كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

قرأ الجمهور { بمفازتهم } بالإفراد على أنها مصدر ميميّ . والفوز : الظفر بالخير ، والنجاة من الشرّ . قال المبرد : المفازة مفعلة من الفوز ، وهو : السعادة ، وإن جمع ، فحسن كقولك : السعادة ، والسعادات . والمعنى : ينجيهم الله بفوزهم ، أي : بنجاتهم من النار ، وفوزهم بالجنة . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : " بمفازاتهم " جمع مفازة ، وجمعها مع كونها مصدراً لاختلاف الأنواع ، وجملة : { لاَ يَمَسُّهُمُ السوء } في محل نصب على الحال من الموصول ، وكذلك جملة : { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } في محل نصب على الحال ، أي : ينفي السوء ، والحزن عنهم ، ويجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية ، أي : بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم ، وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم؛ لأنهم رضوا بثواب الله ، وأمنوا من عقابه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم - قال السيوطي بسند صحيح ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : أنزلت : { قُلْ ياعِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ } الآية في مشركي أهل مكة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : كنا نقول ليس لمفتتن توبة ، وما الله بقابل منه شيئاً ، عرفوا الله ، وآمنوا به ، وصدقوا رسوله ، ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم ، وكانوا يقولونه لأنفسهم ، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل الله فيهم { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ } الآيات؛ قال ابن عمر : فكتبتها بيدي ، ثم بعثت بها إلى هشام بن العاصي وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي سعد قال : لما أسلم وحشي أنزل الله : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الفرقان : 68 ] قال وحشيّ ، وأصحابه : فنحن قد ارتكبنا هذا كله ، فأنزل الله { قُلْ ياعِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ } الآية . وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال : «خرج النبي صلى الله عليه وسلم على رهط من أصحابه ، وهم يضحكون ، ويتحدّثون ، فقال : " والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً " ثم انصرف ، وأبكى القوم ، وأوحى الله إليه : يا محمد لم تقنط عبادي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أبشروا ، وسدّدوا ، وقاربوا " وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب : أنها نزلت ، فيمن أفتن . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس : أنها نزلت في مشركي مكة لما قالوا : إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك ، وقتل الأنفس ، وغير ذلك .
وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ثوبان : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما أحبّ أن لي الدنيا ، وما فيها بهذه الآية : { قُلْ ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } "

إلى آخر الآية ، فقال رجل : ومن أشرك؟ ، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « ألا ، ومن أشرك ثلاث مرات » . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، والحاكم ، وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : « يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله : إن الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم » وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : أنه مرّ على قاض يذكر الناس ، فقال : يا مذكر الناس لا تقنط الناس ، ثم قرأ : { ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ } الآية . وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال : قال عليّ : أيّ آية أوسع؟ ، فجعلوا يذكرون آيات من القرآن { وَمَن يَعْمَلْ سُوءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 11 ] الآية ، ونحوها ، فقال علي : ما في القرآن أوسع آية من { ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ياعبادى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } الآية قال : قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله ، ومن زعم أن عزيراً ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولاً من هؤلاء من قال { أَنَا رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى } [ القصص : 38 ] قال ابن عباس : ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا ، فقد جحد كتاب الله ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ } قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا ، وعلمهم قبل أن يعلموا .

اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)

قوله : { الله خالق كُلّ شَىْء } من الأشياء الموجودة في الدنيا ، والآخرة كائناً ما كان من غير فرق بين شيء ، وشيء وقد تقدّم تفسير هذه الآية في الأنعام { وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } أي : الأشياء كلها موكولة إليه ، فهو : القائم بحفظها ، وتدبيرها من غير مشارك له . { لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض } المقاليد ، واحدها مقليد ، ومقلاد ، أو لا واحد له من لفظه كأساطير ، وهي : مفاتيح السماوات ، والأرض ، والرزق ، والرحمة . قاله مقاتل ، وقتادة ، وغيرهما . وقال الليث : المقلاد الخزانة ، ومعنى الآية : له خزائن السماوات ، والأرض ، وبه قال الضحاك ، والسدّي . وقيل : خزائن السماوات المطر ، وخزائن الأرض النبات . وقيل : هي عبارة عن قدرته سبحانه ، وحفظه لها ، والأوّل أولى . قال الجوهري : الإقليد المفتاح ، ثم قال : والجمع المقاليد . وقيل : هي لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله وبحمده ، وأستغفر الله ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله . وقيل غير ذلك . { والذين كَفَرُواْ بئايات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } أي : بالقرآن ، وسائر الآيات الدالة على الله سبحانه ، وتوحيده ، ومعنى الخاسرون : الكاملون في الخسران؛ لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار .
{ قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } الاستفهام للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، و { غير } منصوب ب { أعبد } ، وأعبد معمول؛ ل { تأمروني } على تقدير أن المصدرية ، فلما حذفت بطل عملها ، والأصل : أفتأمروني أن أعبد غير الله . قاله الكسائي ، وغيره . ويجوز أن يكون غير منصوباً بتأمروني ، وأعبد بدل منه بدل اشتمال ، وأن مضمرة معه أيضاً . ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر ، أي : أفتلزموني غير الله ، أي : عبادة غير الله ، أو أعبد غير الله أعبد . أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام ، وقالوا : هو دين آبائك . قرأ الجمهور : { تأمروني } بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء ، وتسكينها . وقرأ نافع : ( تأمروني ) بنون خفيفة ، وفتح الياء ، وقرأ ابن عامر : ( تأمرونني ) بالفك ، وسكون الياء .
{ وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } أي : من الرسل { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } هذا الكلام من باب التعريض لغير الرسل ، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك ، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير ، والإنذار للعباد من الشرك ، لأنه إذا كان موجباً لإحباط عمل الأنبياء على الفرض ، والتقدير ، فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق الأولى . قيل : وفي الكلام تقديم ، وتأخير ، والتقدير : ولقد أوحي إليك لئن أشركت ، وأوحي إلى الذين من قبلك كذلك . قال مقاتل : أي أوحي إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف ، ثم قال : لئن أشركت يا محمد؛ ليحبطن عملك ، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة .

وقيل : إفراد الخطاب في قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } باعتبار كل واحد من الأنبياء كأنه قيل : أوحي إليك ، وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام ، وهو : لئن أشركت ، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم } [ البقرة : 217 ] وقيل : هذا خاص بالأنبياء؛ لأن الشرك منهم أعظم ذنباً من الشرك من غيرهم ، والأوّل أولى ، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بتوحيده ، فقال : { بَلِ الله فاعبد } ، وفي هذا ردّ على المشركين حيث أمروه : بعبادة الأصنام . ووجه الردّ ما يفيده التقديم من القصر . قال الزجاج : لفظ اسم الله منصوب ب { اعبد } قال : ولا اختلاف في هذا بين البصريين ، والكوفيين . وقال الفراء : هو منصوب بإضمار فعل ، وروي مثله عن الكسائي ، والأوّل أولى . قال الزجاج : والفاء في : { فاعبد } للمجازاة . وقال الأخفش : زائدة . قال عطاء ، ومقاتل : معنى { فاعبد } : وحد ، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده { وَكُنْ مّنَ الشاكرين } لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد ، والدعاء إلى دينه ، واختصك به من الرسالة .
{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } قال المبرد : أي ما عظموه حق عظمته ، من قولك فلان عظيم القدر ، وإنما وصفهم بهذا؛ لأنهم عبدوا غير الله ، وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك . وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وعيسى بن عمر : « قدّروا » بالتشديد { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة } القبضة في اللغة ما قبضت عليه بجميع كفك ، فأخبر سبحانه : عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها ، وكثافتها في مقدوره كالشيء الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون : هو في يد فلان ، وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرّف فيه ، وإن لم يقبض عليه ، وكذا قوله : { والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ } ، فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي الواحد منا الشيء المقدور له طيه بيمينه ، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى : القدرة ، والملك . قال الأخفش : بيمينه يقول : في قدرته ، نحو قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } [ النساء : 3 ] أي : ما كانت لكم قدرة عليه ، وليس الملك لليمين دون الشمال ، وسائر الجسد ، ومنه له سبحانه : { لأخَذْنَا مِنْهُ باليمين } [ الحاقة : 45 ] أي : بالقوّة ، والقدرة ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وقول الآخر :
ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيمين
وقول الآخر :
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم
وجملة : { والارض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } في محل نصب على الحال ، أي : ما عظموه حق تعظيمه ، والحال أنه متصف بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة . قرأ الجمهور برفع : { قبضته } على أنها خبر المبتدأ ، وقرأ الحسن بنصبها ، ووجهه ابن خالويه بأنه على الظرفية ، أي : في قبضته .

وقرأ الجمهور : { مطويات } بالرفع على أنها خبر المبتدأ ، والجملة في محل نصب على الحال كالتي قبلها ، و { بيمينه } متعلق ب { مطويات } ، أو حال من الضمير في { مطويات } ، أو خبر ثانٍ ، وقرأ عيسى ، والجحدري بنصب : ( مطويات ) ، ووجه ذلك : أن { السموات } معطوفة على { الأرض } ، وتكون { قبضته } خبراً عن الأرض ، والسموات ، وتكون { مطويات } حالاً ، أو تكون { مطويات } منصوبة بفعل مقدّر ، و { بيمينه } الخبر ، وخصّ يوم القيامة بالذكر ، وإن كانت قدرته شاملة ، لأن الدعاوي تنقطع فيه كما قال سبحانه : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ } [ الحج : 56 ] ، وقال : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] ، ثم نزّه سبحانه نفسه ، فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع هذه القدرة العظيمة ، والحكمة الباهرة .
{ وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الارض } هذه هي : النفخة الأولى ، والصور هو : القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، وقد تقدّم غير مرة ، ومعنى صعق : زالت عقولهم ، فخرّوا مغشياً عليهم . وقيل : ماتوا . قال الواحدي : قال المفسرون : مات من الفزع ، وشدة الصوت أهل السموات ، والأرض . قرأ الجمهور : { الصور } بسكون الواو ، وقرأ قتادة ، وزيد بن علي بفتحها جمع صورة ، والاستثناء في قوله : { إِلاَّ مَن شَاء الله } متصل ، والمستثنى جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل . وقيل : رضوان ، وحملة العرش ، وخزنة الجنة ، والنار { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } يجوز أن يكون { أخرى } في محل رفع على النيابة ، وهي صفة لمصدر محذوف ، أي : نفخة أخرى ، ويجوز أن يكون في محل نصب ، والقائم مقام الفاعل فيه { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } يعني : الخلق كلهم قيام على أرجلهم ينظرون ما يقال لهم ، أو ينتظرون ذلك . قرأ الجمهور : { قيام } بالرفع على أنه خبر ، و { ينظرون } في محل نصب على الحال ، وقرأ زيد بن عليّ بالنصب على أنه حال ، والخبر : { ينظرون } ، والعامل في الحال ما عمل في إذا الفجائية . قال الكسائي : كما تقول خرجت ، فإذا زيد جالساً .
{ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا } الإشراق الإضاءة ، يقال : أشرقت الشمس : إذا أضاءت ، وشرقت : إذا طلعت ، ومعنى { بنور ربها } : بعدل ربها ، قاله الحسن ، وغيره . وقال الضحاك : بحكم ربها ، والمعنى : أن الأرض أضاءت ، وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها ، وما قضى به من الحق فيهم ، فالعدل نور ، والظلم ظلمات . وقيل : إن الله يخلق نوراً يوم القيامة يلبسه وجه الأرض ، فتشرق به غير نور الشمس ، والقمر ، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي ، فإن الله سبحانه هو : نور السماوات ، والأرض . قرأ الجمهور : { أشرقت } مبنياً للفاعل ، وقرأ ابن عباس ، وأبو الجوزاء ، وعبيد بن عمير على البناء للمفعول { ووضع الكتاب } قيل : هو : اللوح المحفوظ . وقال قتادة : يعني : الكتب ، والصحف التي فيها أعمال بني آدم ، فآخذ بيمينه ، وآخذ بشماله ، وكذا قال مقاتل .

وقيل : هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه ، أي : وضع الكتاب للحساب { وَجِىء بالنبيين } أي : جيء بهم إلى الموقف ، فسئلوا عما أجابتهم به أممهم { والشهداء } الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] ، وقيل : المراد بالشهداء : الذين استشهدوا في سبيل الله ، فيشهدون يوم القيامة لمن ذبّ عن دين الله . وقيل : هم الحفظة كما قال تعالى : { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] { وَقُضِىَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : وقضي بين العباد بالعدل ، والصدق ، والحال أنهم لا يظلمون ، أي : لا ينقصون من ثوابهم ، ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } من خير ، وشرّ { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ، ولا حاسب ، ولا شاهد ، وإنما وضع الكتاب ، وجيء بالنبيين ، والشهداء لتكميل الحجة ، وقطع المعذرة .
ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت ، فقال : { وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً } أي : سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمراً ، أي : جماعات متفرّقة بعضها يتلو بعضاً . قال أبو عبيدة ، والأخفش : زمراً جماعات متفرّقة بعضها إثر بعض ، ومنه قول الشاعر :
وترى الناس إلى أبوابه ... زمراً تنتابه بعد زمر
واشتقاقه من الزمر ، وهو : الصوت ، إذ الجماعة لا تخلو عنه { حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أبوابها } أي : فتحت أبواب النار ، ليدخلوها ، وهي : سبعة أبواب ، وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } جمع خازن نحو سدنة ، وسادن { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ } أي : من أنفسكم { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءايات رَبّكُمْ } التي أنزلها عليهم { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } أي : يخوّفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه ، قالوا لهم هذا القول تقريعاً ، وتوبيخاً ، فأجابوا بالاعتراف ، ولم يقدروا عل الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر ، وظهوره ، ولهذا قالوا { بلى } أي : قد أتتنا الرسل بآيات الله ، وأنذرونا بما سنلقاه { ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } ، وهي : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] فلما اعترفوا هذا الاعتراف قيل { ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ } التي قد فتحت لكم؛ لتدخلوها . وانتصاب { خالدين } على الحال ، أي : مقدّرين الخلود { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } المخصوص بالذمّ محذوف ، أي : بئس مثواهم جهنم ، وقد تقدّم تحقيق المثوى في غير موضع .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض } قال : مفاتيحها . وأخرج أبو يعلى ، ويوسف القاضي في سننه ، وأبو الحسن القطان ، وابن السني ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } ، فقال لي :

« يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك ، مقاليد السموات ، والأرض : لا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، وأستغفر الله الذي لا إله إلاّ هو ، الأوّل ، والآخر ، والظاهر ، والباطن ، يحيي ، ويميت ، وهو حيّ لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شيءٍ قدير » ، ثم ذكر فضل هذه الكلمات . وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، عن عثمان قال : جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له : أخبرني عن مقاليد السماوات ، والأرض ، فذكره . وأخرجه الحارث بن أبي أسامة ، وابن مردويه عن أبي هريرة ، عن عثمان . وأخرجه العقيلي ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر ، عن عثمان .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس : أن قريشاً دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً ، فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوّجوه ما أراد من النساء ، ويطأون عقبه ، فقالوا له : هذا لك يا محمد ، وتكفّ عن شتم آلهتنا ، ولا تذكرها بسوء . قال : « حتى أنظر ما يأتيني من ربي » فجاء بالوحي : { قُلْ ياأَيُّهَا الكافرون } [ الكافرون : 1 ] إلى آخر السورة ، وأنزل الله عليه : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } إلى قوله : { مّنَ الخاسرين } . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع ، والشجر على أصبع ، والماء والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة } ، وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض؟ » وفي الباب أحاديث ، وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل ، ولا تعسف لقال وقيل .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رجل من اليهود بسوق المدينة : والذي اصطفى موسى على البشر ، فرفع رجل من الأنصار يده ، فلطمه ، فقال : أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « قال الله : { وَنُفِخَ فِى الصور فَصَعِقَ مَن فِى السموات وَمَن فِى الأرض إِلاَّ مَن شَاء الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } ، فأكون أوّل من يرفع رأسه ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أرفع رأسه قبلي ، أو كان ممن استثنى الله »

وأخرج أبو يعلى ، والدارقطني في الإفراد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِلاَّ مَن شَاء الله } قال : « هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة » الحديث . وأخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وأبو نصر السجزي في الإبانة ، وابن مردويه عن أنس : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { إِلاَّ مَن شَاء الله } ، فقال : « جبريل ، وميكائيل ، وملك الموت ، وإسرافيل ، وحملة العرش » وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله : { إِلاَّ مَن شَاء الله } قال : موسى ، لأنه كان صعق قبل . والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس في قوله : { وَجِىء بالنبيين والشهداء } قال : النبيين الرسل ، والشهداء الذين يشهدون لهم بالبلاغ ليس فيهم طعان ، ولا لعان . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه في الآية قال : يشهدون بتبليغ الرسالة ، وتكذيب الأمم إياهم .

وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)

لما ذكر فيما تقدّم حال الذين كفروا ، وسوقهم إلى جهنم ، ذكر هنا حال المتقين ، وسوقهم إلى الجنة ، فقال : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً } أي : ساقتهم الملائكة سوق إعزاز ، وتشريف ، وتكريم . وقد سبق بيان معنى الزمر { حتى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أبوابها } جواب إذا محذوف . قال المبرد تقديره : سعدوا ، وفتحت ، وأنشد قول الشاعر :
فلو أنها نفس تموت جميعة ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
فحذف جواب لو ، والتقدير : لكان أروح . وقال الزجاج : القول عندي : أن الجواب محذوف على تقدير : حتى إذا جاءوها ، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها ، فالجواب دخولها ، وحذف؛ لأن في الكلام دليلاً عليه . وقال الأخفش ، والكوفيون : الجواب { فتحت } ، والواو زائدة ، وهو خطأ عند البصريين ، لأن الواو من حروف المعاني ، فلا تزاد . قيل : إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله ، والتقدير : حتى إذا جاءوها ، وأبوابها مفتحة بدليل قوله : { جنات عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الابواب } [ ص : 50 ] ، وحذفت الواو في قصة أهل النار ، لأنهم وقفوا على النار ، وفتحت بعد وقوفهم إذلالاً ، وترويعاً . ذكر معناه النحاس منسوباً إلى بعض أهل العلم ، قال : ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد . وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد ، أي : جاءوها ، وقد فتحت لهم الأبواب . وقيل : إنها واو الثمانية ، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد : خمسة ستة سبعة ، وثمانية ، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى ، وفي سورة الكهف أيضاً .
ثم أخبر سبحانه : أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين ، فقال : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ } أي : سلامة لكم من كلّ آفة { طِبْتُمْ } في الدنيا ، فلم تتدنسوا بالشرك ، والمعاصي . قال مجاهد : طبتم بطاعة الله ، وقيل : بالعمل الصالح ، والمعنى واحد . قال مقاتل : إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة ، والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا ، وطيبوا قال لهم رضوان ، وأصحابه : { سلام عَلَيْكُمُ } الآية { فادخلوها } أي : ادخلوا الجنة { خالدين } أي : مقدّرين الخلود ، فعند ذلك قال أهل الجنة : { الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ } بالبعث ، والثواب بالجنة { وَأَوْرَثَنَا الأرض } أي : أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم ، فملكوها ، وتصرفوا فيها . وقيل : إنهم ورثوا الأرض التي كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين . قاله أكثر المفسرين . وقيل : إنها أرض الدنيا ، وفي الكلام تقديم ، وتأخير { نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء } أي : نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء { فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } المخصوص بالمدح محذوف ، أي : فنعم أجر العاملين الجنة ، وهذا من تمام قول أهل الجنة .

وقيل : هو من قول الله سبحانه : { وَتَرَى الملائكة حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } أي : محيطين محدقين به ، يقال : حفّ القوم بفلان إذا أطافوا به ، و «من» مزيدة . قاله الأخفش ، أو للابتداء ، والمعنى : أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم ، وجملة : { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } في محل نصب على الحال ، أي : حال كونهم مسبحين لله ملتبسين بحمده . وقيل : معنى يسبحون : يصلون حول العرش شكراً لربهم ، والحافين جمع حافّ ، قاله الأخفش . وقال الفراء : لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين { وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق } أي : بين العباد بإدخال بعضهم الجنة ، وبعضهم النار ، وقيل : بين النبيين الذين جيء بهم مع الشهداء ، وبين أممهم بالحق . وقيل : بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم ، والأوّل أولى . { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبّ العالمين } القائلون هم : المؤمنون حمدوا الله على قضائه بينهم ، وبين أهل النار بالحق . وقيل : القائلون هم : الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم ، وقضائه بين عباده بالحقّ .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة " وأخرجا ، وغيرهما عن سهل بن سعد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى باب : الريان لا يدخله إلا الصائمون " وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في الصحيحين ، وغيرهما . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وَأَوْرَثَنَا الأرض } قال : أرض الجنة . وأخرج هناد عن أبي العالية مثله .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)

قوله : { حم } قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعاً ، وقرأ حمزة ، والكسائي بإمالته إمالة محضة . وقرأ أبو عمرو بإمالته بين بين ، وقرأ الجمهور : { حم} بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة . وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر ، أو مبتدأ ، والخبر ما بعده . وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر ، أو على أنها حركة بناء لا حركة إعراب . وقرأ ابن أبي إسحاق ، وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين ، أو بتقدير القسم . وقرأ الجمهور بوصل الحاء بالميم . وقرأ أبو جعفر بقطعها .
وقد اختلف في معناه ، فقيل : هو اسم من أسماء الله ، وقيل : اسم من أسماء القرآن . وقال الضحاك ، والكسائي معناه : قضى ، وجعلاه بمعنى حمّ أي : قضى ، ووقع ، وقيل : معناه حمّ أمر الله ، أي : قرب نصره لأوليائه ، وانتقامه من أعدائه . وهذا كله تكلف لا موجب له ، وتعسف لا ملجىء إليه ، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة ، وأمثالها : من المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدّمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة .
{ تَنزِيلُ الكتاب } هو : خبر ل { حم} على تقدير أنه مبتدأ ، أو خبر لمبتدأ مضمر ، أو هو : مبتدأ ، وخبره { مِنَ الله العزيز العليم } قال الرازي : المراد بتنزيل المنزل ، والمعنى : أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه . والعزيز : الغالب القاهر ، والعليم : الكثير العلم بخلقه ، وما يقولونه ، ويفعلونه . { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } قال الفرّاء : جعلها كالنعت للمعرفة ، وهي : نكرة ، ووجه قوله هذا : أن إضافتها لفظية ، ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية كما قال سيبويه : إن كل ما إضافته غير محضة يجوز أن تجعل محضة ، وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة . وأما الكوفيون ، فلم يستثنوا شيئاً بل جعلوا الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة ، وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص ، فيجوّزون في { شديد } هنا أن تكون إضافته محضة . وعلى قول سيبويه : لا بدّ من تأويله بمشدّد . وقال الزجاج : إن هذه الصفات الثلاث مخفوضة على البدل . وروي عنه : أنه جعل غافر ، وقابل مخفوضين على الوصف ، وشديد مخفوض على البدل ، والمعنى : غافر الذنب لأوليائه ، وقابل توبتهم ، وشديد العقاب لأعدائه ، والتوب مصدر بمعنى : التوبة من تاب يتوب توبة ، وتوباً ، وقيل : هو جمع توبة ، وقيل : غافر الذنب لمن قال : لا إله إلا الله ، وقابل التوب من الشرك ، وشديد العقاب لمن لا يوحده ، وقوله : { ذِى الطول } يجوز أن يكون صفة ، لأنه معرفة ، وأن يكون بدلاً ، وأصل الطول الإنعام ، والتفضل ، أي : ذي الإنعام على عباده ، والتفضل عليهم . وقال مجاهد : ذي الغنى ، والسعة . ومنه قوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } [ النساء : 25 ] أي : غنى ، وسعة ، وقال عكرمة : ذي الطول ذي المنّ .

قال الجوهري : والطول بالفتح المنّ يقال منه : طال عليه ، ويطول عليه إذا امتنّ عليه . وقال محمد بن كعب : ذي الطول ذي التفضل . قال الماورودي : والفرق بين المنّ ، والتفضل : أن المنّ عفو عن ذنب ، والتفضل إحسان غير مستحقّ . ثم ذكر ما يدلّ على توحيده ، وأنه الحقيق بالعبادة ، فقال : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المصير } لا إلى غيره ، وذلك في اليوم الآخر .
ثم لما ذكر أن القرآن كتاب الله أنزله؛ ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله ، فقال : { مَا يجادل فِى ءايات الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } أي : ما يخاصم في دفع آيات الله ، وتكذيبها إلا الذين كفروا ، والمراد : الجدال بالباطل ، والقصد إلى دحض الحقّ كما في قوله : { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } . فأما الجدال لاستيضاح الحقّ ، ورفع اللبس ، والبحث عن الراجح ، والمرجوح ، وعن المحكم ، والمتشابه ، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن ، وردّهم بالجدال إلى المحكم ، فهو من أعظم ما يتقرّب المتقرّبون ، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب ، فقال : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] ، وقال : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ فِي الكتاب أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } [ البقرة : 159 ] ، وقال : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى البلاد } لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر ، نهى رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يغترّ بشيء من حظوظهم الدنيوية ، فقال : فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة في البلاد ، وما يحصلونه من الأرباح ، ويجمعونه من الأموال ، فإنهم معاقبون عما قليل ، وإن أمهلوا ، فإنهم لا يهملون . قال الزجاج : لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم ، فإن عاقبتهم الهلاك . قرأ الجمهور : { لا يغررك } بفك الإدغام . وقرأ زيد بن عليّ ، وعبيد بن عمير بالإدغام .
ثم بيّن حال من كان قبلهم ، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ } الضمير في من بعدهم يرجع إلى قوم نوح ، أي : وكذبت الأحزاب الذين تحزّبوا على الرسل من بعد قوم نوح كعاد ، وثمود { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي : همت كلّ أمة من تلك الأمم المكذبة برسولهم الذي أرسل إليهم؛ ليأخذوه؛ ليتمكنوا منه ، فيحبسوه ، ويعذبوه ، ويصيبوا منه ما أرادوا . وقال قتادة ، والسدّي : ليقتلوه ، والأخذ قد يرد بمعنى : الإهلاك ، كقوله : { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ الحج : 44 ] والعرب تسمي الأسير : الأخيذ { وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } أي : خاصموا رسولهم بالباطل من القول ، ليدحضوا به الحق؛ ليزيلوه ، ومنه مكان دحض ، أي : مزلقة ، ومزلة أقدام ، والباطل داحض؛ لأنه يزلق ، ويزول ، فلا يستقرّ .

قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك؛ ليبطلوا به الإيمان { فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي : فأخذت هؤلاء المجادلين بالباطل ، فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به ، وحذف ياء المتكلم من عقاب اجتزاء بالكسرة عنها وصلا ، ووقفا؛ لأنها رأس آية { وكذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } أي : وجبت ، وثبتت ، ولزمت ، يقال : حقّ الشيء إذا لزم ، وثبت ، والمعنى : وكما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم حقت على الذين كفروا به ، وجادلوك بالباطل ، وتحزبوا عليك ، وجملة : { أَنَّهُمْ أصحاب النار } للتعليل ، أي : لأجل أنهم مستحقون للنار . قال الأخفش : أي لأنهم ، أو بأنهم . ويجوز أن تكون في محل رفع بدلاً من كلمة . قرأ الجمهور : { كلمة } بالتوحيد ، وقرأ نافع ، وابن عامر : ( كلمات ) بالجمع .
ثم ذكر أحوال حملة العرش ، ومن حوله ، فقال : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ } ، والموصول مبتدأ ، وخبره يسبحون بحمد ربهم ، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله ، والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله ، ورسوله ، وصدّقوا ، والمراد بمن حول العرش : هم : الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين ، وهو في محل رفع عطفاً على الذين يحملون العرش ، وهذا هو الظاهر . وقيل : يجوز أن تكون في محل نصب عطفاً على العرش ، والأوّل أولى . والمعنى : أن الملائكة الذين يحملون العرش ، وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله ملتبسين بحمده على نعمه ، ويؤمنون بالله ، ويستغفرون الله لعباده المؤمنين به . ثم بيّن سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين ، فقال حاكياً عنهم : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } ، وهو بتقدير القول ، أي يقولون ربنا ، أو قائلين : ربنا وسعت كل شيء رحمة ، وعلماً . انتصاب { رحمة } ، و { علماً } على التمييز المحوّل عن الفاعل ، والأصل وسعت رحمتك ، وعلمك كل شيء { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } أي : أوقعوا التوبة عن الذنوب ، واتبعوا سبيل الله ، وهو دين الإسلام { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } أي : احفظهم منه .
{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ } و { أدخلهم } معطوف على قوله : { قهم } ، ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير ، ووصف جنات عدن بأنها { التى وَعَدْتَّهُمْ } إياها { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وأزواجهم وَذُرّيَّاتِهِمْ } أي : وأدخل من صلح ، والمراد بالصلاح ها هنا : الإيمان بالله ، والعمل بما شرعه الله ، فمن فعل ذلك ، فقد صلح لدخول الجنة ، ويجوز عطف ، ومن صلح على الضمير في وعدتهم ، أي : ووعدت من صلح ، والأولى عطفه على الضمير الأوّل في وأدخلهم ، قال الفراء ، والزجاج : نصبه من مكانين إن شئت على الضمير في أدخلهم . وإن شئت على الضمير في وعدتهم . قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح . وقرأ ابن أبي عيلة بضمها ، وقرأ الجمهور : { وذرياتهم } على الجمع . وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد { إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي : الغالب القاهر الكثير الحكمة الباهرة .

