كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

والهدى ما يهتدون به من الأحكام ، والرحمة ما يحصل لهم من الله عند عملهم بما فيها من الرحمة الواسعة . واللام في { لّلَّذِينَ هُمْ } متعلقة بمحذوف ، أي كائنة لهم أو لأجلهم ، واللام في { لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } للتقوية للفعل ، لما كان مفعوله متقدّماً عليه ، فإنه يضعف بذلك بعض الضعف . وقد صرح الكسائي بأنها زائدة . وقال الأخفش : هي لام الأجل ، أي لأجل ربهم يرهبون . وقال محمد بن يزيد المبرد : هي متعلقة بمصدر الفعل المذكور ، والتقدير : للذين هم رهبتهم لربهم يرهبون .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أيوب ، قال : تلا أبو قلابة هذه الآية { إِنَّ الذين اتخذوا العجل } إلى قوله : { وكذلك نَجْزِى المفترين } قال : هو جزاء كل مفتر ، يكون إلى يوم القيامة أن يذله الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : أعطى موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد ، فيها تبيان لكل شيء وموعظة . ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفاً على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت ، وأقبل على هارون فأخذ برأسه ، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح وَفِى نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } قال : فيما بقي منها . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد ، أو سعيد بن جبير ، قال : كانت الألواح من زمرّد ، فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل ، وبقي الهدى والرحمة ، وقرأ { وكتبنا له في الألواح [ من كل شيء ] موعظة وتفصيلاً لكل شيء } وقرأ { ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة } قال : ولم يذكر التفصيل هاهنا .

وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

قوله : { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لميقاتنا } هذا شروع في بيان ما كان من موسى ، ومن القوم الذين اختارهم ، وسبعين مفعول { اختار } ، وقومه منصوب بنزع الخافض ، أي من قومه على الحذف والإيصال ، ومثله قوله الراعي :
اخترتك الناس إذ رثت خلائقهم ... واعتل من كان يرجى عنده السول
يريد اخترتك من الناس ، ومعنى { لميقاتنا } للوقت الذي وقتناه له ، بعد أن وقع من قومه ما وقع . والميقات الكلام الذي تقدم ذكره ، لأن الله أمره أن يأتي إلى الطول في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه سبحانه من عبادة العجل ، كذا قيل . والرجفة في اللغة : الزلزلة الشديدة . قيل : إنهم زلزلوا حتى ماتوا ، فلما رأى موسى أخذ الرجفة لهم : { قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ وإياى } قاله عليه السلام تحسراً وتلهفاً ، لأن سبب أخذ الرجفة لهم ما حكى الله عنهم من قولهم : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] على ما تقدّم في البقرة . وقيل : هؤلاء السبعون غير من قالوا : { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] بل أخذتهم الرجفة ، بسبب عدم انتهائهم عن عبادة العجل . وقيل : إنهم قوم لم يرضوا بعبادة العجل ، ولا نهوا السامريّ ومن معه عن عبادته ، فأخذتهم الرجفة بسبب سكوتهم . والمعنى لو شئت إهلاكنا بذنوبنا قبل هذا الوقت اعترافاً منه عليه السلام بالذنب ، وتلهفاً على ما فرط من قومه . والاستفهام في قوله : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهاء مِنَّا } للجحد ، أي لست ممن يفعل ذلك ، قاله ثقة منه برحمة الله . والمقصود منه الاستعطاف والتضرّع . وقيل : معناه الدعاء والطلب ، أي لا تهلكنا . قال المبرد : المراد بالاستفهام استفهام الإعظام كأنه يقول : [ لا تهلكنا ] وقد علم موسى أنه لا يهلك أحد بذنب غيره . ولكنه كقول عيسى : { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] . وقيل المراد بالسفهاء : السبعون ، والمعنى : أتهلك بني إسرائيل بما فعل هؤلاء السفهاء في قولهم { أَرِنَا الله جَهْرَةً } [ النساء : 153 ] . وقيل المراد بهم : السامري وأصحابه .
قوله : { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي ما الفتنة التي وقع فيها هؤلاء السفهاء إلا فتنتك التي تختبر بها من شئت ، وتمتحن بها من أردت . ولعله عليه السلام استفاد هذا من قوله سبحانه : { فإنا قد فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ } [ طه : 85 ] { تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِى مَن تَشَاء } أي تضلّ بهذه الفتنة من تشاء من عبادك وتهدي بها من تشاء منهم ، ومثله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ] ، ثم رجع إلا الاستعطاف والدعاء فقال : { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي المتولي لأمورنا { فاغفر لَنَا } ما أذنبناه { وارحمنا } برحمتك التي وسعت كل شيء { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } للذنوب .
{ واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً } بتوفيقنا للأعمال الصالحة ، أو تفضل علينا بإِفاضة النعم في هذه الدنيا من العافية ، وسعة الرزق { وَفِي الآخرة } أي واكتب لنا في الآخرة الجنة بما تجازينا به ، أو بما تتفضل به علينا من النعيم في الآخرة .

وجملة { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } تعليل لما قبلها من سؤال المغفرة ، والرحمة ، والحسنة ، في الدنيا وفي الآخرة ، أي : إنا تبنا إليك ورجعنا عن الغواية التي وقعت من بني إسرائيل . والهود : التوبة . وقد تقدّم في البقرة .
وجملة : { قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } مستأنفة كنظائرها فيما تقدّم . قيل المراد بالعذاب هنا : الرجفة . وقيل : أمره سبحانه لهم بأن يقتلوا أنفسهم ، أي ليس هذا إليك يا موسى ، بل ما شئت كان ، وما لم أشأ لم يكن . والظاهر أن العذاب هنا يندرج تحته كل عذاب ، ويدخل فيه عذاب هؤلاء دخولاً أوّلياً . وقيل المراد : من أشاء من المستحقين للعذاب ، أو من أشاء أن أضله وأسلبه التوفيق { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } : من الأشياء من المكلفين وغيرهم . ثم أخبر سبحانه أنه سيكتب هذه الرحمة الواسعة { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الذنوب { وَيُؤْتُونَ الزكواة } المفروضة عليهم { والذين هُم بئاياتنا يُؤْمِنُونَ } أي يصدّقون بها ويذعنون لها .
ثم بين سبحانه هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة ، ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الأمى } وهو محمد عليه الصلاة والسلام ، فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل . والأمي : إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب ، وهم العرب ، أو نسبة إلى الأم . والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب؛ وقيل نسبة إلى أمّ القرى ، وهي مكة .
{ الذي يجدونه } يعني : اليهود والنصارى ، أي يجدون نعته { مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل } وهما مرجعهم في الدين . وهذا الكلام منه سبحانه مع موسى هو قبل نزول الإنجيل فهو من باب الإخبار بما سيكون . ثم وصف هذا النبيّ الذي يجدونه كذلك بأنه يأمر بالمعروف ، أي بكل ما تعرفه القلوب ، ولا تنكره من الأشياء التي هي من مكارم الأخلاق { وينهاهم عَنِ المنكر } أي ما تنكره القلوب ولا تعرفه . وهو ما كان من مساوئ الأخلاق . قيل : إن قوله : { يَأْمُرُهُم بالمعروف } إلى قوله : { أُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } كلام يتضمن تفصيل أحكام الرحمة التي وعد بها . ذكر معناه الزجاج . وقيل : هو في محل نصب على الحال من النبيّ . وقيل : هو مفسر لقوله : { مَكْتُوبًا } .
قوله : { يَحِلَّ لَهُمُ الطيبات } أي المستلذات . وقيل : يحلّ لهم ما حرّم عليهم من الأشياء التي حرّمت عليهم بسبب ذنوبهم { وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبئث } أي المستخبئات كالحشرات والخنازير { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } الإصر الثقل ، أي يضع عنهم التكاليف الشاقة الثقيلة . وقد تقدّم بيانه في البقرة [ الآية : 286 ] .

{ والأغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي ويضع عنهم الأغلال التي كانت عليهم . الأغلال مستعارة للتكاليف الشاقة التي كانوا قد كلفوها { فالذين ءامَنُواْ بِهِ } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم { واتبعوه } فيما جاء به من الشرائع { وَعَزَّرُوهُ } أي عظموه ووقروه ، قاله الأخفش . وقيل : معناه منعوه من عدوّه ، وأصل العزر : المنع ، وقرأ الجحدريّ «وعزروه» بالتخفيف { ونصروه } أي قاموا بنصره على من يعاديه { واتبعوا النور الذى أُنزِلَ مَعَهُ } أي اتبعوا القرآن الذي أنزل عليه مع نبوّته . وقيل المعنى : واتبعوا القرآن المنزل إليه مع اتباعه بالعمل بسنته ، مما يأمر به وينهى عنه ، أو اتبعوا القرآن مصاحبين له في اتباعه ، والإشارة ب { أولئك } إلى المتصفين بهذه الأوصاف { هُمُ المفلحون } الفائزون بالخير والفلاح لا غيرهم من الأمم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } الآية . قال كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلاً ، فاختار سبعين رجلاً فبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دعوا الله أن قالوا : اللهم أعطنا مالم تعط أحداً من قبلنا ولا تعطه أحداً بعدنا ، فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة . { قَالَ } موسى { رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مّن قَبْلُ } { إِنْ هِىَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } يقول : إن هي إلا عذابك تصيب به من تشاء وتصرفه عمن تشاء .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { لميقاتنا } قال : لتمام الموعد ، وفي قوله : { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرجفة } قال : ماتوا ثم أحياهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو الشيخ ، عن أبي العالية ، في قوله { إن هي إلا فتنتك } قال : بليتك . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس { إن هي إلا فتنتك } قال : مشيئتك . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : إن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه ، إنما أخذتهم الرجفة ، لأنهم لم يرضوا بالعمل ولم ينهوا عنه .
وأخرج سعيد بن منصور ، عنه ، في قوله : { واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة } فلم يعطها موسى { قَالَ عَذَابِى أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء } إلى قوله : { المفلحون } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، في قوله : { واكتب لَنَا فِى هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة } قال : فكتب الرحمة يومئذ لهذه الأمة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طرق ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } قال تبنا إليك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، مثله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي وجزة السعدي ، وكان من أعلم الناس بالعربية قال : لا والله ما أعلمها في كلام العرب { هدنا } ؛ قيل فكيف قال " هدنا " بكسر الهاء ، يقول : مِلنا .

وأخرج عبد الرزاق ، وأحمد في الزهد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن وقتادة ، في قوله : { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } قال : وسعت رحمته في الدنيا البرّ والفاجر ، وهي يوم القيامة للذين اتقوا خاصة . وأخرج مسلم وغيره ، عن سلمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق . وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة " وأخرج نحوه أحمد ، وأبو داود ، والطبراني ، والحاكم ، والضياء المقدسي ، من حديث جندب بن عبد الله العجلي . وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي قال : لما نزلت : { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } قال إبليس : وأنا من الشيء . فنسخها الله ، فنزلت : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } إلى آخر الآية . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، قال : لما نزلت : { وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } قال إبليس : أنا من الشيء ، قال الله تعالى : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة } قالت اليهود : فنحن نتقي ونؤتي الزكاة ، قال الله : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبى الأمى } فعزلها الله عن إبليس وعن اليهود ، وجعلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن قتادة نحوه .
وأخرج البزار في مسنده ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : سأل موسى ربه مسئلة فأعطاها محمداً . قوله : { واختار موسى قَوْمَهُ } إلى قوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } فأعطى محمداً كل شيء سأل موسى ربه في هذه الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عنه ، في قوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } قال : كتبها الله لهذه الأمة . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : يتقون الشرك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن النخعي في قوله : { النبى الأمى } قال : كان لا يقرأ ولا يكتب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال : هو نبيكم صلى الله عليه وسلم كان أمياً لا يكتب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { الذى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ } قال : يجدون نعته وأمره ونبوّته مكتوباً عندهم . وأخرج ابن سعد ، والبخاري ، والبيهقي في الدلائل ، عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقلت له أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن «ياأيها النبيّ إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا تجزى بالسيئة السيئة ، ولكن تعفو وتصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، ويفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً» .

وأخرج ابن سعيد ، والدارمي في مسنده ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر ، عن عبد الله بن سلام مثله . وقد روي نحو هذا مع اختلاف في بعض الألفاظ ، وزيادة في بعض ، ونقص في بعض عن جماعة .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات } قال : الحلال { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } قال : التثقيل الذي كان في دينهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } قال : كلحم الخنزير والربا ، وما كانوا يستحلونه من المحرّمات من المآكل التي حرمها الله ، وفي قوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التى كَانَتْ عَلَيْهِمْ } قال : هو ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرّم عليهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } قال : ما غلظ على بني إسرائيل من قرض البول من جلودهم إذا أصابهم ونحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَعَزَّرُوهُ } يعني : عظموه ووقروه .

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

لما تقدّم ذكر أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم المكتوبة في التوراة والإنجيل ، أمره سبحانه أن يقول هذا القول المقتضى لعموم رسالته إلى الناس جميعاً ، لا كما كان غيره من الرسل عليهم السلام ، فإنهم كانوا يبعثون إلى قومهم خاصة ، و { جميعاً } منصوب على الحال ، أي حال كونكم جميعاً . و { الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض } إما في محل جرّ على الصفة للاسم الشريف ، أو منصوب على المدح ، أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف . وجملة { لاَ إله إِلاَّ الله } بدل من الصلة مقرر لمضمونها مبين لها ، لأن من ملك السموات والأرض وما فيهما هو الإله على الحقيقة ، وهكذا من كان يحيى ويميت هو المستحق لتفردّه بالربوبية ونفى الشركاء عنه .
والأمر بالإيمان بالله وبرسوله متفرع على ما قبله . وقد تقدّم تفسير النبيّ الأميّ . وهما وصفان لرسوله . وكذلك : { الذى يُؤْمِنُ بالله وكلماته } وصف له ، والمراد بالكلمات ما أنزله الله عليه وعلى الأنبياء من قبله أو القرآن فقط . وجملة { واتبعوه } مقررة لجملة { فَآمِنُواْ بالله } ، و { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } علة للأمر بالإيمان والاتباع .
وقد أخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، قال : بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود فقال : { قُلْ ياأيها الناس إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } . والأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى مشهورة ، فلا نطيل بذكرها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { يُؤْمِنُ بالله وكلماته } قال : آياته . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد { وكلماته } قال : عيسى .

وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)

قوله : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى } لما قص الله علينا ما وقع من السامريّ وأصحابه ، وما حصل من بني إسرائيل من التزلزل في الدين ، قص علينا سبحانه أن قوم موسى أمة مخالفة لأولئك الذين تقدّم ذكرهم ، ووصفهم بأنهم { يَهْدُونَ بالحق } أي يدعون الناس إلى الهداية حال كونهم متلبسين بالحق { وَبِهِ } أي : بالحق { يَعْدِلُونَ } بين الناس في الحكم . وقيل : هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم منهم .
قوله : { وقطعناهم اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا } الضمير يرجع إلى قوم موسى المتقدّم ذكرهم ، لا إلى هؤلاء الأمة منهم الذين يهدون بالحق وبه يعدلون ، والمعنى : صيرناهم قطعاً متفرّقة ، وميزنا بعضهم من بعض . وهذا من جملة ما قصه الله علينا من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل ، والمعنى : أنه ميز بعضهم من بعض حتى صاروا أسباطاً كل سبط معروف على انفراده لكل سبط نقيب ، كما في قوله تعالى : { وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً } [ المائدة : 12 ] وقد تقدّم ، وقوله : { اثنتى عَشْرَةَ } هو ثاني مفعولي { قطعنا } لتضمنه معنى التصيير . و { أسباطاً } تمييز له أو بدل منه . و { أُمَمًا } نعت للأسباط أو بدل منه . والأسباط جمع سبط : وهو ولد الولد ، صاروا اثنتي عشرة أمة من اثني عشر ولداً ، وأراد بالأسباط القبائل ، ولهذا أنث العدد ، كما في قول الشاعر :
وإن قريشاً كلها عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر
أراد بالبطن القبيلة . وقد تقدّم تحقيق معنى الأسباط في البقرة [ الآية : 58 ] . وروى المفضل عن عاصم أنه قرأ « قطعناهم » مخففاً ، وسماهم أمماً ، لأن كل سبط كان جماعة كثيرة العدد ، وكانوا مختلفي الآراء يؤمّ بعضهم غير ما يؤمه الآخر .
{ وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ } أي وقت استسقائهم له لما أصابهم العطش في التيه { أَنِ اضرب بّعَصَاكَ الحجر } تفسير لفعل الايحاء { فانبجست } عطف على مقدّر يدل عليه السياق ، أي فضرب فانبجست ، والانبجاس : الانفجار ، أي فانفجرت { مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا } بعدد الأسباط ، لكل سبط عين يشربون منها { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } أي : كل سبط منهم العين المختصة به التي يشرب منها . وقد تقدّم في البقرة ما فيه كفاية مغنية عن الإعادة . { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام } أي جعلناه ظللاً عليهم في التيه ، يسير بسيرهم ويقيم بإقامتهم { وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ المن والسلوى } أي : الترنجبين والسماني كما تقدّم تحقيقه في البقرة { كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم } أي : وقلنا لهم كلوا من المستلذات التي رزقناكم { وَمَا ظَلَمُونَا } بما وقع منهم من المخالفة وكفران النعم وعدم تقديرها حق قدرها { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي : كان ظلمهم مختصاً بهم مقصوراً عليهم ، لا يجاوزهم إلى غيرهم .

{ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ } أي : واذكر وقت قيل لهم هذا القول وهو { اسكنوا هذه القرية } أي : بيت المقدس أو أريحاء . وقيل غير ذلك مما تقدم بيانه { وَكُلُواْ مِنْهَا } أي : من المأكولات الموجودة فيها { حَيْثُ شِئْتُمْ } أي : في أيّ مكان شئتم من أمكنتها ، لا مانع لكم من الأكل فيه { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } قد تقدم تفسيرها في البقرة [ الآية : 58 ] { وادخلوا الباب } أي : باب القرية المتقدمة حال كونكم { سُجَّدًا } أمروا بأن يجمعوا بين قولهم { حطة } وبين الدخول ساجدين . فلا يقال كيف قدّم الأمر بالقول هنا على الدخول وأخّره في البقرة؟ وقد تقدّم بيان معنى السجود الذي أمروا به { نَغْفر لَكُمْ خطيئاتكم } جواب الأمر ، وقرىء " خَطِيتِكُمْ " ، ثم وعدهم بقوله : { سَنَزِيدُ المحسنين } أي : سنزيدهم على المغفرة للخطايا بما يتفضل به عليهم من النعم . والجملة استئنافية جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فماذا لهم بعد المغفرة؟ { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الذى قِيلَ لَهُمْ } قد تقدّم بيان ذلك في البقرة [ الآية : 59 ] { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مّنَ السماء } أي : عذاباً كائناً منها { بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } أي : بسبب ظلمهم .
قوله : { وَاسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } معطوف على عامل إذ المقدّر ، أي اذكر إذ قيل لهم واسألهم ، وهذا سؤال تقريع وتوبيخ ، والمراد من سؤال القرية : سؤال أهلها ، أي اسألهم عن هذا الحادث الذي حدث لهم فيها المخالف لما أمرهم الله به . وفي ضمن هذا السؤال فائدة جليلة ، وهي تعريف اليهود بأن ذلك مما يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن اطلاعه لا يكون إلا بإخبار له من الله سبحانه ، فيكون دليلاً على صدقه .
واختلف أهل التفسير في هذه القرية : أيّ قرية هي؟ فقيل أيلة . وقيل طبرية . وقيل مدين . وقيل إيليا . وقيل قرية من قرى ساحل الشام التي كانت حاضرة البحر ، أي التي كانت بقرب البحر . يقال كنت بحضرة الدار ، أي بقربها . والمعنى : سل يا محمد هؤلاء اليهود الموجودين عن قصة أهل القرية المذكورة . قرىء { واسألهم } وقرىء «سلهم» .
{ إِذْ يَعْدُونَ } أي وقت يعدون ، وهو ظرف لمحذوف دلّ عليه الكلام ، لأن السؤال هو عن حالهم وقصتهم وقت يعدون . وقيل : إنه ظرف ل { كانت } أو ل { حاضرة } . وقرىء «يُعِدُّون» بضم الياء وكسر العين وتشديد الدال من الإعداد للآلة . وقرأ الجمهور { يعدون } بفتح الياء وسكون العين وضم الدال مخففة ، أي يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت الذي نهوا عن الاصطياد فيه . وقرىء «يعدّون» بفتح الياء والعين وضم الدال مشدّدة بمعنى يعتدون ، أدغمت التاء في الدال . والسبت : هو اليوم المعروف وأصله السكون . يقال سبت : إذا سكن وسبت اليهود تركوا العمل في سبتهم ، والجمع أسبت ، وسبوت ، وأسبات ، وقرأ ابن السمفع في «الأسبات» على الجمع .

{ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ } ظرف ل { يعدون } . والحيتان : جمع حوت ، وأضيفت إليهم لمزيد اختصاص لهم بما كان منها على هذه الصفة من الإتيان يوم السبت دون ما عداه . و { يَوْمَ سَبْتِهِمْ } ظرف ل { تأتيهم } . وقرىء «يوم أسباتهم» و { شُرَّعًا } حال ، وهو جمع شارع ، أي ظاهرة على الماء . وقيل رافعة رؤوسها . وقيل : إنها كانت تشرع على أبوابهم كالكباش البيض . قال في الكشاف : يقال شرع علينا فلان إذا دنى منا وأشرف علينا ، وشرعت على فلان في بيته فرأيته يفعل كذا انتهى . { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي : لا يفعلون السبت ، وذلك عند خروج يوم السبت لا تأتيهم الحيتان ، كما كانت تأتيهم في يوم السبت { كذلك نَبْلُوهُم } أي : مثل ذلك البلاء العظيم نبلوهم بسبب فسقهم . والابتلاء الامتحان والاختبار .
{ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ } معطوف على { إذ يعدون } معمول لعامله ، داخل في حكمه . والأمة الجماعة ، أي قالت جماعة من صلحاء أهل القرية لآخرين ممن كان يجتهد في وعظ المتعدّين في السبت حين أيسوا من قبولهم للموعظة ، وإقلاعهم عن المعصية { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } أي : مستأمل لهم بالعقوبة { أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيدًا } بما انتهكوا من الحرمة ، وفعلوا من المعصية ، وقيل : إن الجماعة القائلة { لم تعظون قوماً } ؟ هم العصاة الفاعلون للصيد في يوم السبت ، قالوا ذلك للواعظين لهم حين وعظوهم . والمعنى : إذا علمتم أن الله مهلكنا كما تزعمون فلم تعظوننا؟ { قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } أي : قال الواعظون للجماعة القائلين لهم { لم تعظون } ، وهم طائفة من صلحاء القرية على الوجه الأوّل ، أو الفاعلين على الوجه الثاني { مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } قرأ عيسى بن عمر وطلحة بن مصرف { مَعْذِرَةً } بالنصب ، وهي قراءة حفص عن عاصم ، وقرأ الباقون بالرفع . قال الكسائي : ونصبه على وجهين : أحدهما على المصدر ، والثاني على تقدير فعلنا ذلك معذرة ، أي لأجل المعذرة . والرفع على تقدير مبتدأ : أي موعظتنا معذرة إلى الله ، حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، اللذين أوجبهما علينا ، ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية .
قال جمهور المفسرين : إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق : فرقة عصت وصادت وكانت نحو سبعين ألفاً ، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعص ، وفرقة اعتزلت ونهت ولم تعص ، فقالت الطائفة التي لم تنه ولم تعص للفرقة الناهية { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا } يريدون الفرقة العاصية { الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ } قالوا ذلك على غلبة الظنّ لما جرت به عادة الله من إهلاك العصاة أو تعذيبهم ، من دون استئصال بالهلاك ، فقالت الناهية : موعظتنا معذرة إلى الله ولعلهم يتقون . ولو كانوا فرقتين فقط ناهية غير عاصية ، وعاصية لقال : لعلكم تتقون .

قوله : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } أي : لما ترك العصاة من أهل القرية ما ذكرهم به الصالحون الناهون عن المنكر ، ترك الناسي للشيء المعرض عنه كلية الإعراض { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء } أي : الذين فعلوا النهي ، ولم يتركوه { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } وهم العصاة المعتدون في السبت { بِعَذَابِ بَئِيس } أي : شديد من بؤس الشيء يبؤس بأساً إذا اشتد ، وفيه إحدى عشرة قراءة ، للسبعة وغيرهم { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي : بسبب فسقهم ، والجار والمجرور متعلق بأخذنا { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ } أي : تجاوزوا الحد في معصية الله سبحانه تمرّداً وتكبراً { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً } أي : أمرناهم أمراً كونياً لا أمراً قولياً ، أي مسخناهم قردة . قيل : إنه سبحانه عذبهم أوّلاً بسبب المعصية ، فلما لم يقلعوا مسخهم قردة . وقيل : إن قوله : { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَمَّا نُهُواْ عَنْهُ } تكرير لقوله : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ } للتأكيد والتقرير ، وأن المسخ هو العذاب البئيس ، والخاسىء الصاغر الذليل أو المباعد المطرود ، يقال خسأته فخسىء ، أي باعدته فتباعد .
واعلم أن ظاهر النظم القرآني هو أنه لم ينجح من العذاب إلا الفرقة الناهية التي لم تعص لقوله : { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السوء } وأنه لم يعذب بالمسخ إلا الطائفة العاصية لقوله : { فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين } فإن كانت الطوائف منهم ثلاثاً كما تقدّم ، فالطائفة التي لم تنه ولم تعص يحتمل أنها ممسوخة مع الطائفة العاصية؛ لأنها قد ظلمت نفسها بالسكوت عن النهي ، وعتت عما نهاها الله عنه من ترك النهي عن المنكر . ويحتمل أنها لم تمسخ ، لأنها وإن كانت ظالمة لنفسها عاتية عن أمر ربها ونهيه ، لكنها لم تظلم نفسها بهذه المعصية الخاصة ، وهي صيد الحوت في يوم السبت ، ولا عتت عن نهيه لها عن الصيد . وأما إذا كانت الطائفة الثالثة ناهية كالطائفة الثانية ، وإنما جعلت طائفة مستقلة لكونها قد جرت المقاولة بينها وبين الطائفة الأخرى من الناهين المعتزلين ، فهما في الحقيقة طائفة واحدة لاجتماعهما في النهي والاعتزال والنجاة من المسخ .
وقد أخرج الفريابي ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : قال موسى : يا ربّ أجد أمة أناجيلهم في قلوبهم ، قال : تلك أمة تكون بعدك أمة أحمد . قال : يا ربّ أجد أمة يصلون الخمس تكون كفارات لما بينهنّ ، قال : تلك أمة تكون بعدك : أمة أحمد . قال : يا ربّ أجد أمة يعطون صدقات أموالهم ثم ترجع فيهم ، فيأكلون ، قال : تلك أمة بعدك : أمة أحمد . قال : يا ربّ اجعلني من أمة أحمد . فأنزل الله كهيئة المرضاة لموسى { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ } الآية ، قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم ، وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً ، تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا ، وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ، ففتح الله لهم نفقاً في الأرض ، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا .

قال ابن جريج : قال ابن عباس : فذلك قوله : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الأرض فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [ الإسراء : 104 ] ووعد الآخرة عيسى ابن مريم . قال ابن عباس ساروا في السرب سنة ونصفاً .
أقول : ومثل هذا الخبر العجيب والنبأ الغريب محتاج إلى تصحيح النقل .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : افترقت بنو إسرائيل بعد موسى إحدى وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة . وافترقت النصارى بعد عيسى على اثنتين وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة ، ولتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة ، فأما اليهود فإن الله يقول : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } فهذه التي تنجو . وأما النصارى فإن الله يقول : { مّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } [ المائدة : 66 ] فهذه التي تنجو . وأما نحن فيقول : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 181 ] فهذه التي تنجو من هذه الأمة . وقد قدّمنا أن زيادة « كلها في النار » لم تصح لا مرفوعة ولا موقوفة .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فانبجست } قال : فانفرجت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة قال : دخلت على ابن عباس ، وهو يقرأ هذه الآية : { وَاسأَلْهُمْ عَنِ القرية التى كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } قال : يا عكرمة هل تدري أيّ قرية هذه؟ قلت لا ، قال : هي أيلة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الزهري قال : هي طبرية . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قله : { إِذْ يَعْدُونَ فِى السبت } قال : يظلمون . وأخرج ابن جرير ، عنه ، في قوله : { شُرَّعًا } يقول : من كل مكان . وأخرج ابن جرير ، عنه ، أيضاً قال : ظاهرة على الماء . وأخرج ابن المنذر ، عنه ، قال : واردة .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، في الآية قال : هي قرية على شاطىء البحر بين مصر والمدينة ، يقال لها أيلة ، فحرّم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم ، فكانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها ، فمكثوا كذلك ما شاء الله ، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم ، فنهتهم طائفة فلم يزدادوا إلا غياً ، فقالت طائفة من النهاة يعلمون أن هؤلاء قوم حق عليهم العذاب { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } وكانوا أشدّ غضباً من الطائفة الأخرى ، وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا { لِمَ تَعِظُونَ } والذين قالوا : { مَعْذِرَةً إلى رَبّكُمْ } وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان ، فجعلهم قردة .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه ، أنهم ثلاث فرق : فرقة العصاة ، وفرقة الناهون وفرقة القائلين { لم تعظون } ؛ فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم ، فأصبح الذين نهوا ذات غداة في مجالسهم يتفقدون الناس لا يرونهم ، وقد باتوا من ليلتهم ، وغلقوا عليهم دورهم ، فجعلوا يقولون إن للناس لشأناً فانظروا ما شأنهم؟ فاطلعوا في دورهم ، فإذا القوم قد مسخوا يعرفون الرجل بعينه ، وإنه لقرد ، والمرأة بعينها وإنها لقردة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فذكر القصة ، وفي آخرها أنه قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا . ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها . قال عكرمة : فقلت جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم . وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } قال فأمر بي فكسيت ثوبين غليظين .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، أيضاً قال : نجا الناهون وهلك الفاعلون ، ولا أدري ما صنع بالساكتين . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عنه قال : والله لأن أكون علمت أن القوم الذين قالوا { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا } نجوا مع الذين نهوا عن السوء أحبّ إلي مما عدل به . وفي لفظ : من حمر النعم ، ولكن أخاف أن تكون العقوبة نزلت بهم جميعاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة ، قال : قال ابن عباس : ما أدري أنجا الذين قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } أم لا؟ قال : فما زلت أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا فكساني حلة . وأخرج عبد بن حميد ، عن ليث بن أبي سليم ، قال : مسخوا حجارة الذين قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { بِعَذَابِ بَئِيس } قال : أليم وجيع .

