأقفيتهما إلى الأرض . وأخرج ابن مردويه ، عن عبد الله بن عمرو ، مثله . وأخرج أبو الشيخ ، عن خليفة العبدي ، قال : لو أن الله تبارك وتعالى لم يعبد إلا عن رؤية ما عبده أحد ، ولكن المؤمنون تفكروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فملأ كل شيء وغطى كل شيء ، وفي مجيء سلطان النهار إذا جاء فمحا سلطان الليل ، وفي السحاب المسخر بين السماء والأرض ، وفي النجوم ، وفي الشتاء والصيف ، فوالله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق ربهم تبارك وتعالى حتى أيقنت قلوبهم بربهم .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)

شرع الله سبحانه في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ، ومن يؤمن به ، وقدّم الطائفة التي لم تؤمن ، لأن الكلام في هذه السورة مع الكفار الذين يعجبون مما لا عجب فيه ، ويهملون النظر والتفكر فيما لا ينبغي إهماله مما هو مشاهد لكل حيّ طول حياته ، فيتسبب عن إهمال النظر ، والتفكر الصادق : عدم الإيمان بالمعاد ، ومعنى الرجاء هنا الخوف ، ومنه قول الشاعر :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوبٍ عواسلِ
وقيل { يرجون } : يطمعون . ومنه قول الشاعر :
أترجو بني مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
فالمعنى على الأوّل : لا يخافون عقاباً . وعلى الثاني : لا يطمعون في ثواب إذا لم يكن المراد باللقاء حقيقته ، فإن كان المراد به حقيقته كان المعنى : لا يخافون رؤيتنا ، أو لا يطمعون في رؤيتنا . وقيل : المراد بالرجاء هنا : التوقع ، فيدخل تحته الخوف والطمع ، فيكون المعنى : { لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } لا يتوقعون لقاءنا ، فهم لا يخافونه ، ولا يطمعون فيه { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } أي : رضوا بها عرضاً عن الآخرة ، فعملوا لها { واطمأنوا بِهَا } أي : سكنت أنفسهم إليها ، وفرحوا بها { والذين هُمْ عَنْ ءاياتنا غافلون } لا يعتبرون بها ، ولا يتفكرون فيها { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ } أي : مثواهم ، ومكان إقامتهم النار ، والإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة من عدم الرجاء ، وحصول الرضا والاطمئنان ، والغفلة { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي : بسبب ما كانوا يكسبون من الكفر والتكذيب بالمعاد فهذا حال الذين لا يؤمنون بالمعاد .
وأما حال الذين يؤمنون به ، فقد بيّنه سبحانه بقوله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } أي : فعلوا الإيمان الذي طلبه الله منهم بسبب ما وقع منهم من التفكر والاعتبار ، فيما تقدّم ذكره من الآيات { وَعَمِلُواْ الصالحات } التي يقتضيها الإيمان . وهي ما شرعه الله لعباده المؤمنين { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } أي : يرزقهم الهداية بسبب هذا الإيمان المضموم إليه العمل الصالح ، فيصلون بذلك إلى الجنة ، وجملة : { تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } مستأنفة ، أو خبر ثان ، أو في محل نصب على الحال . ومعنى { من تحتهم } : من تحت بساتينهم ، أو من بين أيديهم؛ لأنهم على سرر مرفوعة . وقوله : { فِي جنات النعيم } متعلق بتجري أو ب { يهديهم } ، أو خبر آخر أو حال من { الأنهار } .
قوله : { دَعْوَاهُمْ } أي : دعاؤهم ونداؤهم ، وقيل : الدعاء العبادة ، كقوله تعالى : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } [ مريم : 48 ] وقيل معنى { دعواهم } هنا : الادّعاء الكائن بين المتخاصمين ، والمعنى : أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله سبحانه من المعايب والإقرار له بالإلهية . قال القفال : أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما ، وقيل معناه : طريقتهم وسيرتهم ، وذلك أن المدّعي للشيء مواظب عليه ، فيمكن أن تجعل الدعوى كناية عن الملازمة ، وإن لم يكن في قوله : { سبحانك اللهم } دعوى ولا دعاء؛ وقيل معناه : تمنيهم كقوله :

{ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ ياس : 57 ] وكأن تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه ، وهو مبتدأ وخبره { سبحانك اللهم } ، و { فِيهَا } أي : في الجنة . والمعنى على القول الأوّل : أن دعاءهم الذي يدعون به في الجنة هو تسبيح الله وتقديسه ، والمعنى : نسبحك يا الله تسبيحاً . قوله : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } أي : تحية بعضهم للبعض . فيكون المصدر مضافاً إلى الفاعل ، أو تحية الله أو الملائكة لهم ، فيكون من إضافة المصدر إلى المفعول . وقد مضى تفسير هذا في سورة النساء ، قوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } أي : وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح أن يقولوا : الحمد لله رب العالمين . قال النحاس : مذهب الخليل أن «أن» هذه مخففة من الثقيلة . والمعنى : أنه الحمد لله . وقال محمد بن يزيد المبرد : ويجوز أن تعملها خفيفة عملها ثقيلة . والرفع أقيس ، ولم يحك أبو عبيد إلا التخفيف . وقرأ ابن محيصن بتشديد أنّ ونصب الحمد .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } قال : مثل قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، أيضاً في قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال : يكون لهم نور يمشون به . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال : حدّثنا الحسن قال : بلغنا أن رسول الله قال : " إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة حسنة وريح طيبة ، فيقول له : ما أنت؟ فوالله إني لأراك عين امرىء صدق ، فيقول له : أنا عملك ، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة؛ وأما الكافر ، فإذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة وريح منتنة ، فيقول له : ما أنت؟ فوالله إني لأراك عين امرىء سوء ، فيقول له : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار " ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله : " إذا قالوا سبحانك اللهم أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم " وقد روى نحو هذا عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي الهذيل ، قال : الحمد أوّل الكلام وآخر الكلام ، ثم تلا : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } .

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)

لما ذكر الله سبحانه الوعيد على عدم الإيمان بالمعاد ، ذكر أن هذا العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا . قال القفال : لما وصفهم بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب ، فبيّن الله سبحانه أنه لا مصلحة في إيصال الشرّ إليهم ، فلعلهم يتوبون ويخرج من أصلابهم من يؤمن ، قيل : معنى { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير } لو عجل الله للناس العقوبة كما يتعجلون بالثواب والخير { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي : ماتوا . وقيل المعنى : لو فعل الله مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم . وقيل : الآية خاصة بالكفار الذين أنكروا البعث ، وما يترتب عليه . قال في الكشاف : وضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير ، إشعاراً بسرعة إجابته وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له . والمراد : أهل مكة ، وقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] الآية . قيل : والتقدير : ولو يعجل الله لهم الشرّ عند استعجالهم به تعجيلاً مثل تعجيله لهم بالخير عند استعجالهم به ، فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه . قال أبو عليّ الفارسي : في الكلام حذف ، والتقدير : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر } تعجيلاً مثل { استعجالهم بالخير } ثم حذف تعجيلاً وأقام صفته مقامه ، ثم حذف صفته وأقام المضاف إليه مقامه قال : هذا مذهب الخليل وسيبويه ، وهو قول الأخفش والفرّاء ، قالوا : وأصله كاستعجالهم ، ثم حذف الكاف ونصب . قال الفراء : كما تقول : ضربت زيداً ضربك ، أي كضربك ، ومعنى { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } لأهلكوا ، ولكنه سبحانه لم يعجل لهم الشرّ فأمهلوا . وقيل معناه : أميتوا . وقرأ ابن عامر «لقضى» على البناء للفاعل ، وهي قراءة حسنة لمناسبة ذلك لقوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله } قوله : { فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } الفاء للعطف على مقدّر يدلّ عليه الكلام ، لأن قوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله } يتضمن نفي التعجيل ، فكأنه قيل : لكن لا يعجل لهم الشرّ ، ولا يقضي إليهم أجلهم ، فنذرهم الخ : أي فنتركهم ونمهلهم ، والطغيان : التطاول ، وهو العلوّ والارتفاع ، ومعنى { يَعْمَهُونَ } يتحيرون ، أي نتركهم يتحيرون في تطاولهم وتكبرهم ، وعدم قبولهم للحق استدراجاً لهم منه سبحانه وخذلاناً .
ثم بيّن الله سبحانه أنهم كاذبون في استعجال الشرّ ، ولو أصابهم ما طلبوه لأظهروا العجز والجزع ، فقال : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } أي : هذا الجنس الصادق على كل ما يحصل التضرر به { دَعَانَا لِجَنبِهِ } اللام للوقت ، كقوله : جئته لشهر كذا ، أو في محل نصب على الحال بدلالة عطف قاعداً أو قائماً عليه ، وتكون اللام بمعنى على : أي دعانا مضطجعاً { أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } وكأنه قال : دعانا في جميع الأحوال المذكورة وغيرها ، وخصّ المذكورة بالذكر؛ لأنها الغالب على الإنسان ، وما عداها نادر كالركوع والسجود ، ويجوز أن يراد أنه يدعو الله حال كونه مضطجعاً غير قادر على القعود ، وقاعداً غير قادر على القيام ، وقائماً غير قادر على المشي ، والأوّل : أولى .

قال الزجاج : إن تعديل أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال المضرّة ، لأنه إذا كان داعياً على الدوام ، ثم نسي في وقت الرخاء كان أعجب .
قوله : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ } أي : فلما كشفنا عنه ضرّه الذي مسه ، كما تفيده الفاء ، مضى على طريقته التي كان عليها قبل أن يمسه الضرّ ، ونسي حالة الجهد والبلاء ، أو مضى عن موقف الدعاء والتضرّع ، لا يرجع إليه؛ كأنه لا عهد له به ، كأنه لم يدعنا عند أن مسه الضرّ إلى كشف ذلك الضرّ الذي مسه . وقيل معنى { مَرَّ } استمرّ على كفره ، ولم يشكر ، ولم يتعظ . قال الأخفش : «أن» في { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا } هي المخففة من الثقيلة ، والمعنى : كأنه انتهى . والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال ، وهذه الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر ، بل تتفق لكثير من المسلمين ، تلين ألسنهم بالدعاء وقلبهم بالخشوع والتذلل عند نزول ما يكرهون بهم . فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء والتضرّع ، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم ، من إجابة دعائهم ورفع ما نزل بهم من الضرّ ، ودفع ما أصابهم من المكروه . وهذا مما يدلّ على أن الآية تعمّ المسلم والكافر ، كما يشعر به لفظ الناس ، ولفظ الإنسان ، اللهم أوزعنا شكر نعمك ، وأذكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء ، حتى نستكثر من الشكر الذي لا نطيق سواه ، ولا نقدر على غيره ، وما أغناك عنه وأحوجنا إليه { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [ إبراهيم : 7 ] . والإشارة بقوله : { كذلك زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلى مصدر الفعل المذكور بعده كما مرّ غير مرة ، أي : مثل ذلك التزيين العجيب زين للمسرفين عملهم . والمسرف في اللغة : هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس ، ومحل { كذلك } النصب على المصدرية . والتزيين هو : إما من جهة الله تعالى على طريقة التحلية وعدم اللطف بهم ، أو من طريق الشيطان بالوسوسة ، أو من طريق النفس الأمارة بالسوء . والمعنى : أنه زين لهم الإعراض عن الدعاء ، والغفلة عن الشكر ، والاشتغال بالشهوات .
ثم ذكر سبحانه ما يجري مجرى الردع والزجر ، عما صنعه هؤلاء ، فقال : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } يعني : الأمم الماضية من قبل هؤلاء الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم : أي أهلكناهم من قبل زمانكم . وقيل : الخطاب لأهل مكة على طريق الالتفات للمبالغة في الزجر ، و " لما " ظرف ل { أهلكنا } : أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب ، والتجاري على الرسل ، والتطاول في المعاصي من غير تأخير لإهلاكهم ، كما أخرنا إهلاككم ، والواو في { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } للحال بإضمار قد ، أي وقد جاءتهم رسلهم الذين أرسلناهم إليهم بالبينات ، أي بالآيات البينات الواضحات الدلالة على صدق الرسل ، وقيل الواو للعطف على { ظَلَمُواْ } والأوّل أولى ، وقيل : المراد بالظلم هنا : هو الشرك .

والواو في { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } للعطف على ظلموا ، أو الجملة اعتراضية . واللام لتأكيد النفي : أي وما صح لهم وما استقام أن يؤمنوا لعدم استعدادم لذلك ، وسلب الألطاف عنهم { كذلك نَجْزِي القوم المجرمين } أي : مثل ذلك الجزاء نجزي القوم المجرمين . وهو الاستئصال الكلي لكل مجرم ، وهذا وعيد شديد لمن كان في عصره من الكفار ، أو لكفار مكة على الخصوص .
ثم خاطب سبحانه الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { ثُمَّ جعلناكم خلائف } أي : استخلفناكم في الأرض بعد تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها ، والخلائف جمع خليفة ، وقد تقدّم الكلام عليه في آخر سورة الأنعام ، واللام في { لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } لام كي : أي : لكي ننظر كيف تعملون من أعمال الخير أو الشرّ ، و { كَيْفَ } في محل نصب بالفعل الذي بعده : أي لننظر أيّ عمل تعملونه ، أو في محل نصب على الحالية ، أي على أيّ حالة تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف .
ثم حكى الله سبحانه نوعاً ثالثاً من تعنتهم وتلاعبهم بآيات الله ، فقال : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم ، والمراد بالآيات : الآيات التي في الكتاب العزيز : أي وإذا تلا التالي عليهم آياتنا الدالة على إثبات التوحيد ، وإبطال الشرك ، حال كونها بينات : أي واضحات الدلالة على المطلوب { قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا } وهم المنكرون للمعاد ، وقد تقدّم تفسيره قريباً : أي قالوا لمن يتلوها عليهم ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ } طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا ما غاظهم فيما تلاه عليهم من القرآن من ذمّ عبادة الأوثان ، والوعيد الشديد لمن عبدها أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله ، وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض آياته ، أو كلها ، ووضع أخرى مكانها مما يطابق إرادتهم ويلائم غرضهم ، فأمره الله أن يقول في جوابهم : { مَا يَكُونُ لِى } أي : ما ينبغي لي ، ولا يحلّ لي ، أن أبدّله من تلقاء نفسي؛ فنفى عن نفسه أحد القسمين ، وهو التبديل؛ لأنه الذي يمكنه لو كان ذلك جائزاً ، بخلاف القسم الآخر وهو الإتيان بقرآن آخر ، فإن ذلك ليس في وسعه ولا يقدر عليه .

وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم نفى عن نفسه أسهل القسمين ليكون دليلاً على نفي أصعبهما بالطريق الأولى ، وهذا منه من باب مجاراة السفهاء ، إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء بعد أن أمره الله سبحانه بذلك . وهو أعلم بمصالح عباده وبما يدفع الكفار عن هذه الطلبات الساقطة والسؤالات الباردة ، و { تِلْقَاء } مصدر استعمل ظرفاً ، من قبل { من تلقاء نفسي } . قال الزجاج : سألوه إسقاط ما فيه من ذكر البعث والنشور . وقيل : سألوه أن يسقط ما فيه من عيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم؛ وقيل : سألوه أن يحوّل الوعد وعيداً والحرام حلالاً والحلال حراماً ، ثم أمره أن يؤكد ما أجاب به عليهم من أنه ما صح له ، ولا استقام أن يبدّله من تلقاء نفسه بقوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَىَّ } أي : ما أتبع شيئاً من الأشياء إلا ما يوحى إليّ من عند الله سبحانه من غير تبديل ولا تحويل ، ولا تحريف ولا تصحيف ، فقصر حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع ما يوحى إليه ، وربما كان مقصد الكفار بهذا السؤال التعريض للنبي صلى الله عليه وسلم بأن القرآن كلامه ، وأنه يقدر على الإتيان بغيره والتبديل له ، ثم أمره الله سبحانه أن يقول لهم تكميلاً للجواب عليهم : { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فإن هذه الجملة كالتعليل لما قدّمه من الجواب قبلها ، واليوم العظيم هو يوم القيامة : أي { إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى } بفعل ما تطلبون على تقدير إمكانه عذاب يوم القيامة . ثم أكد سبحانه كون هذا القرآن من عند الله ، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما يبلغ إليهم منه ما أمره الله بتبليغه لا يقدر على غير ذلك ، فقال : { قُل لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } أي : أن هذا القرآن المتلوّ عليكم هو بمشيئة الله وإرادته ، ولو شاء الله أن لا أتلوه عليكم ولا أبلغكم إياه ما تلوته ، فالأمر كله منوط بمشيئة الله ، ليس لي في ذلك شيء قوله : { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } معطوف على ما تلوته ، ولو شاء الله ما أداركم بالقرآن : أي ما أعلمكم به على لساني يقال : دريت الشيء وأدراني الله به . هكذا قرأ الجمهور بالألف من أدراه يدريه أعلمه يعلمه . وقرأ ابن كثير : " ولأدراكم به " بغير ألف بين اللام والهمزة ، والمعنى : ولو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم . فتكون اللام لام التأكيد دخلت على ألف أفعل . وقد قرىء «أدرؤكم» بالهمزة ، فقيل : هي منقلبة عن الألف ، لكونهما من واد واحد ، ويحتمل أن يكون من درأته إذا دفعته ، وأدرأته إذا جعلته دارياً . والمعنى : لأجعلكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال وتكذبونني .

وقرأ ابن عباس ، والحسن " ولا أدراتكم به " قال أبو حاتم : أصله : ولا أدريتكم به ، فأبدل من الياء ألفاً ، قال النحاس : وهذا غلط . والرواية عن الحسن «ولا أدرأتكم» بالهمزة . قوله : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ } تعليل لكون ذلك بمشيئة الله ، ولم يكن من النبي إلا التبليغ ، أي قد أقمت فيما بينكم عمراً من قبله ، أي زماناً طويلاً . وهو أربعون سنة من قبل القرآن تعرفونني بالصدق والأمانة ، لست ممن يقرأ ولا ممن يكتب { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } الهمزة للتقريع والتوبيخ ، أي أفلا تجرون على ما يقتضيه العقل من عدم تكذيبي لما عرفتم من العادة المستمرة إلى المدّة الطويلة بالصدق والأمانة . وعدم قراءتي للكتب المنزلة على الرسل وتعلمي لما عند أهلها من العلم ، ولا طلبي لشيء من هذا الشأن ، ولا حرصي عليه ، ثم جئتكم بهذا الكتاب الذي عجزتم عن الإتيان بسورة منه ، وقصرتم عن معارضته وأنتم العرب المشهود لهم بكمال الفصاحة ، المعترف لهم بأنهم البالغون فيها إلى مبلغ لا يتعلق به غيركم؟
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلَوْ يُعَجّلُ الله الناس الشر } الآية ، قال : هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم : اللهم لا تبارك فيه والعنه . { لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } قال : لأهلك من دعا عليه وأماته . وأخرج أبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، في الآية قال : قول الرجل للرجل : اللهم العنه ، اللهم اخزه ، وهو يحب أن يستجاب له . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في الآية قال : هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له . وحكى القرطبي في تفسيره عن ابن إسحاق ، ومقاتل ، في الآية قالا : هو قول النضر بن الحارث : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] . فلو عجل لهم هذا لهلكوا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريج ، في قوله : { دَعَانَا لِجَنبِهِ } قال : مضطجعاً . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا } قال : على كل حال . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي الدرداء ، قال : ادع الله يوم سرّائك يستجاب لك يوم ضرّائك .
وأقول أنا : أكثر من شكر الله على السرّاء يدفع عنك الضرّاء . فإن وعده للشاكرين بزيادة النعم مؤذن بدفعه عنهم النقم ، لذهاب حلاوة النعمة عند وجود مرارة النقمة ، اللهم اجمع لنا بين جلب النعم وسلب النقم ، فإنا نشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان . ونحمدك عدد ما حمدك الحامدون بكل لسان في كل زمان .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { ثُمَّ جعلناكم خلائف فِى الأرض } الآية ، قال : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قرأ هذه الآية فقال : صدق ربنا ما جعلنا خلائف في الأرض إلا لينظر إلى أعمالنا .

فأروا الله خير أعمالكم بالليل والنهار ، والسرّ والعلانية . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج ، قال : { خلائف فِى الأرض } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدّلْهُ } قال : هذا قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } أعلمكم به . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } ولا أشعركم به . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ « ولا أنذرتكم به » . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ } قال : لم أتل عليكم ولم أذكر . وأخرجا عنه قال : لبث أربعين سنة قبل أن يوحى إليه ورأى الرؤيا سنتين ، وأوحى الله إليه عشر سنين بمكة ، وعشراً بالمدينة ، وتوفي وهو ابن اثنتين وستين سنة . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ، والترمذي ، عن ابن عباس ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة ، فمكث بمكة ثلاثة عشر يوحى إليه ، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة .

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } استفهام فيه معنى الجحد ، أي لا أحد أظلم { مِمَّنِ افترى عَلَى الله } الكذب ، وزيادة { كَذِبًا } مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه ، فربما يكون الافتراء كذباً في الإسناد فقط ، كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو ، ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره ، قيل : وهذا من جملة رده صلى الله عليه وسلم على المشركين لما طلبوا منه أن يأتي بقرآن غير هذا القرآن ، أو يبدّله ، فبين لهم أنه لو فعل ذلك لكان من الافتراء على الله ، ولا ظلم يماثل ذلك ، وقيل : المفتري على الله الكذب هم : المشركون ، والمكذب بآيات الله هم أهل الكتاب { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون } تعليل لكونه لا أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته ، أي لا يظفرون بمطلوب ، ولا يفوزون بخير ، والضمير في { إنه } للشأن ، أي إن الشأن هذا .
ثم نعى الله سبحانه عليهم عبادة الأصنام ، وبين أنها لا تنفع من عبدها ولا تضرّ من لم يعبدها ، فقال : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } أي : متجاوزين الله سبحانه إلى عبادة غيره ، لا بمعنى ترك عبادته بالكلية { مَالاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي : ما ليس من شأنه الضرّر ولا النفع ، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً لمن أطاعه معاقباً لمن عصاه ، والواو لعطف هذه الجملة على جملة { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } و « ما » في { مَالاَ يَضُرُّهُمْ } موصولة أو موصوفة ، والواو في { وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } للعطف على { وَيَعْبُدُونَ } زعموا أنهم يشفعون لهم عند الله ، فلا يعذبهم بذنوبهم . وهذا غاية الجهالة منهم ، حيث ينتظرون الشفاعة في المآل ممن لا يوجد منه نفع ولا ضرّ في الحال . وقيل : أرادوا بهذه الشفاعة إصلاح أحوال دنياهم ، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عنهم ، فقال : { قُلْ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض } قرأ أبو السمال العدوي « تنبئون » بالتخفيف من أنبأنا ينبىء . وقرأ من عداه بالتشديد من نبأ ينبىء . والمعنى : أتخبرون الله أن له شركاء في ملكه يعبدون كما يعبد ، أو أتخبرونه أن لكم شفعاء بغير إذنه ، والله سبحانه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا شفيعاً بغير إذنه من جميع مخلوقاته الذين هم في سمواته وفي أرضه؟ وهذا الكلام حاصله : عدم وجود من هو كذلك أصلاً ، وفي هذا من التهكم بالكفار مالا يخفى ، ثم نزّه الله سبحانه نفسه عن إشراكهم ، وهو يحتمل أن يكون ابتداء كلام غير ادخل في الكلام الذي أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به عليهم ، ويحتمل أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم جواباً عليهم .

قرأ حمزة والكسائي { عَمَّا يُشْرِكُونَ } بالتحتية . وقرأ الباقون بالفوقية ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد .
قوله : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } قد تقدّم تفسيره في البقرة . والمعنى : أن الناس ما كانوا جميعاً إلا أمة واحدة موحدة لله سبحانه ، مؤمنة به ، فصار البعض كافراً وبقي البعض الآخر مؤمناً ، فخالف بعضهم بعضاً . وقال الزجاج : هم العرب كانوا على الشرك . وقال : كل مولود يولد على الفطرة ، فاختلفوا عند البلوغ ، والأوّل أظهر . وليس المراد أن كل طائفة أحدثت ملة من ملل الكفر مخالفة للأخرى ، بل المراد : كفر البعض وبقي البعض على التوحيد ، كما قدّمنا : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } وهي : أنه سبحانه لا يقضى بينهم فيما اختلفوا فيه إلا يوم القيامة { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } في الدنيا { فِيمَا } هم { فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } لكنه قد امتنع ذلك بالكلمة التي لا تتخلف ، وقيل معنى : { لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ } بإقامة الساعة عليهم ، وقيل : لفرغ من هلاكهم . وقيل : الكلمة : إن الله أمهل هذه الأمة فلا يهلكهم بالعذاب في الدنيا . وقيل : الكلمة : أنه لا يأخذ أحداً إلا بحجة ، وهي إرسال الرسل كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَث رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . وقيل : الكلمة : قوله «سبقت رحمتي غضبي» . وقرأ عيسى بن عمر : «لقضى» بالبناء للفاعل . وقرأ من عداه بالبناء للمفعول .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، قال : قال النضر : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى ، فأنزل الله : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بآياته إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَالا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } الآية . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا } قال ابن مسعود : كانوا على هدى . وروى أنه قرأ هكذا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال : آدم وحده { فاختلفوا } قال : حين قتل أحد ابني آدم أخاه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في الآية قال : كان الناس أهل دين واحد على دين آدم ، فكفروا ، فلولا أن ربك أجلهم إلى يوم القيامة لقضى بينهم .

وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

قوله : { وَيَقُولُونَ } ذكر سبحانه هاهنا نوعاً رابعاً من مخازيهم ، وهو معطوف على قوله : { وَيَعْبُدُونَ } ، وجاء بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه . قيل : والقائلون هم : أهل مكة ، كأنهم لم يعتدّوا بما قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة ، والمعجزات القاهرة التي لو لم يكن منها إلا القرآن لكفي به دليلاً بيناً ومصدّقاً قاطعاً : أي هلا أنزلت عليه آية من الآيات التي نقترحها عليه ، ونطلبها منه ، كإحياء الأموات ، وجعل الجبال ذهباً ، ونحو ذلك؟ ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال : { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } أي : أن نزول الآية غيب ، والله هو المختص بعلمه ، المستأثر به ، لا علم لي ولا لكم ، ولا لسائر مخلوقاته { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه من الآيات { إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } لنزولها ، وقيل : المعنى : انتظروا قضاء الله بيني وبينكم بإظهار الحق على الباطل .
قوله : { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءاياتنا } لما بين سبحانه في الآية المتقدمة أنهم طلبوا آية عناداً ومكراً ولجاجاً ، وأكد ذلك بما ذكره هنا من أنه سبحانه إذا أذاقهم رحمة منه من بعد أن مستهم الضرّاء ، فعلوا مقابل هذه النعمة العظيمة المكر منهم في آيات الله؛ والمراد بإذاقتهم رحمته سبحانه : أنه وسع عليهم في الأرزاق ، وأدرّ عليهم النعم بالمطر وصلاح الثمار ، بعد أن مستهم الضرّاء بالجدب وضيق المعايش ، فما شكروا نعمته ولا قدروها حق قدرها ، بل أضافوها إلى أصنامهم التي لا تنفع ولا تضرّ ، وطعنوا في آيات الله ، واحتالوا في دفعها بكل حيلة ، وهو معنى المكر فيها . و " إذا " الأولى شرطية ، وجوابها { إذا لهم مكر } ، وهي فجائية ، ذكر معنى ذلك الخليل وسيبويه . ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عنهم فقال : { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا } أي : أعجل عقوبة ، وقد دلّ أفعل التفضيل على أن مكرهم كان سريعاً ، ولكن مكر الله أسرع منه . وإذا الفجائية يستفاد منها السرعة ، لأن المعنى أنهم فاجئوا المكر : أي أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة ، وتسمية عقوبة الله سبحانه مكراً من باب المشاكلة ، كما قرّر في مواطن من عبارات الكتاب العزيز { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } قرأ يعقوب في رواية ، وأبو عمرو في رواية «يمكرون» بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية . والمعنى : أن رسل الله وهم الملائكة يكتبون مكر الكفار ، لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة ، فكيف يخفى على العليم الخبير؟ وفي هذا وعيد لهم شديد ، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها ، فإن مكرهم إذا كان ظاهراً لا يخفى ، فعقوبة الله كائنة لا محالة ، ومعنى هذه الآية قريب من معنى الآية المتقدّمة وهي :

{ وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر } [ يونس : 12 ] وفي هذه زيادة ، وهي أنهم لا يقتصرون على مجرد الإعراض ، بل يطلبون الغوائل لآيات الله بما يدبرونه من المكر .
{ هُوَ الذى يُسَيّرُكُمْ فِى البر والبحر } ضرب سبحانه لهؤلاء مثلاً حتى ينكشف المراد انكشافاً تاماً . ومعنى تسييرهم في البر : أنهم يمشون على أقدامهم التي خلقها لهم ، لينتفعوا بها ، ويركبون ما خلقه الله لركوبهم من الدواب ، ومعنى تسييرهم في البحر : أنه ألهمهم لعمل السفائن التي يركبون فيها في لجج البحر ، ويسر ذلك لهم ، ودفع عنهم أسباب الهلاك . وقد قرأ ابن عامر : « وهو الذي ينشركم في البحر » بالنون والشين المعجمة من النشر كما في قوله : { فانتشروا فِى الأرض } [ الجمعة : 10 ] أي ينشرهم سبحانه في البحر ، فينجي من يشاء ويغرق من يشاء { حتى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } الفلك يقع على الواحد والجمع ويذكر ويؤنث ، وقد تقدّم تحقيقه { وَجَرَيْنَ } أي السفن بهم ، أي بالراكبين عليها ، و { حتى } لانتهاء الغاية ، والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أوّلها : الكون في الفلك ، والثاني : جريها بهم بالريح الطيبة التي ليست بعاصفة ، وثالثها : فرحهم . والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة : الأوّل { جَاءتْهَا } أي : جاءت الفلك ريح عاصف ، أو جاءت الريح الطيبة : أي تلقتها ريح عاصف ، والعصوف : شدّة هبوب الريح ، والثاني : { وَجَاءهُمُ الموج مِن كُلّ مَكَانٍ } أي : من جميع الجوانب للفلك ، والمراد : جاء الراكبين فيها ، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر ، والثالث : { ظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي : غلب على ظنونهم الهلاك ، وأصله من إحاطة العدوّ بقوم أو ببلد . فجعل هذه الإحاطة مثلاً في الهلاك وإن كان بغير العدو كما هنا . وجواب إذا في قوله : { إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك } قوله : { جَاءتْهَا } إلى آخره ، ويكون قوله : { دَّعَوَا الله } بدلاً من ظنوا ، لكون هذا الدعاء الواقع منهم إنما كان عند ظنّ الهلاك وهو الباعث عليه ، فكان بدلاً منه بدل اشتمال لاشتماله عليه ، ويمكن أن يكون جملة دعوا مستأنفة كأنه قيل : ماذا صنعوا؟ فقيل : دعوا الله ، وفي قوله : { وَجَرَيْنَ بِهِم } التفات من الخطاب إلى الغيبة ، جعل الفائدة فيه صاحب الكشاف المبالغة . وقال الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذا المقام دليل المقت والتبعيد ، كما أن عكس ذلك في قوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] دليل الرضا والتقريب ، وانتصاب { مخلصين } على الحال : أي لم يشوبوا دعاءهم بشيء من الشوائب ، كما جرت عادتهم في غير هذا الموطن أنهم يشركون أصنامهم في الدعاء ، وليس هذا لأجل الإيمان بالله وحده ، بل لأجل أن ينجيهم مما شارفوه من الهلاك ، لعلمهم أنه لا ينجيهم سوى الله سبحانه . وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ، وأن المضطرّ يجاب دعاؤه وإن كان كافراً .

وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة ، وما يشابهها ، فياعجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات؟ فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ، ولم يخلصوا الدعاء لله ، كما فعله المشركون ، كما تواتر ذلك إلينا تواتراً يحصل به القطع ، فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية ، وأين وصل بها أهلها ، وإلى أين رمى بهم الشيطان ، وكيف اقتادهم وتسلط عليهم؟ حتى انقادوا له انقياداً ما كان يطمع في مثله ، ولا في بعضه ، من عباد الأوثان ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، واللام في : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه } هي اللام الموطئة للقسم ، أي قائلين ذلك ، والإشارة : { مِنْ هذه } إلى ما وقعوا فيه من مشارفة الهلاك في البحر ، واللام في { لَنَكُونَنَّ } جواب القسم ، أي لنكونن في كل حال ممن يشكر نعمك التي أنعمت بها علينا ، منها هذه النعمة التي نحن بصدد سؤالك أن تفرجها عنا ، وتنجينا منها؛ وقيل : إنَّ هذه الجملة مفعول { دعوا } .
{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } الله من هذه المحنة التي وقعوا فيها ، وأجاب دعاءهم ، لم يفوا بما وعدوا من أنفسهم . بل فعلوا فعل الجاحدين لا فعل الشاكرين ، وجعلوا البغي في الأرض بغير الحق مكان الشكر . وإذا في { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ } هي الفجائية ، أي فاجؤوا البغي في الأرض بغير الحق . والبغي : هو الفساد ، من قولهم بغى الجرح : إذا ترامى في الفساد ، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم هذا شامل لأقطار الأرض ، والبغي وإن كان ينافي أن يكون بحق ، بل لا يكون إلا بالباطل ، لكن زيادة بغير الحق إشارة إلى أنهم فعلوا ذلك بغير شبهة عندهم ، بل تمرّداً وعناداً؛ لأنهم قد يفعلون ذلك لشبهة يعتقدونها مع كونها باطلة .
قوله : { ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا } لما ذكر سبحانه أن هؤلاء المتقدّم ذكرهم يبغون في الأرض بغير الحق ، ذكر عاقبة البغي وسوء مغبته . قرأ ابن إسحاق ، وحفص ، والمفضل بنصب { متاع } ، وقرأ الباقون بالرفع . فمن قرأ بالنصب جعل ما قبله جملة تامة : أي بغيكم وبال على أنفسكم ، فيكون بغيكم مبتدأ وعلى أنفسكم خبره ، ويكون { متاع } في موضع المصدر المؤكد ، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا ، ويكون المصدر مع الفعل المقدّر استئنافاً ، وقيل : إن { متاع } على قراءة النصب ظرف زمان نحو مقدم الحاج : أي زمن متاع الحياة الدنيا ، وقيل : هو مفعول له : أي لأجل متاع الحياة الدنيا ، وقيل منصوب بنزع الخافض : أي كمتاع؛ وقيل على الحال على أنه مصدر بمعنى المفعول : أي ممتعين ، وقد نوقش غالب هذه الأقوال في توجيه النصب .

وأما من قرأ برفع { متاع } فجعله خبر المبتدأ : أي بغيكم متاع الحياة الدنيا ، ويكون { على أنفسكم } متعلق بالمصدر ، والتقدير : إنما بغيكم على أمثالكم ، والذين جنسهم جنسكم ، متاع الحياة الدنيا ومنفعتها التي لا بقاء لها ، فيكون المراد بأنفسكم على هذا الوجه : أبناء جنسهم ، وعبر عنهم بالأنفس لما يدركه الجنس على جنسه من الشفقة؛ وقيل : ارتفاع متاع على أنه خبر ثان؛ وقيل : على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هو متاع . قال النحاس : على قراءة الرفع يكون { بغيكم } مرتفعاً بالابتداء ، وخبره { متاع الحياة الدنيا } و { على أنفسكم } مفعول البغي ، ويجوز أن يكون { خبره على أنفسكم } ، ويضمر مبتدأ ، أي ذلك متاع الحياة الدنيا ، أو هو متاع الحياة الدنيا . انتهى . وقد نوقش أيضاً بعض هذه الوجوه المذكورة في توجيه الرفع ، بما يطول به البحث في غير طائل . والحاصل أنه إذا جعل خبر { المبتدأ على أنفسكم } ، فالمعنى؛ أن ما يقع من البغي على الغير هو بغي على نفس الباغي ، باعتبار ما يؤول إليه الأمر من الانتقام منه مجازاة على بغيه ، وإن جعل الخبر { متاع } ، فالمراد : أن بغي هذا الجنس الإنساني على بعضه بعضاً هو سريع الزوال ، قريب الاضمحلال ، كسائر أمتعة الحياة الدنيا ، فإنها ذاهبة عن قرب ، متلاشية بسرعة ، ليس لذلك كثيرة فائدة ولا عظيم جدوى . ثم ذكر سبحانه ما يكون على ذلك البغي من المجازاة يوم القيامة ، مع وعيد شديد فقال : { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } وتقديم الخبر للدلالة على القصر ، والمعنى : أنكم بعد هذه الحياة الدنيا ومتاعها ترجعون إلى الله ، فيجازي المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه { فَنُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } في الدنيا ، أي فنخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير وشرّ ، والمراد بذلك : المجازاة ، كما تقول لمن أساء : سأخبرك بما صنعت ، وفيه أشد وعيد وأفظع تهديد .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع ، في قوله : { فانتظروا إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين } قال : خوفهم عذابه وعقوبته . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِى ءاياتنا } قال : استهزاء وتكذيب . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } قال : هلكوا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن مردويه ، عن سعد بن أبي وقاص ، ما حاصله : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة ، منهم عكرمة بن أبي جهل ، هرب من مكة وركب البحر فأصابهم عاصف ، فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً ، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر الإخلاص ، ما ينجيني في البرّ غيره . اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه ، أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده ، فلأجدنه عفواً كريماً ، فجاء فأسلم .

وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والخطيب في تاريخه ، والديلمي في مسند الفردويس ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث هنّ رواجع على أهلها : المكر ، والنكث ، والبغي » ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } [ الفتح : 10 ] . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن أبي بكرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تبغ ولا تكن باغياً ، فإن الله يقول : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } » وأخرج أبو الشيخ عن مكحول قال : ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : المكر ، والبغي ، والنكث ، قال الله سبحانه : { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } .
أقول أنا : وينبغي أن يلحق بهذه الثلاث التي دلّ القرآن على أنها تعود على فاعلها : الخدع ، فإن الله يقول : { يخادعون الله والذين ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ } [ البقرة : 9 ] . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما » وأخرج ابن مردويه من حديث ابن عمر مثله .

إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)

لما ذكر الله سبحانه ما تقدّم من متاع الدنيا ، جاء بكلام مستأنف يضمن بيان حالها وسرعة تقضيها ، وأنها تعود بعد أن تملأ الأعين برونقها ، وتجتلب النفوس ببهجتها . وتحمل أهلها على أن يسفكوا دماء بعضهم بعضاً ، ويهتكوا حرمهم حباً لها ، وعشقاً لجمالها الظاهري ، وتكالباً على التمتع بها ، وتهافتاً على نيل ما تشتهي الأنفس منها بضرب من التشبيه المركب ، فقال : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } إلى آخر الآية . والمعنى : أن مثلها في سرعة الذهاب والاتصاف بوصف يضادّ ما كانت عليه ويباينه ، مثل ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقه ، وذهاب بهجته ، وسرعة تقضيه ، بعد أن كان غضاً مخضراً طرياً قد تعانقت أغصانه المتمايلة ، وزهت أوراقه المتصافحة ، وتلألأت أنوار نوره ، وحاكت الزهر أنواع زهره ، وليس المشبه به هو ما دخله الكاف في قوله : { كَمَآء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } بل ما يفهم من الكلام ، والباء في : { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } للسببية ، أي فاختلط بسببه نبات الأرض بأن اشتبك بعضه ببعض ، حتى بلغ إلى حدّ الكمال ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أوّل بروزه ، ومبدأ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع ، فإذا نزل الماء عليه اهتز وربا ، حتى اختلط بعض الأنواع ببعض { مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام } من الحبوب والثمار ، والكلأ والتبن ، وأخذت الأرض زخرفها . قال في الصحاح الزخرف : الذهب ، ثم يشبه به كل مموّه مزوّر . انتهى . والمعنى : أن الأرض أخذت لونها الحسن المشابه بعضه للون الذهب ، وبعضه للون الفضة ، وبعضه للون الياقوت ، وبعضه للون الزمرّد . وأصل ازينت : تزينت أدغمت التاء في الزاي ، وجىء بألف الوصل؛ لأن الحرف المدغم مقام حرفين أولهما ساكن . والساكن لا يمكن الابتداء به . وقرأ ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب «وتزينت» على الأصل . وقرأ الحسن والأعرج وأبو العالية «وأزينت» على وزن أفعلت : أي أزينت بالزينة التي عليها ، شبهها بالعروس التي تلبس الثياب الجيدة المتلونة ألواناً كثيرة . وقال عوف بن أبي جميلة : قرأ أشياخنا «وازيانت» على وزن اسوادّت ، وفي رواية المقدمى «وازانت» والأصل فيه تزاينت على وزن تفاعلت . وقرأ الشعبي ، وقتادة «أزينت» ، ومعنى هذه القراءات كلها هو ما ذكرنا { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } أي : غلب على ظنونهم أو تيقنوا أنهم قادرون على حصادها والانتفاع بها ، والضمير في عليها للأرض ، والمراد : النبات الذي هو عليها { أَتَاهَا أَمْرُنَا } جواب إذا ، أي : جاءها أمرنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا } أي : جعلنا زرعها شبيهاً بالمحصود في قطعه من أصوله . قال أبو عبيدة : الحصيد : المستأصل { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } أي : كأن لم يكن زرعها موجوداً فيها بالأمس : مخضرّاً طرياً ، من غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به ، والمراد بالأمس الوقت القريب ، والمغاني في اللغة : المنازل .

وقال قتادة : كأن لم تنعم ، قال لبيد :
غنيت سنيناً قبل مجرى داحس ... لو كان للنفس اللجوج خلود
وقرأ قتادة « كن لم يغن » بالتحتية بإرجاع الضمير إلى الزخرف . وقرأ من عداه { تَغْنَ } بالفوقية بإرجاع الضمير إلى الأرض { كذلك } أي : مثل ذلك التفصيل البديع { نُفَصّلُ الآيات } القرآنية التي من جملتها هذه الآية { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيما اشتملت عليه ، ويجوز أن يراد الآيات التكوينية .
قوله : { والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام } لما نفر عباده عن الميل إلى الدنيا بما ضربه لهم من المثل السابق ، رغبهم في الدار الآخرة بإخبارهم بهذه الدعوة منه عزّ وجلّ إلى دار السلام ، قال الحسن وقتادة : السلام هو : الله تعالى ، وداره الجنة . وقال الزجاج : المعنى والله يدعو إلى دار السلامة . ومعنى السلام والسلامة واحد كالرضاع والرضاعة . ومنه قول الشاعر :
تحيى بالسلامة أمّ بكر ... وهل لك بعد قومك من سلام
وقيل : أراد دار السلام الذي هو : التحية؛ لأن أهلها ينالون من الله السلام بمعنى : التحية ، كما في قوله : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } [ إبراهيم : 23 ] . وقيل : السلام اسم لأحد الجنان السبع : أحدها : دار السلام ، والثانية : دار الجلال ، والثالثة : جنة عدن ، والرابعة : جنة المأوى ، والخامسة : جنة الخلد ، والسادسة : جنة الفردوس ، والسابعة : جنة النعيم . وقيل المراد : دار السلام الواقع من المؤمنين بعضهم على بعض في الجنة ، وقد اتفقوا على أن دار السلام هي الجنة ، وإنما اختلفوا في سبب التسمية بدار السلام { وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } جعل سبحانه الدعوة إلى دار السلام عامة ، والهداية خاصة بمن يشاء أن يهديه ، تكميلاً للحجة وإظهاراً للاستغناء عن خلقه .
ثم قسم سبحانه أهل الدعوة إلى قسمين ، وبين حال كل طائفة فقال : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } أي : الذين أحسنوا بالقيام بما أوجبه الله عليهم من الأعمال ، والكفّ عما نهاهم عنه من المعاصي ، والمراد بالحسنى المثوبة الحسنى . قال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها ، ولذلك ترك موصوفها؛ وقيل المراد بالحسنى : الجنة ، وأما الزيادة فقيل المراد بها : ما يزيد على المثوبة من التفضل ، كقوله : { لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [ فاطر : 30 ] وقيل الزيادة : النظر إلى وجهه الكريم . وقيل : الزيادة : هي : مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها . وقيل : الزيادة : غرفة من لؤلؤ ، وقيل الزيادة : مغفرة من الله ورضوان . وقيل : هي أنه سبحانه يعطيهم في الدنيا من فضله ما لا يحاسبهم عليه . وقيل : غير ذلك ، مما لا فائدة في ذكره ، وسيأتي بيان ما هو الحق في آخر البحث : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } معنى { يرهق } : يلحق ، ومنه قيل : غلام مراهق ، إذا لحق بالرجال ، وقيل يعلو ، وقيل يغشى ، والمعنى متقارب؛ والقتر : الغبار ، ومنه قول الفرزدق :

متوّج برداء الملك يتبعه ... موج ترى فوقه الرايات والقترا
وقرأ الحسن «قتر» بإسكان المثناة ، والمعنى واحد ، قاله النحاس ، وواحد القتر قترة ، والذلة : ما يظهر على الوجه من الخضوع والإنكسار والهوان ، والمعنى : أنه لا يعلو وجوههم غبرة ، ولا يظهر فيها هوان؛ وقيل القتر : الكآبة ، وقيل : سواد الوجوه ، وقيل : هو دخان النار { أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } الإشارة إلى المتصفين بالصفات السابقة هم أصحاب الجنة الخالدون فيها ، المتنعمون بأنواع نعيمها { والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } هذا الفريق الثاني من أهل الدعوة ، وهو معطوف على { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ، أو يقدر . وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها : أي يجازي سيئة واحدة بسيئة واحدة ، لا يزاد عليها ، وهذا أولى من الأوّل ، لكونه من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين ، والمراد بالسيئة : إما الشرك ، أو المعاصي التي ليست بشرك ، وهي ما يتلبس به العصاة من المعاصي ، قال ابن كيسان : الباء زائدة ، والمعنى : جزاء سيئة مثلها؛ وقيل : الباء مع ما بعدها الخبر ، وهي متعلقة بمحذوف قامت مقامه ، والمعنى : جزاء سيئة كائن بمثلها ، كقولك إنما أنا بك ، ويجوز أن يتعلق بجزاء ، والتقدير جزاء سيئة بمثلها كائن ، فحذف خبر المبتدأ ، ويجوز أن يكون { جَزَاء } مرفوعاً على تقدير : فلهم جزاء سيئة ، فيكون مثل قوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ] أي : فعليه عدّة . والباء على هذا التقدير متعلقة بمحذوف ، كأنه قال : لهم جزاء سيئة ثابت بمثلها ، أو تكون مؤكدة أو زائدة .
قوله : { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي يغشاهم هوان وخزي . وقرىء «يرهقهم» بالتحتية { لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي : لا يعصمهم أحد كائناً من كان من سخط الله وعذابه ، أو مالهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين ، والأوّل : أولى ، والجملة في محل نصب على الحالية ، أو مستأنفة { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً } قطعاً جمع قطعة ، وعلى هذا يكون مظلماً منتصباً على الحال من الليل : أي أغشيت وجوههم قطعاً من الليل في حالة ظلمته . وقد قرأ بالجمع جمهور القراء . وقرأ الكسائي وابن كثير " قطعا " بإسكان الطاء ، فيكون { مظلماً } على هذا صفة ل { قطعا } ، ويجوز أن يكون حالاً من { الليل } . قال ابن السكيت : القطع طائفة من الليل { أولئك } أي : الموصوفون بهذه الصفات الذميمة { أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } وإطلاق الخلود هنا مقيد بما تواتر في السنة من خروج عصاة الموحدين .
قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } الحشر الجمع ، وجميعاً منتصب على الحال { وَيَوْمَ } منصوب بمضمر : أي أنذرهم يوم نحشرهم ، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوالهم القبيحة .

والمعنى : أن الله سبحانه يحشر العابد والمعبود لسؤالهم { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } في حالة الحشر ، ووقت الجمع تقريعاً لهم على رءوس الأشهاد ، وتوبيخاً لهم مع حضور من يشاركهم في العبادة ، وحضور معبوداتهم { مَكَانَكُمْ } أي : الزموا مكانكم ، واثبتوا فيه ، وقفوا في موضعكم { أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ } هذا الضمير تأكيد للضمير الذي في مكانكم لسدّه مسدّ الزموا ، و { شركاؤكم } معطوف عليه . وقرىء بنصب { شركاؤكم } على أن الواو واو مع .
قوله : { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أي : فرّقنا وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا : يقال زيلته فتزيل : أي فرقته فتفرق ، والمزايلة المفارقة ، يقال زايله مزايلة ، وزيالاً إذا فارقه ، والتزايل التباين . قال الفراء : وقرأ بعضهم : " فزايلنا " والمراد بالشركاء هنا : الملائكة . وقيل الشياطين ، وقيل الأصنام ، وإن الله سبحانه ينطقها في هذا الوقت . وقيل : المسيح ، وعزير ، والظاهر أنه كل معبود للمشركين كائناً ما كان ، وجملة : { وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } في محل نصب على الحال بتقدير قد ، والمعنى : وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه ما كنتم إيانا تعبدون ، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم ، وشياطينكم الذين أغووكم ، وإنما أضاف الشركاء إليهم مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه ، لكونهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم ، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية . وقيل : لكونهم شركاؤهم في هذا الخطاب ، وهذا الجحد من الشركاء وإن كان مخالفاً لما قد وقع من المشركين من عبادتهم ، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة { فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } إن كنا أمرناكم بعبادتنا ، أو رضينا ذلك منكم { إِن كُنَّا عَن عِبَادَتِكُمْ لغافلين } " إن " هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، والقائل لهذا الكلام هم : المعبودون . قالوا لمن عبدهم من المشركين : إنا كنا عن عبادتكم لنا لغافلين ، والمراد بالغفلة هنا : عدم الرضا بما فعله المشركون من العبادة لهم ، وفي هذا دليل على أن هؤلاء المعبودين غير الشياطين ، لأنهم يرضون بما فعله المشركون من عبادتهم ، ويمكن أن يكونوا من الشياطين ، ويحمل هذا الجحد منهم على أنهم لم يجبروهم على عبادتهم ، ولا أكرهوهم عليها .
{ هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } أي : في ذلك المكان وفي ذلك الموقف ، أو في ذلك الوقت على استعارة اسم الزمان للمكان تذوق كل نفس وتختبر جزاء ما أسلفت من العمل ، فمعنى { تبلو } : تذوق وتختبر . وقيل : تعلم . وقيل : تتبع ، وهذا على قراءة من قرأ «تبلو» بالمثناة الفوقية بإسناد الفعل إلى كل نفس؛ وأما على قراءة من قرأ : «نبلو» بالنون ، فالمعنى : أن الله يبتلي كل نفس ويختبرها ، ويكون ما أسلفت بدلاً من كل نفس . والمعنى : أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها . قوله : { وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق } معطوف على { زيلنا } ، والضمير في { ردّوا } عائد إلى الذين أشركوا : أي ردّوا إلى جزائه ، وما أعدّ لهم من عقابه ، و { مولاهم } : ربهم ، و { الحق } صفة له : أي الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة ، وقرىء «الحق» بالنصب على المدح ، كقولهم الحمد لله أهل الحمد { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : ضاع وبطل ما كانوا يفترون من أن الآلهة التي لهم حقيقة بالعبادة ، لتشفع لهم إلى الله وتقرّبهم إليه .

