كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد ، وقبحه ، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام إنما يعملون بقول أسلافهم ، ويتبعون آثارهم ، ويقتدون بهم ، فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة ، أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها ، وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ، ولا حجة واضحة ، بل بمجرّد قال . وقيل : لشبهة داحضة ، وحجة زائفة ، ومقالة باطلة ، قالوا : بما قاله المترفون من هذه الملل : إنا وجدنا آباءنا على أمة ، وإنا على آثارهم مقتدون ، أو بما يلاقي معناه معنى ذلك ، فإن قال لهم الداعي إلى الحقّ : قد جمعتنا الملة الإسلامية ، وشملنا هذا الدين المحمدي ، ولم يتعبدنا الله ، ولا تعبدكم ، وتعبد آباءكم من قبلكم إلاّ بكتابه الذي أنزله على رسوله ، وبما صحّ عن رسوله ، فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه ، الفارق بين محكمه ، ومتشابهه ، فتعالوا نردّ ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله ، وسنّة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ النساء : 59 ] ، فإن الردّ إليهما أهدى لنا ولكم من الردّ إلى ما قاله أسلافكم ، ودرج عليه آباؤكم ، نفروا نفور الوحوش ، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر ، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ النور : 51 ] ، ولا قوله : { فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، فإن قال لهم القائل : هذا العالم الذي تقتدون به ، وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه متعبداً بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، مطلوباً منه ما هو مطلوب منكم ، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل ، فذلك رخصة له لا يحلّ أن يتبعه غيره عليها ، ولا يجوز له العمل بها ، وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده ، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله ، أو فيما صحّ من سنّة رسوله ، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا : لا نعمل بهذا ، ولا سمع لك ، ولا طاعة ، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب ، والسنّة ، ولم يسلموا ذلك ، ولا أذعنوا له ، وقد وهب لهم الشيطان عصي يتوكئون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب ، والسنّة ، وهي أنهم يقولون : إن إمامنا الذي قلدناه ، واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله ، وسنّة رسوله ، وذلك لأن أذهانهم قد تصوّرت من يقتدون به تصوراً عظيماً بسبب تقدّم العصر ، وكثرة الأتباع ، وما علموا أن هذا منقوض عليهم ، مدفوع به في وجوههم ، فإنه لو قيل لهم : إن في التابعين من هو أعظم قدراً ، وأقدم عصراً من صاحبكم ، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية حتى توجب الاقتداء ، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصراً ، وأجلّ قدراً ، فإن أبيتم ذلك ، ففي الصحابة رضي الله عنهم من هو أعظم قدراً من صاحبكم علماً ، وفضلاً ، وجلالة قدر ، فإن أبيتم ذلك ، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدراً ، وأجلّ خطراً ، وأكثر أتباعاً ، وأقدم عصراً ، وهو : محمد بن عبد الله نبينا ، ونبيكم ، ورسول الله إلينا ، وإليكم ، فتعالوا ، فهذه سنّته موجودة في دفاتر الإسلام ، ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرناً بعد قرن ، وعصراً بعد عصر ، وهذا كتاب ربنا خالق الكل ، ورازق الكل ، وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت ، وبيد كل مسلم لم يلحقه تغيير ، ولا تبديل ، ولا زيادة ، ولا نقص ، ولا تحريف ، ولا تصحيف ، ونحن ، وأنتم ممن يفهم ألفاظه ، ويتعقل معانيه ، فتعالوا لنأخذ الحقّ من معدنه ، ونشرب صفو الماء من منبعه ، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، قالوا : لا سمع ، ولا طاعة ، إما بلسان المقال ، أو بلسان الحال ، فتدبر هذا ، وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف ، وشعبة من خير ، ومزعة من حياء ، وحصة من دين ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم .

وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته «أدب الطلب ومنتهى الأرب» ، فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب ، وتتقشع لك سحائب التقليد { فانتقمنا مِنْهُمْ } . وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح ، وعاد ، وثمود { فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } من تلك الأمم ، فإن آثارهم موجودة . { وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأبِيهِ وَقَوْمِهِ } أي : واذكر لهم وقت قوله لأبيه ، وقومه الذين قلدوا آباءهم ، وعبدوا الأصنام { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ } البراء مصدر نعت به للمبالغة ، وهو يستعمل للواحد ، والمثنى ، والمجموع ، والمذكر ، والمؤنث . قال الجوهري : وتبرأت من كذا ، وأنا منه براء وخلاء ، لا يثنى ، ولا يجمع ، لأنه مصدر في الأصل ، ثم استثنى خالقه من البراءة ، فقال : { إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } أي : خلقني { فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } سيرشدني لدينه ، ويثبتني على الحق ، والاستثناء إما منقطع ، أي : لكن الذي فطرني ، أو متصل من عموم ما ، لأنهم كانوا يعبدون الله ، والأصنام ، وإخباره بأنه سيهديه جزماً لثقته بالله سبحانه ، وقوّة يقينه { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ } الضمير في : { جعلها } عائد إلى قوله : { إِلاَّ الذى فَطَرَنِى } ، وهي بمعنى التوحيد ، كأنه قال : وجعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، وهم : ذرّيته ، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه ، وفاعل جعلها : إبراهيم ، وذلك حيث وصاهم بالتوحيد ، وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله : { ووصى بِهَا إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } [ البقرة : 132 ] الآية ، وقيل : الفاعل هو الله عزّ وجلّ ، أي : وجعل الله عزّ وجلّ كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم ، والعقب : من بعد . قال مجاهد ، وقتادة : الكلمة لا إله إلاّ الله لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة . وقال عكرمة : هي : الإسلام .

قال ابن زيد : الكلمة هي قوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين } [ البقرة : 131 ] ، وجملة { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } تعليل للجعل ، أي : جعلها باقية رجاء أن يرجع إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد . وقيل : الضمير في : { لعلهم } راجع إلى أهل مكة ، أي : لعلّ أهل مكة يرجعون إلى دينك الذي هو دين إبراهيم . وقيل : في الكلام تقديم ، وتأخير ، والتقدير : فإنه سيهدين لعلهم يرجعون ، وجعلها . . . إلخ . قال السدّي : لعلهم يتوبون ، فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله . ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ، ومن وافقهم من الكفار المعاصرين لهم ، فقال : { بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَءابَاءهُمْ } أضرب عن الكلام الأوّل إلى ذكر ما متعهم به من الأنفس ، والأهل ، والأموال ، وأنواع النعم ، وما متع به آباءهم ، ولم يعاجلهم بالعقوبة ، فاغترّوا بالمهلة ، وأكبوا على الشهوات { حتى جَاءهُمُ الحق } يعني : القرآن { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم ، ومعنى { مبين } : ظاهر الرسالة واضحها ، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين ، فلم يجيبوه ، ولم يعملوا بما أنزل عليه . ثم بيّن سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحقّ ، فقال : { وَلَمَّا جَاءهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون } أي : جاحدون ، فسموا القرآن سحراً ، وجحدوه . واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } المراد بالقريتين : مكة ، والطائف ، وبالرجلين : الوليد بن المغيرة من مكة ، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف كذا قال قتادة ، وغيره . وقال مجاهد ، وغيره : عتبة بن ربيعة من مكة ، وعمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف ، وقيل غير ذلك . وظاهر النظم أن المراد : رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسوّد في قومه ، والمعنى : أنه لو كان قرآناً لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين ، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } يعني : النبوّة ، أو ما هو أعمّ منها ، والاستفهام للإنكار . ثم بيّن أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا ، فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى الحياة الدنيا } ، ولم نفوّض ذلك إليهم ، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شيء بل الحكم لله وحده ، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ، ورفع درجات بعضهم على بعض ، فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوّة ، وتفويضها إلى من يشاء من خلقه . قال مقاتل : يقول : أبأيديهم مفاتيح الرسالة ، فيضعونها حيث شاءوا؟ قرأ الجمهور : { معيشتهم } بالإفراد ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن : ( معايشهم ) بالجمع ومعنى { رَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات } : أنه فاضل بينهم ، فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق ، والرياسة ، والقوّة ، والحرية ، والعقل ، والعلم ، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض ، فقال : { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي : ليستخدم بعضهم بعضاً ، فيستخدم الغنيّ الفقير ، والرئيس المرءوس ، والقويّ الضعيف ، والحرّ العبد ، والعاقل من هو دونه في العقل ، والعالم الجاهل ، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا ، وبه تتمّ مصالحهم ، وينتظم معاشهم ، ويصل كلّ واحد منهم إلى مطلوبه ، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين ، فجعل البعض محتاجاً إلى البعض ، لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا ، ويحتاج هذا إلى هذا ، ويصنع هذا لهذا ، ويعطي هذا هذا .

قال السدّي ، وابن زيد : { سخرنا } : خولا وخدما ، يسخر الأغنياء الفقراء ، فيكون بعضهم سبباً لمعاش بعض . وقال قتادة ، والضحاك : ليملك بعضهم بعضاً ، وقيل : هو من السخرية التي بمعنى : الاستهزاء ، وهذا وإن كان مطابقاً للمعنى اللغوي ، ولكنه بعيد من معنى القرآن ، ومنافٍ لما هو مقصود السياق { وَرَحْمَةُ رَبّكَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } يعني بالرحمة : ما أعدّه الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة ، وقيل : هي النبوّة لأنها المراد بالرحمة المتقدّمة في قوله : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ } ولا مانع من أن يراد كلّ ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولاً أو بدلاً ، ومعنى { مّمَّا يَجْمَعُونَ } : ما يجمعونه من الأموال ، وسائر متاع الدنيا . ثم بيّن سبحانه حقارة الدنيا عنده ، فقال : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة } أي : لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلاً إلى الدنيا ، وزخرفها { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ } جمع الضمير في بيوتهم ، وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها ، ولبيوتهم بدل اشتمال من الموصول ، والسقف جمع سقف . قرأ الجمهور بضمّ السين ، والقاف كَرَهْن ، ورُهُن . قال أبو عبيدة : ولا ثالث لهما . وقال الفراء : هو جمع سقيف نحو كثيب ، وكثب ، ورغيف ، ورغف ، وقيل : هو جمع سقوف ، فيكون جمعاً للجمع . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بفتح السين ، وإسكان القاف على الإفراد ، ومعناه الجمع لكونه للجنس . قال الحسن : معنى الآية : لولا أن يكفر الناس جميعاً بسبب ميلهم إلى الدنيا ، وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه ، لهوان الدنيا عند الله ، وقال بهذا أكثر المفسرين . وقال ابن زيد : لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا ، واختيارهم لها على الآخرة . وقال الكسائي : المعنى : لولا أن يكون في الكفار غنيّ ، وفقير ، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } المعارج : الدرج جمع معراج ، والمعراج : السلم . قال الأخفش : إن شئت جعلت الواحدة مَعْرَج ، ومِعْرَج مثل : مَرْقاة ، ومِرْقاة ، والمعنى : فجعلنا لهم معارج من فضة عليها يظهرون ، أي : على المعارج يرتقون ، ويصعدون ، يقال ظهرت على البيت أي : علوت سطحه ، ومنه قول النابغة :
بلغنا السماء مجداً وفخراً وسؤددا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أي : مصعداً { وَلِبُيُوتِهِمْ أبوابا وَسُرُراً } أي : وجعلنا لبيوتهم أبواباً من فضة ، وسرراً من فضة { عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } أي : على السرر ، وهو جمع سرير ، وقيل : جمع أسرة ، فيكون جمعاً للجمع ، والاتكاء ، والتوكؤ : التحامل على الشيء ، ومنه

{ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } [ طه : 18 ] واتكأ على الشيء ، فهو متكأ ، والموضع متكىء ، والزخرف : الذهب . وقيل : الزينة أعمّ من أن تكون ذهباً ، أو غيره . قال ابن زيد : هو : ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة ، والأثاث . وقال الحسن : النقوش ، وأصله الزينة ، يقال : زخرفت الدار أي : زينتها ، وانتصاب { زخرفاً } بفعل مقدّر ، أي : وجعلنا لهم مع ذلك زخرفاً ، أو بنزع الخافض ، أي : أبواباً ، وسرراً من فضة ، ومن ذهب ، فلما حذف الخافض انتصب . ثم أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا ، فقال : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة الدنيا } قرأ الجمهور : ( لما ) بالتخفيف ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، وهاشم عن ابن عامر بالتشديد . فعلى القراءة الأولى تكون إن هي المخففة من الثقيلة ، وعلى القراءة الثانية هي النافية ، و « لما » بمعنى إلاّ ، أي : ما كل ذلك إلاّ شيء يتمتع به في الدنيا . وقرأ أبو رجاء بكسر اللام من ( لما ) على أن اللام للعلة ، وما موصولة ، والعائد محذوف ، أي : للذي هو متاع { والآخرة عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي : لمن اتقى الشرك ، والمعاصي ، وآمن بالله وحده ، وعمل بطاعته ، فإنها الباقية التي لا تفنى ، ونعيمها الدائم الذي لا يزول .
وقد أخرج ابن جرير ، عن ابن عباس { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا } قال : على دين . وأخرج عبد بن حميد عنه { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً باقية } قال : لا إله إلاّ الله { فِى عَقِبِهِ } قال : عقب إبراهيم ولده . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه أيضاً : أنه سئل عن قول الله : { لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } ما القريتان؟ قال : الطائف ، ومكة ، قيل : فمن الرجلان؟ قال : عمير بن مسعود ، وخيار قريش . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : يعني بالقريتين : مكة والطائف ، والعظيم : الوليد بن المغيرة القرشي ، وحبيب بن عمير الثقفي . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : يعنون أشرف من محمد : الوليد بن المغيرة من أهل مكة ، ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { لَّوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة } الآية يقول : لولا أن أجعل الناس كلهم كفاراً لجعلت لبيوت الكفار سقفاً من فضة ، ومعارج من فضة ، وهي : درج عليها يصعدون إلى الغرف ، وسرر فضة ، وزخرفاً : وهو الذهب . وأخرج الترمذي وصححه ، وابن ماجه ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء » .

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

قوله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن } يقال : عشوت إلى النار : قصدتها ، وعشوت عنها : أعرضت عنها ، كما تقول : عدلت إلى فلان ، وعدلت عنه ، وملت إليه ، وملت عنه ، كذا قال الفراء ، والزجاج ، وأبو الهيثم ، والأزهري . فالمعنى : ومن يعرض عن ذكر الرحمن . قال الزجاج : معنى الآية : أن من أعرض عن القرآن ، وما فيه من الحكمة إلى أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ، ويلازمه قريناً له ، فلا يهتدى مجازاة له حين آثر الباطل على الحق البين . وقال الخليل : العشو : النظر الضعيف ، ومنه :
لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره ... إذا الريح هبت والمكان جديب
والظاهر أن معنى البيت : القصد إلى النار لا النظر إليها ببصر ضعيف كما قال الخليل ، فيكون دليلاً على ما قدّمنا من أنه يأتي بمعنى : القصد ، وبمعنى : الإعراض ، وهكذا ما أنشده الخليل مستشهداً به على ما قاله من قول الحطيئة :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
فإن الظاهر أن معناه : تقصد إلى ضوء ناره ، لا تنظر إليها ببصر ضعيف . ويمكن أن يقال : إن المعنى في البيتين : المبالغة في ضوء النار ، وسطوعها ، بحيث لا ينظرها الناظر إلاّ كما ينظر من هو معشي البصر لما يلحق بصره من الضعف عند ما يشاهده من عظم وقودها . وقال أبو عبيدة ، والأخفش : إن معنى { وَمَن يَعْشُ } : ومن تظلم عينه ، وهو نحو قول الخليل ، وهذا على قراءة الجمهور : { ومن يعش } بضم الشين من عشا يعشو . وقرأ ابن عباس ، وعكرمة : ( ومن يعش ) بفتح الشين ، يقال : عشي الرجل يعشى عشياً : إذا عمى ، ومنه قول الأعشى :
رأت رجلاً غايب الوافدي ... ن مختلف الخلق أعشى ضريرا
وقال الجوهري : والعشا مقصور ، مصدر الأعشى : وهو الذي لا يبصر بالليل ، ويبصر بالنهار ، والمرأة عشواء . وقرىء : ( يعشو ) بالواو على أن «من» موصولة غير متضمنة معنى الشرط . قرأ الجمهور : { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً } بالنون وقرأ السلمي ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب ، وعصمة عن عاصم ، والأعمش بالتحتية مبنياً للفاعل ، وقرأ ابن عباس بالتحتية مبنياً للمفعول ورفع شيطان على النيابة { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أي : ملازم له لا يفارقه ، أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه ، بل يتبعه في جميع أموره ، ويطيعه في كلّ ما يوسوس به إليه { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل } أي : وإن الشياطين الذين يقيضهم الله لكلّ أحد ممن يعشو عن ذكر الرحمن كما هو معنيّ من { ليصدّونهم } ، أي : يحولون بينهم ، وبين سبيل الحق ، ويمنعونهم منه ، ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنون صدق ما يوسوسون به ، وهو معنى قوله : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } أي : يحسب الكفار أن الشياطين مهتدون ، فيطيعونهم ، أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم في أنفهسم مهتدون { حتى إِذَا جَاءنَا } قرأ الجمهور بالتثنية ، أي : الكافر والشيطان المقارن له ، وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص بالإفراد أي : الكافر ، أو جاء كلّ واحد منهما { قَالَ } الكافر مخاطباً للشيطان : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين } أي : بعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب المشرق على المغرب .

قال مقاتل : يتمنى الكافر أن بينهما بعد مشرق أطول يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة ، والأوّل أولى ، وبه قال الفراء { فَبِئْسَ القرين } المخصوص بالذم محذوف ، أي : أنت أيها الشيطان . { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم } هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة { إِذ ظَّلَمْتُمْ } أي : لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا ، وقيل : إن «إذ» بدل من اليوم؛ لأنه تبين في ذلك اليوم أنهم ظلموا أنفسهم في الدنيا . قرأ الجمهور : { أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ } بفتح أن على أنها وما بعدها في محلّ رفع على الفاعلية ، أي : لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب . قال المفسرون : لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شيء من العذاب؛ لأن لكلّ أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر منه . وقيل : إنها للتعليل لنفي النفع ، أي : لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا ، ويقوّي هذا المعنى قراءة ابن عامر على اختلاف عليه فيها بكسر إن . ثم ذكر سبحانه أنها لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة ، فقال : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى } الهمزة لإنكار التعجب ، أي : ليس لك ذلك ، فلا يضيق صدرك إن كفروا ، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإخبار له أنه لا يقدر على ذلك إلاّ الله عزّ وجلّ ، وقوله : { وَمَن كَانَ فِى ضلال مُّبِينٍ } عطف على العمي ، أي : إنك لا تهدي من كان كذلك ، ومعنى الآية : أن هؤلاء الكفار بمنزلة الصمّ الذين لا يعقلون ما جئت به ، وبمنزلة العمي الذين لا يبصرونه لإفراطهم في الضلالة ، وتمكنهم من الجهالة { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } بالموت قبل أن ينزل العذاب بهم { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } إما في الدنيا ، أو في الآخرة ، وقيل : المعنى : نخرجنك من مكة { أَوْ نُرِيَنَّكَ الذى وعدناهم } من العذاب قبل موتك { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } متى شئنا عذبناهم . قال كثير من المفسرين : قد أراه الله ذلك يوم بدر . وقال الحسن ، وقتادة : هي في أهل الإسلام يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن ، وقد كان بعد النبي فتنة شديدة ، فأكرم الله نبيه ، وذهب به ، فلم يره في أمته شيئاً من ذلك ، والأوّل أولى . { فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ } أي : من القرآن ، وإن كذّب به من كذّب { إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي : طريق واضح ، والجملة تعليل لقوله { فاستمسك } { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي : وإن القرآن لشرف لك ، ولقومك من قريش إذ نزل عليك ، وأنت منهم بلغتك ، ولغتهم ، ومثله قوله :

{ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] ، وقيل : بيان لك ، ولأمتك فيما لكم إليه حاجة . وقيل : تذكرة تذكرون بها أمر الدين ، وتعملون به { وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ } عما جعله الله لكم من الشرف ، كذا قال الزجاج ، والكلبي ، وغيرهما . وقيل : يسئلون عما يلزمهم من القيام بما فيه ، والعمل به { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءالِهَةً يُعْبَدُونَ } قال الزهري ، وسعيد بن جبير ، وابن زيد : إن جبريل قال ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به . فالمراد : سؤال الأنبياء في ذلك الوقت عند ملاقاته لهم ، وبه قال جماعة من السلف . وقال المبرد ، والزجاج ، وجماعة من العلماء : إن المعنى : واسأل أمم من قد أرسلنا . وبه قال مجاهد ، والسدّي ، والضحاك ، وقتادة ، وعطاء ، والحسن . ومعنى الآية على القولين : سؤالهم هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل ، وهل سوّغ ذلك لأحد منهم؟ والمقصود : تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأت في شريعة من الشرائع .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشاً قالت : قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلاً يأخذه ، فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله ، فأتاه ، وهو في القوم ، فقال أبو بكر : إلاّم تدعوني؟ قال : أدعوك إلى عبادة اللات ، والعزّى . قال أبو بكر : وما اللات؟ قال : أولاد الله . قال : وما العزّى . قال : بنات الله . قال أبو بكر : فمن أمهم؟ فسكت طلحة ، فلم يجبه ، فقال لأصحابه : أجيبوا الرجل ، فسكت القوم ، فقال طلحة : قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، فأنزل الله : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن } الآية . وثبت في صحيح مسلم ، وغيره أن مع كل إنسان قريناً من الجنّ . وأخرج ابن مردويه عن عليّ في قوله : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } قال : ذهب نبيه صلى الله عليه وسلم ، وبقيت نقمته في عدوّه . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { أَوْ نُرِيَنَّكَ الذى وعدناهم } قال : يوم بدر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب من طرق عنه في قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } قال : شرف لك ، ولقومك . وأخرج ابن عدّي ، وابن مردويه عن عليّ ، وابن عباس قالا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ، ويعدهم الظهور ، فإذا قالوا : لمن الملك بعدك؟ أمسك ، فلم يجبهم بشيء؛ لأنه لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ، فكان بعد إذا سئل قال : قريش ، فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك . وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن ابن عباس في قوله : { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } قال : اسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا .

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)

لما أعلم الله سبحانه نبيه بأنه منتقم له من عدوّه ، وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد ، أتبعه بذكر قصة موسى ، وفرعون ، وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة ، فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } ، وهي : التسع التي تقدّم بيانها { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } الملأ : الأشراف { فَقَالَ إِنّى رَسُولُ رَبّ العالمين } أرسلني إليكم { فَلَمَّا جَاءهُم بئاياتنا إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ } استهزاء وسخرية ، وجواب لما هو إذا الفجائية ، لأن التقدير : فاجئوا وقت ضحكهم { وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَةٍ إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أي : كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها ، وأعظم قدراً مع كون التي قبلها عظيمة في نفسها ، وقيل : المعنى : إن الأولى تقتضي علماً ، والثانية تقتضي علماً ، فإذا ضمت الثانية إلى الأولى ازداد الوضوح ، ومعنى الأخوّة بين الآيات : أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوّة موسى كما يقال : هذه صاحبة هذه ، أي : هما قرينتان في المعنى . وجملة { إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } في محل جرّ صفة لآية ، وقيل : المعنى : أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظنّ الظانّ أنها أكبر من سائر الآيات ، ومثل هذا قول القائل :
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري
{ وأخذناهم بالعذاب لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : بسبب تكذيبهم بتلك الآيات ، والعذاب هو المذكور في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين وَنَقْصٍ مّن الثمرات } الآية [ الأعراف : 130 ] ، وبين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو : رجاء رجوعهم ، ولماعاينوا ماجاءهم به من الآيات البينات ، والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر . { وَقَالُواْ ياأَيُّهَ الساحر } ، وكانوا يسمون العلماء سحرة ، ويوقرون السحرة ، ويعظمونهم ، ولم يكن السحر صفة ذم عندهم . قال الزجاج : خاطبوه بما تقدّم له عندهم من التسمية بالساحر { ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } أي : بما أخبرتنا من عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب ، وقيل : المراد بالعهد : النبوّة ، وقيل : استجابة الدعوة على العموم { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } أي : إذا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا ، فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان ، ومؤمنون بما جئت به . { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } في الكلام حذف ، والتقدير : فدعا موسى ربه ، فكشف عنهم العذاب ، فلما كشف عنهم العذاب ، فاجئوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء ، والنكث : النقض . { ونادى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ } قيل : لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى ، فجمعهم ، ونادى بصوته فيما بينهم ، أو أمر منادياً ينادي بقوله : { ياقوم أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ } لا ينازعني فيه أحد ، ولا يخالفني مخالف { وهذه الأنهار تَجْرِى مِن تَحْتِى } أي : من تحت قصري ، والمراد : أنهار النيل ، وقال قتادة : المعنى تجري بين يديّ .

وقال الحسن : تجري بأمري ، أي : تجري تحت أمري . وقال الضحاك : أراد بالأنهار : القوّاد ، والرؤساء ، والجبابرة ، وأنهم يسيرون تحت لوائه . وقيل : أراد بالأنهار : الأموال ، والأوّل أولى . والواو في : { وهذه } عاطفة على ملك مصر ، و { تجري } في محلّ نصب على الحال ، أو هي واو الحال ، واسم الإشارة مبتدأ ، والأنهار صفة له ، وتجري خبره ، والجملة في محل نصب { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } ذلك ، وتستدلون به على قوّة ملكي ، وعظيم قدري ، وضعف موسى عن مقاومتي { أَمْ أَنَا خَيْرٌ مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ } أم : هي المنقطعة المقدّرة ببل التي للإضراب دون الهمزة التي للإنكار ، أي : بل أنا خير . قال أبو عبيدة : أم بمعنى بل ، والمعنى : قال فرعون لقومه : بل أنا خير . وقال الفراء : إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله ، وقيل : هي زائدة ، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم زائدة ، والمعنى : أنا خير من هذا . وقال الأخفش : في الكلام حذف ، والمعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون؟ ثم ابتدأ ، فقال : { أَنَا خَيْرٌ } ، وروي عن الخليل ، وسيبويه نحو قول الأخفش ، ويؤيد هذا : أن عيسى الثقفي ، ويعقوب الحضرمي وقفا على «أم» على تقدير أم تبصرون ، فحذف لدلالة الأوّل عليه ، وعلى هذا ، فتكون أم متصلة لا منقطعة ، والأوّل أولى ، ومثله قول الشاعر الذي أنشده الفراء :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح؟
أي : بل أنت . وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ : ( أما أنا خير ) ؟ أي : ألست خيراً من هذا الذي هو مهين ، أي : ضعيف حقير ممتهن في نفسه لا عزّ له { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } الكلام لما في لسانه من العقدة ، وقد تقدم بيانه في سورة طه { فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ } أي : فهلا حلى بأساورة الذهب إن كان عظيماً ، وكان الرجل فيهم إذا سوّدوه سوّروه بسوار من ذهب ، وطوّقوه بطوق من ذهب . قرأ الجمهور : { أساورة } جمع أسورة جمع سوار . وقال أبو عمرو بن العلاء : واحد الأساورة ، والأساور ، والأساوير أسوار ، وهي لغة في سوار . وقرأ حفص : { أسورة } جمع سوار ، وقرأ أبيّ : " أساور " ، وابن مسعود : " أساوير " . قال مجاهد : كانوا إذا سوّدوا رجلاً سوّروه بسوارين ، وطوّقوه بطوق ذهب علامة لسيادته . { أَوْ جَاء مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ } معطوف على ألقى ، والمعنى : هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقاً يعينونه على أمره ، ويشهدون له بالنبوّة ، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لا بدّ أن يكونوا على هيئة الجبابرة ، ومحفوفين بالملائكة . { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي : حملهم على خفة الجهل ، والسفه بقوله ، وكيده ، وغروره ، فأطاعوه فيما أمرهم به ، وقبلوا قوله ، وكذبوا موسى { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } أي : خارجين عن طاعة الله .

قال ابن الأعرابي : المعنى : فاستجهل قومه ، فأطاعوه بخفة أحلامهم ، وقلة عقولهم ، يقال : استخفه الفرح ، أي : أزعجه ، واستخفه ، أي : حمله ، ومنه : { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } [ الروم : 60 ] ، وقيل : استخفّ قومه ، أي : وجدهم خفاف العقول ، وقد استخف بقومه ، وقهرهم حتى اتبعوه { فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ } قال المفسرون : أغضبونا ، والأسف : الغضب ، وقيل : أشد الغضب ، وقيل : السخط ، وقيل : المعنى : أغضبوا رسلنا . ثم بيّن العذاب الذي وقع به الانتقام ، فقال : { فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } في البحر { فجعلناهم سَلَفاً } أي : قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في استحقاق العذاب . قرأ الجمهور : { سلفاً } بفتح السين ، واللام جمع سالف كخدم وخادم ، ورصد وراصد ، وحرس وحارس ، يقال : سلف يسلف : إذا تقدّم ، ومضى . قال الفراء ، والزجاج : جعلناهم متقدّمين؛ ليتعظ بهم الآخرون ، وقرأ حمزة ، والكسائي : « سلفاً » بضم السين ، واللام . قال الفراء : هو : جمع سليف ، نحو سرر ، وسرير . وقال أبو حاتم : هو : جمع سلف نحو خشب ، وخشب . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو وائل ، والنخعي ، وحميد بن قيس بضم السين ، وفتح اللام جمع سلفة ، وهي : الفرقة المتقدّمة نحو غرف ، وغرفة ، كذا قال النضر بن شميل { وَمَثَلاً لّلآخِرِينَ } أي : عبرة ، وموعظة لمن يأتي بعدهم ، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } قال : كانت بموسى لثغة في لسانه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { فَلَمَّا ءاسَفُونَا } قال : أسخطونا . وأخرجا عنه أيضاً { آسفونا } قال : أغضبونا ، وفي قوله : { سَلَفاً } قال : أهواء مختلفة . وأخرج أحمد ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء ، وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له » ، وقرأ : { فَلَمَّا ءاسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن طارق بن شهاب قال : كنت عند عبد الله ، فذكر عنده موت الفجأة ، فقال : تخفيف على المؤمن ، وحسرة على الكافر ، { فلما آسفونا انتقمنا منهم } .

وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)

لما قال سبحانه : { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءالِهَةً يُعْبَدُونَ } تعلق المشركون بأمر عيسى ، وقالوا : ما يريد محمد إلا أن نتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ، فأنزل الله : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً } كذا قال قتادة ، ومجاهد . وقال الواحدي : أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن الزبعري مع النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، فقال ابن الزبعري : خصمتك ، وربّ الكعبة ، أليست النصارى يعبدون المسيح ، واليهود عزيراً ، وبنو مليح الملائكة؟ ففرح بذلك من قوله ، فأنزل الله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] ، ونزلت هذه الآية المذكورة هنا ، وقد مضى هذا في سورة الأنبياء . ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعري مندفع من أصله ، وباطل برمته ، فإن الله سبحانه قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] ، ولم يقل : « ومن تعبدون » حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح ، وعزير ، والملائكة { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } أي : إذا قومك يا محمد من ذلك المثل المضروب يصدّون ، أي : يضجون ، ويصيحون فرحاً بذلك المثل المضروب ، والمراد بقومه هنا : كفار قريش . قرأ الجمهور : { يصدّون } بكسر الصاد ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي بضمها . قال الكسائي ، والفراء ، والزجاج ، والأخفش : هما لغتان ، ومعناهما : يضجون قال الجوهري : صدّ يصدّ صديداً : أي ضجّ . وقيل : إنه بالضم : الإعراض ، وبالكسر من الضجيج ، قاله قطرب . قال أبو عبيد : لو كانت من الصدود عن الحق لقال : إذا قومك عنه يصدّون . وقال الفراء : هما سواء منه ، وعنه . وقال أبو عبيدة : من ضمّ ، فمعناه : يعدلون ، ومن كسر ، فمعناه : يضجون . { وَقَالُواْ ءالِهَتِنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } أي : ءآلهتنا خير أم المسيح؟ قال السدّي ، وابن زيد : خاصموه ، وقالوا : إن كان كل من عبد غير الله في النار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى ، وعزير ، والملائكة . وقال قتادة : يعنون محمداً ، أي : ءآلهتنا خير أم محمد؟ ويقوّي هذا قراءة ابن مسعود : ءآلهتنا خير أم هذا . قرأ الجمهور بتسهيل الهمزة الثانية بين بين ، وقرأ الكوفيون ، ويعقوب بتحقيقها . { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } أي : ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك ، على أن جدلاً منتصب على العلة ، أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال ، وقرأ ابن مقسم : ( جدالاً ) { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } أي : شديدو الخصومة كثيرو اللدد عظيمو الجدل . ثم بيّن سبحانه أن عيسى ليس بربّ ، وإنما هو عبد من عباده اختصه بنبوّته ، فقال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } بما أكرمناه به { وجعلناه مَثَلاً لّبَنِى إسراءيل } أي : آية ، وعبرة لهم يعرفون به قدرة الله سبحانه ، فإنه كان من غير أب ، وكان يحيي الموتى ، ويبرىء الأكمه والأبرص ، وكل مريض { وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً فِى الأرض يَخْلُفُونَ } أي : لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة في الأرض يخلفون ، أي : يخلفونكم فيها .

