كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس ، أنه سئل عن قوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء } على أيّ شيء كان الماء؟ قال : على متن الريح . وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش ، وفي كيفية خلق السموات والأرض ليس هذا موضع ذكرها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في التاريخ ، وابن مردويه ، عن ابن عمر ، قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } فقال : ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال : « ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً » ، ثم قال : « وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله ، وأعملكم بطاعة الله » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال : إنكم أتمّ عقلاً . وأخرج أيضاً عن سفيان قال : أزهدكم في الدنيا .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال : لما نزلت { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] قال ناس : إن الساعة قد اقتربت فتناهوا ، فتناهى القوم قليلاً ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء ، فأنزل الله : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] فقال ناس من أهل الضلال : هذا أمر الله قد أتى ، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم ، مكر السوء ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس ، في قوله : { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } قال : إلى أجل معدود . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } يعني أهل النفاق . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في قوله : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } يقول : وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به .

وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)

اللام في : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان } هي الموطئة للقسم ، والإنسان الجنس ، فيشمل المؤمن والكافر ، ويدل على ذلك الاستثناء بقوله : { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } وقيل : المراد : جنس الكفار ، ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر ، هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب . وقيل المراد بالإنسان : الوليد بن المغيرة . وقيل : عبد الله بن أمية المخزومي . والمراد بالرحمة هنا : النعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } أن سلبناه إياها { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } أي : آيس من الرحمة ، شديد القنوط من عودها ، وأمثالها ، والكفور : عظيم الكفران ، وهو الجحود بها قاله ابن الأعرابي؛ وفي إيراد صيغتي المبالغة في { لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } ما يدلّ على أن الإنسان كثير اليأس ، وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه ، فلا يرجو عودها ، ولا يشكر ما قد سلف له منها . وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه ، لأن الإذاقة والذوق : أقلّ ما يوجد به الطعم ، والنعماء : إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضرّاء : ظهور أثر الإضرار على من أصيب به . والمعنى : أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة ، والغنى بعد أن كان في ضرّ من فقر أو مرض أو خوف ، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه ، بل يقول ذهب السيئات : أي المصائب التي ساءته من الضرّ والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها ، غير شاكر لله ، ولا مثن عليه بنعمه { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } أي : كثير الفرح بطراً وأشراً ، كثير الفخر على الناس ، والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم ، وفي التعبير عن ملابسة الضرّ له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة ، فإن كلاهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة ، كما تقدّم { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن ، والشكر عند حصول الممن . قال الأخفش : هو استثناء ليس من الأوّل : أي ولكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة . وقال الفراء؛ هو استثناء من لئن أذقناه : أي من الإنسان ، فإن الإنسان بمعنى الناس ، والناس : يشمل الكافر والمؤمن ، فهو استثناء متصل ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَأَجْرٌ } يؤجرون به لأعمالهم الحسنة { كَبِيرٌ } متناه في الكبر .
ثم سلَّى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ } أي : فلعلك لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب ، واقتراح الآيات التي يقترحونها عليه على حسب هواهم ، وتعنتهم تارك بعض ما يوحى إليك مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه ، مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به ، كسبّ آلهتهم وأمرهم بالإيمان بالله وحده .

قيل : وهذا الكلام خارج مخرج الاستفهام : أي هل أنت تارك؟ وقيل : هو في معنى النفي مع الاستبعاد : أي لا يكون منك ذلك ، بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك ، أحبوا ذلك أم كرهوه ، شاءوا أم أبوا { وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } معطوف على { تارك } ، والضمير في « به » راجع إلى « ما » أو إلى { بعض } ، وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم { أَن يَقُولُواْ } أي : كراهة أن يقولوا ، أو مخافة أن يقولوا أو لئلا يقولوا { لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ } أي : هلا أنزل عليه كنز : أي مال مكنوز مخزون ينتفع به { أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ } يصدّقه ويبين لنا صحة رسالته . ثم بيّن سبحانه أن حاله صلى الله عليه وسلم مقصور على النذارة ، فقال : { إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ } ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك ، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاد مقترحاتهم { والله على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ } يحفظ ما يقولون ، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل .
قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } « أم » هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، وأضرب عما تقدّم من تهاونهم بالوحي ، وعدم قنوعهم بما جاء به من المعجزات الظاهرة ، وشرع في ذكر ارتكابهم لما هو أشدّ من ذلك ، وهو افتراؤهم عليه بأنه افتراه ، والاستفهام للتوبيخ والتقريع ، والضمير المستتر في { افتراه } للنبي صلى الله عليه وسلم ، والبارز إلى ما يوحى . ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبين كذبهم ويظهر به عجزهم ، فقال : { قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ } أي : مماثلة له في البلاغة ، وحسن النظم ، وجزالة اللفظ ، وفخامة المعاني . ووصف السور بما يوصف به المفرد ، فقال : مثله ، ولم يقل أمثاله ، لأن المراد مماثلة كل واحد من السور ، أو لقصد الإيماء إلى وجه الشبه ، ومداره المماثلة في شيء واحد ، وهو البلاغة البالغة إلى حدّ الإعجاز ، وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية ، والإفراد شرط ، ثم وصف السور بصفة أخرى ، فقال : { مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا } للاستظهار على المعارضة بالعشر السور { مَنِ استطعتم } دعاءه ، وقدرتم على الاستعانة به ، من هذا النوع الإنساني ، وممن تعبدونه وتجعلونه شريكاً لله سبحانه . وقوله : { مِن دُونِ الله } متعلق ب { ادعوا } : أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله تعالى : { إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تزعمون من افترائي له .
{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي : فإن لم يفعلوا ما طلبته منهم ، وتحدّيتهم به من الإتيان بعشر سور مثله ، ولا استجابوا إلى المعارضة المطلوبة منهم ، ويكون الضمير في « لكم » لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، أو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده ، وجمع تعظيماً وتفخيماً { فاعلموا } أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للرسول صلى الله عليه وسلم وحده على التأويل الذي سلف قريباً .

ومعنى أمرهم بالعلم ، أمرهم بالثبات عليه؛ لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله ، أو المراد بالأمر بالعلم : الأمر بالازدياد منه ، إلى حدّ لا يشوبه شك ، ولا تخالطه شبهة ، وهو علم اليقين . والأوّل : أولى . ومعنى : { أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله } أنه أنزل متلبساً بعلم الله المختص به ، الذي لا تطلع على كنهه العقول ، ولا تستوضح معناه الأفهام ، لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } أي : واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له ، ولا يقدره غيره على ما يقدر عليه . ثم ختم الآية بقوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي : ثابتون على الإسلام ، مخلصون له ، مزدادون من الطاعات ، لأنه قد حصل لكم بعجز الكفار عن الإتيان بمثل عشر سور من هذا الكتاب طمأنينة فوق ما كنتم عليه ، وبصيرة زائدة ، وإن كنتم مسلمين من قبل هذا فإن الثبوت عليه وزيادة البصيرة فيه والطمأنينة به مطلوب منكم . وقيل : إن الضمير في { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ } للموصول في { من استطعتم } ، وضمير { لكم } ، للكفار ، الذين تحدّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك ضمير { فاعلموا } والمعنى : فإن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن يعبدونهم ، ويزعمون أنهم يضرّون وينفعون ، فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول ، خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى ، لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي تتقاصر دونه قوّة المخلوقين ، وأنه أنزل بعلم الله الذي لا تحيط به العقول ، ولا تبلغه الأفهام ، واعلموا أنه المنفرد بالألوهية لا شريك له ، فهل أنتم بعد هذا مسلمون؟ أي : داخلون في الإسلام ، متبعون لأحكامه ، مقتدون بشرائعه . وهذا الوجه أقوى من الوجه الأوّل من جهة ، وأضعف منه من جهة ، فأما جهة قوّته . فلا تساق الضمائر وتناسبها ، وعدم احتياج بعضها إلى تأويل ، وأما ضعفه ، فَلِما في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف ، وهو أن يقال : إن عدم استجابة من دعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم على نصرهم ، ومعاضدتهم ، ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر ، يقيد حصول العلم لهؤلاء الكفار ، بأن هذا القرآن من عند الله ، وأن الله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له ، وذلك يوجب دخولهم في الإسلام ، واعلم أنه قد اختلف التحدّي للكفار بمعارضة القرآن ، فتارة وقع بمجموع القرآن ، كقوله :

{ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] وبعشر سور كما في هذه الآية ، وذلك لأن العشرة أوّل عقد من العقود ، وبسورة منه كما تقدّم ، وذلك لأن السورة أقلّ طائفة منه .
ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها ، فقال : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } قال الفراء : إن { كان } هذه زائدة ، ولهذا جزم الجواب . وقال الزجاج : { من كان } في موضع جزم بالشرط ، وجوابه { نوفّ إليهم } : أي من يكن يريد .
واختلف أهل التفسير في هذه الآية ، فقال الضحاك : نزلت في الكفار ، واختاره النحاس بدليل الآية التي بعدها { أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخرة إِلاَّ النار } . وقيل : الآية واردة في الناس على العموم ، كافرهم ومسلمهم . والمعنى : أن من كان يريد بعمله حظّ الدنيا يكافأ بذلك ، والمراد بزينتها : ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن ، والسعة في الرزق ، وارتفاع الحظّ ، ونفاذ القول ، ونحو ذلك . وإدخال { كان } في الآية يفيد أنهم مستمرّون على إرادة الدنيا بأعمالهم ، لا يكادون يريدون الآخرة ، ولهذا قيل : إنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذّبون في الآخرة ، لأنهم جرّدوا قصدهم إلى الدنيا ، ولم يعملوا للآخرة . وظاهر قوله : { نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي ولا محالة ، ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك ، فليس كل متمنّ ينال من الدنيا أمنيته ، وإن عمل لها وأرادها ، فلا بد من تقييد ذلك بمشيئة الله سبحانه . قال القرطبي : ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة ، وكذلك الآية التي في الشورى { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] . وكذلك { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ آل عمران : 145 ] قيدتها وفسرتها التي في سبحان { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ } [ الإسراء : 18 ] قوله : { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي : وهؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم فيها : أي في الدنيا لا يبخسون : أي لا ينقصون من جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها ، وذلك في الغالب ، وليس بمطرد ، بل إن قضت به مشيئته سبحانه ، ورجحته حكمته البالغة . وقال القاضي : معنى الآية : من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها ، نوفّ إليهم أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا ، وهو ما ينالون من الصحة والكفاف ، وسائر اللذات والمنافع ، فخصّ الجزاء بمثل ما ذكره ، وهو حاصل لكل عامل للدنيا ، ولو كان قليلاً يسيراً .
قوله : { أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخرة إِلاَّ النار } الإشارة إلى المريدين المذكورين ، ولا بدّ من تقييد هذا بأنهم لم يريدوا الآخرة بشيء من الأعمال المعتدّ بها ، الموجبة للجزاء الحسن في الدار الآخرة ، أو تكون الآية خاصة بالكفار ، كما تقدّم { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ } أي : ظهر في الدار الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت صورتها صورة الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي ، لولا أنهم أفسدوها بفساد مقاصدهم ، وعدم الخلوص ، وإرادة ما عند الله في دار الجزاء ، بل قصروا ذلك على الدنيا وزينتها؛ ثم حكم سبحانه ببطلان عملهم فقال : { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : أنه كان عملهم في نفسه باطلاً غير معتدّ به ، لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاء ، ويترتب عليه ما يترتب على العمل الصحيح .

قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } بيّن سبحانه أن بين من كان طالباً للدنيا فقط ، ومن كان طالباً للآخرة تفاوتاً عظيماً ، وتبايناً بعيداً . والمعنى : أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالله ، كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها . وقيل : المراد بمن كان على بينة من ربه : النبي صلى الله عليه وسلم : أي أفمن كان معه بيان من الله ، ومعجزة كالقرآن ، ومعه شاهد كجبريل ، وقد بشرت به الكتب السالفة ، كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها . ومعنى البينة : البرهان الذي يدلّ على الحق ، والضمير في قوله : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ } راجع إلى البينة باعتبار تأويلها بالبرهان ، والضمير في منه راجع إلى القرآن ، لأن قد تقدّم ذكره في قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } [ يونس : 38 ] أو راجع إلى الله تعالى . والمعنى : ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن ، أو من الله سبحانه . والشاهد : هو الإعجاز الكائن في القرآن ، أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن . وقال الفراء قال بعضهم : { ويتلوه شاهد منه } : الإنجيل ، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق ، والهاء في { منه } لله عزّ وجلّ؛ وقيل المراد بمن كان على بينة من ربه : هم مؤمنو أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ، وأضرابه .
قوله : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } معطوف على { شاهد } . والتقدير : ويتلو الشاهد شاهد آخر من قبله هو كتاب موسى ، فهو وإن كان متقدّماً في النزول ، فهو يتلو الشاهد في الشهادة ، وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى ، مع كونه متأخراً في الوجود ، لكونه وصفاً لازماً غير مفارق ، فكان أغرق في الوصفية من كتاب موسى . ومعنى شهادة كتاب موسى ، وهو التوراة أنه بشّر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأخبر بأنه رسول من الله . قال الزجاج : والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى ، لأن النبي موصوف في كتاب موسى ، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل . وحكى أبو حاتم ، عن بعضهم ، أنه قرأ : « ومن قبله كتاب موسى » بالنصب ، وحكاه المهدوي ، عن الكلبي ، فيكون معطوفاً على الهاء في { يتلوه } . والمعنى : ويتلو كتاب موسى جبريل ، وانتصاب { إماماً ورحمة } على الحال .

والإمام : هو الذي يؤتمّ به في الدين ويقتدى به ، والرحمة : النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله عليهم ، وعلى من بعدهم باعتبار ما اشتمل عليه من الأحكام الشرعية الموافقة لحكم القرآن ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المتصفين بتلك الصفة الفاضلة ، وهو الكون على البينة من الله . واسم الإشارة مبتدأ وخبره { يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : يصدّقون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو بالقرآن { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب } أي : بالنبيّ أو بالقرآن . والأحزاب المتحزّبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم ، أو المتحزّبون من أهل الأديان كلها { فالنار مَوْعِدُهُ } أي : هو من أهل النار لا محالة ، وفي جعل النار موعداً إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من أفانين العذاب ، ومثله قول حسان :
أوردتموها حياض الموت صاحية ... فالنار موعدها والموت لاقيها
{ فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ } أي : لا تك في شك من القرآن ، وفيه تعريض بغيره صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه معصوم عن الشك في القرآن ، أو من الموعد { إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ } فلا مدخل للشك فيه بحال من الأحوال { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } بذلك مع وجوب الإيمان به ، وظهور الدلائل الموجبة له ، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقاً ، أو قد طبع على قلوبهم فلا يفهمون أنه الحق أصلاً .
وقد أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } قال : لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أنس ، في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } قال : نزلت في اليهود والنصارى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن معبد ، قال : قام رجل إلى عليّ فقال : أخبرنا عن هذه الآية { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا } إلى قوله : { وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال : ويحك ، ذاك من كان يريد الدنيا لا يريد الآخرة . وأخرج النحاس عن ابن عباس { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا } أي : ثوابها { وَزِينَتَهَا } مالها { نُوَفّ إِلَيْهِمْ } نوفر لهم بالصحة والسرور في الأهل ، والمال ، والولد { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } لا ينقصون . ثم نسخها : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء } [ الإسراء : 18 ] الآية . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في الآية قال : من عمل صالحاً : التماس الدنيا صوماً أو صلاة ، أو تهجداً بالليل ، لا يعمله إلا التماس الدنيا ، يقول الله أو فيه الذي التمس في الدنيا وحبط عمله الذي كان يعمل ، وهو في الآخرة من الخاسرين . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك ، قال : نزلت هذه الآية في أهل الشرك .

وأخرج أبو الشيخ ، عن الحسن ، في قوله : { نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ } قال : طيباتهم . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن جريج ، نحوه . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } قال : حبط ما عملوا من خير ، وبطل في الآخرة ، ليس لهم فيها جزاء . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في الآية ، قال : هم أهل الرياء .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن ، فقال له رجل : ما نزل فيك؟ قال : أما تقرأ سورة هود { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ } رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة من ربه ، وأنا شاهد منه . وأخرج ابن عساكر ، وابن مردويه من وجه آخر ، عنه ، قال : قال رسول الله : « أفمن كان على بينة من ربه : أنا ، ويتلوه شاهد منه : عليّ » وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي العالية ، في قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } قال : ذاك محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج أبو الشيخ ، عن إبراهيم ، نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن عليّ بن أبي طالب ، قال : قلت لأبي : إن الناس يزعمون في قول الله سبحانه { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ } أنك أنت التالي ، قال : وددت أني أنا هو ، ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج أبو الشيخ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن الشاهد جبريل ووافقه سعيد بن جبير . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طرق ، عن ابن عباس ، قال : جبريل فهو شاهد من الله بالذي يتلوه من كتاب الله الذي أنزل على محمد { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } قال : ومن قبله التوراة على لسان موسى ، كما تلا القرآن على لسان محمد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن الحسن بن عليّ ، في قوله : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ } قال : محمد هو الشاهد من الله . وأخرج أبو الشيخ ، عن إبراهيم { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } قال : ومن قبله جاء الكتاب إلى موسى . وأخرج عبد الرزاق ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب } قال : الكفار أحزاب كلهم على الكفر . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، قال : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب } قال : من اليهود والنصارى .

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)

قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } أي : لا أحد أظلم منهم لأنفسهم؛ لأنهم افتروا على الله كذباً بقولهم لأصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقولهم : الملائكة بنات الله ، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره ، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري ، فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم . فالمعنى على هذا : لا أحد مثلهم في الظلم فضلاً عن أن يوجد من هو أظلم منهم ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ ، وهو مبتدأ ، وخبره { يعرضون على ربهم } فيحاسبهم على أعمالهم ، أو المراد بعرضهم : عرض أعمالهم { وَيَقُولُ الأشهاد هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ } الأشهاد : هم الملائكة الحفظة ، وقيل : المرسلون . وقيل : الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه ، وقيل جميع الخلائق . والمعنى : أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض : هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه ولم يصرّحوا بما كذبوا به ، كأنه كان أمراً معلوماً عند أهل ذلك الموقف . قوله : { أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } هذا من تمام كلام الأشهاد أي : يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ، ويقولون : ألا لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء ، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه ، قاله بعدما قال الأشهاد { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } . والأشهاد جمع شهيد ، ورجحه أبو عليّ بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله : { وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } [ البقرة : 143 ] { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، وقيل : هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب ، والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار ، والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد .
ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي : يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : يصفونها بالاعوجاج تنفيراً للناس عنها ، أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر ، يقال بغيتك شرّاً : أي طلبته لك والحال أنهم { بالآخرة هُمْ كافرون } أي : يصفونها بالعوج ، والحال أنهم بالآخرة غير مصدّقين ، فكيف يصدّون الناس عن طريق الحق ، وهم على الباطل البحت؟ وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به ، حتى كأن كفر غيرهم غير معتدّ به بالنسبة إلى عظيم كفرهم { أولئك } الموصوفون بتلك الصفات { لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض } أي : ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم ، وإنزال بأسه بهم ، وجملة { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم ، ليكون عذاباً مضاعفاً .

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، ويزيد ويعقوب «يضعف» مشدّداً { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } أي : أفرطوا في إعراضهم عن الحق ، وبغضهم له ، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار ، لفرط تعاميهم عن الصواب . ويجوز أن يراد بقوله : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله ، ولا ينفعهم ذلك ، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضرراً ، ويجوز أن تكون «ما» هي المدية . والمعنى : أنه يضاعف لهم العذاب مدّة استطاعتهم السمع والبصر . قال الفراء : ما كانوا يستطيعون السمع ، لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ . وقال الزجاج : لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم . وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه . قال النحاس : هذا معروف في كلام العرب ، يقال : فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان : إذا كان ثقيلاً عليه { أولئك } المتصفون بتلك الصفات { الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } بعبادة غير الله . والمعنى : اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله ، فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدّعون أنها تشفع لهم ، ولم يبق بأيديهم إلا الخسران .
قوله : { لاَ جَرَمَ } قال الخليل وسيبويه : «لا جرم» بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة ، وبه قال الفراء . وروي عن الخليل والفراء أنها : بمنزلة قولك : لا بدّ ولا محالة ، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً . وقال الزجاج : إن جرم بمعنى كسب : أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران ، وفاعل كسب مضمر ، وأنّ منصوبة بجزم . قال الأزهري : وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة . وقال الكسائي : معنى لا جرم : لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون . وقال جماعة من النحويين : إن معنى لا جرم لا قطع قاطع { أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الأخسرون } قالوا : والجرم : القطع ، وقد جرم النخل واجترمه : أي قطعه ، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حدّ يتقاصر عنه غيرهم ، ولا يبلغ إليه ، وهذه الآيات مقرّرة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ، وبين من كان على بينة من ربه { إِنَّ الذين ءامَنُواْ } أي : صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله ، وغير ذلك من خصال الإيمان { وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ } أي : أنابوا إليه ، وقيل : خشعوا . وقيل : خضعوا . قيل : وأصل الإخبات : الاستواء في الخبث : وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان . قال الفراء : إلى ربهم ، ولربهم واحد { أولئك } الموصوفون بتلك الصفات الصالحة { أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون } .

قوله : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } ضرب للفريقين مثلاً وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصمّ ، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع ، على أن كل فريق شبه بشيئين ، أو شبه بمن جمع بين الشيئين ، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم ، والمؤمن شبّه بمن جمع بين السمع والبصر ، وعلى هذا تكون الواو في { والأصمّ } ، وفي { والسميع } لعطف الصفة على الصفة ، كما فى قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... والاستفهام في قوله : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } للإنكار : يعني الفريقين ، وهذه الجملة مقرّرة لما تقدّم من قوله : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } وانتصاب مثلاً على التمييز من فاعل يستويان : أي هل يستويان حالاً وصفة { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } في عدم استوائهما ، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يخفى على من له تذكر ، وعنده تفكر وتأمل ، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين .
وقد أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ } قال : الكافر والمنافق { أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ } فيسألهم عن أعمالهم { وَيَقُولُ الأشهاد } الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا { هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ } شهدوا به عليهم يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، قال : « الأشهاد : الملائكة » . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، نحوه ، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول : ربّ أعرف ، حتى إذا قرّره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطي كتاب حسناته . وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد : { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين } » وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } قال : هو محمد يعني سبيل الله ، صدّت قريش عنه الناس . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك ، في قوله : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } يعني : يرجون بمكة غير الإسلام ديناً . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض } الآية قال : أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا ، فإنه قال : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } وأما في الآخرة فإنه قال { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خاشعة } [ القلم : 42 ، 43 ] . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع } قال : ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيراً فينتفعوا به ، ولا يبصروا خيراً فيأخذوا به .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { *أخبتوا } قال : خافوا . وأخرج ابن جرير ، عنه ، قال : الإخبات : الإنابة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، قال الإخبات : الخشوع والتواضع . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، قال : اطمأنوا . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم } قال : الكافر { والبصير والسميع } قال : المؤمن .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

لما أورد سبحانه على الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنواع الدلائل التي هي أوضح من الشمس ، أكد ذلك بذكر القصص على طريقة التفنن في الكلام ، ونقله من أسلوب إلى أسلوب لتكون الموعظة أظهر والحجة أبين ، والقبول أتمّ ، فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } قرأ ابن كثيرة ، وأبو عمرو ، والكسائي بفتح الهمزة على تقدير حرف الجر : أي أرسلناه بأنى : أي أرسلناه متلبساً بذلك الكلام ، وهو أني لكم نذير مبين . وقرأ الباقون بالكسر على إرادة القول : أي قائلاً إني لكم ، والواو في { ولقد } للابتداء ، واللام هي الموطئة للقسم ، واقتصر على النذارة دون البشارة ، لأن دعوته كانت لمجرد الإنذار ، أو لكونهم لم يعملوا بما بشرهم به ، وجملة { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله } بدل من إني لكم نذير مبين : أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله ، أو تكون أن مفسرة متعلقة بأرسلنا ، أو بنذير ، أو بمبين ، وجملة : { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } تعليلية . والمعنى : نهيتكم عن عبادة غير الله لأني أخاف عليكم ، وفيها تحقيق لمعنى الإنذار ، واليوم الأليم : هو يوم القيامة ، أو يوم الطوفان؛ ووصفه بالأليم من باب الإسناد المجازي مبالغة .
ثم ذكر ما أجاب به قومه عليه ، وهذا الجواب يتضمن الطعن منهم في نبوّته من ثلاث جهات ، فقال : { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قومِهِ } والملأ : الأشراف ، كما تقدم غير مرة ، ووصفهم بالكفر ذماً لهم ، وفيه دليل على أن بعض أشراف قومه لم يكونوا كفرة { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا } هذه الجهة الأولى من جهات طعنهم في نبوّته : أي : نحن وأنت مشتركون في البشرية ، فلم يكن لك علينا مزية تستحق بها النبوّة دوننا ، والجهة الثانية : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } ولم يتبعك أحد من الأشراف ، فليس لك مزية علينا باتباع هؤلاء الأراذل لك . والأراذل : جمع أرذل ، وأرذل جمع رذل ، مثل : أكالب وأكلب وكلب . وقيل : الأراذل جمع الأرذل ، كالأساود جمع أسود ، وهم : السفلة . قال النحاس : الأراذل : الفقراء والذين لا حسب لهم ، والحسب : الصناعات . قال الزجاج : نسبوهم إلى الحياكة ، ولم يعلموا أن الصناعات لا أثر لها في الديانة . وقال ثعلب عن ابن الأعرابي : السفلة هو الذي يصلح الدنيا بدينه ، قيل له : فمن سفلة السفلة؟ قال : الذي يصلح دنيا غيره بفساد دينه . والظاهر من كلام أهل اللغة : أن السفلة هو الذي يدخل في الحرف الدنية ، والرؤية في الموضعين إن كانت القلبية ف { بشرا } في الأوّل ، و { اتبعك } في الثاني هما المفعول الثاني ، وإن كانت البصرية فهما منتصبان على الحال ، وانتصاب { بادي الرأي } على الظرفية ، والعامل فيه { اتبعك } .

والمعنى : في ظاهر الرأي من غير تعمق ، يقال بدا يبدو : إذا ظهر . قال الأزهري : معناه فيما يبدو لنا من الرأي . والوجه الثالث : من جهات قدحهم في نبوّته { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } خاطبوه في الوجهين الأولين ، منفرداً وفي هذا الوجه خاطبوه مع متبعيه أي : ما نرى لك ولمن اتبعك من الأراذل علينا من فضل يتميزون به ، وتستحقون ما تدّعونه ، ثم أضربوا عن الثلاثة المطاعن ، وانتقلوا إلى ظنهم المجرّد عن البرهان الذي لا مستند له إلا مجرد العصبية ، والحسد ، واستبقاء ما هم فيه من الرياسة الدنيوية ، فقالوا : { بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذبين } فيما تدّعونه ، ويجوز أن يكون هذا خطاباً للأراذل وحدهم ، والأوّل : أولى؛ لأن الكلام مع نوح لا معهم إلا بطريق التبعية له .
ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم ، فقال : { قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } أي : أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوّة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها ، مع كون ما جعلتموه قادحاً ليس بقادح في الحقيقة ، فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوّة ، واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوّة ، فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم ، فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } هي : النبوّة ، وقيل : الرحمة : المعجزة ، والبينة : النبوّة . قيل : ويجوز أن تكون الرحمة هي : البينة نفسها ، والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت البينة ، والإفراد في { فَعُمّيَتْ } على إرادة كل واحدة منهما ، أو على إرادة البينة ، لأنها هي التي تظهر لمن تفكر ، وتخفى على من لم يتفكر ، ومعنى عميت : خفيت؛ وقيل : الرحمة هي على الخلق ، وقيل : هي الهداية إلى معرفة البرهان ، وقيل : الإيمان ، يقال عميت عن كذا ، وعمي عليّ كذا : إذا لم أفهمه . قيل وهو من باب القلب ، لأن البينة أو الرحمة لا تعمى وإنما يعمى عنها فهو كقولهم : أدخلت القلنسوة رأسي . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص { فعميت } بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول : أي فعماها الله عليكم ، وفي قراءة أبيّ « فعماها عليكم » والاستفهام في { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } للإنكار : أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها ، والحال أنكم { لها كارهون } ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي إلا أنها خافية عليكم أيمكنننا أن نضطركم إلى العلم بها ، والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها ، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ . وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في { أنلزمكموها } تخفيفاً كما في قول الشاعر :
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف . وقد قرأ أبو عمرو كذلك .

قوله : { وياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله } فيه التصريح منه عليه السلام بأنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يكون بذلك محلاً للتهمة ، ويكون لقول الكافرين مجال بأنه إنما ادّعى ما ادعى طلباً للدنيا ، والضمير في عليه راجع إلى ما قاله لهم ، فيما قبل هذا . وقوله : { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ } كالجواب عما يفهم من قولهم { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا } من التلميح منهم إلى إبعاد الأراذل عنه . وقيل : إنهم سألوه طردهم تصريحاً لا تلميحاً ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ } أي : لا أطردهم ، فإنهم ملاقون يوم القيامة ربهم فهو يجازيهم على إيمانهم لأنهم طلبوا ما عنده سبحانه ، وكأنه قال هذا على وجه الإعظام لهم ، ويحتمل أنه قاله خوفاً من مخاصمتهم له عند ربهم بسبب طرده لهم؛ ثم بين لهم ما هم عليه في هذه المطالب التي طلبوها منه ، والعلل التي اعتلوا بها عن إجابته فقال : { ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } كل ما ينبغي أن يعلم ، ومن ذلك استرذالهم للذين اتبعوه وسؤالهم له أن يطردهم . ثم أكد عدم جواز طردهم بقوله : { وياقوم مَن يَنصُرُنِى مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ } أي : من يمنعني من عذاب الله وانتقامه إن طردتهم؟ فإن طردهم بسبب سبقهم إلى الإيمان والإجابة إلى الدعوة التي أرسل الله رسوله لأجلها ظلم عظيم ، لا يقع من أنبياء الله المؤيدين بالعصمة ، ولو وقع ذلك منهم فرضاً وتقديراً لكان فيه من الظلم مالا يكون لو فعله غيرهم من سائر الناس . وقوله : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } معطوف على مقدّر؛ كأنه قيل : أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل بما ذكر ، أفلا تذكرون من أحوالهم ما ينبغي تذكره ، وتتفكرون فيه ، حتى تعرفوا ما أنتم عليه من الخطأ ، وما هم عليه من الصواب .
قوله : { وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله } بين لهم أنه كما لا يطلب منهم شيئاً من أموالهم على تبليغ الرسالة ، كذلك لا يدّعي أن عنده خزائن الله حتى يستدلوا بعدمها على كذبه ، كما قالوا : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } والمراد بخزائن الله : خزائن رزقه { وَلا أَعْلَمُ الغيب } أي : ولا أدّعي أني أعلم بغيب الله ، بل لم أقل لكم إلا أني نذير مبين ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم { وَلا أَقُولُ } لكم { إِنّى مَلَكٌ } تقولوا ما نراك إلا بشراً مثلنا . وقد استدلّ بهذا من قال : إن الملائكة أفضل من الأنبياء ، والأدلة في هذه المسألة مختلفة ، وليس لطالب الحق إلى تحقيقها حاجة ، فليست مما كلفنا الله بعلمه { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ } أي : تحتقر ، والازدراء مأخوذ من أزرى عليه : إذا عابه ، وزري عليه : إذا احتقره ، وأنشد الفراء :

يباعده الصديق وتزدريه ... خليلته وينهره الصغير
والمعنى : إني لا أقول لهؤلاء المتبعين لي المؤمنين بالله الذين تعيبونهم وتحتقرونهم { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا } بل قد آتاهم الخير العظيم بالإيمان به واتباع نبيه؛ فهو مجازيهم بالجزاء العظيم في الآخرة ، ورافعهم في الدنيا إلى أعلى محل ، ولا يضرّهم احتقاركم لهم شيئاً { الله أَعْلَمُ بِمَا فِى أَنفُسِهِمْ } من الإيمان به ، والإخلاص له ، فمجازيهم على ذلك ، ليس لي ولا لكم من أمرهم شيء { إِنّى إِذًا لَّمِنَ الظالمين } لهم إن فعلت ما تريدونه بهم ، أو من الظالمين لأنفسهم إن فعلت ذلك بهم ، ثم جاوبوه بغير ما تقدّم من كلامهم وكلامه عجزاً عن القيام بالحجة ، وقصوراً عن رتبة المناظرة ، وانقطاعاً عن المباراة بقولهم : { يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي : خاصمتنا بأنواع الخصام ، ودفعتنا بكل حجة لها مدخل في المقام ، ولم يبق لنا في هذا الباب مجال ، فقد ضاقت علينا المسالك ، وانسدّت أبواب الحيل { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب الذي تخوّفنا منه ، وتخافه علينا { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } فيما تقوله لنا ، فأجاب بأن ذلك ليس إليه وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ، و { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء } فإن قضت مشيئته وحكمته بتعجيله عجله لكم ، وإن قضت مشيئته وحكمته بتأخيره أخره { وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } بفائتين عما أراده الله بكم بهرب أو مدافعة .
{ وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى } الذي أبذله لكم ، وأستكثر منه قياماً مني بحق النصيحة لله بإبلاغ رسالته ، ولكم بإيضاح الحق وبيان بطلان ما أنتم عليه { إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ } وجواب هذا الشرط محذوف ، والتقدير : إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي ، كما يدل عليه ما قبله : { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي : إن كان الله يريد إغواءكم ، فلا ينفعكم النصح مني ، فكان جواب هذا الشرط محذوفاً كالأوّل ، وتقديره ما ذكرنا ، وهذا التقدير إنما هو على مذهب من يمنع من تقدّم الجزاء على الشرط ، وأما على مذهب من يجيزه ، فجزاء الشرط الأوّل ، { ولا ينفعكم نصحي } ، وجزاء الشرط الثاني الجملة الشرطية الأولى وجزاؤها . قال ابن جرير : معنى { يغويكم } يهلككم بعذابه ، وظاهر لغة العرب أن الإغواء : الإضلال؛ فمعنى الآية : لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يضلكم عن سبيل الرشاد ، ويخذلكم عن طريق الحق . وحكى عن طيّ : أصبح فلان غاوياً : أي مريضاً ، وليس هذا المعنى هو المراد في الآية . وقد ورد الإغواء بمعنى الإهلاك ، ومنه : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } [ مريم : 59 ] وهو غير ما في هذه الآية { هُوَ رَبُّكُمْ } فإليه الإغواء وإليه الهداية { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازيكم بأعمالكم إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرأى } قال : فيما ظهر لنا .