{ وَقِهِمُ السيئات } أي : العقوبات ، أو جزاء السيئات على تقدير مضاف محذوف . قال قتادة : وقهم ما يسوؤهم من العذاب { وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } يقال : وقاه يقيه وقاية ، أي : حفظه ، ومعنى { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } أي : رحمته من عذابك ، وأدخلته جنتك ، والإشارة بقوله : { وَذَلِكَ } إلى ما تقدّم من إدخالهم الجنات ، ووقايتهم السيئات ، وهو مبتدأ ، وخبره : { هُوَ الفوز العظيم } أي : الظفر الذي لا ظفر مثله ، والنجاة التي لا تساويها نجاة .
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال : { حم } اسم من أسماء الله . وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وأبو عبيد ، وابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والترمذي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن المهلب بن أبي صفرة قال : حدّثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ليلة الخندق : « إن أتيتم الليلة ، فقولوا حملا ينصرون » وأخرج ابن أبي شيبة ، والنسائي ، والحاكم ، وابن مردويه عن البراء بن عازب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنكم تلقون عدوّكم ، فليكن شعاركم حملا ينصرون » وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { ذِى الطول } قال : ذي السعة ، والغنى . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { غَافِرِ الذنب } الآية قال : غافر الذنب لمن يقول : لا إله إلاّ الله { وَقَابِلِ التوب } ممن يقول : لا إله إلاّ الله { شَدِيدُ العقاب } لمن لا يقول : لا إله إلاّ الله { ذِى الطول } ذي الغنى { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } كانت كفار قريش لا يوحدونه ، فوحد نفسه { إِلَيْهِ المصير } مصير من يقول : لا إله إلاّ الله ، فيدخله الجنة ، ومصير من لا يقول : لا إله إلاّ الله ، فيدخله النار . وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن جدالاً في القرآن كفر » وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مراء في القرآن كفر » .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار ، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب ، وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد دخول النار ، فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } . قال الواحدي : قال المفسرون : إنهم لما رأوا أعمالهم ، ونظروا في كتابهم ، وأدخلوا النار ، ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد : { لَمَقْتُ الله } إياكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان ، فتكفرون { أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } اليوم . قال الأخفش : هذه اللام في لمقت هي : لام الابتداء أوقعت بعد ينادون؛ لأن معناه : يقال لهم ، والنداء قول . قال الكلبي : يقول كل إنسان لنفسه من أهل النار : مقتك يا نفس ، فتقول الملائكة لهم ، وهم في النار : لمقت الله إياكم في الدنيا أشدّ من مقتكم أنفسكم اليوم . وقال الحسن : يعطون كتابهم ، فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم ، فينادون : لمقت الله إياكم في الدنيا { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمان } أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار ، والظرف في : { إِذْ تَدْعُونَ } منصوب بمقدّر محذوف دلّ عليه المذكور ، أي : مقتكم وقت دعائكم . وقيل : بمحذوف هو : اذكروا . وقيل : بالمقت المذكور ، والمقت أشدّ البغض .
ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار ، فقال : { قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } اثنتين في الموضعين نعتان لمصدر محذوف ، أي : أمتنا إماتتين اثنتين ، وأحييتنا إحياءتين اثنتين ، والمراد بالإماتتين : أنهم كانوا نطفاً لا حياة لهم في أصلاب آبائهم ، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا ، والمراد بالإحياءتين : أنه أحياهم الحياة الأولى في الدنيا ، ثم أحياهم عند البعث ، ومثل هذه الآية قوله : { وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] . وقيل : معنى الآية : أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ، ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال ، ثم أميتوا ، ثم أحياهم الله في الآخرة ، ووجه هذا القول : أن الموت سلب الحياة ، ولا حياة للنطفة . ووجه القول الأوّل : أن الموت قد يطلق على عادم الحياة من الأصل ، وقد ذهب إلى تفسير الأوّل جمهور السلف . وقال ابن زيد : المراد بالآية : أنه خلقهم في ظهر آدم ، واستخرجهم ، وأحياهم ، وأخذ عليهم الميثاق ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم في الدنيا ، ثم أماتهم . ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا ، فقال حاكياً عنهم : { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب الرّسل ، والإشراك بالله ، وترك توحيده ، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف ، وندموا حيث لا ينفعهم الندم ، وقد جعلوا اعترافهم هذا مقدّمة لقولهم : { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } أي : هل إلى خروج لنا من النار ، ورجوع لنا إلى الدنيا من سبيل ، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم :

{ فَهَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] ، وقوله : { فارجعنا نَعْمَلْ صالحا } [ السجدة : 12 ] ، وقوله : { ياليتنا نُرَدُّ } [ الأنعام : 27 ] الآية .
ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ } أي : ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعي الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به ، وتركتم توحيده { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ } غيره من الأصنام ، أو غيرها { تُؤْمِنُواْ } بالإشراك به ، وتجيبوا الدّاعي إليه ، فبيّن سبحانه لهم السبب الباعث على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار ، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله ، وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدّعاء ، ومحل ذلكم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلكم ، أو مبتدأ خبره محذوف ، أي : ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بذلك السبب ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرّدّ ، وذلك لأنكم كنتم إذا دعي الله . . . إلخ { فالحكم للَّهِ } : وحده دون غيره ، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار ، وعدم الخروج منها ، و { العلى } : المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ، ولا صفاته ، و { الكبير } : الذي كبر عن أن يكون له مثل ، أو صاحبة ، أو ولد ، أو شريك { هُوَ الذى يُرِيكُمْ ءاياته } أي : دلائل توحيده ، وعلامات قدرته { وَيُنَزّلُ لَكُم مّنَ السماء رِزْقاً } يعني : المطر ، فإنه سبب الأرزاق . جمع سبحانه بين إظهار الآيات ، وإنزال الأرزاق ، لأن بإظهار الآيات قوام الأديان ، وبالأرزاق قوام الأبدان ، وهذه الآيات هي : التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سمواته ، وأرضه ، وما فيهما ، وما بينهما . قرأ الجمهور : { ينزل } بالتشديد . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالتخفيف { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } أي : ما يتذكر ، ويتعظ بتلك الآيات الباهرة ، فيستدلّ بها على التوحيد ، وصدق الوعد ، والوعيد إلا من ينيب ، أي : يرجع إلى طاعة الله بما يستفيده من النظر في آيات الله .
ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه ، وإخلاص الدّين له ، فقال : { فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي : إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك ، فادعوا الله وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } ذلك ، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم ، ودعوهم يموتوا بغيظهم ، ويهلكوا بحسرتهم . { رَفِيعُ الدرجات } ، وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر عن المبتدأ المتقدّم أي : هو الذي يريكم آياته ، وهو رفيع الدرجات . وكذلك { ذُو العرش } خبر ثالث ، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ ، وخبره { ذُو العرش } ، ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف ، ورفيع صفة مشبهة ، والمعنى : رفيع الصفات ، أو رفيع درجات ملائكته ، أي : معارجهم ، أو رفيع درجات أنبيائه ، وأوليائه في الجنة . وقال الكلبي ، وسعيد بن جبير : رفيع السموات السبع ، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى : رافع ، ومعنى ، ذو العرش : مالكه ، وخالقه ، والمتصرف فيه ، وذلك يقتضي علوّ شأنه ، وعظم سلطانه ، ومن كان كذلك ، فهو الذي يحقّ له العبادة ، ويجب له الإخلاص ، وجملة : { يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ } في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدّم ، أو للمقدّر ، ومعنى ذلك : أنه سبحانه يلقي الوحي { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } ، وسمي الوحي : روحاً ، لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح ، وقوله : { مِنْ أَمْرِهِ } متعلق ب { يلقى } ، و «من» لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الروح ، ومثل هذه الآية قوله تعالى :

{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] . وقيل : الروح جبريل كما في قوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 ، 194 ] ، وقوله : { نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبّكَ بالحق } [ النحل : 102 ] ، وقوله : { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } هم : الأنبياء ، ومعنى { مِنْ أَمْرِهِ } : من قضائه { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } قرأ الجمهور : { لينذر } مبنياً للفاعل ، ونصب اليوم ، والفاعل هو : الله سبحانه ، أو الرسول ، أو من يشاء ، والمنذر به محذوف تقديره : لينذر العذاب يوم التلاق . وقرأ أبيّ ، وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازاً . وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وابن السميفع : ( لتنذر ) بالفوقية على أن الفاعل ضمير المخاطب ، وهو : الرسول ، أو ضمير يرجع إلى الرّوح؛ لأنه يجوز تأنيثها . وقرأ اليماني : ( لينذر ) على البناء للمفعول ، ورفع يوم على النيابة ، ومعنى { يَوْمَ التلاق } : يوم يلتقي أهل السموات ، والأرض في المحشر ، وبه قال قتادة . وقال أبو العالية ، ومقاتل : يوم يلتقي العابدون ، والمعبودون ، وقيل : الظالم ، والمظلوم . وقيل : الأوّلون ، والآخرون . وقيل : جزاء الأعمال ، والعاملون .
وقوله : { يَوْمَ هُم بارزون } بدل من يوم التلاق . وقال ابن عطية : هو منتصب بقوله : { لاَ يخفى عَلَى الله } وقيل : منتصب بإضمار اذكر ، والأوّل أولى ، ومعنى بارزون : خارجون من قبورهم لا يسترهم شيء ، وجملة : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء } مستأنفة مبينة لبروزهم ، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير بارزون ، ويجوز أن تكون خبراً ثانياً للمبتدأ ، أي : لا يخفى عليه سبحانه شيء منهم ، ولا من أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وجملة : { لّمَنِ الملك اليوم } مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر كأنه قيل : فماذا يقال عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ ، فقيل : يقال : لمن الملك اليوم؟ قال المفسرون : إذا هلك كل من في السموات ، والأرض ، فيقول الرّبّ تبارك وتعالى : { لّمَنِ الملك اليوم } يعني : يوم القيامة ، فلا يجيبه أحد ، فيجيب تعالى نفسه ، فيقول : { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } قال الحسن : هو السائل تعالى ، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه ، فيجيب نفسه . وقيل : إنه سبحانه يأمر منادياً ينادي بذلك ، فيقول أهل المحشر مؤمنهم ، وكافرهم : { للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } وقيل : إنه يجيب المنادي بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار .

وقيل : هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوي المبطلين ، كما في قوله تعالى : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 17 19 ] ، وقوله : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } من تمام الجواب على القول بأن المجيب هو : الله سبحانه ، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم ، أو بعضهم ، فهو : مستأنف لبيان ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم أي : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشرّ لا ظلم اليوم على أحد منهم بنقص من ثوابه ، أو بزيادة في عقابه { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي : سريع حسابه ، لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شيء ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة .
ثم أمر الله سبحانه رسوله : بإنذار عباده ، فقال : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأزفة } أي : يوم القيامة سميت بذلك لقربها ، يقال : أزف فلان ، أي : قرب يأزف أزفاً ، ومنه قول النابغة :
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل بركابنا وكأن قد
ومنه قوله تعالى : { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 57 ] أي : قربت الساعة . وقيل : إن يوم الآزفة هو : يوم حضور الموت ، والأوّل أولى . قال الزجاج : وقيل لها : آزفة؛ لأنها قريبة ، وإن استبعد الناس أمرها ، وما هو كائن ، فهو : قريب { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كاظمين } وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله : { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] . { كاظمين } مغمومين مكروبين ممتلئين غمًّا . قال الزجاج : المعنى : إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال كظمهم . قال قتادة : وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة ، فهي لا تخرج ، ولا تعود في أمكنتها . وقيل : هو إخبار عن نهاية الجزع ، وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب ، لأن المعنى : إذ قلوب الناس لدى حناجرهم ، فيكون حالاً منهم . وقيل : حالاً من القلوب ، وجمع الحال منها جمع العقلاء؛ لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء فجمعت جمعه . ثم بين سبحانه : أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد ، فقال : { مَا للظالمين مِنْ حَمِيمٍ } أي : قريب ينفعهم { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } في شفاعته لهم ، ومحل { يطاع } الجر على أنه صفة ل { شفيع } .
ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شيء ، وإن كان في غاية الخفاء فقال : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين } ، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه ، والجملة خبر آخر لقوله : { هُوَ الذى يُرِيكُمُ } قال المؤرج : فيه تقديم ، وتأخير ، أي : يعلم الأعين الخائنة . وقال قتادة : خائنة الأعين : الهمز بالعين فيما لا يحب الله .

وقال الضحاك : هو قول الإنسان ما رأيت ، وقد رأى ، ورأيت ، وما رأى . وقال سفيان : هي : النظرة بعد النظرة . والأول أولى ، وبه قال مجاهد { وَمَا تُخْفِى الصدور } من الضمائر ، وتسرّه من معاصي الله { والله يَقْضِى بالحق } فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير ، وشرّ { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي : تعبدونهم من دون الله { لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء } ، لأنهم لا يعلمون شيئاً ، ولا يقدرون على شيء . قرأ الجمهور : { يدعون } بالتحتية يعني : الظالمين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، وقرأ نافع ، وشيبة ، وهشام بالفوقية على الخطاب لهم { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } ، فلا يخفى عليه من المسموعات ، والمبصرات خافية .
وقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } قال : هي مثل التي في البقرة { كُنتُمْ أمواتا فأحياكم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] كانوا أمواتاً في صلب آبائهم ، ثم أخرجهم ، فأحياهم ، ثم أماتهم ، ثم يحييهم بعد الموت . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : كنتم تراباً قبل أن يخلقكم ، فهذه ميتة ، ثم أحياكم ، فخلقكم ، فهذه حياة ، ثم يميتكم ، فترجعون إلى القبور ، فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة ، فهذه حياة ، فهما موتتان ، وحياتان كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم } الآية . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ التلاق } قال : يوم القيامة يلتقي فيه آدم ، وآخر ولده . وأخرج عنه أيضاً قال : { يَوْمَ التلاق } يوم الآزفة ، ونحو هذا من أسماء يوم القيامة عظمه الله ، وحذره عباده . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم في الحلية عنه أيضاً قال : «ينادي مناد بين يدي الساعة : يا أيها الناس أتتكم الساعة ، فيسمعها الأحياء ، والأموات ، وينزل الله إلى السماء الدنيا ، فيقول : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } » . وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث ، والديلمي عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن مسعود قال : «يجمع الله الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط ، فأوّل ما يتكلم أن ينادي منادٍ : { لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } فأول ما يبدأ به من الخصومات الدماء» .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِى الصدور } قال : الرجل يكون في القوم ، فتمرّ بهم المرأة ، فيريهم أنه يغضّ بصره عنها ، وإذا غفلوا لحظ إليها ، وإذا نظروا غضّ بصره عنها ، وقد اطلع الله من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها .

وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال : إذا نظر إليها يريد الخيانة أم لا { وَمَا تُخْفِى الصدور } قال : إذا قدر عليها أيزني بها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها { والله يَقْضِى بالحق } قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة ، وبالسيئة السيئة . وأخرج أبو داود ، والنسائي ، وابن مردويه عن سعد قال : لما كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر ، وامرأتين ، وقال : « اقتلوهم ، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة » منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، فاختبأ عند عثمان بن عفان ، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به . فقال : يا رسول الله بايع عبد الله ، فرفع رأسه ، فنظر إليه ثلاثاً كل ذلك يأبى بيعته ، ثم بايعه ، ثم أقبل على أصحابه ، فقال : « أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته ، فيقتله؟ » فقالوا : ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك؟ ، فقال : « إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين » .

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)

لما خوّفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا ، فقال : { أَوَ لَمْ يَسِيروُاْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم ، فإن الذين مضوا من الكفار { كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } من هؤلاء الحاضرين من الكفار ، وأقوى { وَآثَاراً فِي الأرض } بما عمروا فيها من الحصون والقصور ، وبما لهم من العدد والعدّة ، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله . وقوله : { فَيَنظُرُواْ } إما مجزوم بالعطف على يسيروا ، أو منصوب بجواب الاستفهام ، وقوله : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك . وقوله : { وَءاثَاراً } عطف على قوّة . قرأ الجمهور : { أشد منهم } ، وقرأ ابن عامر : ( أشد منكم ) على الالتفات { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } أي : بسبب ذنوبهم { وَمَا كَانَ لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } أي : من دافع يدفع عنهم العذاب ، وقد مرّ تفسير هذه الآية في مواضع ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من الأخذ { بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي : بالحجج الواضحة { فَكَفَرُواْ } بما جاءوهم به { فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ } يفعل كلّ ما يريده لا يعجزه شيء { شَدِيدُ العقاب } لمن عصاه ، ولم يرجع إليه .
ثم ذكر سبحانه قصة موسى ، وفرعون؛ ليعتبروا ، فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } هي : التسع الآيات التي قد تقدّم ذكرها في غير موضع { وسلطان مُّبِينٍ } أي : حجة بينة واضحة ، وهي : التوراة { إلى فِرْعَوْنَ وهامان وَقَشرُونَ فَقَالُواْ } إنه { ساحر كَذَّابٌ } أي : فيما جاء به ، وخصهم بالذكر؛ لأنهم رؤساء المكذبين بموسى ، ففرعون الملك ، وهامان الوزير ، وقارون صاحب الأموال ، والكنوز { فَلَمَّا جَاءهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا } ، وهي : معجزاته الظاهرة الواضحة { قَالُواْ اقتلوا أَبْنَاء الذين ءامَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَاءهُمْ } قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأوّل ، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى ، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل ، فكان يأمر بقتل الذكور ، وترك النساء ، ومثل هذا قول فرعون : { سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ } [ الأعراف : 127 ] { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي : في خسران ووبال ، لأنه يذهب باطلاً ، ويحيق بهم ما يريده الله عزّ وجلّ .
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِى أَقْتُلْ موسى } إنما قال هذا؛ لأنه كان في خاصة قومه من يمنعه من قتل موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب ، والمعنى : اتركوني أقتله { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } الذي يزعم : أنه أرسله إلينا ، فليمنعه من القتل إن قدر على ذلك ، أي : لا يهولنكم ذلك ، فإنه لا ربّ له حقيقة؛ بل أنا ربكم الأعلى ، ثم ذكر العلة التي لأجلها أراد أن يقتله ، فقال : { إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ } الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ، ويدخلهم في دينه الذي هو : عبادة الله وحده { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الفساد } أي : يوقع بين الناس الخلاف ، والفتنة ، جعل اللعين ظهور ما دعا إليه موسى ، وانتشاره في الأرض ، واهتداء الناس به فساداً ، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ، ومن تابعه .

قرأ الكوفيون ، ويعقوب : { أو أن يظهر } بأو التي للإبهام ، والمعنى : أنه لا بدّ من وقوع أحد الأمرين . وقرأ الباقون : { وأن يظهر } بدون ألف على معنى : وقوع الأمرين جميعاً ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو بفتح الياء من : ( إني أخاف ) ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحفص : { يظهر } بضم الياء ، وكسر الهاء من أظهر ، وفاعله ضمير موسى ، والفساد نصباً على أنه مفعول به ، وقرأ الباقون بفتح الياء ، والهاء ، ورفع الفساد على الفاعلية { وَقَالَ موسى إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } قرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : { عذت } بإدغام الذال ، وقرأ الباقون بالإظهار ، لما هدّده فرعون بالقتل استعاذ بالله عزّ وجلّ من كلّ متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث ، والنشور ، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولاً أوّلياً .
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانه } قال الحسن ، ومقاتل ، والسدّي : كان قبطياً ، وهو : ابن عم فرعون ، وهو الذي نجا مع موسى ، وهو المراد بقوله : { وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى } [ القصص : 20 ] الآية ، وقيل : كان من بني إسرائيل ، ولم يكن من آل فرعون ، وهو خلاف ما في الآية ، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديماً ، وتأخيراً ، والتقدير : وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون . قال القشيري : ومن جعله إسرائيلياً ، ففيه بعد ، لأنه يقال : كتمه أمر كذا ، ولا يقال : كتم منه كما قال سبحانه : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] ، وأيضاً ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول .
وقد اختلف في اسم هذا الرجل ، فقيل : حبيب . وقيل : حزقيل . وقيل غير ذلك ، قرأ الجمهور : { رجل } بضم الجيم ، وقرأ الأعمش ، وعبد الوارث بسكونها ، وهي : لغة تميم ، ونجد ، والأولى هي : الفصيحة ، وقرىء بكسر الجيم و { مؤمن } صفة لرجل ، و { من آل فرعون } صفة أخرى ، و { يكتم إيمانه } صفة ثالثة ، والاستفهام في { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } للإنكار ، و { أَن يَقُولَ رَبّىَ الله } في موضع نصب بنزع الخافض ، أي : لأن يقول ، أو كراهة أن يقول ، وجملة : { وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحات ، والدلالات الظاهرات على نبوّته ، وصحة رسالته ، ثم تلطف لهم في الدفع عنه ، فقال : { وَإِن يَكُ كاذبا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صادقا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } ، ولم يكن قوله هذا لشك منه ، فإنه كان مؤمناً كما وصفه الله .

ولا يشك المؤمن ، ومعنى { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } أنه إذا لم يصبكم كله ، فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه ، وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفاً لكثرة الاستعمال ، كما قال سيبويه ، وقال أبو عبيدة ، وأبو الهيثم : بعض هنا بمعنى : كل ، أي : يصبكم كلّ الذي يعدكم ، وأنشد أبو عبيدة على هذا قول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي : كلّ النفوس ، وقد اعترض عليه ، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى : الكلّ كما في قول الشاعر :
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقول الآخر :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وليس في البيتين ما يدلّ على ما زعموه ، وأما بيت لبيد ، فقيل : إنه أراد ببعض النفوس نفسه ، ولا ضرورة تلجىء إلى حمل ما في الآية على ذلك ، لأنه أراد التنزّل معهم ، وإيهامهم : أنه لا يعتقد صحة نبوّته كما يفيده قوله : { يَكْتُمُ إيمانه } قال أهل المعاني : وهذا على المظاهرة في الحجاج ، كأنه قال لهم : أقلّ ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وفي بعض ذلك هلاككم ، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل . وقال الليث : بعض ها هنا صلة يريد يصبكم الذي يعدكم . وقيل : يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا ، وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب . وقيل : إنه وعدهم بالثواب ، والعقاب ، فإذا كفروا أصابهم العقاب ، وهو بعض ما وعدهم به { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } هذا من تمام كلام الرجل المؤمن ، وهو : احتجاج آخر ذو وجهين : أحدهما : أنه لو كان مسرفاً كذاباً لما هداه الله إلى البينات ، ولا أيده بالمعجزات ، وثانيهما : أنه إذا كان كذلك خذله الله ، وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله ، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها ، والكذاب المفتري .
{ ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظاهرين فِى الأرض } ذكرهم ذلك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ، ليشكروا الله ، ولا يتمادوا في كفرهم ، ومعنى { ظاهرين } : الظهور على الناس ، والغلبة لهم ، والاستعلاء عليهم ، والأرض أرض مصر ، وانتصاب { ظاهرين } على الحال { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَاءنَا } أي : من يمنعنا من عذابه ، ويحول بيننا ، وبينه عند مجيئه ، وفي هذا تحذير منه لهم من نقمة الله بهم ، وإنزال عذابه عليهم ، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة ، والرعاية بمكان مكين ، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكاً يكون فيه جلب النفع لهم ، ودفع الضرّ عنهم ، ولهذا قال : { مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أرى } قال ابن زيد : أي : ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي .

وقال الضحاك : ما أعلمكم إلا ما أعلم ، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية ، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى { وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } أي : ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحقّ . قرأ الجمهور : { الرشاد } بتخفيف الشين ، وقرأ معاذ بن جبل بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضرّاب . وقال النحاس : هي : لحن ، ولا وجه لذلك .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ } قال : لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره ، وغير امرأة فرعون ، وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] قال ابن المنذر : أخبرت أن اسمه حزقيل . وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال : اسمه حبيب . وأخرج البخاري ، وغيره من طريق عروة قال : قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرنا بأشدّ شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر ، فأخذ بمنكبيه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبّىَ الله وَقَدْ جَاءكُمْ بالبينات مِن رَّبّكُمْ } » . وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة ، والبزار عن عليّ بن أبي طالب ، أنه قال : أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا : أنت . قال : أما أني ما بارزت أحداً إلا انتصفت منه ، ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا : لا نعلم ، فمن؟ قال : أبو بكر ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذته قريش ، فهذا يجنبه ، وهذا يتلتله ، وهم يقولون : أنت الذي جعلت الآلهة إلاهاً واحداً ، قال : فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ، ويجيء هذا ، ويتلتل هذا ، وهو يقول : ويلكم { أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله } ، ثم رفع بردة كانت عليه ، فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم قال : أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم ، فقال : ألا تجيبون؟ ، فوالله لساعة من أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون ، وذاك رجل يكتم إيمانه ، وهذا رجل أعلن إيمانه .

وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)

ثمّ كرّر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم ، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم ، فقال الله حاكياً عنه : { وَقَالَ الذى ءامَنَ ياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ مّثْلَ يَوْمِ الاحزاب } أي : مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم . وأفرد اليوم؛ لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه ، ثم فسر الأحزاب ، فقال : { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ } أي : مثل حالهم في العذاب ، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب ، أو مثل جزاء ما كانوا عليه من الكفر ، والتكذيب { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } أي : لا يعذبهم بغير ذنب ، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي الظلم بفحوى الخطاب . ثم زاد في الوعظ ، والتذكير ، فقال : { وياقوم إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد } قرأ الجمهور : { التناد } بتخفيف الدال ، وحذف الياء . والأصل التنادي ، وهو : التفاعل من النداء ، يقال : تنادى القوم ، أي : نادى بعضهم بعضاً ، وقرأ الحسن ، وابن السميفع ، ويعقوب ، وابن كثير ، ومجاهد بإثبات الياء على الأصل ، وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، وعكرمة بتشديد الدال . قال بعض أهل اللغة : هو : لحن ، لأنه من ندّ يندّ : إذا مرّ على وجهه هارباً . قال النحاس : وهذا غلط ، والقراءة حسنة على معنى التنافي . قال الضحاك : في معناه : أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندّوا هرباً ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفاً من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله : { يَوْمَ التناد } ، وعلى قراءة الجمهور المعنى : يوم ينادي بعضهم بعضاً ، أو ينادي أهل النار أهل الجنة ، وأهل الجنة أهل النار ، أو ينادى فيه بسعادة السعداء ، وشقاوة الأشقياء ، أو يوم ينادي فيه كلّ أناس بإمامهم ، ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني ، وقوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } بدل من يوم التناد ، أي : منصرفين عن الموقف إلى النار ، أو فارّين منها . قال قتادة ، ومقاتل : المعنى : إلى النار بعد الحساب ، وجملة { مَا لَكُمْ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } في محل نصب على الحال ، أي : ما لكم من يعصمكم من عذاب الله ، ويمنعكم منه { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يهديه إلى طريق الرشاد .
ثم زاد في وعظهم ، وتذكيرهم ، فقال : { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } أي : يوسف بن يعقوب ، والمعنى : أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات ، والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى إليهم ، أي : جاء إلى آبائكم ، فجعل المجيء إلى الآباء مجيئاً إلى الأبناء . وقيل : المراد بيوسف هنا : يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب ، وكان أقام فيهم نبياً عشرين سنة . وحكى النقاش ، عن الضحاك : أن الله بعث إليهم رسولاً من الجنّ يقال له : يوسف ، والأوّل أولى .

وقد قيل : إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره { فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكّ مّمَّا جَاءكُمْ بِهِ } من البينات ، ولم تؤمنوا به { حتى إِذَا هَلَكَ } يوسف { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } ، فكفروا به في حياته ، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } أي : مثل ذلك الضلال الواضح يضلّ الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاكّ في وحدانيته ، ووعده ، ووعيده .
والموصول في قوله : { الذين يجادلون فِى ءايات الله } بدل من «من» ، والجمع باعتبار معناها ، أو بيان لها ، أو صفة ، أو في محل نصب بإضمار أعني ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين ، أو مبتدأ ، وخبره يطبع ، و { بِغَيْرِ سلطان } متعلق بيجادلون ، أي : يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة ، و { ءاتاهم } صفة لسلطان { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين ءامَنُواْ } يحتمل أن يراد به التعجب ، وأن يراد به الذمّ كبئس ، وفاعل كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون . وقيل : فاعله ضمير يعود إلى من في { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } ، والأوّل أولى . وقوله : { عَندَ الله } متعلق بكبر ، وكذلك { عِندَ الذين آمَنُواْ } قيل : هذا من كلام الرجل المؤمن . وقيل : ابتداء كلام من الله سبحانه { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ } أي : كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين ، فكذلك يطبع أي : يختم على كلّ قلب متكبر جبار . قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر ، واختار هذه القراءة أبو حاتم ، وأبو عبيد ، وفي الكلام حذف ، وتقديره : كذلك يطبع الله على كلّ قلب كل متكبر ، فحذف كلّ الثانية لدلالة الأولى عليها ، والمعنى : أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين ، وقرأ أبو عمرو ، وابن محيصن ، وابن ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له ، فيكون القلب مراداً به الجملة ، لأن القلب هو : محل التكبر ، وسائر الأعضاء تبع له في ذلك ، وقرأ ابن مسعود على قلب كلّ متكبر .
ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى تكبره ، وتجبره معرضاً عن الموعظة نافراً من قبولها ، وقال : { ياهامان ابن لِى صَرْحاً } أي : قصراً مشيداً كما تقدّم بيان تفسيره { لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب } أي : الطرق . قال قتادة ، والزهري ، والسدّي ، والأخفش : هي : الأبواب . وقوله : { أسباب السموات } بيان للأسباب ، لأن الشيء إذا أبهم ، ثم فسر كان أوقع في النفوس ، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم
وقيل : أسباب السماوات : الأمور التي يستمسك بها { فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى } قرأ الجمهور بالرفع عطفاً على أبلغ ، فهو على هذا داخل في حيز الترجي .

وقرأ الأعرج ، والسلمي ، وعيسى بن عمر ، وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله : { ابن لِى } ، أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيد ، وغيره . قال النحاس : ومعنى النصب خلاف معنى الرفع ، لأن معنى النصب : متى بلغت الأسباب اطلعت ، ومعنى الرفع : لعلي أبلغ الأسباب ، ولعلي أطلع بعد ذلك ، وفي هذا دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم ، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدًّا { وَإِنّى لأَظُنُّهُ كاذبا } أي : وإني لأظنّ موسى كاذباً في ادعائه بأن له إلاهاً ، أو فيما يدّعيه من الرسالة { وكذلك زُيّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوء عَمَلِهِ } أي : ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك ، والتكذيب فتمادى في الغيّ ، واستمرّ على الطغيان { وَصُدَّ عَنِ السبيل } أي : سبيل الرشاد . قرأ الجمهور : { وصد } بفتح الصاد ، والدال ، أي : صدّ فرعون الناس عن السبيل ، وقرأ الكوفيون : { وصد } بضم الصاد مبنياً للمفعول ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، ولعلّ وجه الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين من البناء للمفعول ، وقرأ يحيى بن وثاب ، وعلقمة : ( صد ) بكسر الصاد ، وقرأ ابن أبي إسحاق ، وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد ، وضمّ الدال منوّناً على أنه مصدر معطوف على سوء عمله أي : زين له الشيطان سوء العمل ، والصدّ { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِى تَبَابٍ } التباب : الخسار ، والهلاك ، ومنه { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] ، ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير ، والتحذير كما حكى الله عنه بقوله : { وَقَالَ الذى ءامَنَ ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } أي : اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد ، وهو : الجنة . وقيل : هذا من قول موسى ، والأوّل أولى . وقرأ معاذ بن جبل : ( الرشاد ) بتشديد الشين كما تقدّم قريباً في قول فرعون ، ووقع في المصحف { اتبعون } بدون ياء ، وكذلك قرأ أبو عمرو ، ونافع بحذفها في الوقف ، وإثباتها في الوصل ، وقرأ يعقوب ، وابن كثير بإثباتها وصلا ، ووقفا ، وقرأ الباقون بحذفها وصلا ، ووقفا ، فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل ، ومن حذفها ، فلكونها حذفت في المصحف { ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ } يتمتع بها أياماً ، ثم تنقطع ، وتزول { وَإِنَّ الأخرة هِىَ دَارُ القرار } أي : الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع ، ومستمرّة لا تزول { مَنْ عَمِلَ سَيّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } أي : من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت ، فلا يجزى إلا مثلها ، ولا يعذب إلا بقدرها ، والظاهر شمول الآية لكل ما يطلق عليه اسم السيئة . وقيل : هي خاصة بالشرك ، ولا وجه لذلك { وَمَنْ عَمِلَ صالحا مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي : من عمل عملاً صالحاً مع كونه مؤمناً بالله ، وبما جاءت به رسله { فَأُوْلَئِكَ } الذين جمعوا بين العمل الصالح ، والإيمان { يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي : بغير تقدير ، ومحاسبة .