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

قوله : { وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } معطوف على ما قبله ، أي واسألهم وقت تأذن ربك ، وتأذن تفعل من الأيذان ، وهو الإعلام . قال أبو علي الفارسي : آذن بالمد أعلم ، وأذّن بالتشديد نادى . وقال قوم : كلاهما بمعنى أعلم ، كما يقال أيقن وتيقن ، والمعنى في الآية : واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } قيل : وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله ، وشهد الله ، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم ، حيث قال : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي : ليرسلنّ عليهم ، ويسلطن ، كقوله : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } [ الإسراء : 5 ] { إلى يَوْمِ القيامة } غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم ، وقد كانوا أقمأهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل ، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية ، في كل قطر من أقطار الأرض ، في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار ، يسلمون الجزية بحقن دمائهم ، ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار . ومعنى { يَسُومُهُمْ } : يذيقهم . وقد تقدّم بيان أصل معناه ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير الغفران والرحمة .
{ وقطعناهم فِي الأرض } أي : فرّقناهم في جوانبها ، أو شتتنا أمرهم ، فلم تجتمع لهم كلمة ، و { أُمَمًا } منتصب على الحال ، أو مفعول ثان لقطعنا ، على تضمينه معنى صيرنا ، وجملة { مّنْهُمُ الصالحون } بدل من { أمماً } ، قيل : هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدّل . وقيل : هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدّم بيانه قبل هذا { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } أي : دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح ، ومحل { دُونِ ذَلِكَ } الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : ومنهم أناس دون ذلك ، والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن ، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به . قال النحاس { دُونِ } منصوب على الظرف ، ولا نعلم أحداً رفعه { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } أي : امتحناهم بالخير والشرّ رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي .
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } المراد بهم : أولاد الذين قطعهم الله في الأرض . قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجمع سواء . والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره . وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح الصالح ، وبالسكون الطالح . قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون ، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، ومنه قول حسان ابن ثابت :

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لأوّلنا في طاعة الله تابع
{ وَرِثُواْ الكتاب } أي : التوراة من أسلافهم يقرءونها ولا يعملون بها { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم وقوّة نهمتهم ، والأدنى : مأخوذ من الدنوّ ، وهو القرب ، أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى ، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء ، وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله ، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة ، وكتمهم لما يكتمونه منها . وقيل : إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط ، أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط .
{ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي : يعللون أنفسهم بالمغفرة ، مع تماديهم في الضلالة ، وعدم رجوعهم إلى الحق . وجملة { يَأْخُذُونَ } يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم ، أو في محل نصب على الحال . وجملة { يَقُولُونَ } معطوفة عليها ، والمراد بهذا الكلام : التقريع والتوبيخ لهم ، وجملة { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } في محل نصب على الحال ، أي يتعللون بالمغفرة ، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة ، ولا خائفين من التبعة . وقيل : الضمير في { يَأْتِهِمْ } ليهود المدينة ، أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم ، أخذوه كما أخذه أسلافهم .
{ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب } أي : التوراة { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقّ } والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وجملة { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } معطوفة على { يُؤْخَذْ } على المعنى ، وقيل : على { وَرِثُواْ الكتاب } ، والأولى : أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد . والمعنى : أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب ، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه ، فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل ، وذلك أشدّ ذنباً وأعظم جرماً . وقيل : معنى { َدَرَسُوا مَا فِيهِ } أي : محوه بترك العمل به والفهم له ، من قولهم درست الريح الآثار : إذا محتها . { والدار الآخرة خَيْرٌ } من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الله ، ويجتنبون معاصيه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلمون بهذا وتفهمونه ، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره .
قوله : { والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } قرأ الجمهور { يمسكون } بالتشديد من مسك وتمسك ، أي استمسك بالكتاب ، وهو التوراة . وقرأ أبو العالية ، وعاصم ، في رواية أبي بكر ، بالتخفيف من أمسك يمسك . وروي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ «مسكوا» والمعنى : أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ، ولا يعملون بما فيه ، مع كونهم قد درسوه وعرفوه ، وهم من تقدّم ذكره . وطائفة يتمسكون بالكتاب ، أي التوراة ويعملون بما فيه ، ويرجعون إليه في أمر دينهم ، فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله ، والموصول مبتدأ .

و { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } خبره ، أي لا نضيع أجر المصلحين منهم ، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة ، لأنها رأس العبادات وأعظمها ، فكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر . وقيل لأنها تقام في أوقات مخصوصة ، والتمسك بالكتاب مستمرّ ، فذكرت لهذا وفيه نظر . فإن كل عبادة في الغالب تختصّ بوقت معين ، ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على الموصول الذي قبله ، وهو { للذين يتقون } ، وتكون { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } جملة معترضة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { يَسُومُهُمْ سُوء العذاب } قال محمد وأمته إلى يوم القيامة وسوء العذاب : الجزية . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، قال { سُوء العذاب } الخراج . وفي قوله : { وقطعناهم } قال : هم اليهود بسطهم الله في الأرض ، فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، في قوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } قال : على اليهود والنصارى { إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سُوء العذاب } فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يأخذون منهم الجزية ، وهم صاغرون { وقطعناهم فِي الأرض أُمَمًا } قال : يهود { مّنْهُمُ الصالحون } وهم مسلمة أهل الكتاب { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } قال : اليهود { وبلوناهم بالحسنات } قال : الرخاء والعافية { والسيئات } قال : البلاء والعقوبة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } بالخصب والجدب .
وأخرج أبو الشيخ ، عنه ، أنه سئل عن هذه الآية { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } قال : أقوام يقبلون على الدنيا ، فيأكلونها ، ويتبعون رخص القرآن { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } قال : النصارى { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } قال : ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه ، ويتمنون المغفرة ، وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية يقول : يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } .
وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي زيد ، في قوله : { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } قال : علموا ما في الكتاب ، لم يأتوه بجهالة .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، في قوله : { والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } قال : هي لأهل الإيمان منهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : { والذين يُمَسّكُونَ بالكتاب } قال : من اليهود والنصارى .

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

قوله : { وَإِذْ } منصوب بفعل مقدر معطوف على ما قبله ، أي واسألهم إذ نتقنا الجبل ، أي رفعنا الجبل { فَوْقَهُمُ } و { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } أي : كأنه لارتفاعه سحابة تظلهم ، والظلة : اسم لكل ما أظلّ ، وقرىء «طلة» بالطاء من أطلّ عليه إذا أشرف { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي : ساقط عليهم . قيل : الظنّ هنا بمعنى العلم . وقيل : هو على بابه { خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } هو على تقدير القول ، أي وقلنا لهم خذوا ، والقوّة : الجدّ والعزيمة ، أي أخذاً كائناً بقوّة { واذكروا مَا فِيهِ } من الأحكام التي شرعها الله لكم ، ولا تنسوه { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } رجاء أن تتقوا ما نهيتهم عنه ، وتعملوا بما أمرتم به ، وقد تقدّم تفسير " ما " هنا في البقرة مستوفى ، فلا نعده .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل } يقول : رفعناه ، وهو قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور } [ النساء : 154 ] فقال : { خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } وإلا أرسلته عليكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، في الآية قال : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم ، فقيل لهم : { خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } فكانوا إذا نظروا إلى الجبل قالوا سمعنا وأطعنا ، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا سمعنا وعصينا . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، أيضاً قال : إني لأعلم لم تسجد اليهود على حرف ، قال الله { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } قال : لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به ، فسجدوا وهم ينظرون إليه مخافة أن يسقط عليهم ، وكانت سجدة رضيها الله سبحانه فاتخذوها سنة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل } قال : انتزعه الله من أصله ، ثم جعله فوق رؤوسهم ، ثم قال : لتأخذنّ أمري أو لأرمينكم به .

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

قوله : { وَإِذْ } منصوب بفعل مقدّر معطوف على ما قبله كما تقدّم . قوله : { مِن بَنِى ءادَمَ } استدلّ بهذا على أن المراد بالمأخوذين هنا : هم ذرية بني آدم ، أخرجهم الله من أصلابهم نسلاً بعد نسل .
وقد ذهب إلى هذا جماعة من المفسرين ، قالوا : ومعنى : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } دلهم بخلقه على أنه خالقهم ، فقامت هذه الدلالة مقام الإِشهاد ، فتكون هذه الآية من باب التمثيل ، كما في قوله تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] . وقيل المعنى : أن الله سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجسام ، وأنه جعل فيها من المعرفة ما فهمت به خطابه سبحانه . وقيل المراد ببني آدم هنا : آدم نفسه ، كما وقع في غير هذا الموضع . والمعنى أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذريته ، وأخذ عليهم العهد ، وهؤلاء هم عالم الذرّ ، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه ، ولا المصير إلى غيره ، لثبوته مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وموقوفاً على غيره من الصحابة ، ولا ملجىء للمصير إلى المجاز ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل . وسنذكر آخر هذا البحث إن شاء الله بعض ما ورد في ذلك . قوله : { مِن ظُهُورِهِمْ } هو بدل من بني آدم ، بدل بعض من كل . وقيل بدل اشتمال قوله : { ذرياتهم } ، قرأ الكوفيون وابن كثير «ذريتهم» بالتوحيد ، وهي تقع على الواحد والجمع . وقرأ الباقون «ذرياتهم» بالجمع { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } أي : أشهد كل واحد منهم { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ } أي : قائلاً ألست بربكم ، فهو على إرادة القول { قَالُواْ بلى شَهِدْنَا } أي : على أنفسنا بأنك ربنا .
قوله : { أَن تَقُولُواْ } ، قرأ أبو عمرو بالياء التحتية في هذا وفي قوله : { أَوْ يَقُولُواْ } على الغيبة كما كان فيما قبله على الغيبة ، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب . والمعنى : كراهة أن يقولوا ، أو لئلا يقولوا ، أي : فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد ، كراهة أن يقولوا { يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافلين } أي : عن كون الله ربنا وحده لا شريك له .
قوله : { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ ءابَاؤُنَا مِن قَبْلُ } معطوف على { تَقُولُواْ } الأوّل أي : فعلنا ذلك كراهة أن تعتذروا بالغفلة ، أو تنسبوا الشرك إلى آبائكم دونكم ، و " أَوْ " لمنع الخلوّ دون الجمع ، فقد يعتذرون بمجموع الأمرين { مِن قَبْلُ } أي : من قبل زماننا { وَكُنَّا ذُرّيَّةً مّن بَعْدِهِمْ } لا نهتدي إلى الحق ، ولا نعرف الصواب { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون } من آبائنا ، ولا ذنب لنا لجهلنا وعجزنا عن النظر ، واقتفائنا آثار سلفنا ، بين الله سبحانه في هذه الحكمة التي لأجلها أخرجهم من ظهر آدم ، وأشهدهم على أنفسهم ، وأنه فعل ذلك بهم لئلا يقولوا هذه المقالة يوم القيامة ، ويعتلوا بهذه العلة الباطلة ، ويعتذروا بهذه المعذرة الساقطة { وكذلك } أي : ومثل ذلك التفصيل { نُفَصّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } إلى الحق ، ويتركون ما هم عليه من الباطل .

وقد أخرج مالك في الموطأ ، وأحمد في المسند ، وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان في صحيحه ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والضياء في المختارة : أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ } الآية فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عنها فقال : « إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون . ثم مسح ظهره ، فاستخرج منه ذرية ، فقال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون » ، فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال : « إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله النار » وأخرج أحمد ، وابن جرير ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان ، يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم فقال : { أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَا } إلى قوله : { المبطلون } » وإسناده لا مطعن فيه . وقد أخرجه ابن أبي حاتم موقوفاً على ابن عباس .
وأخرج ابن جرير ، وابن منده في كتاب « الردّ على الجهمية » عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم } ، قال : أخذهم من ظهره كما يؤخذ المشط من الرأس ، فقال لهم : ألست بربكم؟ قالوا بلى ، قالت الملائكة : { شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } » وفي إسناده أحمد بن أبي طبية أبو محمد الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد ، وأخرج له النسائي في سننه . وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه . وقال ابن عديّ : حدث بأحاديث كثيرة غرائب . وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن عبد الله ابن عمر ، وهؤلاء أئمة ثقات .
وأخرج عبد بن حميد ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« لما خلق الله الخلق ، وقضى القضية ، وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء ، فأخذ أهل اليمين بيمينه ، وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين ، فقال : يا أصحاب اليمين ، فاستجابوا له فقالوا : لبيك ربنا وسعديك ، قال : ألست بربكم قالوا بلى » الحديث . والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، بعضها مقيد بتفسير هذه الآية ، وبعضها مطلق يشتمل على ذكر إخراج ذرية آدم من ظهره ، وأخذ العهد عليهم ، كما في حديث أنس مرفوعاً في الصحيحين وغيرهما .
وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذرّ ، وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم فهي كثيرة ، منها عن ابن عباس ، عند عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } الآية قال : خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنه ربه ، وكتب أجله ورزقه ، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر ، فأخذ مواثيقهم أنه ربهم ، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم . وأخرج نحوه عنه ابن جرير ، وابن أبي حاتم . وأخرج نحوه عنه أيضاً ابن جرير ، وابن المنذر . وأخرج نحوه عنه عبد الرزاق وابن المنذر . وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن منده . وهذا المعنى مروي عنه من طرق كثيرة غير هذه موقوفة عليه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عبد الله بن عمر في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } الآية قال : أخذهم كما يأخذ المشط من الرأس . وأخرج ابن عبد البرّ في التمهيد عن ابن مسعود ، وناس من الصحابة في تفسير الآية نحوه .
وأخرج عبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن منده ، وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات ، والضياء في المختارة ، وابن عساكر في تاريخه ، عن أبيّ بن كعب في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } الآية قال : جمعهم جميعاً فجعلهم أرواحاً في صورهم ، ثم استنطقهم فتكلموا ، ثم أخذ عليهم العهد والميثاق ، ثم أشهدهم على أنفسهم .
وقد روي عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره ، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل .

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

قوله : { واتل } معطوف على الأفعال المقدّرة في القصص السابقة وإيراد هذه القصة منه سبحانه ، وتذكير أهل الكتاب بها ، لأنها كانت مذكورة عندهم في التوراة .
وقد اختلف في هذا الذي أوتي الآيات { فانسلخ مِنْهَا } فقيل : هو بلعم بن باعوراء ، وكان قد حفظ بعض الكتب المنزلة . وقيل : كان قد أوتي النبوّة ، وكان مجاب الدعوة ، بعثه الله إلى مدين يدعوهم إلى الإيمان ، فأعطوه الأعطية الواسعة ، فاتبع دينهم ، وترك ما بعث به ، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل لقتال الجبارين ، سأل الجبارون بلعم بن باعوراء أن يدعو على موسى ، فقام ليدعو عليه فتحوّل لسانه بالدعاء على أصحابه ، فقيل له في ذلك فقال : لا أقدر على أكثر مما تسمعون . واندلع لسانه على صدره ، فقال قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة ، وسأمكر لكم ، وإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم ، فإن الله يبغض الزنا ، فإن وقعوا فيه هلكوا ، فوقع بنو إسرائيل في الزنا ، فأرسل الله عليهم الطاعون ، فمات منهم سبعون ألفاً . وقيل : إن هذا الرجل اسمه باعم ، وهو من بني إسرائيل . وقيل المراد به أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولاً في ذلك ، فلما أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به . وقيل هو أبو عامر بن صيفي وكان يلبس المسوح في الجاهلية ، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : نزلت في قريش آتاهم الله آياته التي أنزلها على محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا بها . وقيل : نزلت في اليهودوالنصارى ، انتظروا خروج محمد صلى الله عليه وسلم فكفروا به .
قوله : { فانسلخ مِنْهَا } أي : من هذه الآيات التي أوتيها ، كما تنسلخ الشاة عن جلدها ، فلم يبق له بها اتصال { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } عند انسلاخه عن الآيات ، أي لحقه فأدركه ، وصار قريناً له ، أو فأتبعه خطواته ، وقرىء «فاتبعه» بالتشديد بمعنى تبعه { فَكَانَ مِنَ الغاوين } المتمكنين في الغواية وهم الكفار .
قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا } الضمير يعود إلى الذي أوتي الآيات ، والمعنى : لو شئنا رفعه : بما آتيناه من الآيات لرفعناه بها ، أي بسببها ، ولكن لم نشأ ذلك لانسلاخه عنها ، وتركه للعمل بها . وقيل المعنى : ولو شئنا لأمتناه قبل أن يعصي فرفعناه إلى الجنة بها ، أي بالعمل بها { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض } أصل الإخلاد : اللزوم ، يقال أخلد فلان بالمكان إذا قام به ولزمه ، والمعنى هنا : أنه مال إلى الدنيا ورغب فيها ، وآثرها على الآخرة { واتبع هَوَاهُ } أي : اتبع ما يهواه ، وترك العمل بما يقتضيه العلم الذي علمه الله ، وهو حطام الدنيا .

وقيل : كان هواه مع الكفار . وقيل : اتبع رضا زوجته ، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله .
قوله : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب } أي : فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطاً إلى أسفل رتبة ، مشابهاً لأخس الحيوانات في الدناءة مماثلاً له في أقبح أوصافه ، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد الإنسان له وتركه . فهو لاهث سواء زجر أو ترك ، طرد أو لم يطرد ، شدّ عليه أو لم يشد عليه ، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء ، وجملة { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } في محل نصب على الحال ، أي مثله كمثل الكلب حال كونه متصفاً بهذه الصفة ، والمعنى : أن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوى عن المعصية في جميع أحواله ، سواء وعظه الواعظ ، وذكره المذكر ، وزجره الزاجر ، أو لم يقع شيء من ذلك .
قال القتيبي : كل شيء يلهث ، فإنما يلهث من إعياء أو عطش ، إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال ، وحال الراحة ، وحال المرض ، وحال الصحة ، وحال الري ، وحال العطش . فضربه الله مثلاً لمن كذب بآياته؛ فقال : إن وعظته ضلّ ، وإن تركته ضلّ ، فهو كالكلب إن تركته لهث ، وإن طردته لهث ، كقوله تعالى : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } [ الأعراف : 193 ] واللهث : إخراج اللسان لتعب أو عطش أو غير ذلك . قال الجوهري : لهث الكلب بالفتح يلهث لهثاً ولهاثاً بالضم إذا أخرج لسانه من التعب أو العطش ، وكذلك الرجل إذا أعيا . قيل معنى الآية : أنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هارباً ، وإن تركته شدّ عليك ونبح ، فيتعب نفسه مقبلاً عليك ومديراً عنك ، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان .
والإشارة بقوله { ذلك } إلى ما تقدّم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة . وهو مبتدأ وخبره { مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } أي : ذلك المثل الخسيس مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود ، بعد أن علموا بها وعرفوها ، فحرفوا وبدّلوا ، وكتموا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبوا بها { فاقصص القصص } أي فاقصص عليهم هذا القصص الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن الآيات ، فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين تقص عليهم { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } في ذلك ويعملون فيه أفهامهم ، فينزجرون عن الضلال ، ويقبلون على الصواب .
قوله : { سَاء مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } هذه الجملة متضمنة لبيان حال هؤلاء القوم البالغة في القبح إلى الغاية ، يقال ساء الشيء قبح ، فهو لازم ، وساءه يسوؤه مساءة : فهو متعد وهو من أفعال الذم : كبئس ، وفاعله ضمير مستتر فيه ، و { مثلاً } تمييز مفسر له ، والمخصوص بالذم هو { الذين كذبوا بآياتنا } ، ولا بدّ من تقدير مضاف محذوف لأجل المطابقة ، أي : ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا .

وقال الأخفش : جعل المثل القوم مجازاً ، والقوم مرفوع بالابتداء أو على إضمار مبتدأ ، التقدير : ساء المثل مثلاً هو مثل القوم ، كذا قال . وقدره أبو علي الفارسي : ساء مثلاً مثل القوم كما قدّمنا . وقرأ الجحدري والأعمش « وَسَاء مَثَلُ القوم » .
قوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } أي : ما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم ، لا يتعداها ظلمهم إلى غيرها ولا يتجاوزها . والجملة معطوفة على التي قبلها على معنى أنهم جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدى } لما أمر به وشرعه لعباده { وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } الكاملون في الخسران ، من هداه فلا مضلّ له ، ومن أضله فلا هادي له ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .
وقد أخرج الفريابي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود ، في قوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا } قال : هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن آبر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، من طرق عن ابن عباس قال : هو بلعم بن باعوراء . وفي لفظ : بلعام بن باعر الذي أوتي الاسم كان في بني إسرائيل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذى ءاتيناه ءاياتنا } قال : هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعم ، تعلم اسم الله الأكبر ، فلما نزل بهم موسى أتاه بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يردّ عنا موسى ومن معه ، قال : إني إن دعوت الله أن يردّ موسى ومن معه مضت دنياي وآخرتي ، فلم يزالوا به حتى دعا الله فسلخ ما كان فيه . وفي قوله : { إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } قال : إن حمل الحكمة لم يحملها ، وإن ترك لم يهتد لخير ، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن يطرد لهث .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، في الآية قال : هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها واحدة ، قال : فلك واحدة فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا الله فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، وأرادت شيئاً آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان ، فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردّها إلى الحال التي كانت عليه ، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث وسميت البسوس .

وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عبد الله بن عمرو ، في الآية : قال : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي ، وفي لفظ : نزلت في صاحبكم أمية بن أبي الصلت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عنه نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن الشعبي في هذه الآية قال : قال ابن عباس هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء ، وكانت الأنصار تقول : هو ابن الراهب الذي بنى له مسجد الشقاق . وكانت ثقيف تقول : هو أمية بن أبي الصلت . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : هو صيفي بن الراهب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه ، في قوله : { فانسلخ مِنْهَا } قال : نزع منه العلم ، وفي قوله : { وَلَوْ شِئْنَا لرفعناه بِهَا } قال : رفعه الله بعلمه . وأخرج مسلم ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يحمد الله ويثنى عليه بما هو أهله ، ثم يقول : " من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكل محدث بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار» ثم يقول : «بعثت أنا والساعة كهاتين " .

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي خلقنا . وقد تقدّم بيان أصل معناه مستوفى ، وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، { لِجَهَنَّمَ } أي : للتعذيب بها { كَثِيراً } أي خلقاً كثيراً { مّنَ الجن والإنس } أي من طائفتي الجنّ والإنس ، جعلهم سبحانه للنار بِعَدْ لِه ، وبعمل أهلها يعملون . وقد علم ما هم عاملون قبل كونهم ، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، ثم وصف هؤلاء فقال : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } كما يفقه غيرهم بعقولهم . وجملة { لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } في محل رفع على أنها صفة لقلوب . وجملة { لَهُمْ قُلُوبٌ } في محل نصب صفة ل { كثيراً } جعل سبحانه قلوبهم لما كانت غير فاقهة لما فيه نفعهم وإرشادهم ، غير فاقهة مطلقاً ، وإن كانت تفقه في غير ما فيه النفع والرشاد فهو كالعدم ، وهكذا معنى { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا } فإن الذي انتقى من الأعين هو إبصار ما فيه الهداية بالتفكر والاعتبار ، وإن كانت مبصرة في غير ذلك ، والذي انتقى من الآذان هو سماع المواعظ النافعة ، والشرائع التي اشتملت عليها الكتب المنزلة . وما جاءت به رسل الله ، وإن كانوا يسمعون غير ذلك . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى هؤلاء المتصفين بهذه الأوصاف كالأنعام في انتفاء انتفاعهم بهذه المشاعر ، ثم حكم عليهم بأنهم أضلّ منها ، لأنها تدرك بهذه الأمور ما ينفعها ويضرّها ، فينتفع بما ينفع ، وتجتنب ما يضرّ ، وهؤلاء لا يميزون بين ما ينفع وما يضرّ باعتبار ما طلبه الله منهم وكلفهم به ، ثم حكم عليهم بالغفلة الكاملة لما هم عليه من عدم التمييز الذي هو من شأن من له عقل وبصر وسمع .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } قال : خلقنا . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في الآية قال خلقنا لجهنم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن النجار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن الله لما ذرأ لجهنم من ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم » وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } قال : لقد خلقنا لجهنم { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } قال : لا يفقهون شيئاً من أمور الآخرة { وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسمَعُونَ بِهَا } الهدى { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } الحق ، ثم جعلهم كالأنعام ، ثم جعلهم شراً من الأنعام ، فقال : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ثم أخبر أنهم الغافلون .

وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

هذه الآية مشتملة على الإخبار من الله سبحانه بماله من الأسماء ، على الجملة دون التفصيل ، والحسنى تأنيث الأحسن ، أي التي هي أحسن الأسماء لدلالتها على أحسن مسمى وأشرف مدلول ، ثم أمرهم بأن يدعوه بها عند الحاجة ، فإنه إذا دعي بأحسن أسمائه كان ذلك من أسباب الإجابة ، وقد ثبت في الصحيح : " إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة " وسيأتي ، ويأتى أيضاً بيان عددها ، آخر البحث إن شاء الله .
قوله : { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } الإلحاد : الميل وترك القصد . يقال لحد الرجل في الدين وألحد : إذا مال ، ومنه اللحد في القبر ، لأنه في ناحية ، وقرىء «يلحدون» وهما لغتان ، والإلحاد في أسمائه سبحانه يكون على ثلاثة أوجه ، إما بالتغيير كما فعله المشركون ، فإنهم أخذوا اسم اللات من الله ، والعزّى من العزيز ، ومناة من المنان؛ أو بالزيادة عليها بأن يخترعوا أسماء من عندهم لم يأذن الله بها ، أو بالنقصان منها بأن يدعوه ببعضها دون بعض . ومعنى { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ } أتركوهم ولا تحاجوهم ، ولا تعرضوا لهم ، وعلى هذا المعنى فالآية منسوخة بآيات القتال ، وقيل معناه الوعيد كقوله تعالى : { ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } [ المدثر : 11 ] ، وقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } [ الحجر : 3 ] وهذا أولى لقوله : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فإنه وعيد لهم بنزول العقوبة ، وتحذير للمسلمين أن يفعلوا كفعلهم . وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين ، أن هذه الآية نزلت في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته يا رحمن يا رحيم ، فقال رجل من المشركين أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون رباً واحداً فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ حكى ذلك القرطبي .
وقد أخرج أحمد ، والبخاري ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، وأبو عوانة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن منده ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعة وتسعين إسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة إنه وتريحب الوتر " وفي لفظ ابن مردويه وأبي نعيم «من دعا بها استجاب الله دعاءه» وزاد الترمذي في سننه بعد قوله " يحبّ الوتر " «هو الله الذي لا إله إلا هو الرّحمن الرّحيم ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصوّر ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الوليّ ، الحميد ، المحصى ، المبدىء ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخر ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالى ، البرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور» .

هكذا أخرج الترمذي هذه الزيادة عن الجوزجاني ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة مرفوعة وقال : هذا حديث غريب . وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ، ولا يعلم في كثير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث . ورواه ابن حبان في صحيحه ، وابن خزيمة ، والحاكم من طريق صفوان بإسناده السابق . ورواه ابن ماجه في سننه من طريق أخرى ، عن موسى ابن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة مرفوعاً ، فسرد الأسماء المتقدّمة بزيادة ونقصان .
قال ابن كثير في تفسيره والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه . وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم ، وعبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك ، أي أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد ، وسفيان بن عيينة ، وأبي زيد اللغوي .
قال : ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين ، بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون ، عن فضيل ابن مرزوق ، عن أبي سلمة الجهنى ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما أصاب أحداً قط همّ ولا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك وأمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همه وحزنه ، وأبدله مكانه فرجاً » فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ فقال : « بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها » وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان في صحيحه بمثله انتهى . وأخرجه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات .
قال ابن حزم : جاءت في إحصائها ، يعني الأسماء الحسنى أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلاً . وقد أخرجها بهذا العدد الذي أخرجه الترمذي ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، عن ابن عباس ، وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكراه ، ولا أدري كيف إسناده .
وأخرج ابن أبي الدنيا ، والطبراني كلاهما في الدعاء ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن أبي هريرة : إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة : أسأل الله الرحمن ، الرحيم ، الإله ، الربّ ، الملك ، القدّوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصوّر ، الحليم ، العليم ، السميع ، البصير ، الحي ، القيوم ، الواسع ، اللطيف ، الخبير ، الحنان ، المنان ، البديع ، الغفور ، الودود ، الشكور ، المجيد ، المبدىء ، المعيد ، النور ، البارىء - وفي لفظ : القائم - الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، العفوّ ، الغفار ، الوهاب ، الفرد - وفي لفظ : القادر - الأحد ، الصمد ، الوكيل ، الكافي ، الباقي ، المغيث ، الدائم ، المتعالي ، ذا الجلال والإكرام ، المولى ، البصير ، الحق ، المتين ، الوارث ، المنير ، الباعث ، القدير - وفي لفظ : المجيب - المحيي ، المميت الحميد - وفي لفظ : الجميل - الصادق ، الحفيظ ، المحيط ، الكبير ، القريب ، الرقيب ، الفتاح ، التواب ، القديم ، الوتر ، الفاطر ، الرزاق ، العلام ، العلي ، العظيم ، الغني ، الملك ، المقتدر ، الأكرم ، الرؤوف ، المدبر ، المالك ، القاهر ، الهادي ، الشاكر ، الكريم ، الرفيع ، الشهيد ، الواحد ، ذا الطول ، ذا المعارج ، ذا الفضل ، الخلاق ، الكفيل ، الجليل .