قال الأزهري : ومن قد تكون للبدل كقوله : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ } يريد بدلاً منكم . وقيل : المعنى : لو نشاء لجعلنا من بني آدم ملائكة ، والأوّل أولى . ومقصود الآية : أنا لو نشاء لأسكنا الملائكة الأرض وليس في إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا . وقيل : معنى { يَخْلُفُونَ } : يخلف بعضهم بعضاً . { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ } قال مجاهد ، والضحاك ، والسدّي ، وقتادة : إن المراد المسيح ، وإن خروجه مما يعلم به قيام الساعة لكونه شرطاً من أشراطها ، لأن الله سبحانه ينزله من السماء قبيل قيام الساعة ، كما أن خروج الدّجال من أعلام الساعة . وقال الحسن وسعيد بن جبير : المراد القرآن ، لأنه يدلّ على قرب مجيء الساعة ، وبه يعلم وقتها وأهوالها وأحوالها ، وقيل المعنى : أن حدوث المسيح من غير أب وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث . وقيل : الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور : { لعلم } بصيغة المصدر جعل المسيح علماً مبالغة لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله ، وقرأ ابن عباس ، وأبو هريرة ، وأبو مالك الغفاري ، وقتادة ، ومالك بن دينار ، والضحاك ، وزيد بن علي بفتح العين واللام ، أي : خروجه علم من أعلامها ، وشرط من شروطها ، وقرأ أبو نضرة وعكرمة : ( وإنه للعلم ) بلامين مع فتح العين واللام ، أي : للعلامة التي يعرف بها قيام الساعة { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي : فلا تشكنّ في وقوعها ولا تكذّبن بها ، فإنها كائنة لا محالة { واتبعون هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } أي : اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك ، وفرائض الله التي فرضها عليكم ، هذا الذي آمركم به وأدعوكم إليه طريق قيم موصل إلى الحقّ . قرأ الجمهور بحذف الياء من { اتبعون } وصلا ووقفا ، وكذلك قرءوا بحذفها في الحالين في { أطيعون } ، وقرأ يعقوب بإثباتها وصلا ووقفا فيهما ، وقرأ أبو عمرو وهي : رواية عن نافع بحذفها في الوصل دون الوقف { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان } أي : لا تغتروا بوساوسه وشبهه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي ، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله وكتبه . ثم علل نهيهم عن أن يصدّهم الشيطان ببيان عداوته لهم فقال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي : مظهر لعداوته لكم غير متحاش عن ذلك ولا متكتم به كما يدلّ على ذلك ما وقع بينه وبين آدم وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بني آدم إلا عباد الله المخلصين . { وَلَمَّا جَاء عيسى بالبينات } أي : جاء إلى بني إسرائيل بالمعجزات الواضحة والشرائع .

قال قتادة : البينات هنا : الإنجيل { قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة } أي النبوّة ، وقيل : الإنجيل ، وقيل : ما يرغب في الجميل ويكفّ عن القبيح { وَلأبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الذى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } من أحكام التوراة . وقال قتادة : يعني : اختلاف الفرق الذين تحزّبوا في أمر عيسى . قال الزجاج : الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه ، فبين لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه . وقيل : إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم . وقال أبو عبيدة : إن البعض هنا بمعنى الكلّ كما في قوله : { يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذى يَعِدُكُمْ } [ غافر : 28 ] وقال مقاتل : هو كقوله : { وَلأِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 50 ] يعني : ما أحلّ في الإنجيل مما كان محرّماً في التوراة كلحم الإبل والشحم من كل حيوان ، وصيد السمك يوم السبت واللام في { وَلأبَيّنَ لَكُم } معطوفة على مقدّر كأنه قال : قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم . ثم أمرهم بالتقوى والطاعة فقال : { فاتقوا الله } أي : اتقوا معاصيه { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به من التوحيد والشرائع { إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } هذا بيان لما أمرهم بأن يطيعوه فيه { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } أي : عبادة الله وحده والعمل بشرائعه { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } . قال مجاهد ، والسدّي : الأحزاب هم : أهل الكتاب من اليهود ، والنصارى . وقال الكلبي ، ومقاتل : هم فرق النصارى اختلفوا في أمر عيسى . قال قتادة : ومعنى { مِن بَيْنِهِمْ } : أنهم اختلفوا فيما بينهم ، وقيل : اختلفوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى ، والأحزاب هي : الفرق المتحزبة { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ } من هؤلاء المختلفين ، وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه { مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي : أليم عذابه وهو يوم القيامة { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } أي : هل يرتقب هؤلاء الأحزاب وينتظرون إلا الساعة { أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي : لا يفطنون بذلك ، وقيل : المراد بالأحزاب : الذين تحزّبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوه ، وهم المرادون بقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } والأوّل أولى . { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي : الأخلاء في الدنيا المتحابون فيها يوم تأتيهم الساعة بعضهم لبعض عدوّ ، أي : يعادي بعضهم بعضاً ، لأنها قد انقطعت بينهم العلائق واشتغل كل واحد منهم بنفسه ، ووجدوا تلك الأمور التي كانوا فيها أخلاء أسباباً للعذاب فصاروا أعداء . ثم استثنى المتقين فقال : { إِلاَّ المتقين } فإنهم أخلاء في الدنيا والآخرة ، لأنهم وجدوا تلك الخلة التي كانت بينهم من أسباب الخير والثواب فبقيت خلتهم على حالها { ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } أي : يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله بهذه المقالة فيذهب عند ذلك خوفهم ويرتفع حزنهم { الذين ءامَنُواْ بئاياتنا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } الموصول يجوز أن يكون نعتاً لعبادي ، أو بدلاً منه ، أو عطف بيان له ، أو مقطوعاً عنه في محل نصب على المدح ، أو في محل رفع بالابتداء وخبره { ادخلوا الجنة } على تقدير : يقال لهم ادخلوا الجنة .

والأوّل أولى ، وبه قال الزجاج . قال مقاتل : إذا وقع الخوف يوم القيامة نادى منادٍ : يا عبادي لا خوف عليكم ، فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم ، فيقال : الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ، فينكس أهل الأوثان رؤوسهم غير المسلمين . قرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو : « يا عبادي » بإثبات الياء ساكنة وصلا ووقفا ، وقرأ أبو بكر وزرّ بن حبيش بإثباتها وفتحها في الحالين ، وقرأ الباقون بحذفها في الحالين { ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم } المراد بالأزواج : نساؤهم المؤمنات ، وقيل : قرناؤهم من المؤمنين ، وقيل : زوجاتهم من الحور العين { تُحْبَرُونَ } تكرمون ، وقيل : تنعمون ، وقيل : تفرحون ، وقيل : تسرّون ، وقيل : تعجبون ، وقيل : تلذذون بالسماع ، والأولى تفسير ذلك بالفرح والسرور الناشئين عن الكرامة والنعمة { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بصحاف مّن ذَهَبٍ } الصحاف جمع صحفة وهي : القصعة الواسعة العريضة . قال الكسائي : أعظم القصاع الجفنة ثم القصعة ، وهي تشبع عشرة ، ثم الصحفة ، وهي تشبع خمسة ، ثم المكيلة وهي تشبع الرجلين والثلاثة ، والمعنى : أن لهم في الجنة أطعمة يطاف عليهم بها في صحاف الذهب لهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في الأكواب وهي جمع كوب . قال الجوهري : الكوب : كوز لا عروة له ، والجمع : أكواب . قال الأعشى :
صريفية طيب طعمها ... لها زبد بين كوب ودنّ
وقال آخر :
متكئاً تصفق أبوابه ... يسعى عليه العبد بالكوب
قال قتادة : الكوب : المدوّر القصير العنق القصير العروة ، والإبريق : المستطيل العنق الطويل العروة . وقال الأخفش : الأكواب : الأباريق التي لا خراطيم لها . وقال قطرب : هي الأباريق التي ليست لها عرى . { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } قرأ الجمهور : ( تشتهي ) وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص : { تشتهيه } بإثبات الضمير العائد على الموصول ، والمعنى : ما تشتهيه أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة ونحوهما مما تطلبه النفس وتهواه كائناً ما كان ، وتلذ الأعين من كل المستلذات التي تستلذّ بها وتطلب مشاهدتها ، تقول لذّ الشيء يلذ لذاذاً ، ولذاذة : إذا وجده لذيذاً والتذّ به ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : ( تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ) { وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون } لا تموتون ، ولا تخرجون منها { وَتِلْكَ الجنة التى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : يقال لهم يوم القيامة هذه المقالة ، أي : صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث بما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة ، واسم الإشارة مبتدأ ، والجنة صفته ، والتي أورثتموها صفة للجنة ، والخبر بما كنتم تعملون ، وقيل : الخبر الموصول مع صلته ، والأوّل أولى { لَكُمْ فِيهَا فاكهة كَثِيرَةٌ } الفاكهة معروفة ، وهي : الثمار كلها رطبها ، ويابسها ، أي : لهم في الجنة سوى الطعام والشراب ، فاكهة كثيرة الأنواع ، والأصناف { مّنْهَا تَأْكُلُونَ } « من » تبعيضية ، أو ابتدائية ، وقدّم الجار لأجل الفاصلة .

وقد أخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس : أن رسول الله قال لقريش : « إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير » ، قالوا : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً ، وعبداً من عباد الله صالحاً ، وقد عبدته النصارى؟ فإن كنت صادقاً ، فإنه كآلهتهم ، فأنزل الله { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } قلت : وما يصدّون؟ قال : « يضجون » { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ } قال : « خروج عيسى ابن مريم قبل يوم القيامة » وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال » ، ثم تلا هذه الآية { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ } . وقد ورد في ذمّ الجدال بالباطل أحاديث كثيرة . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس : أن المشركين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أرأيت ما نعبد من دون الله أين هم؟ قال : « في النار » ، قالوا : والشمس ، والقمر؟ قال : « والشمس ، والقمر » قالوا : فعيسى ابن مريم قال : « قال الله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وجعلناه مَثَلاً لّبَنِى إسراءيل } » وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، ومسدّد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني من طرق عنه في قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ } قال : خروج عيسى قبل يوم القيامة . وأخرجه الحاكم ، وابن مردويه عنه مرفوعاً . وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة نحوه . وأخرج ابن مردويه عن سعد بن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة انقطعت الأرحام ، وقلت الأنساب ، وذهبت الأخوة إلا الأخوة في الله ، وذلك قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } » وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وحميد بن زنجويه في ترغيبه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } قال : خليلان مؤمنان ، وخليلان كافران توفى أحد المؤمنين ، فبشر بالجنة ، فذكر خليله ، وقال : اللَّهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بطاعتك ، وطاعة رسولك ، ويأمرني بالخير ، وينهاني عن الشرّ ، وينبئني أني ملاقيك ، اللهم لا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني ، وترضى عنه كما رضيت عني ، فيقال له : اذهب؛ فلو تعلم ما له عندي لضحكت كثيراً ، ولبكيت قليلاً ، ثم يموت الآخر ، فيجمع بين أرواحهما ، فيقال : ليثن كل واحد منكما على صاحبه ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : نعم الأخ ، ونعم الصاحب ، ونعمل الخليل؛ وإذا مات أحد الكافرين بشر بالنار ، فيذكر خليله ، فيقول : اللهم إن خليلي فلاناً كان يأمرني بمعصيتك ، ومعصية رسولك ، ويأمرني بالشرّ ، وينهاني عن الخير ، وينبئني أني غير ملاقيك ، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني ، وتسخط عليه كما سخطت عليّ ، فيموت الآخر ، فيجمع بين أرواحهما ، فيقال : ليثن كلّ واحد منكما على صاحبه ، فيقول كل منهما لصاحبه : بئس الأخ ، وبئس الصاحب ، وبئس الخليل .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الأكواب الجرار من الفضة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من أحد إلاّ وله منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة ، وذلك قوله : { وَتِلْكَ الجنة التى أُورِثْتُمُوهَا } » .

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

قوله : { إِنَّ المجرمين } أي : أهل الإجرام الكفرية ، كما يدل عليه إيرادهم في مقابلة المؤمنين الذين لهم ما ذكره الله سبحانه قبل هذا { فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون } لا ينقطع عنهم العذاب أبداً { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أي : لا يخفف عنهم ذلك العذاب ، والجملة في محل نصب على الحال { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي : آيسون من النجاة ، وقيل : ساكتون سكوت يأس ، وقد مضى تحقيق معناه في الأنعام { وَمَا ظلمناهم } أي : ما عذبناهم بغير ذنب ، ولا بزيادة على ما يستحقونه { ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } لأنفسهم بما فعلوا من الذنوب . قرأ الجمهور : { الظالمين } بالنصب على أنه خبر كان ، والضمير ضمير فصل . وقرأ أبو زيد النحوي : ( الظالمون ) بالرفع على أن الضمير مبتدأ ، وما بعده خبره ، والجملة خبر كان { وَنَادَوْاْ يامالك } أي : نادى المجرمون هذا النداء ، ومالك هو : خازن النار . قرأ الجمهور : { يا مالك } بدون ترخيم . وقرأ عليّ ، وابن مسعود ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش : ( يا مال ) بالترخيم { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } بالموت ، توسلوا بمالك إلى الله سبحانه؛ ليسأله لهم أن يقضي عليهم بالموت؛ ليستريحوا من العذاب { قَالَ إِنَّكُمْ ماكثون } أي : مقيمون في العذاب ، قيل : سكت عن إجابتهم ثمانين سنة ، ثم أجابهم بهذا الجواب ، وقيل : سكت عنهم ألف عام ، وقيل : مائة سنة ، وقيل : أربعين سنة . { لَقَدْ جئناكم بالحق } يحتمل أن يكون هذا من كلام الله سبحانه ، ويحتمل أن يكون من كلام مالك ، والأوّل أظهر؛ والمعنى : إنا أرسلنا إليكم الرسل ، وأنزلنا عليهم الكتب ، فدعوكم ، فلم تقبلوا ، ولم تصدّقوا ، وهو معنى قوله : { ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقّ كارهون } لا يقبلونه ، والمراد بالحق : كل ما أمر الله به على ألسن رسله ، وأنزله في كتبه . وقيل : هو خاص بالقرآن . قيل : ومعنى { أكثركم } : كلكم . وقيل : أراد الرؤساء ، والقادة ، ومن عداهم أتباع لهم { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } أم هي : المنقطعة التي بمعنى بل ، والهمزة ، أي : بل أبرموا أمراً . وفي ذلك انتقال من توجع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء ، والإبرام : الإتقان ، والإحكام ، يقال : أبرمت الشيء : أحكمته ، وأتقنته ، وأبرم الحبل : إذا أحكم فتله ، والمعنى : بل أحكموا كيداً للنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنا محكمون لهم كيداً قاله مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد ، ومثل هذا قوله تعالى : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون } [ الطور : 42 ] وقيل : المعنى : أم قضوا أمراً ، فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب ، قاله الكلبي . { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم } أي : بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرّون به في أنفسهم ، أو ما يتحادثون به سرًّا في مكان خالٍ ، وما يتناجون به فيما بينهم { بلى } نسمع ذلك ، ونعمل به { وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي : الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول ، أو فعل ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو معطوفة على الجملة التي تدلّ عليها بلى .

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار قولاً يلزمهم به الحجة ، ويقطع ما يوردونه من الشبهة ، فقال : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أي : إن كان له ولد في قولكم ، وعلى زعمكم ، فأنا أوّل من عبد الله وحده ، لأن من عبد الله وحده ، فقد دفع أن يكون له ولد ، كذا قال ابن قتيبة . وقال الحسن ، والسدّي : إن المعنى : ما كان للرحمن ولد ، ويكون قوله : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } ابتداء كلام ، وقيل : المعنى : قل يا محمد إن ثبت لله ولد ، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته ، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد . وفيه نفي للولد على أبلغ وجه ، وأتمّ عبارة ، وأحسن أسلوب ، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : { وَإِنَّا وَإِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ } [ سبأ : 24 ] ، ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره : إن ثبت ما تقوله بالدليل ، فأنا أوّل من يعتقده ، ويقول به ، فتكون «إن» في { إِن كَانَ } شرطية ، ورجح هذا ابن جرير ، وغيره . وقيل : معنى العابدين : الآنفين من العبادة ، وهو تكلف لا ملجىء إليه ، ولكن قرأ أبو عبد الرحمن اليماني : ( العبدين ) بغير ألف ، يقال : عبد يعبد عبداً بالتحريك : إذا أنف ، وغضب ، فهو : عبد ، والاسم العبدة مثل الأنفة ، ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } ، وليس بمستبعد ، ولا مستنكر . وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أنه من الأنف ، والغضب . وحكاه الماوردي عن الكسائي ، والقتيبي ، وبه قال الفراء . وكذا قال ابن الأعرابي : إن معنى العابدين : الغضاب الآنفين . وقال أبو عبيدة : معناه : الجاحدين ، وحكى : عبدني حقي ، أي : جحدني ، وقد أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق :
أولئك أجلاسي فجئني بمثلهم ... وأعبد أن أهجو كليباً بدارم
وقوله أيضاً :
أولاك أناس لو هجوني هجوتهم ... وأعبد أن يهجى كليب بدارم
ولا شك أن عبد ، وأعبد بمعنى : أنف ، أو غضب ثابت في لغة العرب ، وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة ، ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجىء إليه ، ومن التعسف الواضح . وقد ردّ ابن عرفة ما قالوه فقال : إنما يقال عبد يعبد ، فهو : عبد ، وقلّ ما يقال : عابد ، والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ، ولا الشاذ . قرأ الجمهور : { ولد } بالإفراد ، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما : ( ولد ) بضم الواو ، وسكون اللام { سبحان رَبّ السموات والأرض رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } أي : تنزيهاً له ، وتقديساً عما يقولون من الكذب بأن له ولداً ، ويفترون عليه سبحانه ما لا يليق بجنابه ، وهذا إن كان من كلام الله سبحانه ، فقد نزه نفسه عما قالوه ، وإن كان من تمام كلام رسوله الذي أمره بأن يقوله ، فقد أمره بأن يضمّ إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه ، وتقديسه { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي : اترك الكفار حيث لم يهتدوا بما هديتهم به ، ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم ، ويلهوا في دنياهم { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ } وهو : يوم القيامة ، وقيل : العذاب في الدنيا ، قيل : وهذا منسوخ بآية السيف ، وقيل : هو غير منسوخ ، وإنما أخرج مخرج التهديد .

قرأ الجمهور : { يلاقوا } ، وقرأ مجاهد ، وابن محيصن ، وحميد ، وابن السميفع : ( حتى يلقوا ) بفتح الياء ، وإسكان اللام من غير ألف ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو . { وَهُوَ الذى فِى السماء إله وَفِى الأرض إله } الجار ، والمجرور في الموضعين متعلق بإله؛ لأنه بمعنى : معبود ، أو مستحق للعبادة ، والمعنى : وهو الذي معبود في السماء ، ومعبود في الأرض ، أو مستحق للعبادة في السماء ، والعبادة في الأرض . قال أبو عليّ الفارسي : { وإله } في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : وهو الذي في السماء هو إله ، وفي الأرض هو إله ، وحسن حذفه لطول الكلام ، قال : والمعنى : على الإخبار بإلاهيته ، لا على الكون فيهما . قال قتادة : يعبد في السماء ، والأرض ، وقيل : في بمعنى على ، أي : هو القادر على السماء ، والأرض كما في قوله : { وَلأصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] وقرأ عمر بن الخطاب ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود : ( وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله ) على تضمين العلم معنى المشتق ، فيتعلق به الجار والمجرور من هذه الحيثية { وَهُوَ الحكيم العليم } أي : البليغ الحكمة الكثير العلم { وَتَبَارَكَ الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } تبارك : تفاعل من البركة ، وهي : كثرة الخيرات ، والمراد بما بينهما : الهواء ، وما فيه من الحيوانات { وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } أي : علم الوقت الذي يكون قيامها فيه { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فيجازي كلّ أحد بما يستحقه من خير ، وشرّ ، وفيه وعيد شديد . قرأ الجمهور : { ترجعون } بالفوقية ، وقرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، بالتحتية { وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشفاعة } أي : لا يملك من يدعونه من دون الله من الأصنام ، ونحوها الشفاعة عند الله كما يزعمون أنهم يشفعون لهم . قرأ الجمهور { يدعون } بالتحتية ، وقرأ السلمي ، وابن وثاب بالفوقية { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق } أي : التوحيد { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي : هم على علم ، وبصيرة بما شهدوا به ، والاستثناء يحتمل أن يكون متصلاً ، والمعنى : إلا من شهد بالحق ، وهم : المسيح ، وعزير ، والملائكة ، فإنهم يملكون الشفاعة لمن يستحقها .

وقيل : هو منقطع ، والمعنى : لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء ، ويجوز أن يكون المستثنى منه محذوفاً ، أي : لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق . قال سعيد بن جبير ، وغيره : معنى الآية : أنه لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق ، وآمن على علم ، وبصيرة . وقال قتادة : لا يشفعون لعابديها ، بل يشفعون لمن شهد بالوحدانية . وقيل : مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاماً لكل ما يعبد من دون الله ، ومدار الانقطاع على جعله خاصاً بالأصنام . { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } اللام هي : الموطئة للقسم ، والمعنى : لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم أقرّوا واعترفوا بأن خالقهم الله ، ولا يقدرون على الإنكار ، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر ، وجلائه { فأنى يُؤْفَكُونَ } أي : فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره ، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف ، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم ، أو حيوان ، وعبده مع الله ، أو عبده وحده ، فقد عبد بعض مخلوقات الله ، وفي هذا من الجهل ما لا يقادر قدره . يقال : أفكه يأفكه إفكاً : إذا قلبه ، وصرفه عن الشيء ، وقيل : المعنى : ولئن سألت المسيح ، وعزيراً ، والملائكة من خلقهم؟ ليقولنّ : الله ، فأنى يؤفك هؤلاء الكفار في اتخاذهم لها آلهة . وقيل : المعنى : ولئن سألت العابدين ، والمعبودين جميعاً . قرأ الجمهور : ( وقيله ) بالنصب عطفاً على محلّ الساعة ، كأنه قيل : إنه يعلم الساعة ، ويعلم قيله ، أو عطفاً على سرّهم ، ونجواهم ، أي : يعلم سرّهم ، ونجواهم ، ويعلم قيله ، أو عطفاً على مفعول يكتبون المحذوف ، أي : يكتبون ذلك ، ويكتبون قيله ، أو عطفاً على مفعول يعلمون المحذوف أي : يعلمون ذلك ، ويعلمون قيله ، أو هو مصدر أي : قال قيله ، أو منصوب بإضمار فعل ، أي : الله يعلم قيل رسوله ، أو هو معطوف على محل بالحقّ ، أي : شهد بالحق ، وبقيله ، أو منصوب على حذف حرف القسم . ومن المجوّزين للوجه الأوّل : المبرد ، وابن الأنباري ، ومن المجوّزين للثاني الفرّاء ، والأخفش ، ومن المجوّزين للنصب على المصدرية الفراء ، والأخفش أيضاً . وقرأ حمزة ، وعاصم : { وقيله } بالجرّ عطفاً على لفظ الساعة ، أي : وعنده علم الساعة ، وعلم قيله ، والقول والقال ، والقيل بمعنى واحد ، أو على أن الواو للقسم . وقرأ قتادة ، ومجاهد ، والحسن ، وأبو قلابة ، والأعرج ، وابن هرمز ، ومسلم بن جندب : ( وقيله ) بالرفع عطفاً على علم الساعة أي : وعنده علم الساعة ، وعنده قيله ، أو على الابتداء ، وخبره الجملة المذكورة بعده ، أو خبره محذوف تقديره ، وقيله كيت ، وكيت ، أو وقيله مسموع . قال أبو عبيد : يقال : قلت قولاً ، وقيلاً ، وقالاً ، والضمير في { وقيله } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . قال قتادة : هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه ، وقيل : الضمير عائد إلى المسيح ، وعلى الوجهين ، فالمعنى : أنه قال منادياً لربه : { يارب إِنَّ هَؤُلآء } الذين أرسلتني إليهم { قَوْم لاَّ يُؤْمِنُونَ } .

ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله : { فاصفح عَنْهُمْ } أي : أعرض عن دعوتهم { وَقُلْ سلام } أي : أمري تسليم منكم ، ومتاركة لكم . قال عطاء : يريد مداراة حتى ينزل حكمي ، ومعناه : المتاركة كقوله : { سلام عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الجاهلين } [ القصص : 55 ] . وقال قتادة : أمره بالصفح عنهم ، ثم أمره بقتالهم ، فصار الصفح منسوخاً بالسيف ، وقيل : هي محكمة لم تنسخ { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } فيه تهديد شديد ، ووعيد عظيم من الله عزّ وجلّ . قرأ الجمهور : { يعلمون } بالتحتية ، وقرأ نافع ، وابن عامر بالفوقية . قال الفراء : إن « سلام » مرفوع بإضمار عليكم .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث والنشور ، عن ابن عباس في قوله : { وَنَادَوْاْ يامالك } قال : يمكث عنهم ألف سنة ، ثم يجيبهم { إِنَّكُمْ ماكثون } . وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها ، قرشيان وثقفي ، أو ثقفيان وقرشي ، فقال واحد منهم : ترون أن الله يسمع كلامنا؟ فقال واحد منهم : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، فنزلت { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونجواهم } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } يقول : إن يكن للرحمن ولد { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } قال : الشاهدين . وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في قوله : { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } قال : هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط ، أي : ما كان . وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه .

حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

قوله : { حم * والكتاب المبين } قد تقدّم في السورتين المتقدمتين قبل هذه السورة الكلام على هذا معنى ، وإعراباً ، وقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } جواب القسم ، وإن جعلت الجواب { حم} كانت هذه الجملة مستأنفة ، وقد أنكر بعض النحويين أن تكون هذه الجملة جواباً للقسم ، لأنها صفة للمقسم به ، ولا تكون صفة المقسم به جواباً للقسم ، وقال : الجواب { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } ، واختاره ابن عطية ، وقيل : إن قوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } جواب ثانٍ ، أو جملة مستأنفة مقرّرة للإنزال ، وفي حكم العلة له كأنه قال : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار ، والضمير في { أنزلناه } راجع إلى الكتاب المبين ، وهو : القرآن . وقيل : المراد بالكتاب : سائر الكتب المنزّلة والضمير في { أنزلناه } راجع إلى القرآن على معنى : أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزّلة : أنه أنزل القرآن ، والأوّل أولى . والليلة المباركة : ليلة القدر كما في قوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ولها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة القدر . قال عكرمة : الليلة المباركة هنا : ليلة النصف من شعبان . وقال قتادة : أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أمّ الكتاب ، وهو : اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في سماء الدنيا ، ثم أنزله الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام في ثلاث وعشرين سنة ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] وقال مقاتل : كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من العام . ووصف الله سبحانه هذه الليلة ، بأنها مباركة لنزول القرآن فيها ، وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا ، ولكونها تتنزّل فيها الملائكة ، والروح كما سيأتي في سورة القدر ، ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه ها هنا بقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } ، ومعنى يفرق : يفصل ، ويبين من قولهم : فرقت الشي أفرقه فرقاً ، والأمر الحكيم : المحكم ، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت ، وبسط وقبض ، وخير وشرّ ، وغير ذلك ، كذا قال مجاهد ، وقتادة ، والحسن ، وغيرهم . وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة ، وما بينهما اعتراض ، أو مستأنفة لتقرير ما قبلها . قرأ الجمهور : { يفرق } بضمّ الياء ، وفتح الراء مخففاً ، وقرأ الحسن ، والأعمش ، والأعرج بفتح الياء وضم الراء ، ونصب كل أمر ، ورفع حكيم على أنه الفاعل . والحق ما ذهب إليه الجمهور من أن هذه الليلة المباركة هي : ليلة القدر لا ليلة النصف من شعبان ، لأن الله سبحانه أجملها هنا ، وبينها في سورة البقرة بقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن }

[ البقرة : 185 ] وبقوله في سورة القدر : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ، فلم يبق بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف ، ولا ما يقتضي الاشتباه { أَمْراً مّنْ عِنْدِنَا } قال الزجاج ، والفراء : انتصاب { أمراً } ب { يفرق } ، أي : يفرق فرقاً ، لأن أمراً بمعنى : فرقاً . والمعنى : إنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ ، فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك : يضرب ضرباً . قال المبرد : { أمراً } في موضع المصدر ، والتقدير : أنزلناه إنزالاً . وقال الأخفش : انتصابه على الحال ، أي : آمرين . وقيل : هو منصوب على الاختصاص ، أي : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، وفيه تفخيم لشأن القرآن ، وتعظيم له . وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب { أمراً } اثني عشر وجهاً أظهرها ما ذكرناه ، وقرأ زيد بن علي : ( أمر ) بالرفع ، أي : هو أمر { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } هذه الجملة إما بدل من قوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } ، أو جواب ثالث للقسم ، أو مستأنفة . قال الرازي : المعنى : إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } انتصاب { رحمة } على العلة ، أي : أنزلناه للرحمة ، قاله الزجاج . وقال المبرد : إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين أي : إنا كنا مرسلين رحمة . وقيل : هي مصدر في موضع الحال ، أي : راحمين ، قاله الأخفش . وقرأ الحسن : ( رحمة ) بالرفع على تقدير هي رحمة { إِنَّهُ هُوَ السميع } لمن دعاه { العليم } بكل شيء . ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم قدرته الباهرة ، فقال : { رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } قرأ الجمهور : ( ربُّ ) بالرفع عطفاً على السميع العليم ، أو على أنه مبتدأ ، وخبره { لا إله إلاّ هو } ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هو ربّ ، وقرأ الكوفيون : { ربّ } بالجرّ على أنه بدل من ربك ، أو بيان له ، أو نعت { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } بأنه ربّ السموات ، والأرض ، وما بينهما ، وقد أقرّوا بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع ، وجملة { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، أو خبر ربّ السموات كما مرّ ، وكذلك جملة { يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، فإنها مستأنفة مقرّرة لما قبلها { رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين } قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ ، أي : هو ربكم ، أو على أنه بدل من { ربّ السموات } ، أو بيان ، أو نعت له ، وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه ، وابن محيصن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو حيوة ، والحسن بالجرّ ، ووجه الجرّ ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجرّ في ربّ السموات { بَلْ هُمْ فِى شَكّ يَلْعَبُونَ } أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شكّ من التوحيد والبعث ، وفي إقرارهم بأن الله خالقهم ، وخالق سائر المخلوقات ، وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزو ، ومحلّ { يلعبون } الرفع على أنه خبر ثان ، أو النصب على الحال .

{ فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، لأن كونهم في شك ولعب يقتضي ذلك؛ والمعنى : فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين ، وقيل المعنى : احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين .
وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل : إنه من أشراط الساعة ، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوماً . وقد ثبت في الصحيح : أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة ، وقيل : إنه أمر قد مضى ، وهو ما أصاب قريشاً بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء ، والأرض دخاناً ، وهذا ثابت في الصحيحين ، وغيرهما : وذلك حين دعا عليهم النبي بسنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، وكان الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، وقيل : إنه يوم فتح مكة ، وسيأتي في آخر البحث بيان ما يدلّ على هذه الأقوال . وقوله : { يَغْشَى الناس } صفة ثانية لدخان ، أي : يشملهم ، ويحيط بهم { هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : يقولون هذا عذاب أليم ، أو قائلين ذلك ، أو يقول الله لهم ذلك { رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي : يقولون ذلك ، وقد روي أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا ، والمراد بالعذاب : الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان ، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة ، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال . والراجح منها : أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد ، وشدّة الجوع ، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة ، فإن ذلك دخان آخر ، ولا ينافيه أيضاً ما قيل : إنه الذي كان يوم فتح مكة ، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه . { أنى لَهُمُ الذكرى } أي : كيف يتذكرون ، ويتعظون بما نزل بهم والحال أن { قَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين ، والدنيا { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } أي : أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم ، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض عنه ، بل جاوزوه { وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي قالوا : إنما يعلمه القرآن بشر ، وقالوا : إنه مجنون ، فكيف يتذكر هؤلاء ، وأنى لهم الذكرى . ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب ، وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله : { إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً } أي : إنا نكشفه عنهم كشفاً قليلاً ، أو زماناً قليلاً ، ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك ، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان ، فقال : { إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } أي : إلى ما كنتم عليه من الشرك ، وقد كان الأمر هكذا ، فإن الله سبحانه لما كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، والعناد ، وقيل المعنى : إنكم عائدون إلينا بالبعث ، والنشور ، والأوّل أولى { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى } الظرف منصوب بإضمار اذكر ، وقيل : هو بدل من يوم تأتي السماء ، وقيل : هو متعلق ب { منتقمون } ، وقيل : بما دلّ عليه منتقمون ، وهو ننتقم .

والبطشة الكبرى : هي : يوم بدر ، قاله الأكثر . والمعنى : أنهم لما عادوا إلى التكذيب ، والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر . وقال الحسن ، وعكرمة : المراد بها : عذاب النار ، واختار هذا الزجاج ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور : { نبطش } بفتح النون ، وكسر الطاء ، أي : نبطش بهم ، وقرأ الحسن ، وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة ، وقرأ أبو رجاء ، وطلحة بضم النون ، وكسر الطاء .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { فِى لَيْلَةٍ مباركة } قال : أنزل القرآن في ليلة القدر ، ونزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجوماً لجواب الناس . وأخرج محمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } قال : يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت ، وحياة ، ومطر ، حتى يكتب الحاج : يحج فلان ، ويحج فلان . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } قال : أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة ، فإنه في كتاب الله لا يبدّل ، ولا يغير . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب قال : إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى ، ثم قرأ : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } الآية ، يعني : ليلة القدر ، قال : ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت ، أو حياة ، أو رزق ، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها . وأخرج ابن زنجويه ، والديلمي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان ، حتى إن الرجل لينكح ، ويولد له ، وقد خرج اسمه في الموتى » وأخرجه ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس ، وهذا مرسل ، ولا تقوم به حجة ، ولا تعارض بمثله صرائح القرآن . وما روي في هذا ، فهو إما مرسل ، أو غير صحيح . وقد أورد ذلك صاحب الدرّ المنثور ، وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان ، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله : { في ليلة مباركة } . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن ابن مسعود : أن قريشاً لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبطئوا عن الإسلام قال :

« اللهمّ أعني عليهم بسبع كسبع يوسف » ، فأصابهم قحط ، وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } الآية ، فأتي النبي فقيل : يا رسول الله استسق الله لمضر ، فاستسقى لهم ، فسقوا ، فأنزل الله : { إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } ، فانتقم الله منهم يوم بدر ، فقد مضى البطشة ، والدخان ، واللزام . وقد روي عن ابن مسعود ، نحو هذا من غير وجه ، وروي نحوه عن جماعة من التابعين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن ابن أبي مليكة قال : دخلت على ابن عباس فقال : لم أنم هذه الليلة ، فقلت : لم؟ قال : طلع الكوكب ، فخشيت أن يطرق الدخان . قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح ، وكذا صححه السيوطي ، ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية . وقد عرّفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع ، وبين كون الدّخان من آيات الساعة ، وعلاماتها ، وأشراطها ، فقد وردت أحاديث صحاح ، وحسان ، وضعاف بذلك ، وليس فيها أنه سبب نزول الآية ، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها ، والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما : أن دخان قريش عند الجهد ، والجوع هو سبب النزول ، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره ، وغيره ، وهكذا يندفع قول من قال : إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكاً بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال : كان يوم فتح مكة دخان ، وهو قول الله { فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظنّ من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية ، ولهذا لم يصرّح بأنه سبب نزولها . وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة قال : قال ابن عباس : قال ابن مسعود : البطشة الكبرى : يوم بدر ، وأنا أقول : هي يوم القيامة . قال ابن كثير : وهذا إسناد صحيح . وقال ابن كثير قبل هذا : فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر ، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدّخان بما تقدّم ، وروي أيضاً عن ابن عباس من رواية العوفي عنه ، وعن أبيّ بن كعب ، وجماعة ، وهو محتمل . والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضاً . انتهى .
قلت : بل الظاهر أنه يوم بدر ، وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة ، فإن السياق مع قريش ، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجنّ .

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)

قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } أي : ابتليناهم ، ومعنى الفتنة هنا : أن الله سبحانه أرسل إليهم رسله ، وأمروهم بما شرعه لهم ، فكذبوهم ، أو وسع عليهم الأرزاق ، فطغوا وبغوا . قال الزجاج : بلوناهم ، والمعنى : عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسل إليهم ، وقرىء ( فتنا ) بالتشديد { وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } أي : كريم على الله كريم في قومه ، وقال مقاتل : حسن الخلق بالتجاوز ، والصفح . وقال الفراء : كريم على ربه إذا اختصه بالنبوّة { أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله } « أن » هذه هي المفسرة لتقدّم ما هو بمعنى القول ، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، والمعنى : أن الشأن ، والحديث أدّوا إليّ عباد الله ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : بأن أدّوا؛ والمعنى : أنه طلب منهم أن يسلموا إليه بني إسرائيل . قال مجاهد : المعنى : أرسلوا معي عباد الله ، وأطلقوهم من العذاب ، فعباد الله على هذا مفعول به . وقيل المعنى : أدّوا إليّ عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله ، فيكون منصوباً على أنه منادى مضاف . وقيل : أدّوا إليّ سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربكم . { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } هو : تعليل لما تقدّم ، أي : { رسول } من الله إليكم { أمين } على الرسالة غير متهم { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله } أي : لا تتجبروا ، وتتكبروا عليه ، بترفعكم عن طاعته ، ومتابعة رسله ، وقيل : لا تبغوا على الله ، وقيل : لا تفتروا عليه ، والأوّل أولى . وبه قال ابن جريج ، ويحيى بن سلام ، وجملة { إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } تعليل لما قبله من النهي ، أي : بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها . وقال قتادة : بعذر بين . والأوّل أولى ، وبه قال يحيى بن سلام . قرأ الجمهور بكسر همزة { إِنّى } ، وقرىء بالفتح بتقدير اللام { وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } استعاذ بالله سبحانه لما توعدوه بالقتل ، والمعنى : من أن ترجمون . قال قتادة : ترجموني بالحجارة ، وقيل : تشتمون ، وقيل : تقتلون { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون } أي : إن لم تصدّقوني ، وتقرّوا بنبوّتي ، فاتركوني ، ولا تتعرّضوا لي بأذى . قال مقاتل : دعوني كفافاً لا عليّ ، ولا لي . وقيل : كونوا بمعزل عني ، وأنا بمعزل منكم إلى أن يحكم الله بيننا ، وقيل : فخلوا سبيلي ، والمعنى متقارب . ثم لما لم يصدّقوه ، ولم يجيبوا دعوته ، رجع إلى ربه بالدعاء كما حكى الله عنه بقوله : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار حرف الجرّ ، أي : دعاه بأن هؤلاء ، وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول ، وفي الكلام حذف ، أي : فكفروا فدعا ربه ، والمجرمون : الكافرون ، وسماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرّد كونهم مجرمين ، لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم { فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً } أجاب الله سبحانه دعاءه ، فأمره أن يسري ببني إسرائيل ليلاً ، يقال : سرى وأسرى لغتان ، قرأ الجمهور : { فأسر } بالقطع .

وقرأ أهل الحجاز بالوصل ، ووافقهم ابن كثير ، فالقراءة الأولى من أسرى ، والثانية من سرى ، والجملة بتقدير القول ، أي : فقال الله لموسى أسر بعبادي { إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ } أي : يتبعكم فرعون ، وجنوده ، وقد تقدّم في غير موضع خروج فرعون بعدهم { واترك البحر رَهْواً } أي : ساكناً ، يقال : رها يرهو رهواً : إذا سكن لا يتحرّك . قال الجوهري : يقال : افعل ذلك رهواً ، أي : ساكناً على هيئتك ، وعيش راه ، أي : ساكن ، ورها البحر سكن ، وكذا قال الهروي ، وغيره ، وهو المعروف في اللغة ، ومنه قول الشاعر :
والخيل تمرح رهوا في أعنتها ... كالطير تنجو من الشؤبوب ذي البرد
أي : والخيل تمرح في أعنتها ساكنة ، والمعنى : اترك البحر ساكناً على صفته بعد أن ضربته بعصاك ، ولا تأمره أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك ، وبعد بني إسرائيل ، فينطبق عليهم ، فيغرقون . وقال أبو عبيدة : رها بين رجليه يرهو رهواً ، أي : فتح . . قال : ومنه قوله : { واترك البحر رَهْواً } ، والمعنى : اتركه منفرجاً كما كان بعد دخولكم فيه ، وكذا قال أبو عبيد : وبه قال مجاهد ، وغيره . قال ابن عرفة : وهما يرجعان إلى معنى واحد ، وإن اختلف لفظاهما ، لأن البحر إذا سكن جريه انفرج . قال الهروي : ويجوز أن يكون { رهواً } نعتاً لموسى ، أي : سر ساكناً على هيئتك . وقال كعب ، والحسن : { رهواً } : طريقاً . وقال الضحاك ، والربيع : سهلاً . وقال عكرمة : يبساً كقوله : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِى البحر يَبَساً } [ طه : 77 ] وعلى كل تقدير ، فالمعنى : اتركه ذا رهو ، أو اتركه رهواً على المبالغة في الوصف بالمصدر { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } أي : إن فرعون ، وقومه مغرقون . أخبر سبحانه موسى بذلك ليسكن قلبه ، ويطمئن جأشه . قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف لقصد الإخبار بذلك ، وقرىء بالفتح على تقدير لأنهم . { كَمْ } هي الخبرية المفيدة للتكثير ، وقد مضى الكلام في معنى الآية في سورة الشعراء . قرأ الجمهور : { وَمَقَامٍ } بفتح الميم على أنه اسم مكان للقيام ، وقرأ ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميفع ، وروى عن نافع بضمها اسم مكان الإقامة { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فاكهين } النعمة بالفتح : التنعم يقال : نعمه الله ، وناعمه ، فتنعم ، وبالكسر : المنة ، وما أنعم به عليك ، وفلان واسع النعمة ، أي : واسع المال ذكر معنى هذا الجوهري . قرأ الجمهور : { فاكهين } بالألف . وقرأ أبو رجاء ، والحسن ، وأبو الأشهب ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة : ( فكهين ) بغير ألف ، والمعنى على القراءة الأولى : متنعمين طيبة أنفسهم ، وعلى القراءة الثانية : أشرين بطرين . قال الجوهري : فكه الرجل بالكسر ، فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحاً ، والفكه أيضاً : الأشر البطر . قال : { وفاكهين } أي : ناعمين . وقال الثعلبي : هما لغتان كالحاذر ، والحذر ، والفاره والفره .

وقيل : إن الفاكهة هو : المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة . { كَذَلِكَ وأورثناها قَوْماً ءاخَرِينَ } الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف . قال الزجاج : أي : الأمر كذلك ، ويجوز أن تكون في محل نصب ، والإشارة إلى مصدر فعل يدلّ عليه تركوا ، أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها ، وقيل : مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها ، وقيل : مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم . فعلى الوجه الأوّل يكون قوله : { وأورثناها } معطوفاً على { تَرَكُواْ } ، وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفاً على الفعل المقدّر . والمراد بالقوم الآخرين : بنو إسرائيل ، فإن الله سبحانه ملكهم أرض مصر بعد أن كانوا فيها مستعبدين ، فصاروا لها وارثين ، أي : أنها وصلت إليهم كما يصل الميراث إلى الوارث ، ومثل هذا قوله : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها } [ الأعراف : 137 ] { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض } هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم . قال المفسرون : أي : إنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم به ، ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يبكي عليهم به ، والمعنى : أنه لم يصب بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ، ولا من أهل الأرض ، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء ، والأرض ، أي : عمت مصيبته ، ومن ذلك قول جرير :
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
ومنه قول النابغة :
بكى حارث الحولان من فقد ربه ... وحوران منه خاشع متضائل
وقال الحسن : في الكلام مضاف محذوف ، أي : ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس . وقال مجاهد : إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحاً ، وقيل : إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته ، ومصاعد عمله { وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } أي : ممهلين إلى وقت آخر بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم ، وشدّة عنادهم { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل مِنَ العذاب المهين } أي : خلصناهم بإهلاك عدوّهم مما كانوا فيه من الاستعباد ، وقتل الأبناء واستحياء النساء ، وتكليفهم للأعمال الشاقة ، وقوله : { مِن فِرْعَوْنَ } بدل من العذاب إما على حذف مضاف ، أي : من عذاب فرعون ، وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب ، فأبدل منه ، أو على أنه حال من العذاب تقديره : صادراً من فرعون ، وقرأ ابن عباس : ( من فرعون ) ؟ بفتح الميم على الاستفهام التحقيري كما يقال لمن افتخر بحسبه ، أو نسبه : من أنت؟ ثم بيّن سبحانه حاله ، فقال : { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين } أي : عالياً في التكبر والتجبر من المسرفين في الكفر بالله ، وارتكاب معاصيه كما في قوله : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الأرض } [ القصص : 4 ] . ولما بيّن سبحانه كيفية دفعه للضر عن بني إسرائيل بيّن ما أكرمهم به ، فقال : { وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين } أي : اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم منه باستحقاقهم لذلك ، وليس المراد : أنه اختارهم على جميع العالمين بدليل قوله في هذه الأمة :

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وقيل : على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم ، ومحل { على علم } النصب على الحال من فاعل { اخترناهم } أي : حال كون اختيارنا لهم على علم منا ، و { على العالمين } متعلق باخترناهم { وءاتيناهم مِنَ الآيات } أي : معجزات موسى { مَا فِيهِ بَلَؤٌاْ مُّبِينٌ } أي : اختبار ظاهر ، وامتحان واضح لننظر كيف يعملون . وقال قتادة : الآيات إنجاؤهم من الغرق ، وفلق البحر لهم ، وتظليل الغمام عليهم ، وإنزال المنّ والسلوى لهم . وقال ابن زيد : الآيات هي : الشرّ الذي كفهم عنه ، والخير الذي أمرهم به . وقال الحسن ، وقتادة : البلاء المبين : النعمة الظاهرة كما في قوله : { وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا } [ الأنفال : 17 ] ، ومنه قول زهير :
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو ... والإشارة بقوله : { إِنَّ هَؤُلآء } إلى كفار قريش ، لأن الكلام فيهم ، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر { لَيَقُولُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى } أي : ما هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها في الدنيا ، ولا حياة بعدها ، ولا بعث ، وهو معنى قوله : { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } أي : بمبعوثين ، وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى ، بل المراد : ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية ، قال الرازي : المعنى : أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة الأولى ، ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلاً ، وهو : حجة داحضة ، فقالوا : { فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا } أي : ارجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا { إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تقولونه ، وتختبرونا به من البعث . ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } أي : أهم خير في القوّة والمنعة ، أم قوم تبع الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه ، وغلب أهلها ، وقهرهم ، وفيه وعيد شديد . وقيل : المراد بقوم تبع : جميع أتباعه لا واحد بعينه . وقال الفراء : الخطاب في قوله : { فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا } لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحده كقوله : { رَبّ ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] ، والأولى أنه خطاب له ، ولأتباعه من المسلمين والمراد ب { الذين مِن قَبْلِهِمْ } عاد ، وثمود ، ونحوهم ، وقوله : { أهلكناهم } جملة مستأنفة لبيان حالهم ، وعاقبة أمرهم ، وجملة { إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } تعليل لإهلاكهم ، والمعنى : أن الله سبحانه قد أهلك هؤلاء بسبب كونهم مجرمين ، فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرماً مع ضعفه ، وقصور قدرته بالأولى .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا } قال : ابتلينا { قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } قال : هو : موسى { أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله } أرسلوا معي بني إسرائيل { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله } قال : لا تعثوا { إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِين } قال : بعذر مبين { وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } قال : بالحجارة { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون } أي : خلوا سبيلي .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : { أَنْ أَدُّواْ إِلَىَّ عِبَادَ الله } قال : يقول : اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق ، وفي قوله : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله } قال : لا تفتروا وفي قوله : { أَن تَرْجُمُونِ } قال : تشتمون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضاً في قوله : { رَهْواً } قال : سمتا . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { رَهْواً } قال : كهيئة ، وامضه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه أيضاً : أنه سأل كعباً عن قوله : { واترك البحر رَهْواً } قال : طريقاً . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس أيضاً قال : الرّهو : أن يترك كما كان . وأخرج ابن أبي حاتم ، عنه أيضاً في قوله : { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } قال : المنابر . وأخرج ابن مردويه ، عن جابر مثله . وأخرج الترمذي ، وابن أبي الدنيا ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والخطيب عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من عبد إلاّ وله بابان : باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات ، فقداه ، وبكيا عليه » ، وتلا هذه الآية { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض } وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملاً صالحاً تبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام صالح ، فتفقدهم ، فتبكي عليهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب نحوه من قول ابن عباس . وأخرج أبو الشيخ عنه قال : يقال : الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحاً . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، عن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الإسلام بدأ غريباً ، وسيعود غريباً كما بدأ ، ألا لا غربة على مؤمن ، ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه ، إلا بكت عليه السماء والأرض » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض } ثم قال : « إنهما لا يبكيان على كافر » وأخرج ابن المبارك ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر من طريق المسيب بن رافع ، عن عليّ بن أبي طالب قال : إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ، ومصعد عمله من السماء ، ثم تلا الآية . وأخرج ابن المبارك ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن عباس قال : إن الأرض لتبكي على ابن آدم أربعين صباحاً ، ثم قرأ الآية . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم » وأخرجه أحمد ، والطبراني ، وابن ماجه ، وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر مثله ، وروي نحو هذا عن غيرهما من الصحابة ، والتابعين .

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

قوله : { وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : بين جنسي السماء ، والأرض { لاَعِبِينَ } أي : لغير غرض صحيح . قال مقاتل : لم نخلقهما عابثين لغير شيء . وقال الكلبي : لاهين ، وقيل : غافلين . قرأ الجمهور : { وما بينهما } وقرأ عمرو بن عبيد : ( وما بينهنّ ) لأن السموات ، والأرض جمع ، وانتصاب { لاعبين } على الحال { مَا خلقناهما } أي : وما بينهما { إِلاَّ بالحق } أي : إلا بالأمر الحق ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال . وقال الكلبي : إلا للحق ، وكذا قال الحسن ، وقيل : إلاّ لإقامة الحق ، وإظهاره { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أن الأمر كذلك ، وهم المشركون { إِنَّ يَوْمَ الفصل ميقاتهم أَجْمَعِينَ } أي : إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ميقاتهم ، أي : الوقت المجعول لتمييز المحسن من المسيء ، والمحقّ من المبطل ، { أجمعين } لا يخرج عنهم أحد من ذلك . وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على أنه خبر « إن » ، واسمها { يوم الفصل } . وأجاز الكسائي ، والفراء نصبه على أنه اسمها ، و « يوم الفصل » خبرها . ثم وصف سبحانه ذلك اليوم ، فقال : { يَوْمَ لاَ يُغْنِى مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } { يوم } بدل من { يوم الفصل } ، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل ، أي : يفصل بينهم يوم لا يغني ، ولا يجوز أن يكون معمولاً للفصل؛ لأنه قد وقع الفصل بينهما بأجنبي ، والمعنى : أنه لا ينفع في ذلك اليوم قريب قريباً ، ولا يدفع عنه شيئاً ، ويطلق المولى على الوليّ ، وهو : القريب ، والناصر { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } الضمير راجع إلى المولى باعتبار المعنى؛ لأنه نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، أي : ولا هم يمنعون من عذاب الله { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله } قال الكسائي : الاستثناء منقطع ، أي : لكن من رحم الله ، وكذا قال الفراء . وقيل : هو متصل ، والمعنى : لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة ، فيشفعون ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على البدل من { مولى } الأوّل ، أو من الضمير في { ينصرون } { إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم } أي : الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه الرحيم لعباده المؤمنين . ثم لما وصف اليوم ذكر بعده ، وعيد الكفار ، فقال : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } شجرة الزّقوم هي : الشجرة التي خلقها الله في جهنم ، وسماها الشجرة الملعونة ، فإذا جاع أهل النار التجئوا إليها ، فأكلوا منها ، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات . والأثيم : الكثير الإثم . قال في الصحاح : أثم الرجل بالكسر إثماً ، ومأثماً : إذا وقع في الإثم ، فهو : آثم ، وأثيم ، وأثوم . فمعنى طعام الأثيم : ذي الإثم { كالمهل } وهو : درديّ الزيت ، وعكر القطران . وقيل : هو النحاس المذاب .

وقيل : كلّ ما يذوب في النار { يَغْلِى فِى البطون * كَغَلْىِ الحميم } قرأ الجمهور : { تغلي } بالفوقية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الشجرة ، والجملة خبر ثانٍ ، أو حال ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : تغلي غلياً مثل غلي الحميم ، وهو : الماء الشديد الحرارة . وقرأ ابن كثير ، وحفص ، وابن محيصن ، وورش ، عن يعقوب : { يغلي } بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام وهو : في معنى الشجرة ، ولا يصح أن يكون الضمير عائداً إلى المهل؛ لأنه مشبه به ، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل ، وقوله : { كَغَلْىِ الحميم } صفة مصدر محذوف ، أي : غلياً كغلي الحميم { خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَاء الجحيم } أي : يقال للملائكة الذين هم خزنة النار : خذوه ، أي : الأَثيم ، فاعتلوه ، العتل : القود بالعنف ، يقال : عتله يعتله ، إذا جرّه ، وذهب به إلى مكروه ، وقيل العتل : أن يأخذ بتلابيب الرجل ، ومجامعه ، فيجره ، ومنه قول الشاعر يصف فرساً :
نقرعه قرعاً ولسنا نعتله ... ومنه قول الفرزدق يهجو جريراً :
حتى تردّ إلى عطية تعتل ... قرأ الجمهور : { فاعتلوه } بكسر التاء . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر بضمها ، وهما : لغتان { إلى سَوَاء الجحيم } أي : إلى وسطه ، كقوله : { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم } [ الصافات : 55 ] { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم } « من » هي التبعيضية ، أي : صبوا فوق رأسه بعض هذا النوع ، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان ، أي : عذاب هو الحميم ، وهو : الماء الشديد الحرارة كما تقدّم { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } أي : وقولوا له تهكماً ، وتقريعاً ، وتوبيخاً : ذق العذاب إنك أنت العزيز الكريم . وقيل : إن أبا جهل كان يزعم أنه أعزّ أهل الوادي ، وأكرمهم ، فيقولون له : ذق العذاب أيها المتعزّز المتكرم في زعمك ، وفيما كنت تقوله . قرأ الجمهور : { إنك } بكسر الهمزة ، وقرأ الكسائي - وروي ذلك عن عليّ - بفتحها أي لأنك . قال الفراء : أي : بهذا القول الذي قلته في الدنيا ، والإشارة بقوله : { إِنَّ هَذَا } إلى العذاب { مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } أي : تشكون فيه حين كنتم في الدنيا ، والجمع باعتبار جنس الأثيم . ثم ذكر سبحانه مستقرّ المتقين ، فقال : { إِنَّ المتقين فِى مَقَامٍ أَمِينٍ } أي : الذين اتقوا الكفر والمعاصي . قرأ الجمهور : { مقام } بفتح الميم ، وقرأ نافع ، وابن عامر بضمها . فعلى القراءة الأولى هو : موضع القيام ، وعلى القراءة الثانية هو : موضع الإقامة قاله الكسائي ، وغيره . وقال الجوهري : قد يكون كل واحد منهما بمعنى : الإقامة ، وقد يكون بمعنى : موضع القيام . ثم وصف المقام بأنه أمين يأمن صاحبه من جميع المخاوف { فِى جنات وَعُيُونٍ } بدل من { مقام أمين } ، أو بيان له ، أو خبر ثانٍ { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } خبر ثانٍ ، أو ثالث ، أو حال من الضمير المستكنّ في الجار والمجرور ، والسندس : ما رقّ من الديباج ، والإستبرق : ما غلظ منه ، وقد تقدّم بيانه في سورة الكهف ، وانتصاب { متقابلين } على الحال من فاعل { يلبسون } ، أي : متقابلين في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض ، والكاف في قوله : { كذلك } إما نعت مصدر محذوف ، أي : نفعل بالمتقين فعلاً كذلك .

أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك { وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ } أي : أكرمناهم بأن زوّجناهم بحور عين ، والحور جمع حوراء وهي : البيضاء ، والعين جمع عيناء : وهي الواسعة العينين . وقال مجاهد : إنما سميت الحوراء حوراء ، لأنه يحار الطرف في حسنها ، وقيل : هو من حور العين وهو : شدّة بياض العين في شدّة سوادها كذا قال أبو عبيدة . وقال الأصمعي : ما أدري ما الحور في العين . قال أبو عمرو : الحور أن تسودّ العين كلها مثل أعين الظباء والبقر ، قال : وليس في بني آدم حور ، وإنما قيل للنساء حور : لأنهنّ شبهن بالظباء والبقر . قيل : والمراد بقوله : { زوّجناهم } قرناهم ، وليس من عقد التزويج ، لأنه لا يقال : زوّجته بامرأة . وقال أبو عبيدة : وجعلناهم أزواجاً لهنّ كما يزوّج البعل بالبعل أي : جعلناهم اثنين اثنين ، وكذا قال الأخفش { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة ءامِنِينَ } أي : يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم ، والأسقام ، والآلام . قال قتادة : آمنين من الموت ، والوصب ، والشيطان ، وقيل : من انقطاع ما هم فيه من النعيم . { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } أي : لا يموتون فيها أبداً إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا ، والاستثناء منقطع ، أي : لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا ، كذا قال الزّجاج والفراء ، وغيرهما ، ومثل هذه الآية قوله : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 22 ] وقيل : إن « إلا » بمعنى بعد ، كقولك : ما كلمت رجلاً اليوم إلا رجلاً عندك ، أي : بعد رجل عندك ، وقيل : هي بمعنى : سوى ، أي : سوى الموتة الأولى . وقال ابن قتيبة : إنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا ، لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون الروح والريحان ، ويرون منازلهم من الجنة ، وتفتح لهم أبوابها ، فإذا ماتوا في الدنيا ، فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم بأسبابها ، ومشاهدتهم إياها ، فيكون الاستثناء على هذا متصلاً . واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد ، واختار كونها بمعنى سوى ابن عطية { ووقاهم عَذَابَ الجحيم } . قرأ الجمهور : { وقاهم } بالتخفيف ، وقرأ أبو حيوة بالتشديد على المبالغة { فَضْلاً مّن رَّبّكَ } أي : لأجل الفضل منه ، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلاً منه { ذلك هُوَ الفوز العظيم } أي : ذلك الذي تقدّم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده ، المتناهي في العظم . ثم لما بيّن سبحانه الدلائل ، وذكر الوعد ، والوعيد ، قال : { فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي : إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك ، فيتذكروا ، ويعتبروا ، ويعملوا بما فيه ، أو سهلناه بلغتك عليك ، وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون { فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } أي : فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم ، وإهلاكهم على يدك ، فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت ، أو غيره ، وقيل : انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم ، فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر ، والمعنى متقارب .

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } يقول : لست بعزيز ، ولا كريم . وأخرج الأموي في مغازيه ، عن عكرمة قال : لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ، فقال : « إن الله أمرني أن أقول لك : { أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } » [ القيامة : 34 ، 35 ] قال : فنزع يده من يده ، وقال : ما تستطيع لي أنت ، ولا صاحبك من شيء ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء ، وأنا العزيز الكريم ، فقتله الله يوم بدر ، وأذله ، وعيره بكلمته ، وأنزل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } قال : المهل . وأخرج عنه أيضاً : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } قال : هو أبو جهل بن هشام .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

قوله : { حم } قد تقدّم الكلام في هذه الفاتحة ، وفي إعرابها ، في فاتحة سورة « غافر » ، وما بعدها ، فإن جعل اسماً للسورة ، فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ ، وإن جعل حروفاً مسرودة على نمط التعديد ، فلا محلّ له ، وقوله : { تَنزِيلُ الكتاب } على الوجه الأوّل خبر ثان ، وعلى الوجه الثاني خبر المبتدأ ، وعلى الوجه الثالث خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ وخبره { مِنَ الله العزيز الحكيم } ثم أخبر سبحانه بما يدل على قدرته الباهرة ، فقال : { إِنَّ فِى السموات والأرض لآيات لّلْمُؤْمِنِينَ } أي : فيها نفسها ، فإنها من فنون الآيات ، أو في خلقها . قال الزجاج : ويدلّ على أن المعنى في خلق السموات والأرض قوله : { وَفِى خَلْقِكُمْ } أي : في خلقكم أنفسكم على أطوار مختلفة . قال مقاتل : من تراب ، ثم من نطفة إلى أن يصير إنساناً ، { وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ ءايات } أي : وفي خلق ما يبثّ من دابة ، وارتفاع آيات على أنها مبتدأ مؤخر ، وخبره الظرف قبله ، وبالرفع قرأ الجمهور ، وقرأ حمزة ، والكسائي ( آيات ) بالنصب عطفاً على اسم إن ، والخبر قوله : { وَفِى خَلْقِكُمْ } كأنه قيل : وإن في خلقكم وما يبثّ من دابة آيات ، أو على أنها تأكيد لآيات الأولى . وقرأ الجمهور أيضاً { آيات لقوم يعقلون } بالرّفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي بنصبها مع اتفاقهم على الجرّ في اختلاف ، أما جرّ « اختلاف » ، فهو على تقدير حرف الجرّ أي : في { َلَهُ اختلاف اليل والنهار } آيات ، فمن رفع آيات ، فعلى أنها مبتدأ ، وخبرها : في اختلاف ، وأما النصب فهو من باب العطف على معمولي عاملين مختلفين . قال الفراء : الرفع على الاستئناف بعد إنّ ، تقول العرب : إنّ لي عليك مالاً ، وعلى أخيك مال ، ينصبون الثاني ويرفعونه ، وللنحاة في هذا الموضع كلام طويل . والبحث في مسألة العطف على معمولي عاملين مختلفين ، وحجج المجوّزين له ، وجوابات المانعين له مقرّر في علم النحو مبسوط في مطوّلاته . ومعنى : { مَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ } : ما يفرقه وينشره { واختلاف اليل والنهار } تعاقبهما ، أو تفاوتهما في الطول والقصر ، وقوله : { وَمَا أَنَزَلَ الله مِنَ السماء مَّن رِزْقٍ } معطوف على اختلاف ، والرزق : المطر؛ لأنه سبب لكل ما يرزق الله العباد به ، وإحياء الأرض : إخراج نباتها ، و { مَوْتِهَا } : خلّوها عن النبات ومعنى { وَتَصْرِيفِ الرياح } : أنها تهب تارة من جهة وتارة من أخرى ، وتارة تكون حارّة وتارة تكون باردة ، وتارة نافعة ، وتارة ضارّة { تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } أي : هذه الآيات المذكورة هي حجج الله وبراهينه ، ومحل : { نتلوها عليك } النصب على الحال ، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر اسم الإشارة ، وآيات الله بيان له ، أو بدل منه ، وقوله : { بالحق } حال من فاعل نتلو ، أو من مفعوله أي : محقين ، أو ملتبسة بالحقّ ، ويجوز أن تكون الباء للسببية ، فتتعلق بنفس الفعل { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } أي : بعد حديث الله وبعد آياته ، وقيل إن المقصود : فبأي حديث بعد آيات الله ، وذكر الاسم الشريف ليس إلاّ لقصد تعظيم الآيات ، فيكون من باب : أعجبني زيد ، وكرمه .