قال مقاتل : يقول : لا تبعة عليهم فيما يعطون في الجنة من الخير . وقيل : العمل الصالح ، هو : لا إله إلا الله . قرأ الجمهور : { يدخلون } بفتح التحتية مبنياً للفاعل . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنياً للمفعول .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس { مِثْلَ دَأْبِ } قال : مثل حال . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ } قال : هم الأحزاب : قوم نوح ، وعاد ، وثمود . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } قال : رؤيا يوسف ، وفي قوله : { الذين يجادلون فِى ءايات الله } قال : يهود . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ فِى تَبَابٍ } قال : خسران . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا } قال : الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الحياة الدنيا متاع ، وليس من متاعها شيء أفضل من المرأة الصالحة ، التي إذا نظرت إليها سرّتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ، ومالها » .

وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)

كرّر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله ، وصرّح بإيمانه ، ولم يسلك المسالك المتقدّمة من إيهامه لهم أنه منهم ، وأنه إنما تصدّى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحبّ لقومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه ، فقال : { وياقوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار } أي : أخبروني عنكم كيف هذه الحال : أدعوكم إلى النجاة من النار ، ودخول الجنة بالإيمان بالله ، وإجابة رسله ، وتدعونني إلى النار بما تريدونه مني من الشرك . قيل : معنى { مَا لِى أَدْعُوكُمْ } : ما لكم أدعوكم؟ كما تقول : ما لي أراك حزيناً ، أي : ما لك . ثم فسر الدعوتين ، فقال : { تَدْعُونَنِى لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } ، فقوله : تدعونني بدل من تدعونني الأولى ، أو بيان لها { مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } أي : ما لا علم لي بكونه شريكاً لله { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار } أي : إلى العزيز في انتقامه ممن كفر { الغفار } لذنب من آمن به .
{ لاَ جَرَمَ } قد تقدّم تفسير هذا في سورة هود ، وجرم فعل ماض بمعنى : حقّ ، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادّعوه ، وردّ ما زعموه ، وفاعل هذا الفعل هو : قوله : { أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الأخرة } أي : حقّ ، ووجب بطلان دعوته . قال الزجاج : معناه : ليس له استجابة دعوة تنفع . وقيل : ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا ، ولا في الآخرة . وقال الكلبي : ليس له شفاعة { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله } أي : مرجعنا ، ومصيرنا إليه بالموت أوّلاً ، وبالبعث آخراً ، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير ، وشرّ { وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار } أي : المستكثرين من معاصي الله . قال قتادة ، وابن سيرين : يعني : المشركين . وقال مجاهد ، والشعبي : هم السفهاء السفاكون للدّماء بغير حقها . وقال عكرمة : الجبارون ، والمتكبرون . وقيل : هم الذين تعدّوا حدود الله ، «وأن» في الموضعين عطف على «أن» في قوله : { أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ } ، والمعنى : وحقّ أن مردّنا إلى الله ، وحقّ أن المسرفين إلخ { فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ } إذا نزل بكم العذاب ، وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم ، وتذكيركم ، وفي هذا الإبهام من التخويف ، والتهديد ما لا يخفى { وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله } أي : أتوكل عليه ، وأسلم أمري إليه . قيل : إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به . قال مقاتل : هرب هذا المؤمن إلى الجبل ، فلم يقدروا عليه . وقيل : القائل هو : موسى ، والأوّل أولى .
{ فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } أي : وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيّىء ، وما أرادوه به من الشرّ .

قال قتادة : نجاه الله مع بني إسرائيل { وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ سُوء العذاب } أي : أحاط بهم ، ونزل عليهم سوء العذاب . قال الكسائي : يقال : حاق يحيق حيقاً ، وحيوقاً : إذا نزل ، ولزم . قال الكلبي : غرقوا في البحر ، ودخلوا النار ، والمراد بآل فرعون : فرعون ، وقومه ، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم ، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه . والأوّل أولى؛ لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعاً بالغرق ، وسيعذبون في الآخرة بالنار ، ثم بيّن سبحانه ما أجمله من سوء العذاب ، فقال : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } ، فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب . وقيل : على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ ، وخبره يعرضون ، والأوّل أولى ، ورجحه الزجاج ، وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر . وقرىء بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى ، أي : يصلون النار يعرضون عليها ، أو على الاختصاص ، وأجاز الفرّاء الخفض على البدل من العذاب . وذهب الجمهور أن هذا العرض هو في البرزخ . وقيل : هو في الآخرة . قال الفرّاء : ويكون في الآية تقديم ، وتأخير ، أي : أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب النار يعرضون عليها غدوًّا ، وعشيا ، ولا ملجىء إلى هذا التكلف ، فإن قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في البرزخ ، وقوله : { أَدْخِلُواْ } هو بتقدير القول ، أي : يقال للملائكة : أدخلوا آل فرعون ، و { أَشَدَّ العذاب } هو : عذاب النار . قرأ حمزة ، والكسائي ، ونافع ، وحفض : { أدخلوا } بفتح الهمزة ، وكسر الخاء ، وهو على تقدير القول كما ذكر . وقرأ الباقون : ( ادخلوا ) بهمزة وصل من دخل يدخل أمراً لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء ، أي : ادخلوا يا آل فرعون أشدّ العذاب .
{ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار } الظرف منصوب بإضمار اذكر . والمعنى : اذكر لقومك وقت تخاصمهم في النار ، ثم بيّن سبحانه هذا التخاصم ، فقال : { فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا } عن الانقياد للأنبياء ، والاتباع لهم ، وهم : رؤساء الكفر { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } جمع لتابع ، كخدم ، وخادم ، أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل ، أي : تابعين ، أو على حذف مضاف ، أي : ذوي تبع . قال البصريون : التبع يكون واحداً ، ويكون جمعاً . وقال الكوفيون : هو جمع لا واحد له { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار } أي : هل تدفعون عنا نصيباً منها ، أو تحملونه معنا ، وانتصاب { نصيباً } بفعل مقدّر يدل عليه مغنون ، أي : هل تدفعون عنا نصيباً ، أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين ، أي : هل أنتم حاملون معنا نصيباً ، أو على المصدرية . { قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا } هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والمعنى : إنا نحن ، وأنتم جميعاً في جهنم ، فكيف تغني عنكم . قرأ الجمهور : { كلّ } بالرّفع على الابتداء ، وخبره : { فِيهَا } والجملة خبر إن ، قاله الأخفش .

وقرأ ابن السميفع ، وعيسى بن عمر : ( كلا ) بالنصب . قال الكسائي ، والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى : كلنا ، وتنوينه عوض عن المضاف إليه . وقيل : على الحال ، ورجحه ابن مالك { إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } أي : قضى بينهم بأن فريقاً في الجنة ، وفريقاً في السعير .
{ وَقَالَ الذين فِى النار } من الأمم الكافرة ، مستكبرهم ، وضعيفهم { لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } جمع خازن ، وهو القوّام بتعذيب أهل النار { ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْماً مّنَ العذاب } يوماً ظرف؛ ليخفف ، ومفعول يخفف محذوف ، أي : يخفف عنا شيئاً من العذاب مقدار يوم ، أو في يوم ، وجملة { قَالُواْ أَوَلَمْ تَك تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والاستفهام للتوبيخ ، والتقريع { قَالُواْ بلى } أي : أتونا بها ، فكذبناهم ، ولم نؤمن بهم ، ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة ، فلما اعترفوا { قَالُواْ } أي : قال لهم الملائكة الذين هم : خزنة جهنم { فادعوا } أي : إذا كان الأمر كذلك ، فادعوا أنتم ، فإنا لا ندعو لمن كفر بالله ، وكذّب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة . ثم أخبروهم : بأن دعاءهم لا يفيد شيئاً ، فقالوا : { وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي : في ضياع ، وبطلان ، وخسار ، وتبار ، وجملة : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ } مستأنفة من جهته سبحانه ، أي : نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم ، والموصول في محل نصب عطفاً على رسلنا ، أي : لننصر رسلنا ، وننصر الذين آمنوا معهم { فِي الحياة الدنيا } بما عوّدهم الله من الانتقام منهم بالقتل ، والسلب ، والأسر ، والقهر { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } ، وهو : يوم القيامة . قال زيد بن أسلم : الأشهاد هم : الملائكة ، والنبيون . وقال مجاهد ، والسدّي : الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ ، وعلى الأمم بالتكذيب . قال الزجاج : الأشهاد جمع شاهد مثل صاحب ، وأصحاب . قال النحاس : ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ، ولا يقاس عليه ، ولكن ما جاء منه مسموعاً أدّى على ما يسمع ، فهو على هذا جمع شهيد ، مثل شريف ، وأشراف ، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد : أن الله يجازيهم بأعمالهم ، فيدخلهم الجنة ، ويكرمهم بكراماته ، ويجازي الكفار بأعمالهم ، فيلعنهم ، ويدخلهم النار ، وهو معنى قوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة } أي : البعد عن الرّحمة { وَلَهُمْ سُوء الدار } أي : النار ، ويوم بدل من يوم يقوم الأشهاد ، وإنما لم تنفعهم المعذرة؛ لأنها معذرة باطلة ، وتعلة داحضة ، وشبهة زائغة . قرأ الجمهور : ( تنفع ) بالفوقية . وقرأ نافع ، والكوفيون بالتحتية ، والكل جائز في اللغة .
وقد أخرج البخاريّ في تاريخه ، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار } قال : السفاكين للدّماء بغير حقها . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة ، والعشيّ ، إن كان من أهل الجنة ، فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار ، فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " زاد ابن مردويه : «ثم قرأ { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } » . وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أحسن محسن مسلم ، أو كافر إلا أثابه الله " قلنا : يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال : " المال ، والولد ، والصحة ، وأشباه ذلك " قلنا : وما إثابته في الآخرة؟ قال : " عذاباً دون العذاب " وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أدخلوا آل فرعون العذاب } » . وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن أبي الدنيا ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة ، ثم تلا { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ } " وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)

قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى } هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريباً من نصره لرسله ، أي : آتيناه التوراة ، والنبوّة ، كما في قوله سبحانه : { إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } [ المائدة : 44 ] قال مقاتل : الهدى من الضلالة يعني : التوراة { وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب * هُدًى وذكرى لأُوْلِى الالباب } المراد بالكتاب : التوراة ، ومعنى { أورثنا } : أن الله سبحانه لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم ، وتوارثوها خلفاً عن سلف . وقيل : المراد بالكتاب : سائر الكتب المنزلة على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى ، وهدى ، وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله ، أي : لأجل الهدى ، والذكر ، أو على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : هادياً ومذكراً ، والمراد بأولي الألباب : أهل العقول السليمة . ثم أمر الله ، رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى ، فقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : اصبر على أذى المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حقّ لا خلف فيه ، ولا شك في وقوعه كما في قوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } ، وقوله : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171 173 ] قال الكلبي : نسخ هذا بآية السيف .
ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه ، فقال : { واستغفر لِذَنبِكَ } قيل : المراد ذنب أمتك ، فهو على حذف مضاف . وقيل : المراد الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء . وقيل : هو مجرد تعبد له بالاستغفار لزيادة الثواب ، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بالعشى والإبكار } أي : دم على تنزيه الله ملتبساً بحمده . وقيل : المراد صلّ في الوقتين صلاة العصر ، وصلاة الفجر . قاله الحسن ، وقتادة . وقيل : هما صلاتان ركعتان غدوة ، وركعتان عشية ، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس { إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم } أي : بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } أي : ما في قلوبهم إلا تكبراً عن الحق يحملهم على تكذيبك ، وجملة : { مَّا هُم ببالغيه } صفة لكبر قال الزجاج : المعنى : ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه ، فجعله على حذف المضاف . وقال غيره : ما هم ببالغي الكبر . وقال ابن قتيبة : المعنى : إن في صدورهم إلا كبر ، أي : تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم ، وطمع أن يغلبوه ، وما هم ببالغي ذلك . وقيل : المراد بالكبر : الأمر الكبير ، أي : يطلبون النبوّة ، أو يطلبون أمراً كبيراً يصلون به إليك من القتل ، ونحوه ، ولا يبلغون ذلك . وقال مجاهد : معناه : في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها .

والمراد بهذه الآية : المشركون . وقيل : اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله . ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من شرورهم ، فقال : { فاستعذ بالله إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } أي : فالتجىء إليه من شرّهم ، وكيدهم ، وبغيهم عليك إنه السميع لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية .
ثم بيّن سبحانه عظيم قدرته ، فقال : { لَخَلْقُ * السموات والأرض *أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } أي : أعظم في النفوس ، وأجلّ في الصدور ، لعظم أجرامهما ، واستقرارهما من غير عمد ، وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب ، فكيف ينكرون البعث ، وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في قوله : { أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [ ياس : 81 ] قال أبو العالية : المعنى : لخلق السموات ، والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود . وقال يحيى بن سلام : هو احتجاج على منكري البعث ، أي : هما أكبر من إعادة خلق الناس { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } بعظيم قدرة الله ، وأنه لا يعجزه شيء . ثم لما ذكر سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالاً للباطل ، والحق ، وأنهما لا يستويان ، فقال : { وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير } أي : الذي يجادل بالباطل ، والذي يجادل بالحق { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسىء } أي : ولا يستوي المحسن بالإيمان ، والعمل الصالح ، والمسيء بالكفر ، والمعاصي ، وزيادة «لا» في ، { ولا المسيء } للتأكيد { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } قرأ الجمهور : { يتذكرون } بالتحتية على الغيبة ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم ، لأن قبلها ، وبعدها على الغيبة لا على الخطاب ، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات ، أي : تذكراً قليلاً ما تتذكرون .
{ إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أي : لا شك في مجيئها ، وحصولها { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } بذلك ، ولا يصدقونه لقصور أفهامهم ، وضعف عقولهم عن إدراك الحجة ، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث . ثم لما بيّن سبحانه أن قيام الساعة حق لا شك فيه ، ولا شبهة ، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود ، فأمر رسوله : أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه ، وهو : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال أكثر المفسرين المعنى : وحدوني ، واعبدوني أتقبل عبادتكم ، وأغفر لكم . وقيل : المراد بالدعاء : السؤال بجلب النفع ، ودفع الضر . قيل : الأوّل أولى؛ لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو : العبادة . قلت : بل الثاني أولى؛ لأن معنى الدعاء حقيقة ، وشرعاً هو : الطلب ، فإن استعمل في غير ذلك ، فهو : مجاز ، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو : عبادة ، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح ، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ، ووعدهم بالإجابة ، ووعده الحق ، وما يبدّل القول لديه ، ولا يخلف الميعاد .
ثم صرّح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي ، وهو الطلب هو من عبادته ، فقال : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } أي : ذليلين صاغرين ، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله ، وفيه لطف بعباده عظيم ، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه ، واستدفاع الشرّ به بهذا الوعيد البالغ ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة ، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم ، وعوّلوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه ، وأرشدكم إلى التعويل عليه ، وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة ، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم ، وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين .

قيل : وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة ، أي : أستجب لكم إن شئت كقوله سبحانه : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء } [ الأنعام : 41 ] الله ، قرأ الجمهور : { سيدخلون } بفتح الياء ، وضم الخاء مبنياً للفاعل ، وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، وورش ، وأبو جعفر بضم الياء ، وفتح الخاء مبنياً للمفعول .
ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به على عباده ، فقال : { الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلماً بارداً تناسبه الراحة بالسكون ، والنوم { والنهار مُبْصِراً } أي : مضيئاً ، لتبصروا فيه حوائجكم ، وتتصرفوا في طلب معايشكم { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } النعم ، ولا يعترفون بها ، إما لجحودهم لها ، وكفرهم بها كما هو شأن الكفار ، أو لإغفالهم للنظر ، وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم ، وهم : الجاهلون { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَىْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } بيّن سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده ، قرأ الجمهور خالق بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأوّل عن المبتدأ ، وقرأ زيد بن عليّ بنصبه على الاختصاص { فأنى تُؤْفَكُونَ } أي : فكيف تنقلبون عن عبادته ، وتنصرفون عن توحيده؟ { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ } أي : مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده .
ثم ذكر لهم سبحانه نوعاً آخر من نعمه التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته ، وتفرّده بالإلهية ، فقال : { الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسماء بِنَاء } أي : موضع قرار فيها تحيون ، وفيها تموتون { والسماء بِنَاء } أي : سقفاً قائماً ثابتاً . ثم بيّن بعض نعمه المتعلقة بأنفس العباد ، فقال : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي : خلقكم في أحسن صورة . قال الزجاج : خلقكم أحسن الحيوان كله . قرأ الجمهور : ( صوركم ) بضم الصاد ، وقرأ الأعمش ، وأبو رزين بكسرها . قال الجوهري : والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } أي : المستلذات { ذلكم } المنعوت بهذه النعوت الجليلة { الله رَبُّكُمْ فتبارك الله رَبُّ العالمين } أي : كثرة خيره ، وبركته { هُوَ الحى لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي : الباقي الذي لا يفنى المنفرد بالألوهية { فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي : الطاعة ، والعبادة { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } قال الفراء : هو خبر ، وفيه إضمار أمر ، أي : احمدوه .

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم . قال السيوطي : بسند صحيح عن أبي العالية قال : إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ، ويكون في أمره ، فعظموا أمره ، وقالوا : نصنع كذا ، ونصنع كذا ، فأنزل الله : { إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان أتاهم إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه } » قال : لا يبلغ الذي يقول : { فاستعذ بالله } فأمر نبيه أن يتعوّذ من فتنة الدجال لخلق السماوات ، والأرض أكبر من خلق الدجال . وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال : هم : اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه من أمر الدجال . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } قال : عظمة قريش .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو : العبادة " ثم قرأ { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } قال : عن دعائي { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين } » . قال الترمذي : حسن صحيح . وأخرج ابن مردويه ، والخطيب عن البراء : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدعاء هو العبادة ، وقال ربكم : { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } " وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال : وحدوني أغفر لكم . وأخرج الحاكم وصححه ، عن جرير بن عبد الله في الآية قال : اعبدوني . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء الاستغفار " وأخرح ابن أبي شيبة ، والحاكم ، وأحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع الله يغضب عليه " وأخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، وأبو يعلى ، والطبراني ، عن معاذ بن جبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينفع حذر من قدر ، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ، ومما لم ينزل ، فعليكم بالدعاء " وأخرج الترمذي ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« الدعاء مخّ العبادة » وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : أفضل العبادة الدعاء ، وقرأ : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } الآية . وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ العبادة أفضل؟ فقال : « دعاء المرء لنفسه » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : من قال : لا إله إلاّ الله ، فليقل على أثرها : الحمد لله ربّ العالمين ، وذلك قوله : { فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله ربّ العالمين } .

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)

أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره ، وأمره بالتوحيد ، فقال : { قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } وهي : الأصنام . ثم بيّن وجه النهي ، فقال : { لَمَّا جَاءنِى البينات مِن رَّبّى } ، وهي : الأدلة العقلية والنقلية ، فإنها توجب التوحيد { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين } أي : أستسلم له بالانقياد ، والخضوع . ثم أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد ، فقال : { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } أي : خلق أباكم الأوّل ، وهو : أدم ، وخلقه من تراب يستلزم خلق ذرّيته منه { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } قد تقدّم تفسير هذا في غير موضع { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي : أطفالاً ، وأفرده لكونه اسم جنس ، أو على معنى : يخرج كلّ واحد منكم طفلاً { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } ، وهي : الحالة التي تجتمع فيها القوّة ، والعقل . وقد سبق بيان الأشدّ مستوفى في الأنعام ، واللام التعليلية في : { لتبلغوا } معطوفة على علة أخرى ، { ليخرجكم } مناسبة لها ، والتقدير : لتكبروا شيئًا ، فشيئا ، ثم لتبلغوا غاية الكمال ، وقوله : { ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً } معطوف على لتبلغوا ، قرأ نافع ، وحفص ، وأبو عمرو ، وابن محيصن ، وهشام : { شيوخاً } بضم الشين ، وقرأ الباقون بكسرها ، وقرىء وشيخاً على الإفراد لقوله طفلاً ، والشيخ من جاوز أربعين سنة { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } أي : من قبل الشيخوخة { وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى } أي : وقت الموت ، أو يوم القيامة ، واللام هي : لام العاقبة { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : لكي تعقلوا توحيد ربكم ، وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة { هُوَ الذى يُحْيِي وَيُمِيت } أي : يقدر على الإحياء ، والإماتة { فَإِذَا قضى أَمْراً } من الأمور التي يريدها { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } من غير توقف ، وهو : تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها ، وقد تقدّم تحقيق معناه في البقرة ، وفيما بعدها .
ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله ، فقال : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله } ، وقد سبق بيان معنى المجادلة { أنى يُصْرَفُونَ } أي : كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها ، وأنها في أنفسها موجبة للتوحيد . قال ابن زيد : هم : المشركون بدليل قوله : { الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } قال القرطبي : وقال أكثر المفسرين : نزلت في القدرية . قال ابن سيرين : إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية ، فلا أدري فيمن نزلت ، ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدلّ على غير ما قالوه ، فقال : { الذين كَذَّبُواْ بالكتاب } أي : بالقرآن ، وهذا وصف لا يصحّ أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام ، والموصول إما في محل جرّ على أنه نعت للموصول الأوّل ، أو بدل منه ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذمّ ، والمراد بالكتاب : إما القرآن ، أو جنس الكتب المنزلة من عند الله ، وقوله : { وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } معطوف على قوله { بالكتاب } ، ويراد به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس ، أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } عاقبة أمرهم ، ووبال كفرهم ، وفي هذا وعيد شديد ، والظرف في قوله : { إِذِ الأغلال فِى أعناقهم } متعلق { بيعلمون } ، أي : فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم { والسلاسل } معطوف على الأغلال ، والتقدير : إذ الأغلال ، والسلاسل في أعناقهم ، ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ وخبره محذوف لدلالة في أعناقهم عليه ، ويجوز أن يكون خبره { يُسْحَبُونَ فِى الحميم } بحذف العائد ، أي : يسحبون بها في الحميم ، وهذا على قراءة الجمهور برفع السلاسل ، وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود ، وعكرمة ، وأبو الجوزاء بنصبها ، وقرءوا : ( يسحبون ) بفتح الياء مبنياً للفاعل ، فتكون السلاسل مفعولاً مقدّماً ، وقرأ بعضهم بجرّ السلاسل .

قال الفراء : وهذه القراءة محمولة على المعنى ، إذ المعنى : أعناقهم في الأغلال ، والسلاسل . وقال الزجاج : المعنى على هذه القراءة : وفي السلاسل يسحبون ، واعترضه ابن الأنباري : بأن ذلك لا يجوز في العربية ، ومحل يسحبون على تقدير عطف السلاسل على الأغلال ، وعلى تقدير كونها مبتدأ ، وخبرها في أعناقهم النصب على الحال ، أو لا محل له ، بل هو مستأنف جواب سؤال مقدّر ، والحميم هو : المتناهي في الحرّ . وقيل : الصديد ، وقد تقدّم تفسيره { ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ } يقال : سجرت التنور أي : أوقدته ، وسجرته ملأته بالوقود ، ومنه { والبحر المسجور } [ الطور : 6 ] أي : المملوء ، فالمعنى : توقد بهم النار ، أو تملأ بهم . قال مجاهد ، ومقاتل : توقد بهم النار ، فصاروا وقودها .
{ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله } هذا توبيخ ، وتقريع لهم ، أي : أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } أي : ذهبوا ، وفقدناهم ، فلا نراهم ، ثم أضربوا عن ذلك ، وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم ، وأنه لا وجود لهم ، فقالوا : { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي : لم نكن نعبد شيئاً ، قالوا هذا لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة ، والجهالة ، وأنهم كانوا يعبدون ما لا يبصر ، ولا يسمع ، ولا يضرّ ، ولا ينفع ، وليس هذا إنكاراً منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها ، بل اعتراف منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين } أي : مثل ذلك الضلال يضلّ الله الكافرين حيث عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل ، أي : ذلك الإضلال بسبب { مَّا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الأرض } أي : بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله ، والسرور بمخالفة رسله ، وكتبه .

وقيل : بما كنتم تفرحون به من المال ، والأتباع ، والصحة ، وقيل : بما كنتم تفرحون به من إنكار البعث . وقيل : المراد بالفرح هنا : البطر ، والتكبر ، وبالمرح : الزيادة في البطر . وقال مجاهد ، وغيره : تمرحون ، أي : تبطرون ، وتأشرون . وقال الضحاك : الفرح السرور ، والمرح العدوان . وقال مقاتل : المرح البطر ، والخيلاء { ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ } حال كونكم { خالدين فِيهَا } أي : مقدّرين الخلود فيها { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } عن قبول الحق جهنم .
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر ، فقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : وعده بالانتقام منهم كائن لا محالة ، إما في الدنيا ، أو في الآخرة ، ولهذا قال : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } من العذاب في الدنيا بالقتل ، والأسر ، والقهر ، وما في { فإما } زائدة على مذهب المبرد ، والزجاج ، والأصل فإن نرك ، ولحقت بالفعل نون التأكيد ، وقوله : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } معطوف على { نرينك } أي : أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يوم القيامة ، فنعذبهم { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي : أنبأناك بأخبارهم ، وما لقوه من قومهم { وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } خبره ، ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه ، وبين قومه { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } لا من قبل نفسه ، والمراد بالآية : المعجزة الدالة على نبوّته { فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله } أي : إذا جاء الوقت المعين لعذابهم في الدنيا ، أو في الآخرة { قُضِىَ بالحق } فيما بينهم ، فينجي الله بقضائه الحق عباده المحقين { وَخَسِرَ هُنَالِكَ } أي : في ذلك الوقت { المبطلون } الذين يتبعون الباطل ، ويعملون به .
ثم امتنّ سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي لا تحصى ، فقال : { الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الأنعام } أي : خلقها لأجلكم ، قال الزجاج : الأنعام ها هنا الإبل ، وقيل : الأزواج الثمانية { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا } من للتبعيض ، وكذلك في قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ويجوز أن تكون لابتداء الغاية في الموضعين ، ومعناها : ابتداء الركوب ، وابتداء الأكل ، والأوّل أولى . والمعنى : لتركبوا بعضها ، وتأكلوا بعضها { وَلَكُمْ فيِهَا منافع } أخر غير الركوب ، والأكل من الوبر ، والصوف ، والشعر ، والزبد ، والسمن ، والجبن ، وغير ذلك { وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ } قال مجاهد ، ومقاتل ، وقتادة : تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في سورة النحل { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } أي : على الإبل في البرّ ، وعلى السفن في البحر . وقيل : المراد بالحمل على الأنعام هنا : حمل الولدان ، والنساء بالهوادج { وَيُرِيكُمْ ءاياته } أي : دلالاته الدالة على كمال قدرته ، ووحدانيته { فَأَىَّ ءايات الله تُنكِرُونَ } ، فإنها كلها من الظهور ، وعدم الخفاء بحيث لا ينكرها منكر ، ولا يجحدها جاحد ، وفيه تقريع لهم ، وتوبيخ عظيم ، ونصب { أيّ } بتنكرون ، وإنما قدم على العامل فيه ، لأن له صدر الكلام .

ثم أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار ، والتفكر في آيات الله ، فقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } من الأمم التي عصت الله ، وكذبت رسلها ، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدلّ على ما نزل بهم من العقوبة ، وما صاروا إليه من سوء العاقبة . ثم بيّن سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة ، والقوّة ، فقال : { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } أي : أكثر منهم عدداً ، وأقوى منهم أجساداً ، وأوسع منهم أموالاً ، وأظهر منهم { آثَارا فِى الأرض } بالعمائر ، والمصانع ، والحرث { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } يجوز أن تكون « ما » الأولى استفهامية ، أي : أيّ شيء أغنى عنهم ، أو نافية . أي : لم يغن عنهم ، و « ما » الثانية يجوز أن تكون موصولة ، وأن تكون مصدرية .
{ فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي : بالحجج الواضحات ، والمعجزات الظاهرات { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم } أي : أظهروا الفرح بما عندهم مما يدعون أنه من العلم من الشبه الداحضة ، والدعاوي الزائغة ، وسماه علماً تهكماً بهم ، أو على ما يعتقدونه . وقال مجاهد : قالوا : نحن أعلم منهم لن نعذب ، ولن نبعث . وقيل : المراد من علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] ، وقيل : الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم : الرسل ، وذلك أنه لما كذبهم قومهم أعلمهم الله بأنه مهلك الكافرين ، ومنجي المؤمنين ، ففرحوا بذلك { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : أحاط بهم جزاء استهزائهم { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي : عاينوا عذابنا النازل بهم { قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } ، وهي : الأصنام التي كانوا يعبدونها { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي : عند معاينة عذابنا ، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان النافع لصاحبه ، فإنه إنما ينفع الإيمان الاختياري لا الإيمان الاضطراري { سُنَّتُ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ } أي : التي قد مضت في عباده ، والمعنى : أن الله سبحانه سن هذه السنّة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب ، وقد مضى بيان هذا في سورة النساء ، وسورة التوبة ، وانتصاب سنّة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة وعد الله ، وما أشبهه من المصادر المؤكدة . وقيل : هو منصوب على التحذير ، أي : احذروا يا أهل مكة سنّة الله في الأمم الماضية ، والأوّل أولى . { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون } أي : وقت رؤيتهم بأس الله ، ومعاينتهم لعذابه . قال الزجاج : الكافر خاسر في كل وقت ، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب .

وقد أخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن عبد الله بن عمرو قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِذِ الأغلال فِى أعناقهم } إلى قوله : { يُسْجَرُونَ } ، فقال : « لو أن رصاصة مثل هذه ، وأشار إلى جمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض ، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها ، أو قال قعرها » وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار ، عن ابن عباس قال : يسحبون في الحميم ، فينسلخ كل شيء عليهم من جلد ، ولحم ، وعرق حتى يصير في عقبه حتى إن لحمه قدر طوله ، وطوله ستون ذراعاً ، ثم يكسى جلداً آخر ، ثم يسجر في الحميم . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } قال : بعث الله عبداً حبشياً ، فهو ممن لم يقصص على محمد .