وأخرج أبو نعيم عن محمد بن جعفر قال : سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة؟ فقال : هي في القرآن ، ففي الفاتحة خمسة أسماء : يا الله ، يا ربّ ، يا رحمن ، يا رحيم ، يا ملك . وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً : يا محيط ، يا قدير ، يا عليم ، يا حكيم ، يا علي ، يا عظيم ، يا تواب ، يا بصير ، يا ولي ، يا واسع ، يا كافي ، يا رؤوف ، يا بديع ، يا شاكر ، يا واحد ، يا سميع ، يا قابض ، يا باسط ، يا حيّ ، يا قيوم ، يا غني ، يا حميد ، يا غفور ، يا حليم ، يا إله ، يا قريب ، يا مجيب ، يا عزيز ، يا نصير ، يا قوي ، يا شديد ، يا سريع ، يا خبير . وفي آل عمران : يا وهاب ، يا قائم ، يا صادق ، يا باعث ، يا منعم ، يا متفضل . وفي النساء : يا رقيب ، يا حسيب ، يا شهيد ، يا مقيت ، يا وكيل ، يا عليّ ، يا كبير . وفي الأنعام : يا فاطر ، يا قاهر ، يا لطيف ، يا برهان . وفي الأعراف : يا محيي ، يا مميت . وفي الأنفال : يا نعم المولى ، ويا نعم النصير ، وفي هود : يا حفيظ ، يا مجيد ، يا ودود ، يا فعال لما تريد . وفي الرعد : يا كبير ، يا متعالي . وفي إبراهيم : يا منان ، يا وارث . وفي الحجر : يا خلاق . وفي مريم : يا فرد . وفي طه : يا غفار . وفي قد أفلح : يا كريم . وفي النور : يا حق ، يا مبين . وفي الفرقان : يا هادي . وفي سبأ : يا فتاح . وفي الزمر : يا عالم . وفي غافر : يا قابل التوب ، ياذا الطول ، يا رفيع . وفي الذاريات : يا رزاق ، ياذا القوة ، يا متين . وفي الطور : يا برّ . وفي اقتربت : يا مقتدر ، يا مليك . وفي الرحمن : ياذا الجلال والإكرام ، يا رب المشرقين ، يا ربّ المغربين ، يا باقي ، يا معين .

وفي الحديد : يا أوّل ، يا آخر ، يا ظاهر ، يا باطن . وفي الحشر : يا ملك ، يا قدّوس ، يا سلام ، يا مؤمن ، يا مهيمن ، يا عزيز ، يا جبار ، يا متكبر ، يا خالق ، يا بارىء ، يا مصوّر . وفي البروج : يا مبدىء ، يا معيد . وفي الفجر : يا وتر . وفي الإخلاص : يا أحد ، يا صمد . انتهى .
وقد ذكر ابن حجر في التلخيص أنه تتبعها من الكتاب العزيز إلى أن حرّرها منه تسعة وتسعين ثم سردها فابحثه . ويؤيد هذا ما أخرجه أبو نعيم ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لله تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة ، وهي في القرآن " وأخرج البيهقي ، عن عائشة أنها قالت : «يا رسول الله علمني اسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، قال لها : " قومي فتوضيء وادخلي المسجد فصلي ركعتين ثم ادعي حتى أسمع " ، ففعلت؛ فلما جلست للدعاء قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم وفقها " ، فقالت : اللهمّ إني أسألك بجميع أسمائك الحسنى كلها ما علمنا منها وما لم نعلم ، وأسألك باسمك العظيم الأعظم الكبير ، الأكبر ، الذي من دعاك به أجبته ، ومن سألك به أعطيته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصبتيه أصبتيه " وقد أطال أهل العلم الكلام على الأسماء الحسنى حتى أن ابن العربي في شرح الترمذي حكى عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَئِهِ } قال : الإلحاد ، أن يدعو اللات والعزّى في أسماء الله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، قال : الإلحاد التكذيب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في الآية قال : اشتقوا العزّى من العزيز ، واشتقوا اللات من الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء في الآية قال : الإلحاد المضاهاة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش أنه قرأ { يلحدون } من لحد ، وقال تفسيرها : يدخلون فيها ما ليس منها . وأخرج عبد الرزاق بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة ، في الآية قال : يشركون .

وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

قوله : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } خبر مقدّم و { أُمَّةٍ } مبتدأ مؤخر ، و { يَهْدُونَ } وما بعده صفة له . ويجوز أن يكون { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } هو المبتدأ كما تقدّم في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } [ البقرة : 8 ] . والمعنى : أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق ، أو يهدونهم بما عرفوه من الحق . " و " بالحق { يَعْدِلُونَ } بينهم . قيل : هم من هذه الأمة ، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين ، كما ورد في الحديث الصحيح .
ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال : { والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } والاستدراج : هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة ، والدرج : كفّ الشيء ، يقال أدرجته ودرجته ، ومنه إدارج الميت في أكفانه . وقيل : هو من الدرجة ، فالاستدراج : أن يخطو درجة بعد درجة إلى المقصود ، ومنه درج الصبيّ : إذا قارب بين خطاه ، وأدرج الكتاب : طواه شيئاً بعد شيء ، ودرج القوم : مات بعضهم في إثر بعض . والمعنى : سنستدرجهم قليلاً قليلاً إلى ما يهلكهم ، وذلك بإدرار النعم عليهم وإنسائهم شكرها ، فينهمكون في الغواية ، ويتنكبون طرق الهداية لاغترارهم بذلك ، وأنه لم يحصل لهم إلا بما لهم عند الله من المنزلة والزلفة .
قوله : { وَأُمْلِى لَهُمْ } معطوف على سنستدرجهم ، أي أطيل لهم المدّة وأمهلهم ، وأؤخر عنهم العقوبة . وجملة { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } مقرّرة لما قبلها من الاستدراج والإملاء ، ومؤكدة له . والكيد : المكر ، والمتين : الشديد القويّ ، وأصله من المتن وهو اللحم الغليظ الذي على جانب الصلب . قال في الكشاف : سماه كيداً ، لأنه شبيه بالكيد من حيث إنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان .
والاستفهام في { أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُواْ } للإنكار عليهم ، حيث لم يتفكروا في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به . و«ما» في { مَا بِصَاحِبِهِم } للاستفهام الإنكاري ، وهي في محل رفع بالابتداء والخبر { بصاحبهم } ، والجنة مصدر ، أي وقع منهم التكذيب ، ولم يتفكروا أيّ شيء من جنون كائن بصاحبهم كما يزعمون ، فإنهم لو تفكروا لوجدوا زعمهم باطلاً ، وقولهم زوراً وبهتاً . وقيل إنّ «ما» نافية واسمها { مّن جِنَّةٍ } وخبرها بصاحبهم ، أي ليس بصاحبهم شيء مما يدّعونه من الجنون ، فيكون هذا رداً لقولهم : { ياأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] ويكون الكلام قد تمّ عند قوله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } . والوقف عليه من الأوقاف الحسنة . وجملة : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } مقررة لمضمون ما قبلها ، ومبينة لحقيقة حال رسول الله صلى الله عليه وسلم . والاستفهام في { أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ فِى مَلَكُوتِ السموات والأرض } للإنكار والتقريع والتوبيخ ، ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية ، والملكوت من أبنية المبالغة ، ومعناه الملك العظيم وقد تقدّم بيانه .

والمعنى : إن هؤلاء لم يتفكروا حتى ينتفعوا بالتفكر ، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به ، بل هم سادرون في ضلالتهم ، خائضون في غوايتهم ، لا يعملون فكراً ، ولا يمعنون نظراً .
قوله : { وَمَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } أي : لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض ، ولا فيما خلق الله من شيء من الأشياء كائناً ما كان ، فإن في كل مخلوقاته عبرة للمعتبرين ، وموعظة للمتفكرين ، سواء كانت من جلائل مصنوعاته كملكوت السموات والأرض ، أومن دقائقها من سائر مخلوقاته .
قوله : { وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ } معطوف على ملكوت . و « أن » هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن وخبرها { عسى } وما بعدها ، أي أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أن يكون قد اقترب أجلهم ، فيموتون عن قريب . والمعنى : إنهم إذا كانوا يجوّزون قرب آجالهم فما لهم لا ينظرون فيما يهتدون به ، وينتفعون بالتفكر فيه والاعتبار به . { فَبِأَيّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } الضمير يرجع إلى ما تقدّم من التفكر والنظر في الأمور المذكورة ، أي فبأيّ حديث بعد هذا الحديث المتقدم بيانه يؤمنون؟ وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره؛ وقيل الضمير للقرآن . وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل للأجل المذكور قبله .
وجملة { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } مقررة لما قبلها ، أي إن هذه الغفلة منهم عن هذه الأمور الواضحة البينة ليس إلا لكونهم ممن أضله الله ، ومن يضلله فلا هادي له ، أي فلا يوجد من يهديه إلى الحق ، وينزعه عن الضلالة ألبتة { وَيَذَرُهُمْ فِى طغيانهم يَعْمَهُونَ } قرىء بالرفع على الاستئناف ، وبالجزم عطفاً على محل الجزاء . وقرىء بالنون . ومعنى يعمهون : يتحيرون . وقيل : يترددون ، وهو في محل نصب على الحال .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق } قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون » وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة ، في الآية قال : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقولإذا قرأها : « هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها » { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى نزل » وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } يقول : سنأخذهم من حيث لا يعلمون .

قال : عذاب بدر . وأخرج أبو الشيخ ، عن يحيى بن المثنى في الآية قال : كلما أحدثوا ذنباً جددنا لهم نعمة ، تنسيهم الاستغفار . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن سفيان في الآية قال : نسبغ عليهم النعمة ونمنعهم شكرها . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي عن ثابت البناني ، أنه سئل عن الاستدراج فقال : ذلك مكر الله بالعباد المضيعين .
وأخرج أبو الشيخ ، في قوله : { وَأُمْلِى لَهُمْ } يقول : أكفّ عنهم { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } إن مكري شديد ، ثم نسخها الله فأنزل { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كيد الله العذاب والنقمة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قام على الصفا ، فدعا قريشاً فخذاً فخذاً : يا بني فلان يا بني فلان ، يحذرهم بأس الله ووقائع الله إلى الصباح حتى قال قائل : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت حتى أصبح ، فأنزل الله : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)

قوله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة } السائلون : هم اليهود . وقيل : قريش . والساعة : القيامة . وهي من الأسماء الغالبة ، وإطلاقها على القيامة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها . و { أيان } ظرف زمان مبني على الفتح . قال الراجز :
أيان تقضي حاجتي أيانا ... أما ترى لنجحها أوانا
ومعناه معنى متى ، واشتقاقه من أيّ . وقيل من أين . وقرأ السلمي «إيان» بكسر الهمزة وهو في موضع رفع على الخبر . و { مرساها } المبتدأ عند سيبويه . و { مرساها } بضم الميم ، أي وقت إرسائها من أرساها الله ، أي أثبتها ، وبفتح الميم من رست ، أي ثبتت ، ومنه : { وَقُدُورٍ راسيات } [ سبأ : 13 ] ، ومنه رسا الجبل . والمعنى : متى يرسيها الله ، أي يثبتها ويوقعها . وظاهر { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة } أن السؤال عن نفس الساعة ، وظاهر { أَيَّانَ مرساها } أن السؤال عن وقتها ، فحصل من الجميع أن السؤال المذكور هو عن الساعة . باعتبار وقوعها في الوقت المعين لذلك ، ثم أمره الله سبحانه بأن يجيب عنهم بقوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } أي : علمها باعتبار وقوعها عند الله ، لا يعلمها غيره ولا يهتدي إليها سواه { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } أي : لا يظهرها لوقتها ، ولا يكشف عنها إلا الله سبحانه . والتجلية : إظهار الشيء ، يقال جلى لي فلان الخبر : إذا أظهره وأوضحه ، وفي استئثار الله سبحانه بعلم الساعة حكمة عظيمة ، وتدبير بليغ كسائر الأشياء التي أخفاها الله واستأثر بعلمها . وهذه الجملة مقررة لمضمون التي قبلها .
قوله : { ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض } قيل معنى ذلك : أنه لما خفي علمها على أهل السموات والأرض كانت ثقيلة ، لأن كل ما خفي علمه ثقيل على القلوب . وقيل المعنى : لا تطيقها السموات والأرض لعظمها ، لأن السماء تنشق ، والنجوم تتناثر ، والبحار تنضب . وقيل : عظم وصفها عليهم . وقيل : ثقلت المسألة عنها . وهذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها أيضاً . { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } إلا فجأة على غفلة . والبغتة مصدر في موضع الحال . وهذه الجملة كالتي قبلها في التقرير .
قوله : { يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } . قال ابن فارس : الحفيّ العالم بالشيء ، والحفي المستقصى في السؤال ، ومنه قول الأعشى :
فإن تسألي عني فيارب سائل ... حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا
يقال أحفى في المسألة وفي الطلب فهو محف ، وحفيّ على التكثير مثل مخصب وخصيب . والمعنى : يسألونك عن الساعة كأنك عالم بها ، أو كأنك مستقص للسؤال عنها ومستكثر منه . والجملة التشبيهية في محل نصب على الحال ، أي : يسألونك مشبهاً حالك حال من هو حفيّ عنها . وقيل المعنى : يسألونك عنها كأنك حفيّ بهم ، أي حفيّ ببرهم وفرح بسؤالهم . والأوّل : هو معنى النظم القرآني على مقتضى المسلك العربي .
قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } أمره الله سبحانه بأن يكرّر ما أجاب به عليهم سابقاً لتقرير الحكم وتأكيده .

وقيل : ليس بتكرير ، بل أحدهما معناه الاستئثار بوقوعها ، والآخر الاستئثار بكنهها نفسها { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } باستئثار الله بهذا ، وعدم علم خلقه به ، لم يعلمه ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل .
قوله : { قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء الله } هذه الجملة متضمنة لتأكيد ما تقدّم من عدم علمه بالساعة أيان تكون ومتى تقع ، لأنه إذا كان لا يقدر على جلب نفع له ، أو دفع ضرّ عنه إلا ماشاء الله سبحانه من النفع له والدفع عنه ، فبالأولى أن لا يقدر على علم ما استأثر الله بعلمه ، وفي هذا من إظهار العبودية والإقرار بالعجز عن الأمور التي ليست من شأن العبيد ، والاعتراف بالضعف عن انتحال ما ليس له صلى الله عليه وسلم ما فيه أعظم زاجر ، وأبلغ واعظ لمن يدّعي لنفسه ما ليس من شأنها ، وينتحل علم الغيب بالنجامة أو الرمل أو الطرق بالحصا أو الزجر . ثم أكّد هذا وقرّره بقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } أي : لو كنت أعلم جنس الغيب لتعرّضت لما فيه الخير فجلبته إلى نفسي ، وتوقيت ما فيه السوء حتى لا يمسني ، ولكني عبد لا أدري ما عند ربي ، ولا ما قضاه فيَّ وقدره لي ، فكيف أدري غير ذلك وأتكلف علمه؟ وقيل المعنى : لو كنت أعلم ما يريد الله عزّ وجلّ مني من قبل أن يعرفنيه لفعلته . وقيل : لو كنت أعلم متى يكون لي النصر في الحرب ، لقاتلت فلم أغلب . وقيل : لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه ، والأولى حمل الآية على العموم ، فتندرج هذه الأمور وغيرها تحتها . وقد قيل : إن { وَمَا مَسَّنِىَ السوء } كلام مستأنف ، أي : ليس بي ما تزعمون من الجنون والأولى : أنه متصل بما قبله . والمعنى : لو علمت الغيب ما مسني السوء ، ولحذرت عنه كما قدّمنا ذلك .
قوله : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : ما أنا إلا مبلغ عن الله لأحكامه أنذر بها قوماً ، وأبشر بها آخرين ، ولست أعلم بغيب الله سبحانه . واللام في { لِقَوْمٍ } متعلق بكلا الصفتين : أي بشير لقوم . ونذير لقوم ، وقيل : هو متعلق ببشير ، والمتعلق بنذير محذوف ، أي نذير لقوم يكفرون ، وبشير لقوم يؤمنون .
قوله : { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر نعم الله على عباده وعدم مكافأتهم لها ، مما يجب من الشكر والاعتراف بالعبودية ، وأنه المنفرد بالإلهية . قال جمهور المفسرين : المراد بالنفس الواحدة . آدم ، وقوله : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } معطوف على { خَلَقَكُمْ } أي : هو الذي خلقكم من نفس آدم ، وجعل من هذه النفس زوجها ، وهي حواء ، خلقها من ضلع من أضلاعه .

وقيل المعنى { جَعَلَ مِنْهَا } من جنسها ، كما في قوله : { جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } [ النحل : 72 ] والأوّل : أولى . { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } علة للجعل ، أي جعله منها لأجل { يسكن إليها } يأنس إليها . ويطمئن بها ، فإن الجنس بجنسه أسكن وإليه آنس . وكان هذا في الجنة ، كما وردت بذلك الأخبار . ثم ابتدأ سبحانه بحالة أخرى كانت بينهما في الدنيا بعد هبوطهما ، فقال : { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } ، والتغشي كناية عن الوقاع ، أي فلما جامعها { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } علقت به بعد الجماع ، ووصفه بالخفة لأنه عند إلقاء النطفة أخفّ منه عند كونه علقة ، وعند كونه علقة أخفّ منه عند كونه مضغة ، وعند كونه مضغة أخفّ مما بعده . وقيل : إنه خفّ عليها هذا الحمل من ابتدائه إلى انتهائه ، ولم تجد منه ثقلاً . كما تجده الحوامل من النساء ، لقوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } أي : استمرت بذلك الحمل تقوم وتقعد ، وتمضى في حوائجها لا تجد به ثقلاً ، والوجه الأوّل ، لقوله : { فَلَمَّا أَثْقَلَت } فإن معناه : فلما صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها . وقرىء «فمرت به» بالتخفيف ، أي فجزعت لذلك ، وقرىء «فمارت به» من المور ، وهو المجيء والذهاب . وقيل المعنى : فاستمرّت به . وقد رويت قراءة التخفيف عن ابن عباس ، ويحيى بن يعمر . ورويت قراءة «فمارت» عن عبد الله بن عمر . وروي عن ابن عباس أنه قرأ «فاستمرت به» .
قوله : { دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا } جواب لما ، أي : دعا آدم وحواء ربهما ومالك أمرهما { لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا } أي : ولداً صالحاً ، واللام جواب قسم محذوف ، و { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، أي من الشاكرين لك على هذه النعمة . وفي هذا الدعاء دليل على أنهما قد علما أن ما حدث في بطن حواء من أثر ذلك الجماع هو من جنسهما ، وعلما بثبوت النسل المتأثر عن ذلك السبب { فَلَمَّا ءاتاهما } ما طلباه من الولد الصالح ، وأجاب دعاءهما { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما } قال كثير من المفسرين : إنه جاء إبليس إلى حواء وقال لها : إن ولدت ولداً فسميه باسمى فقالت : وما اسمك؟ قال : الحارث ولو سمى لها نفسه لعرفته ، فسمته عبد الحارث ، فكان هذا شركاً في التسمية ، ولم يكن شركاً في العبادة . وإنما قصدا أن الحارث كان سبب نجاة الولد ، كما يسمى الرجل نفسه عبد ضيفه ، كما قال حاتم الطائي :
وإني لعبد الضيف مادام ثاويا ... وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد
وقال جماعة من المفسرين : إن الجاعل شركاً فيما آتاهما هم جنس بني آدم ، كما وقع من المشركين منهم ، ولم يكن ذلك من آدم وحواء ، ويدلّ على هذا جمع الضمير في قوله : { فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } وذهب جماعة من المفسرين إلى أن معنى { مّن نَّفْسٍ واحدة } من هيئة واحدة وشكل واحد { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي : من جنسها { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } يعني جنس الذكر جنس الأنثى .

وعلى هذا لا يكون لآدم وحوّاء ذكر في الآية ، وتكون ضمائر التثنية راجعة إلى الجنسين . وقد قدّمنا الإشارة إلى نحو هذا ، وذكرنا أنه خلاف الأولى لأمور منها { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } بأن هذا إنما هو لحواء . ومنها { دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا } فإن كل مولود يولد بين الجنسين ، لا يكون منهما عند مقاربة وضعه هذا الدعاء . وقد قرأ أهل المدينة وعاصم «شركاً» على التوحيد . وقرأ أبو عمرو ، وسائر أهل الكوفة بالجمع . وأنكر الأخفش سعيد القراءة الأولى . وأجيب عنه بأنها صحيحة على حذف المضاف ، أي جعلا له ذا شرك ، أو ذوي شرك .
والاستفهام في { أَيُشْرِكُونَ مَالا يَخْلُقُ شَيْئاً } للتقريع والتوبيخ ، أي كيف يجعلون لله شريكاً لا يخلق شيئاً ولا يقدر على نفع لهم ، ولا دفع عنهم . قوله : { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } عطف على { مَالا يَخْلُقُ } والضمير راجع إلى الشركاء الذين لا يخلقون شيئاً ، أي وهؤلاء الذين جعلوهم شركاء من الأصنام أو الشياطين مخلوقون . وجمعهم جمع العقلاء لاعتقاد من جعلهم شركاء أنهم كذلك { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ } أي : لمن جعلهم شركاء { نَصْراً } إن طلبه منهم { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } إن حصل عليهم شيء من جهة غيرهم ، ومن عجز عن نصر نفسه فهو عن نصر غيره أعجز .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن عباس ، قال : قال حمل بن أبي قيس ، وشمول بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أخبرنا متى الساعة إن كنت نبياً كما تقول فإنا نعلم ما هي؟ فأنزل الله { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } إلى قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة { أَيَّانَ مرساها } أي : متى قيامها؟ { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } قال : قالت قريش يا محمد أسرّ إلينا الساعة لما بيننا وبينك من القرابة؟ قال : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله } وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " تهيج الساعة بالناس ، والرجل يسقي على ماشيته ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، والرجل يقيم سلعته في السوق ، قضاء الله لا تأتيكم إلا بغتة " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { أَيَّانَ مرساها } قال : { منتهاها } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد { لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ } يقول : لا يأتي بها إلا الله .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في الآية قال : هو يجليها لوقتها لا يعلم ذلك إلا الله .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض } قال : ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض } قال : ثقل علمها على أهل السموات والأرض . يقول كبرت عليهم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { ثَقُلَتْ فِى السموات والأرض } قال : إذا جاءت انشقت السماء ، وانتثرت النجوم ، وكوّرت الشمس ، وسيرت الجبال ، وما يصيب الأرض . وكان ما قال الله سبحانه فذلك ثقلها فيهما . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } قال : فجأة آمنين .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في البعث ، عن مجاهد ، في قوله : { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } قال : استحفيت عنها السؤال حتى علمتها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } يقول : كأنك عالم بها ، أي لست تعلمها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عنه { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } قال : لطيف بها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عنه أيضاً { كَأَنَّكَ حَفِىٌّ عَنْهَا } يقول : كأن بينك وبينهم مودّة كأنك صديق لهم . قال لما سأل الناس محمداً صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً حفيّ بهم ، فأوحى الله إليه : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } استأثر بعلمها فلم يطلع ملكاً ولا رسولاً . وأخرج عبد بن حميد ، عن عمرو بن دينار قال : كان ابن عباس يقرأ «كأنك حفيّ بها» .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج { قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضراً } قال : الهدى والضلالة { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب } متى أموت { لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } قال : العمل الصالح . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس ، في قوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } قال : لعلمت إذا اشتريت شيئاً ما أربح فيه ، فلا أبيع شيئاً لاربح فيه { وَمَا مَسَّنِىَ السوء } قال : ولا يصيبني الفقر . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد في قوله : { وَمَا مَسَّنِىَ السوء } قال : لاجتنبت ما يكون من الشرّ قبل أن يكون .
وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والروياني ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :

« لما ولدت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه عبد الحارث فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش ، فكان ذلك من وحى الشيطان وأمره » وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن سمرة في قوله : { فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء } قال : سمياه عبد الحارث . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن أبيّ بن كعب ، نحو حديث سمرة المرفوع موقوفاً عليه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : حملت حواء فأتاها إبليس فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة ، لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنك فيشقه ، ولأفعلنّ ، ولأفعلنّ ، يخوّفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتاً ، ثم حملت فأتاهما أيضاً فقال مثل ذلك ، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتاً ، ثم حملت فأتاهما ، فذكر لهما ، فأدركهما حبّ الولد ، فسمياه عبد الحارث . فذلك قوله : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما } . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، في الآية قال : كان هذا في بعض أهل الملل وليس بآدم .
وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه ، عن سمرة ، في قوله : { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } لم يستبن { فَمَرَّتْ بِهِ } لما استبان حملها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال : فشكت أحملت أم لا؟ وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن أيوب قال : سئل الحسن عن قوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال : لو كنت عربياً لعرفتها ، إنما هي استمرّت بالحمل . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن السدّي ، في قوله : { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا } قال : هي النطفة { فَمَرَّتْ بِهِ } يقول : استمرت به . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال : فاستمرت به . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ميمون بن مهران { فَمَرَّتْ بِهِ } يقول : استخفته . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي صالح في قوله : { لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا } فقال : أشفق أن يكون بهيمة ، فقالا لئن آتيتنا بشراً سوياً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن في الآية قال غلاماً سوياً .
وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس ، في قوله : { جعلا له شركاء } قال : كان شريكاً في طاعة ، ولم يكن شريكاً في عبادة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، قال : ما أشرك آدم إنّ أوّلها شكر ، وآخرها مثل ضربه لمن بعده . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } هذا فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، في الآية قال : هذا في الكفار يدعون الله ، فإذا آتاهما صالحاً هوّداً أو نصراً ، ثم قال : { أَيُشْرِكُونَ مَالا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } يقول : يطيعون مالا يخلق شيئاً ، وهي الشياطين لا تخلق شيئاً وهي تخلق { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } يقول لمن يدعوهم .

وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

قوله : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } هذا خطاب للمشركين ، أي وإن تدعوا هؤلاء الشركاء إلى الهدى والرشاد بأن تطلبوا منهم أن يهدوكم ويرشدوكم لا يتبعوكم ولا يجيبوكم إلى ذلك ، وهو دون ما تطلبونه منهم من جلب النفع ، ودفع الضرّ ، والنصر على الأعداء . قال الأخفش معناه وإن تدعوهم ، أي الأصنام إلى الهدى لا يتبعوكم . وقيل : المراد من سبق في علم الله أنه لا يؤمن . وقرىء { لا يتبعوكم } مشدّداً ومخففاً وهما لغتان . وقال بعض أهل اللغة أتبعه مخففاً : إذا مضى خلفه ولم يدركه ، واتبعه مشدّداً : إذا مضى خلفه فأدركه . وجملة { سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون } مقرّرة لمضمون ما قبلها ، أي دعاؤكم لهم عند الشدائد وعدمه سواء ، لا فرق بينهما لأنهم لا ينفعون ولا يضرون ولا يسمعون ولا يجيبون ، وقال : { أَمْ أَنتُمْ صامتون } مكان أصمتم لما في الجملة الاسمية من المبالغة . وقال محمد بن يحيى : إنما جاء بالجملة الاسمية لكونها رأس آية ، يعني لمطابقة { وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } وما قبله .
قوله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } أخبرهم سبحانه بأن هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة هم عباد لله كما أنتم عباد له مع أنكم أكمل منهم ، لأنكم أحياء تنطقون وتمشون ، وتسمعون وتبصرون . وهذه الأصنام ليست كذلك ، ولكنها مثلكم في كونها مملوكة لله مسخرة لأمره . وفي هذا تقريع لهم بالغ ، وتوبيخ لهم عظيم . وجملة : { فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } مقررة لمضمون ما قبلها من أنهم إن دعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم ، وأنهم لا يستطيعون شيئاً ، أي ادعوا هؤلاء الشركاء ، فإن كانوا كما تزعمون { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تدّعونه لهم من قدرتهم على النفع والضرّ .
والاستفهام في قوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ } ؟ وما بعده للتقريع والتوبيخ ، أي هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء ليس لهم شيء من الآلات التي هي ثابتة لكم ، فضلاً عن أن يكونوا قادرين على ما تطلبونه منهم . فإنهم كما ترون هذه الأصنام التي تعكفون على عبادتها ليست لهم : { أَرْجُلٌ } يَمْشُونَ بِهَا في نفع أنفسهم ، فضلاً عن أن يمشوا في نفعكم ، وليس { لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا } كما يبطش غيرهم من الأحياء ، وليس { لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا } كما تبصرون ، وليس { لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُون بِهَا } كما تسمعون ، فكيف تدعون من هم على هذه الصفة من سلب الأدوات ، وبهذه المنزلة من العجز ، و « أم » في هذه المواضع هي المنطقة التي بمعنى بل ، والهمزة كما ذكره أئمة النحو . وقرأ سعيد بن جبير : « إِنَّ الذين تَدْعُونَ » بتخفيف « إن » ونصب « عبادا » أي ما الذين تدعون { مِن دُونِ الله عِبَادًا أمثالكم } على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية .

وقد ضعفت هذه القراءة بأنها خلاف ما رجحه سيبويه وغيره من اختيار الرفع في خبرها . وبأن الكسائي قال : إنها لا تكاد تأتي في كلام العرب بمعنى «ما» إلا أن يكون بعدها إيجاب كما في قوله : { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ } [ الملك : 20 ] ، والبطش : الأخذ بقوّة . وقرأ أبو جعفر " يَبْطِشُونَ " بضم الطاء ، وهي لغة . ثم لما بين لهم حال هذه الأصنام ، وتعاور وجوه النقص والعجز لها من كل باب ، أمره الله بأن يقول لهم : ادعوا شركاءكم الذين تزعمون أن لهم قدرة على النفع والضرّ . { ثُمَّ كِيدُون } أنتم وهم جميعاً بما شئتم من وجوه الكيد { فَلاَ تُنظِرُونِ } أي : فلا تمهلوني ، ولا تؤخروا إنزال الضرر بي من جهتها ، والكيد : المكر . وليس بعد هذا التحدّي لهم والتعجيز لأصنامهم شيء .
ثم قال لهم : { إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب } أي : كيف أخاف هذه الأصنام التي هذه صفتها ، ولي وليّ ألجأ إليه وأستنضر به ، وهو الله عزّ وجلّ { الذى نَزَّلَ الكتاب } وهذه الجملة تعليل لعدم المبالاة بها . ووليّ الشيء هو الذي يحفظه ، ويقوم بنصرته ، ويمنع منه الضرر { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } أي : يحفظهم وينصرهم ، ويحول ما بينهم وبين أعدائهم . قال الأخفش : وقرىء " إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب " يعني جبرائيل . قال النحاس : هي قراءة عاصم الجحدري . والقراءة الأولى أبين لقوله : { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } .
قوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } كرّر سبحانه هذا لمزيد التأكيد والتقرير ، ولما في تكرار التوبيخ والتقريع من الإهانة للمشركين ، والتنقيص بهم ، وإظهار سخف عقولهم ، وركاكة أحلامهم { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } جملة مبتدأة لبيان عجزهم ، أو حالية ، أي والحال أنك تراهم ينظرون إليك حال كونهم لا يبصرون . والمراد : الأصنام أنهم يشبهون الناظرين ، ولا أعين لهم يبصرون بها . قيل : كانوا يجعلون للأصنام أعيناً من جواهر مصنوعة ، فكانوا بذلك في هيئة الناظرين ، ولا يبصرون . وقيل : المراد بذلك المشركون ، أخبر الله عنهم بأنهم لا يبصرون حين لم ينتفعوا بأبصارهم ، وإن أبصروا بها غير ما فيه نفعهم .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير قال : يجاء بالشمس والقمر حتى يلقيا بين يدي الله تعالى ، ويجاء بمن كان يعبدهما ، فيقال : { ادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السديّ ، في قوله : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } قال : هؤلاء المشركون .
وأخرج هؤلاء أيضاً عن مجاهد ، في قوله : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ما يدعوهم إليه من الهدى .

خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

قوله : { خُذِ العفو } لما عدّد الله ما عدده من أحوال المشركين وتسفيه رأيهم وضلال سعيهم ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ العفو من أخلاقهم . يقال أخذت حقي عفواً ، أي سهلاً . وهذا نوع من التيسير الذي كان يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت في الصحيح أنه كان يقول : " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا " والمراد بالعفو هنا ضد الجهد . وقيل المراد : خذ العفو من صدقاتهم ، ولا تشدّد عليهم فيها وتأخذ ما يشق عليهم . وكان هذا قبل نزول فريضة الزكاة { وَأْمُرْ بالعرف } أي : بالمعروف . وقرأ عيسى بن عمر «بالعُرف» بضمتين ، وهما لغتان . والعرف والمعروف والعارفة : كل خصلة حسنة ترتضيها العقول ، وتطمئن إليها النفوس ، ومنه قول الشاعر :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
{ وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } أي : إذا أقمت الحجة في أمرهم بالمعروف فلم يفعلوا ، فأعرض عنهم ولا تمارهم ، ولا تسافههم مكافأة لما يصدر منهم من المراء والسفاهة . قيل : وهذه الآية هي من جملة ما نسخ بآية السيف ، قاله عبد الرحمن بن زيد وعطاء . وقيل هي محكمة ، قاله مجاهد وقتادة .
قوله : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } النزغ : الوسوسة ، وكذا النغز والنخس . قال الزجاج : النزغ أدنى حركة تكون ، ومن الشيطان أدنى وسوسة ، وأصل النزغ : الفساد ، يقال نزغ بيننا : أي أفسد ، وقيل النزغ : الإغواء . والمعنى متقارب : أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أدرك من وسوسة الشيطان أن يستعيذ بالله وقيل إنه لما نزل قوله : { خُذِ العفو } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كيف ياربّ بالغضب؟ " فنزلت ، وجملة { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } علة لأمره بالاستعاذة ، أي استعذ به والتجىء إليه ، فإنه يسمع ذلك منك ويعلم به .
وجملة { إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ } مقرّرة لمضمون ما قبلها ، أي : إن شأن الذين يتقون الله ، وحالهم هو التذكر لما أمر الله به من الاستعاذة به ، والالتجاء إليه ، عند أن يمسهم طائف من الشيطان وإن كان يسيراً . قرأ أهل البصرة " طيف " وكذا أهل مكة . وقرأ أهل المدينة والكوفة { طَائِفٌ } . وقرأ سعيد بن جبير " طيف " بالتشديد . قال النحاس : كلام العرب في مثل هذا " طيف " بالتخفيف على أنه مصدر من طاف يطيف . قال الكسائي : هو مخفف مثل ميت وميت .
قال النحاس ومعناه في اللغة ما يتخيل في القلب أو يرى في النوم ، وكذا معنى طائف . قال أبو حاتم : سألت الأصمعي عن طيف فقال : ليس في المصادر فيعل .

قال النحاس : ليس هو مصدراً ولكن يكون بمعنى طائف . وقيل : الطيف والطائف معنيان مختلفان ، فالأوّل : التخيل . والثاني : الشيطان نفسه . فالأوّل : من طاف الخيال يطوف طيفاً ، ولم يقولوا من هذا طائف . قال السهيلي : لأنه تخيل لا حقيقة له ، فأما قوله { فَطَافَ عَلَيْهم طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ } [ القلم : 19 ] فلا يقال فيه طيف ، لأنه اسم فاعل حقيقة . قال الزجاج : طفت عليهم أطوف ، فطاف الخيال يطيف . قال حسان :
فدع هذا ولكن من لِطَيْف ... يؤرقني إذا ذهب العشاء
وسميت الوسوسة طيفاً ، لأنها لمة من الشيطان تشبه لمة الخيال . { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } بسبب التذكر ، أي منتبهون . وقيل على بصيرة . وقرأ سعيد بن جبير « تَذَكَّرُواْ » بتشديد الذال . قال النحاس : ولا وجه له في العريبة . قوله : { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } قيل المعنى : وإخوان الشياطين ، وهم الفجار من ضلال الإنس ، على أن الضمير في إخوانهم يعود إلى الشيطان المذكور سابقاً ، والمراد به الجنس . فجاز إرجاع ضمير الجمع إليه . { يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } أي : تمدّهم الشياطين في الغيّ ، وتكون مدداً لهم . وسميت الفجار من الإنس إخوان الشياطين ، لأنهم يقبلون منهم ويقتدون بهم . وقيل : إن المراد بالإخوان الشياطين ، وبالضمير الفجار من الإنس ، فيكون الخبر جارياً على من هو له . وقال الزجاج : في الكلام تقديم وتأخير . والمعنى : { والذين تدعون من دونه لا يستطيعون لكم نصراً ولا أنفسهم ينصرون } { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } لأن الكفار إخوان الشياطين ، { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } الإقصار : الانتهاء عن الشيء ، أي لا تقصر الشياطين في مدّ الكفار في الغيّ . قيل : إن { في الغيّ } متصلاً بقوله { يَمُدُّونَهُمْ } وقيل : بالإخوان . والغي : الجهل . قرأ نافع « يَمُدُّونَهُمْ » بضم حرف المضارعة وكسر الميم . وقرأ الباقون بفتح حرف المضارعة وضم الميم ، وهما لغتان . يقال مدّ وأمد . قال مكي : ومدّ أكثر . وقال أبو عبيد وجماعة من أهل اللغة : فإنه يقال إذا كثر شيء شيئاً بنفسه مدّه . وإذا كثره بغيره ، قيل : أمدّه نحو { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة } [ آل عمران : 125 ] وقيل : يقال : مددت في الشرّ وأمددت في الخير . وقرأ عاصم الجحدري « يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى » . وقرأ عيسى بن عمر « ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ » بفتح الياء وضم الصاد وتخفيف القاف .
قوله : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه ، أي جمعه ، أي : هلا اجتمعتها افتعالاً لها من عند نفسك . وقيل : المعنى اختلقتها ، يقال : اجتبيت الكلام : انتحلته واختلقته واخترعته إذا جئت به من عند نفسك . كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تراخى الوحي هذه المقالة ، فأمره الله بأن يجيب عليهم بقوله : { إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ } أي : لست ممن يأتي بالآيات من قبل نفسه كما تزعمون بَلِ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ مّن رَّبّى ، فما أوحاه إليّ وأنزله عليّ أبلغته إليكم .

وبصائر جمع بصيرة ، أي هذا القرآن المنزل عليّ هو { بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ } يتبصر بها من قبلها . وقيل : البصائر الحجج والبراهين . وقال الزجاج : البصائر الطرق { وَهُدًى وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } معطوف على بصائر أي هذا القرآن هو بصائر وهدى يهتدي به المؤمنون ورحمة لهم .
قوله : { وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } أمرهم الله سبحانه بالاستماع للقرآن والإنصات له عند قراءته؛ لينتفعوا به ويتدبروا ما فيه من الحكم والمصالح . قيل : هذا الأمر خاص بوقت الصلاة عند قراءة الإمام ، ولا يخفاك أن اللفظ أوسع من هذا والعام لا يقصر على سببه ، فيكون الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في كل حالة ، وعلى أيّ صفة مما يجب على السامع . وقيل : هذا خاص بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن دون غيره ، ولا وجه لذلك .
{ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي : تنالون الرحمة وتفوزون بها بامتثال أمر الله سبحانه ، ثم أمره الله سبحانه أن يذكره في نفسه . فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص ، وأدعى للقبول . قيل : المراد بالذكر هنا ما هو أعم من القرآن وغيره من الأذكار التي يذكر الله بها . وقال النحاس : لم يختلف في معنى { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } أنه الدعاء . وقيل هو خاص بالقرآن ، أي اقرأ القرآن بتأمل وتدبر ، و { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } منتصبان على الحال ، أي متضرعاً وخائفاً ، والخيفة : الخوف ، وأصلها خوفة قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . وحكى الفراء أنه يقال في جمع خيفة خيف . قال الجوهري : والخيفة الخوف والجمع خيف ، وأصله الواو : أي خوف .
{ وَدُونَ الجهر مِنَ القول } أي : دون المجهور به من القول ، وهو معطوف على ما قبله ، أي متضرعاً وخائفاً ، ومتكلماٍ بكلام هو دون الجهر من القول . و { بالغدو والآصال } متعلق ب { اذكر } أي أوقات الغدوات وأوقات الأصائل . والغدوّ : جمع غدوة ، والآصال : جمع أُصيل ، قاله الزجاج والأخفش ، مثل يمين وأيمان . وقيل الآصال جمع أُصل ، والأُصلُ جمع أصيل ، فهو على هذا جمع الجمع ، قاله الفراء . قال الجوهري الأصيل الوقت من بعد العصر إلى المغرب ، وجمعه أُصل وآصال وأصائل ، كأنه جمع أصيلة . قال الشاعر :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفنائه بالأصائل
ويجمع أيضاً على أصلان مثل بعير وبعران . وقرأ أبو مجلز «والإيصال» وهو مصدر . وخصّ هذين الوقتين لشرفهما . والمراد : دوام الذكر لله .
{ وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين } أي : عن ذكر الله { إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } المراد بهم : الملائكة . قال القرطبي : بالإجماع . قال الزجاج : وقال { عند ربك } والله عزّ وجلّ بكل مكان لأنهم قريبون من رحمته ، وكل قريب من رحمة الله عزّ وجلّ فهو عنده . وقال غيره : لأنهم في موضع لا ينفذ فيه إلا حكم الله .

وقيل : إنهم رسل الله ، كما يقال عند الخليفة جيش كثير . وقيل : هذا على جهة التشريف والتكريم لهم ، ومعنى : { يسبحونه } يعظمونه وينزهونه عن كل شين { وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } أي : يخصونه بعبادة السجود التي هي أشرف عبادة . وقيل المراد بالسجود : الخضوع والذلة . وفي ذكر الملأ الأعلى تعريض لبني آدم .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، والنحاس في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن عبد الله بن الزبير ، في قوله : { خُذِ العفو } الآية ، قال : ما نزلت هذه الآية إلا في اختلاف الناس . وفي لفظه : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عمر في قوله : { خُذِ العفو } قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس .
وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الشعبي ، قال : لما أنزل الله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما هذا يا جبريل؟ قال : لاأدري حتى أسأل العالم ، فذهب ثم رجع فقال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك » وأخرج ابن مردويه ، عن جابر ، نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن قيس بن سعد بن عبادة ، قال : لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمزة بن عبد المطلب قال : « والله لأمثلنّ بسبعين منهم » ، فجاه جبريل بهذه الآية .
وأخرج ابن مردويه ، عن عائشة ، في قوله : { خُذِ العفو } ما عفا لك من مكارم الأخلاق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { خُذِ العفو } قال : خذ ما عفا من أموالهم ما أتوك به من شيء فخذه . وهذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقة وتفصيلها . وأخرج ابن جرير ، والنحاس ، في ناسخه ، عن السديّ في الآية قال : الفضل من المال نسخته الزكاة .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد ، قال : لما نزلت { خُذِ العفو } الآية . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كيف بالغضب ياربّ؟ فنزل { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } » وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { إِنَّ الذين اتقوا } قال هم المؤمنون . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : « إِذَا مَسَّهُمْ طيف مِنَ الشيطان » قال : الغضب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الطيف : الغضب .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { تَذَكَّرُواْ } قال : إذا زلوا تابوا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في الآية قال الطائف : اللمة من الشيطان { تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } يقول : فإذا هم منتهون عن المعصية ، آخذون بأمر الله ، عاصون للشيطان { وإخوانهم } قال : إخوان الشياطين : { يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } قال : لا الإنس يمسكون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } يقول : لولا أحدثتها ، لولا تلقيتها فأنشأتها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عنه { وإخوانهم يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى } قال : هم الجنّ يوحون إلى أوليائهم من الإنس { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } يقول : لا يسأمون { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } يقول : هلا افتعلتها من تلقاء نفسك .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن أبي هريرة ، في قوله : { وَإِذَا قُرِىء القرءان } الآية قال : نزلت في رفع الأصوات ، وهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن ابن عباس ، في الآية قال : يعني في الصلاة المفروضة . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي ، عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ خلفه قوم فخلطوا ، فنزلت : { وَإِذَا قُرِىء القرءان } الآية ، فهذه في المكتوبة . قال : وإن كنا لم نستمع لمن يقرأ بالأخفى من الجهر . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن محمد بن كعب القرظي نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي عن عبد الله بن مغفل نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي ، عن ابن مسعود ، نحوه أيضاً .
وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف ، وصرحوا بأن هذه الآية نزلت في قراءة الصلاة من الإمام . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن الحسن ، في الآية قال : عند الصلاة المكتوبة ، وعند الذكر . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في الآية قال : في الصلاة وحين ينزل الوحي . وأخرج البيهقي عنه في الآية أنه قال : هذا في الصلاة .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } الآية قال : أمره الله أن يذكره ، ونهاه عن الغفلة ، أما بالغدوّ فصلاة الصبح ، والآصال بالعشي . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي صخر . قال : الآصال ما بين الظهر والعصر . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في الآية قال : لا تجهر بذاك { بالغدو والآصال } بالبكر والعشيّ . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { بالغدو } قال : آخر الفجر صلاة الصبح . والآصال آخر العشي صلاة العصر .
والأحاديث والآثار عن الصحابة في سجود التلاوة ، وعدد المواضع التي يسجد فيها ، وكيفية السجود ، وما يقال فيه مستوفاة في كتب الحديث والفقه ، فلا نطوّل بإيراد ذلك هاهنا .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

الأنفال : جمع نفل محرّكاً ، وهو الغنيمة ، ومنه قول عنترة :
إنا إذا احمرّ الوغى نروي القنا ... ونعف عند تقاسم الأنفال
أي الغنائم . وأصل النفل . الزيادة . وسميت الغنيمة به لأنها زيادة فيما أحلّ الله لهذه الأمة مما كان محرماً على غيرهم . أو لأنها زيادة على ما يحصل للمجاهد من أجر الجهاد . ويطلق النفل على معان أخر منها اليمين ، والابتغاء ، ونبت معروف . والنافلة : التطوّع لكونها زائدة على الواجب . والنافلة : ولد الولد ، لأنه زيادة على الولد .
وكان سبب نزول الآية اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في يوم بدر كما سيأتي بيانه ، فنزع الله ما غنموه من أيديهم ، وجعله لله والرسول ، فقال : { قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } أي حكمها مختص بهما ، يقسمها بينكم رسول الله عن أمر الله سبحانه ، وليس لكم حكم في ذلك .
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، ليس لأحد فيها شيء حتى نزل قوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] . وثم أمرهم بالتقوى ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله والرسول بالتسليم لأمرهما ، وترك الاختلاف الذي وقع بينهم ، ثم قال : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي امتثلوا هذه الأوامر الثلاثة إن كنتم مؤمنين بالله . وفيه من التهييج والإلهاب مالا يخفى ، مع كونهم في تلك الحال على الإيمان ، فكأنه قال : إن كنتم مستمرّين على الإيمان بالله ، لأن هذه الأمور الثلاثة التي هي تقوى الله ، وإصلاح ذات البين ، وطاعة الله والرسول ، لا يكمل الإيمان بدونها ، بل لا يثبت أصلاً لمن لم يمتثلها ، فإن من ليس بمتق ، وليس بمطيع لله ورسوله ليس بمؤمن .
وقد أخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أبي أمامة ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقسمه رسول الله بين المسلمين عن بواء . يقول : عن سواء . وأخرج سعيد ابن منصور ، وأحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأكبت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدوّ منه غرّة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدوّ : لستم بأحق بها منا ، نحن نفينا عنه العدوّ وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخفنا أن يصيب العدوّ منه غرّة فاشتغلنا به ، فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال لِلَّهِ والرسول } قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدوّ نفل الربع ، وإذا أقبل راجعاً وكلّ الناس نفل الثلث .

وكان يكره الأنفال ويقول : ليرد قويّ المسلمين على ضعيفهم .
وأخرج إسحاق بن راهويه في مسنده ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي أيوب الأنصاريّ قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ، فنصرها الله وفتح عليها ، فكان من آتاه بشيء نفله من الخمس ، فرجع رجال كانوا يستقدمون ويقتلونه ويأسرون ، وتركوا الغنائم خلفهم ، فلم ينالوا من الغنائم شيئاً ، فقالوا : يا رسول الله ما بال رجال منا يستقدمون ويأسرون ، وتخلف رجال لم يصلوا بالقتال فنفلتهم بالغنيمة؟ فسكت رسول الله ونزل : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية ، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « ردوا ما أخدتم واقتسموا بالعدل والسوية فإن الله يأمركم بذلك » ، فقالوا : قد أنفقنا وأكلنا ، فقال : « احتسبوا ذلك » . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال قلت : يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف ، فقال : « إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه » ، فوضعته ، ثم رجعت قلت عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي ، إذا رجل يدعوني من ورائي ، قلت : قد أنزل الله فيّ شيئاً؟ قال : « كنت سألتني هذا السيد وليس هو لي ، وإنه قد وهب لي فهو لك » وأنزل الله هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } وفي لفظ لأحمد أن سعداً قال : لما قتل أخي يوم بدر ، وقتلت سعيد بن العاص ، وأخذت سيفه وكان يسمّى ذا الكتيفة ، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر نحو ما تقدّم ، وقد روي هذا الحديث عن سعد من وجوه أخر .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جدّه : أن الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم يوم بدر ، فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } . وأخرج ابن مردويه عنه قال : لم ينفل النبي صلى الله عليه وسلم بعد إذ نزلت عليه { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } إلا من الخمس ، فإنه نفل يوم خيبر من الخمس .

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من قتل قتيلاً فله كذا وكذا » ، ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا ، فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات ، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم ، فقالت المشيخة للشبان : أشركونا معكم فإنا كنا لكم رِدءاً ، ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية ، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم الغنائم بينهم بالسوية .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس ، في قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } قال : الأنفال المغانم . كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه به . فمن حبس منه إبرة أو سلكاً فهو غلول ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها شيئاً فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال } لي جعلتها لرسولي ليس لكم فيها شيء { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } إلى قوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ثم أنزل الله { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } [ الأنفال : 41 ] الآية ، ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذي القربى واليتامى ، والمساكين ، والمهاجرين في سبيل الله ، وجعل أربعة أخماس الناس فيه سواء ، للفرس سهمان ، ولصاحبه سهم ، وللراجل سهم . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } قال : هي الغنائم ، ثم نسخها { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } الآية .
وأخرج مالك وابن أبي شيبة ، وأبو عبيد ، وعبد بن حميد وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال : الفرس من النفل ، والسلب من النفل ، فأعاد المسألة فقال ابن عباس : هذا مثل ضبيع الذي ضربه عمر؛ وفي لفظ : فقال ما أحوجك أن يصنع بك كما صنع عمر بضبيع العراقي ، وكان عمر ضربه حتى سالت الدماء على عقبيه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه ، قال : الأنفال المغانم ، أمروا أن يصلحوا ذات بينهم فيها ، فيرد القويّ على الضعيف . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والنحاس ، وأبو الشيخ ، عن عطاء ، في قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } قال : هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال ، من عبد أو دابة أو متاع ، فذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، يصنع به ما شاء .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن عمرو قال : أرسلنا إلى سعيد بن المسيب نسأله عن الأنفال فقال : تسألوني عن الأنفال ، وإنه لا نفل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد الرزاق عن سعيد أيضاً قال : ما كانوا ينفلون إلا من الخمس . وروي عبد الرزاق عنه أنه قال : لا نفل في غنائم المسلمين إلا في خمس الخمس . وأخرج عبد الرزاق عن أنس أن أميراً من الأمراء أراد أن ينفله قبل أن يخمسه ، فأبى أنس أن يقبله حتى يخمسه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن الشعبي ، في قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } قال : ما أصابت السرايا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والنحاس في ناسخه ، عن مجاهد ، وعكرمة ، قال : كانت الأنفال لله والرسول ، حتى نسختها آية الخمس { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } الآية [ الأنفال : 41 ] .
وأخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ، في الأدب المفرد ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } قال : هذا تخريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم حيث اختلفوا في الأنفال . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مكحول ، قال : كان صلاح ذات بينهم أن ردت الغنائم ، فقسمت بين من ثبت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين من قاتل وغنم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء ، في قوله : { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } قال : طاعة الرسول اتباع الكتاب والسنة .

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

الوجل الخوف والفزع ، والمراد أن حصول الخوف من الله . والفزع منه عند ذكره هو شأن المؤمنين الكاملي الإيمان المخلصين لله ، فالحصر باعتبار كمال الإيمان لا باعتبار أصل الإيمان .
قال جماعة من المفسرين : هذه الآية متضمنة للتحريض على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما أمر به من قسمة الغنائم ، ولا يخفاك أن هذا وإن صح إدراجه تحت معنى الآية ، من جهة أن وجل القلوب عند الذكر وزيادة الإيمان عند تلاوة آيات الله يستلزمان امتثال ما أمر به سبحانه من كون الأنفال لله والرسول ، ولكن الظاهر أن مقصود الآية هو إثبات هذه المزية لمن كمل إيمانه من غير تقييد بحال دون حال ، ولا بوقت دون وقت ، ولا بواقعة دون واقعة .
والمراد من تلاوة آياته تلاوة الآيات المنزلة أو التعبير عن بديع صنعته ، وكمال قدرته في آياته التكوينية بذكر خلقها البديع وعجائبها التي يخشع عند ذكرها المؤمنون . قيل والمراد بزيادة الإيمان : هو زيادة انشراح الصدر وطمأنينة القلب وانثلاج الخاطر عند تلاوة الآيات . وقيل المراد بزيادة الإيمان : زيادة العمل؛ لأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ، والآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة ترد ذلك وتدفعه .
{ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } لا على غيره . والتوكل على الله : تفويض الأمر إليه في جميع الأمور . والموصول في قوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة } في محل رفع على أنه وصف للموصول الذي قبله ، أو بدل منه ، أو بيان له ، أو في محل نصب على المدح . وخص إقامة الصلاة والصدقة لكونهما أصل الخير وأساسه . و «من» في { مّمَّا } للتبعيض .
والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المتصفين بالأوصاف المتقدّمة ، وهو مبتدأ وخبره { هُمُ المؤمنون } أي إن هؤلاء هم الكاملون الإيمان البالغون فيه إلى أعلى درجاته ، وأقصى غاياته . و { حَقّاً } مصدر مؤكد لمضمون جملة { هم المؤمنون } أي حق ذلك حقاً أو صفة مصدر محذوف ، أي هم المؤمنون إيماناً حقاً . ثم ذكر ما أعدّ لمن كان جامعاً بين هذه الأوصاف من الكرامة فقال { لَّهُمْ درجات } أي منازل خير وكرامة ، وشرف في الجنة كائنة عند ربهم ، وفي كونها عنده سبحانه زيادة تشريف لهم وتكريم ، وتعظيم وتفخيم . وجملة { لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ } خبر ثان ل { أولئك } أو مستأنفة جواباً لسؤال مقدر { وَمَغْفِرَةٌ } معطوف على درجات أي مغفرة لذنوبهم . { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } يكرمهم الله به من واسع فضله ، وفائض جوده .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال : فرقت قلوبهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه ، أيضاً في الآية قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون على الله ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدّون زكاة أموالهم ، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فأدّوا فرائضه .

وأخرج الحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، من طريق شهر بن حوشب ، عن أمّ الدرداء قالت : إنما الوجل في القلب كاحتراق السعفة يا شهر بن حوشب ، أما تجد قشعريرة؟ قلت بلى ، قالت : فادع عندها فإن الدعاء يستجاب عند ذلك .
وأخرج الحكيم الترمذي عن ثابت البناني قال : قال فلان : إني لأعلم متى يستجاب لي قالوا : ومن أين لك؟ قال : إذا اقشعرّ جلدي ، ووجل قلبي ، وفاضت عيناي ، فذلك حين يستجاب لي . وأخرج أيضاً عن عائشة قالت : ما الوجل في قلب المؤمن إلا كضرمة السعفة ، فإذا وجل أحدكم فليدع عند ذلك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في الآية قال : هو الرجل يريد أن يظلم أو يهمّ بمعصية ، فيقال له اتق الله فييجل قلبه .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { زَادَتْهُمْ إيمانا } قال : تصديقاً . وأخرج هؤلاء عن الربيع بن أنس في قوله : { زَادَتْهُمْ إيمانا } قال : خشية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يقول : لا يرجون غيره .
وأخرجا عنه في قوله : { أُوْلئِكَ هُمُ المؤمنون حَقّاً } قال : برئوا من الكفر . وأخرج أبو الشيخ عنه { حَقّاً } قال : خالصاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { لَّهُمْ درجات } يعني فضائل ورحمة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { لَّهُمْ درجات } قال : أعمال رفيعة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك في قوله : { لَّهُمْ درجات } قال : أهل الجنة بعضهم فوق بعض . فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه . ولا يرى الذي هو أسفل أنه فضل عليه أحد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في قوله : { وَمَغْفِرَةٌ } قال : بترك الذنوب . { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } قال : الأعمال الصالحة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال إذا سمعتم الله يقول : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } فهي الجنة .

كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } قال الزجاج : الكاف في موضع نصب ، أي الأنفال ثابتة لك كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، أي مثل إخراج ربك ، والمعنى : امض لأمرك في الغنائم . ونفل من شئت ، وإن كرهوا ، لأن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل لكل من أتى بأسير شيئاً قال : بقي أكثر الناس بغير شيء . فموضع الكاف نصب كما ذكرنا . وبه قال الفراء . وقال أبو عبيدة : هو قسم ، أي والذي أخرجك ، فالكاف بمعنى الواو ، و « ما » بمعنى الذي . وقال الأخفش سعيد بن مسعدة المعنى أولئك هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك . وقال عكرمة المعنى : أطيعوا الله ورسوله كما أخرجك ربك .
وقيل { كما أخرجك } متعلق بقوله : { لَّهُمْ درجات } أي هذا الوعد للمؤمنين حق في الآخرة { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } الواجب له ، فأنجز وعدك وظفرك بعدوّك وأوفى لك . ذكره النحاس واختاره . وقيل الكاف في { كما } كاف التشبيه على سبيل المجازاة كقول القائل لعبده : كما وجهتك إلى أعدائي فاستضعفوك ، وسألت مدداً فأمددتك وقوّيتك وأزحت علتك ، فخذهم الآن فعاقبهم . وقيل : إن الكاف في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك . يعني أن حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب ، ذكره صاحب الكشاف .
و { بالحق } متعلق بمحذوف ، والتقدير : إخراجاً متلبساً بالحق الذي لا شبهة فيه ، وجملة { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } في محل نصب على الحال ، أي كما أخرجك في حال كراهتهم لذلك ، لأنه لما وعدهم الله إحدى الطائفتين ، إما العير أو النفير ، رغبوا في العير لما فيها من الغنيمة والسلامة من القتال كما سيأتي بيانه .
وجملة { يجادلونك فِي الحق بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } إما في محل نصب على أنها حال بعد حال ، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر . ومجادلتهم لما ندبهم إلى إحدى الطائفتين ، وفات العير وأمرهم بقتال النفير ، ولم يكن معهم كثير أهبة ، لذلك شق عليهم وقالوا : لو أخبرتنا بالقتال لأخدنا العدة وأكملنا الأهبة . ومعنى { فِي الحق } أي في القتال بعد ما تبين لهم أنك لا تأمر بالشيء إلا بإذن الله ، أو بعد ما تبين لهم أن الله وعدهم بالظفر بإحدى الطائفتين . وأن العير إذا فاتت ظفروا بالنفير . و { بعد } ظرف ليجادلونك . و { ما } مصدرية أي يجادلونك بعد ما تبين الحق لهم .
قوله : { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الموت وَهُمْ يَنظُرُونَ } الكاف في محل نصب على الحال من الضمير في { لَكَارِهُونَ } أي : حال كونهم في شدة فزعهم من القتال ، يشبهون حال من يساق ليقتل ، وهو مشاهد لأسباب قتله ، ناظر إليها لا يشك فيها .

قوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } الظرف منصوب بفعل مقدّر ، أي واذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتين . وأمرهم بتذكير الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث بقصد المبالغة . والطائفتان : هما العير والنفير . و { إحدى } هو ثاني مفعولي { يعد } ، و { أَنَّهَا لَكُمْ } بدل منه بدل اشتمال . ومعناه : أنها مسخرة لكم ، وأنكم تغلبونها وتغنمون منها وتصنعون بها ما شئتم من قتل وأسر وغنيمة ، لا يطيقون لكم دفعاً ، ولا يملكون لأنفسهم منكم ضراً ولا نفعاً . وفي هذه الجملة تذكير لهم بنعمة من النعم التي أنعم الله بها عليهم .
قوله : { وَتَوَدُّونَ } معطوف على { يَعِدُكُمُ } من جملة الحوادث التي أمروا بذكر وقتها . { أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة } من الطائفتين ، وهي طائفة العير { تَكُونُ لَكُمْ } دون ذات الشوكة ، وهي طائفة النفير . قال أبو عبيدة : أي غير ذات الحدّ . والشوكة : السلاح ، والشوكة : النبت الذي له حدّ . ومنه رجل شائك السلاح ، أي حديد السلاح . ثم يقلب فيقال شاكي السلاح . فالشوكة مستعارة من واحدة الشوك . والمعنى : وتودّون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح ، وهي طائفة الغير ، لأنها غنيمة صافية عن كدر القتال ، إذ لم يكن معها من يقوم بالدفع عنها .
قوله : { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بكلماته } معطوف على { تودّون } وهو من جملة ما أمروا بذكر وقته ، أي ويريد الله غير ما تريدون ، وهو أن يحقّ الحقّ بظهاره ، لما قضاه من ظفركم بذات الشوكة ، وقتلكم لصناديدهم ، وأسر كثير منهم ، واغتنام ما غنمتم من أموالهم التي أجلبوا بها عليكم ، وراموا دفعكم بها . والمراد بالكلمات : الآيات التي أنزلها في محاربة ذات الشوكة ، ووعدكم منه بالظفر بها . { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } الدابر : الآخر ، وقطعه عبارة عن الاستئصال . والمعنى : ويستأصلهم جميعاً .
قوله : { لِيُحِقَّ الحق وَيُبْطِلَ الباطل } هذه الجملة علة لما يريده الله ، أي أراد ذلك ، أو يريد ذلك ليظهر الحق ، ويرفعه { وَيُبْطِلَ الباطل } ويضعه ، أو اللام متعلقة بمحذوف ، أي فعل ذلك ليحق الحق . وقيل متعلق ب { يقطع } ، وليس في هذه الجملة تكرير لما قبلها ، لأن الأولى لبيان التفاوت فيما بين الإرادتين . وهذه لبيان الحكمة الداعية إلى ذلك ، والعلة المقتضية له . والمصلحة المترتبة عليه . وإحقاق الحق إظهاره ، وإبطال الباطل إعدامه : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] ومفعول { وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } محذوف ، أي ولو كرهوا أن يحق الحق ، ويبطل الباطل . والمجرمون هم المشركون من قريش ، أو جميع طوائف الكفار .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة ، وبلغه أن عير أبي سفيان قد أقبلت فقال :

« ما ترون فيها لعلّ الله يغنمناها ويسلمنا » ، فخرجنا فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعادّ ، ففعلنا ، فإذا نحن ثلاثمائة وثلاثة عشر ، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدّتنا ، فسرّ بذلك وحمد الله وقال : « عدّة أصحاب طالوت » ، فقال : « ما ترون في قتال القوم ، فإنهم قد أخبروا بمخرجكم » ، فقلنا : يا رسول الله ، لا والله ما لنا طاقة بقتال القوم ، إنما خرجنا للعير ، ثم قال : « ما ترون في قتال القوم؟ » فقلنا مثل ذلك ، فقال المقداد : لا تقولوا كما قال قوم موسى لموسى { اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] فأنزل الله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } إلى قوله : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ } . فلما وعدنا الله إحدى الطائفتين ، إما القوم وإما العير ، طابت أنفسنا ، ثم إنا اجتمعنا مع القوم فصففنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم إني أنشدك وعدك » ، فقال ابن رواحة : يا رسول الله إني أريد أن أشير عليك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من أن يشير عليه ، إن الله أجلّ وأعظم من أن تنشده وعده ، فقال : « يا ابن رواحة لأنشدنّ الله وعده ، فإن الله لا يخلف الميعاد » ، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه القوم فانهزموا ، فأنزل الله { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] فقتلنا وأسرنا ، فقال عمر : يا رسول الله ما أرى أن يكون لك أسرى ، فإنما نحن داعون مؤلفون ، فقلنا : يا معشر الأنصار إنما يحمل عمر على ما قال حسد لنا . فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استيقظ فقال : « ادعوا لي عمر » ، فدعي له فقال : « إن الله قد أنزل عليّ » { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } الآية [ الأنفال : 67 ] . وفي إسناده ابن لهيعة ، وفيه مقال معروف .
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف ، وابن مردويه عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي عن أبيه عن جدّه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال : { كيف ترون؟ } فقال أبو بكر : يا رسول الله ، بلغنا أنهم كذا وكذا ، ثم خطب الناس فقال : « كيف ترون؟ » فقال عمر مثل قول أبي بكر . ثم خطب الناس فقال : « كيف ترون؟ » فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله ، إيانا تريد ، فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ، ولا لي بها علم ، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن ، لنسيرن معك ، ولا نكونن كالذين قالوا لموسى :

{ اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هاهنا هاهنا قاعدون } [ المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له ، فصل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } إلى قوله : { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } وإنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الغنيمة مع أبي سفيان ، فأحدث الله إليه القتال .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } قال : كذلك يجادلونك في خروج القتال . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } قال : السدى في قوله { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } قال : خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر { وَإِنَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين لَكَِّرِهُونَ } قال : لطلب المشركين . { يجادلونك فِي الحق بَعْدَمَا مَا تَبَيَّنَ } أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } قال : هي عير أبي سفيان . ودّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن العير كانت لهم ، وأن القتال صرف عنهم . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة : { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين } أي شأفتهم . ووقعة بدر قد اشتملت عليها كتب الحديث ، والسير ، والتاريخ مستوفاة ، فلا نطيل بذكرها .

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ } الظرف متعلق بمحذوف ، أي واذكروا وقت استغاثتكم . وقيل بدل من { وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله } [ الأنفال : 7 ] معمول لعامله . وقيل : متعلق بقوله : { لِيُحِقَّ الحق } [ الأنفال : 8 ] والاستغاثة : طلب الغوث . يقال : استغاثني فلان فأغثته ، والاسم الغياث . والمعنى : أن المسلمين لما علموا أنه لا بدّ من قتال الطائفة ذات الشوكة ، وهم النفير كما أمرهم الله بذلك ، وأراده منهم ، ورأوا كثرة عدد النفير ، وقلة عددهم ، استغاثوا بالله سبحانه . وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن عدد المشركين يوم بدر ألف ، وعدد المسلمين ثلثمائة وسبعة عشر رجلاً ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك استقبل القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم آتني ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " الحديث { فاستجاب لَكُمْ } عطف على { تستغيثون } داخل معه في التذكير ، وهو وإن كان مستقبلاً فهو بمعنى الماضي ، ولهذا عطف عليه استجاب .
قوله : { أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الملئكة } أي بأني ممدكم ، فحذف حرف الجرّ وأوصل الفعل إلى المفعول ، وقرىء بكسر الهمزة على إرادة القول ، أو على أن في { استجاب } معنى القول .
قوله : { مُرْدِفِينَ } قرأ نافع بفتح الدال اسم مفعول ، وقرأ الباقون بكسرها اسم فاعل وانتصابه على الحال . والمعنى على القراءة الأولى : أنه جعل بعضهم تابعاً لبعض . وعلى القراءة الثانية : أنهم جعلوا بعضهم تابعاً لبعض وقيل : إن { مردفين } على القراءتين نعت لألف . وقيل : إنه على القراءة الأولى ، حال من الضمير المنصوب في { ممدكم } : أي ممددكم في حال إردافكم بألف من الملائكة . وقد قيل : إن ردف وأردف بمعنى واحد . وأنكره أبو عبيدة قال : لقوله تعالى : { تَتْبَعُهَا الرادفة } [ النازعات : 7 ] ولم يقل المردفة . قال سيبويه : وفي الآية قراءة ثالثة وهي «مردّفين» بضم الراء وكسر الدال مشدّدة . وقراءة رابعة بفتح الراء وتشديد الدال . وقرأ جعفر بن محمد ، وعاصم الجحدري «بآلاف» جمع ألف ، وهو الموافق لما تقدّم في آل عمران .
والضمير في { وما جعله الله } راجع إلى الإمداد المدلول عليه بقوله : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ } { إِلاَّ بشرى } أي إلا بشارة لكم بنصره ، وهو استثناء مفرّغ ، أي ما جعل إمدادكم لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بالنصر . { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ } أي بالإمداد قلوبكم . وفي هذا إشعار بأن الملائكة لم يقاتلوا ، بل أمدّ الله المسلمين بهم للبشرى لهم ، وتطمين قلوبهم وتثبيتها . واللام في { لتطمئن } متعلقة بفعل محذوف يقدر متأخراً ، أي ولتطمئن قلوبكم فعل ذلك لا لشيء آخر . { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } لا من عند غيره ، ليس للملائكة في ذلك أثر ، فهو الناصر على الحقيقة ، وليسوا إلا سبباً من أسباب النصر التي سببها الله لكم ، وأمدكم بها .

{ إِنَّ الله عَزِيزٌ } لا يغالب { حَكِيمٌ } في كل أفعاله .
وقد أخرج ابن جرير ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة . وأخرج سنيد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : ما أمدّ النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من هذه الألف التي ذكر الله في الأنفال ، وما ذكر الثلاثة الآلاف ، والخمسة الآلاف إلا بشرى .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { مُرْدِفِينَ } قال : متتابعين . وأخرج ابن جرير ، عنه ، في قوله : { مُرْدِفِينَ } يقول : المدد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عنه ، أيضاً في الآية قال : وراء كل ملك ملك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الشعبي ، قال : كان ألف مردفين ، وثلاثة آلاف منزلين ، فكانوا أربعة آلاف ، وهم مدد المسلمين في ثغورهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { مُرْدِفِينَ } قال : مجدّين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : متتابعين ، أمدّهم الله بألف ثم بثلاثة ، ثم أكملهم خمسة آلاف . { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } لكم { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } قال : يعني نزول الملائكة . قال : وذكر لنا أن عمر قال : أما يوم بدر فلا نشك أن الملائكة كانوا معنا . وأما بعد ذلك فالله أعلم . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد { مُرْدِفِينَ } قال : بعضهم على أثر بعض .

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)

قوله : { إِذْ يُغَشِّيكُم } الظرف منصوب بفعل مقدّر كالذي قبله ، أو بدل ثان من { إذ يعدكم } ، أو منصوب بالنصر المذكور قبله . وقيل : غير ذلك مما لا وجه له . و { إِذْ يُغَشّيكُمُ } هي : قراءة نافع وأهل المدينة على أن الفاعل هو الله سبحانه . وهذه القراءة هي المطابقة لما قبلها . أعني قوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } ولما بعدها أعني { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم } فيتشاكل الكلام ويتناسب . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو « يغشاكم » على أن الفاعل للنعاس . وقرأ الباقون { يُغَشّيكُمُ } بفتح الغين وتشديد الشين ، وهي كقراءة نافع وأهل المدينة في إسناد الفعل إلى الله ، ونصب النعاس . قال مكي : والاختيار ضم الياء والتشديد ، ونصب النعاس لأن بعده { أَمَنَةً مّنْهُ } . والهاء في { منه } لله ، فهو الذي يغشيهم النعاس ، ولأن الأكثر عليه ، وعلى القراءة الأولى والثالثة يكون انتصاب { أمنة } على أنها مفعول له . ولا يحتاج في ذلك إلى تأويل وتكلف ، لأن فاعل الفعل المعلل والعلة واحد بخلاف انتصابها على العلة ، باعتبار القراءة الثانية ، فإنه يحتاج إلى تكلف . وأما على جعل الأمنة مصدراً فلا إشكال ، يقال أمن أمنة ، وأمناً وأماناً . وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم ، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدوّ والمهابة لجانبه ، سكن الله قلوبهم وأمَّنها حتى ناموا آمنين غير خائفين ، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها ، قيل : وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان : أحدهما أنه قَّواهم بالاستراحة على القتال من الغد . الثاني : أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم . وقيل : إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين ، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران .
قوله : { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } هذا المطر كان بعد النعاس . وقيل : قبل النعاس . وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر ، فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم ، فأنزل الله المطر ليلة بدر . والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر ، وأنه منع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم ، ولم يصب المسلمين منه إلا ما شدّ لهم دهس الوادي ، وأعانهم على المسير .
ومعنى { لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } ؛ ليرفع عنكم الأحداث { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } أي : وسوسته لكم ، بما كان قد سبق إلى قلوبهم من الخواطر التي هي منه من الخوف والفشل حتى كانت حالهم حال من يساق إلى الموت { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب . والضمير في { بِهِ } من قوله : { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } راجع إلى الماء الذي أنزله الله ، أي يثبت بهذا الماء الذي أنزله عليكم عند الحاجة إليه أقدامكم في مواطن القتال .

وقيل الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل .
قوله : { إِذ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنّي مَعَكُمْ } الظرف منصوب بفعل محذوف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا يقف على ذلك سواه ، أي واذكر يا محمد وقت إيحاء ربك إلى الملائكة . وقيل : هو بدل من { إِذْ يَعِدُكُمُ } كما تقدّم . ولكنه يأبى ذلك أن هذا لا يقف عليه المسلمون ، فلا يكون من جملة النعم التي عدّدها الله عليهم . وقيل : العامل فيه يثبت فيكون المعنى : يثبت الأقدام وقت الوحي ، وليس لهذا التقييد معنى . وقيل العامل فيه : { ليربط } ولا وجه لتقييد الربط على القلوب بوقت الإيحاء . ومعنى الآية : أني معكم بالنصر والمعونة ، فعلى قراءة الفتح للهمزة هو مفعول { يُوحِى } وعلى قراءة الكسر يكون بتقدير القول . ومعنى { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } بشروهم بالنصر ، أو ثبتوهم على القتال بالحضور معهم ، وتكثير سوادهم . وهذا أمر منه سبحانه للملائكة الذين أوحى إليهم بأنه معهم . والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها .
قوله : { سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } قد تقدّم بيان معنى إلقاء الرعب في آل عمران . قيل : هذه الجملة تفسير لقوله : { إِنّى مَعَكُمْ } ، قوله : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } قيل : المراد الأعناق أنفسها . و { فَوْقَ } زائدة قاله الأخفش وغيره . وقال محمد بن يزيد : هذا خطأ ، لأن { فوق } يفيد معنى ، فلا يجوز زيادتها ، ولكن المعنى أنه أبيح لهم ضرب الوجوه وما قرب منها . وقيل المراد بما فوق الأعناق الرؤوس . وقيل المراد بفوق الأعناق : أعاليها ، لأنها المفاصل الذي يكون الضرب فيها أسرع إلى القطع . قيل : وهذا أمر للملائكة . وقيل للمؤمنين ، وعلى الأوّل قيل هو تفسير لقوله : { فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ } .
قوله : { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال الزجاج : واحد البنان بنانة ، وهي هنا الأصابع وغيرها من الأعضاء ، والبنان مشتق من قولهم أبنّ الرجل بالمكان إذا أقام به ، لأنه يعمل بها ما يكون للإقامة والحياة . وقيل المراد بالبنان هنا : أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وهو عبارة عن الثبات في الحرب . فإذا ضربت البنان تعطل من المضروب القتال ، بخلاف سائر الأعضاء . قال عنترة :
وقد كان في الهيجاء يحمي ذمارها ... ويضرب عند الكرب كل بنان
وقال عنترة أيضاً :
وإن الموت طوع يدي إذا ما ... وصلت بنانها بالهندواني
قال ابن فارس : البنان الأصابع ، ويقال الأطراف ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما وقع عليهم من القتل ، ودخل في قلوبهم من الرعب ، وهو مبتدأ ، و { بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } خبره ، أي ذلك بسبب مشاقتهم . والشقاق أصله أن يصير كل واحد من الخصمين في شق ، وقد تقدّم تحقيق ذلك { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } له ، يعاقبه بسبب ما وقع منه من الشقاق .

قوله : { ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار } الإشارة إلى ما تقدّم من العقاب ، أو الخطاب هنا للكافرين ، كما أن الخطاب في قوله : { ذلكم } للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح للخطاب . قال الزجاج : ذلكم رفع بإضمار الأمر أو القصة ، أي الأمر أو القصة ذلكم فذوقوه . قال : ويجوز أن يضمر واعلموا . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون نصباً على عليكم ذلكم فذوقوه ، كقولك زيداً فاضربه . قال أبو حيان : لا يجوز تقدير عليكم لأنه اسم فعل ، وأسماء الأفعال لا تضمر ، وتشبيهه بزيداً فاضربه غير صحيح؛ لأنه لم يقدّر فيه عليك ، بل هو من باب الاشتغال . وجملة { وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار } معطوفة على ما قبلها فتكون الإشارة على هذا إلى العقاب العاجل الذي أصيبوا به ، ويكون { وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار } إشارة إلى العقاب الآجل .
وقد أخرج أبو يعلى ، والبيهقي في الدلائل ، عن عليّ قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن شهاب في الآية ، قال : بلغنا أن هذه الآية أنزلت في المؤمنين يوم بدر ، فيما أغشاهم الله من النعاس أمنة منه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { أَمَنَةً مّنْهُ } قال : أمناً من الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { أَمَنَةً مّنْهُ } قال : رحمة منه ، أمنة من العدو . وأخرج ابن أبي أبي حاتم ، عنه قال : النعاس في الرأس ، والنوم في القلب . وأخرج عبد بن حميد ، عنه ، أيضاً قال : كان النعاس أمنة من الله ، وكان النعاس نعاسين : نعاس يوم بدر ، ونعاس يوم أحد .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : { وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاء لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ } قال : طش كان يوم بدر . وأخرج هؤلاء عن مجاهد في الآية قال : المطر أنزله الله عليهم قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار ، والتبدت به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبتت به أقدامهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن إسحاق ، عن عروة بن الزبير ، قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهساً ، وأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد الأرض ، ولم يمنعهم المسير ، وأصاب قريشاً ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال : إن المشركين غلبوا المسلمين في أوّل أمرهم على الماء ، فضحى المسلمون وصلوا مجنبين محدثين ، فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن ، وقال أتزعمون أن فيكم نبياً وأنكم أولياء الله ، وتصلون مجنبين محدثين؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وثبتت أقدامهم ، وذهبت وسوسته .

وقد قدّمنا أن المشهور في كتب السير المعتمدة أن المشركين لم يغلبوا المؤمنين على الماء بل المؤمنون هم الذين غلبوا عليه من الابتداء . وهذا المرويّ عن ابن عباس في إسناده العوفي ، وهو ضعيف جداً .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { رِجْزَ الشيطان } قال : وسوسته . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } قال : بالصبر { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } قال : كان بطن الوادي دهاساً ، فلما مطروا اشتدت الرملة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } قال : حتى تشتدّ على الرمل ، وهو كهيئة الأرض . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عليّ قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تلك الليلة ويقول : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد » وأصابهم تلك الليلة مطر شديد ، فذلك قوله : { وَيُثَبّتَ بِهِ الأقدام } .
وأخرج ابن أبي شيبة ، عن مجاهد ، قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، قال : قال لي أبي : يا بنيّ لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير بسيفه إلى رأس المشرك ، فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس قال : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب على الأعناق ، وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق به . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، في قوله : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } يقول : الرؤوس . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عطية { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } قال : اضربوا الأعناق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } يقول : اضربوا الرقاب .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال : يعني بالبنان الأطراف . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عطية { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال : كل مفصل .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)

الزحف : الدنوّ قليلاً قليلاً ، وأصله الاندفاع على الإلية . ثم سمي كل ماش في الحرب إلى آخر زاحفاً . والتزاحف : التداني والتقارب . تقول زحف إلى العدوّ زحفاً ، وازدحف القوم ، أي مشى بعضهم إلى بعض ، وانتصاب { زحفاً } إما على أنه مصدر لفعل محذوف ، أي تزحفون زحفاً ، أو على أنه حال من المؤمنين ، أي حال كونكم زاحفين إلى الكفار ، أو حال من الذين كفروا ، أي حال كون الكفار زاحفين إليكم ، أو حال من الفريقين ، أي متزاحفين .
{ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } نهى الله المؤمنين أن ينهزموا عن الكفار إذا لقوهم ، وقد دبّ بعضهم إلى بعض للقتال ، فظاهر هذه الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلا حالة التحرّف والتحيز . وقد روي عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، وعكرمة ، ونافع ، والحسن ، وقتادة ، وزيد بن أبي حبيب ، والضحاك : أن تحريم الفرار من الزحف في هذه الآية مختص بيوم بدر . وأن أهل بدر لم يكن لهم أن ينحازوا ، ولو انحازوا لانحازوا إلى المشركين ، إذ لم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم ، ولا لهم فئة إلا النبي صلى الله عليه وسلم . فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض . وبه قال أبو حنيفة ، قالوا : ويؤيده قوله : { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فإنه إشارة إلى يوم بدر . وقيل إن هذه الآية منسوخة بآية الضعف . وذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية محكمة عامة غير خاصة ، وأن الفرار من الزحف محرّم ، ويؤيد هذا أن هذه الآية نزلت بعد انقضاء الحرب في يوم بدر .
وأجيب عن قول الأوّلين بأن الإشارة في { يَوْمَئِذٍ } إلى يوم بدر بأن الإشارة إلى يوم الزحف كما يفيده السياق ، ولا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف . بل هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرماً بشرط ما بينه الله في آية الضعف ، ولا وجه لما ذكروه من أنه لم يكن في الأرض يوم بدر مسلمون غير من حضرها ، فقد كان في المدينة إذ ذاك خلق كثير لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج ، لأنه صلى الله عليه وسلم ومن خرج معه لم يكونوا يرون في الابتداء أنه سيكون قتال . ويؤيد هذا ورود الأحاديث الصحيحة المصرّحة بأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر كما في حديث : « اجتنبوا السبع الموبقات » ، وفيه : « والتولي يوم الزحف » ونحوه من الأحاديث ، وهذا البحث تطول ذيوله وتتشعب طرقه ، وهو مبين في مواطنه . قال ابن عطية : والأدبار جمع دبر ، والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة في الفصاحة لما في ذلك من الشناعة على الفارّ والذمّ له .

قوله : { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ } التحرف : الزوال عن جهة الاستواء . والمراد به هنا التحرّف من جانب إلى جانب في المعركة طلباً لمكائد الحرب ، وخداعاً للعدوّ ، وكمن يوهم أنه منهزم ليتبعه العدوّ ، فيكرّ عليه ويتمكن منه ، ونحو ذلك من مكائد الحرب ، فإن الحرب خدعة .
قوله : { أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ } أي : إلى جماعة من المسلمين ، غير الجماعة المقابلة للعدوّ . وانتصاب { متحرّفاً } و { متحيزاً } على الاستثناء من المولين ، أي ومن يولهم دبره إلا رجلاً منهم متحرّفاً أو متحيزاً . ويجوز انتصابهما على الحال ، ويكون حرف الاستثناء لغواً لا عمل له . وجملة { فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله } جزاء للشرط . والمعنى : من ينهزم ويفرّ من الزحف ، فقد رجع بغضب كائن من الله إلاّ المتحرّف والمتحيز . { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } أي : المكان الذي يأوي إليه هو النار . ففراره أوقعه إلى ما هو أشدّ بلاء مما فرّ منه وأعظم عقوبة . والمأوى : ما يأوى إليه الإنسان { وَبِئْسَ المصير } ما صار إليه من عذاب النار . وقد اشتملت هذه الآية على هذا الوعيد الشديد لمن يفرّ عن الزحف ، وفي ذلك دلالة على أنه من الكبائر الموبقة . قوله :
{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } الفاء جواب شرط مقدّر ، أي إذا عرفتم ما قصه الله عليكم من إمداده لكم بالملائكة ، وإيقاع الرعب في قلوبهم ، فلم تقتلوهم ولكنّ الله قتلهم بما يسره لكم من الأسباب الموجبة للنصر .
قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } اختلف المفسرون في هذا الرمى على أقوال : فروي عن مالك أن المراد به : ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم حنين ، فإنه رمى المشركين بقبضة من حصباء الوادي ، فأصابت كل واحد منهم . وقيل المراد به : الرمية التي رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيّ بن خلف بالحربة في عنقه ، فانهزم ومات منها . وقيل المراد به : السهم الذي رمى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حصن خيبر ، فسار في الهوى حتى أصاب ابن أبي الحقيق ، وهو على فراشه .
وهذه الأقوال ضعيفة ، فإن الآية نزلت عقب وقعة بدر . وأيضاً المشهور في كتب السير والحديث في قتل ابن أبي الحقيق : أنه وقع على صورة غير هذه الصورة . والصحيح كما قال ابن إسحاق وغيره ، أن المراد بالرمي المذكور في هذه الآية هو : ما كان منه صلى الله عليه وسلم في يوم بدر ، فإنه أخذ قبضة من تراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فأصابت كل واحد منهم ودخلت في عينيه ومنخريه وأنفه .
قال ثعلب : المعنى { وَمَا رَمَيْتَ } الفزع والرعب في قلوبهم { إِذْ رَمَيْتَ } بالحصباء فانهزموا { ولكن الله رمى } أي : أعانك وأظفرك ، والعرب تقول : رمى الله لك ، أي أعانك وأظفرك وصنع لك .

وقد حكى مثل هذا أبو عبيدة في كتاب المجاز . وقال محمد بن يزيد المبرد : المعنى { وَمَا رَمَيْتَ } بقوّتك { إِذْ رَمَيْتَ } ولكنك بقوّة الله رميت .
وقيل المعنى : إن تلك الرمية بالقبضة من التراب التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة ، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه رمي البشر ، ولكنها كانت رمية الله ، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم ، فأثبت الرمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه ، لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله عزّ وجلّ ، فكأن الله فاعل الرمية على الحقيقة ، وكأنها لم توجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلاً ، هكذا في الكشاف .
قوله : { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا } البلاء ها هنا : النعمة . والمعنى : ولينعم على المؤمنين إنعاماً جميلاً . واللام متعلقة بمحذوف ، أي وللإنعام عليهم بنعمه الجميلة فعل ذلك لا لغيره ، أو الواو عاطفة لما بعدها على علة مقدرة قبلها ، أي ولكن الله رمى ، ليمحق الكافرين ، وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً . { وإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لدعائهم ، عليم بأحوالهم . والإشارة بقوله { ذلكم } إلى البلاء الحسن ، وهو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي الغرض { ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } أي : إن الغرض منه سبحانه بما وقع مما حكته الآيات السابقة ، إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين . وقيل المشار إليه القتل والرمي . وقد قرىء بتشديد الهاء وتخفيفها مع التنوين ، وقرأ الحسن بتخفيف الهاء مع الإضافة ، والكيد : المكر . وقد تقدّم بيانه .
وقد أخرج البخاري في تاريخه ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن نافع ، أنه سأل ابن عمر قال : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدوّنا ، ولا ندري من الفئة أمامنا أو عسكرنا؟ فقال لي : الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إن الله يقول : { إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } قال : إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر ، لا قبلها ولا بعدها . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري ، في قوله : { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } الآية قال : إنها كانت لأهل بدر خاصة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عمر بن الخطاب قال : لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر ، وأنا فئة لكل مسلم . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في الآية قال : نزلت في أهل بدر خاصة ما كان لهم أن ينهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركوه . وقد روي اختصاص هذه الآية بأهل بدر عن جماعة من التابعين ومن بعدهم ، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ } يعني : مستطرداً يريد الكرّة على المشركين { أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ } يعني : أو ينجاز إلى أصحابه من غير هزيمة { فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مّنَ الله } يقول : استوجبوا سخطاً من الله { وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } فهذا يوم بدر خاصة ، كان شديداً على المسلمين يومئذ ، ليقطع دابر الكافرين وهو أول قتال قاتل المشركين من أهل مكة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : المتحرّف : المتقدّم من أصحابه أن يرى عورة من العدوّ فيصيبها . والمتحيز : الفارّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره وأصحابه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن عطاء بن أبي رباح ، في قوله : { وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال : هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ } الآية [ الأنفال : 66 ] . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، واللفظ له ، وأبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن ابن عمر قال : كنا في غزاة فحاص الناس حيصة ، قلنا : كيف نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب؟ فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر ، فخرج فقال : « من القوم؟ » فقالنا : نحن الفرّارون ، فقال : « لا ، بل أنتم العكارون » فقبلنا يده فقال : « أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ، ثم قرأ { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ } » . وقد روي في تحريم الفرار من الزحف ، وأنه من الكبائر أحاديث ، وورد عن جماعة من الصحابة أنه من الكبائر ، كما أخرجه ابن جرير ، عن ابن عباس . وأخرجه ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر . وأخرجه ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن علي بن أبي طالب .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ } قال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال : هذا قتلت وهذا قتلت { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } قال لمحمد صلى الله عليه وسلم حين حصب الكفار . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة ، في قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } قال : رماهم يوم بدر بالحصباء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء وقال :

« شاهت الوجوه » ، فانهزمنا ، فذلك قوله تعالى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } الآية .
وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن جابر ، قال : سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر ، كأنهنّ وقعن في طست ، فلما اصطفّ الناس أخذهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهنّ في وجوه المشركين ، فانهزموا . فذلك قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } . وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ « ناولني قبضة من حصباء » ، فناوله فرمى بها في وجوه القوم ، فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء ، فنزلت هذه الآية { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيب ، قال : لما كان يوم أحد أخذ أبيّ بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعترض رجال من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « استأخروا » ، فاستأخروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده ، فرمى بها أبيّ بن خلف ، وكسر ضلعاً من أضلاعه ، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلاً ، فاحتملوه حين ولوا قافلين ، فطفقوا يقولون لا بأس ، فقال أبيّ حين قالوا له ذلك : والله لو كانت بالناس لقتلتهم ، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله ، فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق ، فدفنوه . قال ابن المسيب : وفي ذلك أنزل الله { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيب ، والزهري نحوه ، وإسناده صحيح إليهما ، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك . قال ابن كثير : وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جدّاً ، ولعلهما أرادا أن الآية تتناولهما بعمومها ، وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير كما سيأتي .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عبد الرحمن بن جبير : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ لما خرج ] يؤم ابن أبي الحقيق دعا بقوس فرمى بها الحصن ، فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه ، فأنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عروة بن الزبير ، في قوله : { ولكن الله رمى } أي : لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله من نصرك وما ألقى في صدور عدوّك حتى هزمهم { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا } أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوّهم مع كثرة عدوّهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ، ويشكروا بذلك نعمته .