وأخرج أبو الشيخ ، عن عطاء ، مثله . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } قال : قد عرفتها وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو ، { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِه } قال : الإسلام الهدى والإيمان ، والحكم والنبوّة . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } قال : أما والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه ، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ «أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون» . وأخرج ابن جرير ، عن أبي العالية ، قال في قراءة أبيّ : «أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون» . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبيّ بن كعب ، أنه قرأ : «أنلزمكموها من شطر قلوبنا» .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ } ، قال : قالوا له : يا نوح ، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم ، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأرض سواء ، وفي قوله : { إِنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ } قال : فيسألهم عن أعمالهم { وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ الله } التي لا يفنيها شيء ، فأكون إنما دعوتكم لتتبعوني عليها ، لا أعطيكم بملكه لي عليها { وَلا أَعْلَمُ الغيب } لا أقول : اتبعوني على علمي بالغيب { وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ } نزلت من السماء برسالة ، ما أنا إلا بشر مثلكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ } . قال : حقرتموهم . وأخرج أبو الشيخ ، عن السدي ، في قوله : { لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا } قال : يعني : إيماناً . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } قال : تكذيباً بالعذاب ، وأنه باطل .

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } أنكر سبحانه عليهم قولهم : إن ما أوحى إلى نوح مفترى ، فقال : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } ثم أمره أن يجيب بكلام متصف ، فقال : { قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } بكسر الهمزة على قراءة الجمهور ، مصدر أجرم : أي فعل ما يوجب الإثم ، وجرم وأجرم بمعنى قاله النحاس ، والمعنى : فعليّ إثمي ، أو جزاء كسبي . ومن قرأ بفتح الهمزة ، قال : هو جمع جرم ذكره النحاس أيضاً { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } أي : من إجرامكم بسبب ما تنسبونه إليّ من الافتراء ، قيل : وفي الكلام حذف والتقدير : لكن ما افتريته ، فالإجرام وعقابه ليس إلا عليكم ، وأنا بريء منه . وقد اختلف المفسرون في هذه الآية ، فقيل : إنها حكاية عن نوح ، وما قاله لقومه ، وقيل : هي حكاية عن المحاورة الواقعة بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وكفار مكة . والأوّل : أولى؛ لأن الكلام قبلها وبعدها مع نوح عليه السلام .
قوله : { وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمن } { أنه لن يؤمن } في محل رفع على أنه نائب الفاعل الذي لم يسمّ . ويجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير الباء : أي بأنه ، وفي الكلام تأييس له من إيمانهم ، وأنهم مستمرّون على كفرهم ، مصممون عليه ، لا يؤمن أحد منهم إلا من قد سبق إيمانه { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } البؤس : الحزن ، أي فلا تحزن ، والبائس : المستكين ، فنهاه الله سبحانه عن أن يحزن حزن مستكين؛ لأن الابتئاس حزن في استكانة . ومنه قول الشاعر :
وكم من خليل أو حميم رُزِئته ... فلم أبتئس والرزءُ فيه جليلُ
ثم إن الله سبحانه لما أخبره أنهم لا يؤمنون ألبتة عرفه وجه إهلاكهم ، وألهمه الأمر الذي يكون به خلاصه ، وخلاص من آمن معه ، فقال : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي : اعمل السفينة متلبساً بأعيننا : أي بمرأى منا ، والمراد بحراستنا لك وحفظنا لك ، وعبر عن ذلك بالأعين لأنها آلهة الرؤية ، والرؤية هي : التي تكون بها الحراسة والحفظ في الغالب ، وجمع الأعين للتعظيم لا للتكثير . وقيل المعنى : { بِأَعْيُنِنَا } أي : بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيوناً على حفظك . وقيل : { بِأَعْيُنِنَا } بعلمنا . وقيل : بأمرنا . ومعنى بوحينا : بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } أي : لا تطلب إمهالهم ، فقد حان وقت الانتقام منهم ، وجملة { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } للتعليل : أي : لا تطلب منا إمهالهم ، فإنه محكوم منا عليهم بالغرق ، وقد مضى به القضاء فلا سبيل إلى دفعه ولا تأخيره . وقيل : المعنى : ولا تخاطبني في تعجيل عقابهم ، فإنهم مغرقون في الوقت المضروب لذلك ، لا يتأخر إغراقهم عنه . وقيل المراد بالذين ظلموا : امرأته وابنه .

{ وَيَصْنَعُ الفلك } أي : وطفق يصنع الفلك ، أو وأخذ يصنع الفلك . وقيل : هو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة ، وجملة : { وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } في محل نصب على الحال : أي استهزءوا به لعمله السفينة . قال الأخفش والكسائي : يقال سخرت به ومنه . وفي وجه سخريتهم منه قولان : أحدهما : أنهم كانوا يرونه يعمل السفينة ، فيقولون يا نوح صرت بعد النبوّة نجاراً . والثاني : أنهم لما شاهدوه يعمل السفينة ، وكانوا لا يعرفونها قبل ذلك ، قالوا : يا نوح ما تصنع بها؟ قال : أمشي بها على الماء فعجبوا من قوله ، وسخروا به . ثم أجاب عليهم بقوله : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } وهذا الكلام مستأنف على تقدير سؤال كأنه قيل : فماذا قال لهم؟ والمعنى : إن تسخروا منا بسبب عملنا للسفينة اليوم ، فإنا نسخر منكم غداً عند الغرق . ومعنى السخرية هنا : الاستجهال ، أي : إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون ، واستجهاله لهم باعتبار إظهاره لهم ومشافهتهم ، وإلا فهم عنده جهال قبل هذا وبعده ، والتشبيه في قوله : { كَمَا تَسْخَرُونَ } لمجرد التحقق والوقوع ، أو التجدّد والتكرّر ، والمعنى : إنا نسخر منكم سخرية متحققة واقعة كما تسخرون منا كذلك ، أو متجدّدة متكرّرة كما تسخرون منا كذلك . وقيل معناه : نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق ، وفيه نظر ، فإن حالهم إذ ذاك لا تناسبه السخرية ، إذ هم في شغل شاغل عنها .
ثم هدّدهم بقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } وهو عذاب الغرق في الدنيا { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } وهو عذاب النار الدائم ، ومعنى يحلّ : يجعل المؤجل حالاً ، مأخوذ من حلول الدين المؤجل ، و " من " موصولة في محل نصب ، ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع : أي أينا يأتيه عذاب يخزيه . وقيل : في موضع رفع بالابتداء ، و { يأتيه } الخبر ، و { يخزيه } صفة لعذاب . قال الكسائي : إن ناساً من أهل الحجاز يقولون : " سوف تعلمون "؛ قال : ومن قال " ستعلمون " أسقط الواو والفاء جميعاً ، وجوّز الكوفيون «سف تعلمون» ومنعه البصريون ، والمراد بعذاب الخزي : العذاب الذي يخزي صاحبه ، ويحل عليه العار .
قوله : { حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التنور } " حتى " هي الابتدائية دخلت على الجملة الشرطية ، وجعلت غاية لقوله : { واصنع الفلك بأعيننا } . والتنور : اختلف في تفسيرها على أقوال : الأوّل : أنها وجه الأرض ، والعرب تسمى وجه الأرض تنوراً ، روي ذلك عن ابن عباس ، وعكرمة ، والزهري ، وابن عيينة . الثاني : أنه تنور الخبز الذي يخبزونه فيه ، وبه قال مجاهد وعطية والحسن ، وروي عن ابن عباس أيضاً . الثالث : أنه موضع اجتماع الماء في السفينة ، روي عن الحسن . الرابع : أنه طلوع الفجر ، من قولهم تنّور الفجر ، روي عن عليّ بن أبي طالب .

الخامس : أنه مسجد الكوفة ، روي عن عليّ أيضاً ومجاهد . قال مجاهد : كان ناحية التنّور بالكوفة . السادس : أنه أعالي الأرض ، والمواضع المرتفعة ، قاله قتادة . السابع : أنه العين التي بالجزيرة المسماة عين الوردة ، روي ذلك عن عكرمة . الثامن : أنه موضع بالهند . قال ابن عباس : كان تنور آدم بالهند . قال النحاس : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن الله سبحانه قد أخبر بأن الماء قد جاء من السماء والأرض ، قال : { فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 11 ، 12 ] فهذه الأقوال تجتمع في أن ذلك كان علامة . هكذا قال ، وفيه نظر ، فإن القول الرابع ينافي هذا الجمع ، ولا يستقيم عليه التفسير بنبع الماء . إلا إذا كان المراد مجرد العلامة ، كما ذكره آخراً . وقد ذكر أهل اللغة أن الفور : الغليان ، والتنور : اسم عجمي عرّبته العرب . وقيل : معنى فار التنور : التمثيل بحضور العذاب كقولهم : حَمي الوطيس : إذا اشتدّ الحرب ، ومنه قول الشاعر :
تركتم قدركم لا شيء فيها ... وقِدرُ القوم حامية تفورُ
يريد : الحرب .
قوله : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين } أي : قلنا : يا نوح ، احمل في السفينة من كل زوجين مما في الأرض من الحيوانات اثنين ذكراً وأثنى . وقرأ حفص : { من كلّ } بتنوين كل : أي : من كل شيء زوجين ، والزوجان للاثنين اللذين لا يستغنى أحدهما عن الآخر ، ويطلق على كل واحد منهما زوج ، كما يقال للرجال زوج ، وللمرأة زوج ، ويطلق الزوج على الاثنين إذا استعمل مقابلاً للفرد ، ويطلق الزوج على الضرب والصنف ، ومثله قوله تعالى : { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] ، ومثله قول الأعشى :
وكل ضرب من الديباج يلبسه ... أبو حذافة مخبوّ بذاك معا
أراد كل صنف من الديباج { وَأَهْلَكَ } عطف على { زوجين } ، أو على اثنين على قراءة حفص ، وعلى محل كل زوجين ، فإنه في محلّ نصب ب { احمل } ، أو على { اثنين } على قراءة الجمهور ، والمراد : امرأته وبنوه ونساؤهم { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } أي : من تقدّم الحكم عليه بأنه من المغرقين ، في قوله : { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } على الاختلاف السابق فيهم ، فمن جعلهم جميع الكفار من أهله وغيرهم كان هذا الاستثناء من جملة { احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ } ومن قال : المراد بهم ولده كنعان وامرأته واعلة أمّ كنعان جعل الاستثناء من أهلك ، ويكون متصلاً إن أريد بالأهل ما هو أعمّ من المسلم والكافر منهم ، ومنقطعاً إن أريد بالأهل المسلمون منهم فقط ، قوله : { وَمَنْ ءامَنَ } معطوف على { أهلك } : أي : واحمل في السفينة من آمن من قومك ، وأفرد الأهل منهم لمزيد العناية بهم ، أو للاستثناء منهم على القول الآخر . ثم وصف الله سبحانه قلة المؤمنين مع نوح بالنسبة إلى من كفر به ، فقال : { وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } قيل : هم ثمانون إنساناً : منهم ثلاثة من بنيه ، وهو سام ، وحام ، ويافث ، وزوجاتهم ، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية يقال لها قرية الثمانين ، وهي موجودة بناحية الموصل .

وقيل : كانوا عشرة . وقيل : سبعة ، وقيل : كانوا اثنين وسبعين . وقيل : غير ذلك .
قوله : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا } القائل : نوح ، وقيل : الله سبحانه . والأوّل : أولى ، لقوله : { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } والركوب : العلوّ على ظهر الشيء حقيقة نحو ركب الدابة ، أو مجازاً نحو ركبه الدين ، وفي الكلام حذف : أي : اركبوا الماء في السفينة ، فلا يرد أن ركب يتعدّى بنفسه؛ وقيل إن الفائدة في زيادة « في » أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف السفينة لا على ظهرها . وقيل : إنها زيدت لرعاية جانب المحلية في السفينة كما في قوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك } [ العنكبوت : 65 ] ، وقوله : { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة } [ الكهف : 71 ] قيل : ولعلّ نوحاً قال هذه المقالة بعد إدخال ما أمر بحمله من الأزواج ، كأنه قيل : فحمل الأزواج وأدخلها في الفلك ، وقال للمؤمنين ، ويمكن أن يقال إنه أمر بالركوب كل من أمر بحمله من الأزواج والأهل والمؤمنين ، ولا يمتنع أن يفهم خطابه من لا يعقل من الحيوانات ، أو يكون هذا على طريقة التغليب . قوله : { بِسْمِ اللَّهِ } متعلق ب { اركبوا } ، أو حال من فاعله : أي مسمين الله ، أو قائلين : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } قرأ أهل الحرمين وأهل البصرة بضمّ الميم فيهما إلا من شدّ منهم على أنهما اسما زمان ، وهما : في موضع نصب على الظرفية : أي وقت مجراها ومرساها ، ويجوز أن يكونا مصدرين : أي : وقت إجرائها وإرسائها . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص { مجراها } بفتح الميم ، و { مرساها } بضمها ، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها فيهما . وقرأ مجاهد ، وسليمان بن جندب ، وعاصم الجحدري ، وأبو رجاء العطاردي { مجريها ومرسيها } على أنهما وصفان لله ، ويجوز أن يكونا في موضع رفع باضمار مبتدأ : أي هو مجريها ومرسيها { إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ } للذنوب { رَّحِيمٌ } بعباده ، ومن رحمته إنجاء هذه الطائفة تفضلاً منه لبقاء هذا الجنس الحيواني ، وعدم استئصاله بالغرق .
قوله : { وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كالجبال } هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دلّ عليها الأمر بالركوب ، والتقدير : فركبوا مسمين ، وهي تجرى بهم ، والموج : جمع موجة ، وهي : ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح ، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض . قوله : { ونادى نُوحٌ ابنه } هو : كنعان ، قيل : وكان كافراً ، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافراً مع قوله : { رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، وأجيب بأنه كان منافقاً ، فظن نوح أنه مؤمن . وقيل : حملته شفقة الأبوّة على ذلك . وقيل : إنه كان ابن امرأته ، ولم يكن بابنه ، ويؤيده ما روي أن علياً قرأ « ونادى نوح ابنها » .

وقيل : إنه كان لغير رشدة ، وولد على فراش نوح . وردّ بأن قوله : { ونادى نُوحٌ ابنه } ، وقوله : { إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوّة { وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ } أي : في مكان عزل فيه نفسه عن قومه ، وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح : اركبوا فيها ، وقيل : في معزل من دين أبيه ، وقيل : من السفينة . قيل : وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق ، بل كان في أوّل فور التنور .
قوله : { مَعْزِلٍ يابنى اركب مَّعَنَا } قرأ عاصم بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، فأما الكسر فلجعله بدلاً من ياء الإضافة ، لأن الأصل يا بنيّ ، وأما الفتح فلقلب ياء الإضافة ألفاً لخفة الألف ، ثم حذف الألف وبقيت الفتحة لتدلّ عليه . قال النحاس : وقراءة عاصم مشكلة . وقال أبو حاتم : أصله يا بنياه ثم تحذف ، وقد جعل الزجاج للفتح وجهين ، وللكسر وجهين . أما الفتح بالوجه الأوّل ما ذكرناه ، والوجه الثاني : أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين . وأما الكسر ، فالوجه الأوّل ما ذكرناه ، والثاني : أن تحذف لالتقاء الساكنين ، كذا حكى عنه النحاس . وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وحفص { اركب مَّعَنَا } بادغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج . وقرأ الباقون بعدم الإدغام { وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين } نهاه عن الكون مع الكافرين : أي خارج السفينة ، ويمكن أن يراد بالكون معهم الكون على دينهم .
ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه ، فقال : { قَالَ سَآوِى إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء } أي : يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إليّ ، فأجاب عنه نوح بقوله : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } أي : لا مانع ، فإنه يوم قد حقّ فيه العذاب وجفّ القلم بما هو كائن فيه ، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجاً أوّلياً ، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه تفخيماً لشأنه ، وتهويلاً لأمره . والاستثناء قال الزجاج : هو منقطع : أي : لكن من رحمه الله فهو يعصمه ، فيكون : { مَن رَّحِمَ } في موضع نصب ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً على أن يكون عاصم بمعنى معصوم : أي : لا معصوم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله : مثل : { مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] { عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] ومنه قول الشاعر :
دع المكارم لا تنهض لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أي : المطعم المكسوّ ، واختار هذا الوجه ابن جرير؛ وقيل : العاصم بمعنى ذي العصمة ، كلابن وتامر ، والتقدير : لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله ، وهو السفينة ، وحينئذ فلا يرد ما يقال : إن معنى من رحم من رحمه الله ، ومن رحمه الله هو معصوم ، فكيف يصحّ استثناؤه عن العاصم؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعاً للإشكال .

وقرىء « إلا من رحم » على البناء للمفعول { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج } أي : حال بين نوح وابنه فتعذر خلاصه من الغرق . وقيل : بين ابن نوح ، وبين الجبل ، والأوّل : أولى ، لأن تفرّع { فَكَانَ مِنَ المغرقين } عليه يدل على الأوّل لا على الثاني ، لأن الجبل ليس بعاصم .
قوله : { وَقِيلَ ياأرض ابلعى مَاءكِ } يقال : بلع الماء يبلعه مثل منع يمنع ، وبلع يبلع ، مثل حمد يحمد لغتان حكاهما الكسائي والفراء : والبلع : الشرب ، ومنه البالوعة ، وهي : الموضع الذي يشرب الماء ، والازدراد ، يقال : بلع ما في فمه من الطعام إذا ازدرده ، واستعير البلع الذي هو من فعل الحيوان للنشف دلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد الكائن على سبيل التدريج { وياسماء أَقْلِعِى } الإقلاع : الإمساك ، يقال : أقلع المطر : إذا انقطع . والمعنى : أمر السماء بامساك الماء عن الإرسال ، وقدّم نداء الأرض على السماء لكون ابتداء الطوفان منها { وَغِيضَ الماء } أي : نقص ، يقال : غاض الماء وغضته أنا { وَقُضِىَ الأمر } أي : أحكم وفرغ منه : يعني : أهلك الله قوم نوح على تمام وإحكام { واستوت عَلَى الجودى } أي : استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجودي ، وهو جبل بقرب الموصل؛ وقيل : إن الجودي : اسم لكل جبل ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل :
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ... وقبلنا سبح الجوديّ والجمد
ويقال : إنه من جبال الجنة ، فلذا استوت عليه { وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين } القائل : هو الله سبحانه ، ليناسب صدر الآية . وقيل : هو نوح وأصحابه . والمعنى : وقيل هلاكاً للقوم الظالمين ، وهو من الكلمات التي تختص بدعاء السوء ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك ، وللإيماء إلى قوله : { وَلاَ تخاطبنى فِى الذين ظَلَمُواْ } . وقد أطبق علماء البلاغة على أن هذه الآية الشريفة بالغة من الفصاحة والبلاغة إلى محل يتقاصر عنه الوصف ، وتضعف عن الإتيان بما يقاربه قدرة القادرين على فنون البلاغة ، الثابتين الأقدام في علم البيان ، الراسخين في علم اللغة ، المطلعين على ما هو مدوّن من خطب مصاقع خطباء العرب ، وأشعار بواقع شعرائهم ، المرتاضين بدقائق علوم العربية وأسرارها . وقد تعرّض لبيان بعض ما اشتملت عليه من ذلك جماعة منهم ، فأطالوا وأطابوا ، رحمنا الله وإياهم برحمته الواسعة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { فَعَلَىَّ إِجْرَامِى } قال عملي { وَأَنَاْ بَرِىء مّمَّا تُجْرَمُونَ } أي : مما تعملون . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ } وذلك حين دعا عليهم نوح قال : « لا تَذَكَّرَ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً » [ نوح : 26 ] . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، قال : إن نوحاً لم يدع على قومه حتى نزلت الآية هذه ، فانقطع عند ذلك رجاؤه منهم ، فدعا عليهم .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَلاَ تَبْتَئِسْ } قال : فلا تحزن .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي ، عنه ، في قوله : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } قال : بعين الله ووحيه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، أيضاً قال : لم يعلم نوح كيف يصنع الفلك ، فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم ، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعل يعملها سفينة ، ويمرّون فيسألونه ، فيقول : أعملها سفينة ، فيسخرون منه ، ويقولون : يعمل سفينة في البرّ ، وكيف تجري؟ قال : سوف تعلمون ، فلما فرغ منها وفار التنور ، وكثر الماء في السكك خشيته أمّ الصبي عليه ، وكانت تحبه حباً شديداً ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبته رفعته بين يديها حتى ذهب بها الماء ، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أمّ الصبيّ » وقد ضعفه الذهبي في مستدركه على مستدرك الحاكم . وقد روي في صفة السفينة وقدرها أحاديث ، وآثار ليس في ذكرها هنا كثير فائدة .
وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } قال : هو : الغرق { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } قال : هو الخلود في النار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، عنه ، قال : كان بين دعوة نوح وبين هلاك قومه ثلثمائة سنة ، وكان فار التنور بالهند ، وطافت سفينة نوح بالبيت أسبوعاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه أيضاً قال : التنور : العين التي بالجزيرة عين الوردة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة . وقد روي عنه نحو هذا من طرق . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال : التنور : وجه الأرض ، قيل له : إذا رأيت الماء على وجه الأرض ، فاركب أنت ومن معك . والعرب تسمى وجه الأرض تنور الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عليّ { وَفَارَ التنور } قال : طلع الفجر ، قيل له : إذا طلع الفجر فاركب أنت وأصحابك . وقد روي في تفسير التنور غير هذا ، وقد قدّمنا الإشارة إلى ذلك . وروي في صفة القصة ، وما حمله نوح في السفينة ، وكيف كان الغرق ، وكم بقيت السفينة على ظهر الماء روايات كثيرة ، لا مدخل لها في تفسير كلام الله سبحانه .

وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، في قوله : { بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا } قال حين يركبون ويجرون ويرسون . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك قال : كان إذا أراد أن ترسي قال : بسم الله ، فأرست ، وإذا أراد أن تجري قال : بسم الله ، فجرت . وأخرج أبو يعلى ، والطبراني ، وابن السني ، وابن عديّ ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن الحسن بن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا : بسم الله الملك الرحمن ، بسم الله مجراها ومرساها ، إن ربي لغفور رحيم ، { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر الآية [ الزمر : 67 ] » وأخرجه ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، عن النبيّ . وأخرجه أيضاً أبو الشيخ ، عنه ، مرفوعاً من طريق أخرى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال : كان اسم ابن نوح الذي غرق كنعان . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس قال : هو ابنه غير أنه خالفه في النية والعمل .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة ، في قوله : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إلا مَن رَّحِمَ } قال : لا ناج إلا أهل السفينة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن القاسم بن أبي برّة ، في قوله : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج } قال : بين ابن نوح والجبل . وأخرج ابن المنذر ، وعن عكرمة في قوله : { ياأرض ابلعى } قال : هو بالحبشية . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن وهب بن منبه ، في { ابلعي } قال بالحبشية : أي ازدرديه . وأخرج أبو الشيخ ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه قال : معناه : اشربي ، بلغة الهند . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس مثله . أقول : وثبوت لفظ البلع وما يشتق منه في لغة العرب : ظاهر مكشوف ، فما لنا وللحبشة والهند .

وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

معنى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ } دعاه ، والمراد : أراد دعاءه ، بدليل الفاء في : { فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } وعطف الشيء على نفسه غير سائغ ، فلا بدّ من التقدير المذكور ، ومعنى قوله : { إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى } أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك : وأهلك . فإن قيل : كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله : { وَأَهْلَكَ } وهو المستثنى منه ، وترك ما يفيده الاستثناء ، وهو : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } ؟ فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول ، فإنه كان يظنه من المؤمنين { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } الذي لا خلف فيه ، وهذا منه { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } أي : أتقن المتقنين لما يكون به الحكم ، فلا يتطرق إلى حكمك نقض ، وقيل : أراد ب { أحكم الحاكمين } أعلمهم وأعدلهم : أي : أنت أكثر علماً وعدلاً من ذوي الحكم . وقيل : إن الحاكم بمعنى : ذي الحكمة كدارع .
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل ، وأنه خارج بقيد الاستثناء فقال : { يا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } الذين آمنوا بك ، وتابعوك ، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة؛ ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين ، لا قرابة النسب ، وحده ، فقال : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } قرأ الجمهور : { عمل } على لفظ المصدر . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة ، والكسائي ، ويعقوب ، { عمل } على لفظ الفعل؛ ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه ، كأنه جعل نفس العمل ، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل ، كذا قال الزجاج وغيره . ومعنى القراءة الثانية ظاهر : أي إنه عمل عملاً غير صالح ، وهو : كفره وتركه لمتابعة أبيه؛ ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ، فقال : { فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله ، فرّع على ذلك النهي عن السؤال ، وهو وإن كان نهياً عاماً بحيث يشمل كل سؤال ، لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب ، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولاً أوّلياً ، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع ، وسمى دعاءه سؤالاً لتضمنه معنى السؤال { إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } أي : أحذرك أن تكون من الجاهلين ، كقوله : { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } [ النور : 17 ] وقيل : المعنى : أرفعك أن تكون من الجاهلين . قال ابن العربي : وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحاً عن مقام الجاهلين ، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين .
ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع ، وأن دعاءه ناشىء عن وهم كان يتوهمه ، بادر إلى الاعتراف بالخطأ ، وطلب المغفرة والرحمة ، فقال : { رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } أي : أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه ، { وإلا تَغْفِرْ لِى } ذنب ما دعوت به على غير علم مني { وَتَرْحَمْنِى } برحمتك التي وسعت كل شيء ، فتقبل توبتي { أَكُن مّنَ الخاسرين } في أعمالي ، فلا أربح فيها .

القائل : هو الله ، أو الملائكة { قِيلَ يانوح اهبط } أي : انزل من السفينة إلى الأرض ، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض ، فقد بلعت الأرض ماءها ، وجفت { بسلام مّنَّا } أي : بسلامة وأمن ، وقيل : بتحية { وبركات } أي : نعم ثابتة ، مشتق من بروك الجمل ، وهو ثبوته ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها ، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته { وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ } أي : ناشئة ممن معك ، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة . وقيل : أراد من في السفينة ، فإنهم أمم مختلفة ، وأنواع من الحيوانات متباينة . قيل : أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمناً من ذريتهم ، وأراد بقوله : { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } من صار كافراً من ذريتهم إلى يوم القيامة ، وارتفاع أمم في قوله : { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي : ومنهم أمم . وقيل : على تقدير : ويكون أمم . وقال الأخفش : هو كما تقول : كلمت زيداً وعمرو جالس ، وأجاز الفراء في غير القراءة « وأمماً سنمتعهم » : أي : ونمتع أمماً ، ومعنى الآية : وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع ، ونعطيهم منها ما يعيشون به ، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم . وقيل : يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة .
والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى قصة نوح ، وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار { مِنْ أَنبَاء الغيب } من جنس أنباء الغيب ، والأنباء جمع نبأ وهو الخبر ، أي من أخبار الغيب التي مرّت بك في هذه السورة ، والضمير في { نُوحِيهَا إِلَيْكَ } راجع إلى القصة ، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة { مَا كُنتُ } يا محمد { تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ } يعلمها { قَوْمِكَ } بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي ، أو من قبل هذا الوقت { فاصبر } على ما تلاقيه من كفار زمانك ، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها { إِنَّ العاقبة } المحمودة في الدنيا والآخرة { لّلْمُتَّقِينَ } لله المؤمنين بما جاءت به رسله ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر ، ولا اعتبار بمباديه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، قال : نادى نوح ربه فقال : ربّ إن ابني من أهلي ، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي ، وإن ابني من أهلي .

وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن ابن عباس ، قال : ما بغت امرأة نبيّ قط . وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } يقول : ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، قال : إن نساء الأنبياء لا يزنين ، وكان يقرؤها { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح } يقول : مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } قال : بين الله لنوح أنه ليس بابنه .
وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في قوله : { يانوح اهبط بسلام مّنَّا } قال : أهبطوا والله عنهم راض . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة . ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك { وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ } يعني : ممن لم يولد ، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة { وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ } يعني : متاع الحياة الدنيا { ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة . وأخرج أبو الشيخ قال : ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ } يعني : العرب { مّن قَبْلِ هذا } القرآن .

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

قوله : { وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } معطوف على { ولقد وأرسلنا نوحاً } : أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم : أي : واحداً منهم ، وهوداً عطف بيان ، وقوم عاد كانوا عبدة أوثان ، وقد تقدّم مثل هذا في الأعراف . وقيل : هم عاد الأولى وعاد الأخرى ، فهؤلاء هم عاد الأولى ، وعاد الأخرى هم : شداد ولقمان وقومهما المذكورون في قوله : { إِرَمَ ذَاتِ العماد } [ الفجر : 7 ] ، وأصل عاد ، اسم رجل ، ثم صار اسماً للقبيلة كتميم وبكر ، ونحوهما { مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } قرىء « غيره » بالجرّ على اللفظ . وبالرفع على محل من إله ، وقرىء بالنصب على الاستثناء { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } أي : ما أنتم باتخاذ إله غير الله إلا كاذبون على الله عزّ وجلّ ، ثم خاطبهم فقال : { لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : لا أطلب منكم أجراً على ما أبلغه إليكم ، وأنصحكم به من الإرشاد إلى عبادة الله وحده ، وأنه لا إله لكم سواه ، فالضمير راجع إلى مضمون هذا الكلام . وقد تقدّم معنى هذا في قصة نوح { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى } أي : ما أجري الذي أطلب إلا من الذي فطرني : أي : خلقني فهو الذي يثيبني على ذلك { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن أجر الناصحين إنما هو من ربّ العالمين . قيل : إنما قال فيما تقدّم في قصة نوح : مالاً ، وهنا قال : أجراً لذكر الخزائن بعده في قصة نوح ، ولفظ المال بها أليق ، ثم أرشدهم إلى الاستغفار والتوبة . والمعنى : اطلبوا مغفرته لما سلف من ذنوبكم ، ثم توسلوا إليه بالتوبة . وقد تقدّم زيادة بيان لمثل هذا في قصة نوح ، ثم رغبهم في الإيمان بالخير العاجل ، فقال : { يُرْسِلِ السماء } أي : المطر { عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } أي : كثير الدرور ، وهو منصوب على الحال ، درّت السماء تدرّ ، وتدرّ ، فهي : مدرار ، وكان قوم هود أهل بساتين ، وزرع ، وعمارة ، وكانت مساكنهم الرمال التي بين الشام واليمن { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } معطوف على يرسل : أي : شدّة مضافة إلى شدّتكم ، أو خصباً إلى خصبكم ، أو عزّاً إلى عزّكم . قال الزجاج : المعنى يزدكم قوّة في النعم { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } أي : لا تعرضوا عما أدعوكم إليه ، وتقيموا على الكفر مصرّين عليه ، والإجرام : الآثام كما تقدّم .
ثم أجابه قومه بما يدلّ على فرط جهالتهم ، وعظيم غباوتهم ، فقالوا { ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ } أي : بحجة واضحة نعمل عليها ، ونؤمن لك بها غير معترفين بما جاءهم به من حجج الله وبراهينه ، عناداً وبعداً عن الحق { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا } التي نعبدها من دون الله ، ومعنى : { عَن قَوْلِكَ } صادرين عن قولك ، فالظرف في محل نصب على الحال { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : بمصدّقين في شيء مما جئت به { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء } أي : ما نقول إلا أنه أصابك بعض آلهتنا التي تعيبها ، وتسفه رأينا في عبادتها بسوء بجنون ، حتى نشأ عن جنونك ما تقوله لنا ، وتكرره علينا من التنفير عنها ، يقال عراه الأمر واعتراه : إذا ألمّ به ، فأجابهم بما يدلّ على عدم مبالاته بهم ، وعلى وثوقه بربه وتوكله عليه ، وأنهم لا يقدرون على شيء مما يريده الكفار به ، بل الله سبحانه هو الضارّ النافع فقَالَ { إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا } أنتم { إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ } به { مِن دُونِهِ } أي : من إشراككم من دون الله من غير أن ينزل به سلطاناً { فَكِيدُونِى جَمِيعًا } أنتم وآلهتكم إن كانت كما تزعمون من أنها تقدر على الإضرار بي ، وأنها اعترتني بسوء { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } أي : لا تمهلوني ، بل عاجلوني واصنعوا ما بدا لكم؛ وفي هذا من إظهار عدم المبالاة بهم وبأصنامهم التي يعبدونها ما يصكّ مسامعهم ، ويوضح عجزهم ، وعدم قدرتهم على شيء .

{ إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّى وَرَبّكُمْ } فهو : يعصمني من كيدكم ، وإن بلغتم في تطلب وجوه الإضرار بي كل مبلغ ، فمن توكل على الله كفاه . ثم لما بين لهم توكله على الله وثقته بحفظه وكلاءته ، وصفه بما يوجب التوكل عليه والتفويض إليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم ، وأنه مالك للجميع ، وأن ناصية كل دابة من دوابّ الأرض بيده ، وفي قبضته وتحت قهره ، وهو تمثيل لغاية التسخير ونهاية التذليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير وأرادوا إطلاقه ، والمنّ عليه جزوا ناصيته ، فجعلوا ذلك علامة لقهره . قال الفراء : معنى آخذ بناصيتها : مالكها والقادر عليها ، وقال القتيبي : قاهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته . والناصية : قصاص الشعر من مقدّم الرأس؛ ثم علل ما تقدّم بقوله : { إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي : هو على الحق والعدل ، فلا يكاد يسلطكم عليّ { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي : تتولوا فحذفت إحدى التاءين ، والمعنى : فإن تستمروا على الإعراض عن الإجابة والتصميم على ما أنتم عليه من الكفر { فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } ليس عليّ إلا ذلك ، وقد لزمتكم الحجة { وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ } جملة مستأنفة لتقرير الوعيد بالهلاك ، أي يستخلف في دياركم وأموالكم قوماً آخرين ، ويجوز أن يكون عطفاً على { فقد أبلغتكم } . وروى حفص عن عاصم أنه قرأ { ويستخلف } بالجزم حملاً على موضع فقد أبلغتكم { وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا } أي : بتوليكم ، ولا تقدرون على كثير من الضرر ولا حقير { إِنَّ رَبّى على كُلّ شَىْء حَفِيظٌ } أي رقيب مهيمن عليه يحفظه من كل شيء ، قيل : و « على » بمعنى اللام ، فيكون المعنى : لكل شيء حفيظ ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء .

{ وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا الذي هو إهلاك عاد { نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } من قومه { بِرَحْمَةٍ مّنَّا } أي : برحمة عظيمة كائنة منا؛ لأنه لا ينجو أحد إلا برحمة الله ، وقيل هي الإيمان { مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي : شديد ، قيل : وهو السموم التي كانت تدخل أنوفهم { وَتِلْكَ عَاد } مبتدأ وخبر ، وأنث الإشارة اعتباراً بالقبيلة . قال الكسائي : إن من العرب من لا يصرف عاد ويجعله أسماء للقبيلة { جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ } أي : كفروا بها ، وكذبوها وأنكروا المعجزات { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } أي : هوداً وحده؛ لأنه لم يكن في عصره رسول سواه ، وإنما جمع هنا؛ لأنّ من كذب رسولاً فقد كذب جميع الرسل . وقيل : إنهم عصوا هوداً ومن كان قبله من الرسل ، أو كانوا بحيث لو بعث الله إليهم رسلاً متعدّدين لكذبوهم { واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } الجبار : المتكبر ، والعنيد : الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يذعن له . قال أبو عبيدة : العنيد العنود والعاند والمعاند ، وهو المعارض بالخلاف منه ، ومنه قيل للعرق الذي يتفجر بالدم ، عاند . قال الراجز :
إني كبير لا أطيق العندا ... { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه الدنيا لَعْنَةً } أي : ألحقوها ، وهي : الإبعاد من الرحمة والطرد من الخير ، والمعنى : أنها لازمة لهم لا تفارقهم ما داموا في الدنيا وأتبعوها { يَوْمُ القيامة } فلعنوا هنالك كما لعنوا في الدنيا { أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } أي : بربهم . وقال الفراء : كفروا نعمة ربهم ، يقال : كفرته وكفرت به : مثل : شكرته وشكرت له { أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } أي : لا زالوا مبعدين من رحمة الله ، والبعد : الهلاك ، والبعد : التباعد من الخير ، يقال : بعد يبعد بعداً : إذا تأخر وتباعد ، وبعد يبعد بعداً : إذا هلك ، ومنه قول الشاعر :
لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
وقال النابغة :
فلا تبعدن إنّ المنية منهل ... وكل امرىء يوماً به الحال زائل
ومنه قول الشاعر :
ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت دون رجالهم لا تبعد
وقد تقدّم أن العرب تستعمله في الدعاء بالهلاك .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { إِلاَّ عَلَى الذى فَطَرَنِى } أي : خلقني . وأخرج ابن عساكر ، عن الضحاك ، قال : أمسك الله عن عاد القطر ثلاث سنين ، فقال لهم هود { استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مّدْرَاراً } فأبوا إلا تمادياً . وأخرج أبو الشيخ ، عن هارون التيمي ، في قوله : { يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } قال : المطر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } قال : شدّة إلى شدّتكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة ، في قوله : { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ } قال : ولد الولد .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء } قال : أصابتك بالجنون . وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن سعيد قال : ما من أحد يخاف لصاً عادياً ، أو سبعاً ضارياً ، أو شيطاناً مارداً فيتلو هذه الآية إلا صرفه الله عنه .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن مجاهد { إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ } قال : الحق . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك ، في قوله : { عَذَابٍ غَلِيظٍ } قال : شديد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } قال : المشرك . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، قال : العنيد المشاقّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه الدنيا لَعْنَةً } قال : لم يبعث نبيّ بعد عاد إلا لعنت على لسانه . وأخرج ابن المنذر ، عن قتادة ، في الآية قال : تتابعت عليهم لعنتان من الله : لعنة في الدنيا ، ولعنة في الآخرة .

وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)

قوله : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا } معطوف على ما تقدّم . والتقدير : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً ، والكلام فيه ، وفي قوله : { ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } كما تقدّم في قصة هود . وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب : «وإلى ثمود» بالتنوين في جميع المواضع . واختلف سائر القراء فيه ، فصرفوه في موضع ولم يصرفوه في موضع ، فالصرف باعتبار التأويل بالحيّ ، والمنع باعتبار التأويل بالقبيلة ، وهكذا سائر ما يصح فيه التأويلان ، وأنشد سيبويه في التأنيث باعتبار التأويل بالقبيلة :
غلب المساميح الوليد جماعة ... وكفى قريش المعضلات وسادها
{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } أي : ابتدأ خلقكم من الأرض ، لأن كل بني آدم من صلب آدم ، وهو مخلوق من الأرض { واستعمركم فِيهَا } أي : جعلكم عمارها وسكانها ، من قولهم أعمر فلان فلاناً داره ، فهي له عمرى ، فيكون استفعل بمعنى أفعل : مثل استجاب بمعنى أجاب . وقال الضحاك : معناه : أطال أعماركم ، وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف . وقيل : معناه أمركم بعمارتها من بناء المساكن وغرس الأشجار { فاستغفروه } أي : سلوه المغفرة لكم من عبادة الأصنام { ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } أي : ارجعوا إلى عبادته { إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } أي : قريب الإجابة لمن دعاه ، وقد تقدّم القول فيه في البقرة عند قوله تعالى : { فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداعى } [ البقرة : 186 ] { قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا } أي : كنا نرجو أن تكون فيناً سيداً مطاعاً ننتفع برأيك ، ونسعد بسيادتك قبل هذا الذي أظهرته من ادّعائك النبوّة ، ودعوتك إلى التوحيد . وقيل : كان صالح يعيب آلهتهم ، وكانوا يرجون رجوعه إلى دينهم ، فلما دعاهم إلى الله قالوا انقطع رجاؤنا منك ، والاستفهام في قوله : { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } للإنكار ، أنكروا عليه هذا النهي ، وأن نعبد في محل نصب بحذف الجار : أي بأن نعبد ، ومعنى ما يعبد آباؤنا : ما كان يعبد آباؤنا ، فهو حكاية حال ماضية لاستحضار الصورة { وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } من أربته ، فأنا أريبه : إذا فعلت به فعلاً يوجب له الريبة ، وهي : قلق النفس وانتفاء الطمأنينة ، أو من أراب الرجل : إذا كان ذا ريبة ، والمعنى : إننا لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده ، وترك عبادة الأوثان موقع في الريب .
{ قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } أي : حجة ظاهرة وبرهان صحيح { وَآتَانِي مِنْهُ } أي : من جهته { رَحْمَةً } أي : نبوّة ، وهذه الأمور وإن كانت متحققة الوقوع ، لكنها صدّرت بكلمة الشك اعتباراً بحال المخاطبين ، لأنهم في شك من ذلك ، كما وصفوه عن أنفسهم { فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله } استفهام معناه النفي : أي لا ناصر لي يمنعني من عذاب الله { إِنْ عَصَيْتُهُ } في تبليغ الرسالة ، وراقبتكم وفترت عما يجب عليّ من البلاغ { فَمَا تَزِيدُونَنِى } بتثبيطكم إياي { غَيْرَ تَخْسِيرٍ } بأن تجعلوني خاسراً بإبطال عملي ، والتعرّض لعقوبة الله لي .

قال الفراء : أي تضليل وإبعاد من الخير . وقيل : المعنى : فما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم .
قوله : { وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً } قد مرّ تفسير هذه الآية في الأعراف ، ومعنى { لكم آية } : معجزة ظاهرة ، وهي منتصبة على الحال ، ولكم في محل نصب على الحال من { آية } مقدّمة عليها ، ولو تأخرت لكانت صفة لها . وقيل : إن ناقة الله بدل من هذه ، والخبر لكم ، والأوّل : أولى ، وإنما قال : { ناقة الله } لأنه أخرجها لهم من جبل على حسب اقتراحهم . وقيل : من صخرة صماء { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله } أي : دعوها تأكل في أرض الله مما فيها من المراعي التي تأكلها الحيوانات . قال أبو إسحاق الزجاج : ويجوز رفع تأكل على الحال والاستئناف ، ولعله يعني في الأصل على ما تقتضيه لغة العرب لا في الآية ، فالمعتمد القراءات المروية على وجه الصحة { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء } قال الفراء : بعقر ، والظاهر أن النهي عما هو أعمّ من ذلك { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ } جواب النهي : أي قريب من عقرها . وذلك ثلاثة أيام { فَعَقَرُوهَا } أي : فلم يمتثلوا الأمر من صالح ولا النهي ، بل خالفوا كل ذلك فوقع منهم العقر لها { فَقَالَ } لهم صالح { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ } أي : تمتعوا بالعيش في منازلكم ثلاثة أيام ، فإن العقاب نازل عليكم بعدها .
قيل : إنهم عقروها يوم الأربعاء ، فأقاموا الخميس والجمعة والسبت ، وأتاهم العذاب يوم الأحد ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام { وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } أي : غير مكذوب فيه ، فحذف الجارّ اتساعاً ، أو من باب المجاز ، كأن الوعد إذا وفى به صدق ولم يكذب ، ويجوز أن يكون مصدراً : أي وعد غير كذب .
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : عذابنا ، أو أمرنا بوقوع العذاب { نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا } قد تقدّم تفسير هذا في قصة هود { وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ } أي : ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة ، والخزي : الذل والمهانة . وقيل : من عذاب يوم القيامة ، والأوّل : أولى . وقرأ نافع والكسائي بفتح « يوم » على أنه اكتسب البناء من المضاف إليه . وقرأ الباقون بالكسر { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى العزيز } القادر الغالب الذي لا يعجزه شيء { وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة } أي : في اليوم الرابع من عقر الناقة ، صيح بهم فماتوا ، وذكر الفعل لأن الصيحة والصياح واحد ، مع كون التأنيث غير حقيقي . قيل : صيحة جبريل ، وقيل : صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وماتوا ، وتقدّم في الأعراف

{ فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } [ الأعراف : 78 ] قيل : ولعلها وقعت عقب الصيحة { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين } أي : ساقطين على وجوههم موتى قد لصقوا بالتراب كالطير إذا جثمت { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي : كأنهم لم يقيموا في بلادهم أو ديارهم ، والجملة في محل نصب على الحال والتقدير : مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط { إِلا إن ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } وضع الظاهر موضع المضمر؛ لزيادة البيان ، وصرح بكفرهم مع كونه معلوماً تعليلاً للدعاء عليهم بقوله : { أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ } وقرأ الكسائي بالتنوين . وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف بما يحتاج إلى مراجعته ليضم ما في إحدى القصتين من الفوائد إلى الأخرى .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن السديّ { هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } قال : خلقكم من الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { واستعمركم فِيهَا } قال : أعمركم فيها . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد { واستعمركم فِيهَا } قال : استخلفكم فيها . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { فَمَا تَزِيدُونَنِى غَيْرَ تَخْسِيرٍ } يقول : ما تزدادون أنتم إلا خساراً . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عطاء الخراساني نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، في قوله : { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين } قال : ميتين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } قال : كأن لم يعيشوا فيها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، قال : كأن لم يعمروا فيها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال : كأن لم ينعموا فيها .

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

هذه قصة لوط عليه السلام وقومه ، وهو ابن عم إبراهيم عليه السلام ، وكانت قرى لوط بنواحي الشام ، وإبراهيم ببلاد فلسطين . فلما أنزل الله الملائكة بعذاب قوم لوط ، مرّوا بإبراهيم ونزلوا عنده ، وكان كل من نزل عنده يحسن قراه ، وكان مرورهم عليه لتبشيره بهذه البشارة المذكورة ، فظنهم أضيافاً ، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل . وقيل : كانوا تسعة . وقيل : أحد عشر ، والبشرى التي بشروه بها هي بشارته بالولد . وقيل : بإهلاك قوم لوط . والأولى : أولى . { قَالُواْ سَلاَماً } منصوب بفعل مقدر : أي سلمنا عليك سلاماً { قَالَ سلام } ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي أمركم سلام ، أو مرتفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف ، والتقدير : عليكم سلام { فَمَا لَبِثَ } أي : إبراهيم { أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } قال أكثر النحويين « أن » هنا بمعنى حتى أي : فما لبث حتى جاء . وقيل : إنها في محل نصب بسقوط حرف الجر ، والتقدير فما لبث عن أن جاء : أي ما أبطأ إبراهيم عن مجيئه بعجل ، و « ما » نافية قاله : سيبويه . وقال الفراء : فما لبث مجيئه ، أي ما أبطأ مجيئه . وقيل : إن « ما » موصولة وهي : مبتدأ والخبر { أن جاء بعجل حنيذ } . والتقدير : فالذي لبث إبراهيم هو مجيؤه بعجل حنيذ ، والحنيذ : المشويّ مطلقاً . وقيل : المشويّ بحرّ الحجارة من غير أن تمسه النار ، يقال : حنذ الشاة يحنذها : جعلها فوق حجارة محماة لتنضجها فهي : حنيذ . وقيل : معنى حنيذ : سمين . وقيل : الحنيذ : هو : السميط . وقيل : النضيج ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، وإنما جاءهم بعجل ، لأن البقر كانت أكثر أمواله { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } أي : لا يمدونها إلى العجل كما يمدّ يده من يريد الأكل { نَكِرَهُمْ } يقال : نكرته وأنكرته واستنكرته : إذا وجدته على غير ما تعهد ، ومنه قول الشاعر :
فأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فجمع بين اللغتين ، ومما جمع فيه بين اللغتين قول الشاعر :
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ... خرجت مع البازي عليّ سواد
وقيل : يقال : أنكرت لما تراه بعينك ، ونكرت لما تراه بقلبك ، قيل : وإنما استنكر منهم ذلك ، لأن عادتهم أن الضيف إذا نزل بهم ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه قد جاء بشرّ { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ } أي : أحسّ في نفسه منهم { خِيفَةً } أي : خوفاً وفزعاً . وقيل : معنى أوجس : أضمر في نفسه خيفة ، والأول ألصق بالمعنى اللغوي ، ومنه قول الشاعر :
جاء البريد بقرطاس يحث به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
وكأنه ظنّ أنهم قد نزلوا به لأمر ينكره ، أو لتعذيب قومه { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } قالوا له هذه المقالة مع كونه لم يتكلم بما يدل على الخوف ، بل أوجس ذلك في نفسه ، فلعلهم استدلوا على خوفه بأمارات كظهور أثره على وجهه ، أو قالوه له بعدما قال عقب ما أوجس في نفسه من الخيفة قولاً يدلّ على الخوف ، كما في قوله في سورة الحجر :

{ قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } [ الحجر : 52 ] ، ولم يذكر ذلك ها هنا اكتفاء بما هنالك ، ثم علّلوا نهيه عن الخوف بقولهم : { إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ } أي : أرسلنا إليهم خاصة ، ويمكن أن يكون إبراهيم عليه السلام قد قال قولاً يكون هذا جواباً عنه { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون * قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } [ الذاريات : 31 ، 32 ] . وجملة { وامرأته قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ } في محل نصب على الحال ، قيل : كانت قائمة عند تحاورهم وراء الستر . وقيل : كانت قائمة تخدم الملائكة وهو جالس . والضحك هنا هو الضحك المعروف الذي يكون للتعجب أو للسرور كما قاله الجمهور . وقال مجاهد وعكرمة : إنه الحيض ، ومنه قول الشاعر :
وإني لآتي العرس عند طهورها ... وأهجرها يوماً إذا تك ضاحكاً
وقال الآخر :
وضحك الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الخوف يوم اللقا
والعرب تقول ضحكت الأرانب : إذا حاضت . وقد أنكر بعض اللغويين أن يكون في كلام العرب ضحكت بمعنى حاضت . { فبشرناها بإسحاق } ظاهره أن التبشير كان بعد الضحك . وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير . والمعنى : فبشرناها فضحكت سروراً بالولد . وقرأ محمد بن زياد من قراء مكة « فضحكت » بفتح الحاء ، وأنكره المهدوي . { وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } قرأ حمزة ، وابن عامر ، وحفص بنصب { يعقوب } على أنه مفعول فعل دل عليه { فبشرناها } ، كأنه قال : ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب . وأجاز الكسائي ، والأخفش ، وأبو حاتم أن يكون { يعقوب } في موضع جرّ . وقال الفراء : لا يجوز الجرّ إلا بإعادة حرفه . قال سيبويه : ولو قلت : مررت بزيد أوّل من أمس ، وأمس عمر ، كان قبيحاً خبيثاً ، لأنك فرقت بين المجرور ، وما يشركه ، كما يفرق بين الجار والمجرور . وقرأ الباقون برفع « يعقوب » على أنه مبتدأ وخبره الظرف الذي قبله . وقيل : الرفع بتقدير فعل محذوف ، أي ويحدث لها ، أو وثبت لها . وقد وقع التبشير هنا لها ، ووقع لإبراهيم في قوله تعالى : { فبشرناه بغلام حَلِيمٍ } [ الصافات : 101 ] { وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ } [ الذاريات : 28 ] ، لأن كل واحد منهما مستحق للبشارة به لكونه منهما .
وجملة : { قَالَتْ ياويلتا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فماذا قالت؟ قال الزجاج : أصلها يا ويلتي ، فأبدل من الياء ألف لأنها أخفّ من الياء والكسرة ، وهي لم ترد الدعاء على نفسها بالويل ، ولكنها كلمة تقع كثيراً على أفواه النساء إذا طرأ عليهنّ ما يعجبن منه ، وأصل الويل : الخزي ، ثم شاع في كل أمر فظيع ، والاستفهام في قولها : { ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } للتعجب : أي : كيف ألد وأنا شيخة قد طعنت في السنّ ، يقال : عجزت تعجز مخففاً ومثقلاً عجزاً وتعجيزا : أي : طعنت في السنّ .

ويقال : عجوز وعجوزة ، وأما عجزت بكسر الجيم : فمعناه عظمت عجيزتها . قيل : كانت بنت تسع وتسعين ، وقيل : بنت تسعين { وهذا بَعْلِى شَيْخًا } أي : وهذا زوجي إبراهيم شيخاً لا تحبل من مثله النساء ، و { شيخاً } منتصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة . قال النحاس : وفي قراءة أبيّ وابن مسعود « شيخ » بالرفع على أنه خبر المبتدأ ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وعلى الأول يكون { بعلى } بدلاً من اسم الإشارة . قيل : كان إبراهيم ابن مائة وعشرين سنة . وقيل : ابن مائة ، وهذه المبشرة هي سارة امرأة إبراهيم . وقد كان ولد لإبراهيم من هاجر أمته إسماعيل ، فتمنت سارة أن يكون لها ابن ، وأيست منه لكبر سنها ، فبشرها الله به على لسان ملائكته { إِنَّ هذا لَشَىْء عَجِيبٌ } أي : ما ذكرته الملائكة من التبشير بحصول الولد ، مع كونها في هذه السنّ العالية التي لا يولد لمثلها شيء يقضي منه العجب .
وجملة { قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والاستفهام فيها للإنكار : أي كيف تعجبين من قضاء الله وقدره ، وهو لا يستحيل عليه شيء ، وإنما أنكروا عليها مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة لأنها من بيت النبوّة ، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه ، ولهذا قالوا : { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } أي : الرحمة التي وسعت كل شيء ، والبركات وهي : النموّ والزيادة . وقيل الرحمة : النبوّة ، والبركات : الأسباط من بني إسرائيل لما فيهم من الأنبياء ، وانتصاب { أهل البيت } على المدح أو الاختصاص ، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع لقصد التعميم { إِنَّهُ حَمِيدٌ } أي : يفعل موجبات حمده من عباده على سبيل الكثرة { مَّجِيدٌ } كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه عليهم من الخيرات ، والجملة تعليل لقوله : { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } . قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع } أي : الخيفة التي أوجسها في نفسه ، يقال ارتاع من كذا : إذا خاف ، ومنه قول النابغة :
فارتاع من صوت كلاب فبات له ... طوع الشوامت من خوف ومن حذر
{ وَجَاءتْهُ البشرى } أي : بالولد ، أو بقولهم : لا تخف ، قوله : { يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ } قال الأخفش والكسائي : إن { يجادلنا } في موضع جادلنا ، فيكون هو جواب { لما } . لما تقرّر من أن جوابها يكون بالماضي لا بالمستقبل . قال النحاس : جعل المستقبل مكانه كما يجعل الماضي مكان المستقبل في الشرط ، وقيل : إن الجواب محذوف ، و { يجادلنا } في موضع نصب على الحال ، قاله الفراء . وتقديره : فلما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى اجترأ على خطابنا حال كونه يجادلنا : أي يجادل رسلنا . وقيل : إن المعنى : أخذ يجادلنا ، ومجادلته لهم قيل : إنه سمع قولهم :

{ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذه القرية } [ العنكبوت : 31 ] قال : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا : لا ، قال : فأربعون؟ قالوا : لا ، قال : فعشرون؟ قالوا : لا ، ثم قال : فعشرة ، فخمسة؟ قالوا : لا . قال : فواحد؟ قالوا : لا { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ العنكبوت : 32 ] الآية ، فهذا معنى مجادلته في قوم لوط ، أي في شأنهم وأمرهم . ثم أثنوا على إبراهيم ، أو أثنى الله عليه فقال : { إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ } أي : ليس بعجول في الأمور ، ولا بموقع لها على غير ما ينبغي . والأوّاه : كثير التأوّه ، والمنيب : الراجع إلى الله . وقد تقدّم في براءة الكلام على الأوّاه .
قوله : { يإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا } هذا قول الملائكة له : أي أعرض عن هذا الجدال في أمر قد فرغ منه ، وجفّ به القلم ، وحقّ به القضاء { إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ } الضمير للشأن ، ومعنى مجيء أمر الله : مجيء عذابه الذي قدّره عليهم ، وسبق به قضاؤه { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } أي : لا يردّه دعاء ولا جدال ، بل هو واقع بهم لا محالة ، ونازل بهم على كل حال ، ليس بمصروف ولا مدفوع .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن عثمان بن محصن ، في ضيف إبراهيم قال : كانوا أربعة : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، ورافئيل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } قال : نضيج . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، قال : مشويّ . وأخرج أبو الشيخ ، عنه ، أيضاً قال : سميط . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك قال : الحنيذ : الذي أنضج بالحجارة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يزيد بن أبي يزيد البصري ، في قوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ } قال : لم ير لهم أيدياً فنكرهم ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { نَكِرَهُمْ } قال : كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير ، وأنه يحدّث نفسه بشرّ ، ثم حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه ، فضحكت امرأته . وأخرج ابن المنذر ، عن المغيرة قال : في مصحف ابن مسعود «وامرأته قائمة وهو جالس» .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد { وامرأته قَائِمَةٌ } قال : في خدمة أضياف إبراهيم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة قال : لما أوجس إبراهيم في نفسه خيفة حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه ، فضحكت امرأته تعجباً مما فيه قوم لوط من الغفلة ، ومما أتاهم من العذاب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { فَضَحِكَتْ } قال : فحاضت وهي : بنت ثمان وتسعين سنة . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، في قوله : { فَضَحِكَتْ } قال : حاضت ، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة ، وكان إبراهيم ابن مائة سنة .

وأخرج أبو الشيخ ، عن عكرمة قال : حاضت . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر مثله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في قوله : { وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } قال : هو ولد الولد . وأخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف والابتداء ، عن حسان بن أبجر قال : كنت عند ابن عباس ، فجاء رجل من هذيل ، فقال له ابن عباس : ما فعل فلان؟ قال : مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء ، فقال ابن عباس { فبشرناها بإسحاق وَمِن وَرَاء إسحاق يَعْقُوبَ } قال : ولد الولد . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب من طرق ، عن ابن عباس أنه كان ينهى عن أن يزاد في جواب التحية على قولهم : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، ويتلو هذه الآية { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت } . وأخرج البيهقي عن ابن عمر نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد ، في قوله : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع } قال : الفرق { يجادلنا فِى قَوْمِ لُوطٍ } قال : يخاصمنا . وأخرج عبد الرزاق ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في تفسير المجادلة قال : إنه قال لهم يومئذ : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا : إن كان فيهم خمسون لم نعذبهم ، قال : أربعون؟ قالوا : وأربعون . قال : ثلاثون؟ قالوا : وثلاثون ، حتى بلغوا عشرة ، قالوا : إن كان فيهم عشرة لم نعذبهم ، قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير؟ قال قتادة : إنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان ، أو ما شاء الله من ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : لما جاءت الملائكة إلى إبراهيم قالوا لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب . وأخرج أبو الشيخ ، عن عمر بن ميمون قال : الأوّاه : الرحيم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : المنيب ، المقبل إلى طاعة الله . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : المنيب المخلص .

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

لما خرجت الملائكة من عند إبراهيم ، وكان بين إبراهيم وقرية لوط أربعة فراسخ ، جاءوا إلى لوط . فلما رآهم لوط ، وكانوا في صورة غلمان حسان مرد ، { سِىء بِهِمْ } أي : ساءه مجيئهم ، يقال : ساءه يسوءه ، وأصل سيء بهم . سويء بهم ، نقلت حركة الواو إلى السين فقلبت الواو ياء ، ولما خففت الهمزة ألقيت حركتها على الياء . وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وأبو عمرو بإشمام السين الضم { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة ، وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه : أي يبسطها ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ، ضاق ذرعه عن ذلك ، فجعل ضيق الذرع كناية عن قلة الوسع والطاقة وشدّة الأمر . وقيل : هو من ذرعه القيء : إذا غلبه وضاق عن حبسه . والمعنى : أنه ضاق صدره لما رأى الملائكة في تلك الصورة خوفاً عليهم من قومه ، لما يعلم من فسقهم وارتكابهم لفاحشة اللواط { وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ } أي : شديد . قال الشاعر :
وإنك إن لم ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب
يقال عصيب وعصيصب وعصوصب على التكثير ، أي : يوم مكروه يجتمع فيه الشر ، ومنه قيل : عصبة وعصابة : أي مجتمعو الكلمة ، ورجل معصوب : أي مجتمع الخلق { وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي : جاءوا لوطاً . الجملة في محل نصب على الحال . ومعنى { يهرعون إليه } : يسرعون إليه . قال الكسائي ، والفراء ، وغيرهما من أهل اللغة : لا يكون الإهراع إلا إسراعاً مع رعدة ، يقال : أهرع الرجل إهراعاً : أي أسرع في رعدة من برد أو غضب أو حمى ، قال مهلهل :
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ... نهودهم على رغم الأنوف
وقيل : يهرعون : يهرولون . وقيل : هو مشي بين الهرولة والعدو ، والمعنى : أن قوم لوط لما بلغهم مجيء الملائكة في تلك الصورة أسرعوا إليه ، كأنما يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } أي : ومن قبل مجيء الرسل في هذا الوقت ، كانوا يعملون السيئات . وقيل : ومن قبل لوط كانوا يعملون السيئات ، أي : كانت عادتهم إتيان الرجال ، فلما جاءوا إلى لوط ، وقصدوا أضيافه لذلك العمل ، قام إليهم لوط مدافعاً { وَقَالَ ياقَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أي : تزوّجوهنّ ، ودعوا ما تطلبونه من الفاحشة بأضيافي ، وقد كان له ثلاث بنات . وقيل : اثنتان ، وكانوا يطلبون منه أن يزوجهم بهنّ ، فيمتنع لخبثهم ، وكان لهم سيدان مطاعان ، فأراد أن يزوجهما بنتيه . وقيل : أراد بقوله : { هؤلاءآء بَنَاتِى } النساء جملة ، لأن نبيّ القوم أب لهم ، وقالت طائفة : إنما كان هذا القول منه على طريق المدافعة ، ولم يرد الحقيقة . ومعنى : { هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } أي : أحلّ وأنزه .

والتطهر : التنزه عما لا يحلّ ، وليس في صيغة أطهر دلالة على التفضيل ، بل هي مثل «الله أكبر» . وقرأ الحسن ، وعيسى بن عمر بنصب " أطهر " ، وقرأ الباقون بالرفع؛ ووجه النصب أن يكون اسم الإشارة مبتدأ ، وخبره { بناتي } ، و { هنّ } ضمير فصل ، و { أطهر } حال . وقد منع الخليل ، وسيبويه ، والأخفش مثل هذا ، لأن ضمير الفصل الذي يسمى عماداً إنما يكون بين كلامين بحيث لا يتمّ الكلام إلا بما بعدها ، نحو كان زيد هو أخاك { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى } أي : اتقوا الله بترك ما تريدون من الفاحشة بهم ، ولا تذلوني وتجلبوا عليّ العار في ضيفي ، والضيف يطلق على الواحد والاثنين والجماعة ، لأنه في الأصل مصدر ، ومنه قول الشاعر :
لا تعدمي الدهر شفار الجازر ... للضيف والضيف أحق زائر
ويجوز فيه التثنية والجمع ، والأوّل : أكثر . يقال : خزي الرجل خزاية ، أي استحيا أو ذلّ أو هان ، وخزي خزياً : إذا افتضح ، ومعنى { في ضيفي } : في حق ضيفي ، فخزي الضيف : خزي للمضيف ، ثم وبخهم فقال : { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } يرشدكم إلى ترك هذا العمل القبيح ، ويمنعكم منه ، فأجابوا عليه معرضين عما نصحهم به ، وأرشدهم إليه ، بقوله : { مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ } أي : ما لنا فيهم من شهوة ولا حاجة ، لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق . ومعنى ما نسبوه إليه من العلم أنه قد علم منهم المكالبة على إتيان الذكور ، وشدّة الشهوة إليهم ، فهم من هذه الحيثية كأنهم لا حاجة لهم إلى النساء؛ ويمكن أن يريدوا : أنه لا حق لنا في نكاحهنّ؛ لأنه لا ينكحهنّ ويتزوج بهن إلا مؤمن ، ونحن لا نؤمن أبداً . وقيل : إنهم كانوا قد خطبوا بناته من قبل فردّهم ، وكان من سنتهم أن من خطب فردّ ، فلا تحل المخطوبة أبداً { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } من إتيان الذكور .
ثم إنه لما علم تصميمهم على الفاحشة ، وأنهم لا يتركون ما قد طلبوه { قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً } وجواب " لو " محذوف . والتقدير : لدافعتكم عنهم ومنعتكم منهم ، وهذا منه عليه السلام على طريق التمني : أي لو وجدت معيناً وناصراً ، فسمي ما يتقوّى به قوّة { أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } عطف على ما بعد " لو " لما فيه من معنى الفعل ، والتقدير : لو قويت على دفعكم ، أو آويت إلى ركن شديد . وقرىء «أو آوى» بالنصب عطفاً على قوّة كأنه قال : لو أن لي بكم قوّة ، أو إيواء إلى ركن شديد ، ومراده بالركن الشديد : العشيرة ، وما يمتنع به عنهم هو ومن معه . وقيل : أراد بالقوّة : الولد ، وبالركن الشديد : من ينصره من غير ولده . وقيل : أراد بالقوّة : قوته في نفسه . ولما سمعته الملائكة يقول هذه المقالة ، ووجدوا قومه قد غلبوه وعجز عن مدافعتهم { قَالُواْ يالُوطٍ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } أخبروه أوّلاً أنهم رسل ربه ، ثم بشّروه بقولهم : { لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } وهذه الجملة موضحة لما قبلها؛ لأنهم إذا كانوا مرسلين من عند الله إليه لم يصل عدوّه إليه ولم يقدروا عليه ، ثم أمروه أن يخرج عنهم ، فقالوا له : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل } قرأ نافع وابن كثير بالوصل ، وقرأ غيرهما بالقطع ، وهما لغتان فصيحتان .

قال الله تعالى : { واليل إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] وقال : { سُبْحَانَ الذى أسرى } [ الإسراء : 1 ] وقد جمع الشاعر بين اللغتين فقال :
حي النضير وربة الخدر ... أسرت عليه ولم تكن تسري
وقيل : إن أسرى للمسير من أول الليل ، وسرى للمسير من آخره ، والقطع من الليل : الطائفة منه . قال ابن الأعرابي : { بقطع من الليل } : بساعة منه . وقال الأخفش : بجنح من الليل . وقيل : بظلمة من الليل . وقيل : بعد هدوّ من الليل ، قيل : إن السرى لا يكون إلا في الليل ، فما وجه زيادة بقطع من الليل؟ قيل : لو لم يقل بقطع من الليل لجاز أن يكون في أوّله قبل اجتماع الظلمة ، وليس ذلك بمراد { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي : لا ينظر إلى ما وراءه ، أو يشتغل بما خلفه من مال أو غيره . قيل : وجه النهي عن الالتفات أن لا يروا عذاب قومهم ، وهول ما نزل بهم ، فيرحموهم ويرقوا لهم ، أو لئلا ينقطعوا عن السير المطلوب منهم بما يقع من الالتفات ، فإنه لا بدّ للملتفت من فترة في سيره { إِلاَّ امرأتك } بالنصب على قراءة الجمهور ، وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير بالرفع على البدل ، فعلى القراءة الأولى امرأته مستثناة من قوله : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } أي : أسر بأهلك جميعاً إلا امرأتك فلا تسر بها ، فإنه { مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } من العذاب ، وهو رميهم بالحجارة لكونها كانت كافرة . وأنكر قراءة الرفع جماعة منهم أبو عبيد وقال : لا يصح ذلك إلا برفع { يلتفت } ويكون نعتاً ، لأن المعنى يصير إذا أبدلت وجزمت أن المرأة أبيح لها الالتفات وليس المعنى كذلك . قال النحاس : وهذا العمل من أبي عبيد وغيره على مثل أبي عمرو مع جلالته ومحله من العربية لا يجب أن يكون ، والرفع على البدل له معنى صحيح ، وهو أن يكون استثناء من النهي عن الالتفات ، أي لا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك ، فإنها تلتفت وتهلك . وقيل : إن الرفع على البدل من { أحد } ، ويكون الالتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف ، فكأنه قال : ولا يتخلف منكم أحد إلا امرأتك ، فإنها تتخلف ، والملجىء إلى هذا التأويل البعيد الفرار من تناقض القراءتين ، والضمير في { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ } للشأن ، والجملة خبر إنّ { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح } هذه الجملة تقليل لما تقدّم من الأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات ، والمعنى : أن موعد عذابهم الصبح المسفر عن تلك الليلة ، والاستفهام في { أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } للإنكار التقريري ، والجملة تأكيد للتعليل .