وقيل المراد : بعد حديث الله ، وهو القرآن كما في قوله : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } [ الزمر : 23 ] ، وهو المراد بالآيات ، والعطف لمجرّد التغاير العنواني . قرأ الجمهور : ( تؤمنون ) بالفوقية ، وقرأ حمزة ، والكسائي بالتحتية . والمعنى : يؤمنون بأيّ حديث ، وإنما قدّم عليه؛ لأن الاستفهام له صدر الكلام . { وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي : لكل كذاب كثير الإثم مرتكب لما يوجبه ، والويل : واد في جهنم . ثم وصف هذا الأفاك بصفة أخرى ، فقال : { يَسْمَعُ ءايات الله تتلى عَلَيْهِ } وقيل : إن يسمع في محل نصب على الحال ، وقيل : استئناف ، والأول أولى ، وقوله : { تتلى عَلَيْهِ } في محل نصب على الحال { ثُمَّ يُصِرُّ } على كفره ، ويقيم على ما كان عليه حال كونه { مُسْتَكْبِراً } أي : يتمادى على كفره متعظماً في نفسه عن الانقياد للحقّ ، والإصرار مأخوذ من إصرار الحمار على العانة وهو أن ينحني عليها صارًّا أذنيه . قال مقاتل : إذا سمع من آيات القرآن شيئًا اتخذها هزواً ، وجملة : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } : في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة؛ وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف { فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا من باب التهكم أي : فبشّره على إصراره واستكباره ، وعدم استماعه إلى الآيات بعذاب شديد الألم { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً } قرأ الجمهور { علم } بفتح العين ، وكسر اللام مخففة على البناء للفاعل . وقرأ قتادة ، ومطر الورّاق على البناء للمفعول . والمعنى : أنه إذا وصل إليه علم شيء من آيات الله { اتخذها } أي : الآيات { هُزُواً } وقيل : الضمير في اتخذها عائد إلى { شيئًا } ؛ لأنه عبارة عن الآيات ، والأوّل أولى . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى كلّ أفاك متصف بتلك الصفات { لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } بسبب ما فعلوا من الإصرار ، والاستكبار عن سماع آيات الله ، واتخاذها هزواً ، والعذاب المهين : هو المشتمل على الإذلال ، والفضيحة { مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } أي : من وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا ، والتكبر عن الحقّ جهنّم؛ فإنها من قدّامهم؛ لأنهم متوجهون إليها ، وعبر بالوراء عن القدّام ، كقوله : { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } [ الرعد : 16 ] وقول الشاعر :
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... وقيل : جعلها باعتبار إعراضهم عنها ، كأنها خلفهم { وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } أي : لا يدفع عنهم ما كسبوا من أموالهم ، وأولادهم شيئًا من عذاب الله ، ولا ينفعهم بوجه من وجوه النفع { وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء } معطوف على ما كسبوا أي : ولا يغني عنهم ما اتخذوا من دون الله أولياء من الأصنام ، و «ما» في الموضعين إما مصدرية ، أو موصولة ، وزيادة لا في الجملة الثانية للتأكيد { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } في جهنم التي هي من ورائهم { هذا هُدًى } جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر ، يعني : هذا القرآن هدى للمهتدين به { والذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ } القرآنية { لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ } الرجز : أشدّ العذاب .

قرأ الجمهور : ( أليم ) بالجرّ صفة للرّجز . وقرأ ابن كثير ، وحفص ، وابن محيصن بالرفع صفة لعذاب { الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر } أي : جعله على صفة تتمكنون بها من الركوب عليه { لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ } أي : بإذنه وإقداره لكم { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } بالتجارة تارة ، والغوص للدرّ ، والمعالجة للصيد وغير ذلك { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لكي تشكروا النعم التي تحصل لكم بسبب هذا التسخير للبحر { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ } أي : سخّر لعباده جميع ما خلقه في سماواته ، وأرضه مما تتعلق به مصالحهم ، وتقوم به معايشهم ، ومما سخّره لهم من مخلوقات السموات : الشمس والقمر ، والنجوم النيرات ، والمطر والسحاب والرّياح ، وانتصاب { جميعاً } على الحال من { ما في السموات وما في الأرض } ، أو تأكيد له ، وقوله : { منه } يجوز أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل { جميعاً } أي : كائنة منه ، ويجوز أن يتعلق بسخر ، ويجوز أن يكون حالاً من ما في السموات ، أو خبراً لمبتدأ محذوف ، والمعنى : أن كل ذلك رحمة منه لعباده { إِنَّ فِى ذَلِكَ } المذكور من التسخير { لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وخصّ المتفكرين؛ لأنه لا ينتفع بها إلاّ من تفكر فيها ، فإنه ينتقل من التفكر إلى الاستدلال بها على التوحيد . { قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ } أي : قل لهم اغفروا يغفروا { لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } وقيل : هو على حذف اللام ، والتقدير : قل لهم ليغفروا . والمعنى : قل لهم يتجاوزوا عن الذين لا يرجون وقائع الله بأعدائه ، أي : لا يتوقعونها ، ومعنى الرجاء هنا : الخوف ، وقيل : هو على معناه الحقيقي . والمعنى : لا يرجون ثوابه في الأوقات التي وقّتها الله لثواب المؤمنين ، والأوّل أولى ، والأيام يعبر بها عن الوقائع كما تقدّم في تفسير قوله : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } [ إبراهيم : 5 ] قال مقاتل : لا يخشون مثل عذاب الله للأمم الخالية ، وذلك أنهم لا يؤمنون به ، فلا يخافون عقابه . وقيل المعنى : لا يأملون نصر الله لأوليائه وإيقاعه بأعدائه ، وقيل : لا يخافون البعث . قيل : والآية منسوخة بآية السيف { لِيَجْزِىَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } قرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : ( لنجزي ) بالنون أي : لنجزى نحن . وقرأ باقي السبعة بالتحتية مبنياً للفاعل .

أي : ليجزي الله . وقرأ أبو جعفر ، وشيبة ، وعاصم بالتحتية مبنياً للمفعول مع نصب قوماً ، فقيل : النائب عن الفاعل مصدر الفعل ، أي : ليجزى الجزاء قوماً ، وقيل : إن النائب الجارّ والمجرور ، كما في قول الشاعر :
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسبّ بذلك الجرو الكلابا
وقد أجاز ذلك الأخفش ، والكوفيون ، ومنعه البصريون ، والجملة لتعليل الأمر بالمغفرة ، والمراد بالقوم : المؤمنون ، أمروا بالمغفرة ليجزيهم الله يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار ، والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه . وقيل : المعنى : ليجزي الكفار بما عملوا من السيئات كأنّه قال : لا تكافئوهم أنتم لنكافئهم نحن ، والأوّل أولى . ثم ذكر المؤمنين وأعمالهم ، والمشركين وأعمالهم ، فقال : { مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا } والمعنى : أن عمل كل طائفة من إحسان ، أو إساءة لعامله لا يتجاوزه إلى غيره ، وفيه ترغيب وتهديد { ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ } فيجازي كلاً بعمله إن كان خيراً فخير ، وإن كان شرًّا فشرّ .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة من طريق عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { جَمِيعاً مّنْهُ } قال : منه النور والشمس والقمر . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : كل شيء هو من الله . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن طاووس قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممّ خلق الخلق؟ قال : من الماء ، والنور والظلمة ، والهواء والتراب ، قال : فمم خلق هؤلاء؟ قال : لا أدري . ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير ، فسأله ، فقال مثل قول عبد الله بن عمرو ، فأتى ابن عباس ، فسأله ممّ خلق الخلق؟ فقال : من الماء ، والنور والظلمة ، والريح والتراب ، قال : فممّ خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مّنْهُ } فقال الرجل : ما كان ليأتي بهذا إلاّ رجل من أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ } الآية قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعرض عن المشركين إذا آذوه ، وكانوا يستهزئون به ويكذبونه ، فأمره الله أن يقاتل المشركين كافة ، فكان هذا من المنسوخ .

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)

قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب والحكم والنبوة } المراد بالكتاب : التوراة ، وبالحكم : الفهم والفقه الذي يكون بهما الحكم بين الناس وفصل خصوماتهم ، وبالنبوّة : من بعثه الله من الأنبياء فيهم { وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات } أي : المستلذات التي أحلها الله لهم ، ومن ذلك المنّ والسلوى { وفضلناهم عَلَى العالمين } من أهل زمانهم حيث آتيناهم ما لم نؤت من عداهم من فلق البحر ونحوه ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الدخان { وءاتيناهم بينات مّنَ الأمر } أي : شرائع واضحات في الحلال والحرام ، أو معجزات ظاهرات ، وقيل : العلم بمبعث النبي ، وشواهد نبوّته ، وتعيين مهاجره : { فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم } أي : فما وقع الاختلاف بينهم في ذلك الأمر إلاّ بعد مجيء العلم إليهم ببيانه ، وإيضاح معناه ، فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجباً لثبوته ، وقيل : المراد بالعلم : يوشع بن نون ، فإنه آمن به بعضهم وكفر بعضهم ، وقيل : نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، فاختلفوا فيها حسداً وبغياً ، وقيل : { بَغِيّاً } من بعضهم على بعض بطلب الرئاسة { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } من أمر الدين ، فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته . { ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر } الشريعة في اللغة : المذهب ، والملة ، والمنهاج ، ويقال : لمشرعة الماء وهي مورد شاربيه : شريعة ، ومنه الشارع؛ لأنه طريق إلى المقصد ، فالمراد بالشريعة هنا : ما شرعه الله لعباده من الدين ، والجمع شرائع ، أي : جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق { فاتبعها } : فاعمل بأحكامها في أمتك { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ } توحيد الله وشرائعه لعباده ، وهم كفار قريش ومن وافقهم { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً } أي : لا يدفعون عنك شيئًا مما أراده الله بك إن اتبعت أهواءهم { وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } أي : أنصار ينصر بعضهم بعضاً . قال ابن زيد : إن المنافقين أولياء اليهود { والله وَلِىُّ المتقين } أي : ناصرهم ، والمراد بالمتقين : الذين اتقوا الشرك والمعاصي ، والإشارة بقوله : { هذا } إلى القرآن ، أو إلى اتباع الشريعة ، وهو مبتدأ وخبره { بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } أي : براهين ودلائل لهم فيما يحتاجون إليه من أحكام الدين ، جعل ذلك بمنزلة البصائر في القلوب ، وقرىء : ( هذه بصائر ) أي : هذه الآيات؛ لأن القرآن بمعناها ، كما قال الشاعر :
سائل بني أسد ما هذه الصوت ... لأن الصوت بمعنى الصيحة { وهدى } أي : رشد ، وطريق يؤدي إلى الجنة لمن عمل به { وَرَحْمَةٌ } من الله في الآخرة { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : من شأنهم الإيقان ، وعدم الشك ، والتزلزل بالشُّبه { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } أم هي المنقطعة المقدرة ببل ، والهمزة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني ، والهمزة لإنكار الحسبان ، والاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجوارح ، وقد تقدّم في المائدة ، والجملة مستأنفة؛ لبيان تباين حالي المسيئين والمحسنين ، وهو معنى قوله : { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي : نسوّي بينهم مع اجتراحهم السيئات ، وبين أهل الحسنات { سَوَاء محياهم ومماتهم } في دار الدنيا وفي الآخرة ، كلا لا يستوون ، فإن حال أهل السعادة فيهما غير حال أهل الشقاوة .

وقيل المراد : إنكار أن يستووا في الممات ، كما استووا في الحياة . قرأ الجمهور : { سواء } بالرفع على أنه خبر مقدّم ، والمبتدأ محياهم ومماتهم والمعنى : إنكار حسبانهم أن محياهم ومماتهم ، سواء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص { سواء } بالنصب على أنه حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور في قوله : { كالذين ءامَنُواْ } أو على أنه مفعول ثان لحسب ، واختار قراءة النصب أبو عبيد ، وقال معناه : نجعلهم سواء ، وقرأ الأعمش ، وعيسى بن عمر ( مماتهم ) بالنصب على معنى : سواء في محياهم ومماتهم ، فلما سقط الخافض انتصب ، أو على البدل من مفعول نجعلهم بدل اشتمال { سَاء مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء حكمهم هذا الذي حكموا به . { وَخَلَقَ الله السموات والأرض بالحق } أي : بالحقّ المقتضي للعدل بين العباد ، ومحل بالحقّ النصب على الحال من الفاعل ، أو من المفعول ، أو الباء للسببية ، وقوله : { ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } يجوز أن يكون على الحقّ؛ لأن كلا منهما سبب ، فعطف السبب على السبب ، ويجوز أن يكون معطوفاً على محذوف ، والتقدير : خلق الله السموات والأرض؛ ليدلّ بهما على قدرته ولتجزى ، ويجوز أن تكون اللام للصيرورة { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يظلمون بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب ، ثم عجب سبحانه من حال الكفار ، فقال : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } قال الحسن ، وقتادة : ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه ، فلا يهوى شيئًا إلاّ ركبه ، وقال عكرمة : يعبد ما يهواه ، أو يستحسنه ، فإذا استحسن شيئًا ، وهواه اتخذه إلها . قال سعيد بن جبير : كان أحدهم يعبد الحجر ، فإذا رأى ما هو أحسن منه رمى به وعبد الآخر { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } أي : على علم قد علمه ، وقيل المعنى : أضله عن الثواب على علم منه بأنه لا يستحقه ، وقال مقاتل : على علم منه أنه ضالّ؛ لأنه يعلم أن الصنم لا ينفع ولا يضرّ . قال الزجاج : على سوء في علمه أنه ضال قبل أن يخلقه ، ومحل { على علم } النصب على الحال من الفاعل ، أو المفعول { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ } أي : طبع على سمعه حتى لا يسمع الوعظ ، وطبع على قلبه حتى لا يفقه الهدى { وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غشاوة } أي : غطاء حتى لا يبصر الرشد .

قرأ الجمهور { غشاوة } بالألف مع كسر الغين ، وقرأ حمزة ، والكسائي ( غشوة ) بغير ألف مع فتح الغين ، ومنه قول الشاعر :
لئن كنت ألبستني غشوة ... لقد كنت أصفيتك الودّ حينا
وقرأ ابن مسعود ، والأعمش كقراءة الجمهور مع فتح الغين وهي لغة ربيعة ، وقرأ الحسن ، وعكرمة بضمها وهي لغة عكل { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله } أي : من بعد إضلال الله له { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } تذكر اعتبار حتى تعلموا حقيقة الحال؟ ثم بيّن سبحانه بعض جهالاتهم وضلالاتهم فقال : { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } أي : ما الحياة إلاّ الحياة التي نحن فيها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي : يصيبنا الموت والحياة فيها ، وليس وراء ذلك حياة ، وقيل : نموت نحن ، ويحيا فيها أولادنا ، وقيل : نكون نطفاً ميتة ، ثم نصير أحياء . وقيل : في الآية تقديم وتأخير ، أي : نحيا ونموت ، وكذا قرأ ابن مسعود ، وعلى كل تقدير ، فمرادهم بهذه المقالة : إنكار البعث وتكذيب الآخرة { وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر } أي : إلاّ مرور الأيام والليالي ، قال مجاهد : يعني : السنين والأيام . وقال قتادة : إلاّ العمر ، والمعنى واحد . وقال قطرب : المعنى : وما يهلكنا إلاَّ الموت . وقال عكرمة : وما يهلكنا إلاّ الله { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي : ما قالوا هذه المقالة إلاّ شاكين غير عالمين بالحقيقة ، ثم بيّن كون ذلك صادراً منهم لا عن علم ، فقال : { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي : ما هم إلاّ قوم غاية ما عندهم الظنّ ، فما يتكلمون إلاّ به ، ولا يستندون إلاّ إليه . { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } أي : إذا تليت آيات القرآن على المشركين حال كونها بينات واضحات ظاهرة المعنى ، والدلالة على البعث { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِئَابَائِنَا إِن كُنتُمْ صادقين } أنا نبعث بعد الموت! أي : ما كان لهم حجة ، ولا متمسك إلاّ هذا القول الباطل الذي ليس من الحجة في شيء ، وإنما سماه حجة تهكماً بهم . قرأ الجمهور بنصب { حجتهم } على أنه خبر كان ، واسمها { إِلاَّ أَن قَالُواْ } وقرأ زيد بن عليّ ، وعمرو بن عبيد ، وعبيد بن عمرو برفع { حجتهم } على أنها اسم كان ، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم ، فقال : { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ } أي : في الدنيا { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة } بالبعث والنشور { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : في جمعكم؛ لأن من قدر على ابتداء الخلق قدر على إعادته { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } بذلك ، فلهذا حصل معهم الشكّ في البعث ، وجاءوا في دفعه بما هو أوهن من بيت العنكبوت ، ولو نظروا حقّ النظر لحصلوا على العلم اليقين ، واندفع عنهم الرّيب وأراحوا أنفسهم من ورطة الشكّ والحيرة .

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ مّنَ الأمر } يقول : على هدًى من أمر دينه . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { سَوَاء محياهم ومماتهم } قال : المؤمن في الدنيا والآخرة مؤمن ، والكافر في الدنيا والآخرة كافر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } قال : ذاك الكافر اتخذ دينه بغير هدًى من الله ، ولا برهان { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } يقول : أضله في سابق علمه . وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه قال : كان الرّجل من العرب يعبد الحجر ، فإذا وجد أحسن منه أخذه وألقى الآخر ، فأنزل الله : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كان أهل الجاهلية يقولون : إنما يهلكنا الليل والنهار ، فقال الله في كتابه : { وَقَالُواْ مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدهر } قال الله : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله يقول : « قال الله عزّ وجلّ : يؤذيني ابن آدم يسبّ الدهر ، وأنا الدهر ، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار » .

وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

لما ذكر سبحانه ما احتج به المشركون ، وما أجاب به عليهم ذكر اختصاصه بالملك ، فقال : { وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض } أي : هو المتصرف فيهما وحده لا يشاركه أحد من عباده ، ثم توعد أهل الباطل ، فقال : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المبطلون } أي : المكذبون الكافرون المتعلقون بالأباطيل يظهر في ذلك اليوم خسرانهم؛ لأنهم يصيرون إلى النار ، والعامل في { يوم } هو { يخسر } ، و { يومئذ } بدل منه ، والتنوين للعوض عن المضاف إليه المدلول عليه بما أضيف إليه المبدل منه ، فيكون التقدير : ويوم تقوم الساعة يوم تقوم الساعة ، فيكون بدلاً توكيدياً ، والأولى أن يكون العامل في يوم هو ملك ، أي : ولله ملك يوم تقوم الساعة؛ ويكون يومئذ معمولاً؛ ل { يخسر } { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } الخطاب لكل من يصلح له ، أو للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، والأمة : الملة ، ومعنى جاثية : مستوفزة ، والمستوفز : الذي لا يصيب الأرض منه إلاّ ركبتاه وأطراف أنامله ، وذلك عند الحساب . وقيل معنى جاثية : مجتمعة ، قال الفراء : المعنى وترى أهل كلّ ذي دين مجتمعين . وقال عكرمة : متميزة عن غيرها . وقال مؤرج : معناه بلغة قريش : خاضعة . وقال الحسن : باركة على الركب ، والجثو : الجلوس على الركب ، تقول : جثا يجثو ويجثي جثواً وجثياً : إذا جلس على ركبتيه ، والأوّل أولى . ولا ينافيه ورود هذا اللفظ لمعنى آخر في لسان العرب . وقد ورد إطلاق الجثوة على الجماعة من كل شيء في لغة العرب ، ومنه قول طرفة يصف قبرين :
ترى جثوتين من تراب عليهما ... صفائح صمّ من صفائح منضد
وظاهر الآية أن هذه الصفة تكون لكل أمة من الأمم من غير فرق بين أهل الأديان المتبعين للرسل ، وغيرهم من أهل الشرك . وقال يحيى بن سلام : هو خاصّ بالكفار ، والأوّل أولى . ويؤيده قوله : { كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كتابها } ، ولقوله فيما سيأتي { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ } . ومعنى { إلى كتابها } : إلى الكتاب المنزّل عليها ، وقيل : إلى صحيفة أعمالها ، وقيل : إلى حسابها ، وقيل : اللوح المحفوظ ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور { كل أمة } بالرفع على الابتداء ، وخبره : { تدعى } ، وقرأ يعقوب الحضرمي بالنصب على البدل من { كل أمة } . { اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي يقال لهم : اليوم تجزون ما كنتم تعملون من خير وشرّ . { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } هذا من تمام ما يقال لهم ، والقائل بهذا : هم الملائكة وقيل : هو من قول الله سبحانه ، أي : يشهد عليكم ، وهو استعارة ، يقال : نطق الكتاب بكذا ، أي : بيّن ، وقيل : إنهم يقرءونه فيذكرون ما عملوا ، فكأنه ينطق عليهم بالحق الذي لا زيادة فيه ، ولا نقصان ، ومحل { ينطق } النصب على الحال ، أو الرفع على أنه خبر آخر لاسم الإشارة ، وجملة : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تعليل للنطق بالحقّ ، أي : نأمر الملائكة بنسخ أعمالكم ، أي : بكتبها ، وتثبيتها عليكم .

قال الواحدي : وأكثر المفسرين على أن هذا الاستنساخ من اللوح المحفوظ ، فإن الملائكة تكتب منه كل عام ما يكون من أعمال بني آدم ، فيجدون ذلك موافقاً لما يعملونه ، قالوا : لأن الاستنساخ لا يكون إلاّ من أصل . وقيل المعنى : نأمر الملائكة بنسخ ما كنتم تعملون . وقيل : إن الملائكة تكتب كل يوم ما يعمله العبد ، فإذا رجعوا إلى مكانهم نسخوا منه الحسنات والسيئات ، وتركوا المباحات . وقيل : إن الملائكة إذا رفعت أعمال العباد إلى الله سبحانه أمر عزّ وجلّ أن يثبت عنده منها ما فيه ثواب وعقاب ، ويسقط منها ما لا ثواب فيه ولا عقاب . { فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِى رَحْمَتِهِ } أي : الجنة ، وهذا تفصيل لحال الفريقين ، فالمؤمنون يدخلهم الله برحمته الجنة { ذلك } أي : الإدخال في رحمته { هُوَ الفوز المبين } أي : الظاهر الواضح { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءاياتى تتلى عَلَيْكُمْ } أي : فيقال لهم ذلك ، وهو استفهام توبيخ؛ لأن الرسل قد أتتهم وتلت عليهم آيات الله ، فكذبوها ولم يعملوا بها { فاستكبرتم وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي : تكبرتم عن قبولها ، وعن الإيمان بها ، وكنتم من أهل الإجرام ، وهي الآثام ، والاجترام الاكتساب ، يقال : فلان جريمة أهله : إذا كان كاسبهم ، فالمجرم من كسب الآثام بفعل المعاصي { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ } أي : وعده بالبعث والحساب ، أو بجميع ما وعد به من الأمور المستقبلة واقع لا محالة { والساعة } أي : القيامة { لاَ رَيْبَ فِيهَا } أي : في وقوعها . قرأ الجمهور { والساعة } بالرفع على الابتداء ، أو العطف على موضع اسم إن ، وقرأ حمزة بالنصب عطفاً على اسم إن { قُلْتُم مَّا نَدْرِى مَا الساعة } أي : أيّ شيء هي؟ { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } أي : نحدس حدساً ونتوهم توهماً . قال المبرد : تقديره : إن نحن إلاّ نظن ظناً ، وقيل التقدير : إن نظنّ إلاّ أنكم تظنون ظناً ، وقيل : إن نظنّ مضمن معنى نعتقد ، أي : ما نعتقد إلاّ ظناً لا علماً ، وقيل : إن ظناً له صفة مقدّرة ، أي : إلاّ ظناً بيناً ، وقيل : إن الظنّ يكون بمعنى العلم والشكّ ، فكأنهم قالوا : ما لنا اعتقاد إلاّ الشك { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي : لم يكن لنا يقين بذلك ، ولم يكن معنا إلاّ مجرّد الظنّ أن الساعة آتية . { وَبَدَا لَهُمْ سيئات مَا عَمِلُواْ } أي : ظهر لهم سيئات أعمالهم على الصورة التي هي عليها { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : أحاط بهم ، ونزل عليهم جزاء أعمالهم بدخولهم النار { وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } أي : نترككم في النار كما تركتم العمل لهذا اليوم ، وأضاف اللقاء إلى اليوم توسعاً؛ لأنه أضاف إلى الشيء ما هو واقع فيه { وَمَأْوَاكُمُ النار } أي : مسكنكم ومستقرّكم الذين تأوون إليه { وَمَا لَكُمْ مّن ناصرين } ينصرونكم فيمنعون عنكم العذاب { ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم ءايات الله هُزُواً } أي : ذلكم العذاب بسبب أنكم اتخذتم القرآن هزواً ولعباً { وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا } أي : خدعتكم بزخارفها وأباطيلها ، فظننتم أنه لا دار غيرها ، ولا بعث ولا نشور { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي : من النار .

قرأ الجمهور : { يخرجون } بضم الياء . وفتح الراء مبنياً للمفعول ، وقرأ حمزة ، والكسائي بفتح الياء وضمّ الراء مبنياً للفاعل ، والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لتحقيرهم { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : لا يسترضون ، ويطلب منهم الرجوع إلى طاعة الله؛ لأنه يوم لا تقبل فيه توبة ، ولا تنفع فيه معذرة { فَلِلَّهِ الحمد رَبّ السموات وَرَبّ الأرض رَبّ العالمين } لا يستحقّ الحمد سواه . قرأ الجمهور { ربّ } في المواضع الثلاثة بالجرّ على الصفة للاسم الشريف . وقرأ مجاهد ، وحميد ، وابن محيصن بالرفع في الثلاثة على تقدير مبتدأ ، أي : هو ربّ السموات إلخ { وَلَهُ الكبرياء فِى السموات والأرض } أي : الجلال والعظمة والسلطان ، وخصّ السموات والأرض لظهور ذلك فيهما { وَهُوَ العزيز الحكيم } أي : العزيز في سلطانه ، فلا يغالبه مغالب ، الحكيم في كل أفعاله وأقواله وجميع أقضيته .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن عبد الله بن باباه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كأني أراكم بالكوم دون جهنم جاثين » ثم قرأ سفيان ( ويرى كل أمة جاثية ) وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في قوله : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } قال : كل أمة مع نبيها حتى يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم على كوم قد علا الخلائق ، فذلك المقام المحمود . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } قال : هو أمّ الكتاب فيه أعمال بني آدم { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } قال : هم الملائكة يستنسخون أعمال بني آدم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه بمعناه مطوّلاً ، فقام رجل فقال : يا ابن عباس ، ما كنا نرى هذا تكتبه الملائكة في كل يوم وليلة ، فقال ابن عباس : إنكم لستم قوماً عرباً { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } هل يستنسخ الشيء إلاّ من كتاب؟ وأخرج ابن جرير عنه نحوه أيضاً ، وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال : إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم بشيء يكتبون فيه أعمال بني آدم . وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر نحو ما روي ، عن ابن عباس . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : يستنسخ الحفظة من أمّ الكتاب ما يعمل بنو آدم ، فإنما يعمل الإنسان ما استنسخ الملك من أمّ الكتاب ، وأخرج نحوه الحاكم عنه وصححه .

وأخرج الطبراني عنه أيضاً في الآية قال : إن الله وكل ملائكته ينسخون من ذلك العام في رمضان ليلة القدر ما يكون في الأرض من حدث إلى مثلها من السنة المقبلة ، فيتعارضون به حفظة الله على العباد عشية كل خميس ، فيجدون ما رفع الحفظة موافقاً لما في كتابهم ذلك ليس فيه زيادة ولا نقصان . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا } قال : نترككم . وأخرج ابن أبي شيبة ، ومسلم ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : « يقول الله تبارك وتعالى : الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار » .

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

قوله : { حم تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم } قد تقدّم الكلام على هذا في سورة غافر وما بعدها مستوفى ، وذكرنا وجه الإعراب ، وبيان ما هو الحقّ من أن فواتح السور من المتشابه الذي يجب أن يوكل علمه إلى من أنزله { مَا خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا } من المخلوقات بأسرها { إِلاَّ بالحق } هو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي : إلاّ خلقاً ملتبساً بالحقّ الذي تقتضيه المشيئة الإلهية ، وقوله : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على الحقّ ، أي : إلاّ بالحقّ ، وبأجل مسمى ، على تقدير مضاف محذوف ، أي : وبتقدير أجل مسمى ، وهذا الأجل هو يوم القيامة ، فإنها تنتهي فيه السموات والأرض وما بينهما ، وتبدّل الأرض غير الأرض والسموات . وقيل : المراد بالأجل المسمى : هو انتهاء أجل كلّ فرد من أفراد المخلوقات ، والأوّل أولى ، وهذا إشارة إلى قيام الساعة ، وانقضاء مدّة الدنيا ، وأن الله لم يخلق خلقه باطلاً وعبثاً لغير شيء ، بل خلقه للثواب والعقاب . { والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } أي : عما أنذروا وخوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء معرضون مولون غير مستعدّين له ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنهم معرضون عنه غير مؤمنين به ، و«ما» في قوله : { مَا أَنْذِرُواْ } يجوز أن تكون الموصولة ، ويجوز أن تكون المصدرية . { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي : أخبروني ما تعبدون من دون الله من الأصنام { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } أي : أيّ شيء خلقوا منها ، وقوله : { أَرُونِىَ } يحتمل أن يكون تأكيداً لقوله : { أَرَءيْتُمْ } ، أي : أخبروني أروني ، والمفعول الثاني لأرأيتم { ماذا خلقوا } ، ويحتمل أن لا يكون تأكيداً ، بل يكون هذا من باب التنازع؛ لأن أرأيتم يطلب مفعولاً ثانياً ، وأروني كذلك { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السموات } أم هذه هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة ، والمعنى : بل ألهم شركة مع الله فيها؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع { ائتونى بكتاب مّن قَبْلِ هذا } هذا تبكيت لهم ، وإظهار لعجزهم ، وقصورهم عن الإتيان بذلك ، والإشارة بقوله { هذا } إلى القرآن ، فإنه قد صرّح ببطلان الشرك ، وأن الله واحد لا شريك له ، وأن الساعة حقّ لا ريب فيها ، فهل للمشركين من كتاب يخالف هذا الكتاب ، أو حجة تنافي هذه الحجة . { أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ } . قال في الصحاح : { أو أثارة من علم } : بقية منه ، وكذا الأثرة بالتحريك . قال ابن قتيبة : أي : بقية من علم الأوّلين . وقال الفراء ، والمبرد : يعني : ما يؤثر عن كتب الأوّلين . قال الواحدي : وهو معنى قول المفسرين . قال عطاء : أو شيء تأثرونه عن نبيّ كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم . قال مقاتل : أو رواية من علم عن الأنبياء .