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

الاستفتاح : طلب النصر ، وقد اختلف في المخاطبين بالآية من هم؟ فقيل : إنها خطاب للكفار تهكماً بهم ، والمعنى : إن تستنصروا الله على محمد فقد جاءكم النصر . وقد كانوا عند خروجهم من مكة سألوا الله أن ينصر أحق الطائفتين بالنصر ، فتهكم الله بهم ، وسمى ما حلّ بهم من الهلاك نصراً . ومعنى بقية الآية على هذا القول { وَإِن تَنتَهُواْ } عما كنتم عليه من الكفر والعداوة لرسول الله { فَهُوَ } أي : الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ } إلى ما كنتم عليه من الكفر والعداوة { نَعُدُّ } بتسليط المؤمنين عليكم ، ونصرهم كما سلطناهم ونصرناهم في يوم بدر { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ } أي : جماعتكم { شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أي : لا تغني عنكم في حال من الأحوال ، ولو في حال كثرتها ، ثم قال : { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } ومن كان الله معه ، فهو المنصور ، ومن كان الله عليه ، فهو المخذول . قرىء بكسر « إن » وفتحها ، فالكسر على الاستئناف ، والفتح على تقدير : ولأن الله مع المؤمنين فعل ذلك .
وقيل : إن الآية خطاب للمؤمنين ، والمعنى إن تستنصروا الله فقد جاءكم النصر في يوم بدر ، وإن تنتهوا عن مثل ما فعلتموه من أخذ الغنائم ، وفداء الأسرى قبل الإذن لكم بذلك ، فهو خير لكم ، وإن تعودوا إلى مثل ذلك نعد إلى توبيخكم ، كما في قوله : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } [ الأنفال : 68 ] الآية ، ولا يخفى أنه يأبي هذا القول معنى { وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً } ويأباه أيضاً { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } وتوجيه ذلك لا يمكن إلا بتكلف وتعسف .
وقيل إن الخطاب في { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } للمؤمنين ، وما بعده للكافرين ، ولا يخفى ما في هذا من تفكيك النظم وعود الضمائر الجارية في الكلام على نمط واحد إلى طائفتين مختلفتين .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وابن منده ، والحاكم وصححه ، والبهيقي في الدلائل ، عن ابن شهاب ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير ، أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان ذلك استفتاحاً منه فنزلت { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عطية ، قال : قال أبو جهل يوم بدر : اللهم انصر أهدى الفئتين ، وأفضل الفئتين ، وخير الفئتين ، فنزلت الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } يعني المشركين ، أي إن تستنصروا فقد جاءكم المدد .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } قال : كفار قريش في قولهم : ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه .

ففتح بينهم يوم بدر .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة ، في قوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } قال : إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء في يوم بدر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السندي ، في قوله : { وَإِن تَنتَهُواْ } قال : عن قتال محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ } قال : إن تستفتحوا الثانية أفتح لمحمد { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } قال : مع محمد وأصحابه . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ } يقول : نعد لكم بالأسر والقتل .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

أمر الله سبحانه المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، ونهاهم عن التولي عن رسوله ، فالضمير في { عَنْهُ } عائد إلى الرسول ، لأن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي من طاعة الله ، و { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] ويحتمل أن يكون هذا الضمير راجعاً إلى الله وإلى رسوله ، كما في قوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] وقيل : الضمير راجع إلى الأمر الذي دلّ عليه { أطيعوا } ، وأصل تولوا : تتولوا ، فطرحت إحدى التاءين ، هذا تفسير الآية على ظاهر الخطاب للمؤمنين ، وبه قال الجمهور .
وقيل : إنه خطاب للمنافقين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم فقط . قال ابن عطية : وهذا وإن كان محتملاً على بعد فهو ضعيف جدّاً ، لأن الله وصف من خاطبه في هذه الآية بالإيمان وهو التصديق .
والمنافقون لا يتصفون من التصديق بشيء ، وأبعد من هذا من قال : الخطاب لبني إسرائيل ، فإنه أجنبيّ من الآية . وجملة { وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ } في محل نصب على الحال ، والمعنى : وأنتم تسمعون ما يتلى عليكم من الحجج والبراهين وتصدقون بها ولستم كالصمّ البكم { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا } وهم المشركون أو المنافقون أو اليهود أو الجميع من هؤلاء ، فإنهم يسمعون بآذانهم من غير فهم ولا عمل ، فهم كالذي لم يسمع أصلاً؛ لأنه لم ينتفع بما سمعه .
ثم أخبر سبحانه { إِنَّ شَرَّ الدواب } أي : ما دبّ على الأرض { عَندَ الله } أي : في حكمه { الصم البكم } أي : الذين لا يسمعون ولا ينطقون ، وصفوا بذلك مع كونهم ممن يسمع وينطق ، لعدم انتفاعهم بالسمع والنطق { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } ما فيه النفع لهم فيأتونه ، وما فيه الضرر عليهم فيجتنبونه ، فهم شرّ الدوابّ عند الله ، لأنها تميز بعض تمييز ، وتفرق بين ما ينفعها ويضرّها .
{ وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ } أي : في هؤلاء الصمّ البكم { خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ } سماعاً ينتفعون به ، ويتعقلون عنده الحجج والبراهين . قال الزجاج { لاسْمَعَهُمْ } جواب كل ما سألوا عنه . وقيل : { لأسْمَعَهُمْ } كلام الموتى الذين طلبوا إحياءهم ، لأنهم طلبوا إحياء قصيّ بن كلاب وغيره؛ ليشهدوا بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } لأنه قد سبق في علمه أنهم لا يؤمنون . وجملة { وَهُم مُّعْرِضُونَ } في محل نصب على الحال .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } قال : عاصون . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عليّ بن أبي طالب ، في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } الآية قال : إن هذه الآية نزلت في فلان وأصحاب له .

وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } قال هم نفر من قريش من بني عبد الدار .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، في قوله : { الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ } قال : لا يتبعون الحق . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، قال : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث وقومه ، ولعله المكنى عنه « بفلان » فيما تقدّم من قول عليّ رضي الله عنه . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عروة بن الزبير ، في قوله : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ } أي : لأنفذ لهم قولهم الذي قالوا بألسنتهم ، ولكنّ القلوب خالفت ذلك منهم . وأخرج أبو الشيخ ، عن عكرمة ، في الآية قال : قالوا نحن صمّ عما يدعونا إليه محمد لا نسمعه ، بكم لا نجيبه فيه بتصديق ، قتلوا جميعاً بأحد ، وكانوا أصحاب اللواء يوم أحد .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)

الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة ، ووحد الضمير هنا حيث قال : { إِذَا دَعَاكُمْ } كما وحده في قوله : { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ } [ الأنفال : 20 ] وقد قدّمنا الكلام في وجه ذلك ، والاستجابة : الطاعة . قال أبو عبيدة معنى استجيبوا : أجيبوا . وإن كان استجاب يتعدّى باللام ، وأجاب بنفسه كما في قوله : { ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله } [ الأحقاف : 31 ] ، وقد يتعدّى استجاب بنفسه كما في قول الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
{ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } اللام متعلقة بقوله : { استجيبوا } أي : استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم ، ولا مانع من أن تكون متعلقة « بدعا » أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة ، فإن العلم حياة ، كما أن الجهل موت . فالحياة هنا مستعارة للعلم . قال الجمهور من المفسرين : المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ففيه الحياة الأبدية ، والنعمة السرمدية . وقيل المراد بقوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } الجهاد ، فإنه سبب الحياة في الظاهر ، لأن العدوّ إذا لم يغز غزا .
ويستدلّ بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان ، ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال . وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة ، وترك التقيد بالمذاهب ، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان .
قوله : { واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } قيل معناه : بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم . وقيل معناه : إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدوّ ، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً ، ويبدل عدوّهم من الأمن خوفاً . وقيل هو : من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } [ ق : 16 ] ومعناه : أنه مطلع على ضمائر القلوب ، لا تخفى عليه منها خافية .
واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عزّ وجلّ بأنه أملك لقلوب عباده منهم ، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء ، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عزّ وجلّ . ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني . { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } معطوف على { أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } وأنكم محشورون إليه ، وهو مجازيكم بالخير خيراً ، وبالشرّ شرّاً . قال الفراء : ولو استأنفت فكسرت همزة « إنَّه » لكان صواباً . ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية .

قوله : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } أي : اتقوا فتنة تتعدّى الظالم فتصيب الصالح والطالح ، ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم .
وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في { تُصِيبَنَّ } فقال الفراء : هو بمنزلة قولك : انزل عن الدابة لا تطرحنك ، فهو جواب الأمر بلفظ النهى ، أي إن تنزل عنها لا تطرحنك ، ومثله قوله تعالى : { ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وَجُنُودُهُ } [ النمل : 18 ] أي : إن تدخلوا لا يحطمنكم . فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء .
وقال المبرد : إنه نهى بعد أمر . والمعنى : النهي للظالمين ، أي لا يقربنّ الظلم ، ومثله ما روى عن سيبويه لا أرينك هاهنا . فإن معناه : لا تكن هاهنا ، فإن من كان ها هنا رأيته . وقال الجرجاني : إن { لا تصيبنّ } نهي في موضع وصف لفتنة . وقرأ عليّ ، وزيد بن ثابت ، وأبيّ وابن مسعود « لتصيبنّ » على أن اللام جواب لقسم محذوف ، والتقدير : اتقوا فتنة والله لتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة . فيكون معنى هذه القراءة مخالفاً لمعنى قراءة الجماعة ، لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة ، بخلاف قراءة الجماعة .
{ واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ، ومن شدّة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه ، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه ، ولا يعذب إلا بجنايته ، فيمكن حمل مافي هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض . ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة ، والله أعلم . ويمكن أن يقال : إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب : كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتكون الأسباب المتعدّية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : للحق . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في الآية : قال هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عروة بن الزبير ، في قوله : { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي : للحرب التي أعزّكم الله بها بعد الذلّ . وقوّاكم بها بعد الضعف ، ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم . وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلي ، قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، ثم أتيته فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، فقال : « ألم يقل الله تعالى { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } » الحديث . وفيه دليل على ما ذكرنا من أن الآية تعمّ كل دعاء من الله أو من رسوله .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه من طرق ، عن ابن عباس ، في قوله : { واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } قال : يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله . ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس ، في الآية قال علمه يحول بين المرء وقلبه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في الآية قال : يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل . وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن ، في الآية قال : في القرب منه .
وأخرج أحمد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، عن مطرف ، قال : قلت للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل ، ثم جئتم تطلبون بدمه . قال الزبير : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، قال : قرأ الزبير { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } قال : البلاء والأمر الذي هو كائن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن الحسن ، في الآية قال : نزلت في عليّ وعثمان وطلحة والزبير .
وأخرج عبد بن حميد ، عن الضحاك قال نزلت في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن السديّ قال : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا ، فكان من المقتولين طلحة والزبير ، وهما من أهل بدر . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في الآية قال : تصيب الظالم والصالح عامة . وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله .
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : هي مثل { يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } حتى يتركه لا يعقل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في الآية قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب . وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأن هذه الأمة إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ، عمهم الله بعذاب من عنده .

وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

الخطاب بقوله : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } للمهاجرين ، أي اذكروا وقت قلتكم ، و { مُّسْتَضْعَفُونَ } خبر ثان للمبتدأ ، والأرض هي أرض مكة ، والخطف : الأخذ بسرعة ، والمراد بالناس : مشركو قريش . وقيل : فارس والروم { فَآوَاكُمْ } يقال : آوى إليه بالمد وبالقصر بمعنى : انضم إليه . فالمعنى : ضمكم الله إلى المدينة أو إلى الأنصار { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } أي : قوّاكم بالنصر في مواطن الحرب التي منها يوم بدر ، أو قوّاكم بالملائكة يوم بدر { وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } التي من جملتها الغنائم { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إرادة أن تشكروا هذه النعم ، التي أنعم بها عليكم ، والخون أصله كما في الكشاف : النقص . كما أن الوفاء التمام ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء ، لأنك إذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت عليه النقصان . وقيل معناه : الغدر وإخفاء الشيء . ومنه قوله تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين } [ غافر : 19 ] نهاهم الله عن أن يخونوه بترك شيء مما افترضه عليهم ، أو يخونوا رسوله بترك شيء مما أمنهم عليه ، أو بترك شيء مما سنه لهم ، أو يخونوا شيئاً من الأمانات التي اؤتمنوا عليها ، وسميت أمانات لأنه يؤمن معها من منع الحق ، مأخوذة من الأمن .
وجملة { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } في محل نصب على الحال ، أي وأنتم تعلمون أن ذلك الفعل خيانة ، فتفعلون الخيانة عن عمد ، أو وأنتم من أهل العلم لا من أهل الجهل . ثم قال : { واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } لأنهم سبب الوقوع في كثير من الذنوب ، فصاروا من هذه الحيثية محنة يختبر الله بها عباده ، وإن كانوا من حيثية أخرى زينة الحياة الدنيا كما في الآية الأخرى { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } فآثروا حقه على أموالكم وأولادكم ، ليحصل لكم ما عنده من الأجر المذكور .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { واذكروا إِذَ أَنتُمْ قَلِيلٌ } قال : كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً ، وأشقاه عيشاً ، وأجوعه بطوناً ، وأعراه جلوداً ، وأبينه ضلالة ، من عاش عاش شقياً ، ومن مات منهم ردّي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، لا والله ما نعلم قبيلاً من حاضري الأرض يومئذ كان أشرّ منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام ، فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله عزّ وجلّ . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج ، في قوله : { يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } قال : في الجاهلية بمكة { فَآوَاكُمْ } إلى الإسلام . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن وهب ، في قوله : { يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } قال : الناس إذ ذاك فارس والروم .

وأخرج أبو الشيخ ، وأبو نعيم ، والديلمي ، في مسند الفردوس ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في قوله : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى الأرض تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس } قيل : يا رسول الله ومن الناس؟ قال : « أهل فارس » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { فَآوَاكُمْ } قال : إلى الأنصار بالمدينة { وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ } قال : يوم بدر .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن جابر بن عبد الله ، أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا » ، فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم ، فأنزل الله : { ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } الآية . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، قال : نزلت هذه الآية { لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } في أبي لبابة بن عبد المنذر ، سألوه يوم قريظة ما هذا الأمر؟ فأشار إلى حلقه أنه الذبح ، فنزلت . قال أبو لبابة : ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله . وأخرج سنيد ، وابن جرير ، عن الزهري نحوه بأطول منه . وأخرج عبد بن حميد ، عن الكلبي أن رسول الله بعث أبا لبابة إلى قريظة وكان حليفاً لهم ، فأومأ بيده أنه الذبح ، فنزلت . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، في هذه الآية : أنها نزلت في أبي لبابة ، ونسختها الآية التي في براءة { وَءاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } [ التوبة : 102 ] .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { لاَ تَخُونُواْ الله } قال : بترك فرائضه { والرسول } بترك سننه ، وارتكاب معصيته { وَتَخُونُواْ أماناتكم } يقول : لا تنقصوها . والأمانة : الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد . وأخرج ابن جرير ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان . ولعل مراده أن من جملة من يدخل تحت عمومها قتل عثمان . وأخرج أبو الشيخ ، عن يزيد بن أبي حبيب ، في الآية قال : هو الإخلال بالسلاح في المغازي ، ولعل مراده أن هذا مما يندرج تحت عمومها .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود ، قال : ما منكم من أحد إلا وهو يشتمل على فتنة ، لأن الله يقول : { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } فمن استعاذ منكم ، فليستعذ بالله من مضلات الفتن . وأخرج هؤلاء عن ابن زيد في الآية قال : فتنة الإختبار اختبرهم ، وقرأ و { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

جعل سبحانه التقوى شرطاً في الجعل المذكور ، مع سبق علمه بأنهم يتقون أو لا يتقون جرياً على ما يخاطب به الناس بعضهم بعضاً . والتقوى : اتقاء مخالفة أوامره والوقوع في مناهيه . والفرقان : ما يفرق به بين الحق والباطل ، والمعنى : أنه يجعل لهم من ثبات القلوب ، وثقوب البصائر ، وحسن الهداية ما يفرقون به بينهما عند الالتباس . وقيل : الفرقان المخرج من الشبهات والنجاة من كل ما يخافونه ، ومنه قول الشاعر :
مالك من طول الأسى فرقان ... بعد قطين رحلوا وبانوا
ومنه قول الآخر :
وكيف أرجو الخلد والموت طالبي ... وما لي من كأس المنية فرقان
وقال الفراء : المراد بالفرقان الفتح والنصر . قال ابن إسحاق : الفرقان الفصل بين الحق والباطل ، وبمثله قال ابن زيد ، وقال السديّ : الفرقان النجاة ، ويؤيد تفسير الفرقان بالمخرج والنجاة . قوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } [ الطلاق : 2 ] وبه قال مجاهد ومالك بن أنس .
{ وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } أي : يسترها حتى تكون غير ظاهرة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ما اقترفتم من الذنوب . وقد قيل إن المراد بالسيئات : الصغائر ، وبالذنوب التي تغفر : الكبائر . وقيل المعنى : أنه يغفر لهم ما تقدّم من الذنوب وما تأخر { والله ذُو الفضل العظيم } فهو المتفضل على عباده بتكفير السيئات ومغفرة الذنوب .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا } قال : هو المخرج . وأخرج ابن جرير عنه ، قال : هو : النجاة . وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة ، مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، قال : هو النصر .

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)

قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } الظرف معمول لفعل محذوف ، أي : واذكر يا محمد وقت مكر الكافرين بك ، أو معطوف على ما تقدّم من قوله { واذكروا } ذكر الله رسوله هذه النعمة العظمى التي أنعم بها عليه ، وهي نجاته من مكر الكافرين وكيدهم كما سيأتي بيانه { لِيُثْبِتُوكَ } أي : يثبتوك بالجراحات ، كما قال ثعلب وأبو حاتم ، وغيرهما ، ومنه قول الشاعر :
فقلت ويحكم ما في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعا
وقيل : المعنى ليحبسوك ، يقال أثبته : إذا حبسه . وقيل : ليوثقوك ، ومنه : { فَشُدُّواْ الوثاق } [ محمد : 4 ] . وقرأ الشعبي " ليبيتوك " من البيات . وقرىء «ليثبتوك» بالتشديد { أَوْ يُخْرِجُوكَ } معطوف على ما قبله ، أي يخرجوك من مكة التي هي بلدك وبلد أهلك . وجملة : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } مستأنفة . والمكر : التدبير في الأمر في خفية . والمعنى : أنهم يخفون ما يعدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المكايد ، فيجازيهم الله على ذلك ويردّ كيدهم في نحورهم . وسمى ما يقع منه تعالى مكراً مشاكلة ، كما في نظائره { والله خَيْرُ الماكرين } أي : المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم ، فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون ، فيكون ذلك أشدّ ضرراً عليهم وأعظم بلاء من مكرهم .
قوله : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي التي تأتيهم بها ، وتتلوها عليهم { قَالُواْ } تعنتاً وتمرّداً وبعداً عن الحق { قَدْ سَمِعْنَا } ما تتلوه علينا { لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } الذي تلوته علينا . قيل : إنهم قالوا هذا توهماً منهم أنهم يقدرون على ذلك . فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه . ثم قالوا عناداً وتمرّداً { إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الأولين } أي : ما يستطره الوراقون من أخبار الأوّلين ، وقد تقدّم بيانه مستوفى .
{ وَإِذْ قَالُواْ } أي : واذكر إذ قالوا { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } بنصب الحق على أنه خبر كان ، والضمير للفصل ، ويجوز الرفع . قال الزجاج : ولا أعلم أحداً قرأ بها ، ولا اختلاف بين النحويين في إجازتها ، ولكن القراءة سنة ، والمعنى : إن كان القرآن الذي جاءنا به محمد هو الحق ، { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا } قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار . قال أبو عبيدة : يقال أمطر في العذاب ، ومطر في الرحمة . وقال في الكشاف : قد كثر الإمطار في معنى العذاب .
{ أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء ، أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد . فأجاب الله عليهم بقوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ } يا محمد { فِيهِمْ } موجود ، فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك ، أي : وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرونه .

وقيل المعنى : لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم . وقيل إن الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم ، أي وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين ، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده . وقيل المعنى : وما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والخطيب ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } قال : تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ، يريدون النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات عليّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه علياً ردّ الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ فقال : لا أدري ، فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، عن ابن عباس ، فذكر القصة بأطول مما هنا . وفيها ذكر الشيخ النجدي أي إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاماً ، ويعطوا كل واحد منهم سيفاً ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل ، فقال الشيخ النجدي : هذا والله هو الرأي ، فتفرّقوا على ذلك .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عبيد بن عمير ، قال : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال : « يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني » ، قال : من حدّثك بهذا؟ قال : « ربي » ، قال : نعم الربّ ربك استوص به خيراً ، قال : « أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي » وأخرجه ابن جرير من طريق أخرى عنه . وهذا لا يصح ، فقد كان أبو طالب مات قبل وقت الهجرة بسنين .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَإِذ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } قال : قال عكرمة هي مكية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عطاء في قوله : { لِيُثْبِتُوكَ } يعني : ليوثقوك .

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن سعيد بن جبير ، قال : قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبراً عقبة بن أبي معيط ، وطعيمة بن عديّ ، والنضر بن الحارث ، وكان المقداد أسر النضر ، فلما أمر بقتله قال المقداد : يا رسول الله أسيري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول » ، قال : وفيه أنزلت هذه الآية { وَإِذا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } وهذا مرسل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ أنها نزلت في النضر بن الحارث .
وأخرج البخاري ، وابن أبي حاتم ، وابن الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أنس بن مالك قال : قال أبو جهل بن هشام { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } الآية فنزلت { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } الآية . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة ، أنها نزلت في أبي جهل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، في الآية ، أنها نزلت في النضر بن الحارث . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير ، عن عطاء ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك ، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك ، ويقولون : غفرانك غفرانك ، فأنزل الله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } الآية .
قال ابن عباس ، كان فيهم أمانان : النبي صلى الله عليه وسلم ، والاستغفار ، فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وبقي الاستغفار . وأخرج الترمذي وضعفه ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم « أنزل الله عليّ أمانين لأمتي { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } الآية ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار » وأخرج أبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، والبهيقي في شعب الإيمان ، عن أبي هريرة قال : كان فيكم أمانان مضى أحدهما وبقي الآخر ، قال { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ } الآية . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني وابن مردويه ، والحاكم ، وابن عساكر ، عن أبي موسى الأشعري نحوه أيضاً ، والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مطلق الاستغفار كثيرة جدّاً معروفة في كتب الحديث .

وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)

قوله : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } لما بيّن سبحانه أن المانع من تعذيبهم هو الأمران المتقدمان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهورهم ، ووقوع الاستغفار . ذكر بعد ذلك أن هؤلاء الكفار ، أعني : كفار مكة ، مستحقون لعذاب الله لما ارتكبوا من القبائح . والمعنى : أيّ شيء لهم يمنع من تعذيبهم؟ قال الأخفش : إن «أن» زائدة . قال النحاس : لو كان كما قال لرفع { يعذبهم } ، وجملة : { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } في محل نصب على الحال ، أي وما يمنع من تعذيبهم؟ والحال أنهم يصدّون الناس عن المسجد الحرام ، كما وقع منهم عام الحديبية من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البيت ، وجملة { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ } في محل نصب على أنها حال من فاعل { يَصِدُّونَ } ، وهذا كالردّ لما كانوا يقولونه من أنهم ولاة البيت ، وأن أمره مفوّض إليهم ، ثم قال مبيناً لمن له ذلك : { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } أي : ما أولياؤه إلا من كان في عداد المتقين للشرك والمعاصي { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك ، والحكم على الأكثرين بالجهل يفيد أن الأقلين يعلمون ولكنهم يعاندون .
قوله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } المكاء : الصفير من مكا يمكو مكاء ، ومنه قول عنترة :
وخليل غانية تركت مجندلا ... تمكو فريصته كشدق الأعلم
أي : تصوّت . ومنه مكت است الدابة : إذا نفخت بالريح ، قيل المكاء : هو الصفير على لحن طائر أبيض بالحجاز يقال له المكاء . قال الشاعر :
إذا غرّد المكاء في غير دوحة ... فويل لأهل الشاء والحمرات
والتصدية : التصفيق ، يقال صدّى يصدّى تصدية : إذا صفق ، ومنه قول عمر بن الإطنابة :
وظلوا جميعاً لهم ضجة ... مكاء لدى البيت بالتصدية
أي بالتصفيق . وقيل المكاء : الضرب بالأيدي ، والتصدية : الصياح . وقيل المكاء : إدخالهم أصابعهم في أفواههم ، والتصدية : الصفير . وقيل التصدية : صدّهم عن البيت . قيل : والأصل على هذا تصددة ، فأبدل من إحدى الدالين ياء . ومعنى الآية : أن المشركين كانوا يصفرون ويصفقون عند البيت الذي هو موضع للصلاة والعبادة ، فوضعوا ذلك موضع الصلاة ، قاصدين به أن يشغلوا المصلين من المسلمين عن الصلاة . وقرىء بنصب " صلاتهم " على أنها خبر كان ، وما بعده اسمها . قوله : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } هذا التفات إلى مخاطبة الكفار تهديداً لهم ومبالغة في إدخال الروعة في قلوبهم ، والمراد به : عذاب الدنيا كيوم بدر وعذاب الآخرة .
قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } لما فرغ سبحانه من شرح أحوال هؤلاء الكفرة في الطاعات البدنية ، أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية . والمعنى : أن غرض هؤلاء الكفار في إنفاق أموالهم هو الصدّ عن سبيل الحق ، بمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع الجيوش لذلك ، وإنفاق أموالهم عليها ، وذلك كما وقع من كفار قريش يوم بدر ، ويوم أحد ، ويوم الأحزاب .

فإن الرؤساء كانوا ينفقون أموالهم على الجيش ، ثم أخبر الله سبحانه عن الغيب على وجه الإعجاز فقال : { فَسَيُنفِقُونَهَا } أي : سيقع منهم هذا الإنفاق { ثُمَّ تَكُونُ } عاقبة ذلك أن يكون إنفاقهم حسرة عليهم ، وكأن ذات الأموال تنقلب حسرة تصير ندماً . { ثُمَّ } آخر الأمر { يُغْلَبُونَ } كما وعد الله به في مثل قوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] . ومعنى { ثُمَّ } في الموضعين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور ، وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد ، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة ، ثم قال : { والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } أي : استمرّوا على الكفر ، لأن من هؤلاء الكفار المذكورين سابقاً من أسلم وحسن إسلامه ، أي يساقون إليها لا إلى غيرها . ثم بيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعله فقال : { لِيَمِيزَ الله الخبيث } أي : الفريق الخبيث من الكفار { مِنْ } الفريق { الطيب } وهم المؤمنون { وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ } أي : يجعل فريق الكفار الخبيث بعضه على بعض { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } عبارة عن الجمع والضم ، أي يجمع بعضهم إلى بعض ، ويضمّ بعضهم إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم . يقال ركم الشيء يركمه : إذا جمعه وألقى بعضه على بعض . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الفريق الخبيث { هُمُ الخاسرون } أي : الكاملون في الخسران . وقيل : الخبيث والطيب : صفة للمال ، والتقدير يميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون من المال الطيب الذي أنفقه المسلمون ، فيضمّ تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض ، فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها ، كما في قوله تعالى : { فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } [ التوبة : 35 ] . قال في الكشاف : واللام على هذا متعلقة بقوله : { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } ، وعلى الأوّل ب { يحشرون } ، و { أولئك } إشارة إلى الذين كفروا . انتهى .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ثم استثنى أهل الشرك فقال { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } قال : عذابهم فتح مكة . وأخرج ابن إسحاق ، وأبو حاتم ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله } وهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عروة بن الزبير ، في قوله : { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } أي : من آمن بالله وعبده ، أنت ومن اتبعك { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } الذين يخرجون منه ويقيمون الصلاة عنده ، أي أنت ومن آمن بك .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون } قال : من كانوا حيث كانوا .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن سعيد بن جبير ، قال : كانت قريش يعارضون النبيّ صلى الله عليه وسلم في الطواف ، ويستهزئون ويصفرون ويصفقون ، فنزلت : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والضياء عن ابن عباس ، قال : كانت قريش يطوفون بالكعبة عراة تصفر وتصفق ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } قال : والمكاء الصفير ، إنما شبهوا بصفير الطير ، وتصدية : التصفيق وأنزل الله فيهم : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله } [ الأعراف : 32 ] . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، نحوه . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عنه نحوه أيضاً .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عمر قال : المكاء الصفير ، والتصدية : التصفيق .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال : المكاء إدخال أصابعهم في أفواههم ، والتصدية الصفير ، يخلطون بذلك كله على محمد صلى الله عليه وسلم صلاته . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ : قال : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء يكون بأرض الحجاز ، والتصدية : التصفيق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { إِلاَّ مُكَاء } قال : كانوا يشبكون أصابعهم ويصفرون فيهنّ { وَتَصْدِيَةً } قال : صدّهم الناس . وأخرج عبد بن حميد ، عن عكرمة قال : كان المشركون يطوفون بالبيت على الشمال . وهو قوله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً } فالمكاء مثل نفخ البوق ، والتصدية : طوافهم على الشمال .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك في قوله : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } قال : يعني أهل بدر عذبهم الله بالقتل والأسر .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل ، كلهم من طريقه ، قال : حدّثني الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحسين بن عبد الرحمن بن عمرو قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن أبي ربيعة ، وعكرمة بن أبي جهل ، وصفوان بن أمية ، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم ، فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينوا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثاراً .

ففعلوا ، ففيهم كما ذكر ابن عباس ، أنزل الله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } إلى { والذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد نحوه . وأخرج هؤلاء وغيرهم عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحكم بن عتيبة ، في الآية قال : نزلت في أبي سفيان أنفق على مشركي قريش يوم أحد أربعين أوقية من ذهب ، وكانت الوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من ذهب .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن شمر بن عطية ، في قوله : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } قال : يميز يوم القيامة ما كان من عمل صالح في الدنيا ، ثم تؤخذ الدنيا بأسرها فتلقى في جهنم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله : { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } قال : يجمعه جميعاً .