وقرأ عيسى بن عمر « أليس الصبح » بضم الباء وهي لغة ، ولعلّ جعل الصبح ميقاتاً لهلاكهم لكون النفوس فيه أسكن ، والناس فيه مجتمعون لم يتفرّقوا إلى أعمالهم .
{ فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا } أي : الوقت المضروب لوقوع العذاب فيه ، أو المراد بالأمر : نفس العذاب { جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } أي : عالي قرى قوم لوط سافلها ، والمعنى : أنه قلبها على هذه الهيئة ، وهي كون عاليها صار سافلها ، وسافلها صار عاليها ، وذلك لأن جبريل أدخل جناحه تحتها فرفعها من تخوم الأرض حتى أدناها من السماء ثم قلبها عليهم { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } قيل : إنه يقال أمطرنا في العذاب ومطرنا في الرحمة . وقيل : هما لغتان ، يقال : مطرت السماء وأمطرت حكى ذلك الهروي . والسجيل : الطين المتحجر بطبخ أو غيره . وقيل : هو الشديد الصلب من الحجارة . وقيل : السجيل الكثير . وقيل : إن السجيل لفظة غير عربية ، أصله سج وجيل ، وهما بالفارسية حجر وطين عرّبتهما العرب فجعلتهما اسماً واحداً . وقيل : هو من لغة العرب . وذكر الهروي : أن السجيل اسم لسماء الدنيا . قال ابن عطية : وهذا ضعيف يردّه وصفه بمنضود . وقيل : هو بحر معلق في الهواء بين السماء والأرض . وقيل : هي جبال في السماء . وقال الزجاج : هو من التسجيل لهم ، أي ما كتب لهم من العذاب فهو في معنى سجين ، ومنه قوله تعالى : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ } [ المطففين : 8 ، 9 ] وقيل : هو من أسجلته : إذا أعطيته ، فكأنه عذاب أعطوه ، ومنه قول الشاعر :
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ومعنى : { مَّنْضُودٍ } : أنه نضد بعضه فوق بعض . وقيل : بعضه في أثر بعض ، يقال : نضدت المتاع : إذا جعلت بعضه على بعض ، فهو منضود ونضيد ، والمسوّمة : المعلمة ، أي التي لها علامة : قيل كان عليها أمثال الخواتيم . وقيل : مكتوب على كل حجر اسم من رمى به . وقال الفراء : زعموا أنها كانت مخططة بحمرة وسواد في بياض . فذلك تسويمها ، ومعنى : { عِندَ رَبّكَ } في خزائنه { وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } أي : وما هذه الحجارة الموصوفة من الظالمين وهم قوم لوط ببعيد ، أو ما هي من كل ظالم من الظلمة ومنهم كفار قريش ومن عاضدهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ببعيد ، فهم لظلمهم مستحقون لها . وقيل : { وَمَا هِىَ } أي : قرى { مِنَ الظالمين } من كفر بالنبيّ صلى الله عليه وسلم { بِبَعِيدٍ } فإنها بين الشام والمدينة . وفي إمطار الحجارة قولان : أحدهما : أنها أمطرت على المدن حين رفعها جبريل . والثاني : أنها أمطرت على من لم يكن في المدن من أهلها ، وكان خارجاً عنها .

وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر ، أو إجراء له على موصوف مذكر : أي شيء بعيد ، أو مكان بعيد ، أو لكونه مصدراً كالزفير والصهيل ، والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا } قال : ساء ظناً بقومه ، وضاق ذرعاً بأضيافه { وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ } يقول : شديد . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه ، في قوله : { يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } قال : يسرعون { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } قال : يأتون الرجال . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه ، أيضاً قال : { يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } يستمعون إليه . وأخرج أبو الشيخ ، عنه ، أيضاً في قوله : { هؤلاءآء بَنَاتِى } قال : ما عرض لوط بناته على قومه لا سفاحاً ولا نكاحاً ، إنما قال : هؤلاء نساؤكم ، لأن النبيّ إذا كان بين ظهراني قوم فهو أبوهم ، قال الله تعالى في القرآن : « وأزواجه أمهاتهم وهو أبوهم » في قراءة أبيّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، قال : لم تكن بناته ولكن كنّ من أمته ، وكل نبيّ أبو أمته . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن عساكر ، عن السديّ نحوه . قال : وفي قراءة عبد الله : « النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : عرض عليهم بناته تزويجاً ، وأراد أن يقي أضيافه بتزويج بناته . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، في قوله : { وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى } قال : لا تفضحوني . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } قال : رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } قال : واحد يقول لا إله إلا الله . وأخرج أبو الشيخ ، عن عكرمة مثله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السديّ { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } قال : إنما نريد الرجال { قَالَ } لوط { لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } يقول : إلى جند شديد لمقاتلتكم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، { أو آوى إلى ركن شديد } قال : عشيرة . وقد ثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يغفر الله للوط إن كان يأوي إلى ركن شديد » وهو مرويّ في غير الصحيح من طريق غيره من الصحابة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { بِقِطْعٍ مّنَ اليل } قال : جوف الليل .

وأخرجا عنه قال : بسواد الليل . وأخرج عبد الرزاق ، عن قتادة ، قال : بطائفة من الليل . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } قال : لا يتخلف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } قال : لا ينظر وراءه أحد { إِلاَّ امرأتك } . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، عن هارون قال : في حرف ابن مسعود : «فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك» .
وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد ، في قوله : { فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } قال : لما أصبحوا عدا جبريل على قريتهم ، فقلعها من أركانها ، ثم أدخل جناحه ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها ، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها ، فكان أوّل ما سقط منها سرادقها ، فلم يصب قوماً ما أصابهم ، ثم إن الله طمس على أعينهم ، ثم قلبت قريتهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل . وقد ذكر المفسرون روايات وقصصاً في كيفية هلاك قوم لوط طويلة متخالفة ، وليس في ذكرها فائدة لا سيما وبين من قال بشيء من ذلك ، وبين هلاك قوم لوط دهر طويل لا يتيسر له في مثله إسناد صحيح ، وغالب ذلك مأخوذ عن أهل الكتاب ، وحالهم في الرواية معروف . وقد أمرنا بأنا لا نصدّقهم ولا نكذبهم ، فاعرف هذا ، فهو الوجه في حذفنا لكثير من هذه الروايات الكائنة في قصص الأنبياء وقومهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } قال : يرهب بها قريش أن يصيبهم ما أصاب القوم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السديّ ، في الآية قال : من ظلمة العرب إن لم يؤمنوا فيعذبوا بها . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : من ظالمي هذه الأمة .

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

أي وأرسلنا إلى مدين ، وهم قوم شعيب ، أخاهم في النسب شعيباً . وسموا مدين باسم أبيهم ، وهو مدين ابن إبراهيم . وقيل : باسم مدينتهم . قال النحاس : لا ينصرف مدين لأنه اسم مدينة ، وقد تقدّم الكلام على هذا في الأعراف بأبسط مما هنا ، وقد تقدّم تفسير : { قَالَ يَاقَوْمٌ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ } في أوّل السورة ، وهذه الجملة مستأنفة؛ كأنه قيل : ماذا قال لهم شعيب لما أرسله الله إليهم؟ وقد كان شعيب عليه السلام يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته لقومه ، أمرّهم أوّلاً بعبادة الله سبحانه الذي هو الإله وحده لا شريك له ، ثم نهاهم عن أن ينقصوا المكيال والميزان ، لأنهم كانوا مع كفرهم أهل تطفيف ، كانوا إذا جاءهم البائع بالطعام أخذوا بكيل زائد ، وكذلك إذا وصل إليهم الموزون أخذوا بوزن زائد ، وإذا باعوا باعوا بكيل ناقص ووزن ناقص؛ وجملة { إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } تعليل للنهي : أي لا تنقصوا المكيال والميزان لأني أراكم بخير : أي بثروة وسعة في الرزق ، فلا تغيروا نعمة الله عليكم بمعصيته والإضرار بعباده ، ففي هذه النعمة ما يغنيكم عن أخذ أموال الناس بغير حقها ، ثم ذكر بعد هذه العلة علة أخرى ، فقال : { وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } فهذه العلة فيها الإذكار لهم بعذاب الآخرة كما أن العلة الأولى فيها الإذكار لهم بنعيم الدنيا؛ ووصف اليوم بالإحاطة والمراد العذاب ، لأن العذاب واقع في اليوم؛ ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم ، أنه لا يشذ منهم أحد عنه ، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهرباً ، واليوم : هو يوم القيامة ، وقيل : هو يوم الانتقام منهم في الدنيا بالصيحة .
ثم أكد النهي عن نقص الكيل والوزن بقوله : { وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط } والإيفاء : هو الإتمام . والقسط : العدل ، وهو عدم الزيادة والنقص وإن كان الزيادة على الإيفاء فضل وخير ، ولكنها فوق ما يفيده اسم العدل ، والنهي عن النقص ، وإن كان يستلزم الإيفاء ففي تعاضد الدلالتين مبالغة بليغة وتأكيد حسن ، ثم زاد ذلك تأكيداً فقال : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ } قد مرّ تفسير هذا في الأعراف ، وفيه النهي عن البخس على العموم ، والأشياء أعمّ مما يكال ويوزن ، فيدخل البخس بتطفيف الكيل والوزن في هذا دخولاً أوّلياً . وقيل : البخس : المكس خاصة ، ثم قال : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الأرض مُفْسِدِينَ } قد مرّ أيضاً تفسيره في البقرة ، والعثي في الأرض يشمل كل ما يقع فيها من الإضرار بالناس ، فيدخل فيه ما في السياق من نقص المكيال والميزان ، وقيده بالحال وهو قوله : { مُفْسِدِينَ } ليخرج ما كان صورته من العثي في الأرض ، والمقصود به الإصلاح كما وقع من الخضر في السفينة { بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : ما يبقيه لكم من الحلال بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر خيراً وبركة مما تبقونه لأنفسكم من التطفيف والبخس ، والفساد في الأرض ، ذكر معناه ابن جرير وغيره من المفسرين .

وقال مجاهد : بقية الله : طاعته . وقال الربيع : وصيته . وقال الفراء : مراقبته ، وإنما قيد ذلك بقوله : { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } لأن ذلك إنما ينتفع به المؤمن لا الكافر ، أو المراد بالمؤمنين هنا : المصدّقون لشعيب { وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أحفظكم من الوقوع في المعاصي من التطفيف والبخس وغيرهما ، أو أحفظ عليكم أعمالكم ، وأحاسبكم بها وأجازيكم عليها .
وجملة : { قَالُواْ يَاشُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قالوا لشعيب؟ وقرىء " أصلاتك " بالإفراد ، و { أن نترك } في موضع نصب . وقال الكسائي : موضعها خفض على إضمار الباء ، ومرادهم بما يعبد آباؤهم ما كانوا يعبدون من الأوثان ، والاستفهام للإنكار عليه والاستهزاء به ، لأن الصلوات عندهم ليست من الخير الذي يقال لفاعله عند إرادة تليين قلبه وتذليل صعوبته كما يقال لمن كان كثير الصدقة إذا فعل ما لا يناسب الصواب : أصدقتك أمرتك بهذا . وقيل : المراد بالصلاة هنا : القراءة . وقيل : المراد بها : الدين ، وقيل : المراد بالصلوات : أتباعه ، ومنه المصلى الذي يتلو السابق؛ وهذا منهم جواب لشعيب عن أمره لهم بعبادة الله وحده ، وقولهم : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } جواب له عن أمرهم بإيفاء الكيل والوزن ، ونهيهم عن نقصهما ، وعن بخس الناس ، وعن العثي في الأرض ، وهذه الجملة معطوفة على «ما» في { ما يعبد آباؤنا } . والمعنى : أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا ، وتأمرك أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء ، من الأخذ والإعطاء ، والزيادة والنقص . وقرىء " تفعل ما تشاء " بالفوقية فيهما . قال النحاس : فتكون { أو } على هذه القراءة للعطف على أن الأولى ، والتقدير : أصلواتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء . وقرىء «نفعل» بالنون و " ما تشاء " بالفوقية ، ومعناه : أصلواتك تأمرك أن نفعل نحن في أموالنا ما تشاؤه أنت وندع ما نشاؤه نحن وما يجري به التراضي بيننا؛ ثم وصفوه بوصفين عظيمين فقالوا : { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } على طريقة التهكم به ، لأنهم يعتقدون أنه على خلافهما ، أو يريدون إنك لأنت الحليم الرشيد عند نفسك ، وفي اعتقادك ، ومعناهم : أن هذا الذي نهيتنا عنه وأمرتنا به يخالف ما تعتقده في نفسك من الحلم والرشد . وقيل : إنهم قالوا ذلك لا على طريقة الاستهزاء بل هو عندهم كذلك ، وأنكروا عليه الأمر والنهي منه لهم بما يخالف الحلم والرشد في اعتقادهم . وقد تقدّم تفسير الحلم والرشد .
وجملة : { قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّى } مستأنفة كالجمل التي قبلها .

والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة واضحة من عند ربي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه { وَرَزَقَنِى مِنْهُ } أي من فضله وخزائن ملكه { رِزْقًا حَسَنًا } أي : كثيراً واسعاً حلالاً طيباً ، وقد كان عليه السلام كثير المال . وقيل : أراد بالرزق : النبوّة . وقيل : الحكمة ، وقيل : العلم . وقيل : التوفيق ، وجواب الشرط محذوف يدلّ عليه سياق الكلام تقديره : أترك أمركم ونهيكم ، أو أتقولون في شأني ما تقولون مما تريدون به السخرية والاستهزاء { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } أي : وما أريد بنهيي لكم عن التطفيف والبخس أن أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه فأفعله دونكم ، يقال : خالفه إلى كذا إذا قصده وهو مولّ عنه ، وخالفته عن كذا في عكس ذلك { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح } أي : ما أريد بالأمر والنهي إلا الإصلاح لكم ، ودفع الفساد في دينكم ومعاملاتكم { مَا استطعت } ما بلغت إليه استطاعتي ، وتمكنت منه طاقتي { وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله } أي : ما صرت موفقاً هادياً نبياً مرشداً إلا بتأييد الله سبحانه ، وإقداري عليه ومنحي إياه { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري التي منها أمركم ونهيكم { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي : أرجع في كل ما نابني من الأمور ، وأفوّض جميع أموري إلى ما يختاره لي من قضائه وقدره ، وقيل : معناه : وإليه أرجع في الآخرة . وقيل : إن الإنابة : الدعاء . ومعناه : وله أدعوا .
قوله : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى } قال الزجاج : معناه لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب إياكم ، كما أصاب من كان قبلكم . وقيل : معناه : لا يحملنكم شقاقي ، والشقاق : العداوة ، ومنه قول الأخطل :
ألا من مبلغ عني رسولا ... فكيف وجدتم طعم الشقاق
و { أَن يُصِيبَكُمُ } في محل نصب على أنه مفعول ثان ليجرمنكم { مّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ } من الغرق { أَوْ قَوْمَ هُودٍ } من الريح { أَوْ قَوْمَ صالح } من الصيحة ، وقد تقدّم تفسير يجرمنكم وتفسير الشقاق { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } يحتمل أن يريد ليس مكانهم ببعيد من مكانكم ، أو ليس زمانهم ببعيد من زمانكم ، أو ليسوا ببعيد منكم في السبب الموجب لعقوبتهم ، وهو مطلق الكفر ، وأفرد لفظ { بَعِيدٍ } لمثل ما سبق في { وَمَا هِى مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } .
ثم بعد ترهيبهم بالعذاب أمرهم بالاستغفار والتوبة ، فقال : { واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ } وقد تقدّم تفسير الاستغفار مع ترتيب التوبة عليه في أوّل السورة ، وتقدّم تفسير الرحيم ، والمراد هنا : أنه عظيم الرحمة للتائبين ، والودود : المحبّ . قال في الصحاح : وددت الرجل أودّه ودّاً : إذا أحببته ، والودود المحب ، والودّ والوُدّ والوَدّ : المحبة ، والمعنى هنا : أنه يفعل بعباده ما يفعله من هو بليغ المودّة بمن يودّه من اللطف به ، وسوق الخير إليه ، ودفع الشرّ عنه .

وفي هذا تعليل لما قبله من الأمر بالاستغفار والتوبة .
جملة : { قَالُواْ ياشُعَيْبٌ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ } مستأنفة كالجمل السابقة ، والمعنى : أنك تأتينا بما لا عهد لنا به من الإخبار بالأمور الغيبية ، كالبعث والنشور ، ولا نفقه ذلك : أي نفهمه كما نفهم الأمور الحاضرة المشاهدة ، فيكون نفي الفقه على هذا حقيقة لا مجازاً . وقيل : قالوا ذلك إعراضاً عن سماعه ، واحتقار الكلام مع كونه مفهوماً لديهم معلوماً عندهم ، فلا يكون نفي الفقه حقيقة بل مجازاً ، يقال : فقه يفقه : إذا فهم فِقْها وفَقها ، وحكى الكسائي فقهانا ، ويقال : فقه فقهاً : إذا صار فقيهاً { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } أي : لا قوّة لك تقدر بها على أن تمنع نفسك منا ، وتتمكن بها من مخالفتنا . وقيل : المراد أنه ضعيف في بدنه ، قاله عليّ بن عيسى . وقيل : إنه كان مصاباً ببصره . قال النحاس : وحكى أهل اللغة أن حمير تقول للأعمى : ضعيف ، أي قد ضعف بذهاب بصره كما يقال له ضرير ، أي قد ضرّ بذهاب بصره . وقيل : الضعيف : المهين ، وهو قريب من القول الأوّل { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك } رهط الرجل : عشيرته الذين يستند إليهم ، ويتقوّى بهم ، ومنه الراهط لجحر اليربوع ، لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده ، والرهط يقع على الثلاثة إلى العشرة ، وإنما جعلوا رهطه مانعاً من إنزال الضرر به مع كونهم في قلة ، والكفار ألوف مؤلفة؛ لأنهم كانوا على دينهم ، فتركوه احتراماً لهم لا خوفاً منهم ، ثم أكدوا ما وصفوه به من الضعف بقولهم : { وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } حتى نكفّ عنك لأجل عزتك عندنا ، بل تركنا رجمك لعزة رهطك علينا ، ومعنى { لرجمناك } لقتلناك بالرجم ، وكانوا إذا قتلوا إنساناً رجموه بالحجارة وقيل : معنى { لرجمناك } لشتمناك ، ومنه قول الجعدي :
تراجمنا بمرّ القول حتى ... نصير كأننا فرسا رهان
ويطلق الرجم على اللعن ، ومنه الشيطان الرجيم ، وجملة : { قَالَ يَاقَوْمٌ أَرَهْطِى أَعَزُّ عَلَيْكُم مّنَ الله } مستأنفة ، وإنما قال : أعزّ عليكم من الله ، ولم يقل : أعزّ عليكم مني؛ لأن نفي العزّة عنه وإثباتها لقومه كما يدل عليه إيلاء الضمير حرف النفي استهانة به ، والاستهانة بأنبياء الله استهانة بالله عزّ وجلّ ، فقد تضمن كلامهم أن رهطه أعزّ عليه من الله ، فاستنكر ذلك عليهم ، وتعجب منه ، وألزمهم ما لا مخلص لهم عنه ، ولا مخرج لهم منه بصورة الاستفهام ، وفي هذا من قوّة المحاجة ووضوح المجادلة وإلقام الخصم الحجر ما لا يخفى ، ولأمر ما سمي شعيب خطيب الأنبياء ، والضمير في { واتخذتموه } راجع إلى الله سبحانه . والمعنى : واتخذتم الله عزّ وجلّ بسبب عدم اعتدادكم بنبيه الذي أرسله إليكم { وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً } أي : منبوذاً وراء الظهر لا تبالون به . وقيل : المعنى : واتخذتم أمر الله الذي أمرني بإبلاغه إليكم ، وهو ما جئتكم به وراء ظهوركم ، يقال : جعلت أمره بظهر : إذا قصرت فيه ، و { ظِهْرِيّاً } منسوب إلى الظهر ، والكسر لتغيير النسب { إِنَّ رَبّى بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم .

{ وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل سَوْفَ تَعْلَمُونَ } لما رأى إصرارهم على الكفر وتصميمهم على دين آبائهم ، وعدم تأثير الموعظة فيهم ، توعدهم بأن يعملوا على غاية تمكنهم ونهاية استطاعتهم ، يقال : مكن مكانة : إذا تمكن أبلغ تمكن ، وأخبرهم أنه عامل على حسب ما يمكنه ويقدّر الله له ، ثم بالغ في التهديد والوعيد بقوله : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : عاقبة ما أنتم فيه من عبادة غير الله والإضرار بعباده ، وقد تقدّم مثله في الأنعام { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } « من » في محل نصب ب { تعلمون } : أي : سوف تعلمون من هو الذي يأتيه العذاب المخزي الذي يتأثر عنه الذلّ والفضيحة والعار { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } معطوف على { من يأتيه } ؛ والمعنى : ستعلمون من هو المعذب ومن هو الكاذب؟ وفيه تعريض بكذبهم في قولهم : { لَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } . وقيل : إن « من » مبتدأ ، وما بعدها صلتها ، والخبر محذوف ، والتقدير : من هو كاذب فسيعلم كذبه ويذوق وبال أمره . قال الفراء : إنما جاء بهو في { مَنْ هُوَ كاذب } لأنهم لا يقولون من قائم ، إنما يقولون : من قام ، ومن يقوم ، ومن القائم ، فزادوا هو ليكون جملة تقوم مقام فعل ويفعل . قال النحاس : ويدل على خلاف هذا قول الشاعر :
من رسولي إلى الثريا فإني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب
{ وارتقبوا إِنّى مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي : انتظروا إني معكم منتظر لما يقضي به الله بيننا { وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } أي : لما جاء عذابنا ، أو أمرنا بعذابهم ، نجينا شعيباً وأتباعه الذين آمنوا به { بِرَحْمَةٍ مّنَّا } لهم بسبب إيمانهم ، أو برحمة منا لهم : وهي هدايتهم للإيمان { وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ } غيرهم بما أخذوا من أموالهم بغير وجه ، وظلموا أنفسهم بالتصميم على الكفر { الصيحة } التي صاح بهم جبرائيل حتى خرجت أرواحهم من أجسادهم ، وفي الأعراف { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة } [ الأعراف : 78 ] وكذا في العنكبوت . وقد قدّمنا أن الرجفة : الزلزلة ، وأنها تكون تابعة للصيحة لتموّج الهوى المفضي إليها { فَأَصْبَحُواْ فِى دِيَارِهِمْ جاثمين } أي : ميتين ، وقد تقدّم تفسيره وتفسير { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } قريباً ، وكذا تفسير { أَلاَ بُعْدًا لّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } وحكى الكسائي أن أبا عبد الرحمن السلمي قرأ « كما بعدت ثمود » بضم العين . قال المهدوي : من ضم العين من « بعدت » فهي لغة تستعمل في الخير والشرّ ، و « بعدت » بالكسر على قراءة الجمهور تستعمل في الشرّ خاصة ، وهي هنا بمعنى اللعنة .

وقد أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قال : رخص السعر { وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } قال : غلاء السعر ، وأخرج ابن جرير ، عنه { بَقِيَّتُ الله } قال : رزق الله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { بَقِيَّتُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ } يقول : حظكم من ربكم خير لكم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد قال : طاعة الله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الأعمش في قوله : { أصلواتك تَأْمُرُكَ } قال : أقراءتك . وأخرج ابن عساكر ، عن الأحنف : أن شعيباً كان أكثر الأنبياء صلاة . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في قوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } قال : نهاهم عن قطع هذه الدنانير والدراهم فقالوا : إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء ، إن شئنا قطعناها ، وإن شئنا أحرقناها ، وإن شئنا طرحناها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن محمد بن كعب نحوه . وأخرجا عن زيد بن أسلم نحوه أيضاً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن سعد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وعبد بن حميد ، عن سعيد بن المسيب ، نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } قال : يقولون إنك لست بحليم ولا رشيد . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة قال : استهزاء به .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك ، في قوله : { وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا } قال : الحلال . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ } قال : يقول لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركبه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } قال : إليه أرجع . وأخرج أبو نعيم في الحلية ، عن عليّ ، قال : «قلت : يا رسول ، الله أوصني ، قال : " قل الله ربي ثم استقم " ، قلت : ربي الله وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ، قال : " ليهنك العلم أبا الحسن ، لقد شربت العلم شرباً ونهلته نهلاً " وفي إسناده محمد بن يوسف الكديمي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِى } لا يحملنكم فراقي . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد ، قال : شقاقي عداوتي . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ قال : لا تحملنكم عداوتي . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة ، في قوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مّنكُم بِبَعِيدٍ } قال : إنما كانوا حديثي عهد قريب بعد نوح وثمود .
وأخرج أبو الشيخ ، وابن عساكر ، عن سعيد بن جبير { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } قال : كان أعمى ، وإنما عمي من بكائه من حبّ الله عزّ وجلّ .

وأخرج الواحدي ، وابن عساكر ، عن شدّاد بن أوس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بكى شعيب عليه السلام من حبّ الله حتى عمي » وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والخطيب ، وابن عساكر من طرق ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } قال : كان ضرير البصر . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي صالح ، مثله . وأخرج أبو الشيخ ، عن سفيان في قوله : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } قال : كان أعمى ، وكان يقال له خطيب الأنبياء . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، قال : معناه إنما أنت واحد . وأخرج أبو الشيخ ، عن عليّ بن أبي طالب ، أنه خطب فتلا هذه الآية في شعيب { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا } قال : كان مكفوفاً ، فنسبوه إلى الضعف { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لرجمناك } قال عليّ : فوالله الذي لا إله غيره ما هابوا جلال ربهم ما هابوا إلا العشيرة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد ، في قوله : { واتخذتموه وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً } قال : نبذتم أمره . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، قال في الآية : لا تخافونه . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : تهاونتم به .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

المراد بالآيات : التوراة ، والسلطان المبين : المعجزات . وقيل : المراد بالآيات : هي التسع المذكورة في غير هذا الموضع ، والسلطان المبين : العصا ، وهي وإن كانت من التسع لكنها لما كانت أبهرها أفردت بالذكر؛ وقيل : المراد بالآيات : ما يفيد الظنّ ، والسلطان المبين ما يفيد القطع بما جاء به موسى؛ وقيل : هما جميعاً عبارة عن شيء واحد : أي أرسلناه بما يجمع وصف كونه آية ، وكونه سلطاناً مبيناً؛ وقيل إن السلطان المبين : ما أورده موسى على فرعون في المحاورة بينهما { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِه } أي : أرسلناه بذلك إلى هؤلاء . وقد تقدّم أن الملأ أشراف القوم ، وإنما خصهم بالذكر دون سائر القوم ، لأنهم أتباع لهم في الإصدار والإيراد ، وخصّ هؤلاء الملأ دون فرعون بقوله : { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي : أمره لهم بالكفر ، لأن حال فرعون في الكفر أمر واضح ، إذ كفر قومه من الأشراف وغيرهم إنما هو مستند إلى كفره ، ويجوز أن يراد بأمر فرعون شأنه وطريقته ، فيعمّ الكفر وغيره { وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي : ليس فيه رشد قط ، بل هو : غيّ وضلال ، والرشيد بمعنى المرشد ، والإسناد مجازي ، أو بمعنى ذي رشد ، وفيه تعريض بأن الرشد في أمر موسى { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة } من قدمه بمعنى تقدّمه : أي يصير متقدّماً لهم يوم القيامة سابقاً لهم إلى عذاب النار ، كما كان يتقدّمهم في الدنيا { فَأَوْرَدَهُمُ النار } أي : إنه لا يزال متقدّماً لهم ، وهم يتبعونه حتى يوردهم النار ، وعبر بالماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه ، ثم ذمّ الورد الذي أوردهم إليه ، فقال : { وَبِئْسَ الورد المورود } لأن الوارد إلى الماء الذي يقول له الورد ، إنما يرده ليطفىء حرّ العطش ، ويذهب ظمأه ، والنار على ضدّ ذلك .
ثم ذمهم بعد ذمّ المكان الذي يردونه ، فقال : { وَأُتْبِعُواْ فِى هذه لَعْنَةً } أي : أتبع قوم فرعون مطلقاً ، أو الملأ خاصة ، أو هم وفرعون في هذه الدنيا لعنة عظيمة : أي طرداً وإبعاداً { وَيَوْمَ القيامة } أي : وأتبعوا لعنة يوم القيامة ، يلعنهم أهل المحشر جميعاً ، ثم إنه جعل اللعنة رفداً لهم على طريقة التهكم ، فقال : { بِئْسَ الرفد المرفود } . قال الكسائي وأبو عبيدة : رفدته أرفده رفداً : أمنته وأعطيته ، واسم العطية الرفد : أي بئس العطاء ، والإعانة ما أعطوهم إياه ، وأعانوهم به ، والمخصوص بالذمّ محذوف : أي رفدهم ، وهو : اللعنة التي أتبعوها في الدنيا والآخرة ، كأنها لعنة بعد لعنة تمدّ الأخرى الأولى وتؤبدها . وذكر الماوردي حكاية عن الأصمعي أن الرفد بالفتح : القدح ، وبالكسر : ما فيه من الشراب فكأنه ذمّ ما يستقونه في النار ، وهذا أنسب بالمقام . وقيل : إن الرفد : الزيادة : أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق ، وهو الزيادة قاله الكلبي .

والإشارة بقوله : { ذلك مِنْ أَنْبَاء القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } أي : ما قصه الله سبحانه في هذه السورة من أخبار الأمم السالفة ، وما فعلوه مع أنبيائهم ، أي هو مقصوص عليك خبر بعد خبر ، وقد تقدّم تحقيق معنى القصص ، والضمير في { منها } عائد إلى { القرى } : أي من القرى قائم ، ومنها حصيد ، والقائم : ما كان قائماً على عروشه ، والحصيد : ما لا أثر له . وقيل القائم : العامر ، والحصيد : الخراب . وقيل : القائم : القرى الخاوية على عروشها ، والحصيد : المستأصل بمعنى محصود ، شبه القرى بالزرع القائم على ساقه والمقطوع . قال الشاعر :
والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد
{ وَمَا ظلمناهم } بما فعلنا بهم من العذاب { ولكن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } بالكفر والمعاصي { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ ءالِهَتَهُمُ } أي : فما دفعت عنهم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله شيئاً من العذاب { لَّمَّا جَاء أَمْرُ رَبّكَ } أي : لما جاء عذابه { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } : الهلاك والخسران : أي ما زادتهم الأصنام التي يعبدونها إلا هلاكاً وخسراناً ، وقد كانوا يعتقدون أنها تعينهم على تحصيل المنافع { وكذلك أَخْذُ رَبّكَ } قرأ الجحدري وطلحة بن مصرف «أخذ» على أنه فعل . وقرأ غيرهما { أخذ } على المصدر { إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة } أي : أهلها وهم ظالمون { إِنَّ أَخْذَهُ } أي : عقوبته للكافرين { أَلِيمٌ شَدِيدٌ } أي : موجع غليظ { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } أي : في أخذ الله سبحانه لأهل القرى ، أو في القصص الذي قصه على رسوله لعبرة وموعظة { لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } لأنهم الذين يعتبرون بالعبر ، ويتعظون بالمواعظ ، والإشارة بقوله : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة أن يجمع فيه الناس للمحاسبة والمجازاة { وَذَلِكَ } أي : يوم القيامة { يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي : يشهده أهل المحشر ، أو مشهود فيه الخلائق ، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول { وَمَا نُؤَخّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي : وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء أجل معدود معلوم بالعدد ، قد عيّن الله سبحانه وقوع الجزاء بعده { يَوْمَ يَأْتِ } قرأ أهل المدينة وأبو عمرو ، والكسائي بإثبات الياء في الدرج ، حذفها في الوقف . وقرأ أبيّ ، وابن مسعود بإثباتها وصلاً ووقفاً . وقرأ الأعمش بحذفها فيهما ، ووجه حذف الياء مع الوقف ما قاله الكسائي : أن الفعل السالم يوقف عليه كالمجزوم فحذفت الياء كما تحذف الضمة . ووجه قراءة من قرأ بحذف الياء مع الوصل : أنهم رأوا رسم المصحف كذلك . وحكى الخليل وسيبويه أن العرب تقول : لا أدر ، فتحذف الياء وتجتزىء بالكسر ، وأنشد الفراء في حذف الياء :
كفاك كف ما تليق درهما ... جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما
قال الزجاج : والأجود في النحو إثبات الياء ، والمعنى : حين يأتي يوم القيامة { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ } أي : لا تتكلم حذفت إحدى التاءين تخفيفاً : أي لا تتكلم فيه نفس إلا بما أذن لها من الكلام .