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)

قوله : { حم } قد تقدم الكلام على إعرابه ، ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة ، فلا نعيده ، وكذلك تقدّم الكلام على معنى : { تَنزِيلَ } ، وإعرابه . قال الزجاج ، والأخفش : تنزيل مرفوع بالابتداء ، وخبره : { كتاب فُصّلَتْ } وقال الفراء : يجوز أن يكون على إضمار هذا ، ويجوز أن يقال : كتاب بدل من قوله تنزيل ، و { مّنَ الرحمن الرحيم } متعلق بتنزيل ، ومعنى : { فُصّلَتْ ءاياته } : بينت ، أو جعلت أساليب مختلفة ، قال قتادة : فصلت ببيان حلاله من حرامه ، وطاعته من معصيته . وقال الحسن : بالوعد ، والوعيد . وقال سفيان : بالثواب ، والعقاب ، ولا مانع من الحمل على الكل . والجملة في محلّ نصب صفة لكتاب . وقرىء : ( فصلت ) بالتخفيف ، أي : فرقت بين الحق ، والباطل . وانتصاب { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } على الحال ، أي : فصلت آياته حال كونه قرآناً عربياً . وقال الأخفش : نصب على المدح . وقيل : على المصدرية ، أي : يقرؤه قرآناً . وقيل : مفعول ثانٍ لفصلت . وقيل : على إضمار فعل يدل عليه فصلت ، أي : فصلناه قرآناً عربياً { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : يعلمون معانيه ، ويفهمونها وهم : أهل اللسان العربي . قال الضحاك : أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله . وقال مجاهد : أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل ، واللام متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآن ، أي : كائناً لقوم ، أو متعلق بفصلت ، والأول أولى ، وكذلك { بَشِيراً وَنَذِيراً } صفتان أخريان ل { قرآناً } ، أو حالان من كتاب ، والمعنى : بشيراً لأولياء الله ، ونذيراً لأعدائه . وقرىء : ( بشير ونذير ) بالرفع على أنهما صفة لكتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } المراد بالأكثر هنا : الكفار ، أي : فأعرض الكفار عما اشتمل عليه من النذارة { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } سماعاً ينتفعون به لإعراضهم عنه .
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ } أي : في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام ، فهي لا تفقه ما تقول ، ولا يصل إليها قولك ، والأكنة جمع كنان ، وهو : الغطاء ، قال مجاهد : الكنان للقلب كالجنة للنبل ، وقد تقدّم بيان هذا في البقرة { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } أي : صمم ، وأصل الوقر الثقل . وقرأ طلحة بن مصرف : ( وقر ) بكسر الواو . وقرىء بفتح الواو والقاف ، و «من» في { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } لابتداء الغاية ، والمعنى : أن الحجاب ابتدأ منا ، وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة بين جهتنا ، وجهتك مستوعبة بالحجاب لا فراغ فيها ، وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق ، ومج أسماعهم له ، وامتناع المواصلة بينهم ، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم { فاعمل إِنَّنَا عاملون } أي : اعمل على دينك إننا عاملون على ديننا . وقال الكلبي : اعمل في هلاكنا ، فإنا عاملون في هلاكك . وقال مقاتل : اعمل لإلهك الذي أرسلك ، فإنا نعمل لآلهتنا التي نعبدها . وقيل : اعمل لآخرتك ، فإنا عاملون لدنيانا .

ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ } أي : إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي ، ولم أكن من جنس مغاير لكم حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه ، وفي آذانكم وقر ، ومن بيني ، وبينكم حجاب ، ولم أدعكم إلى ما يخالف العقل ، وإنما أدعوكم إلى التوحيد . قرأ الجمهور : { يوحى } مبنيا للمفعول . وقرأ الأعمش ، والنخعي مبنياً للفاعل ، أي : يوحي الله إليّ . قيل : ومعنى الآية : إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسراً ، فإني بشر مثلكم ، ولا امتياز لي عنكم إلاّ أني أوحى إليّ التوحيد ، والأمر به ، فعليّ البلاغ وحده ، فإن قبلتم رشدتم ، وإن أبيتم هلكتم . وقيل : المعنى : إني لست بملك ، وإنما أنا بشر مثلكم ، وقد أوحي إليّ دونكم ، فصرت بالوحي نبياً ، ووجب عليكم اتباعي . وقال الحسن في معنى الآية : إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وسلم كيف يتواضع { فاستقيموا إِلَيْهِ } عدّاه بإلى لتضمنه معنى : توجهوا ، والمعنى : وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة ، ولا تميلوا عن سبيله { واستغفروه } لما فرط منكم من الذنوب . ثم هدّد المشركين ، وتوعدهم ، فقال : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ } .
ثم وصفهم بقوله : { الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } أي : يمنعونها ، ولا يخرجونها إلى الفقراء . وقال الحسن ، وقتادة : لا يقرّون بوجوبها . وقال الضحاك ، ومقاتل : لا يتصدقون ، ولا ينفقون في الطاعة . وقيل : معنى الآية ، لا يشهدون أن لا إله إلاّ الله لأنها زكاة الأنفس ، وتطهيرها . وقال الفراء : كان المشركون ينفقون النفقات ، ويسقون الحجيج ، ويطعمونهم ، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمد ، فنزلت فيهم هذه الآية { وَهُمْ بالأخرة هُمْ كافرون } معطوف على لا يؤتون داخل معه في حيز الصلة ، أي : منكرون للآخرة جاحدون لها ، والمجيء بضمير الفصل لقصد الحصر { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي : غير مقطوع عنهم ، يقال : مننت الحبل : إذا قطعته ، ومنه قول الأصبغ الأودي :
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... على الصديق ولا خيري بممنون
وقيل : الممنون المنقوص ، قاله قطرب ، وأنشد قول زهير :
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطى بذلك ممنوناً ولا نزقاً
قال الجوهري : المنّ القطع ، ويقال : النقص ، ومنه قوله تعالى : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } ، وقال لبيد :
غبس كواسب لا يمنّ طعامها ... وقال مجاهد : غير ممنون : غير محسوب . وقيل : معنى الآية : لا يمن عليهم به لأنه إنما يمنّ بالتفضل ، فأما الأجر ، فحقّ أداؤه . وقال السدّي : نزلت في المرضى ، والزمنى ، والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون فيه .
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم ، ويقرعهم ، فقال : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ } أي : لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن العظيم ، وقدرته هذه القدرة الباهرة .

قيل : اليومان هما يوم الأحد ، ويوم الاثنين . وقيل : المراد مقدار يومين ، لأن اليوم الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض ، والسماء . قرأ الجمهور : { أئنكم } بهمزتين الثانية بين بين ، وقرأ ابن كثير بهمزة ، وبعدها ياء خفيفة { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } أي : أضداداً ، وشركاء ، والجملة معطوفة على تكفرون داخلة تحت الاستفهام ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الموصول المتصف بما ذكر ، وهو مبتدأ وخبره { رَبّ العالمين } ، ومن جملة العالمين ما تجعلونها أنداداً لله ، فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته ، وقوله : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } معطوف على خلق ، أي : كيف تكفرون بالذي خلق الأرض ، وجعل فيها رواسي ، أي : جبالاً ثوابت من فوقها . وقيل : جملة ، وجعل فيها رواسي مستأنفة غير معطوفة على خلق لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي . والأوّل أولى لأن الجملة الفاصلة هي مقررة لمضمون ما قبلها ، فكانت بمنزلة التأكيد ، ومعنى { مّن فَوْقِهَا } : أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض ، وإنما خالفتها باعتبار الارتفاع ، فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها { وبارك فِيهَا } أي : جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها من المنافع للعباد . قال السدي : أنبت فيها شجرها { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } قال قتادة ، ومجاهد : خلق فيها أنهارها ، وأشجارها ، ودوابها ، وقال الحسن ، وعكرمة ، والضحاك : قدّر فيها أرزاق أهلها ، وما يصلح لمعايشهم من التجارات ، والأشجار ، والمنافع ، جعل في كلّ بلد ما لم يجعله في الأخرى؛ ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة ، والأسفار من بلد إلى بلد ، ومعنى { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } أي : في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدّمين . قاله الزجاج ، وغيره . قال ابن الأنباري : ومثاله قول القائل : خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام ، وإلى الكوفة في خمسة عشر يوماً ، أي : في تتمة خمسة عشر يوماً ، فيكون المعنى : أن حصول جميع ما تقدّم من خلق الأرض ، وما بعدها في أربعة أيام . وانتصاب { سَوَآء } على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة للأيام ، أي : استوت سواء بمعنى : استواء ، ويجوز أن يكون منتصباً على الحال من الأرض ، أو من الضمائر الراجعة إليها . قرأ الجمهور بنصب : { سواء } ، وقرأ زيد بن علي ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى ، ويعقوب ، وعمرو بن عبيد بخفضه على أنه صفة لأيام . وقرأ أبو جعفر برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف . قال الحسن : المعنى في أربعة أيام مستوية تامة ، وقوله : { لّلسَّائِلِينَ } متعلق بسواء ، أي : مستويات للسائلين ، أو بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر للسائلين في كم خلقت الأرض ، وما فيها؟ أو متعلق بقدّر ، أي : قدّر فيها أقواتها لأجل الطالبين المحتاجين إليها . قال الفراء : في الكلام تقديم ، وتأخير ، والمعنى : وقدّر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام ، واختار هذا ابن جرير .

ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض ، وما فيها ذكر كيفية خلقه للسماوات ، فقال : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } أي : عمد ، وقصد نحوها قصداً سوياً . قال الرازي : هو من قولهم : استوى إلى مكان كذا : إذا توجه إليه توجهاً لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، وهو من الاستواء الذي هو ضدّ الاعوجاج ، ونظيره قولهم : استقام إليه ، ومنه قوله تعالى : { فاستقيموا إِلَيْهِ } والمعنى : ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماوات بعد خلق الأرض ، وما فيها . قال الحسن : معنى الآية : صعد أمره إلى السماء { وَهِىَ دُخَانٌ } الدخان ما ارتفع من لهب النار ، ويستعار لما يرى من بخار الأرض . قال المفسرون : هذا الدخان هو : بخار الماء ، وخصّ سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب المترتب على ذلك متوجهاً إليها ، وإلى الأرض كما يفيده قوله : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } استغناء بما تقدّم من ذكر تقديرها ، وتقدير ما فيها ، ومعنى ائتيا : افعلا ما آمركما به ، وجيئا به ، كما يقال : ائت ما هو الأحسن أي : افعله . قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله سبحانه قال : أما أنت يا سماء ، فاطلعي شمسك ، وقمرك ، ونجومك ، وأما أنت يا أرض ، فشققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك ، ونباتك . قرأ الجمهور : { ائتيا } أمراً من الإتيان . وقرأ ابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد : ( آتيا ) قالتا : آتينا بالمدّ فيهما ، وهو إما من المؤاتاة ، وهي : الموافقة ، أي : لتوافق كلّ منكما الأخرى ، أو من الإيتاء ، وهو : الإعطاء ، فوزنه على الأوّل فاعلاً كقاتلاً ، وعلى الثاني افعلا كأكرما { طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } مصدران في موضع الحال ، أي : طائعتين ، أو مكرهتين ، وقرأ الأعمش : ( كرهاً ) بالضمّ . قال الزجاج : أطيعا طاعة أو تكرهان كرهاً . قيل : ومعنى هذا الأمر لهما التسخير ، أي : كونا ، فكانتا ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته ، واستحالة امتناعها { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } أي : أتينا أمرك منقادين ، وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء . قال القرطبي : قال أكثر أهل العلم : إن الله سبحانه خلق فيهما الكلام ، فتكلمتا كما أراد سبحانه . وقيل : هو تمثيل لظهور الطاعة منهما ، وتأثير القدرة الربانية فيهما { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات } أي : خلقهنّ ، وأحكمهنّ ، وفرغ منهنّ ، كما في قول الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود إذ صبغ السوابغ تبع
والضمير في : « قضاهنّ » إما راجع إلى السماء على المعنى؛ لأنها سبع سماوات ، أو مبهم مفسر بسبع سماوات ، وانتصاب { سبع سماوات } على التفسير ، أو على البدل من الضمير . وقيل : إن انتصابه على أنه المفعول الثاني لقضاهنّ؛ لأنه مضمن معنى صبرهنّ . وقيل : على الحال ، أي : قضاهنّ حال كونهنّ معدودات بسبع ، ويكون قضى بمعنى : صنع ، وقيل : على التمييز ، ومعنى { فِى يَوْمَيْنِ } كما سبق في قوله : { خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ } ، فالجملة ستة أيام ، كما في قوله سبحانه :

{ خُلِقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ هود : 7 ] ، وقد تقدّم بيانه في سورة الأعراف . قال مجاهد : ويوم من الستة الأيام كألف سنة مما تعدّون . قال عبد الله بن سلام : خلق الأرض في يوم الأحد ، ويوم الاثنين ، وقدّر فيها أقواتها يوم الثلاثاء ، ويوم الأربعاء ، وخلق السموات في يوم الخميس ، ويوم الجمعة ، وقوله : { وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا } عطف على قضاهنّ . قال قتادة ، والسدّي : أي خلق فيها شمسها ، وقمرها ، ونجومها ، وأفلاكها ، وما فيها من الملائكة ، والبحار ، والبرد ، والثلوج . وقيل : المعنى : أوحى فيها ما أراده وما أمر به ، والإيحاء قد يكون بمعنى : الأمر كما في قوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى } [ الزلزلة : 5 ] ، وقوله : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } [ المائدة : 111 ] أي : أمرتهم .
وقد استشكل الجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] ، فإن ما في هذه الآية من قوله : { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } مشعر بأن خلقها متأخر عن خلق الأرض ، وظاهره يخالف قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } ، فقيل : إن «ثم» في { ثُمَّ استوى إِلَى السماء } ليست للتراخي الزماني بل للتراخي الرتبي ، فيندفع الإشكال من أصله . وعلى تقدير أنها للتراخي الزماني ، فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدّم على خلق السماء ، ودحوها بمعنى : بسطها ، وهو أمر زائد على مجرّد خلقها ، فهي متقدّمة خلقاً متأخرة دحواً ، وهذا ظاهر ، ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله : { وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } أي : بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح ، وانتصاب { حافظا } على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : وحفظناها حفظاً ، أو على أنه مفعول لأجله على تقدير : وخلقنا المصابيح زينة ، وحفظاً ، والأوّل أولى . قال أبو حبان : في الوجه الثاني هو : تكلف ، وعدول عن السهل البين ، والمراد بالحفظ : حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره { تَقْدِيرُ العزيز العليم } أي : البليغ القدرة الكثير العلم .
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } عن التدبر والتفكر في هذه المخلوقات { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ } أي : فقل لهم يا محمد أنذرتكم خوّفتكم { صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ } أي : عذاباً مثل عذابهم ، والمراد بالصاعقة : العذاب المهلك من كلّ شيء . قال المبرد : الصاعقة المرّة المهلكة لأيّ شيء كان . قرأ الجمهور : { صاعقة } في الموضعين بالألف ، وقرأ ابن الزبير ، والنخعي ، والسلمي ، وابن محيصن صعقة في الموضعين ، وقد تقدّم بيان معنى الصاعقة ، والصعقة في البقرة ، وقوله : { إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل } ظرف لأنذرتكم ، أو لصاعقة ، لأنها بمعنى العذاب ، أي : أنذرتكم العذاب الواقع وقت مجيء الرسل ، أو حال من صاعقة عاد . وهذا أولى من الوجهين الأولين ، لأن الإنذار لم يقع وقت مجيء الرسل ، فلا يصحّ أن يكون ظرفاً له ، وكذلك الصاعقة لا يصحّ أن يكون الوقت ظرفاً لها ، وقوله : { مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } متعلق بجاءتهم ، أي : جاءتهم من جميع جوانبهم .

وقيل : المعنى : جاءتهم الرسل المتقدّمون ، والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم منزلة مجيئهم أنفسهم ، فكأن الرسل قد جاءوهم ، وخاطبوهم بقولهم : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } أي : بأن لا تعبدوا على أنها المصدرية ، ويجوز أن تكون التفسيرية ، أو المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف . ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل ، فقال : { قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا لأَنزَلَ ملائكة } أي : لأرسلهم إلينا ، ولم يرسل إلينا بشراً من جنسنا ، ثم صرّحوا بالكفر ، ولم يتلعثموا ، فقالوا : { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } أي : كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا ، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا ، فكيف اختصكم برسالته دوننا ، وقد تقدّم دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها في غير موضع .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة } قال : لا يشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وفي قوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال : غير منقوص . وأخرج ابن جرير ، والنحاس في ناسخه ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه : أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن خلق السماوات والأرض ، فقال : « خلق الله الأرض في يوم الأحد ، والاثنين ، وخلق الجبال ، وما فيهنّ من منافع يوم الثلاثاء ، وخلق يوم الأربعاء الشجر ، والحجر ، والماء ، والمدائن ، والعمران ، والخراب ، فهذه أربعة أيام ، فقال تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الأرض فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ } ، وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم ، والشمس ، والقمر ، والملائكة إلى ثلاث ساعات بقين منه ، فخلق من أوّل ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات ، وفي الثانية ألقى فيها من كلّ شيء مما ينتفع به ، وفي الثالثة خلق آدم ، وأسكنه الجنة ، وأمر إبليس بالسجود له ، وأخرجه منها في آخر ساعة » قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد؟ قال : « ثم استوى على العرش » قالوا : قد أصبت لو أتممت ، قالوا : ثم استراح ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً ، فنزل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ } [ ق : 38 ، 39 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها } قال : شق الأنهار ، وغرس الأشجار ، ووضع الجبال ، وأجرى البحار ، وجعل في هذه ما ليس في هذه ، وفي هذه ما ليس في هذه .

وأخرج أبو الشيخ عنه أيضاً قال : إن الله تعالى خلق يوماً ، فسماه الأحد ، ثم خلق ثانياً ، فسماه الاثنين ، ثم خلق ثالثاً ، فسماه الثلاثاء ، ثم خلق رابعاً ، فسماه الأربعاء ، ثم خلق خامساً ، فسماه الخميس ، وذكر نحو ما تقدّم . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله فرغ من خلقه في ستة أيام ، وذكر نحو ما تقدّم » وأخرج ابن جرير ، عن أبي بكر نحو ما تقدّم عن ابن عباس . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } قال : قال للسماء : أخرجي شمسك ، وقمرك ، ونجومك ، وللأرض شققي أنهارك ، وأخرجي ثمارك { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { ائتيا } قال : أعطيا ، وفي قوله : { قَالَتَا أَتَيْنَا } قال : أعطينا .

فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

لما ذكر سبحانه عادًا ، وثمود إجمالاً ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلاً ، فقال : { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الأرض بِغَيْرِ الحق } أي : تكبروا عن الإيمان بالله ، وتصديق رسله ، واستعلوا على من في الأرض بغير الحق ، أي : بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر ، والتجبر . ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة على الاستكبار ، فقال : { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } ، وكانوا ذوي أجسام طوال ، وقوّة شديدة ، فاغترّوا بأجسامهم حين تهدّدهم هود بالعذاب ، ومرادهم بهذا القول : أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب ، فردّ الله عليهم بقوله : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } ، والاستفهام للاستنكار عليهم ، وللتوبيخ لهم ، أي : أو لم يعلموا بأن الله أشد منهم قدرة ، فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله كن ، فيكون { وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ } أي : بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها ، وجعلها دليلاً على نبوّتهم ، أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا ، أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم ، وجعلناها حجة عليهم ، أو بجميع ذلك . ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه ، فقال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } الصرصر : الريح الشديدة الصوت من الصرّة ، وهي : الصيحة . قال أبو عبيدة : معنى صرصر : شديدة عاصفة . وقال الفراء : هي : الباردة تحرق كما تحرق النار . وقال عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وقتادة : هي : الباردة ، وأنشد قطرب قول الحطيئة :
المطعمون إذا هبت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا عن الناس
أي : إذا سئلوا الدية . وقال مجاهد : هي : الشديدة السموم ، والأولى تفسيرها بالبرد ، لأن الصرّ في كلام العرب البرد ، ومنه قول الشاعر :
لها غرد كقرون النسا ... ء ركبن في يوم ريح وصر
قال ابن السكيت : صرصر يجوز أن يكون من الصرّ ، وهو : البرد ، ويجوز أن يكون من صرصر الباب ، ومن الصرة وهي : الصيحة ، ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . ثم بيّن سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم ، فقال : { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } أي : مشئومات ذوات نحوس . قال مجاهد ، وقتادة : كنّ آخر شوّال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء ، وذلك سبع ليال ، وثمانية أيام حسوماً . وقيل : نحسات باردات . وقيل : متتابعات . وقيل : شداد . وقيل : ذوات غبار . قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو : ( نحسات ) بإسكان الحاء على أنه جمع نحس ، وقرأ الباقون بكسرها ، واختار أبو حاتم القراءة الأولى لقوله : { فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ } [ القمر : 19 ] واختار أبو عبيدة القراءة الثانية . { لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزى فِى الحياة الدنيا } أي : لكي نذيقهم ، والخزي هو : الذل ، والهوان بسبب ذلك الاستكبار { وَلَعَذَابُ الأخرة أخزى } أي : أشدّ إهانة ، وذلاً ، ووصف العذاب بذلك ، وهو في الحقيقة وصف للمعذبين ، لأنهم الذين صاروا متصفين بالخزي { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } أي : لا يمنعون من العذاب النازل بهم ، ولا يدفعه عنهم دافع .

ثم ذكر حال الطائفة الأخرى ، فقال : { وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم } أي : بينا لهم سبيل النجاة ، ودللناهم على طريق الحقّ بإرسال الرسل إليهم ، ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله ، فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ، ويصدّق رسله . قال الفراء : معنى الآية : دللناهم على مذهب الخير بإرسال الرسل . قرأ الجمهور : { وأما ثمود } بالرفع ، ومنع الصرف . وقرأ الأعمش ، وابن وثاب بالرفع ، والصرف ، وقرأ ابن عباس ، وابن أبي إسحاق ، وعاصم في رواية بالنصب ، والصرف وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، وعاصم في رواية بالنصب ، والمنع ، فأما الرفع ، فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر ، وأما النصب فعلى الاشتغال ، وأما الصرف فعلى تفسير الاسم بالأب ، أو الحي ، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } أي : اختاروا الكفر على الإيمان ، وقال أبو العالية : اختاروا العمى على البيان ، وقال السدّي : اختاروا المعصية على الطاعة { فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون } قد تقدّم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأيّ شيء كان ، والهون الهوان والإهانة ، فكأنه قال : أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإهانة ، ويقال عذاب هون ، أي : مهين كقوله : { مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين } [ سبأ : 14 ] ، والباء في { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } للسببية ، أي : بسبب الذي كانوا يكسبونه ، أو بسبب كسبهم { وَنَجَّيْنَا الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ } ، وهم : صالح ومن معه من المؤمنين ، فإن الله نجاهم من ذلك العذاب ، ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به في الدنيا ذكر ما عاقبهم به في الآخرة ، فقال : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله إِلَى النار } ، وفي وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة في ذمهم ، والعامل في الظرف محذوف دلّ عليه ما بعده تقديره : يساق الناس يوم يحشر ، أو باذكر ، أي : اذكر يوم يحشرهم . قرأ الجمهور : { يحشر } بتحتية مضمومة ، ورفع أعداء على النيابة ، وقرأ نافع : ( نحشر ) بالنون ، ونصب أعداء ، ومعنى حشرهم إلى النار : سوقهم إليها ، أو إلى موقف الحساب ، لأنه يتبين عنده فريق الجنة ، وفريق النار { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يحبس أوّلهم على آخرهم؛ ليتلاحقوا ويجتمعوا ، كذا قال قتادة ، والسدّي ، وغيرهما ، وقد سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى .
{ حتى إِذَا مَا جَاءوهَا } أي : جاءوا النار التي حشروا إليها ، أو موقف الحساب ، و «ما» مزيدة للتوكيد { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } في الدنيا من المعاصي . قال مقاتل : تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم بالشرك ، والمراد بالجلود هي : جلودهم المعروفة في قول أكثر المفسرين . وقال السدّي ، وعبيد الله بن أبي جعفر ، والفراء : أراد بالجلود الفروج ، والأوّل أولى { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } وجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها ما ذكره الرازي أن الحواس الخمس وهي : السمع ، والبصر ، والشم ، والذوق ، واللمس ، وآلة المس هي الجلد ، فالله سبحانه ذكر هنا ثلاثة أنواع من الحواس ، وهي : السمع ، والبصر ، واللمس ، وأهمل ذكر نوعين ، وهما : الذوق ، والشم ، فالذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام ، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك مماسة لجرم المشموم ، فكانا داخلين في جنس اللمس ، وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال ، لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس ، فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر وأما على قول من فسر الجلود بالفروج ، فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر ، لأنه ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحاً ، وأجلب للخزي والعقوبة ، وقد قدّمنا وجه إفراد السمع ، وجمع الأبصار { قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء } أي : أنطق كلّ شيء مما ينطق من مخلوقاته ، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح .

وقيل : المعنى : ما نطقنا باختيارنا ، بل أنطقنا الله ، والأوّل أولى { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قيل : هذا من تمام كلام الجلود . وقيل : مستأنف من كلام الله ، والمعنى : أن من قدر على خلقكم ، وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ، ورجعكم إليه .
{ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ } هذا تقريع لهم ، وتوبيخ من جهة الله سبحانه ، أو من كلام الجلود ، أي : ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذراً من شهادة الجوارح عليكم ، ولما كان الإنسان لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا : ترك المعصية . وقيل : معنى الاستتار : الاتقاء ، أي : ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة ، فتتركوا المعاصي خوفاً من هذه الشهادة و «أن» في قوله : { أَن تَشْهَدَ } في محل نصب على العلة ، أي : لأجل أن تشهد ، أو مخافة أن تشهد . وقيل : منصوبة بنزع الخافض ، وهو : الباء أو عن أو من . وقيل : إن الاستتار مضمن معنى الظنّ ، أي : وما كنتم تظنون أن تشهد ، وهو : بعيد { ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْلَمُونَ } من المعاصي ، فاجترأتم على فعلها . قيل : كان الكفار يقولون : إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ، ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسرّ . قال قتادة : الظنّ هنا بمعنى : العلم وقيل : أريد بالظنّ معنى مجازي يعمّ معناه الحقيقي ، وما هو فوقه من العلم ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما ذكر من ظنهم ، وهو : مبتدأ وخبره : { ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ } ، وقوله : { أَرْدَاكُمْ } خبر آخر للمبتدأ . وقيل : إن أرداكم في محل نصب على الحال المقدّرة .

وقيل : إن ظنكم بدل من ذلكم ، والذي ظننتم خبره ، وأرداكم خبر آخر ، أو حال ، وقيل : إن ظنكم خبر أوّل ، والموصول وصلته خبر ثان ، وأرداكم خبر ثالث ، والمعنى : أن ظنكم بأن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون أهلككم ، وطرحكم في النار { فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين } أي : الكاملين في الخسران .
ثم أخبر عن حالهم ، فقال : { فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ } أي : فإن يصبروا على النار ، فالنار مثواهم ، أي : محل استقرارهم ، وإقامتهم لا خروج لهم منها . وقيل : المعنى : فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار ، فالنار مثوى لهم { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ المعتبين } يقال : أعتبني فلان ، أي : أرضاني بعد إسخاطه إياي ، واستعتبته طلبت منه أن يرضى ، والمعنى : أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع ، لأنهم لا يستحقون ذلك . قال الخليل : تقول : استعبته ، فأعتبني ، أي : استرضيته ، فأرضاني ، ومعنى الآية : إن يطلبوا الرضى لم يقع الرضى عنهم ، بل لا بدّ لهم من النار . قرأ الجمهور : { يستعتبوا } بفتح التحتية ، وكسر التاء الفوقية الثانية مبنياً للفاعل . وقرءوا : { من المعتبين } بفتح الفوقية اسم مفعول ، وقرأ الحسن ، وعبيد بن عمير ، وأبو العالية : ( يستعتبوا ) مبنياً للمفعول ( فما هم من المعتبين ) اسم فاعل ، أي : إنهم إن أقالهم الله ، وردّهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه : { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
وقد أخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال : يحبس أوّلهم على آخرهم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : يدفعون . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر : قرشي وثقفيان ، أو ثقفيّ وقرشيان ، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخران : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإنا إذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخران : إن سمع منه شيئاً سمعه كله؛ قال : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } إلى قوله : { مّنَ الخاسرين } . وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تحشرون ها هنا ، وأومأ بيده إلى الشام ، مشاة وركباناً ، وعلى وجوهكم ، وتعرضون على الله ، وعلى أفواهكم الفدام ، وأوّل ما يعرب عن أحدكم ، فخذه وكتفه " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ } » . وأخرج أحمد ، وأبو داود الطيالسي ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن حبان ، وابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظن بالله تعالى ، فإن قوماً قد أرداهم سوء ظنهم بالله ، فقال الله : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ الخاسرين } " .

وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

قوله : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } أي : هيأنا قرناء من الشياطين . وقال الزجاج : سببنا لهم قرناء حتى أضلوهم . وقيل : سلطنا عليهم قرناء . وقيل : قدّرنا ، والمعاني متقاربة ، وأصل التقييض التيسير ، والتهيئة ، والقرناء جمع قرين ، وهم : الشياطين ، جعلهم بمنزلة الأخلاء لهم . وقيل : إن الله قيض لهم قرناء في النار ، والأولى أن ذلك في الدنيا لقوله : { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } فإن المعنى : زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها ، وحملوهم على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها ، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة ، فقالوا : لا بعث ، ولا حساب ، ولا جنة ، ولا نار . وقال الزجاج : ما بين أيديهم ما عملوه ، وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه . وروي عن الزجاج أيضاً ، أنه قال : ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ، ولا جنة ، ولا نار ، وما خلفهم من أمر الدنيا { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي : وجب ، وثبت عليهم العذاب ، وهو قوله سبحانه : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] و { فِى أُمَمٍ } في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم ، والمعنى : كائنين في جملة أمم . وقيل : في بمعنى مع ، أي : مع أمم من الأمم الكافرة التي { قَدْ خَلَتْ } ومضت { مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس } على الكفر ، وجملة : { إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين } تعليل لاستحقاقهم العذاب .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان } أي : قال بعضهم لبعض : لا تسمعوه ، ولا تنصتوا له . وقيل : معنى لا تسمعوا : لا تطيعوا ، يقال : سمعت لك ، أي : أطعتك { والغوا فِيهِ } أي : عارضوه باللغو والباطل ، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارىء له . وقال مجاهد : الغوا فيه بالمكاء ، والتصدية ، والتصفيق ، والتخليط في الكلام حتى يصير لغواً . وقال الضحاك : أكثروا الكلام؛ ليختلط عليه ما يقول . وقال أبو العالية : قعوا فيه ، وعيبوه . قرأ الجمهور : { والغوا } بفتح الغين ، من لغا إذا تكلم باللغو ، وهو : ما لا فائدة فيه ، أو من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضاً كما حكاه الأخفش ، وقرأ عيسى بن عمر ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، وبكر بن حبيب السهمي ، وقتادة ، والسماك ، والزعفراني بضم الغين . وقد تقدّم الكلام في اللغو في سورة البقرة { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } أي : لكي تغلبوهم ، فيسكتوا . ثم توعدهم سبحانه على ذلك ، فقال : { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } ، وهذا وعيد لجميع الكفار ، ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولاً أوّلياً { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا . قال مقاتل : وهو : الشرك . وقيل : المعنى : أنه يجازيهم بمساوىء أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام ، وإكرام الضيف ، لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ، وهو : مبتدأ وخبره جزاء أعداء الله ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، وجملة { جَزَاء أَعْدَاء الله النار } مبينة للجملة التي قبلها ، والأوّل أولى ، وتكون النار عطف بيان للجزاء ، أو بدلاً منه ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ والخبر : { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } .

وعلى الثلاثة الوجوه الأولى تكون جملة لهم فيها دار الخلد مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، ومعنى دار الخلد : دار الإقامة المستمرة التي لا انقطاع لها { جَزَاء أَعْدَاء الله النار لَهُمْ } أي : يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله . قال مقاتل : يعني : القرآن يجحدون أنه من عند الله ، وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سبباً له ، إقامة للسبب مقام المسبب .
{ وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا مِنَ الجن والإنس } قالوا : هذا وهم في النار ، وذكره بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه ، والمراد : أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق الجن ، والإنس من الشياطين الذين كانوا يسوّلون لهم ، ويحملونهم على المعاصي ، ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون لهم الكفر . وقيل : المراد إبليس ، وقابيل لأنهما سنا المعصية لبني آدم . قرأ الجمهور : { أرنا } بكسر الراء . وقرأ ابن محيصن ، والسوسي عن أبي عمرو ، وابن عامر بسكون الراء ، وبها قرأ أبو بكر ، والمفضل ، وهما لغتان بمعنى واحد . وقال الخليل : إذا قلت أرني ثوبك بالكسر ، فمعناه : بصرنيه ، وبالسكون : أعطنيه { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي : ندسهما بأقدامنا ، لنشتفي منهم . وقيل : نجعلهم أسفل منا في النار { لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } فيها مكاناً ، أو ليكونا من الأذلين المهانين . وقيل : ليكونوا أشد عذاباً منا .
ثم لما ذكر عقاب الكافرين ، وما أعدّه لهم ذكر حال المؤمنين ، وما أنعم عليهم به ، فقال : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله } أي : وحده لا شريك له { ثُمَّ استقاموا } على التوحيد ، ولم يلتفتوا إلى إلاه غير الله . قال جماعة من الصحابة ، والتابعين : معنى الاستقامة : إخلاص العمل لله . وقال قتادة ، وابن زيد : ثم استقاموا على طاعة الله . وقال الحسن : استقاموا على أمر الله ، فعملوا بطاعته ، واجتنبوا معصيته . وقال مجاهد ، وعكرمة : استقاموا على شهادة أن لا إله إلاّ الله حتى ماتوا . وقال الثوري : عملوا على وفاق ما قالوا . وقال الربيع : أعرضوا عما سوى الله . وقال الفضيل بن عياض : زهدوا في الفانية ، ورغبوا في الباقية { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة } من عند الله سبحانه بالبشرى التي يريدونها من جلب نفع ، أو دفع ضرر ، أو رفع حزن . قال ابن زيد ، ومجاهد : تتنزل عليهم عند الموت . وقال مقاتل ، وقتادة : إذا قاموا من قبورهم للبعث . وقال وكيع : البشرى في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث { ألا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } أن هي : المخففة ، أو المفسرة ، أو الناصبة ، و «لا» على الوجهين الأوّلين ناهية ، وعلى الثالث نافية ، والمعنى : لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة ، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من أهل ، وولد ، ومال .

قال مجاهد : لا تخافوا الموت ، ولا تحزنوا على أولادكم ، فإن الله خليفتكم عليهم . وقال عطاء : لا تخافوا ردّ ثوابكم ، فإنه مقبول ، ولا تحزنوا على ذنوبكم ، فإني أغفرها لكم . والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم بوقت معين ، وعدم تقييد نفي الخوف ، والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } بها في الدنيا ، فإنكم واصلون إليها مستقرّون بها خالدون في نعيمها .
ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من ذلك كله ، فقال : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا وَفِى الأخرة } أي : نحن المتولون لحفظكم ، ومعونتكم في أمور الدنيا ، وأمور الآخرة ، ومن كان الله وليه فاز بكلّ مطلب ، ونجا من كلّ مخافة . وقيل : إن هذا من قول الملائكة . قال مجاهد : يقولون لهم : نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قالوا : لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة . وقال السدّي : نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا ، وأولياؤكم في الآخرة . وقيل : إنهم يشفعون لهم في الآخرة ، ويتلقونهم بالكرامة { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } من صنوف اللذات ، وأنواع النعم { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي : ما تتمنون ، افتعال من الدعاء بمعنى : الطلب ، وقد تقدّم بيان معنى هذا في قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ يس : 57 ] مستوفى ، والفرق بين الجملتين : أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم ، والثانية باعتبار ما يطلبونه أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم أولاً . وقال الرازي : الأقرب عندي أن قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله : { دعواهم فِيهَا سبحانك اللهم } [ يونس : 10 ] الآية ، وانتصاب { نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } على الحال من الموصول ، أو من عائده ، أو من فاعل تدّعون ، أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف ، أي : أنزلناه نزلاً ، والنزل : ما يعدّ لهم حال نزولهم من الرزق ، والضيافة ، وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله } أي : إلى توحيد الله ، وطاعته . قال الحسن : هو المؤمن أجاب الله دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته { وَعَمِلَ صالحا } في إجابته { وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين } لربي . وقال ابن سيرين ، والسدّي ، وابن زيد : هو : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروي هذا أيضاً عن الحسن . وقال عكرمة ، وقيس بن أبي حازم ، ومجاهد : نزلت في المؤذنين . ويجاب عن هذا بأن الآية مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة . والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ ، ويدخل فيها من كان سبباً لنزولها دخولاً أولياً ، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله ، وعمل عملاً صالحاً ، وهو : تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه ، وكان من المسلمين ديناً لا من غيرهم ، فلا شيء أحسن منه ، ولا أوضح من طريقته ، ولا أكثر ثواباً من عمله .

ثم بيّن سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال ، ومساويها ، فقال : { وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة } أي : لا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها ، ويثيب عليها ، ولا السيئة التي يكرهها الله ، ويعاقب عليها ، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات ، وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي ، فإن اللفظ أوسع من ذلك . وقيل : الحسنة التوحيد ، والسيئة الشرك . وقيل : الحسنة المداراة ، والسيئة الغلظة . وقيل : الحسنة العفو ، والسيئة الانتصار . وقيل : الحسنة العلم ، والسيئة الفحش . قال الفراء : «لا» في قوله ، { ولا السيئة } زائدة { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } أي : ادفع السيئة إذا جاءتك من المسيء بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات ، ومنه مقابلة الإساءة بالإحسان ، والذنب بالعفو ، والغضب بالصبر ، والإغضاء عن الهفوات ، والاحتمال للمكروهات . وقال مجاهد ، وعطاء : بالتي هي أحسن يعني : بالسلام إذا لقي من يعاديه . وقيل : بالمصافحة عند التلاقي { فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن ، والمعنى : أنك إذا فعلت ذلك الدفع صار العدوّ كالصديق ، والبعيد عنك كالقريب منك . وقال مقاتل : نزلت في أبي سفيان بن حرب كان معادياً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فصار له ولياً بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه ، ثم أسلم ، فصار ولياً في الإسلام حميماً بالصهارة . وقيل غير ذلك ، والأولى حمل الآية على العموم .
{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } قال الزجاج : ما يلقى هذه الفعلة ، وهذه الحالة ، وهي : دفع السيئة بالحسنة إلاّ الذين صبروا على كظم الغيظ ، واحتمال المكروه { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ } في الثواب والخير . وقال قتادة : الحظ العظيم : الجنة ، أي : ما يلقاها إلاّ من وجبت له الجنة . وقيل : الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة . وقيل : راجع إلى كلمة التوحيد . قرأ الجمهور : { يلقاها } من التلقية ، وقرأ طلحة بن مصرف ، وابن كثير في رواية عنه : ( يلاقاها ) من الملاقاة ، ثم أمره سبحانه بالاستعاذة من الشيطان ، فقال : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله } النزغ شبيه النخس شبه به الوسوسة ، لأنها تبعث على الشرّ؛ والمعنى : وإن صرفك الشيطان عن شيء مما شرعه الله لك ، أو عن الدفع بالتي هي أحسن ، فاستعذ بالله من شرّه ، وجعل النزغ نازغاً على المجاز العقلي كقولهم : جدّ جدّه ، وجملة : { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } تعليل لما قبلها ، أي : السميع لكلّ ما يسمع ، والعليم بكلّ ما يعلم ، ومن كان كذلك ، فهو يعيذ من استعاذ به .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته ، فكان المشركون يطردون الناس عنه ، ويقولون : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحبّ أن يسمع القرآن ، فأنزل الله : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [ الإسراء : 110 ] . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب : أنه سئل عن قوله : { رَبَّنَا أَرِنَا اللذين أضلانا مِنَ الجن والإنس } قال : هو : ابن آدم الذي قتل أخاه ، وإبليس .
وأخرج الترمذي ، والنسائي ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ ، وابن مردويه عن أنس قال : «قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } قال : قد قالها ناس من الناس ، ثم كفر أكثرهم ، فمن قالها حين يموت ، فهو ممن استقام عليها» . وأخرج ابن المبارك ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، ومسدد ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عمران ، عن أبي بكر الصديق في قوله : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } قال : الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئاً . وأخرج ابن راهويه ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية من طريق الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق أنه قال : ما تقولون في هاتين الآيتين : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } ، و { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } [ الأنعام : 82 ] ؟ قالوا : الذين قالوا : ربنا الله ، ثم عملوا بها ، واستقاموا على أمره ، فلم يذنبوا ، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لم يذنبوا ، قال : لقد حملتموهما على أمر شديد { الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ } يقول : بشرك ، والذين قالوا : ربنا الله ، ثم استقاموا ، فلم يرجعوا إلى عبادة الأوثان . وأخرج ابن مردويه عن بعض الصحابة : ثم استقاموا على فرائض الله . وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس : { ثُمَّ استقاموا } قال : على شهادة أن لا إله إلاّ الله . وأخرج ابن المبارك ، وسعيد بن منصور ، وأحمد في الزهد ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } قال : استقاموا بطاعة الله ، ولم يروغوا روغان الثعلب . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والبخاري في تاريخه ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، عن سفيان الثقفي ، أن رجلاً قال : يا رسول الله مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك ، قال : قل آمنت بالله ، ثم استقم ، قلت : فما أتقي؟ فآوى إلى لسانه .

قال الترمذي : حسن صحيح .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عائشة في قوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله } قالت : المؤذن { وَعَمِلَ صالحا } قالت : ركعتان فيما بين الأذان ، والإقامة . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر ، وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت : ما أرى هذه الآية نزلت إلاّ في المؤذنين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } قال : أمر المسلمين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوّهم { كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } . وأخرج ابن مردويه عنه { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } قال : القه بالسلام ، فإذا الذي بينك ، وبينه عداوة كأنه وليّ حميم . وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } قال : الرجل يشتمه أخوه ، فيقول : إن كنت صادقاً ، فغفر الله لي ، وإن كنت كاذباً ، فغفر الله لك . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن سليمان بن صرد قال : استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فاشتدّ غضب أحدهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقال الرجل : أمجنون تراني؟ ، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم } » .

وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)

شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة الدالة على كمال قدرته ، وقوّة تصرفه للاستدلال بها على توحيده ، فقال : { وَمِنْ ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر } ، ثم لما بيّن أن ذلك من آياته نهاهم عن عبادة الشمس ، والقمر ، وأمرهم بأن يسجدوا لله عزّ وجلّ ، فقال : { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ } ، لأنهما مخلوقان من مخلوقاته ، فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته { واسجدوا لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ } أي : خلق هذه الأربعة المذكورة ، لأن جمع ما لا يعقل حكمه حكم جمع الإناث ، أو الآيات ، أو الشمس ، والقمر ، لأن الاثنين جمع عند جماعة من الأئمة { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } قيل : كان ناس يسجدون للشمس ، والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله ، فنهوا عن ذلك ، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه . وقيل : وجه تخصيصه أنه أقصى مراتب العبادة ، وهذه الآية من آيات السجود بلا خلاف ، وإنما اختلفوا في موضع السجدة ، فقيل : موضعه عند قوله : { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ، لأنه متصل بالأمر ، وقيل : عند قوله : { وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ } ، لأنه تمام الكلام { فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبّكَ يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ } أي : إن استكبر هؤلاء عن الامتثال ، فالملائكة يديمون التسبيح لله سبحانه بالليل ، والنهار ، وهم لا يملون ، ولا يفترون .
{ وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الأرض خاشعة } الخطاب هنا لكل من يصلح له ، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والخاشعة : اليابسة الجدبة . وقيل : الغبراء التي لا تنبت . قال الأزهري : إذا يبست الأرض ، ولم تمطر قيل : قد خشعت { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ } أي : ماء المطر ، ومعنى اهتزت : تحركت بالنبات يقال : اهتزّ الإنسان : إذا تحرك ، ومنه قول الشاعر :
تراه كنصل السيف يهتزّ للندى ... إذا لم تجد عند امرىء السوء مطعما
ومعنى { ربت } : انتفخت ، وعلت قبل أن تنبت : قاله مجاهد ، وغيره ، وعلى هذا ففي الكلام تقديم ، وتأخير ، وتقديره : ربت ، واهتزّت . وقيل : الاهتزاز ، والربو قد يكونان قبل خروج النبات ، وقد يكونان بعده ، ومعنى الربو لغة : الارتفاع ، كما يقال للموضع المرتفع : ربوة ، ورابية ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج . وقيل : اهتزت استبشرت بالمطر ، وربت انتفخت بالنبات . وقرأ أبو جعفر ، وخالد : ( وربأت ) . { إِنَّ الذى أحياها لَمُحْىِ الموتى } بالبعث ، والنشور { إِنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء كائناً ما كان .
{ إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا } أي : يميلون عن الحق ، والإلحاد الميل ، والعدول ، ومنه اللحد في القبر ، لأنه أميل إلى ناحية منه ، يقال : ألحد في دين الله ، أي : مال ، وعدل عنه ، ويقال : لحد ، وقد تقدّم تفسير الإلحاد .

قال مجاهد : معنى الآية : يميلون عن الإيمان بالقرآن . وقال مجاهد : يميلون عند تلاوة القرآن بالمكاء ، والتصدية ، واللغو ، والغناء . وقال قتادة : يكذبون في آياتنا . وقال السدّي : يعاندون ، ويشاقون . وقال ابن زيد : يشركون { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } بل نحن نعلمهم ، فنجازيهم بما يعملون . ثم بيّن كيفية الجزاء ، والتفاوت بين المؤمن ، والكافر ، فقال : { أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } هذا الاستفهام للتقرير ، والغرض منه التنبيه على أن الملحدين في الآيات يلقون في النار ، وأن المؤمنين بها يأتون آمنين يوم القيامة . وظاهر الآية العموم اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . وقيل : المراد بمن يلقى في النار : أبو جهل ، ومن يأتي آمنا : النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : حمزة ، وقيل : عمر بن الخطاب . وقيل : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي { اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } هذا أمر تهديد ، أي : اعملوا من أعمالكم التي تلقيكم في النار ما شئتم إنه بما تعملون بصير ، فهو مجازيكم على كل ما تعملون . قال الزجاج : لفظه لفظ الأمر ، ومعناه : الوعيد .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَاءهُمْ } الجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، وخبر إن محذوف ، أي : إن الذين كفروا بالقرآن لما جاءهم يجازون بكفرهم ، أو هالكون ، أو يعذّبون . وقيل : هو قوله : { يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ، وهذا بعيد ، وإن رجحه أبوعمرو بن العلاء . وقال الكسائي : إنه سدّ مسدّه الخبر السابق ، وهو : { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا } . وقيل : إن الجملة بدل من الجملة الأولى ، وهي : الذين يلحدون في آياتنا ، وخبر إن هو : الخبر السابق { وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ } أي : القرآن الذي كانوا يلحدون فيه ، أي : عزيز عن أن يعارض ، أو يطعن فيه الطاعنون ، منيع عن كل عيب . ثم وصفه بأنه حق لا سبيل للباطل إليه بوجه من الوجوه ، فقال : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } . قال الزجاج : معناه : أنه محفوظ من أن ينقص منه ، فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه ، فيأتيه الباطل من خلفه ، وبه قال قتادة ، والسدّي . ومعنى الباطل على هذا : الزيادة ، والنقصان . وقال مقاتل : لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله ، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله ، وبه قال الكلبي ، وسعيد بن جبير . وقيل : الباطل هو : الشيطان ، أي : لا يستطيع أن يزيد فيه ، ولا ينقص منه . وقيل : لا يزاد فيه ، ولا ينقص منه ، لا من جبريل ، ولا من محمد صلى الله عليه وسلم { تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } هو خبر مبتدأ محذوف ، أو صفة أخرى لكتاب عند من يجوّز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح . وقيل : إنه الصفة لكتاب ، وجملة لا يأتيه معترضة بين الموصوف ، والصفة .
ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن ما كان يتأثر له من أذية الكفار ، فقال : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } أي : ما يقال لك من هؤلاء الكفار من وصفك بالسحر ، والكذب ، والجنون إلاّ مثل ما قيل للرسل من قبلك ، فإن قومهم كانوا يقولون لهم مثل ما يقول لك هؤلاء .

وقيل : المعنى : ما يقال لك من التوحيد ، وإخلاص العبادة لله إلاّ ما قد قيل للرسل من قبلك ، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك . وقيل : هو استفهام ، أي : أيّ شيء يقال لك إلاّ ما قد قيل للرسل من قبلك { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ } لمن يستحق مغفرته من الموحدين الذين بايعوك ، وبايعوا من قبلك من الأنبياء { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } للكفار المكذّبين المعادين لرسل الله ، وقيل : لذو مغفرة للأنبياء ، وذو عقاب لأعدائهم { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً } أي : لو جعلنا هذا القرآن الذي تقرؤه على الناس بغير لغة العرب { لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } أي : بينت بلغتنا ، فإننا عرب لا نفهم لغة العجم ، والاستفهام في قوله : { ءاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ } للإنكار ، وهو من جملة قول المشركين ، أي : لقالوا أكلام أعجميّ ، ورسول عربيّ . والأعجمي : الذي لا يفصح سواء كان من العرب ، أو من العجم . والأعجم ضد الفصيح وهو : الذي لا يبين كلامه ، ويقال للحيوان غير الناطق : أعجم . قرأ أبو بكر ، وحمزة ، والكسائي : { ءأعجميّ } بهمزتين محققتين . وقرأ الحسن ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم ، وهشام بهمزة واحدة على الخبر ، وقرأ الباقون بتسهيل الثانية بين بين . وقيل : المراد : هلا فصلت آياته ، فجعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم ، وبعضها عربياً لإفهام العرب .
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم ، فقال : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء } أي : يهتدون به إلى الحق ، ويشتفون به من كل شك ، وشبهة ، ومن الأسقام ، والآلام { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ } أي : صمم عن سماعه ، وفهم معانيه ، ولهذا تواصوا باللغو فيه { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } قال قتادة : عموا عن القرآن ، وصموا عنه . وقال السدّي : عميت قلوبهم عنه ، والمعنى : وهو عليهم ذو عمى ، أو وصف بالمصدر للمبالغة ، والموصول في قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } مبتدأ ، وخبره : { في آذَانِهِمْ وَقْرٌ } ، أو الموصول الثاني عطف على الموصول الأوّل ، ووقر عطف على هدى عند من جوّز العطف على عاملين مختلفين ، والتقدير : هو للأوّلين هدى ، وشفاء ، وللآخرين ، وقر في آذانهم . قرأ الجمهور : { عمى } بفتح الميم منونّة على أنه مصدر ، وقرأ ابن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعمرو بن العاص ، وابن عمر بكسرالميم منونّة على أنه اسم منقوص على أنه وصف به مجازاً . وقرأ عمرو بن دينار بكسر الميم ، وفتح الياء على أنه فعل ماض ، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لقوله أوّلاً : «هدى وشفاء» ، ولم يقل هاد ، وشاف .

وقيل : المعنى : والوقر عليهم عمى ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين لا يؤمنون ، وما في حيزه ، وخبره : { يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم للقرآن بحال من ينادي من مسافة بعيدة لا يسمع صوت من يناديه منها . قال الفراء : تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك : أنت تنادي من مكان بعيد . وقال الضحاك : ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد . وقال مجاهد : من مكان بعيد من قلوبهم .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه كان يسجد بآخر الآيتين من حمالسجدة ، وكان ابن مسعود يسجد بالأولى منهما . وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة من طريق نافع عن ابن عمر : أنه كان يسجد بالأولى . وأخرج سعيد بن منصور عنه : أنه كان يسجد في الآية الأخيرة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا } قال : هو : أن يضع الكلام على غير موضعه . وأخرج ابن مردويه عنه في قوله : { أَفَمَن يلقى فِى النار } قال : أبو جهل بن هشام { أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } قال : أبو بكر الصديق . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن عساكر عن بشير بن تميم قال : نزلت هذه الآية في أبي جهم ، وعمار بن ياسر . وأخرج ابن عساكر عن عكرمة مثله . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } قال : هذا لأهل بدر خاصة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً } الآية يقول : لو جعلنا القرآن أعجمياً ، ولسانك يا محمد عربيّ لقالوا : أعجميّ ، وعربيّ تأتينا به مختلفاً ، أو مختلطاً { لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته } هلا بينت آياته ، فكان القرآن مثل اللسان . يقول : فلم نفعل لئلا يقولوا ، فكانت حجة عليهم .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)

قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ } هذا كلام مستأنف يتضمن تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يحصل له من الاغتمام بكفر قومه ، وطعنهم في القرآن ، فأخبره أن هذا عادة قديمة في أمم الرسل ، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة إليهم ، والمراد بالكتاب : التوراة ، والضمير من قوله : { فِيهِ } راجع إليه . وقيل : يرجع إلى موسى ، والأوّل أولى { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } في تأخير العذاب عن المكذّبين من أمتك كما في قوله : { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } [ النحل : 61 ] { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } بتعجيل العذاب لمن كذب منهم { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } أي : من كتابك المنزّلّ عليك ، وهو : القرآن ، ومعنى الشك المريب : الموقع في الريبة ، أو الشديد الريبة . وقيل : إن المراد اليهود ، وأنهم في شك من التوراة مريب ، والأوّل أولى { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ } أي : من أطاع الله ، وآمن برسوله ، ولم يكذّبهم ، فثواب ذلك راجع إليه ، ونفعه خاصّ به { وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } أي : عقاب إساءته عليه لا على غيره { وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ } ، فلا يعذبّ أحداً إلاّ بذنبه ، ولا يقع منه الظلم لأحد كما في قوله سبحانه : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا } [ يونس : 44 ] وقد تقدّم الكلام على معنى هذه الآية في سورة آل عمران عند قوله : { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } [ آل عمران : 182 ] ، وفي سورة الأنفال أيضاً .
ثم أخبر سبحانه : أن علم القيامة ، ووقت قيامها لا يعلمه غيره ، فقال : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة } ، فإذا وقع السؤال عنها وجب على المسئول أن يردّ علمها إليه لا إلى غيره ، وقد روي أن المشركين قالوا : يا محمد إن كنت نبياً ، فخبرنا متى تقوم الساعة؟ فنزلت . و { ما } في قوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا } نافية ، و { من } الأولى للاستغراق ، و { من } الثانية لابتداء الغاية . وقيل : هي موصولة في محلّ جرّ عطفاً على الساعة ، أي : علم الساعة ، وعلم التي تخرج ، والأوّل أولى . والأكمام جمع كمّ بكسر الكاف ، وهو : وعاء الثمرة ، ويطلق على كل ظرف لمال ، أو غيره . قال أبو عبيدة : أكمامها أوعيتها ، وهي ما كانت فيه الثمرة ، واحدها كمّ ، وكمة . قال الراغب : الكمّ ما يغطي اليد من القميص ، وما يغطي الثمرة ، وجمعه أكمام ، وهذا يدلّ على أن الكمّ بضمّ الكاف ، لأنه جعله مشتركاً بين كمّ القميص ، وكمّ الثمرة ، ولا خلاف في كمّ القميص أنه بالضمّ . ويمكن أن يقال : إن في الكمّ الذي هو وعاء الثمر لغتين . وقرأ الجمهور : ( من ثمرة ) بالإفراد ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص بالجمع { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي : ما تحمل أنثى حملاً في بطنها ، ولا تضع ذلك الحمل إلاّ بعلم الله سبحانه ، والاستثناء مفرغ من أعمّ الأحوال أي : ما يحدث شيء من خروج ثمرة ، ولا حمل حامل ، ولا وضع واضع في حال من الأحوال إلاّ كائناً بعلم الله ، فإليه يردّ علم الساعة كما إليه يرد علم هذه الأمور { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } أي : ينادي الله سبحانه المشركين ، وذلك يوم القيامة ، فيقول لهم : { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في الدنيا من الأصنام ، وغيرها ، فادعوهم الآن ، فليشفعوا لكم ، أو يدفعوا عنكم العذاب ، وهذا على طريقة التهكم بهم .

قرأ الجمهور : { شركائي } ، بسكون الياء ، وقرأ ابن كثير بفتحها ، والعامل في يوم محذوف ، أي : اذكر { قَالُواْ ءاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } يقال : آذن يأذن : إذا أعلم ، ومنه قول الشاعر :
آذنتنا ببينها أسماء ... ربّ ثاو يمل منه الثواء
والمعنى : أعلمناك ما منا أحد يشهد بأن لك شريكاً ، وذلك أنهم لما عاينوا القيامة تبرءوا من الشركاء ، وتبرّأت منهم تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها . وقيل : إن القائل بهذا هي : المعبودات التي كانوا يعبدونها ، أي : ما منا من شهيد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين ، والأوّل أولى { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } أي : زال ، وبطل في الآخرة ما كانوا يعبدون في الدنيا من الأصنام ، ونحوها { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } أي : أيقنوا ، وعلموا أنه لا محيص لهم ، يقال : حاص يحيص حيصاً : إذا هرب . وقيل : الظنّ على معناه الحقيقي؛ لأنه بقي لهم في تلك الحال ظنّ ، ورجاء ، والأوّل أولى .
ثم ذكر سبحانه بعض أحوال الإنسان ، فقال : { لاَّ يَسْئَمُ الانسان مِن دُعَاء الخير } أي : لا يملّ من دعاء الخير لنفسه ، وجلبه إليه ، والخير هنا : المال ، والصحة ، والسلطان ، والرفعة . قال السدّي : والإنسان هنا يراد به الكافر . وقيل : الوليد بن المغيرة . وقيل : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأمية بن خلف . والأولى حمل الآية على العموم باعتبار الغالب ، فلا ينافيه خروج خلص العباد . وقرأ عبد الله بن مسعود : ( لا يسأم الإنسان من دعاء المال ) { وَإِن مَّسَّهُ الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } أي : وإن مسه البلاء ، والشدّة ، والفقر ، والمرض ، فيئوس من روح الله قنوط من رحمته . وقيل : يئوس من إجابة دعائه قنوط بسوء الظنّ بربه . وقيل : يئوس من زوال ما به من المكروه قنوط بما يحصل له من ظنّ دوامه ، وهما صيغتا مبالغة يدلان على أنه شديد اليأس عظيم القنوط .
{ وَلَئِنْ أذقناه رَحْمَةً مّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ } أي : ولئن آتيناه خيراً ، وعافية ، وغنى من بعد شدّة ، ومرض ، وفقر { لَيَقُولَنَّ هذا لِى } أي : هذا شيء أستحقه على الله لرضاه بعملي ، فظنّ أن تلك النعمة التي صار فيها ، وصلت إليه باستحقاقه لها ، ولم يعلم أن الله يبتلي عباده بالخير والشرّ ، ليتبين له الشاكر من الجاحد ، والصابر من الجزع .

قال مجاهد : معناه : هذا بعملي ، وأنا محقوق به { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } أي : ما أظنها تقوم كما يخبرنا به الأنبياء ، أو لست على يقين من البعث ، وهذا خاص بالكافرين ، والمنافقين ، فيكون المراد ، بالإنسان المذكور في صدر الآية : الجنس باعتبار غالب أفراده ، لأن اليأس من رحمة الله ، والقنوط من خيره ، والشك في البعث لا يكون إلاّ من الكافرين ، أو المتزلزلين في الدين المتظهرين بالإسلام المبطنين للكفر { وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى } على تقدير صدق ما يخبرنا به الأنبياء : من قيام الساعة ، وحصول البعث ، والنشور { إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى } أي : للحالة الحسنى من الكرامة ، فظنّ أنه استحق خير الدنيا بما فيه من الخير ، واستحق خير الآخرة بذلك الذي اعتقده في نفسه ، وأثبته لها ، وهو : اعتقاد باطل ، وظنّ فاسد { فَلَنُنَبّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ } أي : لنخبرنهم بها يوم القيامة { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } شديد بسبب ذنوبهم ، واللام هذه ، والتي قبلها هي الموطئة للقسم .
{ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } أي : على هذا الجنس باعتبار غالب أفراده { أَعْرَضَ } عن الشكر { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي : ترفع عن الانقياد للحق ، وتكبر ، وتجبر ، والجانب هنا مجاز عن النفس ، ويقال : نأيت ، وتناءيت ، أي : بعدت وتباعدت ، والمنتأى : الموضع البعيد . ومنه قول النابغة :
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقرأ يزيد بن القعقاع : ( وناء بجانبه ) بالألف قبل الهمزة { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } أي : البلاء ، والجهد ، والفقر ، والمرض { فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ } أي : كثير ، والعرب تستعمل الطول ، والعرض في الكثرة مجازاً ، يقال : أطال فلان في الكلام ، وأعرض في الدعاء : إذا أكثر ، والمعنى : أنه إذا مسه الشرّ تضرّع إلى الله ، واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به ، واستكثر من ذلك ، فذكره في الشدّة ، ونسيه في الرخاء ، واستغاث به عند نزول النقمة ، وتركه عند حصول النعمة ، وهذا صنيع الكافرين ، ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين ، ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ، ومحاجتهم ، فقال : { قُلْ أَرَءيْتُمْ } أي : أخبروني { إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله } أي : القرآن { ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } أي : كذبتم به ، ولم تقبلوه ، ولا عملتم بما فيه { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي : لا أحد أضلّ منكم لفرط شقاوتكم ، وشدّة عداوتكم ، والأصل : أيّ شيء أضلّ منكم ، فوضع : { مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ } موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة ، وأنها السبب الأعظم في ضلالهم .
{ سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الأفاق } أي : سنريهم دلالات صدق القرآن ، وعلامات كونه من عند الله في الآفاق { وَفِى أَنفُسِهِمْ } الآفاق جمع أفق ، وهو : الناحية . والأفق بضم الهمزة ، والفاء ، كذا قال أهل اللغة .