وقال الزجاج : أو أثارة أي : علامة ، والأثارة مصدر كالسماحة والشجاعة ، وأصل الكلمة من الأثر ، وهي الرواية يقال : أثرت الحديث آثره أثرة وأثارة وأثراً : إذا ذكرته عن غيرك . قرأ الجمهور { أثارة } على المصدر كالسماحة والغواية . وقرأ ابن عباس ، وزيد بن علي ، وعكرمة ، والسلمي ، والحسن ، وأبو رجاء بفتح الهمزة والثاء من غير ألف . وقرأ الكسائي : ( أثرة ) بضم الهمزة وسكون الثاء { إِن كُنتُمْ صادقين } في دعواكم التي تدّعونها ، وهي قولكم إن لله شريكاً ، ولم تأتوا بشيء من ذلك ، فتبين بطلان قولهم لقيام البرهان العقلي ، والنقلي على خلافه . { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ } أي : لا أحد أضل منه ولا أجهل ، فإنه دعا من لا يسمع ، فكيف يطمع في الإجابة فضلاً عن جلب نفع ، أو دفع ضرّ؟ فتبين بهذا أنه أجهل الجاهلين وأضلّ الضالين ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، وقوله : { إلى يَوْمِ القيامة } غاية لعدم الاستجابة { وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غافلون } الضمير الأوّل للأصنام ، والثاني لعابديها ، والمعنى : والأصنام التي يدعونها عن دعائهم إياها غافلون عن ذلك ، لا يسمعون ولا يعقلون لكونهم جمادات ، والجمع في الضميرين باعتبار معنى « من » ، وأجري على الأصنام ما هو للعقلاء لاعتقاد المشركين فيها أنها تعقل . { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء } أي : إذا حشر الناس العابدين للأصنام كان الأصنام لهم أعداء يتبرأ بعضهم من بعض ، ويلعن بعضهم بعضاً ، وقد قيل : إن الله يخلق الحياة في الأصنام ، فتكذبهم . وقيل المراد : أنها تكذبهم وتعاديهم بلسان الحال لا بلسان المقال . وأما الملائكة ، والمسيح ، وعزير ، والشياطين ، فإنهم يتبرّءون ممن عبدهم يوم القيامة ، كما في قوله تعالى : { تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] { وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين } أي : كان المعبودون بعبادة المشركين إياهم كافرين ، أي : جاحدين مكذبين ، وقيل : الضمير في { كانوا } للعابدين ، كما في قوله : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، والأوّل أولى . { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي : آيات القرآن حال كونها { بينات } واضحات المعاني ظاهرات الدلالات { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ } أي : لأجله وفي شأنه ، وهو عبارة عن الآيات { لَمَّا جَاءهُمْ } أي : وقت أن جاءهم { هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : ظاهر السحرية { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } أم هي المنقطعة ، أي : بل أيقولون افتراه؟ والاستفهام للإنكار والتعجب من صنيعهم ، وبل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحراً إلى قولهم : إن رسول الله افترى ما جاء به ، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا يخفى ، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم فقال : { قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً } أي : قل إن افتريته على سبيل الفرض والتقدير ، كما تدّعون ، فلا تقدرون على أن تردّوا عني عقاب الله ، فكيف أفتري عل الله لأجلكم ، وأنتم لا تقدرون على دفع عقابه عني؟ { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } أي : تخوضون فيه من التكذيب ، والإفاضة في الشيء : الخوض فيه ، والاندفاع فيه ، يقال : أفاضوا في الحديث ، أي : اندفعوا فيه ، وأفاض البعير : إذا دفع جرّته من كرشه ، والمعنى : الله أعلم بما تقولون في القرآن ، وتخوضون فيه من التكذيب له ، والقول بأنه سحر وكهانة { كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ } فإنه يشهد لي بأن القرآن من عنده ، وأني قد بلغتكم ، ويشهد عليكم بالتكذيب والجحود ، وفي هذا وعيد شديد { وَهُوَ الغفور الرحيم } لمن تاب وآمن ، وصدّق بالقرآن وعمل بما فيه ، أي : كثير المغفرة والرحمة بليغهما .

{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل } البدع من كلّ شيء المبدأ ، أي : ما أنا بأوّل رسول ، قد بعث الله قبلي كثيراً من الرسل . قيل : البدع بمعنى : البديع كالخفّ والخفيف ، والبديع : ما لم ير له مثل ، من الابتداع وهو الاختراع ، وشيء بدع بالكسر ، أي : مبتدع ، وفلان بدع في هذا الأمر ، أي : بديع كذا قال الأخفش ، وأنشد قطرب :
فما أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً غدت من بعد بؤسي وأسعدا
وقرأ عكرمة ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ( بدعاً ) بفتح الدال على تقدير حذف المضاف ، أي : ما كنت ذا بدع ، وقرأ مجاهد بفتح الباء ، وكسر الدال على الوصف { وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } أي : ما يفعل بي فيما يستقبل من الزمان هل أبقى في مكة ، أو أخرج منها؟ وهل أموت أو أقتل؟ وهل تعجل لكم العقوبة أم تمهلون؟ وهذا إنما هو في الدنيا . وأما في الآخرة ، فقد علم أنه وأمته في الجنة ، وأن الكافرين في النار . وقيل : إن المعنى : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ، وإنها لما نزلت فرح المشركون ، وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا؟ فنزل قوله تعالى : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] والأوّل أولى { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ } قرأ الجمهور { يوحى } مبنياً للمفعول ، أي : ما أتبع إلاّ القرآن ، ولا أبتدع من عندي شيئًا ، والمعنى : قصر أفعاله صلى الله عليه وسلم على الوحي لا قصر اتباعه على الوحي { وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : أنذركم عقاب الله ، وأخوّفكم عذابه على وجه الإيضاح .
وقد أخرج أحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن ابن عباس { أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ } قال : الخط . قال سفيان : لا أعلم إلاّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يعني : أن الحديث مرفوع لا موقوف على ابن عباس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" كان نبيّ من الأنبياء يخط ، فمن صادف مثل خطه علم " ومعنى هذا ثابت في الصحيح ، ولأهل العلم فيه تفاسير مختلفة . ومن أين لنا أن هذه الخطوط الرملية موافقة لذلك الخط؟ وأين السند الصحيح إلى ذلك النبيّ؟ أو إلى نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذا الخط هو على صورة كذا ، فليس ما يفعله أهل الرمل إلاّ جهالات وضلالات . وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " { أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ } قال : حسن الخط " وأخرج الطبراني في الأوسط ، والحاكم من طريق الشعبي ، عن ابن عباس { أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ } قال : خط كان يخطه العرب في الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { أَوْ أثارة مّنْ عِلْمٍ } يقول : بينة من الأمر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل } يقول : لست بأوّل الرسل { وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلاَ بِكُمْ } فأنزل الله بعد هذا { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وقوله : { لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات } الآية [ الفتح : 5 ] ، فأعلم سبحانه نبيه ما يفعل به ، وبالمؤمنين جميعاً . وأخرج أبو داود في ناسخه عنه أيضاً أن هذه الآية منسوخة بقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله } وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء قالت : لما مات عثمان بن مظعون قلت : رحمك الله أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم» ، قالت أمّ العلاء : فوالله لا أزكي بعده أحداً " .

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)

قوله : { قُلْ أَرَءيْتُمْ } أي : أخبروني { إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله } يعني : ما يوحى إليه من القرآن ، وقيل المراد : محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : إن كان مرسلاً من عند غير الله ، وقوله : { وَكَفَرْتُمْ بِهِ } في محل نصب على الحال بتقدير قد ، وكذلك قوله : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ } والمعنى : أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله والحال أنكم قد كفرتم به ، وشهد شاهد من بني إسرائيل العالمين بما أنزل الله في التوراة على مثله ، أي : القرآن من المعاني الموجودة في التوراة ، المطابقة له من إثبات التوحيد ، والبعث والنشور وغير ذلك ، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني ، وإن اختلفت الألفاظ . وقال الجرجاني : مثل صلة ، والمعنى : وشهد شاهد عليه أنه من عند الله ، وكذا قال الواحدي ، { فَئَامَنَ } الشاهد بالقرآن لما تبين له أنه من كلام الله ، ومن جنس ما ينزله على رسله ، وهذا الشاهد من بني إسرائيل هو عبد الله بن سلام ، كما قال الحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة وغيرهم ، وفي هذا نظر فإن السورة مكية بالإجماع ، وعبد الله بن سلام كان إسلامه بعد الهجرة ، فيكون المراد بالشاهد : رجلاً من أهل الكتاب قد آمن بالقرآن في مكة وصدقه ، واختار هذا ابن جرير ، وسيأتي في آخر البحث ما يترجح به أنه عبد الله بن سلام ، وأن هذه الآية مدنية لا مكية . وروي عن مسروق أن المراد بالرجل : موسى عليه السلام ، وقوله : { واستكبرتم } معطوف على شهد ، أي : آمن الشاهد ، واستكبرتم أنتم عن الإيمان { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } فحرمهم الله سبحانه الهداية؛ لظلمهم لأنفسهم بالكفر بعد قيام الحجة الظاهرة على وجوب الإيمان ، ومن فقد هداية الله له ضلّ .
وقد اختلف في جواب الشرط ماذا هو؟ فقال الزجاج : محذوف ، تقديره : أتؤمنون ، وقيل : قوله : { فآمن واستكبرتم } وقيل : محذوف ، تقديره : فقد ظلمتم لدلالة { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } عليه ، وقيل تقديره : فمن أضلّ منكم ، كما في قوله : { أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أضل } الآية [ فصلت : 52 ] . وقال أبو علي الفارسي تقديره : أتأمنون عقوبة الله؟ وقيل : التقدير : ألستم ظالمين؟ ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من أقاويلهم الباطلة فقال : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } أي : لأجلهم ، ويجوز أن تكون هذه اللام هي لام التبليغ { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } أي : لو كان ما جاء به محمد من القرآن والنبوّة خيراً ما سبقونا إليه؛ لأنهم عند أنفسهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة ، ولم يعلموا أن الله سبحانه يختصّ برحمته من يشاء ، ويعزّ من يشاء ، ويذلّ من يشاء ، ويصطفي لدينه من يشاء { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } أي : بالقرآن ، وقيل : بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : بالإيمان { فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ } ، فجاوزوا نفي خيرية القرآن إلى دعوى أنه كذب قديم ، كما قالوا أساطير الأوّلين ، والعامل في « إذ » مقدّر ، أي : ظهر عنادهم ، ولا يجوز أن يعمل فيه { فَسَيَقُولُونَ } لتضادّ الزمانين ، أعني : المضيّ والاستقبال ولأجل الفاء أيضاً ، وقيل : إن العامل فيه فعل مقدّر من جنس المذكور ، أي : لم يهتدوا به ، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } قرأ الجمهور بكسر الميم من ( من ) على أنها حرف جرّ ، وهي مع مجرورها خبر مقدّم ، وكتاب موسى مبتدأ مؤخر ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو هي مستأنفة ، والكلام مسوق لردّ قولهم : { هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ } فإن كونه قد تقدّم القرآن كتاب موسى ، وهو التوراة وتوافقا في أصول الشرائع يدلّ على أنه حقّ ، وأنه من عند الله ، ويقتضي بطلان قولهم .

وقرىء بفتح ميم « من » على أنها موصولة ونصب كتاب ، أي : وآتينا من قبله كتاب موسى ، ورويت هذه القراءة عن الكلبي { إَمَامًا وَرَحْمَةً } أي : يقتدى به في الدين ، ورحمة من الله لمن آمن به ، وهما منتصبان على الحال ، قاله الزجاج وغيره . وقال الأخفش على القطع ، وقال أبو عبيدة : أي : جعلناه إماماً ورحمة { وهذا كتاب مُّصَدّقٌ } يعني : القرآن فإنه مصدّق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة ، ولغيره من كتب الله ، وقيل : مصدّق للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وانتصاب { لّسَاناً عَرَبِيّاً } على الحال الموطئة ، وصاحبها الضمير في مصدّق العائد إلى كتاب ، وجوّز أبو البقاء أن يكون مفعولاً لمصدّق ، والأوّل أولى ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : ذا لسان عربيّ ، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم { لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ } قرأ الجمهور { لينذر } بالتحتية على أن فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب أي : لينذر الكتاب ، الذين ظلموا ، وقيل : الضمير راجع إلى الله ، وقيل : إلى الرسول ، والأوّل أولى . وقرأ نافع ، وابن عامر ، والبزي بالفوقية على أن فاعله النبي صلى الله عليه وسلم ، واختار هذه القراءة أبو حاتم ، وأبو عبيد ، وقوله : { وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ } في محل نصب عطفاً على محل { لينذر } . وقال الزجاج : الأجود أن يكون في محل رفع أي : وهو بشرى ، وقيل : على المصدرية لفعل محذوف ، أي : وتبشر بشرى ، وقوله : { لّلْمُحْسِنِينَ } متعلق ببشرى { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } أي : جمعوا بين التوحيد والاستقامة على الشريعة ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة السجدة { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } الفاء زائدة في خبر الموصول لما فيه من معنى الشرط { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } المعنى : أنهم لا يخافون من وقوع مكروه بهم ، ولا يحزنون من فوات محبوب ، وأن ذلك مستمر دائم .

{ أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة } أي : أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة التي هي دار المؤمنين حال كونهم { خالدين فِيهَا } ، وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم ، فإن نفي الخوف والحزن على الدوام ، والاستقرار في الجنة على الأبد ، مما لا تطلب الأنفس سواه ، ولا تتشوّف إلى ما عداه { جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : يجزون جزاء بسبب أعمالهم التي عملوها من الطاعات لله ، وترك معاصيه . { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } قرأ الجمهور { حسناً } بضم الحاء ، وسكون السين . وقرأ عليّ ، والسلمي بفتحهما ، وقرأ ابن عباس ، والكوفيون { إحساناً } وقد تقدّم في سورة العنكبوت : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [ العنكبوت : 8 ] من غير اختلاف بين القراء ، وتقدّم في سورة الأنعام ، وسورة بني إسرائيل { وبالوالدين إحسانا } [ الإسراء : 23 ، الأنعام : 151 ] فلعل هذا هو وجه اختلاف القراء في هذه الآية ، وعلى جميع هذه القراءات ، فانتصابه على المصدرية ، أي : وصيناه أن يحسن إليهما حسناً ، أو إحساناً ، وقيل : على أنه مفعول به بتضمين وصينا معنى : ألزمنا ، وقيل : على أنه مفعول له { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } قرأ الجمهور { كرها } في الموضعين بضم الكاف . وقرأ أبو عمرو ، وأهل الحجاز بفتحهما . قال الكسائي : وهما لغتان بمعنى واحد . قال أبو حاتم : الكره بالفتح لا يحسن؛ لأنه الغضب والغلبة ، واختار أبو عبيد قراءة الفتح قال : لأن لفظ الكره في القرآن كله بالفتح إلاّ التي في سورة البقرة : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] وقيل : إن الكره بالضم ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره . وإنما ذكر سبحانه حمل الأمّ ووضعها تأكيداً لوجوب الإحسان إليها الذي وصى الله به ، والمعنى : أنها حملته ذات كره ، ووضعته ذات كره ، ثم بيّن سبحانه مدّة حمله وفصاله فقال : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً } أي : مدتهما هذه المدّة من عند ابتداء حمله إلى أن يفصل من الرضاع ، أي : يفطم عنه . وقد استدلّ بهذه الآية على أن أقلّ الحمل ستة أشهر؛ لأن مدّة الرضاع سنتان ، أي : مدّة الرضاع الكامل ، كما في قوله : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] فذكر سبحانه في هذه الآية أقل مدّة الحمل ، وأكثر مدّة الرضاع . وفي هذه الآية إشارة إلى أن حق الأم آكد من حق الأب؛ لأنها حملته بمشقة ، ووضعته بمشقة ، وأرضعته هذه المدّة بتعب ونصب ، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك . قرأ الجمهور { وفصاله } بالألف ، وقرأ الحسن ، ويعقوب ، وقتادة ، والجحدري ( وفصله ) بفتح الفاء ، وسكون الصاد بغير ألف ، والفصل والفصال بمعنى : كالفطم والفطام ، والقطف والقطاف { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي : بلغ استحكام قوّته وعقله ، وقد مضى تحقيق الأشد مستوفى ، ولا بدّ من تقدير جملة تكون حتى غاية لها ، أي : عاش واستمرّت حياته حتى بلغ أشدّه ، قيل : بلغ عمره ثماني عشرة سنة ، وقيل : الأشد : الحلم قاله الشعبي ، وابن زيد .

وقال الحسن : هو بلوغ الأربعين ، والأوّل أولى لقوله : { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } ، فإن هذا يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيء وراء بلوغ الأشد . قال المفسرون : لم يبعث الله نبياً قط إلاّ بعد أربعين سنة { قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى } أي : ألهمني . قال الجوهري : استوزعت الله فأوزعني ، أي : استلهمته فألهمني { أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ } أي : ألهمني شكر ما أنعمت به عليّ من الهداية ، وعلى والديّ من التحنن عليّ منهما حين ربياني صغيراً . وقيل : أنعمت عليّ بالصحة والعافية ، وعلى والديّ بالغنى والثروة ، والأولى عدم تقييد النعمة عليه ، وعلى أبويه بنعمة مخصوصة { وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه } أي : وألهمني أن أعمل عملاً صالحاً ترضاه مني { وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى } أي : اجعل ذرّيتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه . وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات ، وقد روي أنها نزلت في أبي بكر ، كما سيأتي في آخر البحث { إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ } من ذنوبي { وَإِنّى مِنَ المسلمين } أي : المستسلمين لك المنقادين لطاعتك المخلصين لتوحيدك . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الإنسان المذكور ، والجمع لأنه يراد به الجنس ، وهو مبتدأ ، وخبره : { الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } من أعمال الخير في الدنيا ، والمراد بالأحسن : الحسن ، كقوله : { واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم } [ الزمر : 55 ] وقيل : إن اسم التفضيل على معناه ، ويراد به : ما يثاب العبد عليه من الأعمال ، لاما لا يثاب عليه كالمباح فإنه حسن ، وليس بأحسن { وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم } فلا نعاقبهم عليها . قرأ الجمهور ( يتقبل ، ويتجاوز ) على بناء الفعلين للمفعول ، وقرأ حمزة ، والكسائي بالنون فيهما على إسنادهما إلى الله سبحانه ، والتجاوز الغفران ، وأصله من جزت الشئ : إذا لم تقف عليه ، ومعنى { فِى أصحاب الجنة } : أنهم كائنون في عدادهم منتظمون في سلكهم ، فالجارّ والمجرور في محل النصب على الحال كقولك : أكرمني الأمير في أصحابه أي : كائناً في جملتهم ، وقيل : إن « في » بمعنى « مع » أي : مع أصحاب الجنة ، وقيل : إنهما خبر مبتدأ محذوف أي : هم في أصحاب الجنة { وَعْدَ الصدق الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } وعد الصدق مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأن قوله : { أُوْلَئِكَ الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } إلخ في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز ، ويجوز أن يكون مصدراً لفعل محذوف ، أي : وعدهم الله وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به على ألسن الرسل في الدنيا .
وقد أخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن عوف بن مالك الأشجعي : انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم ، فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« يا معشر اليهود ، أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله ، يحطّ الله تعالى عن كل يهوديّ تحت أديم السماء الغضب الذي عليه » ، فسكتوا ، فما أجابه منهم أحد ، ثم ردّ عليهم فلم يجبه أحد ثلاثاً ، فقال : « أبيتم فوالله لأنا الحاشر ، وأنا العاقب ، وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم » ، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج ، فإذا رجل من خلفه ، فقال : كما أنت يا محمد فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أيّ رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود ، فقالوا : والله ما نعلم فينا رجلاً أعلم بكتاب الله ، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك ، قال : فإني أشهد بالله أنه النبيّ الذي تجدونه مكتوباً في التوراة والإنجيل ، قالوا : كذبت ، ثم ردّوا عليه وقالوا شراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كذبتم لن يقبل منكم قولكم » ، فخرجنا ونحن ثلاثة : رسول الله وأنا وابن سلام ، فأنزل الله { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله } إلى قوله : { لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } وصححه السيوطي . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض : « إنه من أهل الجنة » إلاّ لعبد الله بن سلام ، وفيه نزلت : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل على مِثْلِهِ } وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن سلام قال : نزل فيّ آيات من كتاب الله نزلت فيّ : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل } ، ونزل فيّ { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } [ الرعد : 43 ] . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بَنِى إسراءيل } قال : عبد الله بن سلام . وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين . وفيه دليل على أن هذه الآية مدنية ، فيخصص بها عموم قولهم إن سورة الأحقاف كلها مكية . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : قال ناس من المشركين : نحن أعزّ ونحن ونحن ، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان ، فنزل : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } . وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال : كانت لعمر بن الخطاب أمة أسلمت قبله : يقال لها : زنيرة ، وكان عمر يضربها على الإسلام ، وكان كفار قريش يقولون : لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنيرة ، فأنزل الله في شأنها : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } الآية . وأخرج الطبراني عن سمرة بن جندب؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« بنو غفار وأسلم كانوا لكثير من الناس فتنة ، يقولون : لو كان خيراً ما جعلهم الله أوّل الناس فيه » .
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : نزل قوله : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بوالديه } الآية إلى قوله : { وَعْدَ الصدق الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } في أبي بكر الصديق . وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال : إني لصاحب المرأة التي أتى بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك ، فقلت لعمر : لم تظلم؟ قال : كيف؟ قلت اقرأ : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً } { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] كم الحول؟ قال : سنة ، قلت : كم السنة؟ قال : اثنا عشر شهراً ، قلت : فأربعة وعشرون شهراً حولان كاملان؛ ويؤخر الله من الحمل ما شاء ، ويقدّم ما شاء ، فاستراح عمر إلى قولي . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه كان يقول : إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع أحد وعشرون شهراً ، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهراً ، وإذا وضعت لستة أشهر ، فحولان كاملان ، لأن الله يقول : { وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً } . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : أنزلت هذه الآية في أبي بكر الصدّيق { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى } الآية ، فاستجاب الله له ، فأسلم والداه جميعاً وإخوته ، وولده كلهم ، ونزلت فيه أيضاً { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } إلى آخر السورة .

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

لما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه ، وعلى والديه ذكر من قال لهما قولاً يدلّ على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان ، فقال : { والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا } الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ، ولهذا أخبر عنه بالجمع ، وأفٍّ كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه . قرأ نافع وحفص و { أفٍّ } بكسر الفاء مع التنوين . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وابن محيصن بفتحها من غير تنوين ، وقرأ الباقون بكسر من غير تنوين وهي لغات . وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة بني إسرائيل . [ أي : سورة الإِسراء ] ، واللام في قوله : { لَّكُمَا } لبيان التأفيف ، أي : التأفيف لكما ، كما في قوله : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] قرأ الجمهور { أتعدانني } بنونين مخففتين ، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة ، وأسكنها الباقون . وقرأ أبو حيوة ، والمغيرة ، وهشام بإدغام إحدى النونين في الأخرى ، ورويت هذه القراءة عن نافع . وقرأ الحسن ، وشيبة ، وأبو جعفر ، وعبد الوارث عن أبي عمرو بفتح النون الأولى ، كأنهم فرّوا من توالي مثلين مكسورين . وقرأ الجمهور : { أن أخرج } بضم الهمزة وفتح الراء مبنياً للمفعول . وقرأ الحسن ، ونصر ، وأبو العالية ، والأعمش ، وأبو معمر بفتح الهمزة وضم الراء مبنياً للفاعل . والمعنى : أتعدانني أن أبعث بعد الموت ، وجملة { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن قد مضت القرون من قبلي فماتوا ، ولم يبعث منهم أحد ، وهكذا جملة : { وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنهما يستغيثان الله له ، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان ، واستغاث يتعدّى بنفسه وبالباء يقال : استغاث الله ، واستغاث به . وقال الرازي : معناه يستغيثان بالله من كفره ، فلما حذف الجار وصل الفعل ، وقيل : الاستغاثة : الدعاء ، فلا حاجة إلى الباء . قال الفراء : يقال : أجاب الله دعاءه وغواثه ، وقوله : { وَيْلَكَ } هو بتقدير القول ، أي : يقولان له : ويلك ، وليس المراد به : الدعاء عليه ، بل الحثّ له على الإيمان ، ولهذا قالا له : { آمن إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : آمن بالبعث إن وعد الله حقّ لا خلف فيه { فَيَقُولُ } عند ذلك مكذباً لما قالاه : { مَا هذا إِلاَّ أساطير الأولين } أي : ما هذا الذي تقولانه من البعث إلاّ أحاديث الأوّلين ، وأباطيلهم التي سطّروها في الكتب . قرأ الجمهور : { إن وعد الله } بكسر إن على الاستئناف ، أو التعليل ، وقرأ عمر بن فايد والأعرج بفتحها ، على أنها معمولة لآمن بتقدير الباء ، أي : آمن بأن وعد الله بالبعث حقّ { أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي : أولئك القائلون هذه المقالات هم الذين حقّ عليهم القول ، أي : وجب عليهم العذاب بقوله سبحانه لإبليس :

{ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } [ ص : 85 ] كما يفيده قوله : { فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس } ، وجملة : { إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين } تعليل لما قبله ، وهذا يدفع كون سبب نزول الآية عبد الرحمن بن أبي بكر ، وأنه الذي قال لوالديه ما قال ، فإنه من أفاضل المؤمنين ، وليس ممن حقت عليه كلمة العذاب ، وسيأتي بيان سبب النزول في آخر البحث إن شاء الله . { وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ } أي : لكلّ فريق من الفريقين المؤمنين ، والكافرين من الجنّ والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم . قال ابن زيد : درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلاً ، ودرجات أهل الجنة تذهب علوًّا { وَلِيُوَفّيَهُمْ أعمالهم } أي : جزاء أعمالهم . قرأ الجمهور : ( لنوفيهم ) بالنون . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، وعاصم ، وأبو عمرو ، ويعقوب بالياء التحتية . واختار أبو عبيد القراءة الأولى ، واختار الثانية أبو حاتم { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي : لا يزاد مسيء ، ولا ينقص محسن ، بل يوفّى كل فريق ما يستحقه من خير وشرّ ، والجملة في محلّ نصب على الحال ، أو مستأنفة مقررة لما قبلها { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } الظرف متعلق بمحذوف ، أي : اذكر لهم يا محمد يوم ينكشف الغطاء ، فينظرون إلى النار ويقربون منها ، وقيل : معنى { يعرضون } : يعذبون ، من قولهم : عرضه على السيف ، وقيل : في الكلام قلب . والمعنى : تعرض النار عليهم { أَذْهَبْتُمْ طيباتكم فِى حياتكم الدنيا } أي : يقال لهم ذلك ، قيل : وهذا المقدّر هو الناصب للظرف ، والأوّل أولى . قرأ الجمهور { أذهبتم } بهمزة واحدة ، وقرأ الحسن ، ونصر ، وأبو العالية ، ويعقوب ، وابن كثير بهمزتين مخففتين . ومعنى الاستفهام : التقريع والتوبيخ . قال الفراء ، والزجاج : العرب توبخ بالاستفهام وبغيره ، فالتوبيخ كائن على القراءتين . قال الكلبي : المراد بالطيبات : اللذات ، وما كانوا فيه من المعايش { واستمتعتم بِهَا } أي : بالطيبات ، والمعنى : أنهم اتبعوا الشهوات واللذات التي في معاصي الله سبحانه ، ولم يبالوا بالذنب تكذيباً منهم لما جاءت به الرّسل من الوعد بالحساب والعقاب والثواب { فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون } أي : العذاب الذي فيه ذلّ لكم ، وخزي عليكم . قال مجاهد ، وقتادة : الهون : الهوان بلغة قريش { بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق } أي : بسبب تكبركم عن عبادة الله ، والإيمان به وتوحيده { وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } أي : تخرجون عن طاعة الله ، وتعملون بمعاصيه ، فجعل السبب في عذابهم أمرين : التكبر عن اتباع الحق ، والعمل بمعاصي الله سبحانه وتعالى ، وهذا شأن الكفرة ، فإنهم قد جمعوا بينهما .
وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان ، فخطب ، فجعل يذكر يزيد بن معاوية؛ لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئًا ، فقال : خذوه ، فدخل بيت عائشة ، فلم يقدروا عليه ، فقال مروان : إن هذا أنزل فيه : { والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا } فقالت عائشة : ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن إلاّ أن الله أنزل عُذري .

وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن محمد بن زياد قال : لما بايع معاوية لابنه ، قال مروان : سنة أبي بكر ، وعمر ، فقال عبد الرحمن : سنة هرقل ، وقيصر ، فقال مروان : هذا الذي قال الله فيه : { والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا } الآية ، فبلغ ذلك عائشة فقالت : كذب مروان ، والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته ، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ، ومروان في صلبه ، فمروان من لعنه الله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في الآية قال : هذا ابن لأبي بكر . وأخرج نحوه أبو حاتم عن السديّ ، ولا يصح هذا كما قدّمنا .

وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)

قوله : { واذكر أَخَا عَادٍ } أي : واذكر يا محمد لقومك أخا عاد ، وهو هود بن عبد الله بن رباح ، كان أخاهم في النسب ، لا في الدين ، وقوله : { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ } بدل اشتمال منه ، أي : وقت إنذاره إياهم { بالأحقاف } وهي ديار عاد ، جمع حقف ، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره ، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوّتهم ، والمعنى : أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم؛ ليتعظوا ويخافوا ، وقيل : أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به ويهون عليه تكذيب قومه . قال عطاء : الأحقاف : رمال بلاد الشحر . وقال مقاتل : هي باليمن في حضرموت ، وقال ابن زيد : هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال ، ولم تبلغ أن تكون جبالاً { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي : وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده ، كذا قال الفراء وغيره . وفي قراءة ابن مسعود : ( من بين يديه ومن بعده ) والجملة في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود ، وبين قوله لقومه : { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ } والأوّل أولى . والمعنى : أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله ، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره ، ثم رجع إلى كلام هود لقومه ، فقال حاكياً عنه : { إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وقيل : إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام ، وأوفق بالمعنى { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءالِهَتِنَا } أي : لتصرفنا عن عبادتها ، وقيل : لتزيلنا ، وقيل : لتمنعنا ، والمعنى متقارب ، ومنه قول عروة بن أذينة :
إن تك عن حسن الصنيعة مأفو ... كاً ففي آخرين قد أفكوا
يقول : إن لم توفق للإحسان ، فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك . { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب العظيم { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } في وعدك لنا به . { قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله } أي : إنما العلم بوقت مجيئه عند الله لا عندي { وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ } إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار ، فأما العلم بوقت مجيء العذاب ، فما أوحاه إليّ { ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } حيث بقيتم مصرّين على كفركم ، ولم تهتدوا بما جئتكم به ، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل . { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً } الضمير يرجع إلى «ما» في قوله : { بِمَا تَعِدُنَا } . وقال المبرد ، والزجاج : الضمير في { رَأَوْهُ } يعود إلى غير مذكور ، وبينه قوله : { عَارِضاً } ، فالضمير يعود إلى السحاب ، أي : فلما رأوا السحاب عارضاً ، ف { عارضاً } نصب على التكرير ، يعني : التفسير ، وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء . قال الجوهري : العارض : السحاب يعترض في الأفق ، ومنه قوله : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } وانتصاب { عارضاً } على الحال ، أو التمييز { مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي : متوجهاً نحو أوديتهم .