والحاصل أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق ، ويعترفون به ، ويقرّون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهاً ، ولكن حين لا ينفعهم ذلك .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } قال : اختلط فنبت بالماء كل لون { مِمَّا يَأْكُلُ الناس } كالحنطة والشعير ، وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار ، وما تأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله : { وازينت } قال : أنبتت وحسنت ، وفي قوله : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } قال : كأن لم تعش ، كأن لم تنعم . وأخرج ابن جرير ، عن أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، ومروان بن الحكم ، أنهم كانوا يقرءون بعد قوله : { وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنه كان يقرأ : وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها « كذلك نفصل الأيات » . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن أبي مجلز ، قال : كان مكتوب في سورة يونس إلى حيث هذه الآية { حتى إِذَا أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا } إلى { يَتَفَكَّرُونَ } ، ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمني وادياً ثالثاً ، ولا يشبع نفس ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ، فمحيت .
وأخرج أبو نعيم ، والدمياطي في معجمه من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله : { والله يَدْعُو إِلَى دَارُ السلام } يقول : يدعو إلى عمل الجنة . والله : السلام ، والجنة : داره . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، في قوله : { وَيَهْدِى مَن يَشَاء } قال : يهديهم للمخرج من الشبهات والفتن والضلالات . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي الدرداء ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من يوم طلعت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، فما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى ، ولا آبت شمسه إلا وكل بجنبتيها ملكان يناديان نداء يسمعه خلق الله كلهم غير الثقلين : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، وأعط ممسكاً تلفاً { واليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } إلى قوله : { للعسرى } [ الليل : 1 10 ] »

وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن سعيد بن أبي هلال ، سمعت أبا جعفر محمد بن عليّ وتلا : { والله يَدْعُو إلى دَارِ السلام وَيَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } فقال : حدّثني جابر قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلاً ، فقال : اسمع سمعت أذنك ، واعقل عقل قلبك ، إنما مثلك ومثل أمتك مثل ملك اتخذ داراً ، ثم بنى فيها بيتاً ، ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من ترك؛ فالله هو الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد رسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها " وقد روي معنى هذا من طرق . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام } قال : ذكر لنا أن في التوراة مكتوباً : يا باغي الخير هلمّ ، ويا باغي الشرّ اتقه . وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن ، أنه كان إذا قرأ : { والله يَدْعُواْ إِلَى دَارُ السلام } قال : لبيك ربنا وسعديك .
وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وغيرهم ، عن صهيب : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } قال : " إذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ، ويبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويزحزحنا عن النار؛ قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحبّ إليهم من النظر إليه ، ولا أقرّ لأعينهم " وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الرؤية ، وابن مردويه ، عن أبي موسى ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي بصوت يسمعه أوّلهم وآخرهم : إن الله وعدكم الحسنى وزيادة " فالحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في الرؤية ، عن كعب بن عجرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } قال : " الزيادة : النظر إلى وجه الرحمن " وأخرج هؤلاء والدارقطني ، وابن أبي حاتم ، عن أبيّ بن كعب ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } قال :

« الذين أحسنوا : أهل التوحيد ، والحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله » وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عمر ، مرفوعاً نحوه . وأخرج أبو الشيخ ، والدارقطني ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن النجار ، عن أنس مرفوعاً نحوه . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي هريرة نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن خزيمة ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي بكر الصدّيق ، في الآية قال : الحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله . وأخرج ابن مردويه ، من طريق الحرث ، عن عليّ بن أبي طالب في الآية مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن حذيفة في الآية قال : الزيادة : النظر إلى وجه الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن أبي موسى نحوه . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، من طريق عكرمة ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، واللالكائي عن ابن مسعود ، نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي ، عن عليّ قال : الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب غرفها وأبوابها من لؤلؤة واحدة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَزِيَادَةٌ } قال : هو مثل قوله : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [ ق : 35 ] يقول : يجزيهم بعملهم ، ويزيدهم من فضله . وقال : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] . وقد روى عن التابعين ومن بعدهم روايات في تفسير الزيادة غالبها أنها النظر إلى وجه الله سبحانه . وقد ثبت التفسير بذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبق حينئذ لقائل مقال ، ولا التفات إلى المجادلات الواقعة بين المتمذهبة الذين لا يعرفون من السنة المطهرة ما ينتفعون به ، فإنهم لو عرفوا ذلك لكفوا عن كثير من هذيانهم ، والله المستعان .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ } قال : لا يغشاهم { قَتَرٌ } قال : سواد الوجوه . وأخرج أبو الشيخ عن عطاء في الآية قال : القتر : سواد الوجه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في الآية قال : خزي . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن صهيب عن النبيّ : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } قال : « بعد نظرهم إليه عزّ وجلّ » وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { والذين كَسَبُواْ السيئات } قال : الذين عملوا الكبائر { جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا } قال : النار { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً } القطع : السواد . نسختها الآية في البقرة : { بلى مَن كَسَبَ سَيّئَةً } [ البقرة : 81 ] الآية . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } قال : تغشاهم ذلة وشدّة .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، في قوله : { مَّا لَهُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } يقول : من مانع .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } قال : الحشر الموت . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في قوله : { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } قال : فرّقنا بينهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : تنصب الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله ، فيقول : هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله؟ فيقولون : نعم ، هؤلاء الذين كنا نعبد ، فتقول لهم الآلهة . والله ما كنا نسمع ولا نبصر ، ولا نعقل ، ولا نعلم ، أنكم كنتم تعبدوننا ، فيقولون : بلى والله لإياكم كنا نعبد ، فتقول لهم الآلهة : { فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين } .
وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يمثل لهم يوم القيامة ما كانوا يعبدون من دون الله ، فيتبعونهم حتى يؤدّوهم النار » ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ { هُنَالِكَ تَبْلُواْ } يقول : تتبع . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : { تبلو } : تختبر . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، { تبلو } قال : تعاين { تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ } ما عملت { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ما كانوا يدعون معه من الأنداد . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { وَرُدُّواْ إِلَى الله مولاهم الحق } قال : نسخها قوله : { الله مَوْلَى الذين ءامَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } [ محمد : 11 ] .

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

لما بيّن فضائح المشركين أتبعها بإيراد الحجج الدامغة ، من أحوال الرزق والحواس ، والموت والحياة ، والابتداء والإعادة ، والإرشاد والهدى ، وبنى سبحانه الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤولين ، ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس ، فقال : { قُلْ } يا محمد للمشركين احتجاجاً لحقية التوحيد ، وبطلان ما هم عليه من الشرك { مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض } من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات والمعادن ، فإن اعترفوا حصل المطلوب ، وإن لم يعترفوا فلا بدّ أن يعترفوا بأن الله هو الذي خلقهما { أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والأبصار } « أم » هي المنقطعة ، وفي هذا انتقال من سؤال إلى سؤال ، وخص السمع والبصر بالذكر ، لما فيهما من الصنعة العجيبة ، والقدرة الباهرة العظيمة ، أي : من يستطيع ملكهما وتسويتهما على هذه الصفة العجيبة ، والخلقة الغريبة ، حتى ينتفعوا بهما هذا الانتفاع العظيم ، ويحصلون بهما من الفوائد ما لا يدخل تحت حصر الحاصرين . ثم انتقل إلى حجة ثالثة ، فقال : { وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت } الإنسان من النطفة ، والطير من البيضة ، والنبات من الحبة ، أو المؤمن من الكافر { يَخْرُجُ الميت مِنَ الحى } أي : النطفة من الإنسان ، أو الكافر من المؤمن ، والمراد من هذا الاستفهام عمن يحيي ويميت . ثم انتقل إلى حجة رابعة ، فقال : { وَمَن يُدَبّرُ الأمر } أي : يقدّره ويقضيه ، وهذا من عطف العام على الخاص؛ لأنه قد عمّ ما تقدّم وغيره { فَسَيَقُولُونَ الله } أي : سيكون قولهم في جواب هذه الاستفهامات إن الفاعل لهذه الأمور هو : الله سبحانه ، إن أنصفوا وعملوا على ما يوجبه الفكر الصحيح والعقل السليم ، وارتفاع الاسم الشريف على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف ، أي : الله يفعل ذلك ، ثم أمره الله سبحانه بعد أن يجيبوا بهذا الجواب أن يقول لهم : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } والاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر : أي تعلمون ذلك ، أفلا تتقون وتفعلون ما يوجبه هذا العلم من تقوى الله الذي يفعل هذه الأفعال .
{ فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق } أي : فذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو ربكم المتصف بأنه الحق ، لا ما جعلتموهم شركاء له ، والاستفهام في قوله : { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } للتقريع والتوبيخ ، إن كانت « ما » استفهامية ، لا إن كانت نافية كما يحتمله الكلام ، والمعنى : أيّ شيء بعد الحق إلا الضلال ، فإن ثبوت ربوبية الربّ سبحانه حق بإقرارهم ، فكان غيره باطلاً ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وصفاته { فأنى تُصْرَفُونَ } أي : كيف تستجيزون العدول عن الحق الظاهر ، وتقعون في الضلال إذ لا واسطة بينهما؟ فمن تخطى أحدهما وقع في الآخر ، والاستفهام للإنكار والاستبعاد والتعجب { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ عَلَى الذين فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق ، كذلك حقت كلمة ربك : أي حكمه وقضاؤه على الذين فسقوا : أي خرجوا من الحق إلى الباطل ، وتمرّدوا في كفرهم عناداً ومكابرة ، وجملة { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بدل من الكلمة .

قاله الزجاج : أي حقت عليهم هذه الكلمة ، وهي عدم إيمانهم ، ويجوز أن تكون الجملة تعليلية لما قبلها بتقدير اللام : أي لأنهم لا يؤمنون . وقال الفراء : إنه يجوز إنهم لا يؤمنون بالكسر على الاستئناف ، وقد قرأ نافع ، وابن عامر : « كلمات ربك » بالجمع . وقرأ الباقون بالافراد .
قوله : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أورد سبحانه في هذا حجة خامسة على المشركين ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقولها لهم ، وهم وإن كانوا لا يعترفون بالمعاد ، لكنه لما كان أمراً ظاهراً بيناً ، وقد أقام الأدلة عليه في هذه السورة على صورة لا يمكن دفعها عند من أنصف ، ولم يكابر ، كان كالمسلم عندهم الذي لا جحد له ولا إنكار فيه ، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم : { قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ فأنى تُؤْفَكُونَ } أي : هو الذي يفعل ذلك لا غيره ، وهذا القول الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أمر الله سبحانه له هو نيابة عن المشركين في الجواب ، إما على طريق التلقين لهم ، وتعريفهم كيف يجيبون ، وإرشادهم إلى ما يقولون ، وإما لكون هذا المعنى قد بلغ في الوضوح إلى غاية لا يحتاج معها إلى إقرار الخصم ، ومعرفة ما لديه ، وإما لكون المشركين لا ينطقون بما هو الصواب في هذا الجواب ، فراراً منهم عن أن تلزمهم الحجة ، أو أن يسجل عليهم بالعناد والمكابرة إن حادوا عن الحق ، ومعنى : { فأنى تُؤْفَكُونَ } فكيف تؤفكون ، أي تصرفون عن الحق وتنقلبون منه إلى غيره .
ثم أمره الله سبحانه أن يورد عليهم حجة سادسة فقال : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى الحق } والاستفهام ها هنا ، كالاستفهامات السابقة ، والاستدلال بالهداية بعد الاستدلال بالخلق وقع كثيراً في القرآن كقوله : { الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] وقوله : { الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] وقوله : { الذى خَلَقَ فسوى * والذى قَدَّرَ فهدى } [ الأَعلى : 2 ، 3 ] وفعل الهداية يجيء متعدياً باللام وإلى ، وهما بمعنى واحد . روي ذلك عن الزجاج . والمعنى : قل لهم يا محمد ، هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإسلام ، ويدعو الناس إلى الحق؟ فإذا قالوا لا ، فقل لهم : الله يهدي للحق دون غيره ، ودليل ذلك ما تقدّم من الأدلة الدالة على اختصاصه سبحانه بهذا ، وهداية الله سبحانه لعباده إلى الحق هي بما نصبه لهم من الآيات في المخلوقات ، وإرساله للرسل ، وإنزاله للكتب ، وخلقه لما يتوصل به العباد إلى ذلك من العقول والأفهام ، والأسماع والأبصار ، والاستفهام في قوله : { أَفَمَن يَهْدِى إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن مَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى } للتقرير وإلزام الحجة .

وقد اختلف القراء في { لاَّ يَهِدِّى } فقرأ أهل المدينة إلا نافعاً «يهدي» بفتح الياء وإسكان الهاء وتشديد الدال فجمعوا في قراءتهم هذه بين ساكنين . قال النحاس : والجمع بين ساكنين لا يقدر أحد أن ينطق به . قال محمد بن يزيد : لا بدّ لمن رام مثل هذا أن يحرك حركة خفيفة إلى الكسر ، وسيبويه يسمي هذا اختلاساً . وقرأ أبو عمرو ، وقالون ، في رواية بين الفتح والإسكان . وقرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وورش ، وابن محيصن ، بفتح الياء والهاء وتشديد الدال . قال النحاس : هذه القراءة بينة في العربية ، والأصل فيها يهتدى ، أدغمت التاء في الدال وقلبت حركتها إلى الهاء . وقرأ حفص ، ويعقوب ، والأعمش مثل قراءة ابن كثير ، إلا أنهم كسروا الهاء ، قالوا : لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين . وقرأ أبو بكر ، عن عاصم " يهديِ " بكسر الياء والهاء وتشديد الدال ، وذلك للاتباع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى بن وثاب " يهْديَ " بفتح الياء وإسكان الهاء ، وتخفيف الدال من هدي يهدي . قال النحاس : وهذه القراءة لها وجهان في العربية ، وإن كانت بعيدة : الأوّل : أن الكسائي والفراء قالا : إن { يهدي } بمعنى يهتدي . الثاني : أن أبا العباس قال : إن التقدير أم من لا يهدي غيره ، ثم تمّ الكلام ، وقال بعد ذلك { إِلاَّ أَن يهدى } أي : لكنه يحتاج أن يهدى ، فهو استثناء منقطع ، كما تقول : فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع : أي لكنه يحتاج أن يسمع ، والمعنى على القراءات المتقدمّة : أفمن يهدي الناس إلى الحق ، وهو الله سبحانه أحق أن يتبع ويقتدي به ، أم الأحق بأن يتبع ويقتدي به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره ، فضلاً عن أن يهدي غيره؟ والاستثناء على هذا ، استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال .
قوله : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا تعجيب من حالهم باستفهامين متواليين ، أي أيّ شيء لكم كيف تحكمون باتخاذ هؤلاء شركاء لله ، وكلا الاستفهامين للتقريع والتوبيخ ، و { كيف } في محل نصب ب { تحكمون } ، ثم بيّن سبحانه ما هؤلاء عليه في أمر دينهم ، وعلى أيّ شيء بنوه . وبأيّ شيء اتبعوا هذا الدين الباطل ، وهو الشرك فقال : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّا إَنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا } وهذا كلام مبتدأ غير داخل في الأوامر السابقة . والمعنى : ما يتبع هؤلاء المشركون في إشراكهم بالله ، وجعلهم له أنداداً إلا مجرّد الظن ، والتخمين والحدس ، ولم يكن ذلك عن بصيرة ، بل ظن من ظن من سلفهم أن هذه المعبودات تقرّبهم إلى الله ، وأنها تشفع لهم ، ولم يكن ظنه هذا لمستند قط ، بل مجرد خيال مختل وحدس باطل ، ولعل تنكير الظن هنا للتحقير : أي إلا ظناً ضعيفاً لا يستند إلى ما تستند إليه سائر الظنون .

وقيل : المراد بالآية : إنه ما يتبع أكثرهم في الإيمان بالله والإقرار به إلا ظناً . والأوّل : أولى . ثم أخبرنا الله سبحانه : بأن مجرد الظن لا يغني من الحق شيئاً ، لأن أمر الدين إنما يبنى على العلم ، وبه يتضح الحق من الباطل ، والظن لا يقوم مقام العلم ، ولا يدرك به الحق ، ولا يغني عن الحق في شيء من الأشياء ، ويجوز انتصاب شيئاً على المصدرية ، أو على أنه مفعول به ، و { من الحق } حال منه والجملة مستأنفة لبيان شأن الظن وبطلانه { إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } من الأفعال القبيحة الصادرة لا عن برهان .
قوله : { وَمَا كَانَ هذا القرءان أَن يفترى مِن دُونِ الله } لما فرغ سبحانه من دلائل التوحيد وحججه ، شرع في تثبيت أمر النبوّة : أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشتمل على الحجج البيّنة ، والبراهين الواضحة ، يفترى من الخلق من دون الله ، وإنما هو من عند الله عزّ وجلّ ، وكيف يصح أن يكون مفترى ، وقد عجز عن الإتيان بسورة منه القوم الذين هم أفصح العرب لساناً وأدقهم أذهاناً { ولكن } كان هذا القرآن { تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب المنزلة على الأنبياء ، ونفس هذا التصديق معجزة مستقلة؛ لأن أقاصيصه موافقة لما في الكتب المتقدمة ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يطلع على ذلك ولا تعلمه ولا سأل عنه ، ولا اتصل بمن له علم بذلك ، وانتصاب { تصديق } على أنه خبر لكان المقدرة بعد لكن ، ويجوز أن يكون انتصابه على العلية لفعل محذوف ، أي لكن أنزله الله تصديق الذي بين يديه . قال الفراء : ومعنى الآية ، وما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى ، كقوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] ، { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً } [ التوبة : 122 ] . وقيل : إن { أن } بمعنى اللام ، أي : وما كان هذا القرآن ليفترى . وقيل : بمعنى لا : أي لا يفترى ، قال الكسائي والفراء : إن التقدير في قوله : { ولكن تَصْدِيقَ } ولكن كان تصديق ، ويجوز عندهما الرفع ، أي : ولكن هو تصديق . وقيل : المعنى : ولكن القرآن تصديق { الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } من الكتب ، أي أنها قد بشرت به قبل نزوله ، فجاء مصدّقاً لها . قيل : المعنى : ولكن تصديق النبيّ الذي بين يدي القرآن ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم شاهدوه قبل أن يسمعوا منه القرآن . قوله : { وَتَفْصِيلَ الكتاب } عطف على قوله : { ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } فيجيء فيه الرفع والنصب على الوجهين المذكورين في { تصديق } ، والتفصيل : التبيين ، أي يبين ما في كتب الله المتقدّمة ، والكتاب للجنس .

وقيل : أراد ما بين في القرآن من الأحكام ، فيكون المراد بالكتاب : القرآن . قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } الضمير عائد إلى القرآن ، وهو داخل في حكم الاستدراك خبر ثالث ، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال من الكتاب ، ويجوز أن تكون الجملة استئنافية لا محلّ لها ، و { مِن رَّبّ العالمين } خبر رابع : أي كائن من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون حالاً من الكتاب ، أو من ضمير القرآن في قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : كائناً من ربّ العالمين ، ويجوز أن يكون متعلقاً بتصديق وتفصيل ، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } معترضة .
قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } الاستفهام للإنكار عليهم ، مع تقرير ثبوت الحجة ، و « أم » هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، أي بل أيقولون افتراه واختلقه . وقال أبو عبيدة : أم بمعنى الواو : أي ويقولون افتراه . وقيل : الميم زائدة ، والتقدير : أيقولون افتراه ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ . ثم أمره الله سبحانه أن يتحدّاهم حتى يظهر عجزهم ويتبيّن ضعفهم فقال : { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ } أي : إن كان الأمر كما تزعمون من أن محمداً افتراه ، فأتوا أنتم على جهة الافتراء بسورة مثله في البلاغة ، وجودة الصناعة ، فأنتم مثله في معرفة لغة العرب وفصاحة الألسن وبلاغة الكلام { وادعوا } بمظاهريكم ومعاونيكم { مَنِ استطعتم } دعاءه والاستعانة به ، من قبائل العرب ، ومن آلهتكم التي تجعلونهم شركاء لله . وقوله : { مِن دُونِ الله } متعلق ب { ادعوا } : أي ادعوا من سوى الله من خلقه { إِن كُنتُمْ صادقين } في دعواكم أن هذا القرآن مفترى .
وسبحان الله العظيم ما أقوى هذه الحجة وأوضحها ، وأظهرها للعقول ، فإنهم لما نسبوا الافتراء إلى واحد منهم في البشرية والعربية ، قال لهم : هذا الذي نسبتموه إليّ وأنا واحد منكم ، ليس عليكم إلا أن تأتوا ، وأنتم الجمع الجمّ ، بسورة مماثلة لسورة من سوره ، واستعينوا بمن شئتم من أهل هذه اللسان العربية على كثرتهم وتباين مساكنهم ، أو من غيرهم من بني آدم ، أو من الجنّ ، أو من الأصنام ، فإن فعلتم هذا بعد اللتيا والتي ، فأنتم صادقون فيما نسبتموه إليّ وألصقتموه بي ، فلم يأتوا عند سماع هذا الكلام المنصف ، والتنزّل البالغ ، بكلمة ولا نطقوا ببنت شفة ، بل كاعوا عن الجواب ، وتشبثوا بأذيال العناد البارد ، والمكابرة المجردة عن الحجة ، وذلك مما لا يعجز عنه مبطل ، ولهذا قال سبحانه عقب هذا التحدّي البالغ { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } فأضرب عن الكلام الأوّل ، وانتقل إلى بيان أنهم سارعوا إلى تكذيب القرآن ، قبل أن يتدبروه ويفهموا معانيه ، وما اشتمل عليه ، وهكذا صنع من تصلب في التقليد ، ولم يبال بما جاء به من دعا إلى الحق وتمسك بذيول الإنصاف ، بل يردّه بمجرد كونه لم يوافق هواه ، ولا جاء على طبق دعواه قبل أن يعرف معناه ، ويعلم مبناه ، كما تراه عياناً وتعلمه وجداناً .

والحاصل أن من كذب بالحجة النيرة ، والبرهان الواضح ، قبل أن يحيط بعلمه ، فهو لم يتسمك بشيء في هذا التكذيب ، إلا مجرد كونه جاهلاً لما كذب به غير عالم به ، فكان بهذا التكذيب منادياً على نفسه بالجهل بأعلى صوت ، ومسجلاً بقصوره عن تعقل الحجج بأبلغ تسجيل ، وليس على الحجة ولا على من جاء بها من تكذيبه شيء :
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
قوله : { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } معطوف على : { لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } أي : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ، وبما لم يأتهم تأويله ، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي كذبوا به حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به ، ولا بلغته عقولهم . والمعنى : أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه ، وقبل أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدّمين ، والأمم السابقين ، ومن حكايات ما سيحدث من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها ، أو قبل أن يفهموه حق الفهم ، وتتعقله عقولهم ، فإنهم لو تدبروه كلية التدبر لفهموه كما ينبغي ، وعرفوا ما اشتمل عليه من الأمور الدالة أبلغ دلالة على أنه كلام الله ، وعلى هذا فمعنى تأويله ما يؤول إليه لمن تدبره من المعاني الرشيقة ، واللطائف الأنيقة ، وكلمة التوقع أظهر في المعنى الأوّل : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم من الأمم عند أن جاءتهم الرسل بحجج الله وبراهينه ، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه ، وقبل أن يأتيهم تأويله : { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة الظالمين } من الأمم السالفة من سوء العاقبة ، بالخسف والمسخ ونحو ذلك من العقوبات التي حلت بهم ، كما حكى ذلك القرآن عنهم ، واشتملت عليه كتب الله المنزّلة عليهم .
قوله : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } أي : ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن من يؤمن به في نفسه ، ويعلم أنه صدق وحق ، ولكنه كذب به مكابرة وعناداً . وقيل : المراد : ومنهم من يؤمن به في المستقبل ، وإن كذب به في الحال ، والموصول مبتدأ ، وخبره منهم { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } ولا يصدّقه في نفسه ، بل كذب به جهلاً كما مرّ تحقيقه ، أو لا يؤمن به في المستقبل ، بل يبقى على جحوده وإصراره . وقيل : الضمير في الموضعين للنبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد قيل : إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة ، وقيل : عام في جميع الكفار { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } فيجازيهم بأعمالهم ، والمراد بهم : المصرّون المعاندون ، أو بكلا الطائفتين ، وهم الذين يؤمنون به في أنفسهم ، ويكذبون به في الظاهر ، والذين يكذبون به جهلاً ، أو الذين يؤمنون به في المستقبل ، والذين لا يؤمنون به .