ونقل الراغب أنه يقال : أفق بفتحهما ، والمعنى : سنريهم آياتنا في النواحي ، وفي أنفسهم . قال ابن زيد : في الآفاق آيات السماء ، وفي أنفسهم حوادث الأرض . وقال مجاهد : في الآفاق فتح القرى التي يسر الله فتحها لرسوله ، وللخلفاء من بعده ، ونصار دينه في آفاق الدنيا شرقاً ، وغرباً ، ومن الظهور على الجبابرة ، والأكاسرة ، وفي أنفسهم فتح مكة ، ورجح هذا ابن جرير . وقال قتادة ، والضحاك : في الآفاق وقائع الله في الأمم ، وفي أنفسهم في يوم بدر . وقال عطاء : في الآفاق يعني : أقطار السموات ، والأرض من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والليل ، والنهار ، والرياح ، والأمطار ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والنبات ، والأشجار ، والجبال ، والبحار ، وغير ذلك ، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة ، وبديع الحكمة ، كما في قوله : { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [ الذاريات : 21 ] { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } الضمير راجع إلى القرآن . وقيل : إلى الإسلام الذي جاءهم به رسول الله . وقيل : إلى ما يريهم الله ، ويفعل من ذلك . وقيل : إلى محمد صلى الله عليه وسلم : أنه الرسول الحق من عند الله ، والأول أولى { أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبّكَ أَنَّهُ على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } الجملة مسوقة لتوبيخهم ، وتقريعهم ، و { بربك } في موضع رفع على أنه الفاعل؛ ليكف ، والباء زائدة ، و { أنه } بدل من ربك ، والهمزة للإنكار . والمعنى : ألم يغنهم عن الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن أنه سبحانه شهيد على جميع الأشياء . وقيل : المعنى : أو لم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار . وقيل : أو لم يكف بربك شاهداً على أن القرآن منزل من عنده . والشهيد بمعنى : العالم ، أو هو بمعنى : الشهادة التي هي : الحضور . قال الزجاج : ومعنى الكناية ها هنا : أن الله عزّ وجلّ قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة ، والمعنى : أو لم يكف ربك أنه على كل شيءٍ شهيد شاهد للأشياء لا يغيب عنه شيء { أَلاَ إِنَّهُمْ فِى مِرْيَةٍ مّن لّقَاء رَبّهِمْ } أي : في شك من البعث ، والحساب ، والثواب ، والعقاب { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطُ } أحاط علمه بجميع المعلومات ، وأحاطت قدرته بجميع المقدورات ، يقال : أحاط يحيط إحاطة ، وحيطة ، وفي هذا وعيد شديد؛ لأن من أحاط بكل شيء بحيث لا يخفى عليه شيء جازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال : في قوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } سبق لهم من الله حين ، وأجل هم بالغوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا } قال : حين تطلع . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ءاذَنَّاكَ } قال : أعلمناك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة في قوله : { لاَّ يَسْئَمُ الانسان } قال : لا يملّ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : { سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الأفاق } قال : محمداً صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عنه في الآية قال : ما يفتح الله من القرى { وَفِى أَنفُسِهِمْ } قال : فتح مكة . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : أمسك المطر عن الأرض كلها { وَفِى أَنفُسِهِمْ } قال : البلايا التي تكون في أجسامهم . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال : كانوا يسافرون ، فيرون آثار عاد ، وثمود ، فيقولون : والله لقد صدق محمد ، وما أراهم في أنفسهم قال : الأمراض .

حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)

قوله : { حم . عسق } قد تقدّم الكلام في أمثال هذه الفواتح ، وسئل الحسن بن الفضل لم قطع : { حم عسق } ، ولم يقطع : { كهيعص } ، فقال : لأنها سور أوّلها { حم} ، فجرت مجرى نظائرها ، فكأن { حم} مبتدأ ، و { عسق } خبره ، ولأنهما عدا آيتين . وأخواتهما مثل : { كهيعص } ، و { المرا } ، و { المص } آية واحدة . وقيل : لأن أهل التأويل لم يختلفوا في : { كهيعص } ، وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير ، واختلفوا في { حم} ، فقيل معناها : حم، أي : قضى كما تقدّم . وقيل : إن " ح " حلمه ، و " م " مجده ، و " ع " علمه ، و " س " سناه ، و " ق " قدرته ، أقسم الله بها . وقيل غير ذلك مما هو متكلف متعسف لم يدلّ عليه دليل ، ولا جاءت به حجة ، ولا شبهة حجة ، وقد ذكرنا قبل هذا ما روي في ذلك مما لا أصل له ، والحق ما قدّمناه لك في فاتحة سورة البقرة . وقيل : هما اسمان للسورة . وقيل : اسم واحد لها ، فعلى الأوّل يكونان خبرين لمبتدأ محذوف ، وعلى الثاني يكون خبراً لذلك المبتدأ المحذوف . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس : ( حم* سقا ) .
{ كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم } هذا كلام مستأنف غير متعلق بما قبله أي : مثل ذلك الإيحاء الذي أوحي إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد ، والبعث يوحى إليك يا محمد في هذه السورة . وقيل : إن حمعاساقا ، أوحيت إلى من قبله من الأنبياء ، فتكون الإشارة بقوله : { كذلك } إليها . قرأ الجمهور : { يوحي } بكسر الحاء مبنياً للفاعل ، وهو : الله . وقرأ مجاهد ، وابن كثير ، وابن محيصن بفتحها مبنياً للمفعول ، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على كذلك ، والتقدير : مثل ذلك الإيحاء يوحى هو إليك ، أو القائم مقام الفاعل إليك ، أو الجملة المذكورة أي : يوحى إليك هذا اللفظ ، أو القرآن ، أو مصدر يوحي ، وارتفاع الاسم الشريف على أنه فاعل لفعل محذوف كأنه قيل : من يوحي؟ فقيل : الله العزيز الحكيم . وأما قراءة الجمهور فهي واضحة اللفظ ، والمعنى ، وقد تقدّم مثل هذا في قوله : { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والأصال رِجَالٌ } [ النور : 36 ، 37 ] ، وقرأ أبو حيوة ، والأعمش ، وأبان : «نوحي» بالنون ، فيكون قوله : { الله العزيز الحكيم } في محلّ نصب ، والمعنى : نوحي إليك هذا اللفظ { لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العلى العظيم } ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف ، وهو ملك جميع ما في السماوات ، والأرض لدلالته على كمال قدرته ، ونفوذ تصرّفه في جميع مخلوقاته .
{ تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } قرأ الجمهور : { تكاد } بالفوقية ، وكذلك : ( تتفطرن ) قرؤوه بالفوقية مع تشديد الطاء .

وقرأ نافع ، والكسائي ، وابن وثاب يكاد ( يتفطرن ) بالتحتية فيهما ، وقرأ أبو عمرو ، والمفضل ، وأبو بكر ، وأبو عبيد : ( يتفطرن ) بالتحتية ، والنون من الانفطار كقوله : { إِذَا السماء انفطرت } [ الانفطار : 1 ] . والتفطر : التشقق . قال الضحاك ، والسدّي : يتفطرن يتشققن من عظمة الله ، وجلاله من فوقهنّ . وقيل : المعنى : تكاد كلّ واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله ولداً . وقيل : من فوقهنّ : من فوق الأرضين ، والأوّل أولى . و « من » في { من فوقهنّ } لابتداء الغاية ، أي : يبتدىء التفطر من جهة الفوق . وقال الأخفش الصغير : إن الضمير يعود إلى جماعات الكفار ، أي : من فوق جماعات الكفار ، وهو بعيد جداً ، ووجه تخصيص جهة الفوق : أنها أقرب إلى الآيات العظيمة ، والمصنوعات الباهرة ، أو على طريق المبالغة كأن كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق ، فتأثيرها في جهة التحت بالأولى . { والملائكة يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } أي : ينزهونه عما لا يليق به ، ولا يجوز عليه متلبسين بحمده . وقيل : إن التسبيح موضوع موضع التعجب ، أي : يتعجبون من جراءة المشركين على الله . وقيل : معنى { بحمد ربهم } : بأمر ربهم قاله السدّي { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِى الأرض } من عباد الله المؤمنين كما في قوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ غافر : 7 ] ، وقيل : الاستغفار منهم بمعنى : السعي فيما يستدعي المغفرة لهم ، وتأخير عقوبتهم طمعاً في إيمان الكافر ، وتوبة الفاسق ، فتكون الآية عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين ، وإن كانوا داخلين فيها دخولاً أوّلياً { أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } أي : كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته ، وأوليائه ، أو لجميع عباده ، فإن تأخير عقوبة الكفار ، والعصاة نوع من أنواع مغفرته ، ورحمته .
{ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي : أصناماً يعبدونها { الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي : يحفظ أعمالهم؛ ليجازيهم بها { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي : لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بذنوبهم ، ولا وكل إليك هدايتهم ، وإنما عليك البلاغ . قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْءاناً عَرَبِيّاً } أي : مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك ، وقرآناً مفعول أوحينا؛ والمعنى : أنزلنا عليك قرآناً عربياً بلسان قومك كما أرسلنا كلّ رسول بلسان قومه { لّتُنذِرَ أُمَّ القرى } ، وهي : مكة ، والمراد : أهلها { وَمَنْ حَوْلَهَا } من الناس ، والمفعول الثاني محذوف ، أي : لتنذرهم العذاب { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } أي : ولتنذر بيوم الجمع وهو : يوم القيامة ، لأنه مجمع الخلائق . وقيل : المراد جمع الأرواح بالأجساد . وقيل : جمع الظالم ، والمظلوم . وقيل : جمع العامل ، والعمل { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : لا شك فيه . والجملة معترضة مقررة لما قبلها ، أو صفة ليوم الجمع ، أو حال منه { فَرِيقٌ فِى الجنة وَفَرِيقٌ فِى السعير } قرأ الجمهور برفع : { فريق } في الموضعين ، إما على أنه مبتدأ ، وخبره الجار والمجرور ، وشاع الابتداء بالنكرة ، لأن المقام مقام تفصيل ، أو على أن الخبر مقدّر قبله ، أي : منهم فريق في الجنة ، ومنهم فريق في السعير ، أو أنه خبر مبتدأ محذوف ، وهو ضمير عائد إلى المجموعين المدلول عليهم بذكر الجمع ، أي : هم فريق في الجنة ، وفريق في السعير .

وقرأ زيد بن علي : ( فريقاً ) بالنصب في الموضعين على الحال من جملة محذوفة ، أي : افترقوا حال كونهم كذلك ، وأجاز الفراء ، والكسائي النصب على تقدير؛ لتنذر فريقاً .
{ وَلَوْ شَاء الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحدة } قال الضحاك : أهل دين واحد ، إما على هدى ، وإما على ضلالة ، ولكنهم افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية ، وهو معنى قوله : { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ } في الدين الحق وهو : الإسلام { والظالمون مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي : المشركون ما لهم من وليّ يدفع عنهم العذاب ، ولا نصير ينصرهم في ذلك المقام ، ومثل هذا قوله : { وَلَوْ شَاء الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] ، وقوله : { وَلَوْ شِئْنَا لأَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } [ السجدة : 13 ] ، وها هنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على ما درج عليه أسلافهم ، فدبوا عليه من بعدهم ، وليس بنا إلى ذكر شيء من ذلك فائدة كما هو عادتنا في تفسيرنا هذا ، فهو تفسير سلفي يمشي مع الحق ، ويدور مع مدلولات النظم الشريف ، وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه ، وتبرأ من التعصب قلبه ، ولحمه ، ودمه . وجملة : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } مستأنفة مقررّة لما قبلها من انتفاء كون للظالمين ، ولياً ، ونصيراً ، وأم هذه هي المنقطعة المقدّرة ببل المفيدة للانتقال ، وبالهمزة المفيدة للإنكار ، أي : بل أأتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ { فالله هُوَ الولى } أي : هو الحقيق بأن يتخذوه ولياً ، فإنه الخالق الرازق الضار النافع ، وقيل : الفاء جواب شرط محذوف ، أي : إن أرادوا أن يتخذوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ { وَهُوَ } أي : ومن شأنه أنه { يُحْىِ الموتى وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } أي : يقدر على كل مقدور ، فهو : الحقيق بتخصيصه بالألوهية ، وإفراده بالعبادة .
{ وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَىْء فَحُكْمُهُ إِلَى الله } هذا عامّ في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين ، فإن حكمه ، ومرجعه إلى الله يحكم فيه يوم القيامة بحكمه ، ويفصل خصومة المختصمين فيه ، وعند ذلك يظهر المحقّ من المبطل ، ويتميز فريق الجنة ، وفريق النار . قال الكلبي : وما اختلفتم فيه من شيء ، أي : من أمر الدين ، فحكمه إلى الله يقضي فيه . وقال مقاتل : إن أهل مكة كفر بعضهم بالقرآن ، وآمن به بعضهم ، فنزلت ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ويمكن أن يقال : معنى حكمه إلى الله : أنه مردود إلى كتابه ، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه ، فتكون الآية عامة في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه يردّ إلى كتاب الله .

ومثله قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ النساء : 59 ] ، وقد حكم سبحانه بأن الدين هو : الإسلام ، وأن القرآن حق ، وأن المؤمنين في الجنة ، والكافرين في النار ، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقاً إلاّ في الدار الآخرة ، وعدهم الله بذلك يوم القيامة { ذلكم } الحاكم بهذا الحكم { الله رَبّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } اعتمدت عليه في جميع أموري ، لا على غيره ، وفوّضته في كلّ شؤوني { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في كل شيء يعرض لي لا إلى غيره .
{ فَاطِرَ السموات والأرض } قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر آخر لذلكم ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ وخبره ما بعده ، أو نعت لربي؛ لأن الإضافة محضة ، ويكون { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } معترضاً بين الصفة ، والموصوف . وقرأ زيد بن عليّ : ( فاطر ) بالجرّ على أنه نعت للاسم الشريف في قوله : { إِلَى الله } ، وما بينهما اعتراض ، أو بدل من الهاء في عليه أو إليه ، وأجاز الكسائي النصب على النداء ، وأجازه غيره على المدح . والفاطر : الخالق المبدع ، وقد تقدّم تحقيقه { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } أي : خلق لكم من جنسكم نساء ، أو المراد : حوّاء لكونها خلقت من ضلع آدم . وقال مجاهد : نسلاً بعد نسل { وَمِنَ الأنعام أزواجا } أي : وخلق للأنعام من جنسها إناثاً ، أو وخلق لكم من الأنعام أصنافاً من الذكور ، والإناث ، وهي : الثمانية التي ذكرها في الأنعام { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يبثكم ، من الذرء وهو : البثّ ، أو يخلقكم ، وينشئكم ، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين ، والأنعام إلاّ أنه غلب فيه العقلاء ، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل . وقيل : راجع إلى ما ذكر من التدبير ، وقال الفراء ، والزجاج ، وابن كيسان : معنى يذرؤكم فيه : يكثركم به ، أي : يكثركم بجعلكم أزواجاً؛ لأن ذلك سبب النسل . وقال ابن قتيبة : يذرؤكم فيه ، أي : في الزوج . وقيل : في البطن . وقيل : في الرحم . { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } المراد بذكر المثل هنا : المبالغة في النفي بطريق الكناية ، فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى كقولهم : مثلك لا يبخل ، وغيرك لا يجود . وقيل : إن الكاف زائدة للتوكيد ، أي : ليس مثله شيء . وقيل : إن مثل زائدة قاله ثعلب ، وغيره كما في قوله : { فَإِنْ ءامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءامَنتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] أي : بما آمنتم به ، ومنه قول أوس بن حجر :
وقتلى كمثل جذوع النخي ... ل يغشاهم مطر منهمر
أي : كجذوع ، والأوّل أولى ، فإن الكناية باب مسلوك للعرب ، ومهيع مألوف لهم ، ومنه قول الشاعر :
ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل
وقال آخر :
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من ليلى على اليأس طاويا

وقال آخر :
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... فما كمثلهم في الناس من أحد
قال ابن قتيبة : العرب تقيم المثل مقام النفس ، فتقول : مثلي لا يقال له هذا ، أي : أنا لا يقال لي . وقال أبو البقاء مرجحاً لزيادة الكاف : إنها لو لم تكن زائدة ، لأفضى ذلك إلى المحال ، إذ يكون المعنى : أن له مثلاً ، وليس لمثله مثل ، وفي ذلك تناقض ، لأنه إذا كان له مثل ، فلمثله مثل ، وهو : هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال ، وهذا تقرير حسن ، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجاً مخرج الكناية ، ومن فهم هذه الآية الكريمة حقّ فهمها ، وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة ، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله : { وَهُوَ السميع البصير } ، فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للماثل قد اشتمل على برد اليقين ، وشفاء الصدور ، وانثلاج القلوب ، فاقدر يا طالب الحقّ قدر هذه الحجة النيرة ، والبرهان القويّ ، فإنك تحطم بها كثيراً من البدع ، وتهشم بها رؤوساً من الضلالة ، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين ، ولا سيما إذا ضممت إليه قول الله سبحانه : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ، فإنك حينئذٍ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام ، وعلم أصول الدين :
ودع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديث ما حديث الرواحل
{ لَّهُ مَقَالِيدُ السموات والأرض } أي : خزائنهما ، أو مفاتيحهما ، وقد تقدّم تحقيقه في سورة الزمر ، وهي : جمع إقليد ، وهو : المفتاح جمع على خلاف القياس . قال النحاس : والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن . ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السموات ، والأرض ذكر بعده البسط ، والقبض ، فقال : { يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } أي : يوسعه لمن يشاء من خلقه ، ويضيقه على من يشاء { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء } من الأشياء { عَلِيمٌ } فلا تخفى عليه خافية ، وإحاطة علمه بكل شيء يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ، ومعصية العاصي . فهو يجازي كلا بما يستحقه من خير ، وشرّ .
وقد أخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو ، قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يده كتابان ، فقال : « أتدرون ما هذان الكتابان؟ » قلنا : لا ، إلاّ أن تخبرنا يا رسول الله ، قال : للذي في يده اليمنى : « هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم » ثم قال للذي في شماله : « هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل النار ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ، ولا ينقص منهم أبداً »

فقال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ ، فقال : « سدّدوا ، وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة ، وإن عمل أيّ عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار ، وإن عمل أيّ عمل له » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه ، فنبذهما ، ثم قال : « فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة ، وفريق في السعير » قال الترمذي بعد إخراجه : حديث حسن صحيح غريب . وروى ابن جرير طرفاً منه عن ابن عمرو موقوفاً عليه . قال ابن جرير : وهذا الموقوف أشبه بالصواب ، قلت : بل المرفوع أشبه بالصواب . فقد رفعه الثقة ، ورفعه زيادة ثابتة من وجه صحيح ، ويقوّي الرّفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء . قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده كتاب ينظر فيه قالوا : انظروا إليه كيف ، وهو أميّ لا يقرأ ، قال : فعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « هذا كتاب من ربّ العالمين بأسماء أهل الجنة ، وأسماء قبائلهم لا يزاد منهم ، ولا ينقص منهم » وقال : « فريق في الجنة ، وفريق في السعير فرغ ربكم من أعمال العباد » .

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)

الخطاب في قوله : { شَرَعَ لَكُم مّنَ الدين } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : بين ، وأوضح لكم من الدين { مَا وصى بِهِ نُوحاً } من التوحيد ، ودين الإسلام ، وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل ، وتوافقت عليها الكتب { والذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } من القرآن ، وشرائع الإسلام ، والبراءة من الشرك ، والتعبير عنه بالموصول لتفخيم شأنه ، وخص ما شرعه لنبينا صلى الله عليه وسلم بالإيحاء مع كون ما بعده ، وما قبله مذكوراً بالتوصية للتصريح برسالته { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى } مما تطابقت عليه الشرائع . ثم بيّن ما وصى به هؤلاء ، فقال : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } أي : توحيد الله ، والإيمان به ، وطاعة رسله ، وقبول شرائعه ، وأن هي : المصدرية ، وهي وما بعدها في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، كأنه قيل : ما ذلك الذي شرعه الله؟ فقيل : هو إقامة الدين ، أو هي : في محل نصب بدلاً من الموصول ، أو في محل جرّ بدلاً من الدين ، أو هي المفسرة ، لأنه قد تقدمها ما فيه معنى القول . قال مقاتل : يعني : أنه شرع لكم ، ولمن قبلكم من الأنبياء ديناً واحداً . قال مقاتل : يعني : التوحيد . قال مجاهد : لم يبعث الله نبياً قط إلاّ وصاه بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والإقرار لله بالطاعة ، فذلك دينه الذي شرع لهم . وقال قتادة : يعني : تحليل الحلال ، وتحريم الحرام ، وخصّ إبراهيم ، وموسى ، وعيسى بالذكر مع نبينا صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم أرباب الشرائع . ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين ، نهاهم عن الاختلاف فيه ، فقال : { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي : لا تختلفوا في التوحيد ، والإيمان بالله ، وطاعة رسله ، وقبول شرائعه ، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع ، وتوافقت فيها الأديان ، فلا ينبغي الخلاف في مثلها ، وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة ، وتتعارض فيها الأمارات ، وتتباين فيها الأفهام ، فإنها من مطارح الاجتهاد ، ومواطن الخلاف . ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين شقّ على المشركين ، فقال : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي : عظم ، وشق عليهم ما تدعوهم إليه من التوحيد ، ورفض الأوثان . قال قتادة : كبر على المشركين ، واشتدّ عليهم شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده ، وضاق بها إبليس ، وجنوده ، فأبى الله إلاّ أن ينصرها ، ويعليها ، ويظهرها ، ويظفرها على من ناوأها . ثم خصّ أولياءه ، فقال : { الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء } أي : يختار ، والاجتباء الاختيار ، والمعنى : يختار لتوحيده ، والدخول في دينه من يشاء من عباده . { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } أي : يوفق لدينه ، ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ، ويقبل إلى عبادته .
ثم لما ذكر سبحانه ما شرعه لهم من إقامة الدين ، وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع من التفرّق ، والاختلاف ، فقال : { وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } أي : ما تفرّقوا إلاّ عن علم بأن الفرقة ضلالة ، ففعلوا ذلك التفرّق للبغي بينهم بطلب الرياسة ، وشدّة الحمية .

قيل : المراد قريش هم الذين تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم ، وهو : محمد صلى الله عليه وسلم { بَغِيّاً } ، منهم عليه ، وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ } [ فاطر : 42 ] الآية ، وبقوله : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] . وقيل : المراد أمم الأنبياء المتقدمين ، وأنهم فيما { بَيْنَهُمْ } اختلفوا لما طال بهم المدى ، فآمن قوم ، وكفر قوم . وقيل : اليهود ، والنصارى خاصة كما في قوله : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } [ البينة : 4 ] { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } ، وهي : تأخير العقوبة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، وهو : يوم القيامة كما في قوله : { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } [ القمر : 46 ] . وقيل : إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل ، والأسر ، والذلّ ، والقهر { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي : لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة . وقيل : لقضي بين من آمن منهم ، ومن كفر بنزول العذاب بالكافرين ، ونجاة المؤمنين { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب } من اليهود ، والنصارى { مّن بَعْدِهِمْ } من بعد من قبلهم من اليهود ، والنصارى { لَفِى شَكّ مّنْهُ } أي : من القرآن ، أو من محمد { مُرِيبٍ } موقع في الريب ، ولذلك لم يؤمنوا . وقال مجاهد : معنى { من بعدهم } : من قبلهم يعني : من قبل مشركي مكة ، وهم اليهود ، والنصارى . وقيل : المراد كفار المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم ، وصفهم بأنه في شك من القرآن مريب . قرأ الجمهور : { أورثوا } وقرأ زيد بن عليّ : ( ورثوا ) بالتشديد .
{ فَلِذَلِكَ فادع واستقم } أي : فلأجل ما ذكر من التفرّق ، والشكّ ، أو فلأجل أنه شرع من الدين ما شرع ، فادع ، واستقم؛ أي : فادع إلى الله ، وإلى توحيده ، واستقم على ما دعوت إليه . قال الفراء ، والزجاج : المعنى : فإلى ذلك ، فادع كما تقول : دعوت إلى فلان ، ولفلان ، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد . وقيل : في الكلام تقديم ، وتأخير . والمعنى : كبر على المشركين ما ندعوهم إليه ، فلذلك فادع . قال قتادة : استقم على أمر الله . وقال سفيان : استقم على القرآن . وقال الضحاك : استقم على تبليغ الرسالة { كَمَا أُمِرْتَ } بذلك من جهة الله { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ } الباطلة ، وتعصباتهم الزائغة ، ولا تنظر إلى خلاف من خالفك في ذكر الله { وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ الله مِن كتاب } أي : بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله ، لا كالذين آمنوا ببعض منها ، وكفروا ببعض { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } في أحكام الله إذا ترافعتم إليّ ، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه الله ، أو بنقصان منه .

وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو ، واللام لام كي ، أي : أمرت بذلك الذي أمرت به ، لكي أعدل بينكم . وقيل : هي زائدة ، والمعنى : أمرت أن أعدل؛ والأوّل أولى . قال أبو العالية : أمرت ، لأسويّ بينكم في الدين ، فأومن بكل كتاب ، وبكل رسول . والظاهر : أن الآية عامة في كل شيء ، والمعنى : أمرت؛ لأعدل بينكم في كل شيء { الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي : إلهنا ، وإلهكم ، وخالقنا ، وخالقكم { لَنَا أعمالنا } أي : ثوابها ، وعقابها خاصّ بنا { وَلَكُمْ أعمالكم } أي : ثوابها ، وعقابها خاصّ بكم { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي : لا خصومة بيننا ، وبينكم . لأن الحق قد ظهر ، ووضح { الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا } في المحشر { وَإِلَيْهِ المصير } أي : المرجع يوم القيامة ، فيجازي كلا بعمله : وهذا منسوخ بآية السيف . قيل : الخطاب لليهود ، وقيل : للكفار على العموم .
{ والذين يُحَاجُّونَ فِى الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } أي : يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ، ودخلوا فيه . قال مجاهد : من بعد ما أسلم الناس . قال : وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود . وقال قتادة : هم اليهود ، والنصارى ، ومحاجتهم قولهم : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب ، وأنهم أولاد الأنبياء ، وكان المشركون يقولون : { أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } [ مريم : 73 ] ، فنزلت هذه الآية ، والموصول مبتدأ ، وخبره الجملة بعده ، وهي : { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ } أي : لا ثبات لها كالشيء الذي يزول عن موضعه ، يقال : دحضت حجته دحوضاً : بطلت ، والإدحاض : الإزلاق ، ومكان دحض ، أي : زلق ، ودحضت رجله : زلقت . وقيل : الضمير في له راجع إلى الله . وقيل : راجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم . والأوّل أولى { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } أي : غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرة { الله الذى أَنزَلَ الكتاب بالحق } المراد بالكتاب : الجنس ، فيشمل جميع الكتب المنزّلة على الرسل . وقيل : المراد به القرآن خاصة ، وبالحق متعلق بمحذوف ، أي : ملتبساً بالحق ، وهو : الصدق والمراد ب { الميزان } : العدل ، كذا قال أكثر المفسرين ، قالوا : وسمي العدل ميزاناً؛ لأن الميزان آلة الإنصاف ، والتسوية بين الخلق . وقيل : الميزان ما بين في الكتب المنزّلة مما يجب على كل إنسان أن يعمل به . وقيل : هو : الجزاء على الطاعة بالثواب ، وعلى المعصية بالعقاب . وقيل : إنه الميزان نفسه أنزله الله من السماء ، وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم ، وتباخس كما في قوله : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } أي : أيّ شيء يجعلك دارياً بها ، عالماً بوقتها لعلها شيء قريب ، أو قريب مجيئها ، أو ذات قرب .

وقال : قريب ، ولم يقل : قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي . قال الزجاج : المعنى : لعلّ البعث ، أو لعلّ مجيء الساعة قريب . وقال الكسائي : قريب نعت ينعت به المؤنث ، والمذكر كما في قوله : { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مّنَ المحسنين } [ الأعراف : 56 ] ومنه قول الشاعر :
وكنا قريباً والديار بعيدة ... فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا
قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الساعة ، وعنده قوم من المشركين ، فقالوا : متى تكون الساعة؟ تكذيباً لها ، فأنزل الله الآية ، ويدلّ على هذا قوله : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } استعجال : استهزاء منهم بها ، وتكذيباً بمجيئها { والذين ءامَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي : خائفون وجلون من مجيئها . قال مقاتل : لأنهم لا يدرون على ما يهجمون عليه . وقال الزجاج : لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ، ومجزيون { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق } أي : أنها آتية لا ريب فيها ، ومثل هذا قوله : { والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون } [ المؤمنون : 60 ] . ثم بيّن ضلال الممارين فيها ، فقال : { أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَى الساعة } أي : يخاصمون فيها مخاصمة شك ، وريبة ، من المماراة ، وهي : المخاصمة ، والمجادلة ، أو من المرية ، وهي : الشك ، والريبة { لَفِى ضلال بَعِيدٍ } عن الحق؛ لأنهم لم يتفكروا في الموجبات للإيمان بها من الدلائل التي هي : مشاهدة لهم منصوبة لأعينهم مفهومة لعقولهم ، ولو تفكروا لعلموا أن الذين خلقهم ابتداء قادر على الإعادة .
وقد أخرج ابن جرير عن السدّي { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } قال : اعملوا به . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } قال : ألا تعلموا أن الفرقة هلكة ، وأن الجماعة ثقة { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } ، قال : استكبر المشركون أن قيل لهم : لا إله إلاّ الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد : { الله يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَاء } قال : يخلص لنفسه من يشاء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والذين يُحَاجُّونَ فِى الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } قال : هم أهل الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ، ويصدّونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله . وقال : هم : قوم من أهل الضلالة ، وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { والذين يُحَاجُّونَ فِى الله } الآية ، قال : هم اليهود ، والنصارى . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه . وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : لما نزلت : { إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين : قد دخل الناس في دين الله أفواجاً ، فاخرجوا من بين أظهرنا ، فنزلت : { والذين يُحَاجُّونَ فِى الله } الآية .