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)

أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى . وسواء قاله بهذه العبارة أو غيرها . قال ابن عطية : ولو كان كما قال الكسائي إنه في مصحف عبد الله بن مسعود « قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن تَنتَهُواْ » يعني : بالتاء المثناة من فوق ، لما تأدّت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها . وقال في الكشاف : أي قل لأجلهم هذا القول ، وهو { إِن يَنتَهُواْ } ولو كان بمعنى خاطبهم ، لقيل إن تنتهوا يغفر لكم ، وهي قراءة ابن مسعود ، ونحوه { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] خاطبوا به غيرهم لأجلهم ليسمعوه ، أي إن ينتهوا عما هم عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتاله بالدخول في الإسلام { يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } لهم من العداوة . انتهى . وقيل معناه : إن ينتهوا عن الكفر ، قال ابن عطية : والحامل على ذلك جواب الشرط ب { يغفر لهم ما قد سلف } ، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنته عن الكفر . وفي هذه الآية دليل على أن الإسلام يجبّ ما قبله .
{ وَإِن يَعُودُواْ } إلى القتال والعداوة أو إلى الكفر الذي هم عليه ، ويكون العود بمعنى الاستمرار { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين } هذه العبارة مشتملة على الوعيد ، والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله ، أي قد مضت سنة الله فيمن فعل مثل فعل هؤلاء من الأوّلين من الأمم أن يصيبه بعذاب ، فليتوقعوا مثل ذلك .
{ وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : كفر . وقد تقدّم تفسير هذا في البقرة مستوفى { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عما ذكر { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا يخفى عليه ما وقع منهم من الانتهاء { وَإِن تَوَلَّوْاْ } عما أمروا به من الانتهاء { فاعلموا } أيها المؤمنون { أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } أي : ناصركم عليهم { نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } فمن والاه فاز ومن نصره غلب .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين } قال : في قريش وغيرها يوم بدر ، والأمم قبل ذلك . وأخرج أحمد ، ومسلم ، عن عمرو بن العاص ، قال : لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ابسط يدك فلأبايعك ، فبسط يمينه فقبضت يدي ، قال : « مالك؟ » قلت : أردت أن أشترط ، قال : « تشترط ماذا؟ » قلت : أن تستغفر لي ، قال : « أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله » وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها » وقد فسر كثير من السلف قوله تعالى : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأولين } بما مضى في الأمم المتقدّمة من عذاب من قاتل الأنبياء ، وصمم على الكفر . وقال السديّ ومحمد بن إسحاق : المراد بالآية يوم بدر . وفسر جمهور السلف الفتنة المذكورة هنا بالكفر . وقال محمد بن إسحاق : بلغني عن الزهري عن عروة ابن الزبير ، وغيره من علمائنا { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتى لا يفتن مسلم عن دينه .

وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

لما أمر الله سبحانه بالقتال بقوله : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ الأنفال : 38 ] وكانت المقاتلة مظنة حصول الغنيمة ، ذكر حكم الغنيمة . والغنيمة قد قدّمنا أن أصلها إصابة الغنم من العدوّ ، ثم استعملت في كل ما يصاب منهم ، وقد تستعمل في كل ما ينال بسعي . ومنه قول الشاعر :
وقد طوّفت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ومنه قول الآخر :
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ... أنى توجه والمحروم محروم
وأما معنى الغنيمة في الشرع ، فحكى القرطبي الاتفاق على أن المراد بقوله تعالى : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } مال الكفار إذا ظفر بهم المسلمون على وجه الغلبة والقهر . قال : ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص ، ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع . وقد ادّعى ابن عبد البر الإجماع على أن هذه الآية بعد قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } [ الأنفال : 1 ] وأن أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين ، وأن قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدّم أوّل السورة .
وقيل إنها أعني قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } محكمة غير منسوخة ، وأن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست مقسومة بين الغانمين ، وكذلك لمن بعده من الأئمة ، حكاه الماوردي عن كثير من المالكية . قالوا : وللإمام أن يخرجها عنهم ، واحتجوا بفتح مكة وقصة حنين وكان أبو عبيدة يقول : افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة ومنّ على أهلها فردّها عليهم ولم يقسمها ولم يجعلها فيئاً . وقد حكى الإجماع جماعة من أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين . وممن حكى ذلك ابن المنذر ، وابن عبد البر ، والداودي ، والمازري ، والقاضي عياض ، وابن العربي ، والأحاديث الواردة في قسمة الغنيمة بين الغانمين ، وكيفيتها كثيرة جداً .
قال القرطبي : ولم يقل أحد فيما أعلم أن قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية ناسخ لقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } الآية ، بل قال الجمهور : إن قوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } ناسخ ، وهم الذين لا يجوز عليهم التحريف ولا التبديل لكتاب الله . وأما قصة فتح مكة فلا حجة فيها لاختلاف العلماء في فتحها ، قال : وأما قصة حنين فقد عوّض الأنصار لما قالوا تعطى الغنائم قريشاً وتتركنا ، وسيوفنا تقطر من دمائهم نفسه ، فقال لهم : « أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم » كما في مسلم وغيره . وليس لغيره أن يقول هذا القول ، بل ذلك خاص به .
قوله : { أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } يشمل كل شيء يصدق عليه اسم الغنيمة . و { مِن شَىْء } بيان ل « ما » الموصولة ، وقد خصّص الإجماع من عموم الآية الأسارى ، فإن الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف .

وكذلك سلب المقتول إذا نادى به الإمام . وقيل : كذلك الأرض المغنومة . وردّ بأنه لا إجماع على الأرض .
قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمْسَه } قرأ النخعي « فإَِنَّ للَّهِ » بكسر إن . وقرأ الباقون بفتحها على { أن } أنّ وما بعدها مبتدأ وخبره محذوف ، والتقدير : فحق أو فواجب أن لله خمسه .
وقد اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على أقوال ستة :
الأوّل قالت طائفة : يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة ، وهو الذي لله ، والثاني لرسول الله ، والثالث ، لذوي القربى ، والرابع لليتامى ، والخامس للمساكين ، والسادس لابن السبيل .
والقول الثاني : قاله أبو العالية والربيع : إنها تقسم الغنيمة على خمسة ، فيعزل منها سهم واحد ويقسم أربعة على الغانمين ، ثم يضرب يده في السهم الذي عزله ، فما قبضه من شيء جعله للكعبة ، ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة للرسول ومن بعده الآية .
القول الثالث : روي عن زين العابدين علي بن الحسين أنه قال : إن الخمس لنا ، فقيل له : إن الله يقول : { واليتامى والمساكين وابن السبيل } فقال : يتامانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا .
القول الرابع قول الشافعي : إن الخمس يقسم على خمسة ، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين ، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية .
القول الخامس قول أبي حنيفة : إنه يقسم الخمس على ثلاثة : اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل ، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته ، كما ارتفع حكم سهمه ، قال : ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القضاة والجند . وروي نحو هذا عن الشافعي .
القول السادس قول مالك : إنه موكول إلى نظر الإمام واجتهاده ، فيأخذ منه بغير تقدير ، ويعطى منه الغزاة باجتهاد ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين .
قال القرطبي ، وبه قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا ، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم : « مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم » ، فإنه لم يقسمه أخماساً ولا أثلاثاً ، وإنما ذكر ما في الآية من ذكره على وجه التنبيه عليهم ، لأنهم من أهم من يدفع إليه . قال الزجاج محتجاً لهذا القول : قال الله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } [ البقرة : 215 ] وجائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك .
قوله : { وَلِذِى القربى } قيل إعادة اللام في ذي القربى دون من بعدهم ، لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد اختلف العلماء في القربى على أقوال : الأول : أنهم قريش كلها ، روي ذلك عن بعض السلف ، واستدلّ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما صعد الصفا جعل يهتف ببطون قريش كلها قائلاً :

« يا بني فلان يا بني فلان »
وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن جريج ، ومسلم ابن خالد : هم بنو هاشم وبنو المطلب لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد » ، وشبك بين أصابعهوهو في الصحيح .
وقيل : هم بنو هاشم خاصة ، وبه قال مالك ، والثوري ، والأوزاعي ، وغيرهم ، وهو مروي عن علي بن الحسين ، ومجاهد .
قوله : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله } قال الزجاج عن فرقة : إن المعنى فاعلموا أن الله مولاكم إن كنتم آمنتم بالله . وقالت فرقة أخرى : إن { إِن } متعلقة بقوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم } قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح لأن قوله : { واعلموا } يتضمن الأمر بالانقياد والتسليم لأمر الله في الغنائم ، فعلق { إن } بقوله : { واعلموا } على هذا المعنى ، أي إن كنتم مؤمنين بالله فانقادوا وسلموا لأمر الله في الغنائم ، فيما أعلمكم به من حال قسمة الغنيمة . وقال في الكشاف : إنه متعلق بمحذوف يدلّ عليه { واعلموا } بمعنى : إن كنتم آمنتم بالله فاعلموا أنّ الخمس من الغنيمة يجب التقرب به ، فاقطعوا عنه أطماعكم ، واقتنعوا بالأخماس الأربعة ، وليس المراد بالعلم المجرّد ، ولكن العلم المضمن بالعمل والطاعة لأمر الله ، لأن العلم المجرد يستوي فيه المؤمن والكافر . انتهى .
قوله : { وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا } معطوف على الاسم الجليل أي : إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا . و { يَوْمَ الفرقان } يوم بدر ، لأنه فرق بين أهل الحق وأهل الباطل . و { الجمعان } الفريقان من المسلمين والكافرين { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ومن قدرته العظيمة نصر الفريق الأقلّ على الفريق الأكثر .
قوله : { إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا وَهُم بالعدوة القصوى } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، بكسر العين في العدوة في الموضعين . وقرأ الباقون بالضم فيهما . و « إِذْ » بدل من يوم الفرقان ، ويجوز أن يكون العامل محذوفاً ، أي واذكروا إذ أنتم . والعدوة : جانب الوادي . والدنيا : تأنيث الأدنى ، والقصوى : تأنيث الأقصى ، من دنا يدنو ، وقصا يقصو ، ويقال القصيا ، والأصل الواو . وهي لغة أهل الحجاز ، والعدوة الدنيا كانت مما يلي المدينة ، والقصوى : كانت مما يلي مكة . والمعنى : وقت نزولكم بالجانب الأدنى من الوادي إلى جهة المدينة ، وعدوّكم بالجانب الأقصى منه مما يلي مكة . وجملة : { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } في محل نصب على الحال ، وانتصاب { أَسْفَلَ } على الظرف ، ومحله الرفع على الخبرية ، أي والحال أنّ الركب في مكان أسفل من المكان الذي أنتم فيه . وأجاز الأخفش والكسائي والفراء رفع أسفل على معنى أشدّ سفلاً منكم ، والركب : جمع راكب ، ولا تقول العرب ركب إلا للجماعة الراكبي الإبل ، ولا يقال لمن كان على فرس وغيرها ركب . وكذا قال ابن فارس ، وحكاه ابن السكيت عن أكثر أهل اللغة .

والمراد بالركب ها هنا ركب أبي سفيان ، وهي المراد بالعير ، فإنهم كانوا في موضع أسفل منهم مما يلي ساحل البحر .
قيل : وفائدة ذكر هذه الحالة التي كانوا عليها من كونهم بالعدوة الدنيا وعدوّهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم الدلالة على قوّة شأن العدوّ وشوكته . وذلك لأن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء ، وكانت أرضاً لا يابس بها . وأما العدوة الدنيا فكانت رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها . وكانت العير وراء ظهر العدوّ مع كثرة عددهم ، فامتنّ الله على المسلمين بنصرتهم عليهم والحال هذه .
قوله : { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد } أي : لو تواعدتم أنتم والمشركون من أهل مكة على أن تلتقوا في هذا الموضع للقتال لخالف بعضكم بعضاً . فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد ، وثبطهم ما في قلوبهم من المهابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم { ولكن } جمع الله بينكم في هذا الموطن { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي : حقيقاً بأن يفعل من نصر أوليائه وخذلان أعدائه وإعزاز دينه وإذلال الكفر ، فأخرج المسلمين لأخذ العير وغنيمتها عند أنفسهم ، وأخرج الكافرين للمدافعة عنها . ولم يكن في حساب الطائفتين أن يقع هذا الاتفاق على هذه الصفة ، واللام في { لّيَقْضِيَ } متعلقة بمحذوف ، والتقدير : جمعهم ليقضي .
وجملة : { لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويَحيا مَنْ حَىَّ } بدل من الجملة التي قبلها ، أي ليموت من يموت عن بينة ويعيش عن بينة لئلا يبقى لأحد على الله حجة . وقيل الهلاك والحياة مستعاران للكفر والإسلام ، أي ليصدر إسلام من أسلم عن وضوح بينة ، ويقين بأنه دين الحق ، ويصدر كفر من كفر عن وضوح بينة لا عن مخالجة شبهة . قرأ نافع ، وخلف ، وسهل ، ويعقوب ، والبزي وأبو بكر { مِنْ حيي } بياءين على الأصل وقرأ الباقون بياء واحدة على الإدغام ، وهي اختيار أبي عبيد لأنها كذلك وقعت في المصحف { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع بكفر الكافرين عليم به ، وسميع بإيمان المؤمنين عليم به .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال : ثم وضع مقاسم الفيء ، فقال : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } بعد الذي كان مضى من بدر { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } إلى آخر الآية . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، عن قيس بن مسلم الجدلي قال : سألت الحسن بن محمد بن عليّ بن أبي طالب ابن الحنفية عن قول الله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } قال : هذا مفتاح كلام ، لله الدنيا والآخرة { وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى } فاختلفوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذين السهمين .

قال قائل منهم : سهم ذي القربى لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال قائل منهم : سهم ذي القربى لقرابة الخليفة . وقال قائل منهم : سهم النبي صلى الله عليه وسلم للخليفة من بعده . واجتمع رأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله ، فكان ذلك في خلافة أبي بكر وعمر .
وأخرج ابن جرير ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة فضرب ذلك في خمسه ، ثم قرأ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم } الآية ، قال قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } مفتاح كلام ، لله ما في السموات وما في الأرض ، فجعل الله سهم الله والرسول واحداً { وَلِذِى القربى } فجعل هذين السهمين قوّة في الخيل والسلاح ، وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل لا يعطيه غيرهم ، وجعل الأربعة الأسهم الباقية : للفرس سهماً ولراكبه سهماً ، وللراجل سهماً .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، قال : كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس : فأربعة منها بين من قاتل عليها ، وخمس واحد يقسم على أربعة أخماس . فربع لله وللرسول ولذي القربى ، يعني قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يأخذ النبي من الخمس شيئاً ، والربع الثاني لليتامى ، والربع الثالث للمساكين ، والربع الرابع لابن السبيل ، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، في قوله : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء } الآية قال : كان يجاء بالغنيمة فتوضع ، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم ، فيعزل سهماً منها ، ويقسم أربعة أسهم بين الناس ، يعني لمن شهد الوقعة ، ثم يضرب بيده في جميع السهم الذي عزله ، فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة ، فهو الذي سمى الله لا تجعلوا لله نصيباً ، فإن لله الدنيا والآخرة ثم يعمد إلى بقية السهم فيقسمه على خمسة أسهم : سهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لابن السبيل .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل سهم الله في السلاح والكراع وفي سبيل الله وفي كسوة الكعبة وطيبها وما تحتاج إليه الكعبة ، ويجعل سهم الرسول في الكراع والسلاح ونفقة أهله ، وسهم ذي القربى لقرابته ، يضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم مع سهمهم مع الناس ، ولليتامى والمساكين وابن السبيل ثلاثة أسهم يضعها رسول الله فيمن شاء حيث شاء ، ليس لبني عبد المطلب في هذه الثلاثة الأسهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم سهم مع سهام الناس .

وأخرج ابن أبي حاتم عن حسين المعلم قال : سألت عبد الله بن بريدة عن قوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } فقال : الذي لله لنبيه ، والذي للرسول لأزواجه . وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس ، أن نجدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى الذين ذكر الله ، فكتب إليه إنا كنا نرى أناهم فأبى ذلك علينا قومنا ، وقالوا قريش كلها ذوو قربى ، وزيادة قوله وقالوا قريش كلها تفرّد بها أبو معشر . وفيه ضعف . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، من وجه آخر عن ابن عباس : أن نجدة الحروري أرسل إليه يسأله عن سهم ذي القربى ، ويقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس : هو لقربى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليهم وأبينا أن نقبله ، وكان عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم ، وأن يعطي فقيرهم ، وأبى أن يزيدهم على ذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : رغبت لكم عن غسالة الأيدي ، لأن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم أو يغنيكم . رواه ابن أبي حاتم عن إبراهيم بن مهدي المصيصي حدّثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عنه مرفوعاً . قال ابن كثير : هذا حديث حسن الإسناد ، وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم . وقال يحيى بن معين : يأتي بمناكير . أخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن الزهري وعبد الله بن أبي بكر ، عن جبير بن مطعم : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قسم سهم ذوي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب . قال : فمشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا عليه ، فقلنا يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا ، فإنما نحن وهم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال : « إنهم لم يفارقونا في الجاهلية والإسلام » وقد أخرجه مسلم في صحيحه .
وأخرج ابن مرديه ، عن زيد بن أرقم قال : آل محمد الذين أعطوا الخمس : آل عليّ ، وآل العباس ، وآل جعفر ، وآل عقيل . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس قال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم شيء واحد من المغنم يصطفيه لنفسه ، إما خادم وإما فرس ، ثم يصيب بعد ذلك من الخمس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن مردويه ، عن عليّ قال : قلت يا رسول الله : ألا وليتني ما خصنا الله به من الخمس؟ فولانيه .

وأخرج الحاكم وصححه عنه قال : ولاني رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { يَوْمَ الفرقان } قال : هو يوم بدر ، وبدر ما بين مكة والمدينة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس ، في قوله : { يَوْمَ الفرقان } قال : هو يوم بدر فرق الله فيه بين الحق والباطل . وأخرج ابن مردويه ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان . وأخرجه عنه ابن جرير أيضاً .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا } قال : العدوة الدنيا شاطىء الوادي { والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ } . قال أبو سفيان . وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال : العدوة الدنيا شفير الوادي الأدنى ، والعدوة القصوى شفير الوادي الأقصى .

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

« إذ » منصوب بفعل مقدّر ، أي اذكر أو هو بدل ثان من يوم الفرقان . والمعنى : أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في منامه قليلاً ، فقصّ ذلك على أصحابه ، فكان ذلك سبباً لثباتهم . ولو رآهم في منامه كثيراً ، لفشلوا وجبنوا عن قتالهم وتنازعوا في الأمر ، هل يلاقونهم أم لا؟ { ولكن الله سَلَّمَ } أي سلمهم وعصمهم من الفشل والتنازع ، فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام . وقيل عني بالمنام : محل النوم ، وهو العين ، أي في موضع منامك وهو عينك ، روي ذلك عن الحسن . قال الزجاج : هذا مذهب حسن ، ولكنّ الأوّل أسوغ في العربية لقوله : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ } فدلّ بهذا على أن هذه رؤية الالتقاء ، وأن تلك رؤية النوم .
قوله : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } الظرف منصوب بمضمر معطوف على الأوّل ، أي واذكروا وقت إراءتكم إياهم حال كونهم قليلاً ، حتى قال القائل من المسلمين لآخر : أتراهم سبعين؟ قال : هم نحو المائة . وقلل المسلمين في أعين المشركين حتى قال قائلهم : إنما هم أكلة جزور ، وكان هذا قبل القتال ، فلما شرعوا فيه كثر الله المسلمين في أعين المشركين ، كما قال في آل عمران : { يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ العين } [ آل عمران : 13 ] ، ووجه تقليل المسلمين في أعين المشركين هو أنهم إذا رأوهم قليلاً أقدموا على القتال غير خائفين ، ثم يرونهم كثيراً فيفشلون ، وتكون الدائرة عليهم ، ويحلّ بهم عذاب الله وسوط عقابه . واللام في { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } متعلقة بمحذوف كما سبق مثله قريباً . وإنما كرره لاختلاف المعلل به { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } كلها يفعل فيها ما يريد ويقضي في شأنها ما يشاء .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً } قال : أراه الله إياهم في منامه قليلاً ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان ذلك تثبيتاً لهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } يقول : لجبنتم { ولتنازعتم فِى الأمر } قال : لاختلفتم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { ولكن الله سَلَّمَ } أي : أتمّ ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عنه { ولكن الله سَلَّمَ } يقول : سلم لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود ، في قوله : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ } الآية قال : لقد قلوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي : تراهم سبعين؟ قال : لا بل هم مائة ، حتى أخذنا رجلاً منهم ، فسألناه قال : كنا ألفاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة ، في الآية قال : حضض بعضهم على بعض . قال ابن كثير : إسناده صحيح . وأخرج ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير في قوله : { لّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد النعمة عليه من أهل ولايته .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

قوله : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً } اللقاء . الحرب ، والفئة : الجماعة ، أي إذا حاربتم جماعة من المشركين { فاثبتوا } لهم ولا تجبنوا عنهم ، وهذا لا ينافي الرخصة المتقدّمة في قوله : { إِلاَّ مُتَحَرّفاً لّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيّزاً إلى فِئَةٍ } [ الأنفال : 16 ] فإن الأمر بالثبات هو في حال السعة ، والرخصة هي في حال الضرورة . وقد لا يحصل الثبات إلا بالتحرّف والتحيز { واذكروا الله } أي : اذكروا الله عند جزع قلوبكم ، فإن ذكره يعين على الثبات في الشدائد؛ وقيل المعنى : اثبتوا بقلوبكم واذكروا بألسنتكم فإن القلب قد يسكن عند اللقاء ويضطرب اللسان ، فأمرهم بالذكر حتى يجتمع ثبات القلب واللسان . قيل وينبغي أن يكون الذكر في هذه الحالة بما قاله أصحاب طالوت : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ البقرة : 250 ] . وفي الآية دليل على مشروعية الذكر في جميع الأحوال ، حتى في هذه الحالة التي ترجف فيها القلوب ، وتزيغ عندها البصائر ، ثم أمرهم بطاعة الله فيما يأمرهم به وطاعة رسوله فيما يرشدهم إليه ، ونهاهم عن التنازع وهو الاختلاف في الرأي ، فإن ذلك يتسبب عنه الفشل ، وهو الجبن في الحرب . والفاء جواب النهي ، والفعل منصوب بإضمار أن ، ويجوز أن يكون الفعل معطوفاً على { تنازعوا } مجزوماً بجازمه . قوله : { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } قرىء بنصب الفعل ، وجزمه عطفاً على تفشلوا على الوجهين ، والريح : القوّة والنصر ، كما يقال الريح لفلان إذا كان غالباً في الأمر . وقيل الريح الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها بالريح في هبوبها ، ومنه قول الشاعر :
إذ هبت رياحك فاغتنمها ... فعقبى كل خافقة سكون
وقيل المراد بالريح : ريح الصبا ، لأن بها كان ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أمرهم بالصبر على شدائد الحرب ، وأخبرهم بأنه مع الصابرين في كل أمر ينبغي الصبر فيه ، ويا حبذا هذه المعية التي لا يغلب من رزقها غالب ، ولا يؤتى صاحبها من جهة من الجهات ، وإن كانت كثيرة ، ثم نهاهم عن أن تكون حالتهم كحالة هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس ، وهم قريش . فإنهم خرجوا يوم بدر ليحفظوا العير التي مع أبي سفيان ، ومعهم القيان والمعازف ، فلما بلغوا الجحفة بلغهم أن العير قد نجت وسلمت ، فلم يرجعوا بل قالوا لا بدّ لهم من الوصول إلى بدر ليشربوا الخمر ، وتغني لهم القيان ، وتسمع العرب بمخرجهم ، فكان ذلك منهم بطراً وأشراً وطلباً للثناء من الناس ، وللتمدح إليهم ، والفخر عندهم ، وهو الرياء؛ وقيل والبطر في اللغة : التقوّي بنعم الله على معاصيه ، وهو مصدر في موضع الحال ، أي خرجوا بطرين مرائين . وقيل هو مفعول له وكذا رياء ، أي خرجوا للبطر والرياء .
وقوله : { وَيَصُدُّونَ } معطوف على بطراً ، والمعنى كما تقدّم ، أي خرجوا بطرين مرائين صادّين عن سبيل الله ، أو للصدّ عن سبيل الله .

والصدّ : إضلال الناس والحيلولة بينهم وبين طرق الهداية . ويجوز أن يكون و { يصدّون } معطوفاً على يخرجون ، والمعنى : يجمعون بين الخروج على تلك الصفة والصدّ { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } لا تخفى عليه من أعمالهم خافية ، فهو : مجازيهم عليها .
قوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم } الظرف متعلق بمحذوف ، أي واذكر يا محمد وقت تزيين الشيطان لهم أعمالهم ، والتزيين : التحسين ، وقد روي أن الشيطان تمثل لهم وقال لهم تلك المقالة ، وهي : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } أي : مجير لكم من كل عدوّ أو من بني كنانة ، ومعنى الجار هنا : الدافع عن صاحبه أنواع الضرر ، كما يدفع الجار عن الجار ، وكان في صورة سراقة بن مالك بن جشعم ، وهو من بني بكر بن كنانة ، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم . وقيل المعنى : إنه ألقى في روعهم هذه المقالة ، وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون { فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان } أي : فئة المسلمين والمشركين { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } أي : رجع القهقري ، ومنه قول الشاعر :
ليس النكوص على الأعقاب مكرمة ... إن المكارم إقدام على الأمل
وقول الآخر :
وما نفع المستأخرين نكوصهم ... ولا ضرّ أهل السابقات التقدّم
وقيل معنى نكص هاهنا : بطل كيده وذهب ما خيله { وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ } أي : تبرأ منهم لما رأى أمارات النصر مع المسلمين بإمداد الله لهم بالملائكة ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنّى أرى مَالاً تَرَوْنَ } يعني : الملائكة ، ثم علل بعلة أخرى فقال : { إِنّى أَخَافُ الله } قيل : خاف أن يصاب بمكروه من الملائكة الذين حضروا الوقعة؛ وقيل إن دعوى الخوف كذب منه ، ولكنه رأى أنه لا قوّة له ولا للمشركين فاعتلّ بذلك ، وجملة { والله شَدِيدُ العقاب } يحتمل أن تكون من تمام كلام إبليس ، ويحتمل أن تكون كلاماً مستأنفاً من جهة الله سبحانه .
قوله : { إِذْ يَقُولُ المنافقون } الظرف معمول لفعل محذوف هو اذكر ، ويجوز أن يتعلق بنكص أو بزين أو بشديد العقاب . قيل : المنافقون هم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم الشاكون من غير نفاق ، بل لكونهم حديثي عهد بالإسلام ، فوافقوا المنافقين في قولهم بهذه المقالة ، أعني : { غَرَّ هَؤُلاء } أي : المسلمين { دِينَهُمُ } حتى تكلفوا ما لا طاقة لهم به من قتال قريش . وقيل : الذين في قلوبهم مرض هم المشركون ، ولا يبعد أن يراد بهم اليهود الساكنون في المدينة وما حولها ، وأنهم هم والمنافقون من أهل المدينة ، قالوا هذه المقالة عند خروج المسلمين إلى بدر لما رأوهم في قلة من العدد وضعف من العدد ، فأجاب الله عليهم بقوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } لا يغلبه غالب ، ولا يذلّ من توكل عليه { حَكِيمٌ } له الحكمة البالغة التي تقصر عندها العقول .

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { واذكروا الله } قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكونون : عند الضراب بالسيوف . وأخرج الحاكم وصححه ، عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثنتان لا يردّان : الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضاً » وأخرج الحاكم وصححه ، عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } يقول : لا تختلفوا فتجبنوا ويذهب نصركم . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } قال : نصركم . وقد ذهب ريح أصحاب محمد حين نازعوه يوم أحد .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم } الآية ، يعني المشركين الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر . وأخرج ابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، عن مجاهد ، في الآية قال : أبو جهل وأصحابه يوم بدر . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال : كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر خرجوا ولهم بغي وفخر ، وقد قيل لهم يومئذ ارجعوا فقد انطلقت عيركم وقد ظفرتم ، فقالوا : لا والله حتى يتحدّث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا ، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ « اللهم إن قريشاً قد أقبلت بفخرها وخيلائها لتجادل رسولك » وذكر لنا أنه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ « جاءت من مكة أفلاذها » . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس ، قال : جاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج ، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ، فقال الشيطان : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } وأقبل جبريل على إبليس ، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبراً وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة إنك جار لنا فقال : { إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } وذلك حين رأى الملائكة { إِنّي أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب } قال : ولما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعين المسلمين ، فقال المشركون : وما هؤلاء؟ غرّ هؤلاء دينهم ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

وأخرج الطبراني ، وأبو نعيم ، عن رفاعة بن رافع الأنصاري ، قال : لما رأى إبليس ما تفعل الملائكة بالمشركين يوم بدر أشفق أن يخلص القتل إليه فتشبث به الحارث بن هشام ، وهو يظنّ أنه سراقة بن مالك ، فوكز في صدر الحارث ، فألقاه ثم خرج هارباً حتى ألقى نفسه في البحر ، ورفع يديه فقال : اللهم إني أسألك نظرتك إياي . وأخرج الواقدي وابن مردويه ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } قال : ذكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة ، فعلم عدوّ الله أنه لا يدان له بالملائكة ، وقال : { إِنّى أَخَافُ الله } وكذب عدوّ الله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوّة له به ولا منعة له . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن معمر قال : ذكروا أنهم أقبلوا على سراقة بن مالك بعد ذلك ، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِذْ يَقُولُ المنافقون } قال : وهم يومئذ في المسلمين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن ، في قوله : { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن الكلبي في قوله : { والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } قال : هم قوم كانوا أقرّوا بالإسلام ، وهم بمكة ثم خرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا المسلمين قالوا : { غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ } . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن الشعبي نحوه .