قال المفسرون : كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً ، فساق الله إليهم سحابة سوداء ، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له : المعتب ، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا ، و { قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } أي : غيم فيه مطر ، وقوله : { مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } صفة لعارض؛ لأن إضافته لفظية لا معنوية ، فصح وصف النكرة به ، وهكذا ممطرنا ، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود ، فقال : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ } يعني : من العذاب حيث قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } وقوله : { رِيحٌ } بدل من ما ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وجملة : { فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } صفة لريح ، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه . { تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء بِأَمْرِ رَبّهَا } هذه الجملة صفة ثانية لريح ، أي : تهلك كل شيء مرّت به من نفوس عاد وأموالها ، والتدمير : الإهلاك ، وكذا الدمار ، وقرىء ( يدمر ) بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم ، ورفع ( كلّ ) على الفاعلية من دمر دماراً ، ومعنى { بِأَمْرِ رَبّهَا } : أن ذلك بقضائه وقدره { فَأْصْبَحُواْ لاَ تَرَى إلا مساكنهم } أي : لا ترى أنت يا محمد ، أو كل من يصلح للرؤية إلاّ مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم . قرأ الجمهور { لا ترى } بالفوقية على الخطاب ، ونصب مساكنهم . وقرأ حمزة ، وعاصم بالتحتية مضمومة مبنياً للمفعول ، ورفع مساكنهم . قال سيبويه : معناه لا يرى أشخاصهم إلاّ مساكنهم ، واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم القراءة الثانية . قال الكسائي ، والزجاج : معناها لا يرى شيء إلاّ مساكنهم ، فهي محمولة على المعنى كما تقول : ما قام إلاّ هند ، والمعنى : ما قام أحد إلاّ هند ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فجاءتهم الريح فدمرتهم ، فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم { كذلك نَجْزِي القوم المجرمين } أي : مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء ، وقد مرّ بيان هذه القصة في سورة الأعراف . { وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ } قال المبرد : ما في قوله : { فيما } بمنزلة " الذي " ، و " إن " بمنزلة " ما " ، يعني : النافية ، وتقديره : ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر وقوّة الأبدان ، وقيل : «إن» زائدة ، وتقديره : ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه ، وبه قال القتيبي ، ومثله قول الشاعر :
فما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
والأوّل أولى؛ لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش ، وأمثالهم { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً } أي : إنهم أعرضوا عن قبول الحجة ، والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواسّ التي بها تدرك الأدلة ، ولهذا قال : { فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء } أي : فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد ، وصحة الوعد والوعيد ، وقد قدّمنا من الكلام على وجه إفراد السمع ، وجمع البصر ما يغني عن الإعادة ، و«من» في { مِن شَىْء } زائدة ، والتقدير : فما أغنى عنهم شيء من الإِغناء ، ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع { إذ كانوا يجحدون بآيات الله } الظرف متعلق ب { أغنى } ، وفيها معنى التعليل أي : لأنهم كانوا يجحدون { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزئون } أي : أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } .

{ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ القرى } الخطاب لأهل مكة ، والمراد بما حولهم من القرى : قرى ثمود ، وقرى لوط ، ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز ، وكانت أخبارهم متواترة عندهم { وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي : بينا الحجج ونوّعناها؛ لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا . ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر ، فقال : { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ } أي : فهلا نصرهم آلهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا : { هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم . قال الكسائي : القربان : كل ما يتقرّب به إلى الله من طاعة ونسيكة ، والجمع قرابين ، كالرهبان والرهابين ، وأحد مفعولي { اتخذوا } ضمير راجع إلى الموصول ، والثاني آلهة ، و { قرباناً } حال ، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً ، و { آلهةً } بدلاً منه لفساد المعنى ، وقيل : يصح ذلك ولا يفسد المعنى ، ورجحه ابن عطية ، وأبو البقاء ، وأبو حيان ، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } أي : غابوا عن نصرهم ، ولم يحضروا عند الحاجة إليهم ، وقيل : بل هلكوا ، وقيل : الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار ، أي : تركوا الأصنام وتبرءوا منها ، والأوّل أولى . والإشارة بقوله : { وَذَلِكَ } إلى ضلال آلهتهم . والمعنى : وذلك الضلال والضياع أثر { إِفْكِهِمْ } الذي هو اتخاذهم إياها آلهةً وزعمهم أنها تقرّبهم إلى الله . قرأ الجمهور { إفكهم } بكسر الهمزة ، وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً ، أي : كذبهم . وقرأ ابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي : ذلك القول صرفهم عن التوحيد . وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء ، أي : صيرهم آفكين . قال أبو حاتم : يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم ، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمدّ ، وكسر الفاء بمعنى : صارفهم { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } معطوف على { إفكهم } أي : وأثر افترائهم ، أو أثر الذي كانوا يفترونه . والمعنى : وذلك إفكهم أي : كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقرّبهم إلى الله ، وتشفع لهم { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي : يكذبون أنها آلهة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأحقاف : جبل بالشام . وأخرج البخاريّ ، ومسلم ، وغيرهما عن عائشة قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم ، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه ، قلت : يا رسول الله ، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر .

وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية ، قال : « يا عائشة : وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب ، فقالوا : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } » وأخرج مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : « اللَّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به » ، فإذا تخيلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سرّي عنه ، فسألته فقال : « لا أدري ، لعله كما قال قوم عاد : { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } » وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } قالوا : غيم فيه مطر ، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رجالهم ، ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم ، وغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ، ومالت عليهم بالرمل ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال ، وثمانية أيام حسوماً لهم أنين ، ثم أمر الله الريح ، فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر ، فهو قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : ما أرسل الله على عاد من الريح إلاّ قدر خاتمي هذا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ } يقول : لم نمكنكم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة ، وكانوا أشدّ قوة وأكثر أموالاً وأطول أعماراً .

وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)

لما بيّن سبحانه أن في الإنس من آمن ، وفيهم من كفر ، بيّن أيضاً أن في الجنّ كذلك ، فقال : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن } العامل في الظرف مقدّر ، أي : واذكر إذ صرفنا . أي : وجهنا إليك نفراً من الجنّ ، وبعثناهم إليك ، وقوله : { يَسْتَمِعُونَ القرءان } في محل نصب صفة ثانية ل { نفراً } أو حال؛ لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } أي : حضروا القرآن عند تلاوته ، وقيل : حضروا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والأول أولى { قَالُواْ أَنصِتُواْ } أي : قال بعضهم لبعض : اسكتوا ، أمروا بعضهم بعضاً بذلك؛ لأجل أن يسمعوا { فَلَمَّا قُضِىَ } قرأ الجمهور { قضي } مبنياً للمفعول ، أي : فرغ من تلاوته . وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ، ولاحق بن حميد ، وأبو مجلز على البناء للفاعل ، أي : فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من تلاوته ، والقراءة الأولى تؤيد أن الضمير في { حَضَرُوهُ } للقرآن ، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أي : انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ، ومحذرين لهم ، وانتصاب : { منذرين } على الحال المقدّرة ، أي : مقدّرين الإنذار ، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبيّ ، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك . { قَالُواْ يا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } يعنون : القرآن؛ وفي الكلام حذف ، والتقدير : فوصلوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا . قال عطاء : كانوا يهوداً فأسلموا { مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : لما قبله من الكتب المنزّلة { يَهْدِى إِلَى الحق } أي : إلى الدين الحقّ { وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي : إلى طريق الله القويم . قال مقاتل : لم يبعث الله نبياً إلى الجنّ والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم . { ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ به } يعنون : محمداً صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } أي : بعضها ، وهو ما عدا حقّ العباد ، وقيل : « إن » من هنا لابتداء الغاية . والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ، ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى ، وقيل : هي زائدة { وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وهو عذاب النار ، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجنّ حكم الإنس في الثواب والعقاب ، والتعبد بالأوامر والنواهي . وقال الحسن : ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار ، وبه قال أبو حنيفة . والأوّل أولى ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وابن أبي ليلى . وعلى القول الأوّل ، فقال القائلون به : أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا تراباً ، كما يقال للبهائم والثاني أرجح .

وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجنّ والإنس : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } [ الرحمن : 46 ، 47 ] فامتنّ سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم ، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار ، وهو مقام عدل ، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة ، وهو مقام فضل ، ومما يؤيد هذا أيضاً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة ، وجزاء من عمل الصالحات الجنة ، وجزاء من قال لا إله إلاّ الله الجنة ، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة .
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم أم لا؟ وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط ، كما في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] . وقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الأسواق } [ الفرقان : 20 ] وقال سبحانه في إبراهيم الخليل : { وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب } [ العنكبوت : 27 ] ، فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم ، فهو من ذرّيته ، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام : { يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] فقيل : المراد من مجموع الجنسين ، وصدق على أحدهما ، وهم الإنس : كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أي : من أحدهما . { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرض } أي : لا يفوت الله ، ولا يسبقه ، ولا يقدر على الهرب منه؛ لأنه وإن هرب كل مهرب ، فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها ، وفي هذا ترهيب شديد { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } أي : أنصار يمنعونه من عذاب الله . بيّن سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من لا يجب داعي الله ، وأخبر أنهم { فِى ضلال مُّبِينٍ } أي : ظاهر واضح ، ثم ذكر سبحانه دليلاً على البعث ، فقال : { أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والارض } الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم ، والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، أي : ألم يتفكروا ، ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداءً { وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ } أي : لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه ، يقال عيّ بالأمر وعيي : إذا لم يهتد لوجهه ، ومنه قول الشاعر :
عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضها الحمامه
قرأ الجمهور { ولم يعي } بسكون العين ، وفتح الياء مضارع عيي . وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء . { بِقَادِرٍ على أَن يُحْىِ الموتى } . قال أبو عبيدة ، والأخفش : الباء زائدة للتوكيد ، كما في قوله : { وكفى بالله شَهِيداً } [ النساء : 166 ] . قال الكسائي ، والفراء ، والزجاج : العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام ، فتقول : ما أظنك بقائم ، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن ، وقرأ ابن مسعود ، وعيسى بن عمر ، والأعرج ، والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب ، وزيد بن عليّ : ( يقدر ) على صيغة المضارع ، واختار أبو عبيد القراءة الأولى ، واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال : لأن دخول الباء في خبر أنّ قبيح { بلى إِنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء .

{ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار } الظرف متعلق بقول مقدّر ، أي : يقال ذلك اليوم للذين كفروا { أَلَيْسَ هذا بالحق } وهذه الجملة هي المحكية بالقول ، والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار ، وفي الاكتفاء بمجرّد الإشارة من التهويل للمشار إليه ، والتفخيم لشأنه ما لا يخفى؛ كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدلّ عليه { قَالُواْ بلى وَرَبّنَا } اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف ، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم؛ لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره { قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : بسبب كفركم بهذا في الدنيا ، وإنكاركم له ، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ ، وتهكم عظيم . لما قرّر سبحانه الأدلة على النبوّة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال : { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } والفاء جواب شرط محذوف ، أي : إذا عرفت ذلك ، وقامت عليه البراهين ، ولم ينجع في الكافرين ، فاصبر كما صبر أولوا العزم ، أي : أرباب الثبات والحزم ، فإنك منهم . قال مجاهد : أولوا العزم من الرسل خمسة : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد ، وهم أصحاب الشرائع . وقال أبو العالية : هم نوح ، وهود ، وإبراهيم ، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم . وقال السديّ : هم ستة إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ، ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وموسى . وقال ابن جريج : إن منهم إسماعيل ، ويعقوب ، وأيوب ، وليس منهم يونس . وقال الشعبي ، والكلبي : هم الذين أمروا بالقتال ، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة ، وقيل : هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط . واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم : { أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] وقيل : إن الرسل كلهم أولوا عزم ، وقيل : هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل . وقال الحسن : هم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي : لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار . لما أمره سبحانه بالصبر ، ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } من العذاب { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ } أي : كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلاّ قدر ساعة من ساعات الأيام لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم .

قرأ الجمهور : { بلاغ } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا الذي وعظتهم به بلاغ ، أو تلك الساعة بلاغ ، أو هذا القرآن بلاغ ، أو هو مبتدأ ، والخبر لهم الواقع بعد قوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل } أي : لهم بلاغ . وقرأ الحسن ، وعيسى بن عمر ، وزيد بن عليّ « بلاغاً » بالنصب على المصدر ، أي : بلغ بلاغاً . وقرأ أبو مجلز : ( بلغ ) بصيغة الأمر . وقرىء ( بلغ ) بصيغة الماضي { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } قرأ الجمهور : { فهل يهلك } على البناء للمفعول . وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل ، والمعنى : أنه لا يهلك بعذاب الله إلاّ القوم الخارجون عن الطاعة ، الواقعون في معاصي الله . قال قتادة : لا يهلك على الله إلاّ هالك مشرك . قيل : وهذه الآية أقوى آية في الرجاء . قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلاّ القوم الفاسقون .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن منيع ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن مسعود قال : هبطوا ، يعني : الجن على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا ، قالوا : صه ، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة ، فأنزل الله : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن } إلى قوله : { ضلال مُّبِينٍ } . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن مردويه عن الزبير { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان } قال : بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 17 ] . وأخرج ابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن } الآية ، قال : كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم عنه نحوه وقال : أتوه ببطن نخلة . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : صرفت الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين ، وكانوا أشراف الجنّ بنصيبين . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن مسروق قال : سألت ابن مسعود من آذن النبيّ بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال : آذنته بهم شجرة . وأخرج عبد بن حميد ، وأحمد ، ومسلم ، والترمذي عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم أحداً ليلة الجنّ؟ قال : ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة ، فقلنا : اغتيل ، استطير ما فعل؟ قال : فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فأخبرناه فقال : « إنه أتاني داعي الجنّ ، فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم » . وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ .

وقد روي نحو هذا من طرق . والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه صلى الله عليه وسلم مع الجنّ حضر إحداهما ابن مسعود ، ولم يحضر في الأخرى . وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجنّ بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة بعد مرّة ، وأخذوا عنه الشرائع . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل : النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى . وأخرج ابن مردويه عنه قال : هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح ، وهود ، وصالح ، وموسى ، وداود ، وسليمان . وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر . وأخرج ابن أبي حاتم ، والديلمي عن عائشة قالت : ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً ثم طوى ، ثم ظلّ صائماً ثم طوى ، ثم ظلّ صائماً ، قال : « يا عائشة ، إن الدين لا ينبغي لمحمد ، ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلاّ بالصبر على مكروهها ، والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلاّ أن يكلفني ما كلفهم ، فقال : { اصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي ، ولا قوّة إلاّ بالله » .

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)

قوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } هم كفار قريش كفروا بالله ، وصدّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، وهو دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه ، كذا قال مجاهد ، والسديّ . وقال الضحاك : معنى { عن سبيل الله } : عن بيت الله بمنع قاصديه . وقيل : هم أهل الكتاب ، والموصول مبتدأ ، وخبره { أَضَلَّ أعمالهم } أي : أبطلها وجعلها ضائعة . قال الضحاك : معنى { أَضَلَّ أعمالهم } : أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وجعل الدائرة عليهم في كفرهم . وقيل : أبطل ما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق : من صلة الأرحام ، وفكّ الأسارى وقري الأضياف ، وهذه وإن كانت باطلة من أصلها ، لكن المعنى : أنه سبحانه حكم ببطلانها . ولما ذكر فريق الكافرين أتبعهم بذكر فريق المؤمنين ، فقال : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَءامَنُواْ بِمَا نُزّلَ على مُحَمَّدٍ } ظاهر هذا العموم ، فيدخل تحته كل مؤمن من المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ولا يمنع من ذلك خصوص سببها؛ فقد قيل : إنها نزلت في الأنصار ، وقيل : في ناس من قريش ، وقيل : في مؤمني أهل الكتاب ، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وخص سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بالذكر مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله تنبيهاً على شرفه وعلوّ مكانه ، وجملة : { وَهُوَ الحق مِن رَّبّهِمْ } معترضة بين المبتدأ ، وهو قوله : { والذين ءامَنُواْ } ، وبين خبره ، وهو قوله : { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } ومعنى كونه الحق : أنه الناسخ لما قبله ، وقوله : { مّن رَّبّهِم } في محل نصب على الحال ، ومعنى { كَفَّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } أي : السيئات التي عملوها فيما مضى فإنه غفرها لهم بالإيمان ، والعمل الصالح { سيئاتهم وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : شأنهم وحالهم . قال مجاهد : شأنهم ، وقال قتادة : حالهم . وقيل : أمرهم ، والمعاني متقاربة . قال المبرد : البال : الحال ها هنا . قيل والمعنى : أنه عصمهم عن المعاصي في حياتهم ، وأرشدهم إلى أعمال الخير ، وليس المراد إصلاح حال دنياهم من إعطائهم المال ، ونحو ذلك ، وقال النقاش : إن المعنى : أصلح نياتهم ، ومنه قول الشاعر :
فإن تقبلي بالودّ أقبل بمثله ... وإن تدبري أذهب إلى حال باليا
والإشارة بقوله : { ذلك } إشارة إلى ما مرّ مما أوعد به الكفار ، ووعد به المؤمنين ، وهو مبتدأ خبره ما بعده ، وقيل : إنه خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ذلك بسبب إِنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل وَأَنَّ الذين ءامَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبّهِمْ ، فالباطل : الشرك ، والحق : التوحيد والإيمان ، والمعنى : أن ذلك الإضلال لأعمال الكافرين بسبب اتباعهم الباطل من الشرك بالله والعمل بمعاصيه ، وذلك التكفير لسيئات المؤمنين وإصلاح بالهم ، بسبب اتباعهم للحقّ الذي أمر الله باتباعه من التوحيد والإيمان ، وعمل الطاعات { كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أمثالهم } أي : مثل ذلك الضرب يبين للناس أمثالهم ، أي : أحوال الفريقين الجارية مجرى الأمثال في الغرابة .

قال الزجاج : { كذلك يضرب } : يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين ، وإضلال أعمال الكافرين ، يعني : أن من كان كافراً أضلّ الله عمله ، ومن كان مؤمناً كفر الله سيئاته . { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب } لما بيّن سبحانه حال الفريقين أمر بجهاد الكفار ، والمراد بالذين كفروا : المشركين ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتاب ، وانتصاب { ضرب } على أنه مصدر لفعل محذوف . قال الزجاج : أي : فاضربوا الرقاب ضرباً ، وخصّ الرقاب بالذكر؛ لأن القتل أكثر ما يكون بقطعها ، وقيل : هو منصوب على الإغراء . قال أبو عبيدة : هو كقولهم : يا نفس صبراً ، وقيل التقدير : اقصدوا ضرب الرقاب . وقيل : إنما خصّ ضرب الرقاب؛ لأن في التعبير عنه من الغلظة والشدّة ما ليس في نفس القتل ، وهي حزّ العنق ، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن ، علوّه وأحسن أعضائه { حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي : بالغتم في قتلهم ، وأكثرتم القتل فيهم ، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب ، لا لبيان غاية القتل ، وهو مأخوذ من الشيء الثخين ، أي : الغليظ ، وقد مضى تحقيق معناه في سورة الأنفال { فَشُدُّواْ الوثاق } الوثاق بالفتح ويجيء بالكسر : اسم الشيء الذي يوثق به كالرباط . قال الجوهري : وأوثقه في الوثاق أي : شدّه ، قال : والوثاق بكسر الواو لغة فيه . قرأ الجمهور { فشدّوا } بضم الشين ، وقرأ السلمي بكسرها . وإنما أمر سبحانه بشدّ الوثاق؛ لئلا ينفلتوا ، والمعنى : إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم ، وأحيطوهم بالوثاق { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } أي : فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر منا ، أو تفدوا فداء ، والمنّ : الإطلاق بغير عوض ، والفداء : ما يفدي به الأسير نفسه من الأسر ، ولم يذكر القتل هنا اكتفاءً بما تقدّم . قرأ الجمهور { فداءً } بالمد . وقرأ ابن كثير ( فدى ) بالقصر ، وإنما قدّم المنّ على الفداء ، لأنه من مكارم الأخلاق ، ولهذا كانت العرب تفتخر به ، كما قال شاعرهم :
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم
ثم ذكر سبحانه الغاية لذلك ، فقال : { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } أوزار الحرب التي لا تقوم إلاّ بها من السلاح والكراع ، أسند الوضع إليها ، وهو لأهلها على طريق المجاز ، والمعنى : أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور إلى غاية هي أن لا يكون حرب مع الكفار . قال مجاهد : المعنى حتى لا يكون دين غير دين الإسلام ، وبه قال الحسن ، والكلبي . قال الكسائي : حتى يسلم الخلق . قال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر . وقيل المعنى : حتى يضع الأعداء المحاربون أوزارهم ، وهو سلاحهم بالهزيمة ، أو الموادعة . وروي عن الحسن ، وعطاء أنهما قالا : في الآية تقديم وتأخير ، والمعنى : فضرب الرقاب حتى تضع الحرب أوزارها ، فإذا أثخنتموهم ، فشدّوا الوثاق .

وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة ، أو منسوخة؟ فقيل : إنها منسوخة في أهل الأوثان ، وإنه لا يجوز أن يفادوا ، ولا يمنّ عليهم ، والناسخ لها قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقوله : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِى الحرب فَشَرّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } [ الأنفال : 57 ] ، وقوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] وبهذا قال قتادة ، والضحاك ، والسديّ ، وابن جريج ، وكثير من الكوفيين ، قالوا : والمائدة آخر ما نزل ، فوجب أن يقتل كل مشرك إلاّ من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ، ومن تؤخذ منه الجزية ، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، وقيل : إن هذه الآية ناسخة لقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] روي ذلك عن عطاء وغيره . وقال كثير من العلماء : إن الآية محكمة ، والإمام مخيّر بين القتل والأسر ، وبعد الأسر مخير بين المنّ والفداء . وبه قال مالك ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبو عبيد وغيرهم . وهذا هو الراجح؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والخلفاء الراشدين من بعده فعلوا ذلك . وقال سعيد بن جبير : لا يكون فداء ولا أسر إلاّ بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله : { مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] فإذا أسر بعد ذلك ، فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره . { ذلك وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } محل ذلك الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، وقيل : في محل نصب على المفعولية بتقدير فعل ، أي : افعلوا ذلك ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره محذوف يدلّ عليه ما تقدّم ، أي : ذلك حكم الكفار ، ومعنى { لَّوْ يَشَاء الله لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } ، أي : قادر على الانتصار منهم بالانتقام منهم وإهلاكهم ، وتعذيبهم بما شاء من أنواع العذاب { ولكن } أمركم بحربهم { لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي : ليختبر بعضكم ببعض ، فيعلم المجاهدين في سبيله ، والصابرين على ابتلائه ويجزل ثوابهم ، ويعذب الكفار بأيديهم . { والذين قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ الله } قرأ الجمهور : { قاتلوا } مبنياً للفاعل ، وقرأ أبو عمرو ، وحفص : { قتلوا } مبنياً للمفعول ، وقرأ الحسن بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً . وقرأ الجحدري ، وعيسى بن عمر ، وأبو حيوة : { قتلوا } على البناء للفاعل مع التخفيف من غير ألف ، والمعنى على القراءة الأولى ، والرابعة : أن المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع ، وعلى القراءة الثانية والثالثة : أن المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيع الله سبحانه أجرهم . قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد . ثم ذكر سبحانه ما لهم عنده من جزيل الثواب فقال : { سَيَهْدِيهِمْ } أي : سيهديهم الله سبحانه إلى الرشد في الدنيا ، ويعطيهم الثواب في الآخرة { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي : حالهم وشأنهم وأمرهم . قال أبو العالية : قد ترد الهداية ، والمراد بها : إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان ، والطريق المفضية إليها ، وقال ابن زياد : يهديهم إلى محاجة منكر ونكير { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي : بيّنها لهم حتى عرفوها من غير استدلال ، وذلك أنهم إذا دخلوا الجنة تفرّقوا إلى منازلهم .

قال الواحدي : هذا قول عامة المفسرين . وقال الحسن : وصف الله لهم الجنة في الدنيا ، فلما دخلوها عرفوها بصفتها . وقيل : فيه حذف ، أي : عرفوا طرقها ومساكنها وبيوتها . وقيل : هذا التعريف بدليل يدلهم عليها ، وهو الملك الموكل بالعبد يسير بين يديه حتى يدخله منزله ، كذا قال مقاتل . وقيل : معنى { عَرَّفَهَا لَهُمْ } : طيبها بأنواع الملاذّ ، مأخوذ من العرف ، وهو الرائحة . ثم وعدهم سبحانه على نصر دينه بقوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } أي : إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار ، ويفتح لكم ، ومثله قوله : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [ الحج : 40 ] . قال قطرب : إن تنصروا نبيّ الله ينصركم { وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ } أي : عند القتال ، وتثبيت الأقدام عبارة عن النصر ، والمعونة في مواطن الحرب ، وقيل : على الإسلام ، وقيل : على الصراط { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } الموصول في محل رفع على أنه مبتدأ ، وخبره محذوف ، تقديره : فتعسوا بدليل ما بعده ، ودخلت الفاء تشبيهاً للمبتدأ بالشرط ، وانتصاب { تعساً } على المصدر للفعل المقدّر خبراً . قال الفراء : مثل سقياً لهم ورعياً ، وأصل التعس : الانحطاط والعثار . قال ابن السكيت : التعس : أن يجرّ على وجهه ، والنكس : أن يجر على رأسه ، قال : والتعس أيضاً : الهلاك . قال الجوهري : وأصله الكبّ ، وهو ضد الانتعاش ، ومنه قول مجمع بن هلال :
تقول وقد أفردتها من حليلها ... تعست كما أتعستني يا مجمع
قال المبرّد : أي : فمكروهاً لهم ، قال ابن جريج : بعداً لهم ، وقال السديّ : خزياً لهم . وقال ابن زيد : شقاءً لهم ، وقال الحسن : شتماً لهم . وقال ثعلب : هلاكاً لهم ، وقال الضحاك : خيبةً لهم ، وقيل : قبحاً لهم ، حكاه النقاش . وقال الضحاك : رغماً لهم . وقال ثعلب أيضاً : شرًّا لهم . وقال أبو العالية : شقوةً لهم . واللام في { لهم } للبيان ، كما في قوله : { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] وقوله : { وَأَضَلَّ أعمالهم } معطوف على ما قبله داخل معه في خبرية الموصول . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم مما ذكره الله من التعس والإضلال ، أي : الأمر ذلك ، أو ذلك الأمر { بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله } على رسوله من القرآن ، أو ما أنزل على رسله من كتبه لاشتمالها على ما في القرآن من التوحيد والبعث { فَأَحْبَطَ } الله { أعمالهم } بذلك السبب ، والمراد بالأعمال : ما كانوا عملوا من أعمال الخير في الصورة ، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأن عمل الكافر لا يقبل قبل إسلامه . ثم خوّف سبحانه الكفار ، وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم ، فقال : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض } أي : ألم يسيروا في أرض عاد ، وثمود ، وقوم لوط وغيرهم؛ ليعتبروا { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : آخر أمر الكافرين قبلهم ، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية .

ثم بيّن سبحانه ما صنع بمن قبلهم فقال : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } والجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والتدمير : الإهلاك ، أي : أهلكهم واستأصلهم ، يقال : دمّره ودمر عليه بمعنى ، ثم توعد مشركي مكة فقال : { وللكافرين أمثالها } أي : لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرة . قال الزجاج ، وابن جرير : الضمير في { أمثالها } يرجع إلى { عاقبة الذين من قبلهم } ، وإنما جمع لأن العواقب متعدّدة بحسب تعدّد الأمم المعذبة ، وقيل : أمثال العقوبة ، وقيل : الهلكة ، وقيل : التدميرة ، والأوّل أولى لرجوع الضمير إلى ما هو مذكور قبله ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من أن للكافرين أمثالها { بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمنوا } أي : بسبب أن الله ناصرهم ، { وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } أي : لا ناصر يدفع عنهم . وقرأ ابن مسعود ( ذلك بأن الله وليّ الذين آمنوا ) قال قتادة : نزلت يوم أحد . { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } قد تقدّم تفسير الآية في غير موضع ، وتقدّم كيفية جري الأنهار من تحت الجنات ، والجملة مسوقة لبيان ولاية الله للمؤمنين { والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } أي : يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به؛ كأنهم أنعام ليس لهم همّة إلاّ بطونهم وفروجهم ، ساهون عن العاقبة لاهون بما هم فيه { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } أي : مقام يقيمون به ، ومنزل ينزلونه ويستقرّون فيه ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة .
وقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } قال : هم أهل مكة قريش نزلت فيهم : { والذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } قال : هم أهل المدينة الأنصار { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال : أمرهم . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { أَضَلَّ أعمالهم } قال : كانت لهم أعمال فاضلة لا يقبل الله مع الكفر عملاً . وأخرج النحاس عنه أيضاً في قوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } قال : فجعل الله النبيّ والمؤمنين بالخيار في الأسارى ، إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال : هذا منسوخ نسختها : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن الحسن قال : أتى الحجاج بأسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله ، فقال ابن عمر : ليس بهذا أمرنا إنما قال الله : { حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } . وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ليث قال : قلت لمجاهد : بلغني أن ابن عباس قال : لا يحلّ قتل الأسارى؛ لأن الله قال : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء } فقال مجاهد : لا تعبأ بهذا شيئًا أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكلهم ينكر هذا ، ويقول : هذه منسوخة إنما كانت في الهدنة التي كانت بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، فأما اليوم فلا ، يقول الله :

{ فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ويقول : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب } فإن كان من مشركي العرب لم يقبل شيء منهم إلاّ الإسلام ، فإن لم يسلموا فالقتل ، وأما من سواهم فإنهم إذا أسروا ، فالمسلمون فيهم بالخيار إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استحيوهم ، وإن شاءوا فادوهم إذا لم يتحوّلوا عن دينهم ، فإن أظهروا الإسلام لم يفادوا . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الصغير ، والمرأة ، والشيخ الفاني . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً وحكماً عدلاً ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، وتوضع الجزية ، وتضع الحرب أوزارها » وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والنسائي ، والبغوي ، والطبراني ، وابن مردويه عن سلمة بن نفيل ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث قال : « لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس { وللكافرين أمثالها } قال : لكفار قومك يا محمد مثل ما دمرت به القرى ، فأهلكوا بالسيف .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)

خوّف سبحانه الكفار؛ بأنه قد أهلك من هو أشدّ منهم فقال : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ التى أَخْرَجَتْكَ أهلكناهم } قد قدّمنا أن « كأين » مركبة من الكاف وأيّ ، وأنها بمعنى كم الخبرية أي : وكم من قرية ، وأنشد الأخفش قول لبيد :
وكأين رأينا من ملوك وسوقة ... ومفتاح قيد للأسير المكبل
ومعنى الآية : وكم من أهل قرية هم أشدّ قوة من أهل قريتك التي أخرجوك منها أهلكناهم { فَلاَ ناصر لَهُمْ } فبالأولى من هو أضعف منهم ، وهم قريش الذين هم أهل قرية النبي صلى الله عليه وسلم وهي مكة ، فالكلام على حذف المضاف ، كما في قوله : { واسئل القرية } [ يوسف : 82 ] قال مقاتل : أي : أهلكناهم بالعذاب حين كذبوا رسولهم . ثم ذكر سبحانه الفرق بين حال المؤمن ، وحال الكافر فقال : { أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ } والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره ، ومن مبتدأ ، والخبر { كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ } وأفرد في هذا باعتبار « لفظ » من ، وجمع في قوله : { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } باعتبار معناها ، والمعنى : أنه لا يستوي من كان على يقين من ربه ، ولا يكون كمن زيّن له سوء عمله ، وهو عبادة الأوثان ، والإشراك بالله ، والعمل بمعاصي الله ، واتبعوا أهواءهم في عبادتها ، وانهمكوا في أنواع الضلالات بلا شبهة توجب الشك فضلاً عن حجة نيرة . ثم لمّا بيّن سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء ، والضلال بين الفرق في مرجعهما ومآلهما فقال : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون } والجملة مستأنفة لشرح محاسن الجنة ، وبيان ما فيها؛ ومعنى { مَّثَلُ الجنة } : وصفها العجيب الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبره محذوف . قال النضر بن شميل : تقديره : ما يسمعون ، وقدّره سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، قال : والمثل : هو الوصف ، ومعناه : وصف الجنة ، وجملة { فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ } إلخ مفسرة للمثل . وقيل : إن { مثل } زائدة ، وقيل : إن { مثل الجنة } مبتدأ ، والخبر { فيها أنهار } ، وقيل : خبره : { كمن هو خالد } ، والآسن : المتغير ، يقال : أسن الماء يأسن أسوناً : إذا تغيرت رائحته ، ومثله الآجن ، ومنه قول زهير :
قد أترك القرن مصفراً أنامله ... يميد في الرمح ميد المالح الأسن
قرأ الجمهور { آسن } بالمدّ . وقرأ حميد ، وابن كثير بالقصر ، وهما لغتان كحاذر وحذر . وقال الأخفش : إن الممدود يراد به الاستقبال ، والمقصود يراد به الحال ، { وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } أي : لم يحمض ، كما تغير ألبان الدنيا؛ لأنها لم تخرج من ضروع الإبل والغنم والبقر { وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين } أي : لذيذة لهم طيبة الشرب لا يكرهها الشاربون ، يقال : شراب لذّ ولذيذ وفيه لذة بمعنى ، ومثل هذه الآية قوله :