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

قوله : { الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } أي : كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم . قال مقاتل : لطيف بالبارّ ، والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً بمعاصيهم . قال عكرمة : بارّ بهم . وقال السدي : رفيق بهم . وقيل : حفيّ بهم . وقال القرطبي : لطيف بهم في العرض ، والمحاسبة . وقيل غير ذلك . والمعنى : أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم ، ومن جملة ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا ، وهو : معنى قوله : { يَرْزُقُ مَن يَشَاء } منهم كيف يشاء ، فيوسع على هذا ، ويضيق على هذا { وَهُوَ القوى } العظيم القوّة الباهرة القادرة { العزيز } الذي يغلب كل شيء ، ولا يغلبه شيء { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ } الحرث في اللغة : الكسب ، يقال : هو يحرث لعياله ، ويحترث ، أي : يكتسب . ومنه سمي الرجل حارثاً ، وأصل معنى الحرث : إلقاء البذر في الأرض ، فأطلق على ثمرات الأعمال ، وفوائدها بطريق الاستعارة والمعنى : من كان يريد بأعماله ، وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له ذلك الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف . وقيل : معناه : يزيد في توفيقه ، وإعانته ، وتسهيل سبل الخير له { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي : من كان يريد بأعماله ، وكسبه ثواب الدنيا ، وهو : متاعها ، وما يرزق الله به عباده منها نعطه منها ما قضت به مشيئتنا ، وقسم له في قضائنا . قال قتادة : معنى { نُؤْتِهِ مِنْهَا } : نقدّر له ما قسم له كما قال : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء } [ الإسراء : 18 ] ، وقال قتادة أيضاً : إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلاّ الدنيا . قال القشيري : والظاهر أن الآية في الكافر ، وهو : تخصيص بغير مخصص . ثم بيّن سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله الدنيا لا نصيب له في الآخرة ، فقال : { وَمَا لَهُ فِى الأخرة مِن نَّصِيبٍ } ؛ لأنه لم يعمل للآخرة ، فلا نصيب له فيها ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله } لما بين سبحانه القانون في أمر الدنيا ، والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار ، والهمزة لاستفهام التقرير والتقريع ، وضمير { شرعوا } عائد إلى الشركاء ، وضمير { لهم } إلى الكفار . وقيل : العكس ، والأوّل أولى . ومعنى { مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله } : ما لم يأذن به من الشرك ، والمعاصي { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل } ، وهي : تأخير عذابهم حيث قال : { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } [ القمر : 46 ] { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } في الدنيا ، فعوجلوا بالعقوبة ، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين ، والمشركين ، أو إلى المشركين ، وشركائهم { وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : المشركين ، والمكذبين لهم عذاب أليم في الدنيا ، والآخرة .

قرأ الجمهور : { وإن الظالمين } بكسر الهمزة على الاستئناف . وقرأ مسلم ، والأعرج ، وابن هرمز بفتحها عطفاً على { كلمة الفصل } .
{ تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } أي : خائفين وجلين مما كسبوا من السيئات ، وذلك الخوف ، والوجل يوم القيامة { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف قاله الزجاج ، أي : وجزاء ما كسبوا واقع منهم نازل عليهم لا محالة أشفقوا ، أو لم يشفقوا ، والجملة في محل نصب على الحال . ولما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين ، فقال : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى روضات الجنات } روضات جمع روضة . قال أبو حيان : اللغة الكثيرة تسكين الواو ، ولغة هذيل فتحها ، والروضة : الموضع النزه الكثير الخضرة ، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم ، وروضة الجنة : أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا لأحسن أمكنتها { لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبّهِمْ } من صنوف النعم ، وأنواع المستلذّات ، والعامل في عند ربهم « يشاءون » ، أو العامل في « روضات الجنات » ، وهو : الاستقرار ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر للمؤمنين قبله ، وخبره الجملة المذكورة بعده ، وهي { هُوَ الفضل الكبير } أي : الذي لا يوصف ، ولا تهتدي العقول إلى معرفة حقيقته .
والإشارة بقوله : { ذَلِكَ الذى يُبَشّرُ الله عِبَادَهُ } إلى الفضل الكبير ، أي : يبشرهم به . ثم وصف العباد بقوله : { الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، فهؤلاء الجامعون بين الإيمان ، والعمل بما أمر الله به ، وترك ما نهى عنه هم : المبشرون بتلك البشارة . قرأ الجمهور : { يبشر } مشدّداً من بشر . وقرأ مجاهد ، وحميد بن قيس بضم التحتية ، وسكون الموحدة ، وكسر الشين من أبشر . وقرأ بفتح التحتية ، وضم الشين بعض السبعة ، وقد تقدّم بيان القراءات في هذه اللفظة . ثم لما ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الأحكام الشريفة التي اشتمل عليها كتابه ، أمره بأنه يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ ثواباً منهم ، فقال : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : قل يا محمد : لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ، ولا نفعاً { إِلاَّ المودة فِى القربى } هذا الاستثناء يجوز أن يكون متصلاً ، أي : إلاّ أن تودّوني لقرابتي بينكم ، أو تودّوا أهل قرابتي . ويجوز أن يكون منقطعاً . قال الزجاج : { إلاّ المودّة } استثناء ليس من الأوّل ، أي : إلاّ أن تودّوني لقرابتي ، فتحفظوني ، والخطاب لقريش . وهذا قول عكرمة ، ومجاهد ، وأبي مالك ، والشعبي ، فيكون المعنى على الانقطاع : لا أسألكم أجراً قط ، ولكن أسألكم المودّة في القربى التي بيني وبينكم ، ارقبوني فيها ، ولا تعجلوا إليّ ، ودعوني والناس ، وبه قال قتادة ، ومقاتل ، والسدّي ، والضحاك ، وابن زيد ، وغيرهم ، وهو الثابت عن ابن عباس كما سيأتي . وقال سعيد بن جبير ، وغيره : هم : آل محمد ، وسيأتي ما استدل به القائلون بهذا .

وقال الحسن ، وغيره : معنى الآية : إلاّ التودّد إلى الله عزّ وجلّ ، والتقرّب بطاعته . وقال الحسن بن الفضل : ورواه ابن جرير عن الضحاك : إن هذه الآية منسوخة ، وإنما نزلت بمكة ، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم الله بمودّته ، فلما هاجر أوته الأنصار ونصروه ، فأنزل الله عليه : { وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] ، وأنزل عليه { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } [ سبأ : 47 ] . وسيأتي في آخر البحث ما يتضح به الثواب ، ويظهر به معنى الآية إن شاء الله { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أصل القرف الكسب ، يقال : فلان يقرف لعياله ، أي : يكتسب . والاقتراف : الاكتساب ، مأخوذ من قولهم رجل قرفة : إذا كان محتالاً . والمعنى : من يكتسب حسنة نزد له هذه الحسنة حسناً بمضاعفة ثوابها . قال مقاتل : المعنى : من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسناً نضاعفها بالواحدة عشراً فصاعداً . وقيل : المراد بهذه الحسنة هي : المودّة في القربى ، والحمل على العموم أولى ، ويدخل تحته المودّة في القربى دخولاً أوّلياً { إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } أي : كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين . قال قتادة : غفور للذّنوب شكور للحسنات . وقال السدّي : غفور لذنوب آل محمد .
{ أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً } أم هي المنقطعة ، أي : بل أيقولون : افترى محمد على الله كذباً بدعوى النبوّة ، والإنكار للتوبيخ . ومعنى افتراء الكذب : اختلاقه . ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا ، فقال : { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } أي : لو افترى على الله الكذب لشاء عدم صدوره منه ، وختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله شيئاً مما كذب فيه كما تزعمون . قال قتادة : يختم على قلبك ، فينسيك القرآن ، فأخبرهم أنه لو افترى عليه لفعل به ما أخبرهم به في هذه الآية . وقال مجاهد ، ومقاتل : إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم . وقيل : الخطاب له ، والمراد الكفار ، أي : إن يشأ يختم على قلوب الكفار ، ويعاجلهم بالعقوبة ، ذكره القشيري . وقيل : المعنى : لو حدّثتك نفسك أن تفتري على الله كذباً لطبع على قلبك ، فإنه لا يجترىء على الكذب إلاّ من كان مطبوعاً على قلبه ، والأوّل أولى ، وقوله : { وَيَمْحُ الله الباطل } استئناف مقرّر لما قبله من نفي الافتراء . قال ابن الأنباري : { يختم على قلبك } تامّ ، يعني : وما بعده مستأنف . وقال الكسائي : فيه تقديم ، وتأخير ، أي : والله يمحو الباطل . وقال الزجاج : أم يقولون : افترى على الله كذباً تامّ . وقوله : { وَيَمْحُ الله الباطل } احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : لو كان ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم باطلاً لمحاه كما جرت به عادته في المفترين { وَيُحِقُّ الحق } أي : الإسلام ، فيبينه { بكلماته } أي : بما أنزل من القرآن { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } عالم بما في قلوب العباد ، وقد سقطت الواو من « ويمحو » في بعض المصاحف كما حكاه الكسائي .

{ وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } أي : يقبل من المذنبين من عباده توبتهم إليه مما عملوا من المعاصي ، واقترفوا من السيئات ، والتوبة : الندم على المعصية ، والعزم على عدم المعاودة لها . وقيل : يقبل التوبة عن أوليائه ، وأهل طاعته . والأوّل أولى ، فإن التوبة مقبولة من جميع العباد مسلمهم ، وكافرهم إذا كانت صحيحة صادرة عن خلوص نية ، وعزيمة صحيحة { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } على العموم لمن تاب عن سيئته { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } من خير ، وشرّ ، فيجازي كلا بما يستحقه . قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف : { تفعلون } بالفوقية على الخطاب . وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر ، واختار القراءة الثانية أبو عبيد ، وأبو حاتم؛ لأن هذا الفعل وقع بين خبرين { وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الموصول في موضع نصب ، أي : يستجيب الله الذين آمنوا ، ويعطيهم ما طلبوه منه ، يقال : أجاب ، واستجاب بمعنى . وقيل المعنى : يقبل عبادة المخلصين . وقيل : التقدير ، ويستجيب لهم ، فحذف اللام كما حذف في قوله : { وَإِذَا كَالُوهُمْ } [ المطففين : 3 ] أي : كالوا لهم . وقيل : إن الموصول في محل رفع ، أي : يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله : { استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ } [ الأنفال : 24 ] قال المبرد : معنى { وَيَسْتَجِيبُ الذين ءامَنُواْ } : ويستدعي الذين آمنوا الإجابة ، هكذا حقيقة معنى استفعل ، فالذين في موضع رفع ، والأوّل أولى . { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } أي : يزيدهم على ما طلبوه منه ، أو على ما يستحقونه من الثواب تفضلاً منه . وقيل : يشفعهم في إخوانهم { والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } هذا للكافرين مقابلاً ما ذكره للمؤمنين فيما قبله .
{ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأرض } أي : لو وسع الله لهم رزقهم لبغوا في الأرض لعصوا فيها ، وبطروا النعمة ، وتكبروا ، وطلبوا ما ليس لهم طلبه . وقيل : المعنى : لو جعلهم سواء في الرزق لما انقاد بعضهم لبعض ، ولتعطلت الصنائع ، والأوّل أولى . والظاهر عموم أنواع الرزق . وقيل : هو : المطر خاصة { ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء } أي : ينزل من الرزق لعباده بتقدير على حسب مشيئته ، وما تقتضيه حكمته البالغة . { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ } بأحوالهم { بَصِيرٌ } بما يصلحهم من توسيع الرزق ، وتضييقه ، فيقدر لكل أحد منهم ما يصلحه ، ويكفه عن الفساد بالبغي في الأرض . { وَهُوَ الذى يُنَزّلُ الغيث } أي : المطر الذي هو أنفع أنواع الرزق ، وأعمها فائدة ، وأكثرها مصلحة { مّن بَعْدِ مَا } أي : من بعد ما أيسوا عن ذلك ، فيعرفون بهذا الإنزال للمطر بعد القنوط مقدار رحمته لهم ، ويشكرون له ما يجب الشكر عليه { وَهُوَ الولى } للصالحين من عباده بالإحسان إليهم ، وجلب المنافع لهم ، ودفع الشرور عنهم { الحميد } المستحق للحمد منهم على إنعامه خصوصاً وعموماً .

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة } قال : عيش الآخرة { نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } الآية . قال : من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيباً في الآخرة إلاّ النار ، ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئاً إلاّ رزقاً فرغ منه ، وقسم له . وأخرج أحمد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وابن حبان عن أبيّ بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بشر هذه الأمة بالسناء ، والرفعة ، والنصر ، والتمكين في الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب » وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة } الآية ، ثم قال : « يقول الله : ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسدّ فقرك ، وإن لا تفعل ملأت صدرك شغلاً ، ولم أسدّ فقرك » وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن عساكر عن عليّ قال : الحرث حرثان ، فحرث الدنيا المال ، والبنون ، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات .
وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه من طريق طاوس عن ابن عباس : أنه سئل عن قوله : { إِلاَّ المودة فِى القربى } قال سعيد بن جبير : قربى آل محمد . قال ابن عباس : عجلت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلاّ كان له فيهم قرابة ، فقال : إلاّ أن تصلوا ما بيني ، وبينكم من القرابة . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عنه قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أسألكم عليه أجراً إلاّ أن تودوني في نفسي لقرابتي ، وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم » وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال : أكثر الناس علينا في هذه الآية : { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } ، فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلاّ ، وله فيه قرابة ، فقال الله : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } على ما أدعوكم إليه { إِلاَّ المودة فِى القربى } أن تودوني لقرابتي منكم ، وتحفظوني بها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه من طريق عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية قال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة من جميع قريش ، فلما كذبوه ، وأبوا أن يبايعوه قال :

" يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني ، فاحفظوا قرابتي فيكم ، ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ، ونصرتي منكم " وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه عنه نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً نحوه . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً نحوه . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً من طريق أخرى نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق مقسم عن ابن عباس قال : قالت الأنصار : فعلنا ، وفعلنا ، وكأنهم فخروا . فقال العباس : لنا الفضل عليكم . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم في مجالسهم ، فقال : " يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة ، فأعزكم الله؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " أفلا تجيبون؟ " قالوا : ما نقول يا رسول الله؟ قال : " ألا تقولون : ألم يخرجك قومك ، فآويناك؟ ألم يكذّبوك ، فصدّقناك؟ ألم يخذلوك ، فنصرناك؟ " فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا : أموالنا ، وما في أيدينا لله ، ورسوله ، فنزلت : { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } » ، وفي إسناده يزيد بن أبي زياد ، وهو : ضعيف ، والأولى أن الآية مكية لا مدنية ، وقد أشرنا في أوّل السورة إلى قول من قال : إن هذه الآية ، وما بعدها مدنية ، وهذا متمسكهم . وأخرج أبو نعيم ، والديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } أي : تحفظوني في أهل بيتي ، وتودونهم بي " وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه . قال السيوطي : بسند ضعيف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى } قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : " عليّ ، وفاطمة ، وولداهما " وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية بمكة ، وكان المشركون يودّون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { قل } لهم يا محمد { لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ } يعني : على ما أدعوكم إليه { أَجْراً } عرضاً من الدنيا { إِلاَّ المودة فِى القربى } إلاّ الحفظ لي في قرابتي فيكم ، فلما هاجر إلى المدينة أحبّ أن يلحقه بإخوته من الأنبياء ، فقال : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } [ سبأ : 47 ] يعني : ثوابه ، وكرامته في الآخرة كما قال نوح :

{ وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ على رَبّ العالمين } [ الشعراء : 109 ] ، وكما قال هود ، وصالح ، وشعيب لم يستثنوا أجراً كما استثنى النبي صلى الله عليه وسلم ، فردّه عليهم ، وهي : منسوخة .
وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طريق مجاهد ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الآية : قل : لا أسألكم على ما أتيتكم به من البينات ، والهدى أجراً إلاّ أن تودوا الله ، وأن تتقرّبوا إليه بطاعته . هذا حاصل ما روي عن حبر الأمة ابن عباس رضي اللهعنه في تفسير هذه الآية . والمعنى الأوّل هو : الذي صح عنه ، ورواه عنه الجمع الجمّ من تلامذته ، فمن بعدهم ، ولا ينافيه ما روي عنه من النسخ ، فلا مانع من أن يكون قد نزل القرآن في مكة بأن يودّه كفار قريش لما بينه ، وبينهم من القربى ، ويحفظوه بها ، ثم ينسخ ذلك ، ويذهب هذا الاستثناء من أصله كما يدلّ عليه ما ذكرنا مما يدلّ على أنه لم يسأل على التبليغ أجراً على الإطلاق ، ولا يقوي ما روي من حملها على آل محمد على معارضة ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة ، وقد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم من الفضائل الجليلة ، والمزايا الجميلة ، وقد بينا بعض ذلك عند تفسيرنا لقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت } [ الأحزاب : 33 ] ، وكما لا يقوي هذا على المعارضة ، فكذلك لا يقوي ما روي عنه أن المراد بالمودّة في القربى : أن يودوا الله ، وأن يتقرّبوا إليه بطاعته ، ولكنه يشدّ من عضد هذا أنه تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده عند أحمد في المسند هكذا : حدّثنا حسن بن موسى ، حدّثنا قزعة بن سويد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد عن ابن عباس : أن النبي . . . فذكره . ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن مسلم بن إبراهيم ، عن قزعة به . وأخرج ابن المبارك ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب . قال السيوطي : بسند صحيح عن أبي هانىء الخولاني قال : سمعت عمر بن حريث ، وغيره يقولون : إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأرض } ، وذلك أنهم قالوا : لو أن لنا ، فتمنوا الدنيا . و أخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عليّ مثله .

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

ذكر سبحانه بعض آياته الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده ، وصدق ما وعد به من البعث ، فقال : { وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والأرض } أي : خلقهما على هذه الكيفية العجيبة ، والصنعة الغريبة { وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ } يجوز عطفه على خلق ، ويجوز عطفه على السموات ، والدابة اسم لكل ما دبّ . قال الفراء : أراد ما بثّ في الأرض دون السماء كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وإنما يخرج من الملح دون العذب . وقال أبو عليّ الفارسي : تقديره : وما بثّ في أحدهما ، فحذف المضاف . قال مجاهد : يدخل في هذا الملائكة ، والناس ، وقد قال تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النمل : 8 ] { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ } أي : حشرهم يوم القيامة { إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ } ، الظرف متعلق بجمعهم لا بقدير قال أبو البقاء : لأن ذلك يؤدي ، وهو على جمعهم قدير إذا يشاء ، فتتعلق القدرة بالمشيئة ، وهو محال ، قال شهاب الدين : ولاأدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنّة . فإن كان يقول بقول المعتزلة ، وهو : أن القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه ، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي : ما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت ، فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي . قرأ نافع ، وابن عامر : ( بما كسبت ) بغير فاء ، وقرأ الباقون بالفاء . «وما» في : { وَمَا أصابكم } هي : الشرطية ، ولهذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة الجمهور ، ولا يجوز حذفها عند سيبويه ، والجمهور ، وجوّز الأخفش الحذف كما في قوله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] ، وقول الشاعر :
من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشرّ بالشرّ عند الله مثلان
وقيل : هي الموصولة ، فيكون الحذف ، والإثبات جائزين ، والأوّل أولى . قال الزجاج : إثبات الفاء أجود؛ لأن الفاء مجازاة جواب الشرط ، ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى : الذي ، والمعنى : الذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم . قال الحسن : المصيبة هنا الحدود على المعاصي ، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي ، ودخول من الاستغراقية عليها { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } من المعاصي التي يفعلها العباد ، فلا يعاقب عليها ، فمعنى الآية : أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ، ويعفو عن كثير من الذنوب . وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه ، أو يكفر عنه من ذنوبه . وقيل : هذه الآية مختصة بالكافرين على معنى : أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفراً عنهم لذنب ، ولا محصلاً لثواب ، ويترك عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم ، فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة .

والأولى حمل الآية على العموم ، والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب ، ورفع الخطاب به . قال الواحدي : وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين : صنف كفره عنهم بالمصائب ، وصنف عفا عنه في الدنيا ، وهو كريم لا يرجع في عفوه ، فهذه سنّة الله مع المؤمنين . وأما الكافر ، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافى به يوم القيامة { وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الأرض } أي : بفائتين عليه هرباً في الأرض ، ولا في السماء لو كانوا فيها بل ما قضاه عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم { وَمَا لَكُم مّن دُونِ الله مِن وَلِيّ } يواليكم ، فيمنع عنكم ما قضاه الله { وَلاَ نَصِيرٍ } ينصركم من عذاب الله في الدنيا ، ولا في الآخرة .
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على توحيده ، وصدق ما وعد به ، فقال : { وَمِنْ ءاياته الجوار } قرأ نافع ، وأبو عمرو : ( الجواري ) بإثبات الياء في الوصل ، وأما في الوقف ، فإثباتها على الأصل ، وحذفها للتخفيف ، وهي : السفن واحدتها جارية أي : سائرة { فِى البحر كالأعلام } أي : الجبال جمع علم ، وهو الجبل ، ومنه قول الخنساء :
وإن صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
قال الخليل : كلّ شيء مرتفع عند العرب ، فهو علم . وقال مجاهد : الأعلام القصور واحدها علم { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح } قرأ الجمهور بهمز : { يشأ } ، وقرأ ورش عن نافع بلا همز . وقرأ الجمهور : { الريح } بالإفراد ، وقرأ نافع : ( الرياح ) على الجمع ، أي : يسكن الريح التي تجري بها السفن { فَيَظْلَلْنَ } أي : السفن { رَوَاكِدَ } أي : سواكن ثوابت { على ظَهْرِهِ } البحر ، يقال : ركد الماء ركوداً : سكن ، وكذلك ركدت الريح ، وركدت السفينة ، وكل ثابت في مكان ، فهو راكد . قرأ الجمهور : ( فيظللن ) بفتح اللام الأولى ، وقرأ قتادة بكسرها ، وهي لغة قليلة . { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الذي ذكر من أمر السفن { لأَيَاتٍ } دلالات عظيمة { لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي : لكل من كان كثير الصبر على البلوى كثير الشكر على النعماء . قال قطرب : الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر . قال عون بن عبد الله :
فكم من منعم عليه غير شاكر ... وكم من مبتلي وهو غير صابر
{ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } معطوف على يسكن ، أي : يهلكهنّ بالغرق ، والمراد : أهلكهن بما كسبوا من الذنوب ، وقيل : بما أشركوا . والأوّل أولى ، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك ، يقال : أوبقه ، أي : أهلكه { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم ، فينجيهم من الغرق . قرأ الجمهور : { يعف } بالجزم عطفاً على جواب الشرط . قال القشيري : وفي هذه القراءة إشكال؛ لأن المعنى : إن يشأ يسكن الريح ، فتبقي تلك السفن رواكد ، أو يهلكها بذنوب أهلها ، فلا يحسن عطف { يعف } على هذا ، لأنه يصير المعنى : إن يشأ يعف ، وليس المعنى ذلك ، بل المعنى : الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة ، فهو : إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى ، وقد قرأ قوم : ( ويعفو ) بالرفع ، وهي جيدة في المعنى .

قال أبو حيان : وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب ، والمعنى : إلاّ أنه تعالى أهلك ناساً ، وأنجى ناساً على طريق العفو عنهم ، وقرأ الأعمش : ( ويعفو ) بالرفع ، وقرأ بعض أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة :
فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام
بنصب ونأخذ { وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِى ءاياتنا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } قرأ الجمهور بنصب : { يعلم } قال الزجاج : على الصرف ، قال : ومعنى الصرف : صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى ، قال : وذلك أنه لما لم يحسن عطف { ويعلم } مجزوماً على ما قبله إذ يكون المعنى : إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله ، ولا يتأتى ذلك إلاّ بإضمار أن ، لتكون مع الفعل في تأويل اسم ، ومن هذا بيتا النابغة المذكوران قريباً ، وكما قال الزجاج . قال المبرّد ، وأبو عليّ الفارسي : واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته . وقيل : النصب على العطف على تعليل محذوف ، والتقدير : لينتقم منهم ، ويعلم . واعترضه أبو حيان بأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ، ونجاة قوم ، فلا يحسن تقدير لينتقم منهم . وقرأ نافع ، وابن عامر برفع : ( يعلم ) على الاستئناف ، وهي قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ . وقرىء بالجزم عطفاً على المجزوم قبله على معنى : وإن يشأ يجمع بين الإهلاك ، والنجاة ، والتحذير ، ومعنى : { مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } : ما لهم من فرار ، ولا مهرب ، قاله قطرب . وقال السدي : ما لهم من ملجأ ، وهو مأخوذ من قولهم : حاص به البعير حيصة : إذا رمى به ، ومنه قولهم : فلان يحيص عن الحق ، أي : يميل عنه .
{ فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء فمتاع الحياة الدنيا } لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد ، ذكر التنفير عن الدنيا ، أي : ما أعطيتم من الغنى ، والسعة في الرزق ، فإنما هو متاع قليل في أيام قليلة ينقضي ، ويذهب . ثم رغبهم في ثواب الآخرة ، وما عند الله من النعيم المقيم ، فقال : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى } أي : ما عند الله من ثواب الطاعات ، والجزاء عليها بالجنات خير من متاع الدنيا ، وأبقى؛ لأنه دائم لا ينقطع ، ومتاع الدنيا ينقطع بسرعة . ثم بيّن سبحانه لمن هذا ، فقال : { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي : صدقوا ، وعملوا على ما يوجبه الإيمان . { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : يفوّضون إليه أمورهم ، ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره { والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش } الموصول في محل جرّ معطوف على الذين آمنوا ، أو بدلاً منه ، أو في محلّ نصب بإضمار : أعني والأوّل أولى ، والمعنى : أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون .

والمراد بكبائر الإثم : الكبائر من الذنوب ، وقد قدّمنا تحقيقها في سورة النساء . قرأ الجمهور : { كبائر } بالجمع . وقرأ حمزة ، والكسائي : ( كبير ) بالإفراد ، وهو يفيد مفاد الكبائر ، لأن الإضافة للجنس كاللام . والفواحش هي من الكبائر ، ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها فوقها ، وذلك كالقتل ، والزنا ، ونحو ذلك . وقال مقاتل : الفواحش موجبات الحدود . وقال السدّي : هي : الزنا { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي : يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ، ويكظمون الغيظ ، ويحلمون على من ظلمهم ، وخصّ الغضب بالغفران؛ لأن استيلاءه على طبع الإنسان ، وغلبته عليه شديدة ، فلا يغفر عند سورة الغضب إلاّ من شرح الله صدره ، وخصه بمزية الحلم ، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] قال ابن زيد : جعل الله المؤمنين صنفين : صنفاً يعفون عن ظالمهم ، فبدأ بذكرهم ، وصنفا ينتصرون من ظالمهم ، وهم الذين سيأتي ذكرهم .
{ والذين استجابوا لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة } أي : أجابوه إلى ما دعاهم إليه ، وأقاموا ما أوجبه عليهم من فريضة الصلاة . قال ابن زيد : هم : الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثني عشر نقيباً منهم قبل الهجرة ، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها ، وهيئاتها { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أي : يتشاورون فيما بينهم ، ولا يعجلون ، ولا ينفردون بالرأي . والشورى مصدر شاورته مثل البشرى ، والذكرى . قال الضحاك : هو تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وورود النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار أبي أيوب على الإيمان به ، والنصرة له . وقيل : المراد تشاورهم في كلّ أمر يعرض لهم ، فلا يستأثر بعضهم على بعض برأي ، وما أحسن ما قاله بشار بن برد :
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوّة للقوادم
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في أموره ، وأمره الله سبحانه بذلك ، فقال : { وَشَاوِرْهُمْ فِى الأمر } [ آل عمران : 159 ] ، وقد قدّمنا في آل عمران كلاماً في الشورى { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } أي : ينفقونه في سبيل الخير ، ويتصدّقون به على المحاويج . ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها ، فقال : { والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي : أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق ، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح؛ لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }

[ المنافقون : 8 ] ، فالانتصار عند البغي فضيلة ، كما أن العفو عند الغضب فضيلة . قال النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم ، فيجترىء عليهم السفهاء ، ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } ، فبيّن سبحانه أن العدل في الانتصار هو : الاقتصار على المساواة ، وظاهر هذا العموم . وقال مقاتل ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وسفيان : إن هذا خاص بالمجروح ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره . وقال مجاهد ، والسدّي : هو جواب القبيح إذا قال : أخزاك الله يقول : أخزاك الله من غير أن يعتدي ، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه ، أو على طريق المشاكلة لتشابههما في الصورة . ثم لما بيّن سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز بين فضيلة العفو ، فقال : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } أي : من عفا عمن ظلمه ، وأصلح بالعفو بينه ، وبين ظالمه أي : أن الله سبحانه يأجره على ذلك ، وأبهم الأجر تعظيماً لشأنه ، وتنبيهاً على جلالته . قال مقاتل : فكان العفو من الأعمال الصالحة ، وقد بينا هذا في سورة آل عمران . ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز ، والنجاة ، فقال : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } أي : المبتدئين بالظلم قال مقاتل : يعني : من يبدأ بالظلم ، وبه قال سعيد بن جبير . وقيل : لا يحبّ من يتعدّى في الاقتصاص ، ويجاوز الحدّ فيه؛ لأن المجاوزة ظلم .
{ وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ } مصدر مضاف إلى المفعول ، أي : بعد أن ظلمه الظالم له ، واللام هي : لام الابتداء . وقال ابن عطية : هي : لام القسم ، والأوّل أولى . ومن هي الشرطية ، وجوابه { فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ } بمؤاخذة ، وعقوبة ، ويجوز أن تكون من هي الموصولة ، ودخلت الفاء في جوابها تشبيهاً للموصولة بالشرطية ، والأوّل أولى . ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بيّن من عليه السبيل ، فقال { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } أي : يتعدّون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر . وقال ابن جريج : أي : يظلمونهم بالشرك المخالف لدينهم { وَيَبْغُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق } أي : يعملون في النفوس ، والأموال بغير الحقّ كذا قال الأكثر . وقال مقاتل : بغيهم عملهم بالمعاصي . وقيل : يتكبرون ، ويتجبرون . وقال أبو مالك : هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون بمكة غير الإسلام ديناً ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الذين يظلمون الناس ، وهو مبتدأ ، وخبره : { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم . ثم رغب سبحانه في الصبر ، والعفو ، فقال : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } أي : صبر على الأذى ، وغفر لمن ظلمه ، ولم ينتصر ، والكلام في هذه اللام ، ومن كالكلام في ، ولمن انتصر { إِنَّ ذلك } الصبر ، والمغفرة { لَمِنْ عَزْمِ الأمور } أي : أن ذلك منه ، فحذف لظهوره ، كما في قولهم : السمن منوان بدرهم .