وقيل : لا تكلم بحجة ولا شفاعة { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } سبحانه لها في التكلم بذلك ، وقد جمع بين هذا وبين قوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 ، 36 ] باختلاف أحوالهم باختلاف مواقف القيامة . وقد تكرّر مثل هذا الجمع في مواضع { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } أي : من الأنفس شقيّ ، ومنهم سعيد . فالشقيّ : من كتبت عليه الشقاوة ، والسعيد : من كتبت له السعادة ، وتقديم الشقيّ على السعيد لأن المقام مقام تحذير { فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } أي : فأما الذين سبقت لهم الشقاوة ، فمستقرّون في النار لهم فيها زفير وشهيق . قال الزجاج : الزفير من شدّة الأنين ، وهو المرتفع جداً . قال : وزعم أهل اللغة من البصريين والكوفيين : أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمير ، والشهيق : بمنزلة آخره . وقيل الزفير : الصوت الشديد ، والشهيق : الصوت الضعيف . وقيل الزفير : إخراج النفس ، والشهيق : ردّ النفس . وقيل : الزفير من الصدر ، والشهيق : من الحلق . وقيل الزفير : ترديد النفس من شدّة الخوف ، والشهيق : النفس الطويل الممتد ، والجملة إما مستأنفة كأنه قيل : ما حالهم فيها؟ أو في محل نصب على الحال { خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض } أي : مدّة دوامهما .
وقد اختلف العلماء في بيان معنى هذا التوقيت ، لأنه قد علم بالأدلة القطعية تأييد عذاب الكفار في النار ، وعدم انقطاعه عنهم ، وثبت أيضاً أن السموات والأرض تذهب عند انقضاء أيام الدنيا ، فقالت طائفة : إن هذا الإخبار جار على ما كانت العرب تعتاده إذا أرادوا المبالغة في دوام الشيء ، قالوا : هو دائم ما دامت السموات والأرض ، ومنه قولهم : لا آتيك ما جنّ ليل ، وما اختلف الليل والنهار ، وما ناح الحمام ونحو ذلك . فيكون معنى الآية : أنهم خالدون فيها أبداً لا انقطاع لذلك ولا انتهاء له . وقيل : إن المراد : سموات الآخرة وأرضها ، فقد ورد ما يدل على أن للآخرة سموات وأرضاً غير هذه الموجودة في الدنيا ، وهي دائمة بدوام دار الآخرة ، وأيضاً لا بدّ لهم من موضع يقلهم وآخر يظلهم ، وهما أرض وسماء .
قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قد اختلف أهل العلم في معنى هذا الاستثناء على أقوال : الأوّل : أنه من قوله : { فَفِى النار } كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك . روي هذا أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري . الثاني : أن الاستثناء إنما هو للعصاة من الموحدين ، وأنهم يخرجون بعد مدّة من النار ، وعلى هذا يكون قوله سبحانه : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } عاماً في الكفرة والعصاة ، ويكون الاستثناء من { خالدين } ، وتكون « ما » بمعنى من ، وبهذا قال قتادة ، والضحاك ، وأبو سنان ، وغيرهم .

وقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً يفيد العلم الضروري بأنه يخرج من النار أهل التوحيد ، فكان ذلك مخصصاً لكل عموم . الثالث : أن الاستثناء من الزفير والشهيق : أي لهم فيها زفير وشهيق { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } من أنواع العذاب غير الزفير والشهيق ، قاله ابن الأنباري . الرابع أن معنى الاستثناء : أنهم خالدون فيها ما دامت السموات والأرض ، لا يموتون إلا ما شاء ربك ، فإنه يأمر النار فتأكلهم حتى يفنوا ، ثم يجدّد الله خلقهم ، روي ذلك عن ابن مسعود . الخامس : أن { إلا } بمعنى سوى ، والمعنى : ما دامت السموات والأرض سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود ، كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له حكاه الزجاج . السادس : ما روي عن الفراء وابن الأنباري وابن قتيبة من أن هذا لا ينافي عدم المشيئة كقولك : والله لأضربنه إلا أن أرى غير ذلك ، ونوقش هذا بأن معنى الآية الحكم بخلودهم إلا لمدة التي شاء الله ، فالمشيئة قد حصلت جزماً؛ وقد حكي هذا القول الزجاج أيضاً . السابع : أن المعنى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من مقدار موقفهم في قبوركم وللحساب ، حكاه الزجاج أيضاً . الثامن : أن المعنى : خالدين فيها إلا ما شاء ربك من زيادة النعيم لأهل النعيم وزيادة العذاب لأهل الجحيم؛ حكاه أيضاً الزجاج ، واختاره الحكيم الترمذي . التاسع : أن { إلا } بمعنى الواو ، قاله الفراء؛ والمعنى : وما شاء ربك من الزيادة ، قال مكي : وهذا القول بعيد عند البصريين أن تكون إلا بمعنى الواو . العاشر : أن { إلا } بمعنى الكاف ، والتقدير : كما شاء ربك ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] أي : كما قد سلف . الحادي عشر : أن هذا الاستثناء إنما هو على سبيل الاستثناء الذي ندب إليه الشارع في كل كلام ، فهو على حدّ قوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَاء الله ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] روى نحو هذا عن أبي عبيد ، وهذه الأقوال هي جملة ما وقفنا عليه من أقوال أهل العلم . وقد نوقش بعضها بمناقشات ، ودفعت بدفوعات . وقد أوضحت ذلك في رسالة مستقلة جمعتها في جواب سؤال ورد من بعض الأعلام .
{ وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض } قرأ الأعمش ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي { سعدوا } بضم السين ، وقرأ الباقون بفتح السين ، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم . قال سيبويه : لا يقال : سعد فلان ، كما لا يقال : شقي فلان؛ لكونه مما لا يتعدى ، قال النحاس : ورأيت عليّ بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي بضم السين مع علمه بالعربية ، وهذا لحن لا يجوز ، ومعنى الآية كما مرّ في قوله : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قد عرف من الأقوال المتقدّمة ما يصلح لحمل هذا الاستثناء عليه { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أي : يعطيهم الله عطاء غير مجذوذ ، والمجذوذ : المقطوع ، من جذه يجذه إذا قطعه ، والمعنى : أنه ممتدّ إلى غير نهاية .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة } يقول : أضلهم فأوردهم النار . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في الآية قال : فرعون يمضي بين أيدي قومه حتى يهجم بهم على النار . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَأَوْرَدَهُمُ النار } قال : الورود : الدخول . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { بِئْسَ الرفد المرفود } قال : لعنة الدنيا والآخرة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه { مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } يعني : قرى عامرة وقرى خامدة . وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة : { منها قائم } يرى مكانه ، و { حصيد } لا يرى له أثر . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن جريج : { منها قائم } خاو على عروشه ، و { حصيد } ملصق بالأرض . وأخرج أبو الشيخ ، عن أبي عاصم { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ } قال : ما نفعت . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عمر ، في قوله : { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } أي : هلكة . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن زيد قال : تخسير . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة معناه . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله سبحانه وتعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ : { وكذلك أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِىَ ظالمة إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد ، في قوله : { إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة } يقول : إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة كما وفينا للأنبياء أنا ننصرهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وذلك يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } قال : يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، مثله . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { يَوْمَ يَأْتِ } قال : ذلك اليوم . وأخرج الترمذي وحسنه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن عمر بن الخطاب ، قال : لما نزلت { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } قلت : يا رسول الله ، فعلام نعمل ، على شيء قد فرغ منه ، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال : « بل على شيء قد فرغ منه ، وجرت به الأقلام يا عمر ، ولكن كلّ ميسر لما خلق له » وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : هاتان من المخبآت ، قول الله : { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } و

{ يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا } [ المائدة : 109 ] أما قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } فهم قوم من أهل الكتاب من أهل هذه القبلة يعذبهم الله بالنار ما شاء بذنوبهم ، ثم يأذن في الشفاعة لهم ، فيشفع لهم المؤمنون فيخرجهم من النار فيدخلهم الجنة ، فسماهم أشقياء حين عذبهم في النار { فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِى النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } حين أذن في الشفاعة لهم ، وأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة وهم هم { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ } يعني بعد الشقاء الذي كانوا فيه { فَفِى الجنة خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } يعني : الذين كانوا في النار .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن قتادة أنه تلا هذه الآية : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } فقال : حدّثنا أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يخرج قوم من النار ولا نقول كما قال أهل حروراء : إن من دخلها بقي فيها » وأخرج ابن مردويه ، عن جابر ، قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } إلى قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن شاء الله أن يخرج أناساً من الذين شقوا من النار فيدخلهم الجنة فعل » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن خالد بن معدان في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قال : إنها في التوحيد من أهل القبلة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن الضريس ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن أبي نضرة ، عن جابر بن عبد الله ، أو عن أبي سعيد الخدري ، أو رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قال : هذه الآية قاضية على القرآن كله ، يقول حيث كان في القرآن خالدين فيها تأتي عليه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن أبي نضرة ، قال : ينتهي القرآن كله إلى هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { مَا دَامَتِ السموات والأرض } قال : لكل جنة سماء وأرض . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن السديّ ، نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، نحوه أيضاً . وأخرج البيهقي في البعث والنشور ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قال : فقد شاء ربك أن يخلد هؤلاء في النار ، وأن يخلد هؤلاء في الجنة .

وأخرج ابن جرير ، عنه ، في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قال : استثنى الله من النار أن تأكلهم . وأخرج أبو الشيخ ، عن السديّ ، في الآية قال : فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها ، فأنزل بالمدينة : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } [ النساء : 168 ] إلى آخر الآية ، فذهب الرجاء لأهل النار أن يخرجوا منها ، وأوجب لهم خلود الأبد . وقوله : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ } الآية . قال : فجاء بعد ذلك من مشيئة الله ما نسخها ، فأنزل بالمدينة : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جنات } إلى قوله : { ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] فأوجب لهم خلود الأبد .
وأخرج ابن المنذر ، عن الحسن ، قال : قال عمر : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه . وأخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال : سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد ، وقرأ { فَأَمَّا الذين شَقُواْ } الآية . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن إبراهيم ، قال : ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية { خالدين فِيهَا مَا دَامَتِ السموات والأرض إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قال : وقال ابن مسعود : ليأتينّ عليها زمان تخفق أبوابها . وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمراناً وأسرعهما خراباً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : { إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ } قال : الله أعلم بتثنيته على ما وقعت . وقد روي عن جماعة من السلف مثل ما ذكره عمر ، وأبو هريرة ، وابن مسعود ، كابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وجابر ، وأبي سعيد من الصحابة ، وعن أبي مجلز وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهما من التابعين . وورد في ذلك حديث في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ، وإسناده ضعيف . ولقد تكلم صاحب الكشاف في هذا الموضع بما كان له في تركه سعة ، وفي السكوت عنه غنى ، فقال : ولا يخدعنك قول المجبرة إن المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار ، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم ، وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله لما روي لهم بعض الثوابت عن ابن عمرو : ليأتينّ على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد . ثم قال : وأقول : ما كان لابن عمرو في سيفيه ومقاتلته بهما عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ما يشغله عن تسيير هذا الحديث . انتهى .
وأقول : أما الطعن على من قال بخروج أهل الكبائر من النار ، فالقائل بذلك يا مسكين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما صح عنه في دواوين الإسلام التي هي دفاتر السنة المطهرة ، وكما صحّ عنه في غيرها من طريق جماعة من الصحابة يبلغون عدد التواتر؛ فمالك والطعن على قوم عرفوا ما جهلته ، وعملوا بما أنت عنه في مسافة بعيدة ، وأيّ مانع من حمل الاستثناء على هذا الذي جاءت به الأدلة الصحيحة الكثيرة ، كما ذهب إلى ذلك وقال به جمهور العلماء من السلف والخلف .

وأما ما ظننته من أن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ، ويسجل بافترائهم ، فلا مناداة ولا مخالفة ، وأيّ : مانع من حمل الاستثناء في الموضعين على العصاة من هذه الأمة ، فالاستثناء الأوّل : يحمل على معنى { إلا ما شاء ربك } من خروج العصاة من هذه الأمة من النار ، والاستثناء الثاني : يحمل على معنى { إلا ما شاء ربك } من عدم خلودهم في الجنة كما يخلد غيرهم ، وذلك لتأخر خلودهم إليها مقدار المدّة التي لبثوا فيها في النار . وقد قال بهذا من أهل العلم من قدّمنا ذكره ، وبه قال ابن عباس حبر الأمة . وأما الطعن على صاحب رسول الله ، وحافظ سنته ، وعابد الصحابة ، عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، فإلى أين يا محمود ، أتدري ما صنعت ، وفي أيّ واد وقعت ، وعلى أي جنب سقطت؟ ومن أنت حتى تصعد إلى هذا المكان ، وتتناول نجوم السماء بيديك القصيرة ، ورجلك العرجاء ، أما كان لك في مكسري طلبتك من أهل النحو واللغة ما يردك عن الدخول فيما لا تعرف ، والتكلم بما لا تدري ، فيالله العجب ما يفعل القصور في علم الرواية ، والبعد عن معرفتها إلى أبعد مكان من الفضيحة لمن لم يعرف قدر نفسه ، ولا أوقفها حيث أوقفها الله سبحانه .

فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)

لما فرغ الله سبحانه من أقاصيص الكفرة ، وبيان حال السعداء والأشقياء ، سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن النهي له عن الامتراء في أن ما يعبدونه غير نافع ولا ضار ، ولا تأثير له في شيء . وحذف النون في «لا تك» لكثرة الاستعمال ، والمرية : الشك . والإشارة بهؤلاء إلى كفار عصره صلى الله عليه وسلم . وقيل : المعنى : لا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء . وقيل : لا تك في شك من سوء عاقبتهم . ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني ، وهذا النهي له صلى الله عليه وسلم هو تعريض لغيره ممن يداخله شيء من الشك . فإنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك أبداً . ثم بيّن له سبحانه أن معبودات هؤلاء كمعبودات آبائهم ، أو أن عبادتهم كعبادة آبائهم من قبل ، وفي هذا استثناء تعليل للنهي عن الشك . والمعنى : أنهم سواء في الشرك بالله وعبادة غيره . فلا يكن في صدرك حرج مما تراه من قومك ، فهم كمن قبلهم من طوائف الشرك ، وجاء بالمضارع في { كما يعبد آباؤهم } لاستحضار الصورة . ثم بيّن له أنه مجازيهم بأعمالهم فقال : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ } من العذاب كما وفينا آباءهم ، لا ينقص من ذلك شيء ، وانتصاب غير الحال ، والتوفية لا تستلزم عدم النقص ، فقد يجوز أن يوفى وهو ناقص ، كما يجوز أن يوفى وهو كامل . وقيل : المراد نصيبهم من الرزق ، وقيل : ما هو أعمّ من الخير والشرّ .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب } أي : التوراة { فاختلف فِيهِ } أي : في شأنه وتفاصيل أحكامه ، فآمن به قوم ، وكفر به آخرون ، وعمل بأحكامه قوم ، وترك العمل ببعضها آخرون ، فلا يضق صدرك يا محمد بما وقع من هؤلاء في القرآن { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ } أي : لولا أن الله سبحانه قد حكم بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لما علم في ذلك من الصلاح لقضى بينهم : أي بين قومك ، أو بين قوم موسى فيما كانوا فيه مختلفين ، فأثيب المحقّ وعذب المبطل؛ أو الكلمة هي : أن رحمته سبحانه سبقت غضبه ، فأمهلهم ولم يعاجلهم لذلك . وقيل : إن الكلمة هي أنهم لا يعذبون بعذاب الاستئصال ، وهذا من جملة التسلية له صلى الله عليه وسلم ، ثم وصفهم بأنهم في شك من الكتاب فقال : { وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ } أي : من القرآن ، إن حمل على قوم محمد صلى الله عليه وسلم ، أو من التوراة ، إن حمل على قوم موسى عليه السلام ، والمريب : الموقع في الريبة .
ثم جمع الأوّلين والآخرين في حكم توفية العذاب لهم ، أو هو والثواب فقال : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر «وإن» بالتخفيف على أنها إن المخففة من الثقيلة وعملت في { كلا } النصب ، وقد جوّز عملها الخليل وسيبويه ، وقد جوّز البصريون تخفيف " إن " مع إعمالها ، وأنكر ذلك الكسائي وقال : ما أدري على أيّ شيء قرىء { وإن كلا } ؟ وزعم الفراء أن انتصاب { كلا } بقوله : { ليوفينهم } ، والتقدير : وإن ليوفينهم كلا ، وأنكر ذلك عليه جميع النحويين .

وقرأ الباقون بتشديد { إن } ونصبوا بها { كلا } . وعلى كلا القراءتين فالتنوين في { كلا } عوض عن المضاف إليه : أي وإن كل المختلفين . وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر { لما } بالتشديد ، وخففها الباقون . قال الزجاج : لام { لما } لام إن ، و " ما " زائدة مؤكدة ، وقال الفراء : " ما " بمعنى من كقوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ } [ النساء : 72 ] أي : وإن كلاً لمن ليوفينهم! وقيل : ليست بزائدة بل هي اسم دخلت عليها لام التوكيد ، والتقدير : وإن كلاً لمن خلق . قيل : وهي مركبة ، وأصلها لمن ما ، فقلبت النون ميماً واجتمعت ثلاث ميمات ، فحذفت الوسطى حكي ذلك النحاس عن النحويين . وزيف الزجاج هذا وقال : " من " اسم على حرفين فلا يجوز حذف النون . وذهب بعض النحويين إلى أن " لما " هذه بمعنى إلا ، ومنه قوله تعالى : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } [ الطارق : 4 ] وقال المازني : الأصل لما المخففة ثم ثقلت . قال الزجاج : وهذا خطأ ، إنما يخفف المثقل ولا يثقل المخفف . وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : يجوز أن يكون التشديد من قولهم : لممت الشيء ألمه : إذا جمعته ، ثم بنى منه فعلى كما قرىء : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى } [ المؤمنون : 44 ] وأحسن هذه الأقوال أنها بمعنى إلا الاستثنائية . وقد روي ذلك عن الخليل ، وسيبويه ، وجميع البصريين ، ورجحه الزجاج ويؤيده أن في حرف أبيّ «وإن كلا إلا ليوفينهم» كما حكاه أبو حاتم عنه . وقرىء بالتنوين : أي جميعاً . وقرأ الأعمش «وإن كل لما» بتخفيف إن ورفع كل وتشديد لما ، وتكون إن على هذه القراءة نافية { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ } أيها المختلفون { خَبِيرٌ } لا يخفى عليه منه شيء ، والجملة تعليل لما قبلها .
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بكلمة جامعة لأنواع الطاعة له سبحانه ، فقال : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } أي : كما أمرك الله ، فيدخل في ذلك جميع ما أمره به وجميع ما نهاه عنه ، لأنه قد أمره بتجنب ما نهاه عنه ، كما أمره بفعل ما تعبده بفعله ، وأمته أسوته في ذلك ، ولهذا قال : { وَمَن تَابَ مَعَكَ } أي : رجع من الكفر إلى الإسلام ، وشاركك في الإيمان ، وهو معطوف على الضمير في { فاستقم } ؛ لأن الفصل بين المعطوف والضمير المرفوع المعطوف عليه يقوم مقام التأكيد : أي : وليستقم من تاب معك ، وما أعظم موقع هذه الآية وأشدّ أمرها ، فإن الاستقامة كما أمر الله لا تقوم بها إلا الأنفس المطهرة ، والذوات المقدسة ، ولهذا يقول المصطفى : «شيبتني هود» كما تقدّم { وَلاَ تَطْغَوْاْ } الطغيان : مجاوزة الحد ، لما أمر الله سبحانه بالاستقامة المذكورة بين أن الغلوّ في العبادة ، والإفراط في الطاعة على وجه تخرج به عن الحد الذي حدّه ، والمقدار الذي قدّره ممنوع منه منهيّ عنه ، وذلك كمن يصوم ولا يفطر ، ويقوم الليل ولا ينام ، ويترك الحلال الذي أذن الله به ورغب فيه ، ولهذا يقول الصادق المصدوق فيما صح عنه :

« أما أنا فأصوم وأفطر ، وأقوم وأنام ، وأنكح النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني » والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته تغليباً لحالهم على حاله ، أو النهي عن الطغيان خاص بالأمة { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يجازيكم على حسب ما تستحقون ، والجملة تعليل لما قبلها .
قوله : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } ، قرأ الجمهور بفتح الكاف ، وقرأ طلحة بن مصرّف ، وقتادة ، وغيرهما « تركنوا » بضم الكاف . قال الفراء : وهي لغة تميم وقيس ، قال أبو عمرو : وقراءة الجمهور هي لغة أهل الحجاز ، قال : ولغة تميم بكسر التاء وفتح الكاف ، وهم يكسرون حرف المضارعة في كل ما كان من باب علم يعلم . وقرأ ابن أبي عبلة بضم التاء وفتح الكاف على البناء للمفعول من أركنه . قال في الصحاح : ركن إليه يركن بالضم . وحكى أبو زيد : ركن إليه بالكسر ، يركن ركوناً فيهما : أي مال إليه وسكن قال الله تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } وأما ما حكى أبو زيد ركن يركن بالفتح فيهما فإنما هو على الجمع بين اللغتين . انتهى . وقال في شمس العلوم : الركون : السكون . يقال : ركن إليه ركوناً ، قال الله تعالى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } انتهى . وقال في القاموس : ركن إليه ، كنصر وعلم ، ومنع ركوناً : مال وسكن ، انتهى . فهؤلاء الأئمة من رواة اللغة فسروا الركون بمطلق الميل والسكون من غير تقييد بما قيده به صاحب الكشاف حيث قال : فإن الركون هو الميل اليسير ، وهكذا فسره المفسرون ، بمطلق الميل والسكون من غير تقييد إلا من كان من المتقيدين بما ينقله صاحب الكشاف؛ ومن المفسرين من ذكر في تفسير الركون قيوداً لم يذكرها أئمة اللغة . قال القرطبي في تفسيره : الركون حقيقته الاستناد والاعتماد والسكون إلى الشيء والرضا به . ومن أئمة التابعين من فسر الركون بما هو أخصّ من معناه اللغوي . فروي عن قتادة ، وعكرمة في تفسير الآية أن معناها : لا تودوهم ولا تطيعوهم . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير الآية : الركون هنا : الإدهان ، وذلك أن لا ينكر عليهم كفرهم . وقال أبو العالية : معناه لا ترضوا أعمالهم .
وقد اختلف أيضاً الأئمة من المفسرين في هذه الآية هل هي خاصة بالمشركين أو عامة؟ فقيل خاصة ، وإن معنى الآية النهي عن الركون إلى المشركين ، وأنهم المرادون بالذين ظلموا ، وقد روي ذلك عن ابن عباس .

وقيل : إنها عامة في الظلمة من غير فرق بين كافر ومسلم ، وهذا هو الظاهر من الآية ، ولو فرضنا أن سبب النزول هم المشركون ، لكان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . فإن قلت : وقد وردت الأدلة الصحيحة البالغة عدد التواتر الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً لا يخفى على من له أدنى تمسك بالسنة المطهرة ، بوجوب طاعة الأئمة والسلاطين والأمراء حتى ورد في بعض ألفاظ الصحيح : « أطيعوا السلطان وإن كان عبداً حبشياً رأسه كالزبيبة » وورد وجوب طاعتهم ما أقاموا الصلاة ، وما لم يظهر منهم الكفر البواح ، وما لم يأمروا بمعصية الله . وظاهر ذلك أنهم وإن بلغوا في الظلم إلى أعلى مراتبه ، وفعلوا أعظم أنواعه مما لم يخرجوا به إلى الكفر البواح ، فإن طاعتهم واجبة حيث لم يكن ما أمروا به من معصية الله؛ ومن جملة ما يأمرون به تولي الأعمال لهم . والدخول في المناصب الدينية التي ليس الدخول فيها من معصية الله؛ ومن جملة ما يأمرون به : الجهاد ، وأخذ الحقوق الواجبة من الرعايا ، وإقامة الشريعة بين المتخاصمين منهم ، وإقامة الحدود على من وجبت عليه . وبالجملة ، فطاعتهم واجبة على كل من صار تحت أمرهم ونهيهم في كل ما يأمرون به مما لم يكن من معصية الله ، ولا بدّ في مثل ذلك من المخالطة لهم والدخول عليهم ، ونحو ذلك مما لا بدّ منه ، ولا محيص عن هذا الذي ذكرناه من وجوب طاعتهم بالقيود المذكورة ، لتواتر الأدلة الواردة به ، بل قد ورد به الكتاب العزيز : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ } [ النساء : 59 ] بل ورد أنهم يعطون الذي لهم من الطاعة ، وإن منعوا ما هو عليهم للرعايا كما في بعض الأحاديث الصحيحة : « أعطوهم الذي لهم ، واسألوا الله الذي لكم » بل ورد الأمر بطاعة السلطان ، وبالغ في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال : « وإن أخذ مالك وضرب ظهرك » فإن اعتبرنا مطلق الميل والسكون ، فمجرّد هذه الطاعة المأمور بها مع ما تستلزمه من المخالطة هي ميل وسكون ، وإن اعتبرنا الميل والسكون ظاهراً وباطناً فلا يتناول النهي في هذه الآية من مال إليهم في الظاهر ، لأمر يقتضي ذلك شرعاً كالطاعة ، أو للتقية ومخافة الضرر منهم ، أو لجلب مصلحة عامة أو خاصة ، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة ، إذا لم يكن له ميل إليهم في الباطن ، ولا محبة ، ولا رضا بأفعالهم . قلت : أما الطاعة على عمومها بجميع أقسامها حيث لم تكن في معصية الله ، فهي على فرض صدق مسمى الركون عليها ، مخصصة لعموم النهي عنه بأدلتها التي قدّمنا الإشارة إليها ، ولا شك في هذا ولا ريب ، فكل من أمروه ابتداء أن يدخل في شيء من الأعمال التي أمرها إليهم مما لم يكن من معصية الله ، كالمناصب الدينية ، ونحوها إذا وثق من نفسه بالقيام بما وكل إليه ، فذلك واجب عليه فضلاً عن أن يقال جائز له .

وأما ما ورد من النهي عن الدخول في الإمارة ، فذلك مقيد بعدم وقوع الأمر ممن تجب طاعته من الأئمة والسلاطين ، والأمراء جمعاً بين الأدلة ، أو مع ضعف المأمور عن القيام بما أمر به ، كما ورد تعليل النهي عن الدخول في الإمارة بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة ، وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة ، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة ، مع كراهة ما هم عليه من الظلم ، وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم ، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة أو دفع تلك المفسدة ، فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا ، فهو مخصص بالأدلة الدالة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد ، والأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ، ولا تخفى على الله خافية؛ وبالجملة فمن ابتلي بمخالطة من فيه ظلم ، فعليه أن يزن أقواله وأفعاله ، وما يأتي وما يذر بميزان الشرع ، فإن زاغ عن ذلك : «فعلى نفسها براقش تجني» ومن قدر على الفرار منهم قبل أن يؤمر من جهتهم بأمر يجب عليه طاعته ، فهو الأولى له ، والأليق به . يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ، اجعلنا من عبادك الصالحين الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر الذين لا يخافون فيك لومة لائم ، وقوّنا على ذلك ويسره لنا ، وأعنا عليه . قال القرطبي في تفسيره : وصحبة الظالم على التقية مستثناة من النهي بحال الاضطرار . انتهى . وقال النيسابوري في تفسيره : قال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة . أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب؛ فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة ، فغير داخلة في الركون . قال : وأقول هذا من طريق المعاش والرخصة ، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] . انتهى .
قوله : { فَتَمَسَّكُمُ النار } بسبب الركون إليهم ، وفيه إشارة إلى أن الظلمة أهل النار ، أو كالنار ، ومصاحبة النار توجب لا محالة مسّ النار ، وجملة : { وَمَا لَكُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء } في محل نصب على الحال من قوله : فتمسكم النار . والمعنى : أنها تمسكم النار حال عدم وجود من ينصركم ، وينقذكم منها { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } من جهة الله سبحانه ، إذ قد سبق في علمه أنه يعذبكم بسبب الركون الذي نهيتم عنه ، فلم تنتهوا عناداً وتمرّداً .
قوله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار } لما ذكر الله سبحانه الاستقامة خصّ من أنواعها إقامة الصلاة لكونها رأس الإيمان ، وانتصاب { طرفي النهار } على الظرفية ، والمراد : صلاة الغداة والعشيّ ، وهما : الفجر والعصر .

وقيل : الظهر موضع العصر ، وقيل : الطرفان الصبح والمغرب . وقيل : هما الظهر والعصر . ورجح ابن جرير أنهما الصبح والمغرب ، قال : والدليل عليه إجماع الجميع على أن أحد الطرفين الصبح ، فدلّ على أن الطرف الآخر المغرب { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } أي : في زلف من الليل ، والزلف : الساعات القريبة بعضها من بعض ، ومنه سميت المزدلفة لأنها منزل بعد عرفة بقرب مكة ، وقرأ ابن القعقاع وأبو إسحاق وغيرهما «زلفاً» بضم اللام جمع زليف ، ويجوز أن يكون واحده زلفة . وقرأ ابن محيصن بإسكان اللام . وقرأ مجاهد : «زلفى» مثل فعلى . وقرأ الباقون : «زلفاً» بفتح اللام كغرفة وغرف . قال ابن الأعرابي : الزلف الساعات واحدتها زلفة . وقال قوم : الزلفة أوّل ساعة من الليل بعد مغيب الشمس . قال الأخفش : معنى { زلفاً من الليل } : صلاة الليل { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } أي : إن الحسنات على العموم ، ومن جملتها بل عمادها الصلاة يذهبن السيئات على العموم . وقيل : المراد بالسيئات : الصغائر ، ومعنى { يذهبن السيئات } : يكفرنها حتى كأنها لم تكن ، والإشارة بقوله : { ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ } إلى قوله : { فاستقم } وما بعده . وقيل : إلى القرآن ذكرى للذاكرين أي : موعظة للمتعظين { واصبر } على ما أمرت به من الاستقامة ، وعدم الطغيان ، والركون إلى الذين ظلموا! وقيل : إن المراد الصبر على ما أمر به دون ما نهى عنه ، لأنه لا مشقة في اجتنابه ، وفيه نظر ، فإن المشقة في اجتناب المنهيّ عنه كائنة ، وعلى فرض كونها دون مشقة امتثال الأمر ، فذلك لا يخرجها عن مطلق المشقة { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } أي : يوفيهم أجورهم ولا يضيع منها شيئاً فلا يهمله ولا يبخسه بنقص .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } قال : ما قدّر لهم من خير أو شرّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن زيد ، في الآية قال : من العذاب . وأخرجا عن أبي العالية . قال من الرزق . وأخرجا أيضاً عن قتادة في قوله : { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } قال : أمر الله نبيه أن يستقيم على أمره ، ولا يطغى في نعمته ، وأخرج أبو الشيخ ، عن سفيان ، في الآية قال : استقم على القرآن . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن ، قال : لما نزلت هذه الآية { فاستقم كَمَا أُمِرْتَ } قال : شمروا شمروا فما رؤي ضاحكاً . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج { وَمَن تَابَ مَعَكَ } قال : آمن . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن العلاء بن عبد الله بن بدر ، في قوله : { وَلاَ تَطْغَوْاْ } قال : لم يرد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما عنى الذين يجيئون من بعدهم .

وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن عباس { وَلاَ تَطْغَوْاْ } يقول : لا تظلموا . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد ، قال : الطغيان : خلاف أمره وارتكاب معصيته . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } قال : يعني الركون إلى الشرك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه { وَلاَ تَرْكَنُواْ } قال : لا تميلوا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه ، أيضاً قال : { وَلاَ تَرْكَنُواْ } لا تدهنوا . وأخرج أبو الشيخ ، عن عكرمة ، في الآية قال : أن تطيعوهم أو تودّوهم أو تصطنعوهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار } قال : صلاة المغرب والغداة { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } قال : صلاة العتمة . وأخرجا عن الحسن قال : الفجر والعصر { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } قال : هما زلفتان : صلاة المغرب وصلاة العشاء . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هما زلفتا الليل» . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في الطرفين قال : صلاة الفجر ، وصلاتي العشيّ : يعني الظهر والعصر { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } قال : المغرب والعشاء . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد ، في قوله : { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } قال : ساعة بعد ساعة ، يعني صلاة العشاء الآخرة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس أنه كان يستحبّ تأخير العشاء ، ويقرأ { زلفاً من الليل } .
وأخرج ابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود ، في قوله : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } قال : الصلوات الخمس . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، ومحمد بن نصر ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } قال : الصلوات الخمس ، والباقيات الصالحات : الصلوات الخمس . وأخرج البخاري ومسلم ، وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود : أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له كأنه يسأل عن كفارتها ، فأنزلت عليه : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } فقال الرجل : يا رسول الله ألي هذه؟ قال : " هي لمن عمل بها من أمتي " وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود وغيرهم عن أبي أمامة : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أقم فيّ حدّ الله مرّة أو مرّتين ، فأعرض عنه ، ثم أقيمت الصلاة ، فلما فرغ قال : " أين الرجل؟ " قال : أنا ذا ، قال " أتممت الوضوء وصليت معنا آنفاً؟ قال : نعم . قال : فإنك من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد " ، وأنزل الله حينئذ على رسوله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار } . وفي الباب أحاديث كثيرة بألفاظ مختلفة ، ووردت أحاديث أيضاً " أن الصلوات الخمس كفارات لما بينهنّ " وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الحسن ، في قوله : { ذلك ذكرى لِلذكِرِينَ } قال : هم الذين يذكرون الله في السرّاء والضرّاء ، والشدّة والرخاء ، والعافية والبلاء . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج قال : لما نزع الذي قبل المرأة تذكر ، فذلك قوله : { ذكرى لِلذكِرِينَ } .

فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

هذا عود إلى أحوال الأمم الخالية لبيان أن سبب حلول عذاب الاستئصال بهم أنه ما كان فيهم من ينهى عن الفساد ويأمر بالرشاد ، فقال : { فَلَوْلا } أي : فهلا { كَانَ مِنَ القرون } الكائنة { مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } من الرأي والعقل والدين { يَنْهَوْنَ } قومهم { عَنِ الفساد فِى الأرض } ويمنعونهم من ذلك ، لكونهم ممن جمع الله له بين جودة العقل ، وقوّة الدين ، وفي هذا من التوبيخ للكفار ما لا يخفى . والبقية في الأصل لما يستبقيه الرجل مما يخرجه ، وهو لا يستبقي إلا أجوده وأفضله ، فصار لفظ البقية مثلاً في الجودة ، والاستثناء في { إِلاَّ قَلِيلاً } منقطع : أي : لكن قليلاً ممن أنجينا منهم ينهون عن الفساد في الأرض . وقيل : هو متصل لأن في حرف التحضيض معنى النفي ، فكأنه قال : ما كان في القرون أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم ، و " من " في { ممن أنجينا } بيانية ، لأنه لم ينج إلا الناهون . قيل : هؤلاء القليل هم قوم يونس لقوله فيما مر : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } [ يونس : 98 ] وقيل : هم أتباع الأنبياء وأهل الحق من الأمم على العموم { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } معطوف على مقدّر يقتضيه الكلام ، تقديره : إلا قليلاً ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد . والمعنى : أنه اتبع الذين ظلموا بسبب مباشرتهم الفساد وتركهم للنهي عنه ما أترفوا فيه . والمترف : الذي أبطرته النعمة ، يقال : صبيّ مترف : منعم البدن ، أي صاروا تابعين للنعم التي صاروا بها مترفين من خصب العيش ، ورفاهية الحال وسعة الرزق ، وآثروا ذلك على الاشتغال بأعمال الآخرة واستغرقوا أعمارهم في الشهوات النفسانية؛ وقيل المراد بالذين ظلموا : تاركو النهي . وردّ بأنه يستلزم خروج مباشري الفساد عن الذين ظلموا وهم أشدّ ظلماً ممن لم يباشر ، وكان ذنبه ترك النهي . وقرأ أبو عمرو في رواية عنه : «وأتبع الذين ظلموا» على البناء للمفعول ، ومعناه : أتبعوا جزاء ما أترفوا فيه ، وجملة : { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } متضمنة لبيان سبب إهلاكهم ، وهي معطوفة على أترفوا : أي وكان هؤلاء الذين أتبعوا ما أترفوا فيه مجرمين ، والإجرام : الأثام . والمعنى : أنهم أهل إجرام بسبب اتباعهم الشهوات ، واشتغالهم بها عن الأمور التي يحق الاشتغال بها ، ويجوز أن تكون جملة : { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } معطوفة على { واتبع الذين ظلموا } : أي اتبعوا شهواتهم ، وكانوا بذلك الاتباع مجرمين .
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } أي : ما صحّ ولا استقام أن يهلك الله سبحانه أهل القرى بظلم يتلبسون به وهو الشرك ، والحال أن أهلها مصلحون فيما بينهم في تعاطي الحقوق لا يظلمون الناس شيئاً . والمعنى : أنه لا يهلكهم بمجرد الشرك وحده حتى ينضمّ إليه الفساد في الأرض ، كما أهلك قوم شعيب بنقص المكيال والميزان وبخس الناس أشياءهم ، وأهلك قوم لوط بسبب ارتكابهم للفاحشة الشنعاء .

وقيل : إن قوله : { بِظُلْمٍ } حال من الفاعل . والمعنى : وما كان الله ليهلك القرى ظالماً هم حال كونهم مصلحين غير مفسدين في الأرض ، ويكون المراد بالآية تنزيهه سبحانه وتعالى عن صدور ذلك منه بلا سبب يوجبه ، على تصوير ذلك بصورة ما يستحيل منه ، وإلا فكل أفعاله كائنة ما كانت لا ظلم فيها ، فإنه سبحانه ليس بظلام للعبيد . قال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى : وما كان ربك ليهلك أحداً وهو يظلمه ، وإن كان على نهاية الصلاح ، لأن تصرفه في ملكه ، دليله قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا } [ يونس : 44 ] وقيل : المعنى : وما كان ليهلكهم بذنوبهم وهم مصلحون : أي مخلصون في الإيمان ، فالظلم المعاصي على هذا .
{ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : أهل دين واحد ، إما أهل ضلالة ، أو أهل هدى . وقيل : معناه : جعلهم مجتمعين على الحق غير مختلفين فيه ، أو مجتمعين على دين الإسلام دون سائر الأديان ، ولكنه لم يشأ ذلك فلم يكن ، ولهذا قال : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } في ذات بينهم على أديان شتى ، أو لا يزالون مختلفين في الحق أو دين الإسلام . وقيل : مختلفين في الرزق : فهذا غنيّ ، وهذا فقير { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } بالهداية إلى الدين الحق ، فإنهم لم يختلفوا ، أو إلا من رحم ربك من المختلفين في الحق أو دين الإسلام ، بهدايته إلى الصواب الذي هو حكم الله ، وهو الحق الذي لا حق غيره ، أو إلا من رحم ربك بالقناعة . والأولى تفسير لجعل الناس أمة واحدة بالمجتمعة على الحق حتى يكون معنى الاستثناء في { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } واضحاً غير محتاج إلى تكلف { ولذلك } أي : لما ذكر من الاختلاف { خَلْقَهُمْ } أو ولرحمته خلقهم . وصحّ تذكير الإشارة إلى الرحمة لكون تأنيثها غير حقيقي . والضمير في خلقهم راجع إلى الناس ، أو إلى { من } في { من رحم ربك } ؛ وقيل : الإشارة بذلك إلى مجموع الاختلاف والرحمة ، ولا مانع من الإشارة بها إلى شيئين كما في قوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ، { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ] { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } [ يونس : 58 ] . قوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ } معنى تمت ثبتت ، كما قدّره في أزله ، وإذا تمت امتنعت من التغيير والتبديل ، وقيل : الكلمة هي قوله : { لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } أي : ممن يستحقها من الطائفتين ، والتنوين في { وَكُلاًّ } للتعويض عن المضاف إليه ، وهو منصوب ب { نقص } ، والمعنى : وكل نبأ من أنباء الرسل مما يحتاج إليه نقصّ عليك : أي ، نخبرك به . وقال الأخفش : { كَلاَّ } حال مقدّمة كقولك : كلاً ضربت القوم ، والأنباء الأخبار { مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } أي : ما نجعل به فؤادك مثبتاً بزيادة يقينه بما قصصناه عليك ، ووفور طمأنينته ، لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ في النفس وأقوى للعلم ، وجملة : { مَا نُثَبّتُ } بدل من أنباء الرسل ، وهو بيان لكلا ، ويجوز أن يكون { مَا نُثَبّتُ } مفعولاً لنقصّ ، ويكون { كلاً } مفعولاً مطلقاً ، والتقدير : كل أسلوب من أساليب الاقتصاص نقصّ عليك ما نثبت به فؤادك { وَجَاءكَ فِى هذه الحق } أي : جاك في هذه السورة ، أو في هذه الأنباء البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والمعاد { وَمَوْعِظَةً } يتعظ بها الواقف عليها من المؤمنين { وذكرى } يتذكر بها من تفكر فيها منهم ، وخصّ المؤمنين لكونهم المتأهلين للاتعاظ والتذكر .

وقيل : المعنى : وجاءك في هذه الدنيا الحق ، وهو النبوّة ، وعلى التفسير الأوّل ، يكون تخصص هذه السورة بمجيء الحق فيها مع كونه قد جاء في غيرها من السور ، لقصد بيان اشتمالها على ذلك ، لا بيان كونه موجوداً فيها دون غيرها .
{ وَقُل لّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } بهذا الحق ، ولا يتعظون ، ولا يتذكرون { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } على تمكنكم وحالكم وجهتكم ، وقد تقدّم تحقيقه { إِنَّا عَامِلُونَ } على مكانتنا وحالنا وجهتنا من الإيمان بالحق ، والاتعاظ ، والتذكر ، وفي هذا تشديد للوعيد والتهديد لهم ، وكذلك قوله : { وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } فيه من الوعيد والتهديد ما لا يخفى . والمعنى : انتظروا عاقبة أمرنا فإنا منتظرون عاقبة أمركم وما يحلّ بكم من عذاب الله وعقوبته .
{ وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض } أي : علم جميع ما هو غائب عن العباد فيهما ، وخصّ الغيب من كونه يعلم بما هو مشهود ، كما يعلم بما هو مغيب ، لكونه من العلم الذي لا يشاركه فيه غيره؛ وقيل : إن غيب السموات والأرض : نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض ، والأوّل : أولى ، وبه قال أبو عليّ الفارسي وغيره ، وأضاف الغيب إلى المفعول توسعاً { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ } أي : يوم القيامة فيجازى كلاً بعمله . وقرأ نافع وحفص { يرجع } على البناء للمفعول . وقرأ الباقون على البناء للفاعل { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } فإنه كافيك كل ما تكره ، ومعطيك كل ما تحبّ ، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة ، والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله سبحانه { وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل عالم بجميع ذلك ، ومجاز عليه إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر . وقرأ أهل المدينة والشام وحفص { تَعْمَلُونَ } بالفوقية على الخطاب . وقرأ الباقون بالتحتية .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي مالك ، في قوله : { فَلَوْلا } قال : فهلا . وأخرج ابن مردويه ، عن أبيّ بن كعب ، قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية } ، وأحلام ، ينهون عن الفساد في الأرض . وأخرج أبو الشيخ ، عن ابن جريج { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } يستقلهم الله من كل قوم .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ } قال : في ملكهم وتجبرهم ، وتركهم الحق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ من طريق ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : أترفوا فيه : أبطروا فيه .
وأخرج الطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والديلمي عن جرير ، قال : «سمعت رسول الله يسئل عن تفسير هذه الآية { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأهلها ينصف بعضهم بعضاً " وأخرجه ابن أبي حاتم ، والخرائطي في مساوئ الأخلاق موقوفاً على جرير . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } قال : أهل دين واحد أهل ضلالة أو أهل هدى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } قال : أهل الحق وأهل الباطل { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } قال : أهل الحق { ولذلك خَلَقَهُمْ } قال : للرحمة . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عنه { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } قال : إلا أهل رحمته فإنهم لا يختلفون . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه ، قال : لا يزالون مختلفين في الأهواء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عطاء بن أبي رباح { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } أي : اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية ، وهم الذين رحم ربك الحنيفية . وأخرج هؤلاء عن الحسن في الآية قال : الناس مختلفون على أديان شتى إلا من رحم ربك ، فمن رحم ربك غير مختلف { ولذلك خَلَقَهُمْ } قال : للاختلاف . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } قال : أهل الباطل { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } قال : أهل الحق { ولذلك خَلَقَهُمْ } قال : للرحمة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة نحوه . وأخرجا عن الحسن قال : لا يزالون مختلفين في الرزق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، ولذلك خلقهم قال : خلقهم فريقين : فريقاً يرحم فلا يختلف ، وفريقاً لا يرحم يختلف ، فذلك قوله : { فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج ، في قوله : { وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء الرسل مَا نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } لتعلم يا محمد ما لقيت الرسل قبلك من أممهم . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طرق ، عن ابن عباس ، قال : { وَجَاءكَ فِى هذه الحق } قال : في هذه السورة . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن أبي موسى الأشعري مثله . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير مثله أيضاً .

وأخرج أبو الشيخ عن الحسن مثله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة ، قال : في هذه الدنيا .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أي : منازلكم . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن ابن جريج { وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } قال : يقول انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزين لكم ، وفي قوله : { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ } قال : فيقضي بينهم بحكم العدل . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن الضريس في فضائل القرآن ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن كعب قال : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام ، وخاتمة التوراة خاتمة هود { وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض } إلى آخر الآية .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

قوله : { الر } : قد تقدّم الكلام فيه في فاتحة سورة يونس ، والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى آيات السورة ، و { الكتاب المبين } : السورة ، أي : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم . والمبين من أبان ، بمعنى بان ، أي : الظاهر أمره في كونه من عند الله وفي إعجازه ، أو المبين بمعنى : الواضح المعنى بحيث لا يلتبس على قارئه وسامعه ، أو المبين لما فيه من الأحكام . { إِنَّا أنزلناه } : أي الكتاب المبين حال كونه { قُرْءاناً عَرَبِيّاً } ، فعلى تقدير أن الكتاب : السورة تكون تسميتها قرآناً باعتبار أن القرآن اسم جنس يقع على الكل ، وعلى البعض ، وعلى تقدير أن المراد بالكتاب كل القرآن ، فتكون تسميته قرآناً واضحة ، و { عربياً } صفة ل { قرآناً } ، أي : على لغة العرب ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : لكي تعلموا معانيه ، وتفهموا ما فيه .
{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } القصص : تتبع الشيء ، ومنه قوله تعالى : { وَقَالَتْ لاخْتِهِ قُصّيهِ } [ القصص : 11 ] ، أي : تتبعي أثره وهو مصدر ، والتقدير : نحن نقصّ عليك قصصاً أحسن القصص ، فيكون بمعنى الاقتصاص ، أو بمعنى المفعول ، أي : المقصوص ، { بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : بإيحائنا إليك { هذا القرءان } وانتصاب القرآن على أنه صفة لاسم الإشارة ، أو بدل منه ، أو عطف بيان ، وأجاز الزجاج الرفع على تقدير مبتدأ ، وأجاز الفراء الجرّ ، ولعل وجهه أن يقدّر حرف الجرّ في { بما أوحينا } داخلاً على اسم الإشارة ، فيكون المعنى : نحن نقص عليك أحسن القصص بهذا القرآن ، { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين } « إن » هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة بينها وبين النافية ، والضمير في { من قبله } عائد على الإيحاء المفهوم من أوحينا ، والمعنى : أنك قبل إيحائنا إليك من الغافلين عن هذه القصة .
واختلف في وجه كون ما في هذه السورة هو أحسن القصص ، فقيل : لأن ما في هذه السورة من القصص يتضمن من العبر والمواعظ والحكم ما لم يكن في غيرها . وقيل : لما فيها من حسن المحاورة ، وما كان من يوسف عليه السلام من الصبر على أذاهم وعفوه عنهم ، وقيل : لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والجنّ والإنس والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك ، والتجار ، والعلماء والجهال ، والرجال والنساء وحيلهنّ ومكرهنّ . وقيل : لأن فيها ذكر الحبيب والمحبوب ، وما دار بينهما . وقيل : إن { أحسن } هنا بمعنى : أعجب . وقيل : إن كل من ذكر فيها كان مآله السعادة .
قوله : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ } « إذ » منصوب على الظرفية بفعل مقدّر ، أي : اذكر وقت قال يوسف . قرأ الجمهور : { يوسف } بضم السين ، وقرأ طلحة بن مصرف بكسرها مع الهمز مكان الواو ، وحكى ابن زيد الهمز وفتح السين ، وهو غير منصرف للعجمة والعلمية .

وقيل : هو عربي ، والأول أولى بدليل عدم صرفه ، { لأبِيهِ } أي : يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم { يا أبت } بكسر التاء في قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ونافع وابن كثير ، وهي عند البصريين علامة التأنيث ولحقت في لفظ أب في النداء خاصة بدلاً من الياء وأصله : يا أبي ، وكسرها للدلالة على أنها عوض عن حرف يناسب الكسر ، وقرأ ابن عامر بفتحها؛ لأن الأصل عنده يا أبتا ، ولا يجمع بين العوض والمعوّض ، فيقال : يا أبتى ، وأجاز الفراء ( يا أبت ) بضم التاء ، { إِنّى رَأَيْتُ } من الرؤيا النومية لا من الرؤية البصرية كما يدل عليه { لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ } .
قوله : { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } قرىء بسكون العين تخفيفاً لتوالي الحركات ، وقرأ بفتحها على الأصل { والشمس والقمر } إنما أخرهما عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما ، كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة . وقيل : إن الواو بمعنى : « مع » ، وجملة : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } مستأنفة لبيان الحالة التي رآهم عليها . وأجريت مجرى العقلاء في الضمير المختص بهم لوصفها بوصف العقلاء ، وهو كونها ساجدة ، كذا قال الخليل وسيبويه ، والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل ، إذا أنزلوه منزلته . { قَالَ يَا بَنِى لاَ تَقْصُصْ رُءيَاكَ على إِخْوَتِكَ } الرؤيا مصدر رأى في المنام ، رؤيا على وزن فعلى ، كالسقيا والبشرى وألفه للتأنيث ولذلك لم يصرف . نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقصّ رؤياه على إخوته؛ لأنه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له ، ولهذا قال : { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا } وهذا جواب النهي وهو منصوب بإضمار أن ، أي : فيفعلوا لك ، أي : لأجلك كيداً مثبتاً راسخاً لا تقدر على الخلوص منه ، أو كيداً خفياً عن فهمك . وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال : فيكيدوا كيداً . وقيل : إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدى باللام ، فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعاً ، الكيد والاحتيال ، كما هو القاعدة في التضمين أن يقدر أحدهما أصلاً والآخر حالاً ، وجملة : { إِنَّ الشيطان للإنسان عَدُوٌّ مُّبِينٌ } مستأنفة ، كأن يوسف عليه السلام قال : كيف يقع منهم؟ فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك؛ لأنه عدو للإنسان مظهر للعدواة ، مجاهر بها .
قوله : { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي مثل ذلك الاجتباء البديع الذي رأيته في النوم من سجود الكواكب والشمس والقمر يجتبيك ربك ، ويحقق فيك تأويل تلك الرؤيا ، فيجعلك نبياً ، ويصطفيك على سائر العباد ، ويسخرهم لك كما تسخرت لك تلك الأجرام التي رأيتها في منامك فصارت ساجدة لك . قال النحاس : والاجتباء : أصله من جبيت الشيء حصلته ، ومنه جبيت الماء في الحوض جمعته ، ومعنى الاجتباء : الاصطفاء ، وهذا يتضمن الثناء على يوسف ، وتعديد نعم الله عليه ، ومنها : { وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } أي : تأويل الرؤيا .

قال القرطبي : وأجمعوا أن ذلك في تأويل الرؤيا ، وقد كان يوسف عليه السلام أعلم الناس بتأويلها . وقيل المراد : ويعلمك من تأويل أحاديث الأمم والكتب . وقيل المراد به : إحواج إخوته إليه . وقيل : إنجاؤه من كل مكروه ، وقيل : إنجاؤه من القتل خاصة .
{ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } فيجمع لك بين النبوة والملك ، كما تدل عليه هذه الرؤيا التي أراك الله ، أو يجمع لك بين خيري الدنيا والآخرة { وعلى ءالِ يَعْقُوبَ } وهم قرابته من إخوته وأولاده ومن بعدهم ، وذلك أن الله سبحانه أعطاهم النبوة كما قاله جماعة من المفسرين ، ولا يبعد أن يكون إشارة إلى ما حصل لهم بعد دخولهم مصر ، من النعم التي من جملتها كون الملك فيهم ، مع كونهم أنبياء { كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ } أي : إتماماً مثل إتمامها على أبويك : وهي نعمة النبوّة عليهما ، مع كون إبراهيم اتخذه الله خليلاً ، ومع كون إسحاق نجاه الله سبحانه من الذبح وصار لهما الذرية الطيبة وهم : يعقوب ، ويوسف ، وسائر الأسباط . ومعنى { مِن قَبْلُ } من قبل هذا الوقت الذي أنت فيه ، أو من قبلك ، وإبراهيم وإسحق عطف بيان لأبويك ، وعبر عنهما بالأبوين مع كون أحدهما جداً وهو إبراهيم؛ لأن الجدّ أب ، { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ } بكل شيء { حَكِيمٌ } في كل أفعاله . والجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها تعليلاً له ، أي فعل ذلك لأنه عليم حكيم ، وكان هذا كلام من يعقوب مع ولده يوسف تعبيراً لرؤياه على طريق الإجمال ، أو علم ذلك من طريق الوحي ، أو عرفه بطريق الفراسة وما تقتضيه المخايل اليوسفية .
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { تِلْكَ ءايَاتُ الكتاب المبين } قال : بين الله حلاله وحرامه ، وأخرج ابن جرير عن معاذ قال : بين الله الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم ، وهي ستة أحرف ، وأخرج الحاكم عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا { قرآناً عربياً } ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألهم إسماعيل هذا اللسان العربي إلهاماً » وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : نزل القرآن بلسان قريش ، وهو كلامهم .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا يا رسول الله ، لو قصصت علينا ، فنزلت : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مثله . وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } قال : من الكتب الماضية ، وأمور الله السالفة في الأمم { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ } أي : من قبل هذا القرآن { لَمِنَ الغافلين } . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } قال : القرآن .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } قال : رؤيا الأنبياء وحي . وأخرج سعيد بن منصور ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والعقيلي ، وابن حبان في الضعفاء ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال : «جاء بستاني اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له ما أسماؤها؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه بشيء ، فنزل عليه جبريل فأخبره بأسمائها ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي فقال : " هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها؟ ، قال : نعم ، قال : خرثان ، والطارق ، والذيال ، وذو الكنفات ، وقابس ، ووثاب ، وعمودان ، والفيلق ، والمصبح ، والضروح ، وذو الفرغ ، والضياء ، والنور : رآها في أفق السماء ساجدة له ، فلما قص يوسف على يعقوب قال : هذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد " ، فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها . هكذا ساقه السيوطي في الدر المنثور . وأما ابن كثير فجعل قوله : «فلما قص . . . » إلخ رواية منفردة؛ وقال : تفرد بها الحكم بن ظهيرة الفزاري ، وقد ضعفوه وتركه الأكثرون . وقال الجوزجاني : ساقط . وقال ابن الجوزي : هو موضوع . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا } قال : إخوته { والشمس } قال : أمه ، { والقمر } قال : أبوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن السديّ نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد نحوه أيضاً .
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } قال : يصطفيك . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة مثله . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد { وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } قال : عبارة الرؤيا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد { وَيُعَلّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } قال : تأويل العلم والحلم ، وكان يوسف من أعبر الناس . وأخرج ابن جرير عن عكرمة { كَمَا أَتَمَّهَا على أَبَوَيْكَ } قال : فنعمته على إبراهيم : أن نجاه من النار ، وعلى إسحاق : أن نجاه من الذبح .

لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)

أي : لقد كان في قصتهم علامات دالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه { لّلسَّائِلِينَ } من الناس عنها ، وقرأ أهل مكة « آية » على التوحيد ، وقرأ الباقون على الجمع ، واختار قراءة الجمع أبو عبيد . وقال النحاس : و « آية » ها هنا قراءة حسنة . وقيل : المعنى لقد كان في يوسف وإخوته آيات دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للسائلين له من اليهود ، فإنه روى أنه قال له جماعة من اليهود وهو بمكة : أخبرنا عن رجل من الأنبياء كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمي ، ولم يكن بمكة أحد من أهل الكتاب ، ولا من يعرف خبر الأنبياء ، وإنما وجهوا إليه من أهل المدينة من يسأله عن هذا ، فأنزل الله سورة يوسف جملة واحدة كما في التوراة . وقيل : معنى { آيات للسائلين } عجب لهم ، وقيل : بصيرة ، وقيل : عبرة . قال القرطبي : وأسماؤهم يعني : إخوة يوسف : روبيل ، وهو أكبرهم ، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، وريالون ، ويشجر ، وأمهم ليا بنت ليان وهي بنت خال يعقوب ، وولد له من سريتين أربعة ، وهم : دان ، ونفتالى ، وجاد ، وآشر ، ثم ماتت ليا فتزوج يعقوب أختها راحيل فولدت له يوسف ، وبنيامين وقال السهيلي : إن أم يوسف اسمها وقفا ، وراحيل ماتت من نفاس بنيامين ، وهو أكبر من يوسف . { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } أي : وقت قالوا ، والظرف متعلق بكان { أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } والمراد بقوله : { وَأَخُوهُ } هو بنيامين ، وخصوه بكونه أخاه مع أنهم جميعاً إخوته ، لأنه أخوه لأبويه كما تقدم ، ووحد الخبر فقال : { أحب } مع تعدد المبتدأ؛ لأن أفعل التفضيل يستوي فيه الواحد وما فوقه إذا لم يعرّف ، واللام في { ليوسف } هي الموطئة للقسم ، وإنما قالوا : هذه؛ لأنه بلغهم خبر الرؤيا فأجمع رأيهم على كيده ، وجملة { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } في محل نصب على الحال ، والعصبة : الجماعة ، قيل : وهي ما بين الواحد إلى العشرة . وقيل : إلى الخمسة عشر ، وقيل : من العشرة إلى الأربعين ، ولا واحد لها من لفظها ، بل هي كالنفر والرهط ، وقد كانوا عشرة ، { إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } أي : لفي ذهاب عن وجه التدبير بالترجيح لهما علينا ، وإيثارهما دوننا مع استوائنا في الانتساب إليه ، ولا يصح أن يكون مرادهم أنه في دينه في ضلال مبين . { اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضًا } أي قالوا : افعلوا به أحد الأمرين : إما القتل ، أو الطرح في أرض ، أو المشير بالقتل بعضه والمشير بالطرح البعض الآخر ، أو كان المتكلم بذلك واحد منهم فوافقه الباقون ، فكانوا كالقائل في نسبة هذا المقول إليهم ، وانتصاب { أرضاً } على الظرفية ، والتنكير للإبهام : أي أرضاً مجهولة ، وجواب الأمر { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي : يصف ويخلص فيقبل عليكم ويحبكم حباً كاملاً { وَتَكُونُواْ } معطوف على { يخل } ، ويجوز أن يكون منصوباً بإضمار أن { مِن بَعْدِهِ } أي : من بعد يوسف ، والمراد بعد الفراغ من قتله أو طرحه ، وقيل : من بعد الذنب الذي اقترفوه في يوسف { قَوْمًا صالحين } في أمور دينكم وطاعة أبيكم ، أو صالحين في أمور دنياكم ، لذهاب ما كان يشغلكم عن ذلك ، وهو الحسد ليوسف وتكدّر خواطركم بتأثيره عليكم هو وأخوه ، أو المراد بالصالحين : التائبون من الذنب .

{ قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ } أي : من الإخوة ، قيل : هو يهوذا ، وقيل : روبيل ، وقيل : شمعون { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } قيل : ووجه الإظهار في { لا تقتلوا يوسف } استجلاب شفقتهم عليه . قرأ أهل مكة وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل الشام : { في غيابة الجب } بالإفراد ، وقرأ أهل المدينة ( في غيابات ) بالجمع ، واختار أبو عبيد الإفراد وأنكر الجمع ، لأن الموضع الذي ألقوه فيه واحد . قال النحاس : وهذا تضييق في اللغة ، و « غيابات » على الجمع تجوز ، والغيابة : كل شيء غيب عنك شيئاً . وقيل للقبر : غيابة ، والمراد به هنا غور البئر الذي لا يقع البصر عليه ، أو طاقة فيه ، قال الشاعر :
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث ... إلى ذا كما قد غيبتني غيابيا
والجب : البئر التي لم تطو ، ويقال لها قبل الطيّ ركية ، فإذا طويت قيل لها : بئر ، سميت جباً ، لأنها قطعت في الأرض قطعاً ، وجمع الجب جيب وجياب ، وأجباب ، وجمع بين الغيابة والجبّ مبالغة في أن يلقوه في مكان من الجبّ شديد الظلمة حتى لا يدركه نظر الناظرين ، قيل : وهذه البئر ببيت المقدس . وقيل : بالأردن ، وجواب الأمر : { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } قرأ مجاهد ، وأبو رجاء ، والحسن ، وقتادة ( تلتقطه ) بالمثناة الفوقية ، ووجهه أن بعض السيارة سيارة ، وحكي عن سيبويه سقطت بعض أصابعه . ومنه قول الشاعر :
أرى مرّ السنين أخذن مني ... كما أخذ السرار من الهلال
وقرأ الباقون « تلتقطه » بالتحتية . والسيارة : الجمع الذي يسيرون في الطريق ، والالتقاط : هو أخذ شيء مشرف على الضياع ، وكأنهم أرادوا أن بعض السيارة إذا التقطه حمله إلى مكان بعيد ، بحيث يخض عن أبيه ومن يعرفه ، ولا يحتاجون إلى الحركة بأنفسهم إلى المكان البعيد ، فربما أن والدهم لا يأذن لهم بذلك ، ومعنى : { إِن كُنتُمْ فاعلين } إن كنتم عاملين بما أشرت به عليكم في أمره ، كأنه لم يجزم بالأمر ، بل وكله إلى ما يجمعون عليه ، كما يفعله المشير مع من استشاره . وفي هذا دليل على أن إخوة يوسف ما كانوا أنبياء ، فإن الأنبياء لا يجوز عليهم التواطؤ على القتل لمسلم ظلماً وبغياً . وقيل : كانوا أنبياء ، وكان ذلك منهم زلة قدم ، وأوقعهم فيها التهاب نار الحسد في صدورهم واضطرام جمرات الغيظ في قلوبهم .

وردّ بأن الأنبياء معصومون عن مثل هذه المعصية الكبيرة المتبالغة في الكبر ، مع ما في ذلك من قطع الرحم وعقوق الوالد وافتراء الكذب . وقيل : إنهم لم يكونوا في ذلك الوقت أنبياء ، بل صاروا أنبياء من بعد .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله { آيات للسائلين } قال : عبرة . وأخرج أيضاً عن قتادة في الآية يقول : من سأل عن ذلك فهو هكذا ما قصّ الله عليكم وأنبأكم به . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال : إنما قصّ الله على محمد صلى الله عليه وسلم خبر يوسف وبغي إخوته عليه ، وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي قومه عليه وحسدهم إياه حين أكرمه الله بنبوّته ليأتسى به . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ } يعني : بنيامين هو أخوه لأبيه وأمه ، وفي قوله : { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } قال : العصبة ما بين العشرة إلى الأربعين . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال : العصبة : الجماعة ، { إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضلال مُّبِينٍ } قال : لفي خطأ من رأيه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في قوله : { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } قال : قاله كبيرهم الذي تخلف ، قال : والجبّ بئر بالشام { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } قال : التقطه ناس من الأعراب . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } يعني : الركية . وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : الجبّ البئر . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ قال : هي بئر ببيت المقدس ، يقول في بعض نواحيها . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : الجبّ بحذاء طبرية بينه وبينها أميال .

قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)

لما أجمع رأيهم على أن يلقوه في غيابات الجبّ ، جاءوا إلى أبيهم وخاطبوه بلفظ الأبوة استعطافاً له ، وتحريكاً للحنو الذي جبلت عليه طبائع الآباء للأبناء ، وتوسلاً بذلك إلى تمام ما يريدونه من الكيد الذي دبروه ، واستفهموه استفهام المنكر لأمر ينبغي أن يكون الواقع على خلافه ، ف { قَالُواْ يأَبَانَا مالك لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ } أي : أيّ شيء لك لا تجعلنا أمناء عليه ، وكأنهم قد كانوا سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف فأبى . وقرأ يزيد بن القعقاع ، وعمرو بن عبيد ، والزهري " لا تأمنا " بالإدغام بغير إشمام . وقرأ طلحة بن مصرف : " لا تأمننا " بنونين ظاهرتين على الأصل . وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو رزين ، والأعمش : " لا تيمنا " وهو لغة تميم كما تقدم . وقرأ سائر القراء بالإدغام والإشمام ليدلّ على حال الحرف قبل إدغامه { وَإِنَّا لَهُ لناصحون } في حفظه وحيطته حتى نردّه إليك { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً } أي : إلى الصحراء التي أرادوا الخروج إليها ، و { غدا } ظرف ، والأصل عند سيبويه غدوة ، قال النضر بن شميل : ما بين الفجر وطلوع الشمس يقال له : غدوة ، وكذا يقال له بكرة { نرتع وَنَلْعَبُ } هذا جواب الأمر . قرأ أهل البصرة وأهل مكة وأهل الشام بالنون وإسكان العين ، كما رواه البعض عنهم . وقرءوا أيضاً بالاختلاس ، وقرأ الباقون بالنون وكسر العين . والقراءة الأولى مأخوذة من قول العرب : رتع الإنسان أو البعير إذا أكل كيف شاء ، أو المعنى : نتسع في الخصب ، وكل مخصب راتع ، قال الشاعر :
فارعى فزارة لا هناك المرتع ... ومنه قول الشاعر :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
والقراءة الثانية مأخوذة من رعي الغنم . وقرأ مجاهد وقتادة : " يرتع ويلعب " بالتحتية فيهما ، ورفع يلعب على الاستئناف ، والضمير ليوسف . وقال القتيبي : معنى { نرتع } نتحارس ونتحافظ ، ويرعى بعضنا بعضاً ، من قولهم : رعاك الله أي : حفظك ، و { نلعب } من اللعب . قيل لأبي عمرو بن العلاء : كيف قالوا ونلعب وهم أنبياء؟ فقال : لم يكونوا يومئذٍ أنبياء ، وقيل : المراد به اللعب المباح من الأنبياء ، وهو مجرّد الانبساط ، وقيل هو اللعب الذي يتعلمون به الحرب ، ويتقوّون به عليه كما في قولهم : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } لا اللعب المحظور الذي هو ضدّ الحق ، ولذلك لم ينكر يعقوب عليهم لما قالوا : ونلعب ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لجابر : «فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك» فأجابهم يعقوب بقوله : { إِنّى لَيَحْزُنُنِى أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } أي : ذهابكم به ، واللام في { لَيَحْزُنُنِى } لام الابتداء للتأكيد ، ولتخصيص المضارع بالحال ، أخبرهم أنه يحزن لغيبة يوسف عنه لفرط محبته له وخوفه عليه ، { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } أي : ومع ذلك أخاف أن يأكله الذئب .