{ بَيْضَاء لَذَّةٍ للشاربين } [ الصافات : 46 ] قرأ الجمهور { لذة } بالجرّ صفة ل { خمر } ، وقرىء بالنصب على أنه مصدر ، أو مفعول له . وقرىء بالرفع صفة ل { أنهار } { وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي : مصفى مما يخالطه من الشمع والقذى والعكر والكدر { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلّ الثمرات } أي : لأهل الجنة في الجنة مع ما ذكر من الأشربة من كل الثمرات ، أي : من كل صنف من أصنافها ، و «من» زائدة للتوكيد { وَمَغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ } لذنوبهم ، وتنكير مغفرة للتعظيم ، أي : ولهم مغفرة عظيمة كائنة من ربهم { كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار } هو خبر لمبتدأ محذوف ، والتقدير : أم من هو في نعيم الجنة على هذه الصفة خالداً فيها كمن هو خالد في النار ، أو خبر لقوله : { مثل الجنة } كما تقدّم ، ورجح الأوّل الفراء ، فقال : أراد أمن كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار؟ وقال الزجاج : أي : أفمن كان على بينة من ربه ، وأعطي هذه الأشياء كمن زين له سوء عمله ، وهو خالد في النار ، فقوله : " كَمَنْ " بدل من قوله : { أفمن زيّن له سوء عمله } وقال ابن كيسان : ليس مثل الجنة التي فيها الثمار والأنهار ، كمثل النار التي فيها الحميم والزقوم ، وليس مثل أهل الجنة في النعيم ، كمثل أهل النار في العذاب الأليم ، وقوله : { وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً } عطف على الصلة عطف جملة فعلية على اسمية لكنه راعى في الأولى لفظ " من " ، وفي الثانية معناها ، والحميم : الماء الحارّ الشديد الغليان ، فإذا شربوه قطع أمعاءهم ، وهو معنى قوله : { فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } لفرط حرارته ، والأمعاء جمع معًى ، وهي ما في البطون من الحوايا . { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ } أي : من هؤلاء الكفار الذين يتمتعون ويأكلون ، كما تأكل الأنعام من يستمع إليك وهم المنافقون ، أفرد الضمير باعتبار لفظ " من " ، وجمع في قوله : { حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ } باعتبار معناها ، والمعنى : أن المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومواطن خطبه التي يمليها على المسلمين حتى إذا خرجوا من عنده { قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم } وهم علماء الصحابة ، وقيل : عبد الله بن عباس ، وقيل : عبد الله بن مسعود ، وقيل : أبو الدرداء ، والأوّل أولى ، أي : سألوا أهل العلم فقالوا لهم : { مَاذَا قَالَ ءانِفاً } أي : ماذا قال النبيّ الساعة على طريقة الاستهزاء ، والمعنى : أنا لم نلتفت إلى قوله ، و { آنفاً } يراد به الساعة التي هي أقرب الأوقات ، ومنه : أمر آنف ، أي : مستأنف ، وروضة أنف ، أي : لم يرعها أحد ، وانتصابه على الظرفية ، أي : وقتاً مؤتنفاً ، أو حال من الضمير في " قال " . قال الزجاج : هو من استأنفت الشيء : إذا ابتدأته ، وأصله مأخوذ من أنف الشيء لما تقدّم منه ، مستعار من الجارحة ، ومنه قول الشاعر :

ويحرم سرّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المذكورين من المنافقين { الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ } فلم يؤمنوا ، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير { واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } في الكفر والعناد . ثم ذكر حال أضدادهم فقال : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } أي : والذين اهتدوا إلى طريق الخير ، فآمنوا بالله ، وعملوا بما أمرهم به زادهم هدًى بالتوفيق ، وقيل : زادهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : زادهم القرآن . وقال الفراء : زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدًى . وقيل : زادهم نزول الناسخ هدًى ، وعلى كل تقدير ، فالمراد : أنه زادهم إيماناً وعلماً وبصيرة في الدين { وآتاهم تقواهم } أي : ألهمهم إياها وأعانهم عليها ، والتقوى قال الربيع : هي الخشية ، وقال السديّ : هي ثواب الآخرة ، وقال مقاتل : هي التوفيق للعمل الذي يرضاه ، وقيل : العمل بالناسخ وترك المنسوخ ، وقيل : ترك الرخص والأخذ بالعزائم { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة } أي : القيامة { أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة ، وفي هذا وعيد للكفار شديد ، وقوله : { أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } بدل من { الساعة } بدل اشتمال . وقرأ أبو جعفر الرواسي ( إن تأتهم ) بإن الشرطية { فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } أي : أماراتها وعلاماتها ، وكانوا قد قرؤوا في كتبهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء ، فبعثته من أشراطها ، قاله الحسن ، والضحاك . والأشراط جمع شرط بسكون الراء وفتحها . وقيل : المراد بأشراطها هنا : أسبابها التي هي دون معظمها . وقيل : أراد بعلامات الساعة : انشقاق القمر والدخان ، كذا قال الحسن . وقال الكلبي : كثرة المال ، والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام ، ومنه قول أبي زيد الأسود :
فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو
{ فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } { ذكراهم } مبتدأ ، وخبره { فأنى لهم } ، أي : أنّى لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] و { إذا جاءتهم } اعتراض بين المبتدأ والخبر . { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلا الله } أي : إذا علمت أن مدار الخير هو التوحيد والطاعة ، ومدار الشرّ هو الشرك والعمل بمعاصي الله ، فاعلم أنه لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، والمعنى : اثبت على ذلك واستمر عليه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان عالماً بأنه لا إله إلاَّ الله قبل هذا ، وقيل : ما علمته استدلالاً فاعلمه خبراً يقيناً . وقيل المعنى : فاذكر أنه لا إله إلاَّ الله ، فعبّر عن الذكر بالعلم { واستغفر لِذَنبِكَ } أي : استغفر الله أن يقع منك ذنب ، أو استغفر الله ليعصمك ، أو استغفره مما ربما يصدر منك من ترك الأولى . وقيل : الخطاب له ، والمراد : الأمة ، ويأبى هذا قوله : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } فإن المراد به : استغفاره لذنوب أمته بالدعاء لهم بالمغفرة عما فرط من ذنوبهم { والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } في أعمالكم { وَمَثْوَاكُمْ } في الدار الآخرة ، وقيل : متقلبكم في أعمالكم نهاراً ، ومثواكم في ليلكم نياماً .

وقيل : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، ومثواكم في الأرض ، أي : مقامكم فيها . قال ابن كيسان : متقلبكم من ظهر إلى بطن في الدنيا ، ومثواكم في القبور .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : « أنت أحبّ بلاد الله إليّ ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك لم أخرج ، فأعتى الأعداء من عتا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بدخول الجاهلية » فأنزل الله : { وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أنهار من ماء غير آسن } قال : متغير . وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « في الجنة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار منها » وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده ، والبيهقي عن كعب قال : نهر النيل نهر العسل في الجنة ، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة ، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة ، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة . وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءانِفاً } قال : كنت فيمن يُسأل . وأخرج عبد بن حميد من وجه آخر عنه في الآية قال : أنا منهم . وفي هذا منقبة لابن عباس جليلة؛ لأنه كان إذ ذاك صبياً غير بالغ ، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم مات وهو في سنّ البلوغ ، فسؤال الناس له عن معاني القرآن في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ووصف الله سبحانه للمسؤولين بأنهم الذين أوتوا العلم وهو منهم ، من أعظم الأدلة على سعة علمه ، ومزيد فقهه في كتاب الله ، وسنّة رسوله ، مع كون أترابه وأهل سنه إذ ذاك يلعبون مع الصبيان . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : كانوا يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا خرجوا من عنده قالوا لابن عباس : ماذا قال آنفاً؟ فيقول : كذا وكذا ، وكان ابن عباس أصغر القوم ، فأنزل الله الآية ، فكان ابن عباس من الذين أوتوا العلم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن عساكر عن ابن بريدة في الآية قال : هو عبد الله بن مسعود . وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : هو عبد الله بن مسعود .

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وءاتاهم تَقُوَاهُمْ } قال : لما أنزل القرآن آمنوا به ، فكان هدًى ، فلما تبيّن الناسخ من المنسوخ زادهم هدًى . وأخرج ابن المنذر عنه : { فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا } قال : أوّل الساعات ، وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، وأشار بالوسطى والسبابة ، ومثله عند البخاري من حديث سهل بن سعد . وفي الباب أحاديث كثيرة فيها بيان أشراط الساعة ، وبيان ما قد وقع منها ، وما لم يكن قد وقع ، وهي تأتي في مصنف مستقل فلا نطيل بذكرها . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، والديلمي عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفضل الذكر لا إله إلاّ الله ، وأفضل الدعاء الاستغفار " ثم قرأ : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله : { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عبد الله بن سرجس قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فأكلت معه من طعام ، فقلت : غفر الله لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « ولك» ، فقيل : أنستغفر لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : « نعم ولكم » وقرأ : { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } . وقد ورد أحاديث في استغفاره صلى الله عليه وسلم لنفسه ولأمته ، وترغيبه في الاستغفار . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ } في الدنيا { وَمَثْوَاكُمْ } في الآخرة .

وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)

سأل المؤمنون ربهم عزّ وجلّ أن ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم سورة يأمرهم فيها بقتال الكفار حرصاً منهم على الجهاد ، ونيل ما أعدّ الله للمجاهدين من جزيل الثواب ، فحكى الله عنهم ذلك بقوله : { وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ } أي : هلاّ نزلت { فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } أي : غير منسوخة { وَذُكِرَ فِيهَا القتال } أي : فرض الجهاد . قال قتادة : كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة ، وهي أشدّ القرآن على المنافقين ، وفي قراءة ابن مسعود ( فإذا أنزلت سورة محدثة ) أي : محدثة النزول ، قرأ الجمهور { فإذا أنزلت } و { ذكر } على بناء الفعلين للمفعول ، وقرأ زيد بن عليّ ، وابن عمير : ( نزلت ) و « ذكر » على بناء الفعلين للفاعل ، ونصب القتال { رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } أي : شك ، وهم المنافقون { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي : ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الموت لجبنهم عن القتال ، وميلهم إلى الكفار . قال ابن قتيبة ، والزجاج : يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم ، وينظرون إليك نظراً شديداً ، كما ينظر الشاخص بصره عند الوت { فأولى لَهُمْ } قال الجوهري : وقولهم « أولى » لك : تهديد ووعيد ، وكذا قال مقاتل ، والكلبي ، وقتادة . قال الأصمعي : معنى قولهم في التهديد : أولى لك ، أي : وليك ، وقاربك ما تكره ، وأنشد قول الشاعر :
فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث
أي : قارب أن يزيد . قال ثعلب : ولم يقل في أولى أحسن مما قاله الأصمعي . وقال المبرد : يقال لمن همّ بالغضب ثم أفلت : أولى لك ، أي : قاربت الغضب . وقال الجرجاني : هو مأخوذ من الويل ، أي : فويل لهم ، وكذا قال في الكشاف ، قال قتادة أيضاً : كأنه قال العقاب أولى لهم ، وقوله : { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } كلام مستأنف ، أي : أمرهم طاعة ، أو طاعة وقول معروف خير لكم . قال الخليل ، وسيبويه : إن التقدير : طاعة وقول معروف أحسن ، وأمثل لكم من غيرهما . وقيل : إن طاعة خبر أولى ، وقيل : إن { طاعة } صفة ل { سورة } ، وقيل : إن { لهم } خبر مقدّم ، و { طاعة } مبتدأ مؤخر ، والأول أولى { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } عزم الأمر : جدّ الأمر ، أي : جدّ القتال ووجب وفرض ، وأسند العزم إلى الأمر ، وهو لأصحابه مجازاً ، وجواب « إذا » قيل : هو : { فَلَوْ صَدَقُواْ الله } في إظهار الإيمان والطاعة { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } من المعصية والمخالفة { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } هذا خطاب للذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لمزيد التوبيخ والتقريع . قال الكلبي : أي : فهل عسيتم إن توليتم أمر الأمة أن تفسدوا في الأرض بالظلم . وقال كعب : { أَن تُفْسِدُواْ فِى الارض } أي : بقتل بعضكم بعضاً ، وقال قتادة : إن توليتم عن طاعة كتاب الله عزّ وجلّ أن تفسدوا في الأرض بسفك الدماء ، وتقطعوا أرحامكم .

وقال ابن جريج : إن توليتم عن الطاعة ، وقيل : أعرضتم عن القتال ، وفارقتم أحكامه . قرأ الجمهور { توليتم } مبنياً للفاعل ، وقرأ عليّ بن أبي طالب بضم التاء والواو وكسر اللام مبنياً للمفعول ، وبها قرأ ابن أبي إسحاق ، وورش عن يعقوب ، ومعناها : فهل عسيتم إن ولي عليكم ولاة جائرين أن تخرجوا عليهم في الفتنة ، وتحاربوهم وتقطعوا أرحامكم بالبغي ، والظلم ، والقتل . وقرأ الجمهور { وتقطعوا } بالتشديد على التكثير ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه ، وسلام ، وعيسى ، ويعقوب بالتخفيف من القطع ، يقال : عسيت أن أفعل كذا ، وعسيت بالفتح والكسر لغتان ، ذكره الجوهري وغيره ، وخبر { عسيتم } هو { أَن تُفْسِدُواْ } ، والجملة الشرطية بينهما اعتراض . والإشارة بقوله : { أولئك } إلى المخاطبين بما تقدّم وهو مبتدأ ، وخبره : { الذين لَعَنَهُمُ الله } أي : أبعدهم من رحمته ، وطردهم عنها { فَأَصَمَّهُمْ } عن استماع الحق { وأعمى أبصارهم } عن مشاهدة ما يستدلون به على التوحيد والبعث ، وحقية سائر ما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاستفهام في قوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرءان } للإنكار؛ والمعنى : أفلا يتفهمونه ، فيعلمون بما اشتمل عليه من المواعظ الزاجرة ، والحجج الظاهرة ، والبراهين القاطعة التي تكفي من له فهم وعقل ، وتزجره عن الكفر بالله ، والإشراك به ، والعمل بمعاصيه { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } أم هي المنقطعة ، أي : بل أعلى قلوب أقفالها فهم لا يفهمون ولا يعقلون قال مقاتل : يعني الطبع على القلوب والأقفال استعارة لانغلاق القلب عن معرفة الحق ، وإضافة الأقفال إلى القلوب؛ للتنبيه على أن المراد بها : ما هو للقلوب بمنزلة الأقفال للأبواب ، ومعنى الآية : أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان ، ولا يخرج منها الكفر والشرك ، لأن الله سبحانه قد طبع عليها ، والمراد بهذه القلوب : قلوب هؤلاء المخاطبين . قرأ الجمهور : { أقفالها } بالجمع ، وقرىء ( إقفالها ) بكسر الهمزة على أنه مصدر كالإقبال . { إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم } أي : رجعوا كفاراً كما كانوا . قال قتادة : هم كفار أهل الكتاب كفروا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوا نعته عندهم ، وبه قال ابن جرير . وقال الضحاك ، والسديّ : هم المنافقون قعدوا عن القتال ، وهذا أولى؛ لأن السياق في المنافقين : { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } بما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات الظاهرة ، والدلائل الواضحة { الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ } أي : زيّن لهم خطاياهم ، وسهل لهم الوقوع فيها ، وهذه الجملة خبر « إن » ، ومعنى { وأملى لَهُمْ } : أن الشيطان مدّ لهم في الأمل ، ووعدهم طول العمر ، وقيل : إن الذي أملى لهم هو الله عزّ وجلّ على معنى : أنه لم يعاجلهم بالعقوبة .

قرأ الجمهور { أملى } مبنياً للفاعل ، وقرأ أبو عمرو ، وابن أبي إسحاق ، وعيسى بن عمر ، وأبو جعفر ، وشيبة على البناء للمفعول . قيل : وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله ، أو الشيطان كالقراءة الأولى ، وقد اختار القول بأن الفاعل الله الفرّاء ، والمفضل ، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدّم ذكره قريباً . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من ارتدادهم ، وهو مبتدأ ، وخبره { بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله } أي : بسبب أن هؤلاء المنافقين الذين ارتدّوا على أدبارهم قالوا للذين كرهوا : ما نزل الله ، وهم المشركون { سَنُطِيعُكُمْ فِى بَعْضِ الأمر } وهذا البعض هو عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومخالفة ما جاء به . وقيل : المعنى : إن المنافقين قالوا لليهود : سنطيعكم في بعض الأمر ، وقيل : إن القائلين اليهود ، والذين كرهوا ما أنزل الله من المنافقين ، وقيل : إن الإشارة بقوله : { ذلك } إلى الإملاء ، وقيل : إلى التسويل ، والأوّل أولى . ويؤيد كون القائلين : المنافقين ، والكارهين : اليهود قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } [ الحشر : 11 ] ولما كان قولهم المذكور للذين كرهوا ما أنزل الله بطريقة السرّ بينهم . قال الله سبحانه : { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } قرأ الجمهور بفتح الهمزة جمع سرّ ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم . وقرأ الكوفيون ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وابن وثاب ، والأعمش بكسر الهمزة على المصدر ، أي : إخفاءهم . { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة } الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، و { كيف } في محل رفع على أنها خبر مقدّم ، والتقدير : فكيف علمه بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة ، أو في محل نصب بفعل محذوف ، أي : فكيف يصنعون؟ أو خبر لكان مقدّرة ، أي : فكيف يكونون . والظرف معمول للمقدّر ، قرأ الجمهور { توفتهم } وقرأ الأعمش ( توفاهم ) ، وجملة { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وأدبارهم } في محل نصب على الحال من فاعل { توفتهم } ، أو من مفعوله ، أي : ضاربين وجوههم وضاربين أدبارهم ، وفي الكلام تخويف وتشديد ، والمعنى : أنه إذا تأخر عنهم العذاب ، فسيكون حالهم هذا ، وهو تصوير لتوفيهم على أقبح حال وأشنعه . وقيل : ذلك . عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله ، وقيل : ذلك يوم القيامة ، والأوّل أولى . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى التوفي المذكور على الصفة المذكورة ، وهو مبتدأ وخبر : { بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَا أَسْخَطَ الله } ، أي : بسبب اتباعهم ما يسخط الله من الكفر والمعاصي ، وقيل : كتمانهم ما في التوراة من نعت نبينا صلى الله عليه وسلم ، والأوّل أولى لما في الصيغة من العموم { وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ } أي : كرهوا ما يرضاه الله من الإيمان والتوحيد والطاعة { فَأَحْبَطَ } الله { أعمالهم } بهذا السبب ، والمراد بأعمالهم : الأعمال التي صورتها صورة الطاعة ، وإلاّ فلا عمل لكافر ، أو ما كانوا قد عملوا من الخير قبل الردّة .

{ أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } يعني : المنافقين المذكورين سابقاً ، و « أم » هي المنقطعة ، أي : بل أحسب المنافقون { أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم } الإخراج بمعنى : الإظهار ، والأضغان جمع ضغن ، وهو : ما يضمر من المكروه ، واختلف في معناه ، فقيل : هو الغشّ ، وقيل : الحسد وقيل : الحقد . قال الجوهري : الضغن والضغينة : الحقد ، وقال قطرب : هو في الآية العداوة ، و « أن » هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن مقدّر . { وَلَوْ نَشَاء لأريناكهم } أي : لأعلمناكهم ، وعرّفناكهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية ، تقول العرب : سأريك ما أصنع ، أي : سأعلمك { فَلَعَرَفْتَهُم بسيماهم } أي : بعلامتهم الخاصة بهم التي يتميزون بها . قال الزجاج : المعنى : لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة ، وهي السيما ، فلعرفتهم بتلك العلامة ، والفاء لترتيب المعرفة على الإرادة ، وما بعدها معطوف على جواب « لو » ، وكررت في المعطوف للتأكيد ، وأما اللام في قوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول } فهي جواب قسم محذوف . قال المفسرون : لحن القول : فحواه ومقصده ومغزاه ، وما يعرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين ، وكان بعد هذا لا يتكلم منافق عنده إلاّ عرفه . قال أبو زيد : لحنت له اللحن : إذا قلت له قولاً يفقهه عنك ، ويخفى على غيره ، ومنه قول الشاعر :
منطق صائب وتلحن أحيانا ... وخير الكلام ما كان لحنا
أي : أحسنه ما كان تعريضاً يفهمه المخاطب ، ولا يفهمه غيره لفطنته وذكائه ، وأصل اللحن : إمالة الكلام إلى نحو من الأنحاء لغرض من الأغراض { والله يَعْلَمُ أعمالكم } لا تخفى عليه منها خافية فيجازيكم بها ، وفيه وعيد شديد { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين } أي : لنعاملنكم معاملة المختبر ، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الأمر بالجهاد ، وصبر على دينه ، ومشاقّ ما كلف به . قرأ الجمهور الأفعال الثلاثة بالنون ، وقرأ أبو بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلها ، ومعنى { وَنَبْلُوَ أخباركم } : نظهرها ونكشفها امتحاناً لكم ، ليظهر للناس من أطاع ما أمره الله به ، ومن عصى ، ومن لم يمتثل . وقرأ الجمهور { ونبلو } بنصب الواو عطفاً على قوله : { حتى نَعْلَمَ } . وروى ورش عن يعقوب إسكانها على القطع عما قبله .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم بحقو الرحمن ، فقال : مه ، قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال : نعم أترضي أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى . قال : فذلك لك » ؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرءوا إن شئتم { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } الآية إلى قوله : { أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } »

والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جداً . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الذين ارتدوا على أدبارهم } قال : هم أهل النفاق . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله : { أَمْ حَسِبَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أضغانهم } قال : أعمالهم : خبثهم ، والحسد الذي في قلوبهم ، ثم دلّ الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم بعد على المنافقين ، فكان يدعو باسم الرجل من أهل النفاق . وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري في قوله : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِى لَحْنِ القول } قال : ببغضهم عليّ بن أبي طالب .

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)

قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } المراد بهؤلاء : هم المنافقون ، وقيل : أهل الكتاب ، وقيل : هم المطعمون يوم بدر من المشركين ، ومعنى صدّهم عن سبيل الله : منعهم للناس عن الإسلام ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم معنى { شَاقُّواْ الرسول } : عادوه وخالفوه { مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى } أي : علموا أنه صلى الله عليه وسلم نبيّ من عند الله بما شاهدوا من المعجزات الواضحة ، والحجج القاطعة { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } بتركهم الإيمان وإصرارهم على الكفر ، وما ضرّوا إلاّ أنفسهم { وَسَيُحْبِطُ أعمالهم } أي : يبطلها ، والمراد بهذه الأعمال : ما صورته صورة أعمال الخير كإطعام الطعام ، وصلة الأرحام ، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير ، وإن كانت باطلة من الأصل ، لأن الكفر مانع ، وقيل : المراد بالأعمال : المكائد التي نصبوها لإبطال دين الله ، والغوائل التي كانوا يبغونها برسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، فقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } فيما أمرتم به من الشرائع المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله؛ ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم ، كما أبطلت الكفار أعمالها بالإصرار على الكفر ، فقال : { وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } قال الحسن أي : لا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي . وقال الزهري : بالكبائر . وقال الكلبي ، وابن جريج : بالرياء والسمعة . وقال مقاتل : بالمنّ . والظاهر النهي عن كل سبب من الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال كائناً ما كان من غير تخصيص بنوع معين . ثم بيّن سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر ، والصدّ عن سبيل الله ، فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } فقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر؛ لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حياً ، وظاهر الآية العموم وإن كان السبب خاصاً . ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن والضعف ، فقال : { فَلاَ تَهِنُواْ } أي : تضعفوا عن القتال ، والوهن : الضعف { وَتَدْعُواْ إِلَى السلم } أي : ولا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءً منكم ، فإن ذلك لا يكون إلاّ عند الضعف . قال الزجاج : منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح ، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ( وتدّعوا ) بتشديد الدال من ادّعى القوم وتداعوا . قال قتادة : معنى الآية : لا تكونوا أوّل الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها .
واختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة ، أو منسوخة؟ فقيل : إنها محكمة ، وإنها ناسخة لقوله : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } [ الأنفال : 61 ] وقيل : منسوخة بهذه الآية . ولا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنسخ ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السلم ابتداءً ، ولم ينه عن قبول السلم إذا جنح إليه المشركون ، فالآيتان محكمتان ، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ ، أو التخصيص ، وجملة { وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها من النهي ، أي : وأنتم الغالبون بالسيف والحجة .

قال الكلبي : أي : آخر الأمر لكم ، وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، وكذا جملة قوله : { والله مَعَكُمْ } في محل نصب على الحال ، أي : معكم بالنصر ، والمعونة عليهم { وَلَن يَتِرَكُمْ أعمالكم } أي : لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم ، يقال : وتره يتره وتراً : إذا نقصه حقه ، وأصله من وترت الرجل : إذا قتلت له قريباً ، أو نهبت له مالاً ، ويقال فلان مأتور : إذا قتل له قتيل ، ولم يؤخذ بدمه . قال الجوهري : أي : لن ينقصكم في أعمالكم ، كما تقول دخلت البيت ، وأنت تريد في البيت . قال الفراء : هو مشتق من الوتر وهو الدخل ، وقيل : مشتق من الوتر وهو الفرد ، فكأن المعنى : ولن يفردكم بغير ثواب . { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي : باطل وغرور لا أصل لشيء منها ، ولا ثبات له ولا اعتداد به { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } أي : إن تؤمنوا بالله ، وتتقوا الكفر والمعاصي يؤتكم جزاء ذلك في الآخرة ، والأجر : الثواب على الطاعة { وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أموالكم } أي : لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة وسائر وجوه الطاعات ، بل أمركم بإخراج القليل منها ، وهو الزكاة . وقيل : المعنى : لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله؛ لأنه أملك لها ، وهو المنعم عليكم بإعطائها . وقيل : لا يسألكم أموالكم أجراً على تبليغ الرسالة ، كما في قوله : { ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعراء : 109 ] والأوّل أولى . { ؤإِن يَسْئَلْكُمُوهَا } أي : أموالكم كلها { فَيُحْفِكُمْ } قال المفسرون : يجهدكم ، ويلحف عليكم بمسألة جميعها ، يقال : أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد ، والمحفي : المستقصي في السؤال ، والإحفاء : الاستقصاء في الكلام ، ومنه إحفاء الشارب ، أي : استئصاله ، وجواب الشرط قوله : { تَبْخَلُواْ } أي : إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم تبخلوا بها ، وتمتنعوا من الامتثال { وَيُخْرِجْ أضغانكم } معطوف على جواب الشرط ، ولهذا قرأ الجمهور { يخرج } بالجزم وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قرأ بالنون ، وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وابن محيصن ، وحميد بالفوقية المفتوحة مع ضم الراء . وعلى قراءة الجمهور ، فالفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه ، أو إلى البخل المدلول عليه بتبخلوا . والأضغان : الأحقاد ، والمعنى : أنها تظهر عند ذلك . قال قتادة : قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان . { هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله } أي : ها أنتم هؤلاء أيها المؤمنون تدعون؛ لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } بما يطلب منه ، ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله ، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال ، فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال؟ ثم بيّن سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس فقال : { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي : يمنعها الأجر والثواب ببخله ، وبخل يتعدى بعلى تارة وبعن أخرى .

وقيل : إن أصله أن يتعدى بعلى ، ولا يتعدى بعن إلاّ إذا ضمن معنى الإمساك { والله الغنى } المطلق المتنزّه عن الحاجة إلى أموالكم { وَأَنتُمُ الفقراء } إلى الله ، وإلى ما عنده من الخير والرحمة ، وجملة : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } معطوفة على الشرطية المتقدّمة ، وهي : { وإن تؤمنوا } ، والمعنى : وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى ، يستبدل قوماً آخرين يكونون مكانكم هم أطوع لله منكم { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } في التولي عن الإيمان والتقوى . قال عكرمة : هم فارس ، والروم . وقال الحسن : هم العجم . وقال شريح بن عبيد : هم أهل اليمن ، وقيل : الأنصار ، وقيل : الملائكة ، وقيل : التابعون . وقال مجاهد : هم من شاء الله من سائر الناس . قال ابن جرير : والمعنى : { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم } في البخل بالإنفاق في سبيل الله .
وقد أخرج عبد بن حميد ، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضرّ مع لا إله إلاّ الله ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } فخافوا أن يبطل الذنب العمل ، ولفظ عبد بن حميد : فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم . وأخرج ابن نصر ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلاّ مقبول حتى نزلت : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم } فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئًا منها قلنا : قد هلك ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك . وكنا إذا رأينا أحداً أصاب منها شيئًا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها شيئًا رجوناه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { يَتِرَكُمْ } قال : يظلمكم . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ( عن ابي هريرة ) قال : لما نزلت : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } قالوا : من هؤلاء؟ وسلمان إلى جانب النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : هم الفرس ، هذا وقومه . وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد تفرّد به ، وفيه مقال معروف . وأخرجه عنه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على منكب سلمان ، ثم قال : « هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس » ، وفي إسناده أيضاً مسلم بن خالد الزنجي . وأخرج ابن مردويه من حديث جابر نحوه .

إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)

قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } اختلف في تعيين هذا الفتح ، فقال الأكثر : هو صلح الحديبية ، والصلح قد يسمى فتحاً . قال الفراء : والفتح قد يكون صلحاً ، ومعنى الفتح في اللغة : فتح المنغلق ، والصلح الذي كان مع المشركين بالحديبية كان مسدوداً متعذراً حتى فتحه الله . قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، فتمكن الإسلام في قلوبهم ، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام . قال الشعبي : لقد أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وبويع بيعة الرّضوان ، وأطعموا نخل خيبر ، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس . وقال قوم : إنه فتح مكة . وقال آخرون : إنه فتح خيبر . والأوّل أرجح ، ويؤيده ما ذكرناه قبل هذا من أن السورة أنزلت في شأن الحديبية . وقيل : هو جميع ما فتح الله لرسوله من الفتوح ، وقيل : هو ما فتح له من النبوّة ، والدعوة إلى الإسلام ، وقيل : فتح الروم ، وقيل : المراد بالفتح في هذه الآية : الحكم والقضاء . كما في قوله : { افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 89 ] فكأنه قال : إنا قضينا لك قضاءً مبيناً ، أي : ظاهراً واضحاً مكشوفاً . { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } اللام متعلقة ب { فتحنا } ، وهي لام العلة . قال ابن الأنباري : سألت أبا العباس يعني : المبرد ، عن اللام في قوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله } فقال : هي لام كي معناها : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً؛ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، فلما انضمّ إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي ، وغلط من قال ليس الفتح سبب المغفرة . وقال صاحب الكشاف : إن اللام لم تكن علة للمغفرة؛ ولكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة ، وهداية الصراط المستقيم ، والنصر العزيز . كأنه قيل : يسرنا لك فتح مكة ، ونصرناك على عدوّك؛ لنجمع لك بين عزّ الدارين ، وأعراض العاجل والآجل . وهذا كلام غير جيد ، فإن اللام داخلة على المغفرة فهي علة للفتح ، فكيف يصح أن تكون معللة . وقال الرازي في توجيه التعليل : إن المراد بقوله : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله } التعريف بالمغفرة ، تقديره : إنا فتحنا لك؛ لتعرف أنك مغفور لك معصوم . وقال ابن عطية : المراد أن الله فتح لك؛ لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك ، فكأنها لام الصيرورة . وقال أبو حاتم : هي لام القسم وهو خطأ ، فإن لام القسم لا تكسر ، ولا ينصب بها .
واختلف في معنى قوله : { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } فقيل : ما تقدّم من ذنبك قبل الرسالة ، وما تأخر بعدها .