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)

قوله : { وَلَوْ تَرَى } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له كما تقدّم تحقيقه في غير موضع . والمعنى : ولو رأيت ، لأن « لو » تقلب المضارع ماضياً ، و « إِذْ » ظرف لترى ، والمفعول محذوف ، أي ولو ترى الكافرين وقت توفي الملائكة لهم . قيل أراد بالذين كفروا من لم يقتل يوم بدر . وقيل : هي فيمن قتل ببدر وجواب « لو » محذوف تقديره لرأيت أمراً عظيماً . وجملة { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ } في محل نصب على الحال ، والمراد بأدبارهم أستاههم ، كنى عنها بالأدبار . وقيل ظهورهم . قيل هذا الضرب يكون عند الموت كما يفيده ذكر التوفي . وقيل : هو يوم القيامة حين يسيرون بهم إلى النار . قوله : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } قاله : الفراء ، المعنى : ويقولون ذوقوا عذاب الحريق ، والجملة معطوفة على يضربون . وقيل : إنه يقول لهم هذه المقالة خزنة جهنم ، والذوق قد يكون محسوساً ، وقد يوضع موضع الابتلاء والاختبار ، وأصله من الذوق بالضم ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من الضرب والعذاب والباء في { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } سببية ، أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من المعاصي ، واقترفتم من الذنوب . وجملة { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي والأمر أنه لا يظلمهم ، ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة الواقعة خبراً لقوله : { ذلك } وهي : { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي ذلك العذاب بسبب المعاصي ، وبسبب : { أَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } لأنه سبحانه قد أرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأوضح لهم السبيل ، وهداهم النجدين كما قال سبحانه : { وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ النحل : 118 ] .
قوله : { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } لما ذكر الله سبحانه ما أنزله بأهل بدر أتبعه بما يدل على أن هذه سنته في فرق الكافرين . والدأب : العادة ، والكاف في محل الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف ، أي دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون { والذين مِن قَبْلِهِمْ } ، والمعنى : أنه جوزي هؤلاء كما جوزي أولئك ، فكانت العادة في عذاب هؤلاء كالعادة الماضية لله في تعذيب طوائف الكفر ، وجملة قوله : { كَفَرُواْ بئايات الله } مفسرة لدأب آل فرعون ، أي دأبهم هذا هو أنهم كفروا بآيات الله ، فتسبب عن كفرهم أخذ الله سبحانه لهم ، والمراد بذنوبهم : معاصيهم المترتبة على كفرهم ، فيكون الباء في { بذنوبهم } للملابسة ، أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها ، وجملة : { إِنَّ الله قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب } معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها .
والإشارة بقوله : { ذلك } إلى العقاب الذي أنزله الله بهم ، وهو مبتدأ وخبره ما بعده ، والجملة جارية مجرى التعليل لما حلّ بهم من عذاب الله .

والمعنى : أن ذلك العقاب بسبب أن عادة الله في عباده عدم تغيير نعمه التي ينعم بها عليهم { حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من الأحوال والأخلاق بكفران نعم الله وغمط إحسانه وإهمال أوامره ونواهيه ، وذلك كما كان من آل فرعون ومن قبلهم ومن قريش ومن يماثلهم من المشركين ، فإن الله فتح لهم أبواب الخيرات في الدنيا ومنّ عليهم بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، فقابلوا هذه النعم بالكفر فاستحقوا تغيير النعم ، كما غيروا ما كان يجب عليهم سلوكه ، والعمل به من شكرها وقبولها ، وجملة { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } معطوفة على { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً } داخلة معها في التعليل ، أي ذلك بسبب أن الله لم يك مغيراً ، إلخ . وبسبب أن الله سميع عليم يسمع ما يقولونه ويعلم ما يفعلونه . وقرىء بكسر الهمزة على الاستئناف .
ثم كرّر ما تقدّم ، فقال { كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ والذين مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيات رَبّهِمْ } لقصد التأكيد مع زيادة أنه كالبيان للأخذ بالذنوب بأنه كان بالإغراق ، وقيل : إن الأوّل باعتبار ما فعله آل فرعون ومن شبه بهم ، والثاني : باعتبار ما فعل بهم . وقيل : المراد بالأوّل كفرهم بالله ، والثاني تكذيبهم الأنبياء . وقيل غير ذلك مما لا يخلو عن تعسف ، والكلام في { أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ } كالكلام المتقدّم في { فأخذهم الله بذنوبهم } { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْن } معطوف على أهلكناهم ، عطف الخاص على العام ، لفظاعته وكونه من أشدّ أنواع الإهلاك ، ثم حكم على كلا الطائفتين من آل فرعون والذين من قبلهم ، ومن كفار قريش بالظلم لأنفسهم ، بما تسببوا به لعذاب الله من الكفر بالله وآياته ورسله ، وبالظلم لغيرهم ، كما كان يجري منهم في معاملاتهم للناس بأنواع الظلم .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك في قوله : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة } قال : الذين قتلهم الله ببدر من المشركين . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن ، قال : قال رجل يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشوك قال : « ذلك ضرب الملائكة » وهذا مرسل . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وأدبارهم } قال : وأستاههم ، ولكن الله كريم يكنى . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ في قوله : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنعمَها على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } قال : نعمة الله : محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش فكفروا فنقله الله إلى الأنصار .

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

قوله : { إِنَّ شَرَّ الدواب } أي : شرّ ما يدب على وجه الأرض { عَندَ الله } أي : في حكمه { الذين كَفَرُواْ } أي : المصرّون على الكفر المتمادون في الضلال . ولهذا قال : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبداً ، ولا يرجعون عن الغواية أصلاً ، وجعلهم شرّ الدوابّ لا شرّ الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية ، ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم . قوله : { الذين عاهدت مِنْهُمْ } بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذمّ . والمعنى : أن هؤلاء الكافرين الذين همّ شرّ الدوابّ عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم ، أي أخذت منهم عهدهم ، ثُمَّ هم { يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } الذي عاهدتهم { فِي كُلّ مَرَّةٍ } من مرّات المعاهدة ، والحال أنهُمْ { لا يَتَّقُونَ } النقض ، ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه . وقيل إن « مِنْ » في قوله : { مِنْهُمْ } للتبعيض ، ومفعول عاهدت محذوف ، أي الذين عاهدتهم ، وهم بعض أولئك الكفرة : يعني الأشراف منهم ، وعطف المستقبل وهو { ثم ينقضون } على الماضي ، وهو { عاهدت } للدلالة على استمرار النقض منهم ، وهؤلاء هم قريظة ، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشدّة والغلظة عليهم ، فقال : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي : فإما تصادفنهم في ثقاف ، وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها ، وتتمكن من غلبهم { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي : ففرّق بقتلهم والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك حتى يهابوا جانبك ، ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء . والثقاف في أصل اللغة : ما يشد به القناة أو نحوها ، ومنه قول النابغة :
تدعو قعيباً وقد غض الحديد بها ... غض الثقاف على ضمّ الأنابيب
يقال ثقفته : وجدته ، وفلان ثقف : سريع الوجود لما يحاوله ، والتشريد : التفريق مع الاضطراب . وقال أبو عبيدة { شرد بِهِمُ } سمع بهم . وقال الزجاج : افعل بهم فعلاً من القتل تفرّق به من خلفهم ، يقال شردت بني فلان : قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها . قال الشاعر :
أطوّف في الأباطح كل يوم ... مخافة أن يشردني حكيم
ومنه شرد البعير : إذا فارق صاحبه ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ « فشرد بِهِم » بالذال المعجمة . قال قطرب : التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل ، وبالمهملة هو التفريق . وقال المهدوي : الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلاً من الدال المهملة لتقاربهما ، قال : ولا يعرف فشرّذ في اللغة ، وقرىء « مّنْ خَلْفِهِمْ » بكسر الميم والفاء .

قوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } أي : غشاً ونقضاً للعهد من القوم المعاهدين { فانبذ إِلَيْهِمْ } أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم { على سَوَاء } على طريق مستوية . والمعنى : أنه يخبرهم إخباراً ظاهراً مكشوفاً بالنقض ، ولا يناجزهم الحرب بغتة ، وقيل معنى : { على سَوَاء } على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم ، أو تستوي أنت وهم فيه . قال الكسائي : السواء العدل ، وقد يكون بمعنى الوسط ، ومنه قوله : { فِى سَوَاء الجحيم } [ الصافات : 55 ] ، ومنه قول حسان :
يا ويح أنصار النبي ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
ومن الأوّل قول الشاعر :
فاضرب وجوه الغدّر الأعداء ... حتى يجيبوك إلى سواء
وقيل : معنى { فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاء } على جهر لا على سرّ ، والظاهر أن هذه الآية عامة في كل معاهد يخاف من وقوع النقض منه . قال ابن عطية : والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله : { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } ثم ابتدأ تبارك وتعالى في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة ، وجملة { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } تعليل لما قبلها ، يحتمل أن تكون تحذيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة .
قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص بالياء التحتية . وقرأ الباقون بالمثناة من فوق . فعلى القراءة الأولى يكون الذين كفروا فاعل الحسبان ، ويكون مفعوله الأوّل محذوفاً ، أي لا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم ، ومفعوله الثاني سبقوا ومعناه : فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم . وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومفعوله الأول الذين كفروا ، والثاني سبقوا ، وقرىء " إِنهَّم سَبَقُوا " وقرىء «يحسبن» بكسر الياء ، وجملة { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } تعليل لما قبلها ، أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم . وقرأ ابن عامر " أنهم " بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها ، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة تعليلية . وقيل المراد بهذه الآية : من أفلت من وقعة بدر من المشركين . والمعنى : أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون ، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة . وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم ، أن قراءة من قرأ " يحسبنّ " بالتحتية لحن ، لا تحلّ القراءة بها ، لأنه لم يأت ليحسبنّ بمفعول ، وهو يحتاج إلى مفعولين . قال النحاس : وهذا تحامل شديد . ومعنى هذه القراءة : ولا يحسبنّ من خلفهم الذين كفروا سبقوا ، فيكون الضمير يعود على ما تقدّم إلا أن القراءة بالتاء أبين .

وقال المهدوي : يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلاً ، والمفعول الأوّل محذوف . والمعنى ولا يحسبنّ الذين كفروا أنفسهم سبقوا . قال مكي : ويجوز أن يضمر مع سبقوا «أن» فتسدّ مسد المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا ، فهو مثل : { أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ } [ العنكبوت : 2 ] في سدّ أن مسدّ المفعولين .
ثم أمر سبحانه بإعداد القوّة للأعداء ، والقوّة كل ما يتقوّى به في الحرب ، ومن ذلك السلاح والقسيّ . وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : " { وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة } ألا إن القوّة الرمي ، قالها ثلاث مرات " وقيل : هي الحصون ، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متعين . قوله : { وَمِن رّبَاطِ الخيل } . قرأ الحسن وعمرو بن دينار وأبو حيوة «ومن ربط الخيل» بضم الراء والباء ككتب : جمع كتاب . قال أبو حاتم : الرباط من الخيل الخمس فما فوقها ، وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو . ومنه قول الشاعر :
أمر الإله بربطها لعدوّه ... في الحرب إن الله خير موفق
قال في الكشاف : والرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله ، ويجوز أن يسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة . ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال . انتهى . ومن فسر القوّة بكل ما يتقوّى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام ، وجملة { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } في محل نصب على الحال ، والترهيب : التخويف ، والضمير في { به } عائد إلى «ما» في { ما استطعتم } أو إلى المصدر المفهوم من { وأعدّوا } وهو الإعداد . والمراد بعدوّ الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة ، وغيرهم من مشركي العرب . قوله : { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِم } معطوف على عدوّ الله وعدوّكم . ومعنى من دونهم : من غيرهم . قيل هم اليهود . وقيل فارس والروم ، وقيل الجنّ ، ورجحه ابن جرير . وقيل المراد بالآخرين من عدوهم : كل من لا تعرف عداوته ، قاله السهيلي . وقيل : هم بنو قريظة خاصة ، وقيل غير ذلك . والأولى : الوقف في تعيينهم لقوله : { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ } . قوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ الله } أي : في الجهاد وإن كان يسيراً حقيراً { يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } جزاؤه في الآخرة . فالحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، كما قرّرناه سابقاً . { وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله ، أي من ثوابها ، بل يصير ذلك إليكم وافياً وافراً كاملاً { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يضاعفها وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] { أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ } [ آل عمران : 195 ] .
وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : نزلت { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله } الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { الذين عاهدت مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ } قال : قريظة يوم الخندق مالؤوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعداءه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } قال : نكل بهم من بعدهم . وأخرج ابن جرير ، عنه ، في الآية قال : نكل بهم من رواءهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، في الآية قال : أنذر بهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة قال : عظ بهم من سواهم من الناس . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، قال : أخفهم بهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } يقول : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك .
وأخرج أبو الشيخ عن ابن شهاب قال : دخل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم ، فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة ، وأنزل فيهم : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } قال : لا يفوتونا . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } قال : الرمي والسيوف والسلاح .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن عباد بن عبد الله بن الزبير ، في قوله : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مّن قُوَّةٍ } قال : أمرهم بإعداد الخيل . وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن عكرمة في الآية قال : القوّة ذكور الخيل ، والرباط الإناث . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن المسيب في الآية قال : القوّة الفرس إلى السهم فما دونه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال : القوّة الحصون . { ومِنْ رّبَاطِ الخيل } قال : الإناث . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } قال : تخزون به عدوّ الله وعدوّكم . وقد ورد في استحباب الرمي ، وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة ، وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها ، وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها . وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات .

وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

الجنوح : الميل ، يقال جنح الرجل إلى الرجل : مال إليه ومنه قيل للأضالع جوانح ، لأنها مالت إلى الحنوّة ، وجنحت الإبل : إذا مالت أعناقها في السير ، ومنه قول ذي الرمة :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه ... بذكراك والعيس المراسيل جنح
ومثله قول عنترة :
جوانح قد أيقنّ أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب
يعني الطير ، والسلم : الصلح . وقرأ الأعمش وأبو بكر ، وابن محيصن ، والمفضل بكسر السين ، وقرأ الباقون بفتحها . وقرأ العقيلي « فاجنح » بضم النون ، وقرأ الباقون بفتحها . والأولى : لغة قيس ، والثانية : لغة تميم . قال ابن جني : ولغة قيس هي القياس ، والسلم تؤنث كما تؤنث الحرب ، أو هي مؤوّلة بالخصلة ، أو الفعلة .
وقد اختلف أهل العلم هل هذه الآية منسوخة أم محكمة؟ فقيل هي منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وقيل : ليست بمنسوخة ، لأن المراد بها قبول الجزية ، وقد قبلها منهم الصحابة فمن بعدهم ، فتكون خاصة بأهل الكتاب . وقيل : إن المشركين إن دعوا إلى الصلح جاز أن يجابوا إليه ، وتمسك المانعون من مصالحة المشركين بقوله تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ } [ محمد : 35 ] وقيدوا عدم الجواز بما إذا كان المسلمون في عزّة وقوّة ، لا إذا لم يكونوا كذلك ، فهو جائز كما وقع منه صلى الله عليه وسلم من مهادنة قريش ، وما زالت الخلفاء والصحابة على ذلك ، وكلام أهل العلم في هذه المسألة معروف مقرّر في مواطنه { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } في جنوحك للسلم ، ولا تخف من مكرهم ، ف { إِنَّه } سبحانه { هُوَ السميع } لما يقولون { العليم } بما يفعلون .
{ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ } بالصلح ، وهم مضمرون الغدر والخدع { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } أي : كافيك ما تخافه من شرورهم بالنكث والغدر ، وجملة { هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } تعليلية ، أي لا تخف من خدعهم ومكرهم ، فإن الله الذي قوّاك عليهم بالنصر فيما مضى ، وهو يوم بدر ، هو الذي سينصرك ويقوّيك عليهم عند حدوث الخدع والنكث ، والمراد بالمؤمنين : المهاجرون والأنصار ، ثم بين كيف كان تأييده بالمؤمنين فقال : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وظاهره العموم وأن ائتلاف قلوب المؤمنين هو من أسباب النصر التي أيد الله بها رسوله . وقال جمهور المفسرين : المراد الأوس والخزرج ، فقد كان بينهم عصبية شديدة وحروب عظيمة ، فألف الله بين قلوبهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : أراد التأليف بين المهاجرين والأنصار ، والحمل على العموم أولى ، فقد كانت العرب قبل البعثة المحمدية يأكل بعضهم بعضاً ولا يحترم ماله ولا دمه ، حتى جاء الإسلام فصاروا يداً واحدة ، وذهب ما كان بينهم من العصبية ، وجملة { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } مقرّرة لمضمون ما قبلها .

والمعنى أن ما كان بينهم من العصبية والعداوة قد بلغ إلى حدّ لا يمكن دفعه بحال من الأحوال ، ولو أنفق الطالب له جميع ما في الأرض لم يتم له ما طلبه من التأليف ، لأن أمرهم في ذلك قد تفاقم جدّاً { ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } بعظيم قدرته وبديع صنعه { إِنَّهُ عَزِيزٌ } لا يغالبه مغالب ، ولا يستعصي عليه أمر من الأمور { حَكِيمٌ } في تدبيره ونفوذ نهيه وأمره .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ } قال : قريظة . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ في الآية قال : نزلت في بني قريظة نسختها : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } [ محمد : 35 ] إلى آخر الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : السلم الطاعة . وأخرج أبو الشيخ عنه في الآية قال : إن رضوا فارض . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ في الآية قال : إن أرادوا الصلح ، فأرده . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، في الآية قال : نسختها هذه الآية { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] إلى قوله : { وَهُمْ صاغرون } [ التوبة : 29 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، والنحاس في ناسخه ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : ثم نسخ ذلك : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَإن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ } قال : قريظة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { وبالمؤمنين } قال : بالأنصار . وأخرج ابن مردويه ، عن النعمان بن بشير نحوه . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس ، نحوه أيضاً . وأخرج ابن عساكر ، عن أبي هريرة ، قال : مكتوب على العرش : لا إله إلا الله ، أنا الله وحدي لا شريك لي ، ومحمد عبدي ورسولي أيدته بعلمي ، وذلك قوله : { هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } .
وأخرج ابن المبارك ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا ، والنسائي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود ، أن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً } الآية .
وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في شعب الإيمان ، واللفظ له عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة المنعم تكفر ، ولم نر مثل تقارب القلوب ، يقول الله { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى الأرض جَمِيعاً } الآية . وأخرج ابن المبارك ، وعبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، والبهيقي عنه نحوه . وليس في هذا عن ابن عباس ما يدلّ على أنه سبب النزول ، ولكن الشأن في قول ابن مسعود رضي الله عنه : إن هذه الآية نزلت في المتحابين في الله مع أن الواقع قبلها { هُوَ الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين } والواقع بعدها { ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] ومع كون الضمير في قوله : { مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } يرجع إلى المؤمنين المذكورين قبله بلا شك ولا شبهة ، وكذلك الضمير في قوله : { ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } فإن هذا يدلّ على أن التأليف المذكور هو بين المؤمنين الذين أيد الله بهم رسوله صلى الله عليه وسلم .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

قوله : { ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } ليس هذا تكريراً لما قبله فإن الأوّل مقيد بإرادة الخدع { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } [ الأنفال : 62 ] فهذه كفاية خاصة ، وفي قوله : { ياأيها النبى حَسْبُكَ الله } كفاية عامة غير مقيّدة ، أي حسبك الله في كل حال ، والواو في قوله : { وَمَنِ اتبعك } يحتمل أن تكون للعطف على الاسم الشريف . والمعنى : حسبك الله وحسبك المؤمنين ، أي كافيك الله وكافيك المؤمنين ، ويحتمل أن تكون بمعنى مع كما تقول : حسبك وزيداً درهم ، والمعنى : كافيك وكافي المؤمنين الله ، لأن عطف الظاهر على المضمر في مثل هذه الصورة ممتنع كما تقرّر في علم النحو ، وأجازه الكوفيون . قال الفراء : ليس بكثير في كلامهم أن تقول حسبك وأخيك ، بل المستعمل أن يقال : حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار ، فلو كان قوله : { وَمَنِ اتبعك } مجروراً لقيل : حسبك الله وحسب من اتبعك ، واختار النصب على المفعول معه النحاس ، وقيل يجوز أن يكون المعنى : ومن اتبعك من المؤمنين حسبهم الله فحذف الخبر .
وقوله : { حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال } أي : حثهم وحضهم ، والتحريض في اللغة : المبالغة في الحثّ وهو كالتحضيض ، مأخوذ من الحرض ، وهو أن ينهكه المرض ويتبالغ فيه حتى يشفى على الموت كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور به ، ثم بشرهم تثبيتاً لقلوبهم وتسكيناً لخواطرهم بأن الصابرين منهم في القتال يغلبون عشرة أمثالهم من الكفار ، فقال : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } ثم زاد هذا إيضاحاً مفيداً لعدم اختصاص هذه البشارة بهذا العدد ، بل هي جارية في كل عدد فقال : { وَإِن تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا } وفي هذا دلالة على أن الجماعة من المؤمنين قليلاً كانوا أو كثيراً لا يغلبهم عشرة أمثالهم من الكفار بحال من الأحوال ، وقد وجد في الخارج ما يخالف ذلك . فكم من طائفة من طوائف الكفار يغلبون من هو مثل عشرهم من المسلمين ، بل مثل نصفهم بل مثلهم . وأجيب عن ذلك بأن وجود هذا بالخارج لا يخالف ما في الآية لاحتمال أن لا تكون الطائفة من المؤمنين متصفة بصفة الصبر . وقيل : إن هذا الخبر الواقع في الآية هو في معنى الأمر ، كقوله تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ } [ البقرة : 233 ] { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } [ البقرة : 228 ] فالمؤمنون كانوا مأمورين من جهة الله سبحانه بأن تثبت الجماعة منهم لعشرة أمثالهم ، ثم لما شق ذلك عليهم واستعظموه خفف عنهم ورخص لهم لما علمه سبحانه من وجود الضعف فيهم فقال : { فَإن تَكُنْ مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } إلى آخر الآية ، فأوجب على الواحد أن يثبت لاثنين من الكفار . وقرأ حمزة وحفص عن عاصم { ضعفاً } بفتح الضاد .

وقوله : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } متعلق بقوله : { يَغْلِبُواْ } أي : إن هذا الغلب بسبب جهلهم وعدم فقههم ، وأنهم يقاتلون على غير بصيرة ، ومن كان هكذا فهو مغلوب في الغالب . وقد قيل في نكتة التنصيص على غلب العشرين للمائتين ، والمائة للألف أن سراياه التي كان يبعثها صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها عن العشرين ولا يجاوز المائة . وقيل في التنصيص فيما بعد ذلك على غلب المائة للمائتين ، والألف للألفين ، على أنه بشارة للمسلمين بأن عساكر الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف . ثم أخبرهم بأن هذا الغلب هو بإذن الله وتسهيله ، وتيسيره لا بقوّتهم وجلادتهم ، ثم بشرهم بأنه مع الصابرين ، وفيه الترغيب إلى الصبر والتأكيد عليهم بلزومه والتوصية به ، وأنه من أعظم أسباب النجاح والفلاح والنصر والظفر ، لأن من كان الله معه لم يستقم لأحد أن يغلبه . وقد اختلف أهل العلم ، هل هذا التخفيف نسخ أم لا؟ ولا يتعلق بذلك كثير فائدة .
وقد أخرج البزار عن ابن عباس قال : لما أسلم عمر قال المشركون : قد انتصف القوم منا اليوم ، وأنزل الله { ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } . وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعة وثلاثون رجلاً وامرأة ، ثم إن عمر أسلم صاروا أربعين فنزل : { ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن سعيد بن جبير ، قال : لما أسلم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت { ياأيها النبى حَسْبُكَ الله } . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، عن الزهري في الآية قال : نزلت في الأنصار ، وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الشعبي في قوله : { ياأيها النبى حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } قال : حسبك الله وحسب من اتبعك .
وأخرج البخاري ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } فكتب عليهم أن لا يفرّ واحد من العشرة ، وأن لا يفرّ عشرون من مائتين ، ثم نزلت { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ } الآية ، فكتب أن لا يفرّ مائة من مائتين قال سفيان : وقال ابن شبرمة : وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا ، إن كانا رجلين أمرهما وإن كانوا ثلاثة فهو في سعة من تركهم ، وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِن يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم أن لا يفرّ واحد من عشرة ، فجاء التخفيف { الئان خَفَّفَ الله عَنكُمْ } الآية قال : فلما خفّف الله عنهم من العدّة نقص من الصبر بقدر ما خفّف عنهم .

مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

هذا حكم آخر من أحكام الجهاد . ومعنى { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ } ما صح له وما استقام ، وقرأ أبو عمرو ، وسهيل ويعقوب ، ويزيد ، والمفضل ، أن تكون بالفوقية ، وقرأ الباقون بالتحتية ، وقرأ أيضاً يزيد والمفضل «أسارى» وقرأ الباقون { أسرى } والأسرى جمع أسير ، مثل قتلى وقتيل ، وجرحى وجريح ، ويقال في جمع أسير أيضاً أسارى بضم الهمزة وبفتحها ، وهو مأخوذ من الأسر ، وهو القيد ، لأنهم كانوا يشدّون به الأسير ، فسمي كل أخيذ وإن لم يشدّ بالقدّ أسيراً ، قال الأعشى :
وقيدني الشعر في بيته ... كما قيدت الأسرات الحمارا
وقال أبو عمرو بن العلاء : الأسرى هم غير الموثقين عندما يؤخذون ، والأسارى هم الموثقون ربطاً . والإثخان : كثرة القتل والمبالغة فيه؛ تقول العرب : أثخن فلان في هذا الأمر ، أي بالغ فيه . فالمعنى : ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يبالغ في قتل الكافرين ويستكثر من ذلك . وقيل معنى الإثخان : التمكن ، وقيل : هو القوّة . أخبر الله سبحانه أن قتل المشركين يوم بدر كان أولى من أسرهم ، وفدائهم؛ ثم لما كثر المسلمون رخص الله في ذلك فقال : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } [ محمد : 4 ] كما يأتي في سورة القتال إن شاء الله . قوله : { تُرِيدُونَ عَرَضَ } الحياة { الدنيا } أي : نفعها ومتاعها بما قبضتم من الفداء ، وسمي عرضاً لأنه سريع الزوال كما تزول الأعراض التي هي مقابل الجواهر { والله يُرِيدُ الآخرة } أي : يريد لكم الدار الآخرة بما يحصل لكم من الثواب في الإثخان بالقتل . وقرىء «يريد الآخرة» بالجر على تقدير مضاف وهو المذكور قبله ، أي والله يريد عرض الآخرة { والله عَزِيزٌ } لا يغالب { حَكِيمٌ } في كل أفعاله .
قوله : { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } اختلف المفسرون في هذا الكتاب الذي سبق ما هو؟ على أقوال : الأوّل ما سبق في علم الله من أنه سيحلّ لهذه الأمة الغنائم بعد أن كانت محرّمة على سائر الأمم . والثاني : أنه مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر ، كما في الحديث الصحيح " إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " القول الثالث هو : أنه لا يعذبهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم كما قال سبحانه : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] . القول الرابع : أنه لا يعذب أحداً بذنب فعله جاهلاً لكونه ذنباً . القول الخامس : أنه ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر . القول السادس : أنه لا يعذب أحداً إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ، ولم يتقدّم نهي عن ذلك . وذهب ابن جرير الطبري إلى أن هذه المعاني كلها داخلة تحت اللفظ ، وأنه يعمها { لَمَسَّكُمْ } أي : لحلّ بكم { فِيمَا أَخَذْتُمْ } أي : لأجل ما أخذتم من الفداء { عَذَابٌ عظِيمٌ } والفاء في { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ } لترتيب ما بعدها عن سبب محذوف ، أي قد أبحت لكم الغنائم ، فكلوا مما غنمتم ويجوز أن تكون عاطفة على مقدّر محذوف ، أي اتركوا الفداء فكلوا مما غنمتم من غيره .

وقيل إن « مَا » عبارة عن الفداء ، أي كلوا من الفداء الذي غنمتم فإنه من جملة الغنائم التي أحلها الله لكم و { حلالا طَيّباً } منتصبان على الحال ، أو صفة المصدر المحذوف ، أي أكلاً حلالاً طيباً { واتقوا الله } فيما يستقبل ، فلا تقدموا على شيء لم يأذن الله لكم به { إِن الله غَفُورٌ } لما فرط منكم { رَّحِيمٌ } بكم ، فلذلك رخّص لكم في أخذ الفداء في مستقبل الزمان .
وقد أخرج أحمد ، عن أنس قال : استشار النبيّ صلى الله عليه وسلم الناس في الأسرى يوم بدر فقال : « إن الله قد أمكنكم منهم » فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم . ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم؛ وإنما هم إخوانكم بالأمس » ، فقام عمر فقال : يا رسول الله اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق فقال : يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء ، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء ، فأنزل الله { لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ } الآية .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن مسعود قال : لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ » فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ، قدّمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم ناراً ، فقال العباس وهو يسمع : قطعت رحمك ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ولم يردّ عليهم شيئاً ، فقال أناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال أناس : يأخذ بقول عمر ، وقال قوم : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدّ من الحجارة ، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال : { ومن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام إذ قال : { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ، ومثلك يا عمر مثل نوح عليه السلام إذ قال : { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال : { رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الاليم } [ يونس : 88 ] أنتم عالة فلا ينفلتنّ أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق »

، فقال عبد الله : يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إلا سهيل بن بيضاء » ، فأنزل الله { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } الآية .
وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن عليّ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأسارى يوم بدر : « إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتم واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدّتهم ، فكان آخر السبعين ثابت بن قيس اسشهد باليمامة » وأخرج عبد الرزاق في مصنفه ، وابن أبي شيبة عن عبيدة نحوه . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عمر ، قال : لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار وقد وعدته الأنصار أن يقتلوه . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه » ، فقال له عمر : فآتيهم؟ قال « نعم » ، فأتى عمر الأنصار فقال : أرسلوا العباس ، فقالوا : لا والله لا نرسله . فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا ، قالوا : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضا فخذه ، فأخذه عمر ، فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم ، فوالله إن تسلم أحبّ إليّ من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم ، فاستشار عمر فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } الآية .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } يقول حتى يظهروا على الأرض .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34