قال يعقوب : هذا تخوّفاً عليه منهم ، فكنى عن ذلك بالذئب . وقيل : إنه خاف أن يأكله الذئب حقيقة؛ لأن ذلك المكان كان كثير الذئاب ، ولو خاف منهم عليه أن يقتلوه لأرسل معهم من يحفظه . قال ثعلب : والذئب مأخوذ من تذأبت الريح إذا هاجت من كل وجه ، قال : والذئب مهموز؛ لأنه يجيء من كل وجه . وقد قرأ ابن كثير ونافع في رواية عنه بالهمز على الأصل ، وكذلك أبو عمرو في رواية عنه وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة . وقرأ الباقون بالتخفيف . { وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافلون } لاشتغالكم بالرتع واللعب ، أو لكونهم غير مهتمين بحفظه . { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } اللام هي الموطئة للقسم . والمعنى : والله لئن أكله الذئب ، والحال : إن نحن عصبة أي جماعة كثيرة عشرة { إِنَّا إِذَا لخاسرون } أي : إننا في ذلك الوقت ، وهو أكل الذئب له { لخاسرون } هالكون ضعفاً وعجزاً ، أو مستحقون للهلاك لعدم الاعتداد بنا ، وانتفاء القدرة على أيسر شيء وأقله ، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسارة والدّمار . وقيل : { لخاسرون } لجاهلون حقه ، وهذه الجملة جواب القسم المقدّر في الجملة التي قبلها .
{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } من عند يعقوب { وَأَجْمَعُواْ } أمرهم { أَن يَجْعَلُوهُ فِى غَيَابَةِ الجب } قد تقدّم تفسير الغيابة والجب قريباً ، وجواب « لما » محذوف لظهوره ودلالة المقام عليه ، والتقدير : فعلوا به ما فعلوا ، وقيل : جوابه { قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } وقيل : الجواب المقدّر جعلوه فيها . وقيل : الجواب : { أوحينا } والواو مقحمة ، ومثله قوله تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وناديناه } [ الصافات : 103 - 104 ] أي : ناديناه { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } أي : إلى يوسف تيسيراً له وتأنيساً لوحشته مع كونه صغيراً اجتمع على إنزال الضرر به عشرة رجال من إخوته ، بقلوب غليظة فقد نزعت عنها الرحمة وسلبت منها الرأفة ، فإن الطبع البشري ، - دع عنك الدين - يتجاوز عن ذنب الصغير ، ويغتفره لضعفه عن الدفع ، وعجزه عن أيسر شيء يراد منه ، فكيف بصغير لا ذنب له ، بل كيف بصغير هو أخ وله ولهم أب مثل يعقوب ، فلقد أبعد من قال إنهم كانوا أنبياء في ذلك الوقت ، فما هكذا عمل الأنبياء ولا فعل الصالحين ، وفي هذا دليل على أنه يجوز أن يوحي الله إلى من كان صغيراً ويعطيه النبوّة حينئذٍ ، كما وقع في عيسى ويحيى بن زكريا ، وقد قيل : إنه كان في ذلك الوقت قد بلغ مبالغ الرجال ، وهو بعيد جدّاً ، فإن من كان قد بلغ مبالغ الرجال لا يخاف عليه أن يأكله الذئب . { لَتُنَبّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا } أي : لتخبرنّ إخوتك بأمرهم هذا الذي فعلوه معك بعد خلوصك مما أرادوه بك من الكيد ، وأنزلوه عليك من الضرر ، وجملة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال ، أي : لا يشعرون بأنك أخوهم يوسف لاعتقادهم هلاكك بإلقائهم لك في غيابة الجبّ ، ولبعد عهدهم بك ، ولكونك قد صرت عند ذلك في حال غير ما كنت عليه وخلاف ما عهدوه منك ، وسيأتي ما قاله لهم عند دخولهم عليه بعد أن صار إليه ملك مصر .

قوله : { وَجَاءوا أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ } { عشاء } منتصب على الظرفية ، وهو آخر النهار . وقيل : في الليل ، و { يبكون } في محل نصب على الحال أي : باكين أو متباكين لأنهم لم يبكوا حقيقة ، بل فعلوا فعل من يبكي ترويجاً لكذبهم وتنفيقاً لمكرهم وغدرهم . فلما وصلوا إلى أبيهم { قَالُواْ يأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي : نتسابق في العدو أو في الرمي . وقيل : ننتضل ، ويؤيده قراءة ابن مسعود « ننتضل » ، . قال الزجاج : وهو نوع من المسابقة . وقال الأزهري : النضال في السهام ، والرهان في الخيل ، والمسابقة تجمعهما . قال القشيري : نستبق ، أي : في الرمي أو على الفرس أو على الأقدام . والغرض من المسابقة التدرّب بذلك في القتال { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ متاعنا } أي : عند ثيابنا ليحرسها { فَأَكَلَهُ الذئب } الفاء للتعقيب أي ، أكله عقب ذلك . وقد اعتذروا عليه بما خافه سابقاً عليه ، وربّ كلمة تقول لصاحبها دعني . { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } بمصدّق لنا في هذا العذر الذي أبدينا ، والكلمة التي قلناها { وَلَوْ كُنَّا } عندك أو في الواقع { صادقين } لما قد علق بقلبك من التهمة لنا في ذلك مع شدة محبتك له . قال الزجاج : والمعنى ولو كنا عندك من أهل الثقة والصدق ما صدّقتنا في هذه القضية لشدّة محبتك ليوسف ، وكذا ذكره ابن جرير وغيره .
{ وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } { على قميصه } في محل نصب على الظرفية ، أي جاءوا فوق قميصه بدم ، ووصف الدم بأنه كذب مبالغة كما هو معروف في وصف اسم العين باسم المعنى . وقيل المعنى : بدم ذي كذب أو بدم مكذوب فيه . وقرأ الحسن وعائشة ( بدم كدب ) بالدال المهملة أي : بدم طريّ . يقال للدم الطريّ : كدب . وقال الشعبي : إنه المتغير ، والكذب أيضاً البياض الذي يخرج في أظفار الأحداث ، فيجوز أن يكون شبه الدم في القميص بالبياض الذي يخرج في الظفر من جهة اللونين . وقد استدّل يعقوب على كذبهم بصحة القميص ، وقال لهم : متى كان هذا الذئب حكيماً يأكل يوسف ولا يخرق القميص؟
ثم ذكر الله سبحانه ما أجاب به يعقوب عليهم فقال : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } أي : زينت وسهلت . قال النيسابوري : التسويل تقرير في معنى النفس مع الطمع في تمامه ، وهو تفعيل من السول وهو الأمنية . قال الأزهري : وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال الزجاج : أي : فشأني أو الذي أعتقده صبر جميل .

وقال قطرب : أي : فصبري صبر جميل . وقيل : فصبر جميل أولى بي ، قيل : والصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه . قال الزجاج : قرأ عيسى بن عمر فيما زعم سهل بن يوسف ( فصبراً جميلاً ) قال : وكذا في مصحف أنس . قال المبرد : { فصبر جميل } بالرفع أولى من النصب . لأن المعنى : قال ربّ عندي صبر جميل ، وإنما النصب على المصدر أي : فلأصبرنّ صبراً جميلاً . قال الشاعر :
شكا إليّ جملي طول السرى ... صبراً جميلاً فكلانا مبتلى
{ والله المستعان } أي : المطلوب منه العون { على مَا تَصِفُونَ } أي : على إظهار حال ما تصفون ، أو على احتمال ما تصفون ، وهذا منه عليه السلام إنشاء لا إخبار .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً نرتع وَنَلْعَبُ } قال : نسعى وننشط ونلهو . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والسلفي في الطيوريات عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تلقنوا الناس فيكذبوا ، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس ، فلما لقنهم أبوهم كذبوا ، فقالوا : أكله الذئب » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } قال : أوحي إلى يوسف وهو في الجبّ لتنبئن إخوتك بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي . وأخرج هؤلاء عن قتادة قال : أوحى الله إليه وحياً وهو في الجبّ أن سينبئهم بما صنعوا { وهم } أي : إخوته { لا يشعرون } بذلك الوحي ، فهوّن ذلك الوحي عليه ما صنع به . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } قال : لم يعلموا بوحي الله إليه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون جيء بالصواع فوضعه على يده ، ثم نقره فطنّ ، فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجبّ ، فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كذب ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم ، فقال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية نزلت إلاّ في ذلك { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي بكر بن عياش قال : كان يوسف في الجبّ ثلاثة أيام . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } قال : بمصدّق لنا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال : كان دم سخلة . وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس { وَجَاءوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال : لما أتي يعقوب بقميص يوسف فلم ير فيه خرقاً قال : كذبتم لو كان كما تقولون أكله الذئب لخرق القميص .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } يقول : بل زينت لكم أنفسكم أمراً { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } أي : على ما تكذبون . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الصبر ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن حبان بن أبي حبلة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال : « لا شكوى فيه ، من بثّ لم يصبر » وهو من طريق هشيم عن عبد الرحمن ، عن حبان بن أبي حبلة ، وهو مرسل . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } قال : ليس فيه جزع .

وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)

هذا شروع في حكاية خلاص يوسف ، وما كان بعد ذلك من خبره ، وقد تقدم تفسير السيارة ، والمراد بها هنا : رفقة مارة تسير من الشام إلى مصر ، فأخطؤا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريباً من الجبّ ، وكان في قفرة بعيدة من العمران . والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك بن ذعر من العرب العاربة { فأدلى دَلْوَهُ } أي : أرسله ، يقال : أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها ، ودلاها : إذا أخرجها ، قاله الأصمعي وغيره . فتعلق يوسف بالحبل ، فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد فقال « يا بشراي » هكذا قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة ، وأهل الشام بإضافة البشرى إلى الضمير . وقرأ أهل الكوفة { يا بشرى } غير مضاف ، ومعنى مناداته للبشرى : أنه أراد حضورها في ذلك الوقت ، فكأنه قال : هذا وقت مجيئك وأوان حضورك . وقيل : إنه نادى رجلاً اسمه بشرى . والأوّل أولى . قال النحاس : والمعنى من نداء البشرى للتبشير لمن حضر ، وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجبا أي : يا عجب هذا من أيامك فاحضر . قال : وهذا مذهب سيبويه { وَأَسَرُّوهُ } أي : أسرّ الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف فلم يظهروه لهم . وقيل : إنهم لم يخفوه ، بل أخفوا وجدانهم له في الجبّ ، وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر . وقيل : ضمير الفاعل في { أسرّوه } لإخوة يوسف ، وضمير المفعول ليوسف ، وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام ، فأتاه يوم خروجه من البئر فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلام أبق منا فاشتروه منهم ، وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه ، والأوّل أولى . وانتصاب { بضاعة } على الحال : أي أخفوه حال كونه بضاعة أي : متاعاً للتجارة ، والبضاعة : ما يبضع من المال ، أي : يقطع منه ، لأنها قطعة من المال الذي يتجر به ، قيل : قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه ، وفي قوله : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } وعيد شديد لمن كان فعله سبباً لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه ، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم : يوسف بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم ، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في وصفه بذلك .
قوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دراهم مَعْدُودَةٍ } يقال : شراه بمعنى اشتراه ، وشراه بمعنى باعه . قال الشاعر :
وشريت برداً ليتني ... من بعد برد كنت هامه
أي : بعته .
وقال آخر :
فلما شراها فاضت العين عبرة ... أي اشتراها .
والمراد هنا : وباعوه ، أي : باعه الوارد وأصحابه { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } أي : ناقص ، أو زائف ، وقيل : يعود إلى إخوة يوسف على القول السابق ، وقيل : عائد إلى الرفقة ، والمعنى : اشتروه .

وقيل : بخس ظلم ، وقيل : حرام . قيل : باعوه بعشرين درهماً ، وقيل : بأربعين ، و { دراهم } بدل من ثمن أي : دنانير ، و { معدودة } وصف لدراهم ، وفيه إشارة إلى أنها قليلة تعدّ ولا توزن؛ لأنهم كانوا لا يزنون ما دون أوقية وهي أربعون درهماً ، { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } يقال : زهدت وزهدت بفتح الهاء وكسرها . قال سيبويه والكسائي : قال أهل اللغة : يقال : زهد فيه أي رغب عنه ، وزهد عنه أي : رغب فيه . والمعنى : أنهم كانوا فيه من الراغبين عنه الذين لا يبالون به ، فلذلك باعوه بذلك الثمن البخس؛ وذلك لأنهم التقطوه ، والملتقط للشيء متهاون به ، والضمير من { كانوا } يرجع إلى ما قبله على حسب اختلاف الأقوال فيه .
{ وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ } هو العزيز الذي كان على خزائن مصر ، وكان وزيراً لملك مصر ، وهو الريان بن الوليد من العمالقة . وقيل : إن الملك هو فرعون موسى ، قيل : اشتراه بعشرين ديناراً ، وقيل : تزايدوا في ثمنه فبلغ أضعاف وزنه مسكاً وعنبراً وحريراً وورقاً وذهباً ولآلىء وجواهر ، فلما اشتراه العزيز قال : { لاِمْرَأَتِهِ } واللام متعلقة ب { اشتراه } ، { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } أي : منزله الذي يثوى فيه بالطعام الطيب واللباس الحسن . يقال : ثوى بالمكان أي : أقام به { عسى أَن يَنفَعَنَا } أي : يكفينا بعض المهمات مما نحتاج إلى مثله فيه { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا } أي : نتبناه فنجعله ولداً لنا . قيل : كان العزيز حصوراً لا يولد له ، وقيل : كان لا يأتي النساء ، وقد كان تفرّس فيه أنه ينوب عنه فيما إليه من أمر المملكة .
قوله : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } الكاف في محل نصب على أنه نعت مصدر محذوف ، والإشارة إلى ما تقدّم من إنجائه من إخوته وإخراجه من الجبّ ، وعطف قلب العزيز عليه أي : مثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف حتى صار متمكناً من الأمر والنهي ، يقال : مكنه فيه أي أثبته فيه ، ومكن له فيه أي : جعل له فيه مكاناً ، ولتقارب المعنيين يستعمل كل واحد منهما مكان الآخر .
قوله : { وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } هو علة لمعلل محذوف كأنه قيل : فعلنا ذلك التمكين لنعلمه من تأويل الأحاديث ، أو كان ذلك الإنجاء لهذه العلة ، أو معطوف على مقدّر ، وهو أن يقال : مكنا ليوسف ليترتب على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز ، { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } ؛ ومعنى تأويل الأحاديث : تأويل الرؤيا ، فإنها كانت من الأسباب التي بلغ بها ما بلغ من التمكن ، وقيل : معنى تأويل الأحاديث فهم أسرار الكتب الإلهية وسنن من قبله من الأنبياء ، ولا مانع من حمل ذلك على الجميع .
{ والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } أي : على أمر نفسه لا يمتنع منه شيء ، ولا يغالبه عليه غيره من مخلوقاته

{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ ياس : 82 ] . ومن جملة ما يدخل تحت هذا العام كما يفيد ذلك إضافة اسم الجنس إلى الضمير ، ما يتعلق بيوسف عليه السلام من الأمور التي أرادها الله سبحانه في شأنه . وقيل : معنى { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } أنه كان من أمر يعقوب أن لا يقصّ رؤيا يوسف على إخوته ، فغلب أمر الله سبحانه حتى قصت عليهم حتى وقع منهم ما وقع ، وهذا بعيد جدّاً { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي : لا يطلعون على غيب الله وما في طيه من الأسرار العظيمة والحكم النافعة ، وقيل : المراد بالأكثر : الجميع؛ لأنه لا يعلم الغيب إلاّ الله . وقيل إن الله سبحانه قد يطلع بعض عبيده على بعض غيبه ، كما في قوله : { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26 - 27 ] . وقيل : المعنى ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن الله غالب على أمره ، وهم المشركون ومن لا يؤمن بالقدر .
قوله : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } الأشدّ . قال سيبويه : جمع واحدة شدّة ، وقال الكسائي : واحده شدّ . وقال أبو عبيد : إنه لا واحد له من لفظه عند العرب ، ويردّه قول الشاعر :
عَهدي به شدَّ النهارِ كأنما ... خُضِبَ البنانَ ورأسه بالعظْلم
والأشدّ : هو وقت استكمال القوة ، ثم يكون بعده النقصان . قيل : هو ثلاث وثلاثون سنة ، وقيل بلوغ الحلم ، وقيل : ثماني عشرة سنة ، وقيل غير ذلك مما قد قدمنا بيانه في النساء والأنعام . والحكم : هو ما كان يقع منه من الأحكام في سلطان ملك مصر ، والعلم : هو العلم بالحكم الذي كان يحكمه؛ وقيل : العقل والفهم والنبوّة؛ وقيل : الحكم هو النبوّة ، والعلم : هو العلم بالدين . وقيل : علم الرؤيا ، ومن قال : إنه أوتي النبوة صبياً قال : المراد بهذا الحكم والعلم الذي آتاه الله هو الزيادة فيهما . { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } أي : ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي المحسنين ، فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه . وجعل عاقبة الخير من جملة ما يجزيه به . وهذا عام يدخل تحته جزاء يوسف على صبره الحسن دخولاً أولياً . قال الطبري : هذا وإن كان مخرجه ظاهراً على كل محسن فالمراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى كما فعل هذا بيوسف ثم أعطيته ما أعطيته كذلك أنجيك من مشركي قومك الذين يقصدونك بالعداوة ، وأمكن لك في الأرض . والأولى ما ذكرناه من حمل العموم على ظاهره فيدخل تحته ما ذكره ابن جرير الطبري .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ } قال : جاءت سيارة فنزلت على الجبّ { فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } فاستسقى الماء فاستخرج يوسف ، فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاماً لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه ، فزهدوا فيه فباعوه ، وكان بيعه حراماً ، وباعوه بدراهم معدودة .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة { فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } يقول : فأرسلوا رسولهم { فأدلى دَلْوَهُ } فنشب الغلام بالدلو ، فلما خرج { قَالَ هذا غُلاَمٌ } تباشروا به حين استخرجوه ، وهي بئر ببيت المقدس معلوم مكانها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن السدّي في قوله : { يا بشراي } قال : كان اسم صاحبه بشرى كما تقول : يا زيد ، وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلاّ على قراءة من قرأ { يا بشرى } بدون إضافة . وأخرج أبو الشيخ عن الشعبي نحوه .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَأَسَرُّوهُ بضاعة } يعني : إخوة يوسف أسرّوا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم ، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن مجاهد قال : أسرّه التجار بعضهم من بعض . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه { وَأَسَرُّوهُ بضاعة } قال : صاحب الدلو ومن معه ، قالوا لأصحابهم : إنا استبضعناه خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا به ، واتبعهم إخوته يقولون للمدلى وأصحابه : استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوا بمصر ، فقال : من يبتاعني ويبشر ، فابتاعه الملك والملك مسلم .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : { وَشَرَوْهُ } قال : إخوة يوسف باعوه حين أخرجه المدلي دلوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : بيع بينهم بثمن بخس ، قال : حرام لم يحلّ لهم بيعه ، ولا أكل ثمنه . وأخرج ابن جرير عن قتادة { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } قال : هم السيارة . وأخرج أبو الشيخ عن عليّ بن أبي طالب أنه قضى في اللقيط أنه حرّ ، وقرأ { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : البخس القليل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن الشعبي مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : إنما اشتري يوسف بعشرين درهماً ، وكان أهله حين أرسل إليهم بمصر ثلاثمائة وتسعين إنساناً : رجالهم أنبياء ، ونساؤهم صدّيقات ، والله ما خرجوا مع موسى حتى بلغوا ستمائة ألف وسبعين ألفاً . وقد روي في مقدار ثمن يوسف غير هذا المقدار مما لا حاجة إلى التطويل بذكره .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَالَ الذى اشتراه مِن مّصْرَ } قال : كان اسمه قطفير . وأخرج أبو الشيخ عن شعيب الجبائي : أن اسم امرأة العزيز زليخا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال : الذي اشتراه أطيفير بن روحب ، وكان اسم امرأته راعيل بنت رعاييل .

وأخرج ابن جرير ، وابن إسحاق ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : اسم الذي باعه من العزيز مالك بن زعر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } قال : منزلته . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف ، فقال لامرأته : { أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } ، والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها : { يا أبت استأجره } [ القصص : 26 ] ، وأبو بكر حين استخلف عمر .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } قال : عبارة الرؤيا . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } قال : ثلاثاً وثلاثين سنة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : أربعين سنة . وأخرج عن عكرمة قال : خمسا وعشرين سنة . وأخرج عن السدّي قال : ثلاثين سنة . وأخرج عن سعيد بن جبير قال : ثماني عشرة سنة . وأخرج عن ربيعة قال : الحلم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الشعبي نحوه . وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : عشرين سنة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { اتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } قال : هو الفقه والعلم والعقل قبل النبوّة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين } قال : المهتدين .

وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)

المراودة : الإرادة والطلب برفق ولين وقيل : هي مأخوذة من الرود أي : الرفق والتأني ، يقال أرودني : أمهلني . وقيل : المراودة مأخوذة من راد يرود إذا جاء وذهب . كأن المعنى : أنها فعلت في مراودتها له فعل المخادع ، ومنه الرائد لمن يطلب الماء والكلأ ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها ، وراودته هي عن نفسه : إذا حاول كل واحد منهما الوطء والجماع ، وهي مفاعلة ، وأصلها أن تكون من الجانبين ، فجعل السبب هنا في أحد الجانبين قائماً مقام المسبب ، فكأن يوسف عليه السلام لما كان ما أعطيه من كمال الخلق والزيادة في الحسن سبباً لمراودة امرأة العزيز له مراود . وإنما قال : { التى هُوَ فِى بَيْتِهَا } ولم يقل : امرأة العزيز ، وزليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان التصريح باسم المرأة والمحافظة على الستر عليها { وَغَلَّقَتِ الأبواب } قيل : في هذه الصيغة ما يدلّ على التكثير ، فيقال : غلق الأبواب ، ولا يقال : غلق الباب ، بل يقال : أغلق الباب ، وقد يقال : أغلق الأبواب ، ومنه قول الفرزدق في أبي عمرو بن العلاء :
ما زلت أغلق أبواباً وأفتحها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
قيل : وكانت الأبواب سبعة .
قوله : { هَيْتَ لَكَ } . قرأ أبو عمرو ، وعاصم ، والكسائي ، وحمزة ، والأعمش بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء ، وبها قرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، وعكرمة . قال ابن مسعود : لا تنطعوا في القراءة ، فإنما هو مثل قول أحدكم : هلمّ وتعال ، وقرأ ابن أبي إسحاق النحوي بفتح الهاء وكسر التاء . وقرأ عبد الرحمن السلمي وابن كثير " هيت " بفتح الهاء وضم التاء ، ومنه قول طرفة :
كيْسَ قومي بالأبعدين إذا ما ... قال داع من العشيرة هَيتُ
وقرأ أبو جعفر ونافع بكسر الهاء وسكون الياء وفتح التاء . وقرأ عليّ وابن عباس في رواية عنه وهشام بكسر الهاء وبعدها همزة ساكنة وضم التاء . وقرأ ابن عامر وأهل الشام بكسر الهاء وبالهمزة وفتح التاء . ومعنى «هيت» على جميع القراءات معنى هلمّ وتعال؛ لأنها من أسماء الأفعال إلاّ في قراءة من قرأ بكسر الهاء بعدها همزة وتاء مضمومة . فإنها بمعنى : تهيأت لك . وأنكر أبو عمرو هذه القراءة . وقال أبو عبيدة : سئل أبو عمرو عن قراءة من قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء فقال : باطل جعلها بمعنى تهيأت ، اذهب فاستعرض العرب حتى تنتهي إلى اليمن ، هل تعرف أحداً يقول هكذا؟ وأنكرها أيضاً الكسائي . وقال النحاس : هي جيدة عند البصريين؛ لأنه يقال : هاء الرجل يهاء ويهيء هيئة ، ورجح الزجاج القراءة الأولى ، وأنشد بيت طرفة المذكور هيتا بالفتح ، ومنه قول الشاعر في عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه :

أبلغ أمير المؤمنين ... أخا العراق إذا أتيتا
أن العراق وأهله ... سلم إليك فهيت هيتا
وتكون اللام في { لَكَ } على القراءات الأولى التي هي فيها بمعنى اسم الفعل للبيان ، أي : لك . أقول هذا كما في هلمّ لك . قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاث : فالفتح للخفة ، والكسر لالتقاء الساكنين ، والضم تشبيهاً بحيث ، وإذا بين باللام نحو : { هيت لك } فهو صوت قائم مقام المصدر كأف له ، أي : لك أقول هذا ، وإن لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر الفعل فيكون اسم فعل ، إما خبر أي : تهيأت ، وإما أمر أي : أقبل . وقال في الصحاح : يقال : هوّت به وهيت به إذا صاح به ودعاه ، ومنه قول الشاعر :
يحدو بها كل فتى هيات ... وقد روي عن ابن عباس والحسن أنها كلمة سريانية معناها أنها تدعوه إلى نفسها . قال أبو عبيدة : كان الكسائي يقول : هي لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز معناها تعال . قال أبو عبيدة : فسألت شيخاً عالماً من حوران فذكر أنها لغتهم . { قَالَ مَعَاذَ الله } أي : أعوذ بالله معاذاً مما دعوتني إليه ، فهو مصدر منتصب بفعل محذوف مضاف إلى اسم الله سبحانه ، وجملة { إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } تعليل للامتناع الكائن منه ببعض الأسباب التي هي أقرب إلى فهم امرأة العزيز ، والضمير للشأن أي : إن الشأن ربي ، يعني : العزيز أي سيدي الذي رباني وأحسن مثواي حيث أمرك بقوله : { أَكْرِمِى مَثْوَاهُ } ، فكيف أخونه في أهله وأجيبك إلى ما تريدين من ذلك؟ وقال الزجاج : إن الضمير لله سبحانه أي : إن الله ربي تولاني بلطفه فلا أركب ما حرّمه ، وجملة { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } تعليل آخر للامتناع منه عن إجابتها ، والفلاح : الظفر . والمعنى : أنه لا يظفر الظالمون بمطالبهم ، ومن جملة الظالمين الواقعون في مثل هذه المعصية التي تطلبها امرأة العزيز من يوسف .
قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } يقال : همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه . والمعنى : أنه همّ بمخالطتها كما همت بمخالطته ومال كل واحد منهما إلى الآخر بمقتضى الطبيعة البشرية والجبلة الخلقية ، ولم يكن من يوسف عليه السلام القصد إلى ذلك اختياراً كما يفيده ما تقدّم من استعاذته بالله ، وإن ذلك نوع من الظلم . ولما كان الأنبياء معصومين عن الهمّ بالمعصية والقصد إليها شطح أهل العلم في تفسير هذه الآية بما فيه نوع تكلف ، فمن ذلك ما قاله أبو حاتم قال : كنت أقرأ على أبي عبيدة غريب القرآن ، فلما أتيت على { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } قال : هذا على التقديم والتأخير : كأنه قال : ولقد همت به
ولولا أن رأى برهان ربه لهمّ بها . وقال أحمد بن يحيى ثعلب : أي همت زليخا بالمعصية وكانت مصرّة ، وهمّ يوسف ولم يوقع ما همّ به ، فبين الهمين فرق ، ومن هذا قول الشاعر :

هممت بهم من ثنية لؤلؤ ... شفيت غليلات الهوى من فؤاديا
فهذا إنما هو حديث نفس من غير عزم ، وقيل همّ بها بمعنى تمنى أن يتزوّجها . وقد ذهب جمهور المفسرين من السلف والخلف إلى ما قدّمنا من حمل اللفظ على معناه اللغوي ، ويدل على هذا ما سيأتي من قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } [ يوسف : 52 ] ، وقوله : { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء } [ يوسف : 53 ] ومجرد الهمّ لا ينافي العصمة ، فإنها قد وقعت العصمة عن الوقوع في المعصية ، وذلك المطلوب ، وجواب « لو » في { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } محذوف : أي لولا أن رأى برهان ربه لفعل ما همّ به .
واختلف في هذا البرهان الذي رآه ما هو؟ فقيل : إن زليخا قامت عند أن همت به وهمّ بها إلى صنم لها في زاوية البيت فسترته بثوب فقال : ما تصنعين؟ قالت : أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه الصورة ، فقال يوسف : أنا أولى أن أستحي من الله تعالى . وقيل : إنه رأى في سقف البيت مكتوباً { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء : 32 ] . وقيل : رأى كفاً مكتوباً عليها { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين } [ الانفطار : 10 ] وقيل إن البرهان هو تذكره عهد الله وميثاقه وما أخذه على عباده . وقيل : نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟ وقيل : رأى صورة يعقوب على الجدار عاضاً على أنملته يتوعده ، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره . والحاصل أنه رأى شيئاً حال بينه وبين ما همّ به .
قوله : { كذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء والفحشاء } الكاف نعت مصدر محذوف ، والإشارة بذلك إلى الإراءة المدلول عليها بقوله : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك أي : مثل تلك الإراءة أريناه ، أو مثل ذلك التثبيت ثبتناه . { لِنَصْرِفَ عَنْهُ السوء } أي : كل ما يسوؤه ، والفحشاء كل أمر مفرط القبح . وقيل : السوء الخيانة للعزيز في أهله ، والفحشاء : الزنا؛ وقيل : السوء الشهوة ، والفحشاء : المباشرة؛ وقيل : السوء الثناء القبيح . والأولى الحمل على العموم فيدخل فيه ما يدل عليه السياق دخولاً أولياً ، وجملة { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } تعليل لما قبله . قرأ ابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو « المخلصين » بكسر اللام ، وقرأ الآخرون بفتحها . والمعنى على القراءة الأولى : أن يوسف عليه السلام كان ممن أخلص طاعته لله ، وعلى الثانية أنه كان ممن استخلصه الله للرسالة ، وقد كان عليه السلام مخلصاً مستخلصاً .
{ واستبقا الباب } أي : تسابقا إليه ، فحذف حرف الجرّ وأوصل الفعل بالمفعول ، أو ضمن الفعل معنى فعل آخر يتعدّى بنفسه كابتدرا الباب ، وهذا الكلام متصل بقوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } وما بينهما اعتراض .

ووجه تسابقهما أن يوسف يريد الفرار والخروج من الباب ، وامرأة العزيز تريد أن تسبقه إليه لتمنعه ، ووحد الباب هنا وجمعه فيما تقدّم ، لأن تسابقهما كان إلى الباب الذي يخلص منه إلى خارج الدار { وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } أي : جذبت قميصه من ورائه فانشق إلى أسفله ، والقدّ : القطع ، وأكثر ما يستعمل فيما كان طولاً ، والقط بالطاء يستعمل فيما كان عرضاً ، وقع منها ذلك عند أن فرّ يوسف لما رأى برهان ربه ، فأرادت أن تمنعه من الخروج بجذبها لقميصه { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لدى الباب } أي : وجدا العزيز هنالك ، وعني بالسيد : الزوج لأن القبط يسمون الزوج سيداً ، وإنما لم يقل : سيدهما ، لأن ملكه ليوسف لم يكن صحيحاً فلم يكن سيداً له .
وجملة { قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فما كان منهما عند أن ألفيا سيدها لدى الباب ، و « ما » استفهامية ، والمراد بالسوء هنا الزنا . قالت هذه المقالة طلباً منها للحيلة وللستر على نفسها ، فنسبت ما كان منها إلى يوسف أيّ : جزاء يستحقه من فعل مثل هذا ، ثم أجابت عن استفهامها بقولها : { إِلا أَن يُسْجَنَ } أي : ما جزاؤه إلاّ أن يسجن ، ويحتمل أن تكون « ما » نافية أي : ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم . قيل : والعذاب الأليم هو الضرب بالسياط ، والظاهر أنه ما يصدق عليه العذاب الأليم من ضرب أو غيره ، وفي الإبهام للعذاب زيادة تهويل .
وجملة { قَالَ هِىَ رَاوَدَتْنِى عَن نَّفْسِى } مستأنفة كالجملة الأولى . وقد تقدّم بيان معنى المراودة أي : هي التي طلبت مني ذلك ولم أرد بها سوءاً { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } أي : من قرابتها ، وسمي الحكم بينهما شهادة لما يحتاج فيه من التثبت والتأمل ، قيل : لما التبس الأمر على العزيز احتاج إلى حاكم يحكم بينهما ليتبين له الصادق من الكاذب . قيل : كان ابن عمّ لها واقفاً مع العزيز في الباب . وقيل : ابن خال لها . وقيل : إنه طفل في المهد تكلم . قال السهيلي : وهو الصحيح للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر من تكلم في المهد ، وذكر من جملتهم شاهد يوسف . وقيل : إنه رجل حكيم كان العزيز يستشيره في أموره ، وكان من قرابة المرأة { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } أي : فقال الشاهد هذه المقالة مستدلاً على بيان صدق الصادق منهما ، وكذب الكاذب ، بأن قميص يوسف إن كان مقطوعاً من قبل : أي من جهة القبل { فَصَدَقَتْ } أي : فقد صدقت بأنه أراد بها سوءاً { وَهُوَ مِنَ الكاذبين } في قوله إنها راودته عن نفسه . وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق « من قبل » بضم اللام ، وكذا قرأ « من دبر » قال الزجاج : جعلاهما غايتين كقبل وبعد كأنه قيل : من قبله ومن دبره ، فلما حذف المضاف إليه : وهو مراد صار المضاف غاية بعد أن كان المضاف إليه هو الغاية .

{ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } أي : من ورائه { فَكَذَّبْتَ } في دعواها عليه { وَهُوَ مِن الصادقين } في دعواه عليها ، ولا يخفى أن هاتين الجملتين الشرطيتين لا تلازم بين مقدّميهما وتالييهما ، لا عقلاً ولا عادة ، وليس ها هنا إلاّ مجرد أمارة غير مطردة ، إذ من الجائز أن تجذبه إليها وهو مقبل عليها فينقدّ القميص من دبر ، وأن تجذبه وهو مدبر عنها فينقدّ القميص من قبل .
{ فَلَماَّ رَأَى } أي : العزيز { قَمِيصِهِ } أي : قميص يوسف { قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ } أي : هذا الأمر الذي وقع فيه الاختلاف بينكما ، أو أن قولك : { مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءا } { مِن كَيْدِكُنَّ } أي : من جنس كيدكنّ يا معشر النساء { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } والكيد : المكر والحيلة .
ثم خاطب العزيز يوسف عليه السلام بقوله : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا } أي : عن هذا الأمر الذي جرى واكتمه ولا تتحدّث به ، ثم أقبل عليها بالخطاب فقال : { واستغفرى لِذَنبِكِ } الذي وقع منك { إِنَّكَ كُنتَ } بسبب ذلك { مِنَ الخاطئين } أي : من جنسهم ، والجملة تعليل لما قبلها من الأمر بالاستغفار ولم يقل من الخاطئات تغليباً للمذكر على المؤنث كما في قوله : { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] ومعنى { من الخاطئين } من المتعمدين ، يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً ، وقيل : إن القائل ليوسف ولامرأة العزيز بهذه المقالة هو الشاهد الذي حكم بينهما .
وقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وَرَاوَدَتْهُ التى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } قال : هي امرأة العزيز . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : راودته حين بلغ مبلغ الرجال . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { هَيْتَ لَكَ } قال : هلمّ لك تدعوه إلى نفسها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : هلم لك بالقبطية ، وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : هي كلمة بالسريانية أي : عليك . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : معناها تعال . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد : إنها لغة عربية تدعوه بها إلى نفسها . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قرأ : ( هئت لك ) مكسورة الهاء مضمومة التاء مهموزة ، قال : تهيأت لك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إِنَّهُ رَبّى } قال : سيدي ، قال : يعني زوج المرأة .

وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : لما همت به تزينت ثم استلقت على فراشها ، { وهمّ بها } جلس بين رجليها يحلّ ثيابه ، فنودي من السماء يا ابن يعقوب لا تكن كطائر نتف ريشه ، فبقي لا ريش له ، فلم يتعظ على النداء شيئاً حتى رأى برهان ربه جبريل في صورة يعقوب ، عاضاً على أصبعه ، ففزع فخرجت شهوته من أنامله ، فوثب إلى الباب فوجده مغلقاً ، فرفع يوسف رجله فضرب بها الباب الأدنى فانفرج له ، واتبعته فأدركته ، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه ، فألفيا سيدها لدى الباب . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } قال : طمعت فيه وطمع فيها ، وكان فيه من الطمع أن همّ بحل التكة ، فقامت إلى صنم لها مكلل بالدرّ والياقوت في ناحية البيت ، فسترته بثوب أبيض بينها وبينه ، فقال : أيّ شيء تصنعين؟ فقالت : أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوءة ، فقال يوسف : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال : لا تناليها مني أبداً ، وهو البرهان الذي رأى . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ } قال : مثل له يعقوب ، فضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقد أطال المفسرون في تعيين البرهان الذي رآه ، واختلفت أقوالهم في ذلك اختلافاً كثيراً .
وأخرج ابن جرير عن زيد بن ثابت قال : السيد الزوج ، يعني في قوله : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لدى الباب } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد نحوه . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إِلا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قال : القيد .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } قال : صبي أنطقه الله كان في الدار . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي ، في الدلائل عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم » وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهْلِهَا } قال : كان رجلاً ذا لحية . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وأبو الشيخ عنه قال : كان من خاصة الملك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن قال : هو رجل له فهم وعلم . وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : ابن عمّ لها كان حكيماً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد قال : إنه ليس بإنسيّ ولا جنيّ هو خلق من خلق الله . قلت : ولعله لم يستحضر قوله تعالى : { مّنْ أَهْلِهَا } .

وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

يقال : « نُسوة » بضم النون ، وهي قراءة الأعمش ، والمفضل والسُّلَمىّ ، ويقال : { نسوة } بكسر النون ، وهي قراءة الباقين ، والمراد جماعة من النساء ، ويجوز التذكير في الفعل المسند إليهنّ كما يجوز التأنيث . قيل : وهي امرأة ساقي العزيز وامرأة خبازه ، وامرأة صاحب دوابه ، وامرأة صاحب سجنه ، وامرأة حاجبه . والفتى في كلام العرب : الشاب ، والفتاة : الشابة ، والمراد به هنا : غلامها ، يقال : فتاي وفتاتي أي : غلامي وجاريتي ، وجملة { قَدْ شَغَفَهَا حُبّا } في محل رفع على أنها خبر ثانٍ للمبتدأ ، أو في محل نصب على الحال ، ومعنى { شغفها حباً } : غلبها حبه ، وقيل : دخل حبه في شغافها . قال أبو عبيدة : وشغاف القلب غلافه وهو جلدة عليه . وقيل : هو وسط القلب ، وعلى هذا يكون المعنى : دخل حبه إلى شغافها فغلب عليه ، وأنشد الأصمعي قول الراجز :
يتبعها وهي له شغاف ... وقرأ جعفر بن محمد ، وابن محيصن ، والحسن « شعفها » بالعين المهملة . قال ابن الأعرابي : معناه أجرى حبه عليها . وقرأ غيرهم بالمعجمة . قال الجوهري : شغفه الحبّ : أحرق قلبه . وقال أبو زيد : أمرضه . قال النحاس : معناه عند أكثر أهل اللغة : قد ذهب بها كل مذهب؛ لأن شغاف الجبال : أعاليها ، وقد شغف بذلك شغفاً بإسكان الغين المعجمة : إذا ولع به ، وأنشد أبو عبيدة بيت امرىء القيس :
أتقتلني وقد شغفت فؤادها ... كما شغف المهنوءَة الرجل الطالي
قال : فشبهت لوعة الحب بذلك . وقرأ الحسن : « قد شغفها » بضم الغين . قال النحاس : وحكي قد شغفها بكسر الغين ، ولا يعرف ذلك في كلام العرب إلاّ شغفها بفتح الغين . ويقال : إن الشغاف الجلدة اللاصقة بالكبد التي لا ترى ، وهي الجلدة البيضاء ، فكأنه لصق حبه بقلبها كلصوق الجلدة بالكبد ، وجملة { إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضلال مُّبِينٍ } مقرّرة لمضمون ما قبلها . والمعنى : إنا لنراها ، أي : نعلمها في فعلها هذا ، وهو المراودة لفتاها في ضلال عن طريق الرشد والصواب المبين : واضح لا يلتبس على من نظر فيه .
{ فَلَمَّا سَمِعَتْ } امرأة العزيز { بِمَكْرِهِنَّ } أي : بغيبتهنّ إياها ، سميت الغيبة مكراً لاشتراكهما في الإخفاء ، وقيل : أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف ، فلهذا سمي قولهنّ مكراً . وقيل : إنها أسرّت عليهنّ فأفشين سرّها فسمي ذلك مكراً ، { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي : تدعوهنّ إليها لينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ } أي : هيأت لهن مجالس يتكئن عليها ، وأعتدت من الاعتداد ، وهو كل ما جعلته عدّة لشيء . وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير { متكأ } مخففاً غير مهموز ، والمتك : هو الأترج بلغة القبط ، ومنه قول الشاعر :
نشرب الإثم بالصواع جهاراً ... وترى المتك بيننا مستعارا
وقيل : إن ذلك هو لغة أزد شنوءة .

وقيل : حكي ذلك عن الأخفش . وقال الفراء : إنه ماء الورد . وقرأ الجمهور { متكأ } بالهمز والتشديد ، وأصح ما قيل فيه : إنه المجلس ، وقيل : هو الطعام ، وقيل : المتكأ : كل ما اتكىء عليه عند طعام أو شراب أو حديث . وحكى القتيبي أنه يقال : اتكأنا عند فلان ، أي : أكلنا ، ومنه قول الشاعر :
فظللنا بنعمةٍ واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله
ويؤيد هذا قوله : { وآتت كل واحدة منهن سكيناً } فإن ذلك إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه ، والسكين تذكر وتؤنث ، قاله الكسائي والفراء . قال الجوهري : والغالب عليه التذكير ، والمراد من إعطائها لكل واحدة سكيناً : أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة ، ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقع منهنّ من تقطيع أيديهنّ وقالت ليوسف { اخرج عَلَيْهِنَّ } أي : في تلك الحالة التي هنّ عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام .
قوله : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي : عظمنه ، وقيل : أمذين ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما رأين الفحل من فوق قلة ... صهلن وأكبرن المنيّ المقطرا
وقيل : حضن . قال الأزهري : « أكبرن » بمعنى حضن ، والهاء للسكت ، يقال : أكبرت المرأة أي : دخلت في الكبر بالحيض ، وقع منهنّ ذلك دهشاً وفزعاً لما شاهدنه من جماله الفائق ، وحسنه الرائق ، ومن ذلك قول الشاعر :
نأتي النساء على أطهارهنّ ولا ... نأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره ، قالوا : ليس ذلك في كلام العرب . قال الزجاج : يقال : أكبرنه ولا يقال : حضنه ، فليس الإكبار بمعنى الحيض . وأجاب الأزهري فقال : يجوز أن تكون هاء الوقف لا هاء الكناية . وقد زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل . وقال ابن الأنباري : إن الهاء كناية عن مصدر الفعل أي : أكبرن إكباراً بمعنى حضن حيضاً { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } أي : جرحنها ، وليس المراد به القطع الذي تبين منه اليد ، بل المراد به : الخدش والحزّ ، وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس ، يقال : قطع يد صاحبه إذا خدشها . وقيل : المراد بأيديهنّ هنا : أناملهنّ ، وقيل : أكمامهنّ . والمعنى : أنه لما خرج يوسف عليهنّ أعظمنه ودهشن ، وراعهنّ حسنه حتى اضطربت أيديهنّ فوقع القطع عليها ، وهنّ في شغل عن ذلك ، بما دهمهنّ ، مما تطيش عنده الأحلام ، وتضطرب له الأبدان ، وتزول به العقول « وقلن حاشا لله » كذا قرأ أبو عمرو بن العلاء بإثبات الألف في حاشا . وقرأ الباقون بحذفها . وقرأ الحسن « حاش لله » بإسكان الشين . وروي عنه أنه قرأ « حاش الإله » . وقرأ ابن مسعود وأبي « حاشا لله » . قال الزجاج : وأصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية ، تقول كنت في حاشية فلان : أي في ناحيته ، فقولك حاشا لزيد من هذا أي : تباعد منه . وقال أبو عليّ : هو من المحاشاة : وقيل : إن حاش حرف ، وحاشا فعل ، وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف ، ومعناها هنا التنزيه ، كما تقول : أسى القوم حاشا زيداً ، فمعنى { حاشا لله } : براءة لله وتنزيه له .

قوله : { مَا هذا بَشَرًا } إعمال « ما » عمل ليس هي لغة أهل الحجاز ، وبها نزل القرآن كهذه الآية ، وكقوله سبحانه : { مَّا هُنَّ أمهاتهم } [ المجادلة : 2 ] . وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس . وقال الكوفيون : أصله ما هذا ببشر ، فلما حذفت الباء انتصب . قال أحمد بن يحيى ثعلب : إذا قلت ما زيد بمنطلق ، فموضع الباء موضع نصب ، وهكذا سائر حروف الخفض . وأما الخليل ، وسيبويه ، وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس ، وبه قال البصريون والبحث مقرّر في كتب النحو بشواهده وحججه ، وإنما نفين عنه البشرية؛ لأنه قد برز في صورة قد لبست من الجمال البديع ما لم يعهد على أحد من البشر ، ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع الصور البشرية ، ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة لكنه قد تقرّر في الطباع أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذات والصفات ، وأنهم فائقون في كل شيء ، كما تقرّر أن الشياطين على العكس من ذلك ، ومن هذا قول الشاعر :
فلست لإنسيٍّ ولكن لملاكٍ ... تنزل من جوّ السماء يُصوب
وقرأ الحسن « ما هذا بشراء » ، على أن الباء حرف جرّ ، والشين مكسورة : أي ما هذا بعبد يشترى ، وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله : { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } .
واعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم ، فإنهنّ لم يقلنه لدليل ، بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهن وذلك ممنوع ، فإن الله سبحانه يقول : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] . وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته . فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جملة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة ، على أن هذه المسألة أعني : مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر ، فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكليف .
{ قَالَتْ فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ } الإشارة إلى يوسف ، والخطاب للنسوة أي : عيرتنني فيه . قالت لهنّ هذا لما رأت افتتانهنّ بيوسف إظهاراً لعذر نفسها ، ومعنى { فيه } أي : في حبه . وقيل : الإشارة إلى الحب ، والضمير له أيضاً ، والمعنى : فذلك الحب الذي لمتنني فيه هو ذلك الحب ، والأول أولى . ورجحه ابن جرير . وأصل اللوم : الوصف بالقبيح . ثم لما أظهرت عذر نفسها عند النسوة بما شاهدته مما وقعن فيه عند ظهوره لهنّ ضاق صدرها عن كتم ما تجده في قلبها من حبه ، فأقرّت بذلك وصرّحت بما وقع منها من المراودة له ، فقالت : { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم } أي : استعف وامتنع مما أريده طالباً لعصمة نفسه عن ذلك ، ثم توعدته إن لم يفعل ما تريده كاشفة لجلباب الحياء ، هاتكة لستر العفاف ، فقالت : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين } أي : لئن لم يفعل ما قد أمرته به فيما تقدّم ذكره عند أن غلقت الأبواب ، وقالت : هيت لك { ليسجنن } أي : يعتقل في السجن { وليكونن من الصاغرين } الأذلاء لما يناله من الإهانة ، ويسلب عنه من النعمة والعزّة في زعمها ، قرىء « ليكوننّ » بالتثقيل والتخفيف ، قيل : والتخفيف أولى لأن النون كتبت في المصحف ألفاً على حكم الوقف .

وذلك لا يكون إلاّ في الخفيفة ، وأما { ليسجنن } فبالتثقيل لا غير .
فلما سمع يوسف مقالها هذا ، وعرف أنها عزمة منها مع ما قد علمه من نفاذ قولها عند زوجها العزيز قال مناجياً لربه سبحانه : { رَبّ السجن } أي : يا ربّ السجن الذي أوعدتني هذه به { أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ } من مؤاتاتها والوقوع في المعصية العظيمة التي تذهب بخير الدنيا والآخرة . قال الزجاج : أي دخول السجن ، فحذف المضاف . وحكى أبو حاتم أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قرأ « السجن » بفتح السين ، وقرأ كذلك ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن الأعرج ، ويعقوب ، وهو مصدر سجنه سجناً ، وإسناد الدعوة إليهنّ جميعاً ، لأن النسوة رغبنه في مطاوعتها وخوّفنه من مخالفتها ، ثم جرى على هذا في نسبة الكيد إليهن جميعاً؛ فقال : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ } أما الكيد من امرأة العزيز فما قد قصه الله سبحانه في هذه السورة ، وأما كيد سائر النسوة فهو ما تقدّم من الترغيب له في المطاوعة والتخويف من المخالفة . وقيل : إنها كانت كل واحدة تخلو به وحدها وتقول له : يا يوسف اقض لي حاجتي فأنا خير لك من امرأة العزيز ، وقيل : إنه خاطب امرأة العزيز بما يصلح لخطاب جماعة النساء تعظيماً لها ، أو عدولاً عن التصريح إلى التعريض . والكيد : الاحتيال . وجزم { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } على أنه جواب الشرط أي : أمل إليهنّ ، من صبا يصبو : إذا مال واشتاق ، ومنه قول الشاعر :
إلى هند صبا قلبي ... وهند حبها يصبي
{ وَأَكُن مّنَ الجاهلين } معطوف على { أصب } أي : أكن ممن يجهل ما يحرم ارتكابه ويقدم عليه ، أو ممن يعمل عمل الجهال .
قوله : { فاستجاب لَهُ رَبُّهُ } لما قال : { وإلاّ تصرف عني كيدهنّ } كان ذلك منه تعرضاً للدعاء ، وكأنه قال : اللهمّ اصرف عني كيدهنّ ، فالاستجابة من الله تعالى له هي بهذا الاعتبار؛ لأنه لم يتقدّم دعاء صريح منه عليه السلام ، والمعنى : أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية؛ لأنه إذا صرف عنه كيدهنّ لم يقع شيء مما رمنه منه ، ووجه إسناد الكيد قد تقدّم ، وجملة { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } تعليل لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه أي : إنه هو السميع لدعوات الداعين له ، العليم بأحوال الملتجئين إليه .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { قَدْ شَغَفَهَا } غلبها . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه { قَدْ شَغَفَهَا } قال : قتلها حب يوسف . الشغف : الحبّ القاتل ، والشعف : حبّ دون ذلك ، والشغاف : حجاب القلب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { قَدْ شَغَفَهَا } قال : قد علقها .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } قال : بحديثهنّ . وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } قال : بعملهن ، وكل مكر في القرآن فهو عمل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في قوله : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ } قال : هيأت لهن مجلساً ، وكان سنتهم إذا وضعوا المائدة أعطوا كل إنسان سكيناً يأكل بها { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ } قال : فلما خرج عليهن يوسف { أَكْبَرْنَهُ } قال : أعظمنه ونظرن إليه ، وأقبلن يحززن أيديهنّ بالسكاكين وهنّ يحسبن أنهن يقطعن الطعام . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ } قال : أعطتهنّ أترنجا ، وأعطت كل واحدة منهنّ سكيناً ، فلما رأين يوسف أكبرنه ، وجعلن يقطعن أيديهنّ وهن يحسبن أنهنّ يقطعن الأترنج . وأخرج مسدد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عنه : المتكأ : الأترنج ، وكان يقرأها خفيفة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { متكأ } قال : طعاماً . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر عنه قال : هو الأترنج . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : هو كل شيء يقطع بالسكين . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن الضحاك مثله . وأخرج أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن الوزير بن الكميت بن زيد قال : حدّثني أبي ، عن جدّي يقول في قوله : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } قال : أمنين . وأنشد :
ولما رأته الخيل من رأس شاهق ... صهلن وأمنين المنى المدفقا
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده ابن عباس في قوله : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } قال : لما خرج عليهنّ يوسف حضن من الفرح ، وذكر قول الشاعر الذي قدّمنا ذكره :
نأتي النساء لدى أطهارهنّ ولا ... نأتي النساء إذ أكبرنَ إكباراً
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { أَكْبَرْنَهُ } قال : أعظمنه { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } قال : حزّا بالسكين حتى ألقينها { وَقُلْنَ حاشا لِلَّهِ } قال : معاذ الله .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله { إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } قال : قلن ملك من الملائكة من حسنه . وأخرج أبو الشيخ عن منبه ، عن أبيه قال : مات من النسوة التي قطعن أيديهنّ تسع عشرة امرأة كمداً . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم عن أنس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « أعطي يوسف وأمه شطر الحسن » ، وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف ، والمبالغة في ذلك ، ففي بعضها أنه أعطي نصف الحسن ، وفي بعضها ثلثه ، وفي بعضها ثلثيه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس { فاستعصم } قال : امتنع . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة { فاستعصم } قال : فاستعصى . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله : { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ } قال : إن لا تكن منك أنت القوي والمنعة لا تكن مني ولا عندي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } قال : أتبعهنّ . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : أطاوعهنّ .

ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)

معنى { بَدَا لَهُمْ } ظهر لهم ، والضمير للعزيز وأصحابه الذين يدبرون الأمر معه ويشيرون عليه ، وأما فاعل { بَدَا لَهُمْ } فقال سيبويه : هو { ليسجننه } أي : ظهر لهم أن يسجنوه . قال المبرد : وهذا غلط؛ لأن الفاعل لا يكون جملة ، ولكن الفاعل ما دلّ عليه { بدا } وهو المصدر كما قال الشاعر :
وحق لمن أبو موسى أبوه ... يوفقه الذي نصب الجبالا
أي وحقّ الحقّ ، فحذف الفاعل لدلالة الفعل عليه . وقيل : الفاعل المحذوف هو أي : وظهر لهم رأي لم يكونوا يعرفونه من قبل ، وهذا الفاعل حذف لدلالته { ليسجننه } عليه ، واللام في ليسجننه جواب قسم محذوف على تقدير القول ، أي : ظهر لهم من بعد ما رأوا الآيات قائلين : والله ليسجننه ، وقرىء « لتسجننه » بالمثناة الفوقية على الخطاب ، إما للعزيز ومن معه ، أو له وحده على طريق التعظيم ، والآيات : قيل : هي القميص وشهادة الشاهد وقطع الأيدي ، وقيل : هي البركات التي فتحها الله عليهم بعد وصول يوسف إليهم ولم يجد ذلك فيهم بل كانت امرأته هي الغالبة على رأيه ، الفاعلة لما يطابق هواها في يوسف ، وإنفاذ ما تقدّم منها من الوعيد له بقولها : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا ءامُرُهُ بِهِ * لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّن الصاغرين } قيل : وسبب ظهور هذا الرأي لهم في سجن يوسف أنهم أرادوا ستر القالة ، وكتم ما شاع في الناس من قصة امرأة العزيز معه . وقيل : إن العزيز قصد بسجنه الحيلولة بينه وبين امرأته ، لما علم أنها قد صارت بمكان من حبه لا تبالي معه بحمل نفسها عليه على أيّ صفة كانت ، ومعنى قوله : { حتى حِينٍ } إلى مدّة غير معلومة كما قاله أكثر المفسرين . وقيل : إلى انقطاع ما شاع في المدينة . وقال سعيد ابن جبير : إلى سبع سنين ، وقيل : إلى خمس ، وقيل : إلى ستة أشهر ، وقد تقدّم في البقرة الكلام على تفسير الحين . وحتى بمعنى إلى .
قوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ } في الكلام حذف متقدّم عليه ، والتقدير : وبدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين فسجنوه ، { ودخل معه السجن فتيان } ، ومع للمصاحبة ، وفتيان تثنية فتى ، وذلك يدّل على أنهما عبدان له ، ويحتمل أن يكون الفتى اسماً للخادم وإن لم يكن مملوكاً ، وقد قيل : إن أحدهما خباز الملك ، والآخر ساقيه ، وقد كانا وضعا للملك سما لما ضمن لهما أهل مصر مالاً في مقابلة ذلك ، ثم إن الساقي رجع عن ذلك وقال للملك : لا تأكل الطعام فإنه مسموم ، وقال الخباز : لا تشرب فإن الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب فشرب فلم يضرّه ، وقال للخباز كل فأبى ، فجرّب الطعام على حيوان فهلك مكانه فحبسهما ، وكان دخولهما السجن مع دخول يوسف ، وقيل : قبله ، وقيل : بعده .

قال ابن جرير : إنهما سألا يوسف عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا ، فسألاه عن رؤياهما كما قص الله سبحانه : { قَالَ أَحَدُهُمَا إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } أي : رأيتني ، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة . والمعنى : إني أراني أعصر عنباً ، فسماه باسم ما يئول إليه لكونه المقصود من العصر . وفي قراءة ابن مسعود « أعصر عنباً » . قال الأصمعي : أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابياً ومعه عنب ، فقال له : ما معك؟ فقال خمر . وقيل : معنى { أعصر خمراً } أي : عنب خمر ، فهو على حذف المضاف ، وهذا الذي رأى هذه الرؤيا هو الساقي ، وهذه الجملة مستأنفة بتقدير سؤال ، وكذلك الجملة التي بعدها وهي { وَقَالَ الآخر إِنّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا } ثم وصف الخبز هذا بقوله : { تَأْكُلُ الطير مِنْهُ } وهذا الرائي لهذه الرؤيا هو الخباز ، ثم قالا ليوسف جميعاً بعد أن قصا رؤياهما عليه { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } أي : بتأويل ما قصصناه عليك من مجموع المرئيين ، أو بتأويل المذكور لك من كلامنا؛ وقيل : إن كل واحد منهما قال له ذلك عقب قصّ رؤياه عليه ، فيكون الضمير راجعاً إلى ما رآه كل واحد . منهما؛ وقيل : إن الضمير في بتأويله موضوع موضع اسم الإشارة ، والتقدير بتأويل ذلك { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } أي : من الذين يحسنون عبارة الرؤيا ، وكذا قال الفراء : إن معنى { من المحسنين } من العالمين الذين أحسنوا العلم ، وقال ابن إسحاق : من المحسنين إلينا إن فسرت ذلك ، أو من المحسنين إلى أهل السجن ، فقد روي أنه كان ذلك .
وجملة { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، ومعنى ذلك أنه يعلم شيئاً من الغيب ، وأنه لا يأتيهما إلى السجن طعام إلاّ أخبرهما بماهيته قبل أن يأتيهما ، وهذا ليس من جواب سؤالهما تعبير ما قصاه عليه ، بل جعله عليه السلام مقدّمة قبل تعبيره لرؤياهما بياناً لعلوّ مرتبته في العلم ، وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون الرؤيا عن ظنّ وتخمين ، فهو كقول عيسى عليه السلام { وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ } [ آل عمران : 49 ] وإنما قال يوسف عليه السلام لهما بهذا ليحصل الانقياد منهما له فيما يدعوهما إليه بعد ذلك من الإيمان بالله والخروج من الكفر ، ومعنى { ترزقانه } يجري عليهما من جهة الملك أو غيره ، والجملة صفة لطعام ، أو يرزقكما الله سبحانه ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } مفرّغ من أعمّ الأحوال : أي : لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما أي : بينت لكما ماهيته وكيفيته قبل أن يأتيكما ، وسماه تأويلاً بطريق المشاكلة؛ لأن الكلام في تأويل الرؤيا ، أو المعنى : إلا نبأتكما بما يؤول إليه الكلام من مطابقة ما أخبركما به للواقع .

والإشارة بقوله : { ذلكما } إلى التأويل ، والخطاب للسائلين له عن تعبير رؤياهما { مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } بما أوحاه إليّ وألهمني إياه : لا من قبيل الكهانة والتنجيم ونحو ذلك مما يكثر فيه الخطأ ، ثم بين لهما أن ذلك الذي ناله من هذه الرتبة العلية والعلوم الجمة هو بسبب ترك الملة التي لا يؤمن أهلها بالله ولا بالآخرة واتباعه لملة الأنبياء من آبائه فقال : { إِنّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله } وهو كلام مستأنف يتضمن التعليل لما قبله ، والمراد بالترك : هو عدم التلبس بذلك من الأصل ، لا أنه قد كان تلبس به ، ثم تركه كما يدلّ عليه قوله : { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله } ثم وصف هؤلاء القوم بما يدلّ على تصلبهم في الكفر وتهالكهم عليه . فقال : { وَهُمْ بالاخرة هُمْ } أي : هم مختصون بذلك دون غيرهم لإفراطهم في الكفر بالله .
وقوله : { واتبعت } معطوف على { تركت } ، وسماهم آباء جميعاً؛ لأن الأجداد آباء ، وقدّم الجدّ الأعلى ، ثم الجدّ الأقرب ، ثم الأب لكون إبراهيم هو أصل هذه الملة التي كان عليها أولاده ، ثم تلقاها عنه إسحاق ، ثم يعقوب ، وهذا منه عليه السلام لترغيب صاحبيه في الإيمان بالله { مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بالله } أي : ما صحّ لنا ذلك فضلاً عن وقوعه ، والضمير في { لنا } له وللأنبياء المذكورين ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الإيمان المفهوم من قوله : ما كان لنا أن نشرك بالله ، و { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا } خبر اسم الإشارة أي : ناشىء من تفضلات الله علينا ولطفه بنا بما يجعله لنا من النبوّة المتضمنة للعصمة عن معاصيه ، ومن فضل الله على الناس كافة ببعثة الأنبياء إليهم وهدايتهم إلى ربهم ، وتبيين طرائق الحق لهم { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } الله سبحانه على نعمه التي أنعم بها عليهم ، فيؤمنون به ويوحدونه ، ويعملون بما شرعه لهم .
قوله : { ياصاحبى السجن ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } جعلهما مصاحبين للسجن لطول مقامهما فيه ، وقيل : المراد يا صاحبي في السجن؛ لأن السجن ليس بمصحوب فيه ، وأن ذلك من باب يا سارق الليلة ، وعلى الأوّل يكون من باب قوله : { أصحاب الجنة أصحاب النار } [ الأعراف : 42 ] { أصحاب النار } [ المائدة : 29 ] والاستفهام للإنكار مع التقريع والتوبيخ . ومعنى التفرّق هنا هو التفرّق في الذوات والصفات والعدد أي : هل الأرباب المتفرقون في ذواتهم ، المختلفون في صفاتهم ، المتنافون في عددهم خير لكما يا صاحبي السجن ، أم الله المعبود بحق ، المتفرّد في ذاته وصفاته ، الذي لا ضدّ له ولا ندّ ولا شريك ، القهار الذي لا يغالبه مغالب ، ولا يعانده معاند؟
أورد يوسف عليه السلام على صاحبي السجن هذه الحجة القاهرة على طريق الاستفهام ، لأنهما كانا ممن يعبد الأصنام . وقد قيل : إنه كان بين أيديهما أصنام يعبدونها عند أن خاطبهما بهذا الخطاب ، ولهذا قال لهما : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } أي : إلا أسماء فارغة سميتموها ولا مسميات لها ، وإن كنتم تزعمون أن لها مسميات ، وهي الآلهة التي تعبدونها ، لكنها لما كانت لا تستحق التسمية بذلك صارت الأسماء كأنها لا مسميات لها .

وقيل : المعنى ما تعبدون من دون الله إلاّ مسميات أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من تلقاء أنفسكم ، وليس لها من الإلهية شيء إلاّ مجرد الأسماء لكونها جمادات لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضرّ؛ وإنما قال : { مَا تَعْبُدُونَ } على خطاب الجمع ، وكذلك ما بعده من الضمائر؛ لأنه قصد خطاب صاحبي السجن ومن كان على دينهم ، ومفعول سميتموها الثاني محذوف أي : سميتموها آلهة من عند أنفسكم { مَّا أَنزَلَ الله بِهَا } أي : بتلك التسمية { مّن سلطان } من حجة تدلّ على صحتها { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } أي : ما الحكم إلا لله في العباد ، فهو الذي خلقكم وخلق هذه الأصنام التي جعلتموها معبودة بدون حجة ولا برهان ، وجملة { أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } مستأنفة ، والمعنى : أنه أمركم بتخصيصه بالعبادة دون غيره مما تزعمون أنه معبود ، ثم بين لهم أن عبادته وحده دون غيره هي دين الله الذي لا دين غيره ، فقال : { ذلك } أي : تخصيصه بالعبادة { الدين القيم } أي : المستقيم الثابت { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلك هو دينه القويم ، وصراطه المستقيم ، لجهلكم وبعدكم عن الحقائق .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة قال : سألت ابن عباس عن قوله : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات } فقال : ما سألني عنها أحد قبلك ، من الآيات قد القميص ، وأثرها في جسده ، وأثر السكين ، وقالت امرأة العزيز : إن أنت لم تسجنه ليصدقنه الناس . وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد قال : من الآيات كلام الصبي . وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : الآيات حزّهنّ أيديهنّ ، وقدّ القميص .
وأقول : إن كان المراد بالآيات : الآيات الدالة على براءته فلا يصح عدّ قطع أيدي النسوة منها؛ لأنه وقع منهن ذلك لما حصل لهن من الدهشة عند ظهوره لهن مع ما ألبسه الله سبحانه من الجمال ، الذي تنقطع عند مشاهدته عرى الصبر ، وتضعف عند رؤيته قوى التجلد ، وإن كان المراد : الآيات الدالة على أنه قد أعطي من الحسن ما يسلب عقول المبصرين ، ويذهب بإدراك الناظرين ، فنعم يصح عدّ قطع الأيدي من جملة الآيات ، ولكن ليس هذه الآيات هي المرادة هنا .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : عوقب يوسف ثلاث مرات : أما أوّل مرة فبالحبس لما كان من همّه بها ، والثانية لقوله : { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } { فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ } عوقب بطول الحبس ، والثالثة حيث قال : { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } فاستقبل في وجهه : { إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا } خازن الملك على طعامه ، والآخر ساقيه على شرابه . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا } قال : عنباً . وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد { نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } قال : عبارته . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } قال : كان إحسانه فيما ذكر لنا أنه كان يعزّي حزينهم ، ويداوي مريضهم . ورأوا منه عبادة واجتهاداً فأحبوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال : كان إحسانه أنه إذا مرض إنسان في السجن قام عليه ، وإذا ضاق عليه المكان أوسع له ، وإذا احتاج جمع له . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال : دعا يوسف لأهل السجن فقال : اللهمّ لا تعمّ عليهم الأخبار ، وهوّن عليهم مرّ الأيام .
وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ } الآية ، قال : كره العبارة لهما فأجابهما بغير جوابهما ليريهما أن عنده علماً ، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً معلوماً فأرسل به إليه ، فقال يوسف : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } إلى قوله : { يَشْكُرُونَ } فلم يدعه صاحبا الرؤية حت يعبر لهما ، فكره العبارة فقال : { ياصاحبى السجن ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ } إلى قوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } قال : إن المؤمن ليشكر ما به من نعمة الله ، ويشكر ما بالناس من نعم الله ، وذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول : يا ربّ شاكر نعمة غير منعم عليه لا يدري ، ويا ربّ حامل فقه غير فقيه . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ } الآية ، قال : لما عرف يوسف أن أحدهما مقتول دعاهما إلى حظهما من ربهما ، وإلى نصيبهما من آخرتهما . وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله : { ذلك الدين القيم } قال : العدل ، فقال :

يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما . والمراد بقوله : { أَمَّا أَحَدُكُمَا } هو الساقي ، وإنما أبهمه لكونه مفهوماً أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب { فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا } أي : مالكه ، وهي عهدته التي كان قائماً بها في خدمة الملك ، فكأنه قال : أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس { وَأَمَّا الآخر } وهو الخباز { فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ } تعبيراً لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزاً فتأكل الطير منه { قُضِىَ الأمر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } وهو ما رأياه وقصاه عليه ، يقال : استفتاه إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه ، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا .
{ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } أي : قال يوسف ، والظان هو أيضاً يوسف . والمراد بالظنّ العلم؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز ، هكذا قال جمهور المفسرين . وقيل : الظاهر على معناه؛ لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً ، والأوّل أولى وأنسب بحال الأنبياء . ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما في قوله : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } الآية ، وجملة : { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } هي مقول القول ، أمره بأن يذكره عند سيده ، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب ، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان ، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف ، هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله : { ذِكْرَ رَبّهِ } وهو الله سبحانه ، أي : إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال . { وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته .
وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين ، وهو الشرابي ، والمعنى : إنساء لشيطان الشرابي ذكر سيده ، أي : ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده ، ويكون المعنى : فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ، ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك ، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء . وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز ، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلاّ فيما يخبرون به عن الله سبحانه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34