قاله مجاهد ، وسفيان الثوري ، وابن جرير ، والواحدي ، وغيرهم . وقال عطاء : ما تقدّم من ذنبك ، يعني : ذنب أبويك آدم وحوّاء ، وما تأخر من ذنوب أمتك . وما أبعد هذا عن معنى القرآن . وقيل : ما تقدّم من ذنب أبيك إبراهيم ، وما تأخر من ذنوب النبيين من بعده ، وهذا كالذي قبله . وقيل : ما تقدّم من ذنب يوم بدر ، وما تأخر من ذنب يوم حنين ، وهذا كالقولين الأولين في البعد . وقيل : لو كان ذنب قديم ، أو حديث؛ لغفرناه لك ، وقيل غير ذلك مما لا وجه له ، والأوّل أولى . ويكون المراد بالذنب بعد الرسالة : ترك ما هو الأولى ، وسمي ذنباً في حقه لجلالة قدره ، وإن لم يكن ذنباً في حق غيره . { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } بإظهار دينك على الدين كله ، وقيل : بالجنة ، وقيل : بالنبوّة والحكمة ، وقيل : بفتح مكة ، والطائف ، وخيبر ، والأولى أن يكون المعنى : ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة ، والهداية إلى صراط مستقيم ، وهو الإسلام . ومعنى { يهديك } : يثبتك على الهدى إلى أن يقبضك إليه { وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } أي : غالباً منيعاً لا يتبعه ذلّ : { هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين } أي : السكون والطمأنينة بما يسره لهم من الفتح؛ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } أي : ليزدادوا بسبب تلك السكينة إيماناً منضماً إلى إيمانهم الحاصل لهم من قبل . قال الكلبي : كلما نزلت آية من السماء ، فصدّقوا بها ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم ، وقال الربيع بن أنس : خشية مع خشيتهم . وقال الضحاك : يقيناً مع يقينهم { وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والأرض } يعني : الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين يدبر أمرهم كيف يشاء ، ويسلط بعضهم على بعض ، ويحوط بعضهم ببعض { وَكَانَ الله عَلِيماً } كثير العلم بليغه { حَكِيماً } في أفعاله وأقواله { لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } هذه اللام متعلقة بمحذوف يدلّ عليه ما قبله تقديره : يبتلي بتلك الجنود من يشاء ، فيقبل الخير من أهله ، والشرّ ممن قضى له به؛ ليدخل ويعذب . وقيل : متعلقة بقوله : { إِنَّا فَتَحْنَا } كأنه قال : إنا فتحنا لك ما فتحنا؛ ليدخل ويعذب ، وقيل : متعلقة ب { ينصرك } أي : نصرك الله بالمؤمنين؛ ليدخل ويعذب ، وقيل : متعلقة ب { يزدادوا } أي : يزدادوا ، ليدخل ويعذب ، والأوّل أولى { وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم } أي : يسترها ، ولا يظهرها ولا يعذبهم بها ، وقدّم الإدخال على التكفير مع أن الأمر بالعكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى ، والمقصد الأسنى { وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً } أي : وكان ذلك الوعد بإدخالهم الجنة ، وتكفير سيئاتهم عند الله ، وفي حكمه فوزاً عظيماً ، أي : ظفراً بكل مطلوب ، ونجاة من كل غمّ ، وجلباً لكل نفع ودفعاً لكل ضرّ ، وقوله : { عَندَ الله } متعلق بمحذوف على أنه حال من { فوزاً } ؛ لأنه صفة في الأصل ، فلما قدم صار حالاً ، أي : كائناً عند الله ، والجملة معترضة بين جزاء المؤمنين ، وجزاء المنافقين والمشركين ثم لما فرغ مما وعد به صالحي عباده ذكر ما يستحقه غيرهم ، فقال : { وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } وهو معطوف على يدخل ، أي : يعذبهم في الدنيا بما يصل إليهم من الهموم والغموم بسبب ما يشاهدونه من ظهور كلمة الإسلام ، وقهر المخالفين له ، وبما يصابون به من القهر والقتل والأسر ، وفي الآخرة بعذاب جهنم .

وفي تقديم المنافقين على المشركين دلالة على أنهم أشدّ منهم عذاباً ، وأحقّ منهم بما وعدهم الله به ، ثم وصف الفريقين ، فقال : { الظانين بالله ظَنَّ السوء } وهو ظنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم يغلب ، وأن كلمة الكفر تعلو كلمة الإسلام .
ومما ظنوه ما حكاه الله عنهم بقوله : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } ، { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء } أي : ما يظنونه ، ويتربصونه بالمؤمنين دائر عليهم حائق بهم ، والمعنى : أن العذاب ، والهلاك الذي يتوقعونه للمؤمنين واقعان عليهم نازلان بهم . قال الخليل ، وسيبويه : السوء هنا : الفساد . قرأ الجمهور { السوء } بفتح السين . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بضمها { وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً } . لما بيّن سبحانه أن دائرة السوء عليهم في الدنيا بيّن ما يستحقونه مع ذلك من الغضب واللعنة ، وعذاب جهنم { وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والارض } من الملائكة ، والإنس ، والجنّ ، والشياطين { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } كرّر هذه الآية؛ لقصد التأكيد ، وقيل : المراد بالجنود هنا : جنود العذاب ، كما يفيده التعبير بالعزة هنا ، مكان العلم هنالك .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن مجمع بن حارثة الأنصاري قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا عنها حتى بلغنا كراع الغميم إذ الناس يوجفون الأباعر ، فقال الناس بعضهم لبعض : ما للناس؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجنا مع الناس نوجف ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته عند كراع الغميم ، فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ، فقال رجل : إي رسول الله ، أو فتح هو؟ قال : « إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح » ، فقسمت خيبر على أهل الحديبية لم يدخل معهم فيها أحد إلاّ من شهد الحديبية ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهماً ، وكان الجيش ألفاً وخمسمائة منهم ثلثمائة فارس ، فأعطى الفارس سهمين ، وأعطى الراجل سهماً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه ، فسرّي عنه ، وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } .

وأخرج البخاريّ وغيره عن أنس في قوله : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال : الحديبية . وأخرج البخاريّ ، وغيره عن البراء قال : تعدّون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } قال : « فتح مكة » وأخرج البخاريّ ، ومسلم ، وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تتورم قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ، قال : « أفلا أكون عبداً شكوراً » ، وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين } قال : السكينة : هي الرحمة ، وفي قوله : { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } قال : إن الله بعث نبيه بشهادة أن لا إله إلاّ الله ، فلما صدّق بها المؤمنون زادهم الصلاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الصيام ، فلما صدّقوا به زادهم الزكاة ، فلما صدّقوا بها زادهم الحجّ ، فلما صدّقوا به زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم ، فقال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً } [ المائدة : 3 ] . فأوثق إيمان أهل السماء ، وأهل الأرض ، وأصدقه وأكمله شهادة أن لا إله إلاّ الله . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود { لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم } قال : تصديقاً مع تصديقهم . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال : لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية . قال : « لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض » ، ثم قرأها عليهم ، فقالوا : هنيئًا مريئًا يا رسول الله ، قد بيّن الله لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه : { لّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } حتى بلغ : { فَوْزاً عَظِيماً } .

إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)

قوله : { إِنَّا أرسلناك شَاهِداً } أي : على أمتك بتبليغ الرسالة إليهم { وَمُبَشّراً } بالجنة للمطيعين { وَنَذِيرًا } لأهل المعصية { لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } قرأ الجمهور { لتؤمنوا } بالفوقية . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالتحتية ، فعلى القراءة الأولى : الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته ، وعلى القراءة الثانية المراد : المبشرين والمنذرين ، وانتصاب { شاهداً ومبشراً ونذيراً } على الحال المقدرة { وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ } الخلاف بين القراء في هذه الثلاثة الأفعال كالخلاف في : { لّتُؤْمِنُواْ } كما سلف ، ومعنى تعزروه : تعظموه وتفخموه؛ قاله الحسن ، والكلبي ، والتعزير : التعظيم والتوقير . وقال قتادة : تنصروه وتمنعوا منه . وقال عكرمة : تقاتلون معه بالسيف ، ومعنى توقروه : تعظموه . وقال السديّ : تسوّدوه ، قيل : والضميران في الفعلين للنبي صلى الله عليه وسلم وهنا وقف تام ، ثم يبتدىء : وتسبحوه أي : تسبحوا الله عزّ وجل { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي : غدوة وعشية ، وقيل : الضمائر كلها في الأفعال الثلاثة لله عزّ وجلّ ، فيكون معنى تعزروه وتوقروه : تثبتون له التوحيد ، وتنفون عنه الشركاء ، وقيل : تنصروا دينه وتجاهدوا مع رسوله . وفي التسبيح وجهان ، أحدهما : التنزيه له سبحانه من كل قبيح ، والثاني : الصلاة . { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ } يعني : بيعة الرضوان بالحديبية ، فإنهم بايعوا تحت الشجرة على قتال قريش { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } أخبر سبحانه أن هذه البيعة لرسوله صلى الله عليه وسلم هي بيعة له كما قال : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] وذلك لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة ، وجملة : { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } مستأنفة لتقرير ما قبلها على طريق التخييل ، في محل نصب على الحال ، والمعنى : أن عقد الميثاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله سبحانه من غير تفاوت . وقال الكلبي : المعنى : إن نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة . وقيل : يده في الثواب فوق أيديهم في الوفاء . وقال ابن كيسان : قوّة الله ونصرته فوق قوّتهم ونصرتهم { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } أي : فمن نقض ما عقد من البيعة ، فإنما ينقض على نفسه؛ لأن ضرر ذلك راجع إليه لا يجاوزه إلى غيره { وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله } أي : ثبت على الوفاء بما عاهد الله عليه في البيعة لرسوله . قرأ الجمهور { عليه } بكسر الهاء وقرأ حفص ، والزهري بضمها { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } وهو الجنة . قرأ الجمهور { فسيؤتيه } بالتحتية ، وقرأ نافع ، وقرأ كثير ، وابن عامر بالنون ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد ، وأبو حاتم ، واختار القراءة الثانية الفراء . { سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب } هم الذين خلفهم الله عن صحبة رسوله حين خرج عام الحديبية . قال مجاهد ، وغيره يعني : أعراب غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، والدئل ، وهم الأعراب الذين كانوا حول المدينة .

وقيل : تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سافر إلى مكة عام الفتح بعد أن كان قد استنفرهم ليخرجوا معه ، والمخلف : المتروك { شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا } أي : منعنا عن الخروج معك ما لنا من الأموال ، والنساء ، والذراري ، وليس لنا من يقوم بهم ، ويخلفنا عليهم { فاستغفر لَنَا } ليغفر الله لنا ما وقع منا من التخلف عنك بهذا السبب ، ولما كان طلب الاستغفار منهم ليس عن اعتقاد بل على طريقة الاستهزاء ، وكانت بواطنهم مخالفة لظواهرهم ، فضحهم الله سبحانه بقوله : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } وهذا هو صنيع المنافقين ، والجملة مستأنفة لبيان ما تنطوي عليه بواطنهم ، ويجوز أن تكون بدلاً من الجملة الأولى . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عنهم ، فقال : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً } أي : فمن يمنعكم مما أراده الله بكم من خير وشرّ ، ثم بيّن ذلك ، فقال : { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً } أي : إنزال ما يضركم من ضياع الأموال وهلاك الأهل . قرأ الجمهور { ضرًّا } بفتح الضاد ، وهو مصدر ضررته ضرًّا . وقرأ حمزة ، والكسائي بضمها وهو اسم ما يضرّ ، وقيل : هما لغتان { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أي : نصراً وغنيمة ، وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفع عنه الضرّ ، ويجلب لهم النفع . ثم أضرب سبحانه عن ذلك ، وقال : { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي : إن تخلفكم ليس لما زعمتم ، بل كان الله خبيراً بجميع ما تعملونه من الأعمال التي من جملتها تخلفكم ، وقد علم أن تخلفكم لم يكن لذلك ، بل للشك والنفاق ، وما خطر لكم من الظنون الفاسدة الناشئة عن عدم الثقة بالله ، ولهذا قال : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } وهذه الجملة مفسرة لقوله : { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } لما فيها من الإبهام ، أي : بل ظننتم أن العدوّ يستأصل المؤمنين بالمرة ، فلا يرجع منهم أحد إلى أهله ، فلأجل ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة { وَزُيّنَ ذَلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ } أي : وزين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فقبلتموه . قرأ الجمهور : « وزين » مبنياً للمفعول ، وقرىء مبنياً للفاعل { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء } أن الله سبحانه لا ينصر رسوله ، وهذا الظن إما هو الظنّ الأوّل ، والتكرير للتأكيد والتوبيخ ، والمراد به : ما هو أعمّ من الأوّل ، فيدخل الظنّ الأوّل تحته دخولاً أوّلياً { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } أي : هلكى ، قال الزجاج : هالكين عند الله ، وكذا قال مجاهد . قال الجوهري : البور : الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه . قال أبو عبيد { قَوْماً بُوراً } : هلكى ، وهو جمع بائر ، مثل حائل وحول ، وقد بار فلان ، أي : هلك ، وأباره الله : أهلكه .

{ وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا للكافرين سَعِيراً } هذا الكلام مستأنف من جهة الله سبحانه غير داخل تحت ما أمر الله سبحانه رسوله أن يقوله ، أي : ومن لم يؤمن بهما ، كما صنع هؤلاء المخلفون ، فجزاؤهم ما أعدّه الله لهم من عذاب السعير { وَللَّهِ مُلْكُ السموات والأرض } يتصرّف فيه كيف يشاء لا يحتاج إلى أحد من خلقه ، وإنما تعبدهم بما تعبدهم ليثيب من أحسن ويعاقب من أساء ، ولهذا قال : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء } أن يغفر له { وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } أن يعذبه { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أي : كثير المغفرة والرحمة ، بليغها يخص بمغفرته ورحمته من يشاء من عباده . { سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا } المخلفون هؤلاء المذكورون سابقاً ، والظرف متعلق بقوله : { سَيَقُولُ } والمعنى : سيقولون عند انطلاقكم أيها المسلمون { إلى مَغَانِمَ } يعني : مغانم خيبر { لِتَأْخُذُوهَا } لتحوزوها { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } أي : اتركونا نتبعكم ونشهد معكم غزوة خيبر . وأصل القصة أنه لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر ، وخصّ بغنائمها من شهد الحديبية ، فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون : ذرونا نتبعكم ، فقال الله سبحانه : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله } أي : يغيروا كلام الله ، والمراد بهذا الكلام الذي أرادوا أن يبدّلوه : هو مواعيد الله لأهل الحديبية خاصة بغنيمة خيبر . وقال مقاتل : يعني : أمر الله لرسوله أن لا يسير معه أحد منهم . وقال ابن زيد : هو قوله تعالى : { فإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا وَلَن تقاتلوا مَعِىَ عَدُوّا } [ التوبة : 83 ] واعترض هذا ابن جرير وغيره بأن غزوة تبوك كانت بعد فتح خيبر ، وبعد فتح مكة ، والأوّل أولى ، وبه قال مجاهد ، وقتادة ، ورجحه ابن جرير ، وغيره . قرأ الجمهور { كلام الله } وقرأ حمزة ، والكسائي ( كلم الله ) قال الجوهري : الكلام اسم جنس يقع على القليل والكثير ، والكلم لا يكون أقلّ من ثلاث كلمات؛ لأنه جمع كلمة مثل نبقة ونبق ، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يمنعهم من الخروج معه ، فقال : { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } هذا النفي هو في معنى النهي ، والمعنى : لا تتبعونا { كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ } أي : من قبل رجوعنا من الحديبية أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية خاصة ليس لغيرهم فيها نصيب { فَسَيَقُولُونَ } يعني : المنافقين عند سماع هذا القول ، وهو قوله : { لَّن تَتَّبِعُونَا } بل { تَحْسُدُونَنَا } أي : بل ما يمنعكم من خروجنا معكم إلاّ الحسد؛ لئلا نشارككم في الغنيمة ، وليس ذلك بقول الله كما تزعمون ، ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : لا يعلمون إلاّ علماً قليلاً ، وهو علمهم بأمر الدنيا ، وقيل : لا يفقهون من أمر الدين إلاّ فقهاً قليلاً ، وهو ما يصنعونه نفاقاً بظواهرهم دون بواطنهم .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَتُعَزّرُوهُ } يعني : الإجلال { وَتُوَقّرُوهُ } يعني : التعظيم ، يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه في قوله : { وَتُعَزّرُوهُ } قال : تضربوا بين يديه بالسيف . وأخرج ابن عديّ ، وابن مردويه ، والخطيب ، وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال : لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَتُعَزّرُوهُ } قال لأصحابه : « ما ذاك » ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « لتنصروه » وأخرج أحمد ، وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا ، وأزواجنا ، وأبناءنا ، ولنا الجنة ، فمن وفى وفى الله له ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه . وفي الصحيحين من حديث جابر : أنهم كانوا في بيعة الرضوان خمس عشرة مائة . وفيهما عنه : أنهم كانوا أربع عشرة مائة . وفي البخاري من حديث قتادة عن سعيد بن المسيب أنه سأله كم كانوا في بيعة الرضوان؟ قال : خمس عشرة مائة ، فقال له : إن جابراً قال : كانوا أربع عشرة مائة ، قال رحمه الله : وهِم ، هو حدثني أنهم كانوا خمس عشرة مائة .

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17) لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)

قوله : { قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب } هم المذكورون سابقاً { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال عطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، وابن أبي ليلى ، وعطاء الخراساني : هم فارس . وقال كعب ، والحسن : هم الروم . وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : هم فارس ، والروم . وقال سعيد بن جبير : هم هوازن ، وثقيف . وقال عكرمة : هوازن . وقال قتادة : هوازن وغطفان يوم حنين . وقال الزهري ، ومقاتل : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة ، وحكى هذا القول الواحدي عن أكثر المفسرين { تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ } أي : يكون أحد الأمرين : إما المقاتلة ، أو الإسلام لا ثالث لهما ، وهذا حكم الكفار الذين لا تؤخذ منهم الجزية . قال الزجاج : التقدير : أو هم يسلمون ، وفي قراءة أبيّ ( أو يسلموا ) أي : حتى يسلموا { فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً } وهو الغنيمة في الدنيا ، والجنة في الآخرة { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } أي : تعرضوا { كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ } وذلك عام الحديبية { يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } بالقتل والأسر والقهر في الدنيا ، وبعذاب النار في الآخرة؛ لتضاعف جرمكم . { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ } أي : ليس على هؤلاء المعذورين بهذه الأعذار حرج في التخلف عن الغزو؛ لعدم استطاعتهم . قال مقاتل : عذر الله أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية ، والحرج : الإثم { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } فيما أمراه به ونهياه عنه { يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهر } قرأ الجمهور { يدخله } بالتحتية ، واختار هذه القراءة أبو حاتم ، وأبو عبيد ، وقرأ نافع ، وابن عامر بالنون { وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } أي : ومن يعرض عن الطاعة يعذبه الله عذاباً شديد الألم . ثم ذكر سبحانه الذين أخلصوا نياتهم ، وشهدوا بيعة الرضوان ، فقال : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } أي : رضي الله عنهم وقت تلك البيعة ، وهي بيعة الرضوان ، وكانت بالحديبية ، والعامل في { تَحْتِ } إما يبايعونك ، أو محذوف على أنه حال من المفعول ، وهذه الشجرة المذكورة هي شجرة كانت بالحديبية وقيل : سدرة ، وكانت البيعة على أن يقاتلوا قريشاً ، ولا يفرّوا . وروي أنه بايعهم على الموت ، وقد تقدّم ذكر عدد أهل هذه البيعة قريباً ، والقصة مبسوطة في كتب الحديث والسير . { فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ } معطوف على يبايعونك ، قال الفراء : أي : علم ما في قلوبهم من الصدق والوفاء . وقال قتادة ، وابن جريج : من الرضى بأمر البيعة على أن لا يفرّوا . وقال مقاتل : من كراهة البيعة على الموت { فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ } معطوف على رضي ، والسكينة : الطمأنينة وسكون النفس ، كما تقدّم ، وقيل : الصبر { وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً } هو فتح خيبر عند انصرافهم من الحديبية ، قاله قتادة ، وابن أبي ليلى ، وغيرهما ، وقيل : فتح مكة ، والأوّل أولى .

{ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } أي : وأثابكم مغانم كثيرة ، أو وآتاكم ، وهي غنائم خيبر ، والالتفات لتشريفهم بالخطاب { وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } أي : غالباً مصدراً أفعاله وأقواله على أسلوب الحكمة . { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } في هذا وعد منه سبحانه لعباده المؤمنين بما سيفتحه عليهم من الغنائم إلى يوم القيامة يأخذونها في أوقاتها التي قدّر وقوعها فيها { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } أي : غنائم خيبر ، قاله مجاهد وغيره ، وقيل : صلح الحديبية { وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ } أي : وكفّ أيدي قريش عنكم يوم الحديبية بالصلح ، وقيل : كفّ أيدي أهل خيبر ، وأنصارهم عن قتالكم ، وقذف في قلوبهم الرعب . وقال قتادة : كفّ أيدي اليهود عن المدينة بعد خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ، وخيبر ، ورجح هذا ابن جرير ، قال : لأن كف أيدي الناس بالحديبية مذكور في قوله : { وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } وقيل : كَفَّ أَيْدِيَهُمْ الناس عَنْكُمْ يعني : عيينة بن حصن الفزاري ، وعوف بن مالك النضري ومن كان معهما ، إذ جاءوا لينصروا أهل خيبر عند حصار النبيّ صلى الله عليه وسلم لهم { وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ } اللام يجوز أن تتعلق بفعل محذوف يقدّر بعده ، أي : فعل ما فعل من التعجيل والكفّ؛ لتكون آيةً ، أو على علة محذوفة تقديرها : وعد فعجل وكفّ؛ لتنتفعوا بذلك؛ ولتكون آية . وقيل : إن الواو مزيدة ، واللام لتعليل ما قبله ، أي : وكفّ لتكون؛ والمعنى : ذلك الكفّ آية يعلم بها صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع ما يعدكم به { وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً } أي : يزيدكم بتلك الآية هدى ، أو يثبتكم على الهداية إلى طريق الحقّ { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } معطوف على هذه ، أي : فعجل لكم هذه المغانم ، ومغانم أخرى لم تقدروا عليها ، وهي الفتوح التي فتحها الله على المسلمين من بعد كفارس والروم ونحوهما ، كذا قال الحسن ، ومقاتل ، وابن أبي ليلى ، وقال الضحاك ، وابن زيد ، وابن أبي إسحاق : هي خيبر وعدها الله نبيه قبل أن يفتحها ، ولم يكونوا يرجونها ، وقال قتادة : فتح مكة ، وقال عكرمة : حنين ، والأوّل أولى { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } صفة ثانية لأخرى . قال الفراء : أحاط الله بها لكم حتى تفتحوها وتأخذوها ، والمعنى : أنه أعدّها لهم ، وجعلها كالشيء الذي قد أحيط به من جميع جوانبه ، فهو محصور لا يفوت منه شيء ، فهم وإن لم يقدروا عليها في الحال فهي محبوسة لهم لا تفوتهم ، وقيل : معنى { أحاط } : علم أنها ستكون لهم { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء قَدِيراً } لا يعجزه شيء ، ولا تختصّ قدرته ببعض المقدورات دون بعض . { وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار } قال قتادة : يعني : كفار قريش بالحديبية ، وقيل : أسد وغطفان الذين أرادوا نصر أهل خيبر ، والأوّل أولى .

{ ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً } يواليهم على قتالكم { وَلاَ نَصِيراً } ينصرهم عليكم . { سُنَّةَ الله التى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } أي : طريقته وعادته التي قد مضت في الأمم من نصر أوليائه على أعدائه ، وانتصاب { سنة } على المصدرية بفعل محذوف ، أي : بيّن الله سنة الله ، أو هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدّمة { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أي : لن تجد لها تغييراً ، بل هي مستمرّة ثابتة { وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } أي : كفّ أيدي المشركين عن المسلمين ، وأيدي المسلمين عن المشركين لما جاءوا يصدّون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن معه عن البيت عام الحديبية ، وهي المراد ببطن مكة . وقيل : إن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على النبيّ من قبل جبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخذهم المسلمون ، ثم تركوهم . وفي الرواية اختلاف سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله { وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } لا يخفى عليه من ذلك شيء .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : { أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } يقول : فارس . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم الأكراد . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : فارس ، والروم . وأخرج الفريابي ، وابن مردويه عنه قال : هوازن ، وبني حنيفة . وأخرج الطبراني ، قال السيوطي : بسند حسن عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لواضع القلم على أذني إذ أمر بالقتال إذ جاء أعمى ، فقال : كيف لي وأنا ذاهب البصر؟ فنزلت { لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ } الآية . قال : هذا في الجهاد ، وليس عليهم من جهاد إذا لم يطيقوا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال : بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس ، فثرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت شجرة سمرة ، فبايعناه ، فذلك قول الله تعالى : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس : هنيئًا لابن عفان يطوف بالبيت ، ونحن ها هنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف » وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن نافع قال : بلغ عمر بن الخطاب أن ناساً يأتون الشجرة التي بويع تحتها ، فأمر بها فقطعت . وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال : بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، قيل : على أي شيء كنتم تبايعونه يومئذ؟ قال : على الموت .

وأخرج مسلم ، وغيره عن جابر قال : بايعناه على أن لا نفرّ ، ولم نبايعه على الموت . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي عن جابر ، عن النبي قال : « لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » وأخرج مسلم من حديثه مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ } قال : إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } يعني : الفتح . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } يعني : خيبر { وَكَفَّ أَيْدِىَ الناس عَنْكُمْ } يعني : أهل مكة أن يستحلوا حرم الله ، ويستحلّ بكم وأنتم حرم { وَلِتَكُونَ ءايَةً لّلْمُؤْمِنِينَ } قال : سنة لمن بعدكم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عنه أيضاً في قوله : { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } قال : هذه الفتوح التي تفتح إلى اليوم . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } قال : هي خيبر . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن أنس قال : لما كان يوم الحديبية ، هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة في السلاح من قبل جبال التنعيم يريدون غرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم ، فنزلت هذه الآية : { وَهُوَ الذى كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } . وفي صحيح مسلم ، وغيره : أنها نزلت في نفر أسرهم سلمة بن الأكوع يوم الحديبية . وأخرج أحمد ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل في سبب نزول الآية : أن ثلاثين شاباً من المشركين خرجوا يوم الحديبية على المسلمين في السلاح ، فثاروا في وجوههم ، فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ الله بأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم ، فقام إليهم المسلمون فأخذوهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل جئتم في عهد أحد ، أو هل جعل لكم أحد أماناً » ؟ فقالوا : لا ، فخلى سبيلهم ، فنزلت هذه الآية .

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)

قوله : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } يعني : كفار مكة ، ومعنى : صدّهم عن المسجد الحرام : أنهم منعوهم أن يطوفوا به ، ويحلوا عن عمرتهم { والهدى مَعْكُوفاً } قرأ الجمهور بنصب { الهدي } عطفاً على الضمير المنصوب في { صدّوكم } ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بالجرّ عطفاً على المسجد ، ولا بدّ من تقدير مضاف ، أي : عن نحر الهدي ، وقرىء بالرفع على تقدير : وصدّ الهدي ، وقرأ الجمهور بفتح الهاء من الهدي وسكون الدال ، وروي عن أبي عمرو ، وعاصم بكسر الدال وتشديد الياء ، وانتصاب { معكوفاً } على الحال من الهدي ، أي : محبوساً . قال الجوهري : عكفه أي : حبسه ووقفه ، ومنه { والهدى مَعْكُوفاً } ومنه الاعتكاف في المسجد ، وهو الاحتباس . وقال أبو عمرو بن العلاء : معكوفاً مجموعاً ، وقوله : { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أي : عن أن يبلغ محله ، أو هو مفعول لأجله ، والمعنى : صدّوا الهدي كراهة أن يبلغ محله ، أو هو بدل من الهدي بدل اشتمال ، ومحله : منحره ، وهو حيث يحل نحره من الحرم ، وكان الهدي سبعين بدنة ، ورخّص الله سبحانه لهم بجعل ذلك الموضع الذي وصلوا إليه ، وهو الحديبية محلاً للنحر . وللعلماء في هذا كلام معروف في كتب الفروع { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } يعني : المستضعفين من المؤمنين بمكة ، ومعنى { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } : لم تعرفوهم وقيل : لم تعلموا أنهم مؤمنون { أَن تَطَئُوهُمْ } يجوز أن يكون بدلاً من رجال ونساء ، ولكنه غلب الذكور ، وأن يكون بدلاً من مفعول { تعلموهم } ، والمعنى : أن تطئوهم بالقتل والإيقاع بهم ، يقال : وطئت القوم ، أي : أوقعت بهم ، وذلك أنهم لو كسبوا مكة ، وأخذوها عنوة بالسيف لم يتميز المؤمنون الذين هم فيها من الكفار ، وعند ذلك لا يأمنوا أن يقتلوا المؤمنين ، فتلزمهم الكفارة ، وتلحقهم سبة ، وهو معنى قوله : { فَتُصِيبَكمْ مّنْهُمْ } أي : من جهتهم ، و { مَّعَرَّةٌ } أي : مشقة بما يلزمهم في قتلهم من كفارة وعيب ، وأصل المعرّة : العيب ، مأخوذة من العرّ ، وهو الجرب ، وذلك أن المشركين سيقولون : إن المسلمين قد قتلوا أهل دينهم . قال الزجاج : لولا أن تقتلوا رجالاً مؤمنين ونساء مؤمنات ، فتصيبكم منهم معرّة أي : إثم ، وكذا قال الجوهري ، وبه قال ابن زيد . وقال الكلبي ، ومقاتل ، وغيرهما : المعرّة : كفارة قتل الخطأ ، كما في قوله : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } [ النساء : 92 ] وقال ابن إسحاق : المعرّة : غرم الدية . وقال قطرب : المعرّة : الشدّة ، وقيل : الغمّ ، و { بِغَيْرِ عِلْمٍ } متعلق بأن تطئوهم ، أي : غير عالمين ، وجواب « لولا » محذوف ، والتقدير : لأذن الله لكم ، أو لما كفّ أيديكم عنهم ، واللام في : { لّيُدْخِلَ الله فِى رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } متعلقة بما يدلّ عليه الجواب المقدّر ، أي : ولكن لم يأذن لكم ، أو كف أيديكم ليدخل الله في رحمته بذلك من يشاء من عباده وهم المؤمنون والمؤمنات الذين كانوا في مكة ، فيتمم لهم أجورهم بإخراجهم من بين ظهراني الكفار ، ويفكّ أسرهم ، ويرفع ما كان ينزل بهم من العذاب .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34