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن أصرّوا على تكذيبه واستمرّوا عليه : { لّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } أي لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم ، فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه ، وليس عليّ غير ذلك ، ثم أكد هذا بقوله : { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تَعْمَلُونَ } أي : لا تؤاخذون بعملي ، ولا أؤاخذ بعملكم . وقد قيل : إن هذا منسوخ بآية السيف كما ذهب إليه جماعة من المفسرين .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ } يقول : سبقت كلمة ربك . وأخرج أبو الشيخ ، عن الضحاك ، قال : صدقت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { أَم مَّنْ لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى } قال : الأوثان . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لّى عَمَلِى } الآية ، قال : أمره بهذا ، ثم نسخه ، فأمره بجهادهم .

وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } الخ بيّن الله سبحانه في هذا أن في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد ، وهي أنهم يستمعون إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن وعلم الشرائع في الظاهر ، ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة؛ لعدم حصول أثر السماع ، وهو حصول القبول والعمل بما يسمعونه ، ولهذا قال : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم } يعني : أن هؤلاء وإن استمعوا في الظاهر فهم صمّ ، والصمم مانع من سماعهم ، فكيف تطمع منهم بذلك مع حصول المانع ، وهو : الصمم ، فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنهم لا يعقلون ، فإن من كان أصمّ غير عاقل ، لا يفهم شيئاً ولا يسمع ما يقال له . وجمع الضمير في { يستمعون } حملاً على معنى من ، وأفرده في { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ } حملاً على لفظه . قيل : والنكتة : كثرة المستمعين بالنسبة إلى الناظرين؛ لأن الاستماع لا يتوقف على ما يتوقف عليه النظر ، من المقابلة وانتفاء الحائل وانفصال الشعاع ، والنور الموافق لنور البصر ، والتقدير في قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ } ومنهم ناس يستمعون ، ومنهم بعض ينظر ، والهمزتان في { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ } { أَفَأَنْتَ تَهْدِى } للإنكار ، والفاء في الموضعين للعطف على مقدّر ، كأنه قيل : أيستمعون إليك فأنت تسمعهم؟ أينظرون إليك فأنت تهديهم؟ والكلام في : { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِى العمى وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } كالكلام في { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } الخ؛ لأن العمى مانع ، فكيف يطمع من صاحبه في النظر . وقد انضمّ إلى فقد البصر ، فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يكون له من الحدس الصحيح ما يفهم به في بعض الأحوال فهما يقوم مقام النظر ، وكذلك الأصمّ العاقل ، قد يتحدّس تحدّساً يفيده بعض فائدة ، بخلاف من جمع له بين عمي البصر والبصيرة ، فقد تعذر عليه الإدراك . وكذا من جمع له بين الصمم وذهاب العقل ، فقد انسدّ عليه باب الهدى ، وجواب « لو » في الموضعين محذوف ، دلّ عليهما ما قبلهما ، والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه ، واستراح من الاشتغال به .
قوله : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ذكر هذا عقب ما تقدّم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار ، لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم من السمع والعقل ، والبصر والبصيرة ، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق ، والمجادلة بالباطل ، والإصرار على الكفر ، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك ، ولم يظلمهم الله شيئاً من الأشياء ، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر ما يدركون به أكمل إدراك ، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون ، ووفر مصالحهم الدنيوية عليهم ، وخلى بينهم وبين مصالحهم الدينية ، فعلى نفسها براقش تجني ، وقرأ حمزة والكسائي « ولكن الناس » بتخفيف النون ورفع الناس ، وقرأ الباقون بتشديدها ونصب الناس .

قال النحاس : زعم جماعة من النحويين منهم الفراء ، أن العرب إذا قالت «ولكن» بالواو شدّدوا النون ، وإذا حذفوا الواو خففوها . قيل : والنكتة في وضع الظاهر موضع المضمر زيادة التعيين والتقرير ، وتقديم المفعول على الفعل لإفادة القصر ، أو لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة .
قوله : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } الظرف منصوب بمضمر : أي واذكر يوم نحشرهم { كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ } أي : كأنهم لم يلبثوا ، والجملة في محلّ نصب على الحال : أي مشبهين من لم يلبث { إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار } أي : شيئاً قليلاً منه ، والمراد باللبث : هو اللبث في الدنيا ، وقيل : في القبور ، واستقلوا المدّة الطويلة إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا ، فجعلوا وجودها كالعدم ، أو استقصروها للدهش والحيرة ، أو لطول وقوفهم في المحشر ، أو لشدّة ما هم فيه من العذاب ، نسوا لذات الدنيا وكأنها لم تكن ، ومثل هذا قولهم : { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ المؤمنون : 113 ] وجملة : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة . والمعنى : يعرف بعضهم بعضاً كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلاً ، وذلك عند خروجهم من القبور ، ثم تنقطع التعاريف بينهم لما بين أيديهم من الأمور المدهشة للعقول ، المذهلة للأفهام . وقيل : إن هذا التعارف ، هو : تعارف التوبيخ والتقريع ، يقول بعضهم لبعض : أنت أضللتني وأغويتني ، لا تعارف شفقة ورأفة ، كما قال تعالى : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] وقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور فَلاَ أنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] فيجمع بأن المراد بالتعارف؛ هو : تعارف التوبيخ ، وعليه يحمل قوله : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول } [ سبأ : 31 ] ، وقد جمع بين الآيات المختلفة في مثل هذا وغيره بأن المواقف يوم القيامة مختلفة ، فقد يكون في بعض المواقف ما لا يكون في الآخر { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } هذا تسجيل من الله سبحانه عليهم بالخسران ، والجملة في محل النصب على الحال ، والمراد بلقاء الله : يوم القيامة عند الحساب والجزاء ، ونفى عنهم أن يكونوا من جنس المهتدين لجهلهم ، وعدم طلبهم لما ينجيهم وينفعهم .
قوله : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } أصله : إن نرك ، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط وزيدت نون التأكيد ، والمعنى : إن حصلت منا الإراءة لك بعض الذي وعدناهم من إظهار دينك في حياتك بقتلهم وأسرهم ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير فتراه ، أو فذاك ، وجملة : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } معطوفة على ما قبلها ، والمعنى : أو لا نرينك ذلك في حياتك ، بل نتوفينك قبل ذلك { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } فعند ذلك نعذبهم في الآخرة ، فنريك عذابهم فيها ، وجواب { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } محذوف أيضاً ، والتقدير : أو نتوفينك قبل الإراءة فنحن نريك ذلك في الآخرة .

وقيل : إن جواب { أونتوفينك } هو قوله : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } لدلالته على ما هو المراد من إراءة النبي صلى الله عليه وسلم تعذيبهم في الآخرة ، وقيل : العدول إلى صيغة المستقبل في الموضعين لاستحضار الصورة ، والأصل : أريناك أو توفيناك ، وفيه نظر ، فإن إراءته صلى الله عليه وسلم لبعض ما وعد الله المشركين من العذاب لم تكن قد وقعت كالوفاة . وحاصل معنى هذه الآية : إن لم ننتقم منهم عاجلاً انتقمنا منهم آجلاً . وقد أراه الله سبحانه قتلهم وأسرهم ، وذلهم وذهاب عزّهم ، وانكسار سورة كبرهم بما أصابهم به في يوم بدر وما بعده من المواطن ، فلله الحمد .
قوله : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ } جاء بثم الدالة على التبعيد ، مع كون الله سبحانه شهيداً على ما يفعلونه في الدارين ، للدلالة على أن المراد بهذه الأفعال ما يترتب عليها من الجزاء ، أو ما يحصل من إنطاق الجوارح بالشهادة عليهم يوم القيامة ، فجعل ذلك بمنزلة شهادة الله عليهم ، كما ذكره النيسابوري { وَلِكُلّ أُمَّةٍ } من الأمم الخالية في وقت من الأوقات { رَّسُولٍ } يرسله الله إليهم ، ويبيّن لهم ما شرعه الله لهم من الأحكام على حسب ما تقتضيه المصلحة { فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } إليهم ، وبلغهم ما أرسله الله به فكذبوه جميعاً { قُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي : بين الأمة ورسولها { بالقسط } أي : العدل فنجا الرسول ، وهلك المكذبون له ، كما قال سبحانه : { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] . ويجوز أن يراد بالضمير في { بينهم } الأمة على تقدير أنه كذبه بعضهم ، وصدقه البعض الآخر ، فيهلك المكذبون ، وينجو المصدقون { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } في ذلك القضاء ، فلا يعذبون بغير ذنب ، ولا يؤاخذون بغير حجة ، ومنه قوله تعالى : { وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } [ الزمر : 69 ] وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] . والمراد المبالغة في إظهار العدل ، والنصفة بين العباد ، ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبه الكفار ، وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، كان كلما هددهم بنزول العذاب كانوا { يَقُولُونَ متى هذا الوعد } والاستفهام منهم للإنكار ، والاستبعاد ، وللقدح في النبوّة { إِن كُنتُمْ صادقين } خطاباً منهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين ، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله ، ويحتمل أن يراد بالقائلين هذه المقالة جميع الأمم الذين لم يسلموا لرسلهم الذين أرسلهم الله إليهم .
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يجيب عليهم بما يحسم مادّة الشبهة ويقطع اللجاج فقال : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعًا } أي : لا أقدر على جلب نفع لها ، ولا دفع ضرّ عنها ، فكيف أقدر على أن أملك ذلك لغيري ، وقدّم الضرّ ، لأن السياق لإظهار العجز عن حضور الوعد الذي استعجلوه واستبعدوه ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء الله } منقطع كما ذكره أئمة التفسير ، أي : ولكن ما شاء الله من ذلك كان ، فكيف أقدر على أن أملك لنفسي ضراً أو نفعاً ، وفي هذه أعظم واعظ ، وأبلغ زاجر لمن صار ديدنه وهجيراه المناداة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاستغاثة به عند نزول النوازل التي لا يقدر على دفعها إلا الله سبحانه ، وكذلك من صار يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يقدر على تحصيله إلا الله سبحانه .

فإن هذا مقام ربّ العالمين الذي خلق الأنبياء والصالحين ، وجميع المخلوقين ، ورزقهم ، وأحياهم ويميتهم ، فكيف يطلب من نبيّ من الأنبياء ، أو ملك من الملائكة ، أو صالح من الصالحين ، ما هو عاجز عنه غير قادر عليه ، ويترك الطلب لربّ الأرباب القادر على كل شيء ، الخالق الرازق المعطي المانع؟ وحسبك بما في هذه الآية موعظة ، فإن هذا سيد ولد آدم ، وخاتم الرسل ، يأمره الله بأن يقول لعباده : لا أملك لنفسي ضرّاً ولا نفعاً ، فكيف يملكه لغيره ، وكيف يملكه غيره ممن رتبته دون رتبته ، ومنزلته لا تبلغ إلى منزلته لنفسه ، فضلاً عن أن يملكه لغيره ، فيا عجباً لقوم يعكفون على قبور الأموات الذين قد صاروا تحت أطباق الثرى ، ويطلبون منهم من الحوائج ما لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ؟ كيف لا يتيقظون لما وقعوا فيه من الشرك ، ولا يتنبهون لما حلّ بهم من المخالفة لمعنى : لا إله إلا الله ، ومدلول : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] ؟ وأعجب من هذا : اطلاع أهل العلم على ما يقع من هؤلاء ، ولا ينكرون عليهم ، ولا يحولون بينهم وبين الرجوع إلى الجاهلية الأولى ، بل إلى ما هو أشدّ منها ، فإن أولئك يعترفون بأن الله سبحانه هو الخالق الرازق ، المحيي المميت ، الضارّ النافع ، وإنما يجعلون أصنامهم شفعاء لهم عند الله ، ومقرّبين لهم إليه ، وهؤلاء يجعلون لهم قدرة على الضرّ والنفع ، وينادونهم تارة على الاستقلال ، وتارة مع ذي الجلال ، وكفاك من شرّ سماعه ، والله ناصر دينه ، ومطهر شريعته من أوضار الشرك ، وأدناس الكفر ، ولقد توسل الشيطان أخزاه الله بهذه الذريعة إلى ما تقرّ به عينه ، وينثلج به صدره ، من كفر كثير من هذه الأمة المباركة { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } [ الكهف : 104 ] إنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم بيّن سبحانه أن لكل طائفة حدّاً محدوداً لا يتجاوزونه ، فلا وجه لاستعجال العذاب فقال : { لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } فإذا جاء ذلك الوقت ، أنجز وعده وجازى كلاً بما يستحقه ، والمعنى : أن لكل أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم ، أو بين بعضهم البعض أجلاً معيناً ، ووقتاً خاصاً ، يحلّ بهم ما يريده الله سبحانه لهم عند حلوله : { إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } أي : ذلك الوقت المعين ، والضمير راجع إلى كل أمة { فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ } عن ذلك الأجل المعين { سَاعَةِ } أي : شيئاً قليلاً من الزمان { وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وعليه ، وجملة : { لا يستقدمون } معطوفة على جملة { لا يستأخرون } ، ومثله قوله تعالى :

{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُون } [ الحجر : 5 ] والكلام على هذه الآية المذكورة هنا قد تقدّم في تفسير الآية التي في أوّل الأعراف ، فلا نعيده .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، في قوله : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } قال : يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه لا يستطيع أن يكلمه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } الآية . قال : سوء العذاب في حياتك { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبل { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } وفي قوله : { وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ } قال : يوم القيامة .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

قوله : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } هذا منه سبحانه تزييف لرأي الكفار في استعجال العذاب بعد التزييف الأوّل : أي أخبروني إن أتاكم عذاب الله { بَيَاتًا } أي : وقت بيات ، والمراد به : الوقت الذي يبيتون فيه ، وينامون ويغفلون ، عن التحرز ، والبيات بمعنى التبييت اسم مصدر كالسلام بمعنى التسليم ، وهو منتصب على الظرفية ، وكذلك نهاراً : أي وقت الاشتغال بطلب المعاش والكسب ، والضمير في { منه } راجع إلى العذاب ، وقيل : راجع إلى الله ، والاستفهام في : { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } للإنكار المتضمن للنهي ، كما في قوله : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم : أن العذاب مكروه تنفر منه القلوب ، وتأباه الطبائع فما المقتضى لاستعجالهم له؟ والجملة المصدرة بالاستفهام جواب الشرط بحذف الفاء ، وقيل : إن الجواب محذوف ، والمعنى : تندموا على الاستعجال ، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه . وقيل : إن الجواب قوله : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ } وتكون جملة { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون } اعتراضاً ، والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان . والأوّل : أولى . وإنما قال : { يستعجل منه المجرمون } ، ولم يقل : يستعجلون منه؛ للدلالة على ما يوجب ترك الاستعجال ، وهو الإجرام؛ لأن من حقّ المجرم أن يخاف من العذاب بسبب إجرامه ، فكيف يستعجله؟ كما يقال لمن يستوخم أمراً إذا طلبه : ماذا تجني على نفسك . وحكى النحاس ، عن الزجاج ، أن الضمير في { مِنْهُ } إن عاد إلى العذاب كان لك في { مَاذَا } تقديران : أحدهما : أن تكون « ما » في موضع رفع بالابتداء ، و « ذا » بمعنى الذي ، وهو خبر ما ، والعائد محذوف . والتقدير الآخر : أن يكون { مَاذَا } اسماً واحداً في موضع رفع بالابتداء ، والخبر ما بعده ، وإن جعل الضمير في { مِنْهُ } عائداً إلى الله تعالى ، كان { مَاذَا } شيئاً واحداً في موضع نصب ب { يستعجل } ، والمعنى : أيّ شيء يستعجل منه المجرمون : أي من الله عزّ وجلّ .
ودخول الهمزة الاستفهامية في { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ } على ثم كدخولها على الواو والفاء ، وهي لإنكار إيمانهم ، حيث لا ينفع الإيمان ، وذلك بعد نزول العذاب ، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم ، وتفظيع ما فعلوه في غير وقته ، مع تركهم له في وقته الذي يحصل به النفع والدفع ، وهذه الجملة داخلة تحت القول المأمور به ، وجيء بكلمة « ثم » التي للتراخي؛ دلالة على الاستبعاد . وجيء ب { إذا } مع زيادة ما للتأكيد؛ دلالة على تحقق وقوع الإيمان منهم في غير وقته ، ليكون في ذلك زيادة استجهال لهم ، والمعنى : أبعد ما وقع عذاب الله عليكم ، وحلّ بكم سخطه وانتقامه آمنتم ، حين لا ينفعكم هذا الإيمان شيئاً ، ولا يدفع عنكم ضرّاً .

وقيل إن هذه الجملة : ليست داخلة تحت القول المأمور به ، وأنها من قول الملائكة استهزاء بهم ، وإزراء عليهم . والأول : أولى . وقيل : إن ثم هاهنا ، هي بفتح الثاء ، فتكون ظرفية بمعنى هناك . والأوّل : أولى .
قوله : { الآن وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } قيل : هو استئناف بتقدير القول ، غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ، أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم به وقد كنتم به تستعجلون : أي بالعذاب تكذيباً منكم واستهزاء؛ لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والاستهزاء ، ويكون المقصود بأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذا القول : التوبيخ لهم ، والاستهزاء بهم ، والإزراء عليهم ، وجملة { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } في محل نصب على الحال ، وقرىء : «آلان» بحذف الهمزة التي بعد اللام ، وإلقاء حركتها على اللام .
قوله : { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد } معطوف على الفعل المقدّر ، قيل : آلآن ، والمراد منه : التقريع والتوبيخ لهم : أي قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان : إن هذا الذي تطلبونه ضرر محض ، عار عن النفع من كل وجه ، والعاقل لا يطلب ذلك ، ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم : ذوقوا عذاب الخلد : أي العذاب الدائم الذي لا ينقطع ، والقائل لهم هذه المقالة ، والتي قبلها ، قيل : هم : الملائكة الذين هم : خزنة جهنم . ولا يبعد أن يكون القائل لذلك هم الأنبياء على الخصوص ، أو المؤمنون على العموم { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } في الحياة من الكفر والمعاصي . والاستفهام للتقرير ، وكأنه يقال لهم هذا القول عن استغاثتهم من العذاب ، وحلول النقمة .
ثم حكى الله سبحانه عنهم بعد هذه البيانات البالغة ، والجوابات عن أقوالهم الباطلة : أنهم استفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب ، فقال : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } أي : يستخبرونك عن جهة الاستهزاء منهم والإنكار ، أحق ما تعدنا به من العذاب في العاجل والآجل ، وهذا السؤال منهم جهل محض . وظلمات بعضها فوق بعض ، فقد تقدّم ذكره عنهم مع الجواب عليه ، فصنيعهم في هذا التكرير صنيع من لا يعقل ما يقول ، ولا يقال له؛ وقيل : المراد بهذا الاستخبار منهم هو : عن حقية القرآن ، وارتفاع حق على أنه خبر مقدّم . والمبتدأ هو الضمير الذي بعده ، وتقديم الخبر للاهتمام ، أو هو مبتدأ ، والضمير مرتفع به سادّ مسدّ الخبر ، والجملة في موضع نصب ب { يستنبئونك } ، وقرىء «آلحق هو» على أن اللام للجنس ، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل .
قوله : { قُلْ إِى وَرَبّى إِنَّهُ لَحَقٌّ } أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم هذه المقالة جواباً عن استفهامهم الخارج مخرج الاستهزاء ، أي قل لهم يا محمد غير ملتفت إلى ما هو مقصودهم من الاستهزاء : إي وربي إنه لحق ، أي نعم ، وربي إن ما أعدّكم به من العذاب لحق ثابت كائن لا محالة .

وفي هذا الجواب تأكيد من وجوه : الأوّل : القسم مع دخول الحرف الخاص بالقسم الواقع موقع نعم . الثاني : دخول إن المؤكدة؛ الثالث : اللام في لحق؛ الرابع : إسمية الجملة ، وذلك يدلّ على أنهم قد بلغوا في الإنكار والتمرّد إلى الغاية التي ليست وراءها غاية ، ثم توعدهم بأشدّ توعد ، ورهبهم بأعظم ترهيب ، فقال : { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي : فائتين العذاب بالهرب والتحيل الذي لا ينفع ، والمكابرة التي لا تدفع من قضاء الله شيئاً ، وهذه الجملة إما معطوفة على جملة جواب القسم ، أو مستأنفة لبيان عدم خلوصهم من عذاب الله بوجه من الوجوه .
ثم زاد في التأكيد ، فقال : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِى الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ } أي : ولو أن لكل نفس من الأنفس المتصفة بأنها ظلمت نفسها بالكفر بالله وعدم الإيمان به ما في الأرض ، من كل شيء من الأشياء التي تشتمل عليها من الأموال النفيسة ، والذخائر الفائقة لافتدت به : أي جعلته فدية لها من العذاب ، ومثله قوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الأرض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ } [ آل عمران : 91 ] وقد تقدّم قوله : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } الضمير راجع إلى الكفار ، الذين سياق الكلام معهم . وقيل : راجع إلى الأنفس المدلول عليها بكل نفس . ومعنى { أسروا } : أخفوا ، أي لم يظهروا الندامة بل أخفوها ، لما قد شاهدوه في ذلك الموطن مما سلب عقولهم ، وذهب بتجلدهم ، ويمكن أنه بقي فيهم ، وهم على تلك الحالة عرق ينزعهم إلى العصبية التي كانوا عليها في الدنيا ، فأسرّوا الندامة لئلا يشمت بهم المؤمنون ، وقيل : أسرّها الرؤساء فيما بينهم دون أتباعهم ، خوفاً من توبيخهم لهم ، لكونهم هم الذين أضلوهم ، وحالوا بينهم وبين الإسلام؛ ووقوع هذا منهم كان عند رؤية العذاب ، وأما بعد الدخول فيه فهم الذين : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } [ المؤمنون : 106 ] . وقيل : معنى { أسروا } : أظهروا . وقيل : وجدوا ألم الحسرة في قلوبهم؛ لأن الندامة لا يمكن إظهارها ، ومنه قول كثير :
فأسررت الندامة يوم نادى ... بردّ جمال عاضرة المنادى
وذكر المبرد في ذلك وجهين : الأوّل : أنها بدت في وجوههم أسرة الندامة ، وهي الإنكسار ، واحدها : سرار ، وجمعها : أسارير ، والثاني : ما تقدّم . وقيل معنى : { أَسَرُّواْ الندامة } أخلصوها؛ لأن إخفاءها إخلاصها ، و { لَّمّاً } في قوله : { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } ظرف بمعنى حين منصوب بأسرّوا ، أو حرف شرط جوابه محذوف للدلالة ما قبله عليه { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالقسط } أي : قضى الله بين المؤمنين وبين الكافرين ، أو بين الرؤساء والأتباع ، أو بين الظالمين من الكفار والمظلومين . وقيل : معنى القضاء بينهم : إنزال العقوبة عليهم ، والقسط : العدل ، وجملة { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } في محل نصب على الحال ، أي : لا يظلمهم الله فيما فعله بهم من العذاب الذي حلّ بهم ، فإنه بسبب ما كسبوا .