قال مقاتل : من الأمور التي أمر الله بها . وقال الزجاج : الصابر يؤتى بصبره ثواباً ، فالرغبة في الثواب أتم عزماً . قال ابن زيد : إن هذا كله منسوخ بالجهاد ، وأنه خاصّ بالمشركين . وقال قتادة : إنه عام ، وهو ظاهر النظم القرآني { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ } أي : فماله من أحد يلي هدايته ، وينصره ، وظاهر الآية العموم . وقيل : هي خاصة بمن أعرض عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يعمل بما دعاه إليه من الإيمان بالله ، والعمل بما شرعه ، والأوّل أولى .
وقد أخرج أحمد ، وابن راهويه ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم عن عليّ بن أبي طالب قال : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدّثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ، وسأفسرها لك يا عليّ : « ما أصابكم من مرض ، أو عقوبة ، أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدنيا ، فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه » وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي عن أبي موسى ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يصيب عبداً نكبة ، فما فوقها أو دونها إلاّ بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر » وقرأ : { وَمَا أصابكم } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في الكفارات ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عمران بن حصين : أنه دخل عليه بعض أصحابه ، وكان قد ابتلي في جسده ، فقال : إنا لنبتئس لك لما نرى فيك ، قال : فلا تبتئس لما ترى ، فإن ما ترى بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، ثم تلا هذه الآية : { وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ } إلى آخرها . وأخرج أحمد عن معاوية بن أبي سفيان : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلاّ كفر الله عنه به من سيئاته » وأخرج ابن مردويه عن البراء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق ، ولا خدش عود إلاّ بما قدمت أيديكم ، وما يعفو الله أكثر » وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله : { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ } قال : يتحرّكن ، ولا يجرين في البحر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : رواكد قال : وقوفاً { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } قال : يهلكهن . وأخرج النسائي ، وابن ماجه ، وابن مردويه عن عائشة ، قالت : دخلت عليّ زينب ، وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلت عليّ ، فسبتني ، فردعها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم تنته ، فقال لي :

« سبيها ، فسببتها حتى جفّ ريقها في فمها ، ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سروراً » وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المستبان ما قالا من شيء ، فعلى البادىء حتى يعتدي المظلوم » ، ثم قرأ : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي : ألا ليقم من كان له على الله أجر ، فلا يقوم إلاّ من عفا في الدنيا » وذلك قوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } . وأخرج البيهقي عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ينادي منادٍ : من كان له أجر على الله ، فليدخل الجنة مرتين ، فيقوم من عفا عن أخيه » قال الله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } .

وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

قوله : { وَتَرَى الظالمين } أي : المشركين المكذبين بالبعث { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي : حين نظروا النار ، وقيل : نظروا ما أعده الله لهم عند الموت { يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدّ مّن سَبِيلٍ } أي : هل إلى الرجعة إلى الدنيا من طريق؟ { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خاشعين مِنَ الذل } أي : ساكنين متواضعين عند أن يعرضوا على النار لما لحقهم من الذلّ ، والهوان ، والضمير في عليها راجع إلى العذاب ، وأنثه ، لأن العذاب هو : النار ، وقوله : { يُعْرَضُونَ } في محل نصب على الحال ، لأن الرؤية بصرية ، وكذلك خاشعين ، ومن الذلّ يتعلق بخاشعين ، أي : من أجله { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ } " من " هي التي لابتداء الغاية ، أي : يبتدىء نظرهم إلى النار ، ويجوز أن تكون تبعيضية ، والطرف الخفيّ الذي يخفى نظره كالمصبور ينظر إلى السيف لما لحقهم من الذلّ ، والخوف ، والوجل . قال مجاهد : { مِن طَرْفٍ خَفِىّ } أي : ذليل قال : وإنما ينظرون بقلوبهم؛ لأنهم يحشرون عمياً ، وعين القلب طرف خفيّ . وقال قتادة ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، والقرظي : يسارقون النظر من شدّة الخوف . وقال يونس : إن «من» في { مِن طَرْفٍ } بمعنى الباء ، أي : ينظرون بطرف ضعيف من الذلّ ، والخوف ، وبه قال الأخفش { وَقَالَ الذين ءامَنُواْ إِنَّ الخاسرين الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } أي : أن الكاملين في الخسران هم : هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس ، والأهلين في يوم القيامة . أما خسرانهم لأنفسهم ، فلكونهم صاروا في النار معذّبين بها ، وأما خسرانهم لأهليهم ، فلأنهم إن كانوا معهم في النار ، فلا ينتفعون بهم ، وإن كانوا في الجنة ، فقد حيل بينهم ، وبينهم . وقيل : خسران الأهل : أنهم لو آمنوا لكان لهم في الجنة أهل من الحور العين { أَلاَ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ } هذا يجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين . ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه أي : هم في عذاب دائم لا ينقطع .
{ وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مّن دُونِ الله } أي : لم يكن لهم أعوان يدفعون عنهم العذاب ، وأنصار ينصرونهم في ذلك الموطن من دون الله ، بل هو المتصرّف سبحانه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } أي : من طريق يسلكها إلى النجاة . ثم أمر سبحانه عباده بالاستجابة له ، وحذرهم ، فقال : { استجيبوا لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله } أي : استجيبوا دعوته لكم إلى الإيمان به ، وبكتبه ، ورسله من قبل أن يأتي يوم لا يقدر أحد على ردّه ، ودفعه ، على معنى : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد ، أو لا يردّه الله بعد أن حكم به على عباده ، ووعدهم به ، والمراد به : يوم القيامة ، أو يوم الموت { مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ } تلجئون إليه ، { وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ } أي : إنكار ، والمعنى : ما لكم من إنكار يومئذٍ ، بل تعترفون بذنوبكم .

وقال مجاهد { وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ } أي : ناصر ينصركم . وقيل : النكير بمعنى : المنكر ، كالأليم بمعنى : المؤلم ، أي : لا تجدون يومئذٍ منكراً لما ينزل بكم من العذاب قاله الكلبي ، وغيره ، والأوّل أولى . قال الزجاج : معناه : أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي : حافظاً تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها ، ولا موكلاً بهم رقيباً عليهم { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } أي : ما عليك إلاّ البلاغ لما أمرت بإبلاغه ، وليس عليك غير ذلك ، وهذا منسوخ بآية السيف . { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } أي : إذا أعطيناه رخاء ، وصحة ، وغنى فرح بها بطراً ، والمراد بالإنسان : الجنس ، ولهذا قال { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ } أي : بلاء ، وشدّة ، ومرض { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } من الذنوب { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } أي : كثير الكفر لما أنعم به عليه من نعمه ، غير شكور له عليها ، وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان .
ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ، ونفاذ تصرّفه ، فقال : { للَّهِ مُلْكُ السموات والأرض } أي : له التصرّف فيهما بما يريد ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } من الخلق { يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور } . قال مجاهد ، والحسن ، والضحاك ، وأبو مالك ، وأبو عبيدة : يهب لمن يشاء إناثاً لا ذكور معهنّ ، ويهب لمن يشاء ذكوراً لا إناث معهم . قيل : وتعريف الذكور بالألف ، واللام للدّلالة على شرفهم على الإناث ، ويمكن أن يقال : إن التقديم للإناث قد عارض ذلك ، فلا دلالة في الآية على المفاضلة بل هي مسوقة لمعنى آخر . وقد دلّ على شرف الذكور قوله سبحانه : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء بِمَا فَضَّلَ الله } [ النساء : 34 ] ، وغير ذلك من الأدلة الدّالة على شرف الذكور على الإناث . وقيل : تقديم الإناث لكثرتهنّ بالنسبة إلى الذكور . وقيل : لتطييب قلوب آبائهنّ ، وقيل لغير ذلك مما لا حاجة إلى التطويل بذكره { أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا } أي : يقرن بين الإناث ، والذكور ، ويجعلهم أزواجاً فيهبهما جميعاً لبعض خلقه . قال مجاهد : هو أن تلد المرأة غلاماً ، ثم تلد جارية ، ثم تلد غلاماً ، ثم تلد جارية . وقال محمد ابن الحنفية : هو : أن تلد توأماً غلاماً ، وجارية . وقال القتيبي : التزويج هنا هو الجمع بين البنين ، والبنات تقول العرب : زوّجت إبلي : إذا جمعت بين الصغار ، والكبار ، ومعنى الآية أوضح من أن يختلف في مثله ، فإنه سبحانه أخبر أنه يهب لبعض خلقه إناثاً ، ويهب لبعض ذكوراً ، ويجمع لبعض بين الذكور ، والإناث { وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } لا يولد له ذكر ، ولا أنثى ، والعقيم الذي لا يولد له ، يقال : رجل عقيم ، وامرأة عقيم ، وعقمت المرأة تعقم عقماً ، وأصله القطع ، ويقال : نساء عقم ، ومنه قول الشاعر :

عقم النساء فما يلدن شبي ... هه إن النساء بمثله عقم
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } أي : بليغ العلم عظيم القدرة { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } أي : ما صح لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله بوجه من الوجوه إلاّ بأن يوحي إليه ، فيلهمه ، ويقذف ذلك في قلبه قال مجاهد : نفث ينفث في قلبه ، فيكون إلهاماً منه كما أوحى إلى أمّ موسى ، وإلى إبراهيم في ذبح ولده { أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } كما كلم موسى ، يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى ، وهو : تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء } أي : يرسل ملكاً ، فيوحي ذلك الملك إلى الرّسول من البشر بأمر الله ، وتيسيره ما يشاء أن يوحى إليه . قال الزجاج : المعنى : أن كلام الله للبشر : إما أن يكون بإلهام يلهمهم ، أو يكلمهم من وراء حجاب كما كلم موسى ، أو برسالة ملك إليهم . وتقدير الكلام : ما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ أن يوحي وحياً ، أو يكلمه من وراء حجاب ، أو يرسل رسولاً . ومن قرأ : ( يرسل ) رفعاً أراد : وهو يرسل ، فهو ابتداء ، واستئناف . ا ه . قرأ الجمهور بنصب : { أَوْ يُرْسِلَ } ، وبنصب : { فَيُوحِىَ } على تقدير أن ، وتكون أن ، وما دخلت عليه معطوفين على وحياً ، ووحياً في محلّ الحال ، والتقدير : إلاّ موحياً ، أو مرسلاً ، ولا يصح عطف ، أو يرسل على أن يكلمه لأنه يصير التقدير : وما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً ، وهو فاسد لفظاً ، ومعنى . وقد قيل : في توجيه قراءة الجمهور غير هذا مما لا يخلو عن ضعف . وقرأ نافع : ( أو يرسل ) بالرفع ، وكذلك : ( فيوحى ) بإسكان الياء على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : أو هو يرسل كما قال الزجاج ، وغيره ، وجملة : { إِنَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ } تعليل لما قبلها ، أي : متعال عن صفات النقص ، حكيم في كل أحكامه .
قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية : أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله ، وتنظر إليه إن كنت نبياً كما كلمه موسى ، فنزلت { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } أي : وكالوحي الذي أوحينا إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ، المراد به : القرآن . وقيل : النبوّة . قال مقاتل : يعني : الوحي بأمرنا ، ومعناه : القرآن ، لأنه يهتدى به ، ففيه حياة من موت الكفر . ثم ذكر سبحانه صفة رسوله قبل أن يوحى إليه ، فقال : { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب } أي : أيّ شيء هو ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ، ولا يكتب ، وذلك أدخل في الإعجاز ، وأدلّ على صحة نبوّته ، ومعنى : { وَلاَ الإيمان } : أنه كان لا يعرف تفاصيل الشرائع ، ولا يهتدي إلى معالمها ، وخص الإيمان؛ لأنه رأسها ، وأساسها .

وقيل : أراد بالإيمان هنا : الصلاة . قال بهذا : جماعة من أهل العلم منهم : إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة ، واحتجّ بقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] يعني : الصلاة ، فسماها إيماناً . وذهب جماعة إلى أن الله سبحانه لم يبعث نبياً إلاّ وقد كان مؤمناً به ، وقالوا : معنى الآية : ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن ، ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان . وقيل : كان هذا قبل البلوغ حين كان طفلاً ، وفي المهد . وقال الحسين بن الفضل : إنه على حذف مضاف ، أي : ولا أهل الإيمان . وقيل : المراد بالإيمان دين الإسلام . وقيل : الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل ما كلف الله به العباد { ولكن جعلناه نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاء } أي : ولكن جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياءً ، ودليلاً على التوحيد ، والإيمان نهدي به من نشاء هدايته { مّنْ عِبَادِنَا } ونرشده إلى الدين الحقّ { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } قال قتادة ، والسدّي ، ومقاتل : وإنك لتدعو إلى الإسلام ، فهو : الصراط المستقيم . قرأ الجمهور : { لتهدي } على البناء للفاعل . وقرأ ابن حوشب على البناء للمفعول . وقرأ ابن السميفع بضمّ التاء ، وكسر الدّال من أهدي ، وفي قراءة أبيّ : ( وإنك لتدعو ) ، ثم بيّن الصراط المستقيم بقوله : { صراط الله الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } ، وفي هذه الإضافة للصراط إلى الاسم الشريف من التعظيم له ، والتفخيم لشأنه ما لا يخفى ، ومعنى : { لَّهُ مَا فِي السموات وَفِى الأرض } : أنه المالك لذلك ، والمتصرّف فيه { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } أي : تصير إليه يوم القيامة لا إلى غيره جميع أمور الخلائق ، وفيه وعيد بالبعث المستلزم للمجازاة .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِىّ } قال : ذليل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن محمد بن كعب قال : يسارقون النظر إلى النار . وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن واثلة بن الأسقع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى ، لأن الله قال : { يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور } " وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً } قال : الذي لا يولد له . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } قال : إلاّ أن يبعث ملكاً يوحي إليه من عنده ، أو يلهمه ، فيقذف في قلبه ، أو يكلمه من وراء حجاب . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } قال : القرآن . وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، وابن عساكر عن عليّ قال : قيل لمحمد : هل عبدت وثناً قط؟ قال : " لا " قالوا : فهل شربت خمراً قط؟ قال : " لا ، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر ، وما كنت أدري ما الكتاب ، ولا الإيمان» " وبذلك نزل القرآن { مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } .

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)

قوله : { حم * والكتاب المبين } الكلام ها هنا في الإعراب كالكلام الذي قدّمناه في { يس * والقرءان الحكيم } [ يس : 1 ، 2 ] ، فإن جعلت { حم} قسماً كانت الواو عاطفة ، وإن لم تجعل قسماً ، فالواو للقسم ، وجواب القسم { إِنَّا جعلناه } ، وقال ابن الأنباري : من جعل جواب ، والكتاب : { حم} كما تقول : نزل والله ، وجب والله وقف على { الكتاب المبين } ، ومعنى { جعلناه } ، أي : سميناه ، ووصفناه ، ولذلك تعدّى إلى مفعولين . وقال السدّي : المعنى : أنزلناه { قُرْءاناً } . وقال مجاهد : قلناه . وقال سفيان الثوري : بيناه { عَرَبِيّاً } ، وكذا قال الزجاج ، أي : أنزل بلسان العرب ، لأن كلّ نبي أنزل كتابه بلسان قومه . وقال مقاتل : لأن لسان أهل الجنة عربيّ { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه ، وتتعقلوا معانيه ، وتحيطوا بما فيه . قال ابن زيد : لعلكم تتفكرون . { وَإِنَّهُ فِى أُمّ الكتاب } أي : وإن القرآن في اللوح المحفوظ { لَدَيْنَا } أي : عندنا { لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ، ولا تناقض ، والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم ، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها . قال الزجاج : { أمّ الكتاب } : أصل الكتاب ، وأصل كلّ شيء : أمه ، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال : { بَلْ هُوَ قُرْءانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 21 ، 22 ] وقال ابن جريج : المراد بقوله : { وَأَنَّهُ } أعمال الخلق من إيمان ، وكفر ، وطاعة ، ومعصية . قال قتادة : أخبر عن منزلته ، وشرفه ، وفضله ، أي : إن كذبتم به يا أهل مكة ، فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل . { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } يقال : ضربت عنه ، وأضربت عنه : إذا تركته ، وأمسكت عنه ، كذا قال الفراء ، والزجاج ، وغيرهما ، وانتصاب { صفحاً } على المصدرية ، وقيل : على الحال ، على معنى : أفنضرب عنكم الذكر صافحين ، والصفح مصدر قولهم : صفحت عنه إذا أعرضت عنه ، وذلك أنك توليه صفحة وجهك ، وعنقك ، والمراد بالذكر هنا : القرآن ، والاستفهام للإنكار ، والتوبيخ . قال الكسائي : المعنى : أفنضرب عنكم الذكر طياً فلا توعظون ، ولا تؤمرون . وقال مجاهد ، وأبو صالح ، والسدّي : أفنضرب عنكم العذاب ، ولا نعاقبكم على إسرافكم ، وكفركم . وقال قتادة : المعنى : أفنهلككم ، ولا نأمركم ، ولا ننهاكم؟ وروي عنه : أنه قال : المعنى : أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به؟ وقيل : الذكر : التذكير ، كأنه قال : أنترك تذكيركم { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } ، قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : « إن كنتم » بكسر « إن » على أنها الشرطية ، والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه . وقرأ الباقون بفتحها على التعليل ، أي : لأن كنتم قوماً منهمكين في الإسراف مصرّين عليه ، واختار أبو عبيد قراءة الفتح . ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِى الأولين } كم هي الخبرية التي معناها : التكثير ، والمعنى : ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة { وَمَا يَأْتِيهِم مّنْ نَّبِىّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } كاستهزاء قومك بك { فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : أهلكنا قوماً أشدّ قوّة من هؤلاء القوم ، وانتصاب { بطشاً } على التمييز أو الحال ، أي : باطشين { ومضى مَثَلُ الأولين } أي : سلف في القرآن ذكرهم غير مرة .

وقال قتادة : عقوبتهم ، وقيل : صفتهم ، والمثل : الوصف والخبر . وفي هذا تهديد شديد ، لأنه يتضمن أن الأوّلين أهلكوا بتكذيب الرسل ، وهؤلاء إن استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم . { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } أي : لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية؟ أقرّوا بأن الله خالقهنّ ولم ينكروا ، وذلك أسوأ لحالهم وأشدّ لعقوبتهم ، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكاً له ، بل عمدوا إلى ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضرّ من المخلوقات وهي : الأصنام فجعلوها شركاء لله . ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال : { الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مهادا } وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله ، ولو كان متصلاً بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا : الذي جعل لنا الأرض مهاداً ، والمهاد : الفراش والبساط ، وقد تقدّم بيانه ، قرأ الجمهور : { مهاداً } وقرأ الكوفيون ( مهداً ) { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي طرقاً تسلكونها إلى حيث تريدون ، وقيل : معايش تعيشون بها { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } بسلوكها إلى مقاصدكم ومنافعكم . { والذى نَزَّلَ مِنَ السماء مَاء بِقَدَرٍ } أي : بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة ولم ينزل عليكم منه فوق حاجتكم حتى يهلك زرائعكم ويهدم منازلكم ويهلككم بالغرق ، ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة ، وعلى حسب ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي : أحيينا بذلك الماء بلدة مقفرة من النبات . قرأ الجمهور : { ميتاً } بالتخفيف . وقرأ عيسى وأبو جعفر بالتشديد { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } من قبوركم ، أي : مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها تبعثون من قبوركم أحياء ، فإن من قدر على هذا قدر على ذلك ، وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف . قرأ الجمهور : { تخرجون } مبنياً للمفعول ، وقرأ الأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ، وابن ذكوان عن ابن عامر مبنياً للفاعل . { والذى خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا } المراد بالأزواج هنا : الأصناف ، قال سعيد بن جبير : الأصناف كلها . وقال الحسن : الشتاء والصيف ، والليل والنهار ، والسموات والأرض ، والجنة والنار . وقيل : أزواج الحيوان من ذكر وأنثى ، وقيل : أزواج النبات ، كقوله :

{ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ ق : 7 ] و : { مِن كُلّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] وقيل : ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشرّ ، وإيمان وكفر ، والأوّل أولى { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } في البحر والبرّ ، أي : ما تركبونه { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد . وقال الفراء : أضاف الظهور إلى واحد ، لأن المراد به : الجنس ، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجنس فلذلك ذكر ، وجمع الظهر لأن المراد ظهور هذا الجنس ، والاستواء : الاستعلاء ، أي : لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } أي : هذه النعمة التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبرّ . وقال مقاتل والكلبي : هو أن يقول : الحمد لله الذي رزقني هذا وحملني عليه { وَتَقُولُواْ سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا } أي : ذلل لنا هذا المركب ، وقرأ عليّ بن أبي طالب : ( سبحان من سخر لنا هذا ) قال قتادة : قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم ، ومعنى { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } : ما كنا له مطيقين ، يقال : أقرن هذا البعير : إذا أطاقه . وقال الأخفش وأبو عبيدة : مقرنين : ضابطين ، وقيل : مماثلين له في القوّة ، من قولهم : هو قرن فلان إذا كان مثله في القوّة ، وأنشد قطرب قول عمرو بن معديكرب :
لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا
وقال آخر :
ركبتم صعبتي أشراً وحيفا ... ولستم للصعاب بمقرنينا
والمراد بالأنعام هنا : الإبل خاصة ، وقيل الإبل والبقر ، والأوّل أولى { وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ } أي : راجعون إليه ، وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة . ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدّم ذكرهم ، فقال : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا } قال قتادة : أي : عدلاً ، يعني : ما عبد من دون الله . وقال الزجاج والمبرد : الجزء هنا : البنات ، والجزء عند أهل العربية : البنات ، يقال : قد أجزأت المرأة : إذا ولدت البنات ، ومنه قول الشاعر :
إن أجزأت حرّة يوماً فلا عجب ... قد تجزىء الحرّة المذكار أحياناً
وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالبنات من بدع التفسير ، وصرح بأنه مكذوب على العرب . ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد ، وهما إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها ، ويؤيد تفسير الجزء بالبنات ما سيأتي من قوله : { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } وقوله : { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن } وقوله : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } وقيل : المراد بالجزاء هنا : الملائكة؛ فإنهم جعلوهم أولاداً لله سبحانه قاله مجاهد والحسن . قال الأزهري : ومعنى الآية : أنهم جعلوا لله من عباده نصيباً ، على معنى : أنهم جعلوا نصيب الله من الولدان { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } أي : ظاهر الكفران مبالغ فيه ، قيل : المراد بالإنسان هنا : الكافر ، فإنه الذي يجحد نعم الله عليه جحوداً بيناً .

ثم أنكر عليهم هذا فقال : { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } وهذا استفهام تقريع وتوبيخ . وأم هي : المنقطعة ، والمعنى : أتخذ ربكم لنفسه البنات { وأصفاكم بالبنين } فجعل لنفسه المفضول من الصنفين ولكم الفاضل منهما ، يقال : أصفيته بكذا ، أي : آثرته به ، وأصفيته الودّ : أخلصته له ، ومثل هذه الآية قوله : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21 ، 22 ] وقوله : { أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين } [ الإسراء : 40 ] وجملة : { وأصفاكم } معطوفة على { اتخذ } داخلة معها تحت الإنكار . ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال : { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً } أي بما جعله للرحمن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات ، والمعنى : أنه إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتمّ لذلك وظهر عليه أثره ، وهو معنى قوله : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } أي : صار وجهه مسودًّا بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن الحادث له ذكراً مكانها { وَهُوَ كَظِيمٌ } أي : شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه . قال قتادة : حزين . وقال عكرمة : مكروب ، وقيل : ساكت ، وجملة { وَهُوَ كَظِيمٌ } في محل نصب على الحال . ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال : { أَوْ من يُنَشَّأُ فِى الحلية وَهُوَ فِى الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } معنى ينشأ : يربى ، والنشوء : التربية ، والحلية : الزينة ، و « من » في محل نصب بتقدير مقدّر معطوف على { جعلوا } ؛ والمعنى : أو جعلوا له سبحانه من شأنه أن يربى في الزينة وهو عاجز عن أن يقوم بأمور نفسه ، وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله وضعف رأيه؟ قال المبرد : تقدير الآية : أو يجعلون له من ينشأ في الحلية ، أي : ينبت في الزينة؟ قرأ الجمهور : « ينشأ » بفتح الياء وإسكان النون ، وقرأ ابن عباس والضحاك ، وابن وثاب ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين . واختار القراءة الأولى أبو حاتم ، واختار الثانية أبو عبيد . قال الهروي : الفعل على القراءة الأولى لازم ، وعلى الثانية متعدّ . والمعنى : يربى ويكبر في الحلية . قال قتادة : قلما تتكلم امرأة بحجتها إلاّ تكلمت بالحجة عليها . وقال ابن زيد والضحاك : الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة . { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِندَ الرحمن إناثا } الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشيء كما تقول : جعلت زيداً أفضل الناس ، أي : قلت بذلك ، وحكمت له به . قرأ الكوفيون : { عباد } بالجمع ، وبها قرأ ابن عباس . وقرأ الباقون : { عند الرحمن } بنون ساكنة ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، لأن الإسناد فيها أعلى ، ولأن الله إنما كذبهم في قوله : إنهم بنات الله ، فأخبرهم أنهم عباده ، ويؤيد هذه القراءة قوله :

{ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنببياء : 26 ] ، واختار أبو حاتم القراءة الثانية ، قال : وتصديق هذه القراءة قوله : { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ } [ الأعراف : 206 ] ، ثم وبخهم ، وقرعهم ، فقال : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } أي : أحضروا خلق الله إياهم ، فهو من الشهادة التي هي : الحضور ، وفي هذا تهكم بهم ، وتجهيل لهم . قرأ الجمهور : { أشهدوا } على الاستفهام بدون واو . وقرأ نافع : ( أو اشهدوا ) . وقرأ الجمهور : { سَتُكْتَبُ شهادتهم } بضم التاء الفوقية ، وبناء الفعل للمفعول ، ورفع شهادتهم ، وقرأ السلمي ، وابن السميفع ، وهبيرة عن حفص بالنون ، وبناء الفعل للفاعل ، ونصب شهادتهم ، وقرأ أبو رجاء : ( شهاداتهم ) بالجمع ، والمعنى : سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم ، لنجازيهم على ذلك { وَيُسْئَلُونَ } عنها يوم القيامة . { وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم } هذا فنّ آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به للاستهزاء ، والسخرية ، ومعناه : لو شاء الرحمن في زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة ، وهذا كلام حقّ يراد به باطل ، وقد مضى بيانه في الأنعام ، فبيّن سبحانه جهلهم بقوله : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي : ما لهم بما قالوه من أن الله لو شاء عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم من علم ، بل تكلموا بذلك جهلاً ، وأرادوا بما صورته صورة الحقّ باطلاً ، وزعموا أنه إذا شاء ، فقد رضي . ثم بيّن انتفاء علمهم بقوله : { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي : ما هم إلاّ يكذبون ، فيما قالوا ، ويتمحلون تمحلاً باطلاً . وقيل : الإشارة بقوله : { ذلك } إلى قوله : { وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } . قاله قتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، وقال مجاهد ، وابن جريج أي : ما لهم بعبادة الأوثان من علم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، والكتاب عنده ، ثم قرأ { وَإِنَّهُ فِى أُمّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ } . وأخرج ابن مردويه نحوه عن أنس مرفوعاً . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } قال : أحببتم أن يصفح عنكم ، ولم تفعلوا ما أمرتم به . وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر ركب راحلته ، ثم كبر ثلاثاً ، ثم قال : { سبحان الذى سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إلى رَبّنَا لَمُنقَلِبُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } قال : مطيقين . وأخرج عبد بن حميد عنه { أَوْ مِن يُنَشَّأُ فِى الحلية } قال : هو النساء فرق بين زيهنّ ، وزيّ الرجال ، ونقصهنّ من الميراث ، وبالشهادة ، وأمرهنّ بالقعدة ، وسماهنّ الخوالف . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال : كنت أقرأ هذا الحرف { الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا } ، فسألت ابن عباس فقال : عباد الرحمن؟ قلت : فإنها في مصحفي ( عند الرحمن ) قال : فامحها ، واكتبها { عِبَادُ الرحمن } .

أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

قوله : { أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ } أم هي المنقطعة ، أي : بل ءأعطيناهم كتاباً من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } يأخذون بما فيه ، ويحتجون به ، ويجعلونه لهم دليلاً ، ويحتمل : أن تكون أم معادلة لقوله : { اشهدوا } ، فتكون متصلة ، والمعنى : أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتاباً . . . إلخ . وقيل : إن الضمير في : { مِن قَبْلِهِ } يعود إلى ادّعائهم ، أي : أم آتيناهم كتاباً من قبل ادّعائهم ينطق بصحة ما يدّعونه ، والأوّل أولى . ثم بيّن سبحانه : أنه لا حجة بأيديهم ، ولا شبهة ، ولكنهم اتبعوا آباءهم في الضلالة ، فقال : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ } ، فاعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم ، ومعنى { على أمة } : على طريقة ، ومذهب ، قال أبو عبيد : هي : الطريقة ، والدين ، وبه قال قتادة ، وغيره . قال الجوهري : والأمة : الطريقة ، والدين ، يقال : فلان لا أمة له ، أي : لا دين له ، ولا نحلة ، ومنه قول قيس بن الخطيم :
كنا على أمة آبائنا ... ونقتدي الآخر بالأوّل
وقول الآخر :
وهل يستوي ذو أمة وكفور ... وقال الفراء ، وقطرب : على قبلة . وقال الأخفش : على استقامة ، وأنشد قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
قرأ الجمهور : { أمة } بضم الهمزة ، وقرأ مجاهد ، وقتادة ، وعمر بن عبد العزيز بكسرها . قال الجوهري : والإمة بالكسر : النعمة ، والإمة : أيضاً لغة في الأمة . ومنه قول عديّ بن زيد :
ثم بعد الفلاح والملك والإم ... ة وارتهم هناك قبور
ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة ، وقال بها ، فقال : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُون } { مترفوها } : أغنياؤها ، ورؤساؤها ، قال قتادة : { مقتدون } : متبعون ، ومعنى الاهتداء ، والاقتداء متقارب ، وخصص المترفين تنبيهاً على أن التنعم هو سبب إهمال النظر . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم ، فقال : { قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ } أي : أتتبعون آباءكم ، ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ، قال الزجاج : المعنى : قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم ، وإن جئتكم بأهدى منه . قرأ الجمهور : { قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُم } ، وقرأ ابن عامر ، وحفص : ( قال أو لو جئتكم ) ، وهو حكاية لما جرى بين المنذرين ، وقومهم ، أي : قال كلّ منذر من أولئك المنذرين لأمته ، وقيل : إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء ، وقومهم ، كأنه قال : لكل نبيّ قل ، بدليل قوله : { قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون } .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34