وجملة { أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السموات والأرض } مسوقة لتقرير كمال قدرته؛ لأن من ملك ما في السموات والأرض ، تصرف به كيف يشاء ، وغلب غير العقلاء لكونهم أكثر المخلوقات ، قيل : لما ذكر سبحانه افتداء الكفار بما في الأرض لو كان لهم ذلك بين أن الأشياء كلها لله ، وليس لهم شيء يتمكنون من الافتداء به . وقيل : لما أقسم على حقية ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، أراد أن يصحب ذلك بدليل البرهان البين بأن ما في العالم على اختلاف أنواعه ملكه ، يتصرّف به كيف يشاء ، وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه تنبيه للغافلين ، وإيقاظ للذاهلين ، ثم أكد ما سبق بقوله : { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : كائن لا محالة ، وهو عامّ يندرج فيه ما استعجلوه من العذاب اندراجاً أوّلياً ، وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، كما قلنا في التي قبلها مع الدلالة على تحقق مضمون الجملتين { ولكن أَكْثَرَ الناس } أي : الكفار { لاَّ يَعْلَمُونَ } ما فيه صلاحهم ، فيعملون به ، وما فيه فسادهم فيجتنبونه { هُوَ يُحْيىِ وَيُمِيتُ } يهب الحياة ويسلبها . { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الدار الآخرة ، فيجازي كلاً بما يستحقه ، ويتفضل على من يشاء من عباده .
قوله : { ياأيها الناس قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ } يعني : القرآن فيه ما يتعظ به من قرأه وعرف معناه ، والوعظ في الأصل : هو : التذكير بالعواقب سواء كان بالترغيب أو الترهيب ، والواعظ هو كالطبيب ينهى المريض عما يضرّه ، و { مِنْ } في { مّن رَّبّكُمْ } متعلقة بالفعل ، وهو { جاءتكم } ، فتكون ابتدائية ، أو متعلقة بمحذوف ، فتكون تبعيضية { وَشِفَاء لِمَا فِى الصدور } من الشكوك التي تعتري بعض المرتابين ، لوجود ما يستفاد منه في من العقائد الحقة ، واشتماله على تزييف العقائد الباطلة ، والهدى : الإرشاد لمن اتبع القرآن ، وتفكر فيه ، وتدبر معانيه إلى الطريق الموصلة إلى الجنة ، والرحمة : هي ما يوجد في الكتاب العزيز من الأمور التي يرحم الله بها عباده ، فيطلبها من أراد ذلك حتى ينالها ، فالقرآن العظيم مشتمل على هذه الأمور .
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل الخطاب معه بعد خطابه للناس على العموم ، فقال : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } المراد بالفضل من الله سبحانه : هو تفضله على عباده في الآجل والعاجل بما لا يحيط به الحصر ، والرحمة : رحمته لهم . وروي عن ابن عباس أنه قال : فضل الله : القرآن ، ورحمته : الإسلام . وروي عن الحسن والضحاك ، ومجاهد وقتادة ، أن فضل الله : الإيمان ، ورحمته : القرآن . والأولى : حمل الفضل والرحمة على العموم ، ويدخل في ذلك ما في القرآن منهما دخولاً أوّلياً ، وأصل الكلام : قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ، ثم حذف هذا الفعل لدلالة الثاني في قوله : { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } عليه ، قيل : والفاء في هذا الفعل المحذوف داخلة في جواب شرط مقدّر ، كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوا فضل الله ورحمته بالفرح .

وتكرير الباء في برحمته للدلالة على أن كل واحد من الفضل والرحمة سبب مستقلّ في الفرح ، والفرح : هو اللذة في القلب بسبب إدراك المطلوب ، وقد ذمّ الله سبحانه الفرح في مواطن كقوله : { لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } [ القصص : 76 ] وجوّزه في قوله : { فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ } [ آل عمران : 170 ] وكما في هذه الآية ، ويجوز أن تتعلق الباء في { بفضل الله وبرحمته } بقوله : { جَاءتْكُمُ } ، والتقدير : جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك : أي فبمجيئها ، فليفرحوا ، وقرأ يزيد بن القعقاع ويعقوب «فلتفرحوا» بالفوقية ، وقرأ الجمهور بالتحتية ، والضمير في { هو خير } راجع إلى المذكور من الفضل والرحمة ، أو إلى المجيء على الوجه الثاني ، أو إلى اسم الإشارة في قوله { فَبِذَلِكَ } والمعنى : أن هذا خير لهم مما يجمعون من حطام الدنيا . وقد قرىء بالتاء الفوقية في { يَجْمَعُونَ } مطابقة للقراءة بها في { فلتفرحوا } . وقد تقرّر في العربية أن لام الأمر تحذف مع الخطاب إلا في لغة قليلة ، جاءت هذه القراءة عليها ، قورأ الجمهور بالمثناة التحتية في يجمعون ، كما قرءوا في { فليفرحوا } . وروي عن ابن عامر أنه قرأ بالفوقية في " يجمعون " ، والتحتية في " فلتفرحوا " .
وقد أخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، عن أبي الأحوص ، قال : جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فوصف له الخمر ، فقال : سبحان الله! ما جعل الله في رجس شفاء ، إنما الشفاء في شيء من القرآن والعسل ، فهما شفاء لهما في الصدور ، وشفاء للناس . وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن ، قال : إن الله جعل القرآن شفاء لما في الصدور ، ولم يجعله شفاء لأمراضكم . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أشتكي صدري ، فقال : " اقرأ القرآن ، يقول الله : شفاء لما في الصدور " وأخرج البيهقي في شعب الإيمان ، عن واثلة بن الأسقع ، أن رجلاً شكا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وجع حلقه ، قال : " عليك بقراءة القرآن والعسل ، فالقرآن شفاء لما في الصدور ، والعسل شفاء من كل داء " . وأخرج أبو داود ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن أبيّ قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتاء يعني الفوقية ، وقد روى نحو هذا من غير هذه الطريق . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ } قال :

« بفضل الله : القرآن ، وبرحمته : أن جعلكم من أهله » وأخرج الطبراني في الأوسط ، عن البراء ، مثله من قوله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن أبي سعيد الخدري ، مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس ، في الآية قال : بكتاب الله بالإسلام . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عنه قال : فضله : الإسلام ، ورحمته : القرآن . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عنه أيضاً قال . بفضل الله : القرآن ، وبرحمته : حين جعلهم من أهله . وقد روي عن جماعة من التابعين نحو هذه الروايات المتقدّمة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، هو خير مما يجمعون من الأموال والحرث والأنعام .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)

أشار سبحانه بقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله } إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدّم في إثبات النبوّة ، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض ، وتحريم البعض ، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء ، مسلمهم وكافرهم ، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم ، فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله ، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده ، ومعنى { أرأيتم } : أخبروني ، و { مَا } في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني ، وقيل : إن { ما } في محل الرفع بالابتداء وخبرها { آلله أذن لكم } و { قل } في قوله : { قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ } تكرير للتأكيد والرابط محذوف ، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب ب { أرأيتم } والمعنى : أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق ، فجعلتم منه حراماً وحلالاً ، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه { أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } وعلى الوجهين ، فمن في { منه حراماً } للتبعيض ، والتقدير : فجعلتم بعضه حراماً وجعلتم بعضه حلالاً ، وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز؛ ومعنى إنزال الرزق : كون المطر ينزل من جهة العلوّ ، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى ، لكل شيء فيه . وروى عن الزجاج أن { ما } في موضع نصب ب { أنزل } ، وأنزل بمعنى خلق ، كما قال : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] { وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } [ الحديد : 25 ] وعلى هذا القول والقول الأوّل يكون قوله : { قُلِ الله أَذِنَ لَكُمْ } مستأنفاً ، قيل : ويجوز أن تكون الهمزة في { الله أَذِنَ لَكُمْ } للإنكار ، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله ، وإظهار الإسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء .
وفي هذه الآية الشريفة ما يصكّ مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته ، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه ، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله ، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي . ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم ، وجعلوه شارعاً مستقلاً . ما عمل به من الكتاب والسنة ، فهو المعمول به عندهم . وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه ، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه ، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد ، مع كون من قلدوه متعبّداً بهذه الشريعة ، كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها ، كما هو محكوم عليهم بها ، وقد اجتهد رأيه وأدّى ما عليه ، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة ، ودليلاً معمولاً به .

وقد أخطئوا في هذا خطأ بيناً . واغلطوا غلطاً فاحشاً . فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده ، ولا قائل من أهل الإسلام المعتمد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به ، وما جاء به المقلدة في تقوّم هذا الباطل ، فهو من الجهل العاطل ، اللهمّ كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل ، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير .
ثم قال : { وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة } أي : أيّ شيء ظنهم في هذا اليوم ، وما يصنع بهم فيه ، وهذه الجملة الاستفهامية المتضمنة لتعظيم الوعيد لهم غير داخلة تحت القول الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم ، بل مبتدأة مسوقة لبيان ما سيحلّ بهم من عذاب الله ، و { يوم القيامة } منصوب بالظنّ ، وذكر الكذب بعد الافتراء ، مع أن الافتراء لا يكون إلا كذباً لزيادة التأكيد . وقرأ عيسى بن عمر «وما ظنّ» على أنه فعل : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } يتفضل عليهم بأنواع النعم في الدنيا والآخرة { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } الله على نعمه الواصلة إليهم منه سبحانه في كل وقت من الأوقات ، وطرفة من الطرفات .
قوله : { وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، و " ما " نافية ، والشأن : الأمر بمعنى القصد ، وأصله الهمز ، وجمعه شؤون . قال الأخفش : تقول العرب : ما شأنت شأنه : أي ما عملت عمله : { وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآن } قال الفراء والزجاج : الضمير في منه يعود على الشأن ، والجار والمجرور صفة لمصدر محذوف : أي تلاوة كائنة منه ، إذ التلاوة للقرآن من أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم ؛ والمعنى : أنه يتلو من أجل الشأن الذي حدّث القرآن ، فيعلم كيف حكمه ، أو يتلو القرآن الذي ينزل في ذلك الشأن . وقال ابن جرير الطبري : الضمير عائد في { منه } إلى الكتاب : أي ما يكون من كتاب الله من قرآن ، وأعاده تفخيماً له كقوله : { إنني أَنَا الله } [ طه : 14 ] ، والخطاب في { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ } لرسول الله وللأمة ، وقيل : الخطاب لكفار قريش { إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُم شُهُوداً } استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال للمخاطبين : أي شهوداً عليكم بعمله منكم ، والضمير . في { فيه } من قوله : { تُفِيضُونَ فِيهِ } عائد على العمل ، يقال : أفاض فلان في الحديث والعمل : إذا اندفع فيه . وقال الضحاك : الضمير في { فيه } عائد على القرآن . والمعنى : إذ تشيعون في القرآن الكذب .
قوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِى السماء } قرأ الكسائي «يعزب» بكسر الزاي ، وقرأ الباقون بالضم وهما لغتان فصيحتان ، ومعنى يعزب : يغيب ، وقيل يبعد .

وقال ابن كيسان : يذهب ، وهذه المعاني متقاربة ، و « من » في { مِن مّثْقَالِ } زائدة للتأكيد : أي وما يغيب عن ربك وزن ذرة . أي : نملة حمراء ، وعبر بالأرض والسماء مع أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ، لا فيهما ولا فيما هو خارج عنهما ، لأن الناس لا يشاهدون سواهما وسوى ما فيهما من المخلوقات ، وقدّم الأرض على السماء؛ لأنها محل استقرار العالم فهم يشاهدون ما فيها من قرب ، والواو في { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ } لعطف على لفظ مثقال ، وانتصبا لكونهما ممتنعين ، ويجوز أن يكون العطف على ذرة؛ وقيل : انتصابهما بلا التي لنفي الجنس ، والواو للاستئناف ، وليس من متعلقات وما يعزب ، وخبر لا { إِلاَّ فِى كتاب } والمعنى : ولا أصغر من مثقال الذرّة ولا أكبر منه إلا وهو في كتاب مبين ، فكيف يغيب عنه؟ وقرأ يعقوب وحمزة برفع أصغر وأكبر ، ووجه ذلك أنه معطوف على محل من مثقال ، ومحله الرفع ، وقد أورد على توجيه النصب والرفع على العطف على لفظ مثقال ومحله ، أو على لفظ ذرّة إشكال ، وهو أنه يصير تقدير الآية : لا يعزب عنه شيء في الأرض ، ولا في السماء إلا في كتاب ، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وهو محال . وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة ، كخلق الملائكة والسموات والأرض؛ وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأوّل من حوادث عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية عن مرتبة الأوّل ، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده ، سبحانه شيء في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه صورة تلك المعلومات ، والغرض : الردّ على من يزعم أنه غير عالم بالجزئيات . وأجيب أيضاً بأن الاستثناء منقطع : أي لكن هو في كتاب مبين . وذكر أبو علي الجرجاني أن « إلا » بمعنى الواو ، على أن الكلام قد تمّ عند قوله : { وَلا أَكْبَرَ } ثم وقع الابتداء بقوله : { إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } أي : وهو أيضاً في كتاب مبين . والعرب قد تضع إلا موضع الواو ، ومنه قوله تعالى : { إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون * إَلاَّ مَن ظَلَمَ } [ النمل : 10 ، 11 ] يعني : ومن ظلم ، وقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } [ البقرة : 150 ] أي : والذين ظلموا ، وقدّر هو بعد الواو التي جاءت إلا بمعناها ، كما في قوله : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } [ البقرة : 58 ] أي : هي حطة ، ومثله : { وَلاَ تَقُولُواْ ثلاثة } [ النساء : 171 ] { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِى ظلمات الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . وقال الزجاج : إن الرفع على الابتداء في قراءة من قرأ بالرفع ، وخبره : { إِلاَّ فِى كتاب } واختاره صاحب الكشاف ، واختار في قراءة النصب التي قرأ بها الجمهور أنهما منصوبان بلا التي لنفي الجنس ، واستشكل العطف بنحو ما قدّمنا .

ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء ، وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين ، وكسر لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين ، فقال : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } الوليّ : في اللغة : القريب . والمراد بأولياء الله : خلص المؤمنين كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معصيته . وقد فسر سبحانه ، هؤلاء الأولياء بقوله : { الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } أي : يؤمنون بما يجب الإيمان به ، ويتقون ما يجب عليهم اتقاؤه من معاصي الله سبحانه ، والمراد بنفي الخوف عنهم : أنهم لا يخافون أبداً كما يخاف غيرهم؛ لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم ، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها ، فهم على ثقة من أنفسهم ، وحسن ظنّ بربهم ، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب ، لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله وقدره ، فيسلمون للقضاء والقدر ، ويريحون قلوبهم عن الهمّ والكدر ، فصدورهم منشرحة ، وجوارحهم نشطة ، وقلوبهم مسرورة ، ومحل الموصول النصب على أنه بدل من أولياء أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أو هو مبتدأ وخبره لهم البشرى ، فيكون غير متصل بما قبله ، أو النصب أيضاً على المدح ، أو على أنه وصف لأولياء .
قوله : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الآخرة } تفسير لمعنى كونهم أولياء الله : أي لهم البشرى من الله ما داموا في الحياة بما يوحيه إلى أنبيائه ، وينزله في كتبه ، من كون حال المؤمنين عنده هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم ، كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم ، وكذلك ما يحصل لهم من الرؤيا الصالحة ، وما يتفضل الله به عليهم من إجابة دعائهم ، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم : لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة؛ وأما البشرى في الآخرة ، فتلقى الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعيم والسلامة من العذاب . والبشرى مصدر أريد به المبشر به ، والظرفان في محل نصب على الحال : أي حال كونهم في الدنيا ، وحال كونهم في الآخرة ، ومعنى : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } لا تغيير لأقواله على العموم ، فيدخل فيها ما وعد به عباده الصالحين دخولاً أوّلياً ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى المذكور قبله من كونهم مبشرين بالبشارتين في الدارين { هُوَ الفوز العظيم } الذي لا يقادر قدره ، ولا يماثله غيره ، والجملتان : أعني { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } و { ذلك هُوَ الفوز العظيم } اعتراض في آخر الكلام عند من يجوّزه ، وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه ، أو الأولى : اعتراضية ، والثانية : تذييلية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مّن رّزْقٍ } قال : هم أهل الشرك كانوا يحلون من الأنعام والحرث ، ما شاءوا ويحرّمون ما شاءوا .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، في قوله : { إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } قال : إذ تفعلون . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، عن مجاهد ، مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ } قال : لا يغيب عنه وزن ذرّة { وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } قال : هو الكتاب الذي عند الله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله } قيل : من هم يا ربّ؟ قال : هم { الذين آمنوا وكانوا يتقون } . وأخرج أبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال : هم الذين إذا رؤوا ذكر الله . وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، مرفوعاً وموقوفاً قال : هم الذين إذا رؤوا يذكر الله لرؤيتهم . وأخرج عنه ابن المبارك ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه مرفوعاً ، مثله . وأخرجه ابن المبارك ، وابن شيبة ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن سعيد بن جبير ، مرفوعاً وهو مرسل . وروي نحوه من طرق أخرى مرفوعاً وموقوفاً . وأخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، عن عمرو بن الجموح ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحقّ العبد حقّ صريح الإيمان حتى يحبّ لله ويبغض لله ، فإذا أحبّ لله وأبغض لله فقد استحقّ الولاء من الله ، وإنّ أوليائي من عبادي وأحبائي من خلقي الذين يذكرون بذكري وأذكر بذكرهم » وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم : « خيار عباد الله الذين إذا رؤوا ذكر الله ، وشرار عباده المشاءون بالنميمة المفرّقون بين الأحبة الباغون البرآء العنت » وأخرج الحكيم الترمذي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خياركم من ذكركم الله رؤيته ، وزاد في علمكم منطقه ، ورغبكم في الآخرة عمله » وأخرج الحكيم الترمذي ، عن ابن عباس ، مرفوعاً نحوه . وأخرج الحاكم وصححه ، عن ابن عمر ، مرفوعاً : « إن لله عباداً ليسوا بالأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء يوم القيامة بقربهم ومجلسهم منه » ، فجثا أعرابي على ركبتيه فقال : يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا؟ قال : « قوم من أفناء الناس من نزاع القبائل ، تصافوا في الله وتحابوا في الله ، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم . يخاف الناس ولا يخافون ، هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون »

وأخرج أبو داود ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه . قال ابن كثير : وإسناده جيد . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج أحمد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي مالك الأشعري مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن أبي هريرة ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله } الآية فقال : « الذين يتحابون في الله » وأخرج ابن مردويه ، عن جابر ، مرفوعاً مثله . وقد ورد في فضل المتحابين في الله أحاديث ليس فيها أنهم المرادون بالآية .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، والحكيم في نوادر الأصول ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مرودويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن عطاء بن يسار ، عن رجل من أهل مصر قال : سألت أبا الدرداء عن معنى قوله : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } فقال : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت عليّ : هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم ، أو ترى له ، فهي بشراه في الحياة الدنيا ، وبشراه في الآخرة الجنة » ، وفي إسناده هذا الرجل المجهول . وأخرج أبو داود الطيالسي ، وأحمد ، والدارمي ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن عبادة بن الصامت قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } قال : « هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له » وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } قال : « الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة ، فمن رأى ذلك فليخبر بها » الحديث . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قال : « هي في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له ، وفي الآخرة الجنة » وأخرج ابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن منده ، من طريق أبي جعفر ، عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر البشرى في الحياة الدنيا بالرؤيا الحبيبة ، وفي الآخرة ببشارة المؤمن عند الموت : إن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك .

وأخرج ابن مردويه ، عنه ، مرفوعاً مثل حديث جابر . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، مرفوعاً الشطر الأوّل من حديث جابر . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن ابن عباس ، مثله . وقد وردت أحاديث صحيحة بأن الرؤيا الصالحة من المبشرات ، وأنها جزء من أجزاء النبوّة ، ولكنها لم تقيد بتفسير هذه الآية . وقد روي أن المراد بالبشرى في الآية هي قوله : { وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً } [ الأحزاب : 47 ] أخرج ذلك ابن جرير ، وابن المنذر ، من طريق عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس . وأخرج ابن المنذر ، عنه ، من طريق مقسم أنها قوله : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } [ فصلت : 30 ] . وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، والبيهقي عن نافع ، قال : خطب الحجاج فقال : إن ابن الزبير بدّل كتاب الله ، فقال ابن عمر : لا تستطيع ذلك أنت ولا ابن الزبير ، { لا تبديل لكلمات الله } .

وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)

قوله : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } : نهى للنبي صلى الله عليه وسلم عن الحزن من قول الكفار المتضمن : للطعن عليه وتكذيبه ، والقدح في دينه . والمقصود : التسلية له والتبشير . ثم استأنف سبحانه الكلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معللاً لما ذكره من النهي لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } أي : الغلبة والقهر له في مملكته وسلطانه ، ليست لأحد من عباده ، وإذا كان ذلك كله له ، فكيف يقدرون عليك حتى تحزن لأقوالهم الكاذبة ، وهم لا يملكون من الغلبة شيئاً . وقرىء «يحزنك» من أحزنه . وقرىء «أن العزة» بفتح الهمزة على معنى ، لأن العزّة لله ، ولا ينافي ما في هذه الآية من جعل العزّة جميعها لله تعالى قوله سبحانه : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] لأن كل عزّة بالله ، فهي : كلها لله . ومنه قوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] .
{ أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض } ومن جملتهم هؤلاء المشركون المعاصرون للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كانوا في ملكه يتصرّف فيهم كيف يشاء ، فكيف يستطيعون أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يأذن الله به ، وغلب العقلاء على غيرهم؛ لكونهم أشرف . وفي الآية نعي على عباد البشر ، والملائكة والجمادات؛ لأنهم عبدوا المملوك ، وتركوا المالك ، وذلك مخالف لما يوجبه العقل ، ولهذا عقبه بقوله : { وَمَا يَتَّبِعُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله شُرَكَاء } والمعنى : أنهم وإن سموا معبوداتهم شركاء لله ، فليست شركاء له على الحقيقة ، لأن ذلك محال : { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] و " ما " في و { ما يتبع } نافية وشركاء مفعول يتبع ، وعلى هذا يكون مفعول يدعون محذوفاً ، والأصل : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة : إنما هي : أسماء لا مسميات لها ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، ويجوز أن يكون المذكور مفعول { يدعون } ، وحذف مفعول يتبع لدلالة المذكور عليه ، ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى : أيّ شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء ، ويكون على هذا الوجه { شركاء } منصوباً ب { يدعون } ، والكلام خارج مخرج التوبيخ لهم ، والإزراء عليهم . ويجوز أن تكون " ما " موصولة معطوفة على { من في السموات } : أي لله من في السموات ، ومن في الأرض ، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء؛ والمعنى : أن الله مالك لمعبوداتهم لكونها من جملة من في السموات ومن في الأرض . ثم زاد سبحانه في تأكيد الردّ عليهم ، والدفع لأقوالهم ، فقال : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } أي : ما يتبعون يقيناً إنما يتبعون ظناً ، والظنّ لا يغني من الحق شيئاً { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي : يقدرون أنهم شركاء تقديراً باطلاً ، وكذباً بحتاً ، وقد تقدّمت هذه الآية في الأنعام .

ثم ذكر سبحانه طرفاً من آثار قدرته مع الامتنان على عباده ببعض نعمه ، فقال : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً } أي : جعل لعباده الزمان منقسماً إلى قسمين : أحدهما : مظلم وهو : الليل؛ لأجل يسكن العباد فيه عن الحركة والتعب ، ويريحون أنفسهم عن الكدّ والكسب . والآخر : مبصر ، لأجل يسعون فيه بما يعود على نفعهم ، وتوفير معايشهم ، ويحصلون ما يحتاجون إليه في وقت مضيء منير ، لا يخفى عليهم فيه كبير ولا حقير ، وجعله سبحانه للنهار مبصراً مجاز . والمعنى : أنه مبصر صاحبه كقولهم : نهاره صائم ، والإشارة بقوله : { إِنَّ فِى ذَلِكَ } إلى الجعل المذكور { لآيَاتٍ } عجيبة كثيرة { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : يسمعون ما يتلى عليهم من الآيات التنزيلية المنبهة على الآيات التكوينية مما ذكره الله سبحانه هاهنا منها ، ومن غيرها مما لم يذكره ، فعند السماع منهم لذلك يتفكرون ويعتبرون ، فيكون ذلك من أعظم أسباب الإيمان .
قوله : { قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سبحانه هُوَ الغني } هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها ، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولداً ، فردّ ذلك عليهم بقوله : { سبحانه هُوَ الغني } فتنزّه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين ، وبين أنه غنيّ عن ذلك ، وأن الولد إنما يطلب للحاجة . والغنيّ المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها ، وإذا انتفت الحاجة انتفى الولد ، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ، ليقوم الولد مقامه ، والأزليّ القديم لا يفتقر إلى ذلك . وقد تقدّم تفسير الآية في البقرة . ثم بالغ في الردّ عليهم بما هو كالبرهان ، فقال : { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } ، وإذا كان الكل له ، وفي ملكه ، فلا يصح أن يكون شيء مما فيهما ولداً له للمنافاة بين الملك والبنوّة والأبوّة . ثم زيف دعواهم الباطلة وبين أنها بلا دليل فقال : { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا } أي : ماعندكم من حجة وبرهان بهذا القول الذي تم لونه ، و«من» في : { مّن سلطان } زائدة للتأكيد ، والجار والمجرور في { بهذا } متعلق إما بسلطان ، لأنه بمعنى الحجة والبرهان ، أو متعلق بما عندكم لما فيه من معنى الاستقرار . ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء فقال : { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْمَلُونَ } ، ويستفاد من هذا أن كل قول لا دليل عليه ، ليس هو من العلم في شيء ، بل من الجهل المحض .
ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم قولاً يدلّ على أن ما قالوه كذب ، وأن من كذب على الله لا يفلح ، فقال : { قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } أي : كل مفتر هذا شأنه ، ويدخل فيه هؤلاء دخولاً أوّلياً .

وذكر الكذب مع الافتراء للتأكيد كما سبق في مواضع من الكتاب العزيز . والمعنى : أن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم لا يفوزون بمطلب من المطالب . ثم بين سبحانه أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة ، فهو متاع قليل في الدنيا ، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله ، فيعذب المفتري عذاباً مؤبّداً . فيكون { متاع } خبر مبتدأ محذوف ، والجملة مستأنفة لبيان أن ما يحصل للمفترى بافترائه ليس بفائدة يعتدّ بها ، بل هو متاع يسير في الدنيا ، يتعقبه العذاب الشديد بسبب الكفر الحاصل بأسباب من جملتها الكذب على الله . وقال الأخفش : إن التقدير : لهم متاع في الدنيا ، فيكون المحذوف على هذا هو الخبر . وقال الكسائي : التقدير ذلك متاع أو هو متاع ، فيكون المحذوف على هذا هو المبتدأ .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : في قوله تعالى : { وَلاَ يَحْزُنكَ } : لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله وأقاموا على كفرهم ، كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه من الله فيما يعاتبه : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً هُوَ السميع العليم } يسمع ما يقولون ويعلمه ، فلو شاء بعزّته لانتصر منهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { والنهار مُبْصِراً } قال : منيراً . وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن ، في قوله : { إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا } يقول : ما عندكم سلطان بهذا .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

لما بالغ سبحانه في تقرير البراهين الواضحة ودفع الشبهة المنهارة؛ شرع في ذكر قصص الأنبياء ، لما في ذلك من التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { واتل عَلَيْهِمْ } أي : على الكفار المعاصرين لك ، المعارضين لما جئت به بأقوالهم الباطلة { نَبَأَ نُوحٍ } أي : خبره ، والنبأ هو الخبر الذي له خطر وشأن ، والمراد : ما جرى له مع قومه الذين كفروا بما جاء به ، كما فعله كفار قريش وأمثالهم : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } أي : وقت قال لقومه ، والظرف منصوب بنبأ أو بدل منه بدل اشتمال ، واللام في { لِقَوْمِهِ } لام التبليغ { ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِى } أي : عظم وثقل ، والمقام بفتح الميم : الموضع الذي يقام فيه ، وبالضم الإقامة . وقد اتفق القراء على الفتح ، وكنى بالمقام عن نفسه كما يقال فعلته لمكان فلان : أي لأجله . ومنه : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } [ الرحمن : 46 ] أي : خاف ربه ، ويجوز أن يراد بالمقام : المكث : أي : شقّ عليكم مكثي بين أظهركم ، ويجوز أن يراد بالمقام : القيام؛ لأن الواعظ يقوم حال وعظه؛ والمعنى : إن كان كبر عليكم قيامي بالوعظ في مواطن اجتماعكم ، وكبر عليكم تذكيري لكم { بِآيَاتِ الله } التكوينية والتنزيلية ، { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } هذه الجملة جواب الشرط ، والمعنى : إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله ، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديماً وحديثاً . ويجوز أن يريد إحداث مرتبة مخصوصة عن مراتب التوكل ، ويجوز أن يكون جواب الشرط { فَأَجْمِعُواْ } وجملة { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } اعتراض ، كقولك : إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي . ومعنى : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ } اعتزموا عليه ، من أجمع الأمر : إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء : وروي عن الفراء أنه قال : أجمع الشيء : أعدّه ، وقال مؤرّج السدوسي : أجمع الأمر أفصح من أجمع عليه ، وأنشد :
يا ليت شعري والمنى لا تنفع ... هل أغدون يوماً وأمري مجمع
وقال أبو الهيثم : أجمع أمره : جعله جميعاً بعدما كان متفرّقاً ، وتفرّقه أن تقول مرّة أفعل كذا ، ومرّة أفعل كذا ، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه : أي جعله جميعاً ، فهذا هو الأصل في الإجماع ، ثم صار بمعنى العزم ، وقد اتفق جمهور القراء على نصب «شركاءكم» وقطع الهمزة من أجمعوا . وقرأ يعقوب ، وعاصم الجحدري بهمزة وصل في { أجمعوا } ، على أنه من جمع يجمع جمعاً . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب «وشركاؤكم» بالرفع . قال النحاس : وفي نصب الشركاء على قراءة الجمهور ثلاثة أوجه : الأوّل : بمعنى : وادعوا شركاءكم ، قاله : الكسائي والفراء ، أي ادعوهم لنصرتكم ، فهو على هذا منصوب بفعل مضمر . وقال محمد بن يزيد المبرد : هو معطوف على المعنى ، كما قال الشاعر :

يا ليت زوجك في الوغى ... متقلداً سيفاً ورمحاً
والرمح لا يتقلد به ، لكنه محمول كالسيف . وقال الزجاج : المعنى مع شركائكم ، فالواو على هذا واو مع . وأما على قراءة " اجمعوا " بهمزة وصل فالعطف ظاهر : أي اجمعوا أمركم ، واجمعوا شركاءكم . وأما توجيه قراءة الرفع ، فعلى عطف الشركاء على الضمير المرفوع في { أجمعوا } ، وحسن هذا العطف مع عدم التأكيد بمنفصل كما هو المعتبر في ذلك أن الكلام قد طال . قال النحاس وغيره : وهذه القراءة بعيدة؛ لأنه لو كان { شركاءكم } مرفوعاً لرسم في المصحف بالواو ، وليس ذلك موجوداً فيه ، قال المهدوي : ويجوز أن يرتفع الشركاء بالابتداء ، والخبر محذوف : أي وشركاؤكم ليجمعوا أمرهم ، ونسبة ذلك إلى الشركاء مع كون الأصنام لا تعقل ، لقصد التوبيخ ، والتقريع لمن عبدها . وروي عن أبيّ أنه قرأ : «وادعوا شركاءكم» بإظهار الفعل . قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } الغمة : التغطية من قولهم ، غمّ الهلال : إذا استتر ، أي : ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً ، قال طرفة :
لعمرك ما أمري عليّ بغمة ... نهاري ولا ليلي عليّ بسرمد
هكذا قال الزجاج ، وقال الهيثم : معناه لا يكن أمركم عليكم مبهماً . وقيل : إن الغمة : ضيق الأمر ، كذا روي عن أبي عبيدة . والمعنى : لا يكن أمركم عليكم بمصاحبتي والمجاملة لي ضيقاً شديداً ، بل ادفعوا هذا الضيق والشدّة بما شئتم ، وقدرتم عليه ، وعلى الوجهين الأوّلين : يكون المراد بالأمر الثاني هو الأمر الأول ، وعلى الثالث : يكون المراد به غيره . قوله : { ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } أي ذلك الأمر الذي تريدونه بي ، وأصل اقضوا : من القضاء ، وهو الإحكام ، والمعنى : أحكموا ذلك الأمر . قال الأخفش والكسائي : هو مثل : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] أي أنهيناه إليه وأبلغناه إياه ، ثم { لا تنظرون } : أي لا تمهلون ، بل عجلوا أمركم واصنعوا ما بدا لكم ، وقيل معناه : ثم امضوا إليّ ولا تؤخرون ، قال النحاس : هذا قول صحيح في اللغة ، ومنه قضى الميت : مضى ، وحكى الفراء عن بعض القراء أنه قرأ «ثم أفضوا» بالفاء وقطع الهمزة ، أي توجهوا ، وفي هذا الكلام من نوح عليه السلام ما يدلّ على وثوقه بنصر ربه ، وعدم مبالاته بما يتوعده به قومه .
ثم بيّن لهم أن كل ما أتى به إليهم من الإعذار والإنذار ، وتبليغ الشريعة عن الله ، ليس هو لطمع دنيويّ ، ولا لغرض خسيس ، فقال : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ } أي : إن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم ، وتذكيري إياكم ، فما سألتكم في مقابلة ذلك من أجر تؤدّونه إليّ حتى تتهموني فيما جئت به ، والفاء في { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والفاء في { فَمَا سَأَلْتُكُمْ } جزائية { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } أي : ما ثوابي في النصح والتذكير إلا عليه سبحانه ، فهو يثيبني آمنتم أو توليتم .

قرأ أهل المدينة ، وأبو عمر ، وابن عامر ، وحفص ، بتحريك الياء من { أجري } ، وقرأ الباقون بالسكون { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } المنقادين لحكم الله الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه ، لا يأخذون عليها أجراً ولا يطمعون في عاجل .
قوله : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الفلك } أي : استمروا على تكذيبه أصرّوا على ذلك ، وليس المراد أنهم أحدثوا تكذيبه بعد أن لم يكن ، والمراد بمن معه : من قد أجابه وصار على دينه ، والخلائف جمع خليفة ، والمعنى : أنه سبحانه جعلهم خلفاء يسكنون الأرض التي كانت للمهلكين بالغرق ، ويخلفونهم فيها { وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } من الكفار المعاندين لنوح ، الذين لم يؤمنوا به أغرقهم الله بالطوفان { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتهديد للمشركين ، وتهويل عليهم .
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد نوح { رُسُلاً } كهود وصالح ، وإبراهيم ولوط ، وشعيب { فَجَاءوهُم بالبينات } أي : بالمعجزات وبما أرسلهم الله به من الشرائع التي شرعها الله لقوم كل نبيّ { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } أي : فما أحدثوا الإيمان بل استمرّوا على الكفر وأصرّوا عليه ، والمعنى : أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام الذين أرسل الله إليهم رسله أن يؤمنوا في وقت من الأوقات { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي : من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجيء الرسل إليهم ، والمعنى : أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا عند أن أرسل الله إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم؛ لأنهم كانوا غير مؤمنين ، بل مكذبين بالدين ، ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولاً ، وهذا مبنيّ على أن الضمير في { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } وفي : { بِمَا كَذَّبُواْ } راجع إلى القوم المذكورين في قوله : { إلى قَوْمِهِمْ } وقيل : ضمير { كذبوا } راجع إلى قوم نوح : أي فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام الذين جاءوا من بعدهم { وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } وقيل : إن الباء في { بما كذبوا به من قبل } للسببية ، أي فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب الحق من قبل مجيئهم ، وفيه نظر . وقيل المعنى : بما كذبوا به من قبل : أي في عالم الذرّ فإن فيهم من كذب بقلبه ، وإن آمنوا ظاهراً . قال النحاس : ومن أحسن ما قيل : إنه لقوم بأعيانهم { كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين } أي : مثل ذلك الطبع العظيم نطبع على قلوب المتجاوزين للحدّ المعهود في الكفر ، وقد تقدّم تفسير هذا في غير موضع .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن الأعرج ، في قوله : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ } يقول : فأحكموا أمركم ، وادعوا شركاءكم . وأخرج أيضاً عن الحسن في الآية أي : فليجمعوا أمرهم معكم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } قال : لا يكبر عليكم أمركم { ثُمَّ اقضوا } ما أنتم قاضون . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { ثُمَّ اقضوا } قال : انهضوا { إِلَىَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } يقول : ولا تؤخرون .

ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } معطوف على قوله : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً } والضمير في : { من بعدهم } ، راجع إلى الرسل المتقدّم ذكرهم ، وخصّ موسى وهارون بالذكر مع دخولهما تحت الرسل لمزيد شرفهما ، وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون ، والمراد بالملأ : الأشراف ، والمراد بالآيات : المعجزات ، وهي التسع المذكورة في الكتاب العزيز { فاستكبروا } عن قبولها ، ولم يتواضعوا لها ، ويذعنوا لما اشتملت عليه من المعجزات الموجبة لتصديق ما جاء بها . { وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : كانوا ذوي إجرام عظام ، وآثام كبيرة ، فبسبب ذلك اجترءوا على ردّها؛ لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق ، وإبصار الصواب . قيل : وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها .
قوله : { فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : فلما جاء فرعون وملأه الحق من عند الله ، وهو : المعجزات ، لم يؤمنوا بها بل حملوها على السحر مكابرة منهم ، فردّ عليهم موسى قائلاً : { أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هذا } قيل : في الكلام حذف ، والتقدير : أتقولون للحقّ سحر فلا تقولوا ذلك ، ثم استأنف إنكاراً آخر من جهة نفسه فقال : { أَسِحْرٌ هذا } فحذف قولهم الأوّل اكتفاء بالثاني ، والملجىء إلى هذا أنهم لم يستفهموه عن السحر حتى يحكي ما قالوه بقوله : { أَسِحْرٌ هذا } بل هم قاطعون بأنه سحر؛ لأنهم قالوا : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } فحينئذ لا يكون قوله : { أَسِحْرٌ هذا } من قولهم ، وقال الأخفش : هو من قولهم ، وفيه نظر لما قدّمنا ، وقيل معنى : { أَتَقُولُونَ } : أتعيبون الحقّ وتطعنون فيه ، وكان عليكم أن تذعنوا له ، ثم قال أسحر هذا ، منكراً لما قالوه . وقيل : إن مفعول { أَتَقُولُونَ } محذوف ، وهو ما دلّ عليه قولهم : { إِنَّ هذا لساحر } والتقدير : أتقولون ما تقولون ، يعني : قولهم إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل : أسحر هذا ، وعلى هذا التقدير والتقدير الأوّل فتكون جملة { أَسِحْرٌ هذا } مستأنفة من جهة موسى عليه السلام ، والاستفهام : للتقريع والتوبيخ ، بعد الجملة الأولى المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا قال لهم موسى لما قالوا إن هذا لسحر مبين؟ فقيل : قال : أتقولون للحق لما جاءكم ، على طريقة الاستفهام الإنكاري ، والمعنى : أتقولون للحق لما جاءكم إنّ هذا لسحر مبين ، وهو أبعد شيء من السحر . ثم أنكر عليهم ، وقرّعهم ، ووبخهم ، فقال : { أَسِحْرٌ هذا } فجاء موسى عليه السلام بإنكار بعد إنكار ، وتوبيخ بعد توبيخ ، وتجهيل بعد تجهيل ، وجملة : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } في محل نصب على الحال : أي أتقولون للحق إنه سحر ، والحال : أنه لا يفلح الساحرون ، فلا يظفرون بمطلوب ، ولا يفوزون بخير ، ولا ينجون من مكروه ، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند الله ، وقد أيده بالمعجزات والبراهين الواضحة؟
وجملة : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال؟ وفي هذا ما يدلّ على أنهم انقطعوا عن الدليل ، وعجزوا عن إبراز الحجة ، ولم يجحدوا ما يجيبون به عما أورده عليهم ، بل لجئوا إلى ما يلجأ إليه أهل الجهل والبلادة ، وهو : الاحتجاج بما كان عليه آباؤهم من الكفر ، وضموا إلى ذلك ما هو غرضهم وغاية مطلبهم ، وسبب مكابرتهم للحق ، وجحودهم للآيات البينة ، وهو الرياسة الدنيوية التي خافوا عليها ، وظنوا أنها ستذهب عنهم إن آمنوا ، وكم بقي على الباطل ، وهو يعلم أنه باطل بهذه الذريعة من طوائف هذا العالم في سابق الدهر ولاحقه ، فمنهم من حبسه ذلك عن الخروج من الكفر ، ومنهم من حبسه عن الخروج إلى السنة من البدعة ، وإلى الرواية الصحيحة من الرأي البحت ، يقال : لفته لفتاً : إذا صرفه عن الشيء ولواه عنه ، ومنه قول الشاعر :

تلفت نحو الحيّ حتى رأيتني ... وجعت من الإصغاء ليتاً وأخدعا
أي : تريد أن تصرفنا عن الشيء الذي وجدنا عليه آباءنا ، وهو عبادة الأصنام ، والمراد بالكبرياء : الملك ، قال الزجاج : سمي الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا؛ وقيل سمي بذلك؛ لأن الملك يتكبر .
والحاصل : أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد للآباء ، والحرص على الرياسة الدنيوية؛ لأنهم إذا أجابوا النبي وصدّقوه صارت مقاليد أمر أمته إليه ولم يبق للملك رئاسة تامة؛ لأن التدبير للناس بالدين يرفع تدبير الملوك هم بالسياسات والعادات ، ثم قالوا : { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } تصريحاً منهم بالتكذيب ، وقطعاً للطمع في إيمانهم ، وقد أفرد الخطاب لموسى في قولهم : { أجئتنا لتلفتنا } ، ثم جمعوا بينه وبين هارون في الخطاب في قولهم : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ووجه ذلك أنهم أسندوا المجيء والصرف عن طريق آبائهم إلى موسى ، لكونه المقصود بالرسالة المبلغ عن الله ما شرعه لهم ، وجمعوا بينهما في الضميرين الآخرين؛ لأن الكبرياء شامل لهما في زعمهم ، ولكون ترك الإيمان بموسى يستلزم ترك الإيمان بهارون ، وقد مرّت القصة في الأعراف .
قوله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتونى بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ } قال هكذا لما رأى اليد البيضاء والعصا ، لأنه اعتقد أنهما من السحر ، فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم ، هكذا قرأ حمزة والكسائي ، وابن وثاب ، والأعمش «سحار» . وقرأ الباقون : { ساحر } وقد تقدّم الكلام على هذا في الأعراف ، والسحار صيغة مبالغة : أي كثير السحر ، كثير العلم بعمله وأنواعه { فَلَمَّا جَاء السحرة } في الكلام حذف ، والتقدير هكذا : وقال فرعون ائتوني بكل سحار عليم ، فأتوا بهم إليه ، فلما جاء السحرة ، فتكون الفاء للعطف على المقدّر المحذوف .

قوله : { قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ } أي : قال لهم هذه المقالة بعد أن قالوا له : إما أن تلقي ، وإما أن نكون نحن الملقون : أي اطرحوا على الأرض ما معكم من حبالكم وعصيكم { فَلَمَّا أَلْقُوْاْ } ما ألقوه من ذلك { قَالَ } لهم { موسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر } أي : الذي جئتم به السحر ، على أن " ما " موصولة مبتدأ والخبر السحر؛ والمعنى : أنه سحر ، لا أنه آية من آيات الله . وأجاز الفراء نصب السحر ب { جئتم } ، وتكون " ما " شرطية ، والشرط : " جئتم " ، والجزاء : { إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ } على تقدير الفاء : أي فإن الله سيبطله؛ وقيل : إن السحر منتصب على المصدر : أي ما جئتم به سحراً ، ثم دخلت الألف واللام ، فلا يحتاج على هذا إلى حذف الفاء ، واختاره النحاس . وقال : حذف الفاء في المجازاة لا يجيزه كثير من النحويين إلا في ضرورة الشعر . وقرأ أبو عمرو ، وأبو جعفر «آلسحر» على أن الهمزة للاستفهام ، والتقدير : أهو السحر ، فتكون " ما " على هذه القراءة استفهامية . وقرأ أبيّ «ما أتيتم به سحر إن الله سيبطله» أي : سيمحقه ، فيصير باطلاً بما يظهره على يديّ من الآيات المعجزة { إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين } أي : عمل هذا الجنس ، فيشمل كل من يصدق عليه أنه مفسد ، ويدخل فيه السحر والسحرة دخولاً أوّلياً ، والواو في { وَيُحِقُّ الله الحق } للعطف على سيبطله ، أي يبينه ويوضحه { بكلماته } التي أنزلها في كتبه على أنبيائه ، لاشتمالها على الحجج والبراهين { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } من آل فرعون ، أو المجرمون على العموم ، ويدخل تحتهم آل فرعون دخولاً أوّلياً ، والإجرام : الآثام .
قوله : { فَمَا ءامَنَ لموسى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } الضمير يرجع إلى موسى : أي من قوم موسى ، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل . وقيل : المراد : طائفة من ذراري فرعون ، فيكون الضمير عائداً على فرعون . قيل : ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته ، وماشطة ابنته ، وامرأة خازنه . وقيل : هم قوم آباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل ، روي هذا عن الفراء { على خَوْفٍ مّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِم } الضمير لفرعون ، وجمع لأنه لما كان جباراً جمعوا ضميره تعظيماً له . وقيل : إن قوم فرعون سموا بفرعون مثل ثمود ، فرجع الضمير إليهم بهذا الاعتبار . وقيل : إنه عائد على مضاف محذوف ، والتقدير : على خوف من آل فرعون ، وروي هذا عن الفراء . ومنع ذلك الخليل ، وسيبويه ، فلا يجوز عندهما : قامت هند وأنت تريد غلامها . وروي عن الأخفش أن الضمير يعود على الذرية ، وقوّاه النحاس : { أَن يَفْتِنَهُمْ } أي : يصرفهم عن دينهم بالعذاب الذي كان ينزله بهم ، وهو بدل اشتمال . ويجوز أن يكون في موضع نصب بالمصدر { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض } أي : عات متكبر ، متغلب على أرض مصر { وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين } المجاوزين للحد في الكفر ، وما يفعله من القتل والصلب ، وتنويع العقوبات .

قوله : { وَقَالَ موسى يا قَوْمٍ إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ } قيل : إن هذا من باب التكرير للشرط ، فشرط في التوكل على الله الإيمان به والإسلام : أي الاستسلام لقضائه وقدره . وقيل : إن هذا ليس من تعليق الحكم بشرطين بل المعلق بالإيمان هو وجوب التوكل ، والمشروط بالإسلام وجوده ، والمعنى : أن يسلموا أنفسهم لله : أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها؛ لأن التوكل لا يكون مع التخليط . قال في الكشاف : ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه ، إن كانت لك به قوّة { فَقَالُواْ } أي : قوم موسى مجيبين له { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } ثم دعوا الله مخلصين ، فقالوا : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً } أي : موضع فتنة { لّلْقَوْمِ الظالمين } والمعنى : لا تسلطهم علينا ، فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا ، ولا تجعلنا فتنة لهم ، يفتنون بنا غيرنا ، فيقولون لهم : لو كان هؤلاء على حق لما سلطنا عليهم وعذبناهم ، وعلى المعنى الأوّل : تكون الفتنة بمعنى المفتون . ولما قدّموا التضرّع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد ، أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم ، فقالوا : { وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين } وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم .
قوله : { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا } « أن » هي المفسرة لأن في الإيحاء معنى القول أن تبوّآ : أي : اتخذوا لقومكما بمصر بيوتاً؛ يقال : بوّأت زيداً مكاناً ، وبوّأت لزيد مكاناً ، والمبوأ : المنزل الملزوم ، ومنه بوّأه الله منزلاً : أي ألزمه إياه ، وأسكنه فيه ، ومنه الحديث : « من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار » ومنه قول الراجز :
نحن بنو عدنان ليس شك ... تبوّأ المجد بنا والملك
قيل : ومصر في هذه الآية هي الإسكندرية ، وقيل : هي مصر المعروفة ، لا الإسكندرية { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } أي : متوجهة إلى جهة القبلة ، قيل : والمراد بالبيوت هنا : المساجد ، وإليه ذهب جماعة من السلف . وقيل المراد بالبيوت : التي يسكنون فيها ، أمروا بأن يجعلوها منا قبلة ، والمراد بالقبلة على القول الأوّل : هي جهة بيت المقدس ، وهو : قبلة اليهود إلى اليوم . وقيل : جهة الكعبة ، وأنها كانت قبلة موسى ومن معه؛ وقيل : المراد أنهم يجعلون بيتهم مستقبلة للقبلة ، ليصلوا فيها سرّاً لئلا يصيبهم من الكفار معرّة بسبب الصلاة ، ومما يؤيد هذا قوله : { وَأَقِيمُواْ الصلاة } أي : التي أمركم الله بإقامتها ، فإنه يفيد أن القبلة هي قبلة الصلاة ، إما في المساجد أو في البيوت ، لا جعل البيوت متقابلة ، وإنما جعل الخطاب في أوّل الكلام مع موسى وهارون ، ثم جعله لهما ولقومهما في قوله : { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصلاة } ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك ، فقال : { وَبَشّرِ المؤمنين } لأن اختيار المكان مفوّض إلى الأنبياء ، ثم جعل عاماً في استقبال القبلة وإقامة الصلاة ، لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء ، ثم جعل خاصاً بموسى؛ لأنه الأصل في الرسالة ، وهارون تابع له ، فكان ذلك تعظيماً للبشارة وللمبشر بها .

وقيل : إن الخطاب في { وبشّر المؤمنين } لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، على طريقة الالتفات والاعتراض ، والأوّل : أولى .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { لِتَلْفِتَنَا } قال : لتلوينا . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، قال : لتصدّنا عن آلهتنا ، وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن مجاهد ، في قوله : { وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء فِى الأرض } قال : العظمة والملك والسلطان . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَمَا ءامَنَ لموسى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ } قال : الذرية : القليل . وأخرج هؤلاء ، عنه ، في قوله : { ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ } قال : من بني إسرائيل . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، قال : كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون منهم : امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، ونعيم بن حماد في الفتن ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين } قال : لا تسلطهم علينا فيفتنونا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، قال في تفسير الآية : لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ، ولا بعذاب من عندك ، فيقول قوم فرعون : لو كانوا على الحق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنون بنا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن أبي قلابة ، في الآية قال : سأل ربه ألا يظهر علينا عدوّنا ، فيحسبون أنهم أولى بالعدل فيفتنون بذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مجلز ، نحوه .
وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { وَأَوْحَيْنَا إلى موسى وَأَخِيهِ } الآية . قال ذلك حين منعهم فرعون الصلاة ، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم ، وأن يوجهوها نحو القبلة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { أَن تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ } قال : مصر : الإسكندرية . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في الآية قال : كانوا لا يصلون إلا في البيع حتى خافوا من آل فرعون ، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في الآية قال : أمروا أن يتخذوا في بيوتهم مساجد . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي سنان ، قال : القبلة : الكعبة ، وذكر أن آدم فمن بعده كانوا يصلون قبل الكعبة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } قال : يقابل بعضها بعضاً .

وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)

لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات ، وإقامة الحجج البيّنات ، ولم يكن لذلك تأثير في من أرسل إليهم ، دعا عليهم بعد أن بيّن سبب إصرارهم على الكفر ، وتمسكهم بالجحود والعناد ، فقال مبيناً للسبب أوّلاً : { رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى الحياة الدنيا } قد تقدّم أن الملأ : هم الأشراف . والزينة : اسم لكل ما يتزين به ، من ملبوس ومركوب ، وحلية وفراش وسلاح ، وغير ذلك ، ثم كرّر النداء للتأكيد فقال : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } . وقد اختلف في هذه اللام الداخلة على الفعل ، فقال الخليل وسيبويه : إنها لام العاقبة والصيرورة . والمعنى : أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال ، صار كأنه سبحانه أعطاهم ما أعطاهم من النعم ليضلوا ، فتكون اللام على هذا متعلقة بآتيت؛ وقيل : إنها لام كي : أي أعطيتهم لكي يضلوا . وقال قوم : إن المعنى أعطيتهم ذلك لئلا يضلوا . فحذفت لا كما قال سبحانه : { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] . قال النحاس : ظاهر هذا الجواب حسن إلا أن العرب لا تحذف لا إلا مع أن ، فموّه صاحب هذا التأويل بالاستدلال بقوله : { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } ، وقيل اللام للدعاء عليهم . والمعنى ، ابتلهم بالهلاك عن سبيلك ، واستدلّ هذا القائل بقوله سبحانه بعد هذا : { اطمس } و { اشدد } . وقد أطال صاحب الكشاف في تقرير هذا بما لا طائل تحته ، والقول الأوّل هو : الأولى . وقرأ الكوفيون «ليضلوا» بضم حرف المضارعة : أي يوقعوا الإضلال على غيرهم . وقرأ الباقون بالفتح : أي يضلون في أنفسهم { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } . قال الزجاج : طمس الشيء : إذهابه عن صورته؛ والمعنى : الدعاء عليهم بأن يمحق الله أموالهم ، ويهلكها وقرىء بضم الميم من اطمس { واشدد على قُلُوبِهِمْ } أي : اجعلها قاسية مطبوعة لا تقبل الحق ، ولا تنشرح للإيمان . قوله : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } قال المبرد والزجاج : هو معطوف على { ليضلوا } ، والمعنى : آتيتهم النعم ، ليضلوا ولا يؤمنوا ، ويكون ما بين المعطوف والمعطوف عليه اعتراضاً . وقال الفراء ، والكسائي ، وأبو عبيدة : هو دعاء بلفظ النهي ، والتقدير : اللهمّ فلا يؤمنوا ، ومنه قول الأعشى :
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلا وأنفك راغم
وقال الأخفش : إنه جواب الأمر : أي اطمس واشدد ، فلا يؤمنوا ، فيكون منصوباً . وروي هذا عن الفراء أيضاً ، ومنه :
يا ناق سيري عنقاً فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا
{ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } أي : لا يحصل منهم الإيمان إلا مع المعاينة لما يعذبهم الله به ، وعند ذلك لا ينفع إيمانهم . وقد استشكل بعض أهل العلم ما في هذه الآية من الدعاء على هؤلاء ، وقال : إن الرسل إنما تطلب هداية قومهم وإيمانهم . وأجيب بأنه لا يجوز لنبيّ أن يدعو على قومه إلا بإذن الله سبحانه ، وإنما يأذن الله بذلك لعلمه بأنه ليس فيهم من يؤمن ، ولهذا لما أعلم الله نوحاً عليه السلام بأنه لا يؤمن من قومه إلا من قد آمن ، قال :

{ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] . { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما } جعل الدعوة ها هنا مضافة إلى موسى وهارون ، وفيما تقدّم أضافها إلى موسى وحده ، فقيل : إن هارون كان يؤمِّن على دعاء موسى ، فسمي ها هنا داعياً ، وإن كان الداعي موسى وحده ، ففي أوّل الكلام أضاف الدعاء إلى موسى لكونه الداعي ، وها هنا أضافه إليهما تنزيلاً للمؤمن منزلة الداعي ، ويجوز أن يكونا جميعاً داعيين ، ولكن أضاف الدعاء إلى موسى في أوّل الكلام لأصالته في الرسالة . قال النحاس : سمعت عليّ بن سليمان يقول : الدليل على أن الدعاء لهما ، قول موسى { ربنا } ولم يقل : رب . وقرأ عليّ والسلمي «دعاؤكما» وقرأ ابن السميفع «دعواكما» . والاستقامة : الثبات على ما هما عليه من الدعاء إلى الله . قال الفراء وغيره : أمر بالاستقامة على أمرهما والثبات عليه ، على دعاء فرعون وقومه إلى الإيمان إلى أن يأتيهما تأويل الإجابة أربعين سنة ، ثم أهلكوا . وقيل : معنى الاستقامة : ترك الاستعجال ولزوم السكينة ، والرضا والتسليم لما يقضي به الله سبحانه . قوله : { وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } بتشديد النون للتأكيد ، وحرّكت بالكسر لكونه الأصل ، ولكونها أشبهت نون التثنية . وقرأ ابن ذكوان بتخفيف النون على النفي لا على النهي . وقرىء بتخفيف الفوقية الثانية من { تتبعان } ، والمعنى : النهي لهما عن سلوك طريقة من لا يعلم بعادة الله سبحانه في إجراء الأمور على ما تقتضيه المصالح ، تعجيلاً وتأجيلاً .
قوله : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إسراءيل البحر } هو من جاوز المكان : إذا خلفه وتخطاه ، والباء للتعدية : أي جعلناهم مجاوزين البحر ، حتى بلغوا الشط؛ لأن الله سبحانه جعل البحر يبساً فمرّوا فيه حتى خرجوا منه إلى البرّ . وقد تقدّم تفسير هذا في سورة البقرة في قوله سبحانه : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر } [ البقرة : 50 ] وقرأ الحسن «وجوّزنا» وهما لغتان { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ } يقال : تبع وأتبع بمعنى واحد ، إذا لحقه . وقال الأصمعي : يقال : أتبعه بقطع الألف ، إذا لحقه وأدركه ، واتبعه بوصل الألف : إذا اتبع أثره أدركه ، أو لم يدركه . وكذا قال أبو زيد . وقال أبو عمرو : إنّ اتبعه بالوصل : اقتدى به ، وانتصاب بغياً وعدواً على الحال ، والبغي : الظلم ، والعدو : الاعتداء ، ويجوز أن يكون انتصابهما على العلة : أي للبغي والعدو . وقرأ الحسن «وعدوا» بضم العين والدال وتشديد الواو ، مثل علا يعلو علوّاً ، وقيل إن البغي : طلب الاستعلاء في القول بغير حق ، والعدو : في الفعل { حتى إِذَا أَدْرَكَهُ الغرق } أي : ناله ووصله وألجمه . وذلك أن موسى خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون ، فلما سمع فرعون بذلك لحقهم بجنوده ، ففرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ، فمشوا فيه حتى خرجوا من الجانب الآخر ، وتبعهم فرعون ، والبحر باق على الحالة التي كان عليها عند مضيّ موسى ومن معه ، فلما تكامل دخول جنود فرعون ، وكادوا أن يخرجوا من الجانب الآخر ، انطبق عليهم فغرقوا كما حكى الله سبحانه ذلك { قَالَ ءامَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذى ءامَنَتْ بِهِ بَنواْ إسراءيل } أي : صدّقت أنه بفتح الهمزة على أن الأصل بأنه ، فحذفت الباء ، والضمير للشأن .

وقرىء بكسر إنّ على الاستئناف ، وزعم أبو حاتم أن القول محذوف : أي آمنت ، فقلت : إنه ، ولم ينفعه هذا الإيمان أنه وقع منه بعد إدراك الغرق كله ، كما تقدّم في النساء ، ولم يقل للعين : آمنت بالله أو بربّ العالمين ، بل قال : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، لأنه بقي فيه عرق من دعوى الإلهية . قوله : { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } أي : المستسلمين لأمر الله ، المنقادين له ، الذين يوحدونه وينفون ما سواه ، وهذه الجملة إما في محل نصب على الحال أو معطوفة على آمنت .
قوله : { الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين } هو مقول قول مقدّر معطوف على { قال آمنت } : أي فقيل له : أتؤمن الآن؟ وقد اختلف من القائل لفرعون بهذه المقالة؟ فقيل : هي من قول الله سبحانه ، وقيل : من قول جبريل ، وقيل : من قول ميكائيل ، وقيل : من قول فرعون ، قال ذلك في نفسه لنفسه . وجملة { وقد عصيت قبل } : في محل نصب على الحال من فاعل الفعل المقدّر بعد القول المقدر ، وهو أتؤمن الآن ، والمعنى : إنكار الإيمان منه عند أن ألجمه الغرق ، والحال أنه قد عصى الله من قبل ، والمقصود التقريع والتوبيخ له . وجملة { وكنت من المفسدين } معطوفة على عصيت داخلة في الحال ، أي : كنت من المفسدين في الأرض بضلالك عن الحق ، وإضلالك لغيرك .
قوله : { فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } قرىء «ننجيك» بالتخفيف ، والجمهور على التثقيل . وقرأ اليزيدي : «ننحيك» بالحاء المهملة من التنحية ، وحكاها علقمة عن ابن مسعود؛ ومعنى { ننجيك } بالجيم : نلقيك على نجوة من الأرض ، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدّقوا أن فرعون غرق ، وقالوا : هو أعظم شأناً من ذاك ، فألقاه الله على نجوة من الأرض ، أي : مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه . وقيل : المعنى : نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر ، ونجعلك طافياً ليشاهدوك ميتاً بالغرق ، ومعنى " ننحيك " بالمهملة : نطرحك على ناحية من الأرض ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ «بأبدانك» .
وقد اختلف المفسرون في معنى ببدنك ، فقيل : معناه : بجسدك بعد سلب الروح منه . وقيل : معناه : بدرعك ، والدرع يسمى بدناً ، ومنه قول كعب بن مالك :
ترى الأبدان فيها مسبغات ... على الأبطال واليلب الحصينا

أراد بالأبدان : الدروع ، وقال عمرو بن معدي كرب :
ومضى نساؤهم بكل مُضاضة ... جدلاء سابغة وبالأبدان
أي بدروع سابغة ، ودروع قصيرة : وهي التي يقال لها : أبدان كما قال أبو عبيدة . وقال الأخفش : وأما قول من قال : بدرعك ، فليس بشيء ، ورجح أن البدن المراد به هنا الجسد . قوله : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } هذا تعليل لتنجيته ببدنه ، وفي ذلك دليل على أنه لم يظهر جسده دون قومه إلا لهذه العلة لا سوى ، والمراد بالآية : العلامة ، أي لتكون لمن خلفك من الناس علامة يعرفون بها هلاكك ، وأنك لست كما تدّعي ، ويندفع عنهم الشك في كونك قد صرت ميتاً بالغرق . وقيل : المراد ليكون طرحك على الساحل وحدك دون المغرقين من قومك آية من آيات الله ، يعتبر بها الناس ، أو يعتبر بها من سيأتي من الأمم إذا سمعوا ذلك ، حتى يحذروا من التكبر والتجبر والتمرّد على الله سبحانه ، فإن هذا الذي بلغ إلى ما بلغ إليه من دعوى الإلهية ، واستمرّ على ذلك دهراً طويلاً كانت له هذه العاقبة القبيحة . وقرىء «لمن خلفك» على صيغة الفعل الماضي أي : لمن يأتي بعدك من القرون ، أو من خلفك في الرياسة أو في السكون في المسكن الذي كنت تسكنه { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا } التي توجب الاعتبار والتفكر ، وتوقظ من سنة الغفلة { لغافلون } عما توجبه الآيات ، وهذه الجملة تذييلية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } يقول : دمر على أموالهم وأهلكها { واشدد على قُلُوبِهِمْ } قال : اطبع : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } وهو الغرق . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : سألني عمر ابن عبد العزيز ، عن قوله : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم } فأخبرته أن الله طمس على أموال فرعون وآل فرعون ، حتى صارت حجارة ، فقال عمر : كما أنت حتى آتيك ، فدعا بكيس مختوم ففكه ، فإذا فيه الفضة مقطوعة كأنها الحجارة والدنانير والدراهم ، وأشباه ذلك من الأموال حجارة كلها . وقد روي أن أموالهم تحوّلت حجارة من طريق جماعة من السلف .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : { قد أجيبت دعوتكما } ، قال : فاستجاب له ، وحال بين فرعون وبين الإيمان . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي هريرة قال : كان موسى إذا دعا أمَّن هارون على دعائه يقول آمين . قال أبو هريرة : وهو اسم من أسماء الله ، فذلك قوله : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، عن محمد بن كعب القرظي ، نحوه أيضاً . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال : يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج ، مثله . وأخرج الحكيم الترمذي ، عن مجاهد ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، فاستقيما : فامضيا لأمري ، وهي الاستقامة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، قال : العدو والعتوّ والعلوّ في كتاب الله : التجبر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج آخر أصحاب موسى ودخل آخر أصحاب فرعون ، أوحى الله إلى البحر أن انطبق عليهم ، فخرجت أصبع فرعون بلا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ، قال جبريل : فعرفت أن الربّ رحيم ، وخفت أن تدركه الرحمة ، فرمسته بجناحي وقلت : آلان وقد عصيت قبل؟ فلما خرج موسى وأصحابه قال من تخلّف من قوم فرعون : ما غرق فرعون ولا أصحابه ، ولكنهم في جزائر البحر يتصيدون ، فأوحى الله إلى البحر أن اللفظ فرعون عرياناً ، فلفظه عرياناً أصلع أخينس قصيراً فهو قوله : { فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً } لمن قال : إن فرعون لم يغرق ، وكأن نجاة غيره لم تكن نجاة عافية ، ثم أوحى الله إلى البحر أن الفظ ما فيك ، فلفظهم على الساحل ، وكان البحر لا يلفظ غريقاً في بطنه حتى يأكله السمك ، فليس يقبل البحر غريقاً إلى يوم القيامة . وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أغرق الله فرعون فقال : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيل } قال لي جبريل : يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة » وقد روى هذا الحديث الترمذي من غير وجه ، وقال : حسن صحيح غريب ، وصححه أيضاً الحاكم . وروي عن ابن عباس ، مرفوعاً من طرق أخرى . وأخرج الطبراني في الأوسط ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « قال لي جبريل : ما كان على الأرض شيء أبغض إليّ من فرعون ، فلما آمن جعلت أحشو فاه حمأة وأنا أغطه خشية أن تدركه الرحمة » وأخرج ابن جرير ، والبيهقي ، من حديث أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عمر ، مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي أمامة ، مرفوعاً نحوه أيضاً ، وفي إسناد حديث أبي هريرة رجل مجهول ، وباقي رجاله ثقات .
والعجب كل العجب ممن لا علم له بفنّ الرواية من المفسرين ، ولا يكاد يميز بين أصح الصحيح من الحديث وأكذب الكذب منه ، كيف يتجارى على الكلام في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والحكم ببطلان ما صح منها ، ويرسل لسانه وقلمه بالجهل البحت ، والقصور الفاضح الذي يضحك منه ، كل من له أدنى ممارسة لفن الحديث ، فيا مسكين مالك ولهذا الشأن الذي لست منه في شيء؟ ألا تستر نفسك وتربع على ضلعك ، وتعرف بأنك بهذا العلم من أجهل الجاهلين ، وتشتغل بما هو علمك الذي لا تجاوزه ، وحاصلك الذي ليس لك غيره ، وهو علم اللغة وتوابعه من العلوم الآلية ، ولقد صار صاحب الكشاف رحمه الله ، بسبب ما يتعرّض له في تفسيره من علم الحديث الذي ليس هو منه في ورد ، ولا صدر ، سخرة للساخرين وعبرة للمعتبرين ، فتارة يروي في كتابه الموضوعات ، وهو لا يدري أنها موضوعات ، وتارة يتعرض لردّ ما صح ، ويجزم بأنه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والبهت عليه ، وقد يكون في الصحيحين وغيرهما ، مما يلتحق بهما من رواية جماعة من الصحابة بأسانيد كلها أئمة ثقات أثبات حجج ، وأدنى نصيب من عقل يحجر صاحبه عن التكلم في علم لا يعلمه ، ولا يدري به أقلّ دراية ، وإن كان ذلك العلم من علوم الاصطلاح التي يتواضع عليها طائفة من الناس ، ويصطلحون على أمور فيما بينهم ، فما بالك بعلم السنة الذي هو قسيم كتاب الله ، وقائله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وراويه عنه خير القرون ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، وكل حرف من حروفه وكلمة من كلماته يثبت بها شرع عامّ ، لجميع أهل الإسلام .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : { فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } قال : أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر فنظروا إليه بعدما غرق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في الآية قال : بجسدك ، قال : كذب بعض بني إسرائيل بموت فرعون ، فألقى على ساحل البحر حتى يراه بنو إسرائيل : أحمر قصيراً كأنه ثور . وأخرج ابن الأنباري ، عن محمد بن كعب ، في قوله : { فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ } قال : بدرعك ، وكان درعه من لؤلؤة يلاقي فيها الحروب .

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)

قوله : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا } هذا من جملة ما عدّده الله سبحانه من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل ، ومعنى { بوّأنا } : أسكنا ، يقال بوّأت زيداً منزلاً : أسكنته فيه ، والمبوأ اسم مكان أو مصدر ، وإضافته إلى الصدق على ما جرت عليه قاعدة العرب ، فإنهم كانوا إذا مدحوا شيئاً أضافوه إلى الصدق ، والمراد به هنا : المنزل المحمود المختار ، قيل : هو أرض مصر . وقيل : الأردن وفلسطين . وقيل : الشام { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } أي : المستلذات من الرزق { فَمَا اختلفوا } في أمر دينهم ، وتشعبوا فيه شعباً بعد ما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة { حتى جَاءهُمُ العلم } أي : لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة ، وعلمهم بأحكامها ، وما اشتملت عليه من الأخبار بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المعنى : أنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم ، وهو القرآن النازل على نبينا صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا في نعته وصفته ، وآمن به من آمن منهم ، وكفر به من كفر . فيكون المراد بالمختلفين على القول الأوّل هم : اليهود بعد أن أنزلت عليهم التوراة وعلموا بها ، وعلى القول الثاني هم : اليهود المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، والمحقّ بعمله بالحق ، والمبطل بعمله بالباطل .
{ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ } الشك في أصل اللغة : ضم الشيء بعضه إلى بعض ، ومنه شك الجوهر في العقد ، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه ، فيتردّد ويتحير ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد غيره ، كما ورد في القرآن في غير موضع . قال أبو عمر ، محمد بن عبد الواحد ، الزاهد : سمعت الإمامين ثعلباً والمبرد يقولان : معنى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } أي : قل يا محمد للكافر : فإن كنت في شك { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } يعني : مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأمثاله ، وقد كان عبدة الأوثان يعترفون لليهود بالعلم ، ويقرّون بأنهم أعلم منهم ، فأمر الله سبحانه نبيه أن يرشد الشاكين فيما أنزله الله إليه من القرآن أن يسألوا أهل الكتاب الذين قد أسلموا ، فإنهم سيخبرونهم بأنه كتاب الله حقاً ، وأن هذا رسوله ، وأن التوراة شاهدة بذلك ناطقة به ، وفي هذا الوجه مع حسنه مخالفة للظاهر . وقال القتيبي : المراد بهذه الآية : من كان من الكفار غير قاطع بتكذيب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا بتصديقه ، بل كان في شك . وقيل : المراد بالخطاب : النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره . والمعنى : لو كنت ممن يلحقه الشك فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك .

وقيل : الشك هو ضيق الصدر : أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء ، فاصبر واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك بصبر من قبلك من الأنبياء على أذى قومهم . وقيل : معنى الآية : الفرض والتقدير ، كأنه قال له : فإن وقع لك شك مثلاً وخيل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً . فاسأل الذين يقرءون الكتاب ، فإنهم سيخبرونك عن نبوّتك وما نزل عليك ، ويعترفون بذلك ، لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم ، وقد زال فيمن أسلم منهم ما كان مقتضياً للكتم عندهم .
قوله : { لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } في هذا بيان ما يقلع الشك من أصله ويذهب به بجملته ، وهو شهادة الله سبحانه بأن هذا الذي وقع الشك فيه على اختلاف التفاسير في الشاك هو الحق الذي لا يخالطه باطل ، ولا تشوبه شبهة ، ثم عقبه بالنهي للنبي صلى الله عليه وسلم عن الامتراء فيما أنزل الله عليه ، بل يستمر على ما هو عليه من اليقين وانتفاء الشك . ويمكن أن يكون هذا النهي له تعريضاً لغيره ، كما في مواطن من الكتاب العزيز ، وهكذا القول في نهيه صلى الله عليه وسلم عن التكذيب بآيات الله ، فإن الظاهر فيه التعريض ، ولا سيما بعد تعقيبه بقوله : { فَتَكُونَ مِنَ الخاسرين } وفي هذا التعريض من الزجر للممترين والمكذبين ما هو أبلغ وأوقع من النهي لهم أنفسهم؛ لأنه إذا كان بحيث ينهى عنه من لا يتصوّر صدوره عنه ، فكيف بمن يمكن منه ذلك .
قوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قد تقدّم مثله في هذه السورة ، والمعنى : أنه حق عليهم قضاء الله وقدره بأنهم يصرّون على الكفر ، ويموتون عليه ، لا يقع منهم الإيمان بحال من الأحوال ، وإن وقع منهم ما صورته صورة الإيمان ، كمن يؤمن منهم عند معاينة العذاب ، فهو في حكم العدم { وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ } من الآيات التكوينية والتنزيلية ، فإن ذلك لا ينفعهم ، لأن الله سبحانه قد طبع على قلوبهم ، وحق منه القول عليهم { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } فيقع منهم ما صورته صورة الإيمان ، وليس بإيمان ، ولا يترتب عليه شيء من أحكامه .
قوله : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } " لولا " هذه هي التحضيضية التي بمعنى هلا ، كما قال الأخفش والكسائي وغيرهما ، ويدل على ذلك ما في مصحف أبيّ وابن مسعود «فهلا قرية» ، والمعنى : فهلا قرية واحدة من هذه القرى التي أهلكناها آمنت إيماناً معتدّاً به ، وذلك بأن يكون خالصاً لله قبل معاينة عذابه ، ولم يؤخره كما أخره فرعون ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } منقطع ، وهو استثناء من القرى لأن المراد أهلها : والمعنى : لكن قوم يونس { لَمَّا ءامَنُواْ } إيماناً معتدّاً به قبل معاينة العذاب ، أو عند أوّل المعاينة قبل حلوله بهم { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزى } وقد قال بأن هذا الاستثناء منقطع : جماعة من الأئمة منهم : الكسائي ، والأخفش ، والفراء؛ وقيل : يجوز أن يكون متصلاً ، والجملة في معنى النفي ، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس ، وانتصابه على أصل الاستثناء ، وقرىء بالرفع على البدل .

وقال الزجاج في توجيه الرفع : يكون المعنى : غير قوم يونس ، ولكن حملت إلا عليها وتعذر جعل الإعراب عليها ، فأعرب الاسم الذي بعدها بإعراب غيره . قال ابن جرير : خص قوم يونس من بين الأمم بأن تيب عليهم من بعد معاينة العذاب . وحكى ذلك عن جماعة من المفسرين . وقال الزجاج : إنه لم يقع العذاب ، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب ، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان ، وهذا أولى من قول ابن جرير . والمراد بعذاب الخزي الذي كشفه الله عنهم ، وهو : العذاب الذي كان قد وعدهم يونس أنه سينزل عليهم ولم يروه . أو الذي قد رأوا علاماته دون عينه { وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } أي : بعد كشف العذاب عنهم ، متعهم الله في الدنيا إلى حين معلوم ، قدره لهم .
ثم بين سبحانه أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره ، فقال : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الارض كُلُّهُمْ } بحيث لا يخرج عنهم أحد { جَمِيعاً } مجتمعين على الإيمان ، لا يتفرّقون فيه ويختلفون ، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفاً للمصلحة التي أرادها الله سبحانه ، وانتصاب جميعاً على الحال كما قال سيبويه . قال الأخفش : جاء بقوله { جميعاً } بعد { كلهم } للتأكيد كقوله : { لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } [ النحل : 51 ] ولما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حريصاً على إيمان جميع الناس ، أخبره الله بأن ذلك لا يكون؛ لأن مشيئته الجارية على الحكمة البالغة ، والمصالح الراجحة ، لا تقتضي ذلك ، فقال : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } فإن ذلك ليس في وسعك يا محمد ، ولا داخل تحت قدرتك ، وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم ، ودفع لما يضيق به صدره من طلب صلاح الكل ، الذي لو كان لم يكن صلاحاً محققاً بل يكون إلى الفساد أقرب ، ولله الحكمة البالغة .
ثم بين سبحانه ما تقدم بقوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : ما صح ، وما استقام لنفس من الأنفس أن تؤمن بالله إلا بإذنه : أي بتسهيله وتيسيره ومشيئته؛ لذلك فلا يقع غير ما يشاؤه كائناً ما كان { وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أي : العذاب ، أو الكفر ، أو الخذلان الذي هو سبب العذاب . وقرأ الحسن وأبو بكر والمفضل «ونجعل» بالنون . وفي الرجس لغتان : ضم الراء وكسرها ، والمراد بالذين لا يعقلون : هم الكفار الذين لا يتعقلون حجج الله ، ولا يتفكرون في آياته ، ولا يتدبرون فيما نصبه لهم من الأدلة .

وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن قتادة ، في قوله : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِى إسراءيل مُبَوَّأَ صِدْقٍ } قال : بوّأهم الله الشام وبيت المقدس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك قال : منازل صدق مصر والشام . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في قوله : { فَمَا اختلفوا حتى جَاءهُمُ العلم } قال : العلم : كتاب الله الذي أنزله ، وأمره الذي أمرهم به . وقد ورد في الحديث أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، وهو في السنن والمسانيد ، والكلام فيه يطول .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكّ } الآية ، قال : لم يشك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يسأل . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول الله قال : « لا أشك ولا أسأل » وهو مرسل . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } قال : التوراة والإنجيل الذين أدركوا محمداً من أهل الكتاب وآمنوا به ، يقول : سلهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال : حق عليهم سخط الله بما عصوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك ، في قوله : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ } يقول : فما كانت قرية آمنت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال : لم يكن هذا في الأمم قبل قوم يونس لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين عاينت العذاب إلا قوم يونس ، فاستثنى الله قوم يونس . قال : وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل . فلما فقدوا نبيهم قذف الله في قلوبهم التوبة ، فلبسوا المسوح وأخرجوا المواشي ، وفرّقوا بين كل بهيمة وولدها ، فعجوا إلى الله أربعين صباحاً ، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى منهم ، كشف عنهم العذاب بعد ما تدلّى عليهم لم يكن بينهم وبين العذاب إلا ميل .
وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن يونس دعا قومه ، فلما أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب . فقال : إنه يأتيكم يوم كذا وكذا ، ثم خرج عنهم ، وكانت الأنبياء إذا وعدت قومها العذاب خرجت ، فلما أظلهم العذاب خرجوا ، ففرقوا بين المرأة وولدها ، وبين السخلة وولدها .

وخرجوا يعجون إلى الله ، وعلم الله منهم الصدق فتاب عليهم ، وصرف عنهم العذاب ، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر ، فمرّ به رجل فقال : ما فعل قوم يونس؟ فحدّثه بما صنعوا ، فقال : لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم ، وانطلق مغاضبا : يعني مراغماً . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، قال : غشى قوم يونس العذاب كما يغشى القبر بالثوب إذا دخل فيه صاحبه ومطرت السماء دماً . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، عن ابن عباس ، أن العذاب كان هبط على قوم يونس لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، فلما دعوا كشفه الله عنهم . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي الجلد ، قال : لما غشى قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم . فقالوا له ما ترى؟ قال : قولوا : يا حيّ حين لا حيّ ، ويا حيّ محيى الموتى ، ويا حيّ لا إله إلا أنت ، فقالوا فكشف عنهم العذاب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَيَجْعَلُ الرجس } قال : السخط . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : الرجس : الشيطان ، والرجس : العذاب .

قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)

قوله : { قُلِ انظروا مَاذَا فِى السموات والأرض } : لما بين سبحانه أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله ، أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية ، والمراد بالنظر : التفكر والاعتبار ، أي قل يا محمد للكفار : تفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من المصنوعات الدالة على الصانع ووحدته ، وكمال قدرته . و { ماذا } مبتدأ ، وخبره { في السموات والأرض } . أو المبتدأ " ما " ، و " ذا " بمعنى الذي ، و { في السموات والأرض } صلته ، والموصول وصلته خبر المبتدأ ، أي : أيّ شيء الذي في السموات والأرض ، وعلى التقديرين فالجملة في محل نصب بالفعل الذي قبلها . ثم ذكر سبحانه أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من استحكمت شقاوته ، فقال : { وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر } أي : ما تنفع على أن ما نافية ، ويجوز أن تكون استفهامية : أي : أيّ شيء ينفع ، والآيات هي التي عبر عنها بقوله : { مَاذَا فِى السموات والأرض } والنذر : جمع نذير ، وهم : الرسل أو جمع إنذار ، وهو المصدر { عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } في علم الله سبحانه؛ والمعنى : أن من كان هكذا لا يجدى فيه شيء ، ولا يدفعه عن الكفر دافع .
قوله : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } أي : فهل ينتظر هؤلاء الكفار المعاصرون لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا مثل وقائع الله سبحانه بالكفار الذين خلوا من قبل هؤلاء ، فقد كان الأنبياء المتقدّمون يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب ، وهم يكذبونهم ويصممون على الكفر ، حتى ينزل الله عليهم عذابه ، ويحلّ بهم انتقامه ، ثم قال : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء الكفار المعاصرين لك { فانتظروا } أي : تربصوا لوعد ربكم ، إني معكم من المتربصين لوعد ربي ، وفي هذا تهديد شديد ، ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء ما نزل بأولئك من الإهلاك ، وثم في قوله : { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا } للعطف على مقدّر يدلّ عليه ما قبله ، كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلين إليهم . وقرأ يعقوب ثم «ننجى» مخففاً . وقرأ كذلك أيضاً في { حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين } . وروي كذلك عن الكسائي وحفص في الثانية . وقرأ الباقون بالتشديد ، وهما لغتان فصيحتان : أنجى ينجى إنجاء ، ونجى ينجى تنجية بمعنى واحد { والذين ءامَنُواْ } معطوف على رسلنا : أي : نجيناهم ونجينا الذين آمنوا ، والتعبير بلفظ الفعل المستقبل لاستحضار صورة الحال الماضية تهويلاً لأمرها { كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا } أي : حق ذلك علينا حقاً ، أو إنجاء مثل ذلك الانجاء حقاً { نُنجِ المؤمنين } من عذابنا للكفار ، والمراد بالمؤمنين : الجنس ، فيدخل في ذلك الرسل وأتباعهم ، أو يكون خاصاً بالمؤمنين ، وهم أتباع الرسل؛ لأن الرسل داخلون في ذلك بالأولى .

قوله : { قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الناس إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى } أمر سبحانه رسوله بأن يظهر التباين بين طريقته وطريقة المشركين ، مخاطباً لجميع الناس ، أو للكفار منهم ، أو لأهل مكة على الخصوص بقوله : إن كنتم في شك من ديني الذي أنا عليه ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، ولم تعلموا بحقيقته ولا عرفتم صحته ، وأنه الدين الحق الذي لا دين غيره ، فاعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها { فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } في حال من الأحوال { ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ } أي أخصه بالعبادة ، لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها ، وخصّ صفة المتوفى من بين الصفات لما في ذلك من التهديد لهم : أي : أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد ، ولكونه يدل على الخلق أوّلاً ، وعلى الإعادة ثانياً ، ولكونه أشدّ الأحوال مهابة في القلوب ، ولكونه قد تقدّم ذكر الإهلاك ، والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة ، فكأنه قال : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم . ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله ، بين أنه مأمور بالإيمان فقال : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } أي : بأن أكون من جنس من آمن بالله ، وأخلص له الدين .
وجملة : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ } معطوفة على جملة { أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر؛ لأن المقصود من «أن» الدلالة على المصدر ، وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية ، أو يكون المعطوف عليه في معنى الإنشاء؛ كأنه قيل : كن مؤمناً ثم أقم؛ والمعنى : أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه ، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال . وخص الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء ، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة ، وعدم التحوّل عنها . و { حنيفاً } حال من الدين ، أو من الوجه : أي مائلاً عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام . ثم أكد الأمر المتقدّم للنهي عن ضدّه ، فقال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } وهو معطوف على { أقم } ، وهو من باب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم .
قوله : { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ } معطوف على { قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الناس } غير داخل تحت الأمر ، وقيل : معطوف على { ولا تكونن } أي : لا تدع من دون الله على حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرّك بشيء من النفع والضرّ إن دعوته ، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعاً ، ولا يقدر على ضرّ ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضرّ غيره ، فكيف إذا كان موجوداً؟ فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح { فَإِن فَعَلْتَ } أي : فإن دعوت ، ولكنه كنى عن القول بالفعل { فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين } هذا جزاء الشرط ، أي فإن دعوت من دون الله مالا ينفعك ولا يضرّك ، فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم .

والمقصود من هذا الخطاب التعريض لغيره صلى الله عليه وسلم .
وجملة { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ } إلى آخرها مقرّرة لمضمون ما قبلها . والمعنى : أن الله سبحانه هو الضار النافع . فإن أنزل بعبده ضراً لم يستطع أحد أن يكشفه كائناً من كان ، بل هو المختص بكشفه كما اختصّ بإنزاله { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } أيّ : خير كان لم يستطع أحد أن يدفعه عنك ، ويحول بينك وبينه كائناً من كان ، وعبر بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى أنه يتفضل على عباده بمالا يستحقونه بأعمالهم . قال الواحدي : إن قوله : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } هو من القلب ، وأصله وإن يرد بك الخير ، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان لآخر . قال النيسابوري : وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير ، والمسّ بجانب الشرّ دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات ، والشرّ بالعرض . قلت : وفي هذا نظر ، فإن المسّ هو أمر وراء الإرادة ، فهو مستلزم لها ، والضمير في { يصيب به } راجع إلى فضله : أي يصيب بفضله من يشاء من عباده . وجملة : { وَهُوَ الغفور الرحيم } تذييلية .
ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره ، فقال : { قُلْ ياأَيُّهَا الناس قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ } أي : القرآن { فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : منفعة اهتدائه مختصة به ، وضرر كفره مقصور عليه لا يتعدّاه ، وليس لله حاجة في شيء من ذلك ، ولا غرض يعود إليه { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : بحفيظ يحفظ أموركم ، وتوكل إليه ، إنما أنا بشير ونذير . ثم أمره الله سبحانه أن يتبع ما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي التي يشرعها الله له ، ولأمته ، ثم أمره بالصبر على أذى الكفار ، وما يلاقيه من مشاقّ التبليغ ، وما يعانيه من تلوّن أخلاق المشركين وتعجرفهم ، وجعل ذلك الصبر ممتداً إلى غاية هي قوله : { حتى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } أي : يحكم الله بينه وبينهم في الدنيا بالنصر له عليهم ، وفي الآخرة بعذابهم بالنار ، وهم يشاهدونه صلى الله عليه وسلم هو وأمته ، المتبعون له المؤمنون به ، العاملون بما يأمرهم به ، المنتهون عما ينهاهم عنه ، يتقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد ، ولا يمكن وصفه ، ولا يوقف على أدنى مزاياه .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر عَن قَوْمٍ } يقول : عند قوم { لاَ يُؤْمِنُونَ } نسخت قوله : { حِكْمَةٌ بالغة فَمَا تُغْنِى النذر } [ القمر : 5 ] . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } قال : وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم ، قوم نوح ، وعاد ، وثمود .

وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الربيع في الآية قال : خوّفهم عذابه ونقمته وعقوبته ، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمر نجى الله رسله والذين آمنوا ، فقال : { ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ } الآية . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } يقول : بعافية . وأخرج البيهقي في الشعب ، عن عامر بن قيس ، قال : ثلاث آيات في كتاب الله اكتفيت بهنّ عن جميع الخلائق : أوّلهنّ : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } ، والثانية : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } [ فاطر : 2 ] ، والثالثة : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] . وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن ، نحوه . وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ } قال : هو الحق المذكور في قوله : { قَدْ جَاءكُمُ الحق مِن رَّبّكُمْ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، في قوله : { واصبر حتى يَحْكُمَ الله } قال : هذا منسوخ ، أمره بجهادهم والغلظة عليهم .

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)

قوله : { الر } : إن كان مسروداً على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور فلا محل له ، وإن كان اسماً للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف ، و { كِتَابٌ } يكون على هذا الوجه خبراً لمبتدأ محذوف : أي هذا كتاب ، وكذا على تقدير أن { الر } لا محل له ، ويجوز أن يكون { الر } في محل نصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو : اذكر ، أو اقرأ ، فيكون { كتاب } على هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف ، والإشارة في المبتدأ المقدّر إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموع القرآن ، ومعنى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه } صارت محكمة متقنة ، لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم ، وقيل معناه : إنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل ، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب ، وهو المحكم الذي لم ينسخ؛ وقيل معناه : أحكمت آياته بالأمر والنهي ، ثم فصلت بالوعد والوعيد ، والثواب والعقاب . وقيل : أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلها بالحلال والحرام . وقيل : أحكمت جملته ، ثم فصلت آياته . وقيل : جمعت في اللوح المحفوظ ، ثم فصلت بالوحي . وقيل : أيّدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند الله؛ وقيل معنى إحكامها : أن لا فساد فيها ، أخذاً من قولهم أحكمت الدابة : إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ، و { ثُمَّ فُصّلَتْ } معطوف على { أحكمت } ، ومعناه ما تقدّم ، والتراخي المستفاد من « ثم » إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح ، وإما رتبيّ إن فسر بغيره مما تقدّم ، والجمل في محل رفع على أنها صفة لكتاب ، أو خبر آخر للمبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف ، وفي قوله : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } لف ونشر ، لأن المعنى : أحكمها حكيم ، وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور .
قوله : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } مفعول له حذف منه اللام : كذا في الكشاف ، وفيه أنه ليس بفعل لفاعل الفعل المعلل . وقيل : « أن » هي المفسرة لما في التفصيل من معنى القول . وقيل : هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله ، محكياً على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال الكسائي والفراء : التقدير أحكمت بأن لا تعبدوا إلا الله . وقال الزجاج : أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله ، ثم أخبرهم رسول الله بأنه نذير وبشير ، فقال : { إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي : ينذرهم ويخوّفهم من عذابه لمن عصاه ، ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه ، والضمير في { منه } راجع إلى الله سبحانه . أي إنني لكم نذير وبشير من جهة الله سبحانه؛ وقيل : هو من كلام الله سبحانه كقوله : { وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] .
قوله : { وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ } معطوف على ألا تعبدوا ، والكلام في أن هذه كالكلام في التي قبلها .

وقوله : { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } معطوف على { استغفروا } ، وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة ، لكونه وسيلة إليها . وقيل : إن التوبة من متممات الاستغفار؛ وقيل معنى { استغفروا } : توبوا . ومعنى { توبوا } : أخلصوا التوبة واستقيموا عليها . وقيل : استغفروا من سالف الذنوب ، ثم توبوا من لاحقها . وقيل : استغفروا من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة . قال الفراء : « ثم » هاهنا بمعنى الواو : أي وتوبوا إليه ، لأن الاستغفار هو : التوبة ، والتوبة هي : الاستغفار؛ وقيل : إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب ، والتوبة . هي : السبب إليها ، وما كان آخراً في الحصول ، كان أوّلاً في الطلب . وقيل : استغفروا في الصغائر ، وتوبوا إليه في الكبائر؛ ثم رتب على ما تقدّم أمرين الأول : { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } أصل الإمتاع : الإطالة ، ومنه أمتع الله بك؛ فمعنى الآية : يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق ورغد العيش { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى وقت مقدّر عند الله ، وهو : الموت؛ وقيل : القيامة؛ وقيل : دخول الجنة؛ والأوّل : أولى . والأمر الثاني قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : يعط كل ذي فضل في الطاعة والعمل فضله : أي جزاء فضله ، إما في الدنيا ، أو في الآخرة ، أو فيهما جميعاً ، والضمير في { فضله } راجع إلى كل ذي فضل . وقيل : راجع إلى الله سبحانه على معنى أن الله يعطي كل من فضلت حسناته فضله الذي يتفضل به على عباده . ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة ، والاستغفار ، والتوبة { فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وهو : يوم القيامة ، ووصفه بالكبر ، لما فيه من الأهوال . وقيل : اليوم الكبير يوم بدر .
ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله : { إلى الله مَرْجِعُكُمْ } أي : رجوعكم إليه بالموت ، ثم البعث ، ثم الجزاء ، لا إلى غيره { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } ومن جملة ذلك عذابكم على عدم الامتثال ، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها . ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم ، ولا لانت له قلوبهم ، بل هم مصرّون على العناد مصممون على الكفر ، فقال مصدراً لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم ، وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } يقال : ثني صدره عن الشيء : إذا ازورّ عنه وانحرف منه ، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض؛ لأن من أعرض عن الشيء ثنى عنه صدره ، وطوى عنه كشحه . وقيل معناه : يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق ، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر ، كما كان دأب المنافقين .

والوجه الثاني أولى ، ويؤيده قوله : { لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } أي : ليستخفوا من الله ، فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين ، أو ليستخفوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم كرّر كلمة التنبيه مبيناً للوقت الذي يثنون فيه صدورهم ، فقال : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } أي : يستخفون في وقت استغشاء الثياب ، وهو التغطي بها ، وقد كانوا يقولون : إذا أغلقنا أبوابنا ، واستغشينا ثيابنا ، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ وقيل : معنى { حين يستغشون } : حين يأوون إلى فراشهم ، ويتدثرون بثيابهم . وقيل : إنه حقيقة : وذلك أن بعض الكفار كان إذا مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثنى صدره ، وولى ظهره ، واستغشى ثيابه ، لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجملة : { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يسرّونه في أنفسهم ، أو في ذات بينهم وما يظهرونه؛ فالظاهر والباطن عنده سواء ، والسرّ والجهر سيان ، وجملة : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليل لما قبلها وتقرير له ، و { ذات الصدور } هي : الضمائر التي تشتمل عليها الصدور . وقيل : هي القلوب ، والمعنى : إنه عليم بجميع الضمائر ، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار ، فلا يخفى عليه شيء من ذلك .
ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان ، ونهاية الإحسان ، فقال : { وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } أي : الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان ، على اختلاف أنواعه تفضلاً منه وإحساناً ، وإنما جيء به على طريق الوجوب ، كما تشعر به كلمة «على» اعتباراً بسبق الوعد به منه ، و " من " زائدة للتأكيد ، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله : أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق ، فكيف يغفل عن أحواله ، وأقواله ، وأفعاله . والدابة : كل حيوان يدب { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أي : محل استقرارها في الأرض ، أو محل قرارها في الأصلاب { وَمُسْتَوْدَعَهَا } موضعها في الأرحام ، وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها . وقال الفراء : مستقرها : حيث تأوي إليه ليلاً ونهاراً ، ومستودعها : موضعها الذي تموت فيه ، وقد مرّ تمام الأقوال في سورة الأنعام ، ووجه تقدّم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر . وأما على القول الأوّل : فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة . والمعنى : وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة ، وقبل كونها دابة ، وذلك حيث تكون في الرحم ونحوه . ثم ختم الآية بقوله : { كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي : كل من ما تقدّم ذكره من الدوّاب ، ومستقرّها ومستودعها ، ورزقها في كتاب مبين ، وهو اللوح المحفوظ : أي مثبت فيه .

ثم أكد دلائل قدرته بالتعرّض لذكر خلق السموات والأرض ، وكيف كان الحال قبل خلقها فقال : { وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } قد تقدّم بيان هذا في الأعراف ، قيل : والمراد بالأيام : الأوقات : أي في ستة أوقات ، كما في قوله : { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الأنفال : 16 ] وقيل : مقدار ستة أيام ، ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا الأيام هنا الأيام المعروفة ، وهي المقابلة لليالي ، لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء ، وليس اليوم إلا عبارة عن مدّة كون الشمس فوق الأرض ، وكان خلق السموات في يومين ، والأرضين في يومين ، وما عليهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد ، في يومين ، كما سيأتي في حم السجدة . قوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء } أي : كان قبل خلقهما عرشه على الماء ، وفيه بيان تقدّم خلق العرش والماء على السموات والأرضين .
قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } اللام متعلقة بخلق : أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال ، على كمال قدرته ، وعلى البعث والجزاء أيهم أحسن عملاً فيما أمر به ونهى عنه ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ويوفر الجزاء لمن كان أحسن عملاً من غيره ، ويدخل في العمل الاعتقاد ، لأنه من أعمال القلب . وقيل : المراد بالأحسن عملاً : الأتمّ عقلاً ، وقيل : الأزهد في الدنيا . وقيل : الأكثر شكراً ، وقيل : الأتقى لله . قوله : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره ، والمعنى : لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء ، إنكم مبعوثون من بعد الموت ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ليقولن الذين كفروا من الناس إن هذا الذي تقوله يا محمد إلا باطل كبطلان السحر ، وخدع كخدعه . ويجوز أن تكون الإشارة ب { هذا } إلى القرآن؛ لأنه المشتمل على الإخبار بالبعث . وقرأ حمزة والكسائي « إِنْ هذا إِلاَّ ساحر » يعنون النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت « إنّ » من قوله : { إِنَّكُمْ } لأنها بعد القول . وحكى سيبويه الفتح على تضمين { قلت } معنى : ذكرت ، أو على « أن » بمعنى : علّ : أي ولئن قلت لعلكم مبعوثون ، على أن الرجاء باعتبار باعتبار حال المخاطبين : أي توقعوا ذلك ، ولا تبتوا القول بإنكاره .
{ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُم العذاب } أي : الذي تقدّم ذكره في قوله : { عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } وقيل : عذاب يوم القيامة وما بعده ، وقيل يوم بدر { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أي : إلى طائفة من الأيام قليلة؛ لأن ما يحصره العدّ قليل ، والأمة اشتقاقها من الأم : وهو القصد ، وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب . وقيل : هي في الأصل الجماعة من الناس ، وقد يسمى الحين باسم مايحصل فيه ، كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر : أي في ذلك الحين ، فالمراد على هذا : إلى حين تنقضى أمة معدودة من الناس { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } أي أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب ، فأجابهم الله بقوله : { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم } أي : ليس محبوساً عنهم ، بل واقع بهم لا محالة ، و { يوم } منصوب ب { مصروفاً } { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم ، ووضع يستهزءون مكان يستعجلون ، لأن استعجالهم كان استهزاء منهم ، وعبر بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه ، فكأنه قد حاق بهم .

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، أنه قرأ : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته } قال : هي كلها محكمة ، يعني سورة هود { ثُمَّ فُصّلَتْ } قال : ثم ذكر محمداً صلى الله عليه وسلم ، فحكم فيها بينه وبين من خالفه ، وقرأ : { مثل الفريقين . . . } الآية كلها [ هود : 24 ] ، ثم ذكر قوم نوح ثم هود ، فكان هذا تفصيل ذلك ، وكان أوّله محكماً قال : وكان أبي يقول ذلك ، يعني : زيد بن أسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، في قوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته } قال : أحكمت بالأمر والنهي ، وفصلت بالوعد والوعيد ، وأخرج هؤلاء عن مجاهد { فُصّلَتْ } قال : فسرت . وأخرج هؤلاء أيضاً عن قتادة في الآية قال : أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلها بعلمه ، فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته ، وفي قوله : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ } يعني من عند حكيم ، وفي قوله : { يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا } قال : فأنتم في ذلك المتاع ، فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه ، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين ، وأهل الشكر في مزيد من الله ، وذلك قضاؤه الذي قضاه . وفي قوله : { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني : الموت ، وفي قوله : { يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي : في الآخرة . وأخرج هؤلاء أيضاً عن مجاهد في قوله : { يؤت كل ذي فضل فضله } : أي في الآخرة . وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن قال : يؤت كل ذي فضل في الإسلام فضل الدرجات في الآخرة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن مسعود ، في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة ، وبقيت له تسع حسنات ، ثم يقول : هلك من غلب آحاده أعشاره .
وأخرج البخاري وغيره ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } الآية قال : كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم . قال البخاري ، وعن ابن عباس : { يَسْتَغْشُونَ } يغطون رؤوسهم .

وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، يعني به الشك في الله ، وعمل السيئات ، وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما : أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه ، فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك ، فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من القول { وَمَا يُعْلِنُونَ } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، في قوله : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ } قال : كان المنافقون إذا مرّ أحدهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثنى صدره ، وتغشى ثوبه ، لكيلا يراه ، فنزلت . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن ، في قوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } قال : في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي رزين في الآية قال : كان أحدهم يحني ظهره ويستغشى بثوبه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال : كانوا يخبون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله ، قال تعالى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا أحنى ظهره ، واستغشى بثوبه ، وأضمر همه في نفسه ، فإن الله لا يخفى عليه ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال في الآية : يكتمون ما في قلوبهم ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما عملوا بالليل والنهار .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا مِن دَابَّةٍ } الآية قال : يعني كل دابة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمَا مِن دَابَّةٍ } الآية قال : يعني ما جاءها من رزق فمن الله ، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعاً ، ولكن ما كان لها من رزق لها فمن الله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } قال : حيث تأوى ، و { مستودعها } قال : حيث تموت . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } قال : يأتيها رزقها حيث كانت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن مسعود ، قال : مستقرّها في الأرحام ، ومستودعها حيث تموت . ويؤيد هذا التفسير الذي ذكره ابن مسعود ما أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة ، حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض ، فتقول الأرض يوم القيامة : هذا ما استودعتني » .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34