كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

« إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني » ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب ، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين ، وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك ، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه ، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله : { فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ } ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي : { وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] سنة .
{ فَلَبِثَ } أي : يوسف { فِى السجن } بسبب ذلك القول الذي قاله للذي نجا من الغلامين ، أو بسبب ذلك الإنساء { بِضْعَ سِنِينَ } البضع : ما بين الثلاث إلى التسع كما حكاه الهروي عن العرب ، وحكي عن أبي عبيدة أن البضع : ما دون نصف العقد ، يعني : ما بين واحد إلى أربعة . وقيل : ما بين ثلاث إلى سبع ، حكاه قطرب . وحكى الزجاج أنه ما بين الثلاث إلى الخمس . وقد اختلف في تعيين قدر المدة التي لبث فيها يوسف في السجن ، فقيل : سبع سنين . وقيل : اثنتا عشرة سنة . وقيل : أربع عشرة سنة ، وقيل : خمس سنين .
وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله : { أَمَّا أَحَدُكُمَا } قال : أتاه فقال : رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت ، فخرج فيه عناقيد فعصرتهنّ ثم سقيتهنّ الملك؛ فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ، ثم تخرج فتسقيه خمراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئاً ، إنما تحالما ليجرّبا علمه . فلما أوّل رؤياهما قالا : إنما كنا نلعب ، ولم نرَ شيئاً ، فقال : { قُضِىَ الأمر الذى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } يقول : وقعت العبارة فصار الأمر على ما عبر يوسف . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن أبي مجلز قال : كان أحد اللذين قصا على يوسف الرؤيا كاذباً .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن ساباط { وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا اذكرنى عِندَ رَبّكَ } قال : عند ملك الأرض . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب العقوبات ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ، ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله » وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة مرفوعاً نحوه ، وهو مرسل ، وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن مرفوعاً نحوه .

وهو مرسل . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة فذكر نحوه ، وهو مرسل أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أنس قال : أوحي إلى يوسف : من استنقذك من القتل حين همّ إخوتك أن يقتلوك؟ قال : أنت يا ربّ ، قال : فمن استنقذك من الجبّ إذ ألقوك فيه؟ قال : أنت يا ربّ ، قال : فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك؟ قال : أنت يا ربّ ، قال : فما لك نسيتني ، وذكرت آدمياً؟ قال : جزعاً ، وكلمة تكلم بها لساني ، قال : فوعزتي لأخلدنك في السجن بضع سنين ، فلبث فيه سبع سنين ، وقد اختلف السلف في تقدير مدّة لبثه في السجن على حسب ما قدّمنا ذكره ، فلم نشتغل ها هنا بذكر من قال بذلك ومن خرّجه .

وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

المراد بالملك هنا : هو الملك الأكبر ، وهو الريان بن الوليد الذي كان العزيز وزيراً له ، رأى في نومه لما دنا فرج يوسف عليه السلام أنه خرج من نهر يابس { سَبْعَ بقرات سِمَانٍ } جمع سمين وسمينة ، في إثرهن سبع عجاف : أي : مهازيل ، وقد أقبلت العجاف على السمان فأكلتهنّ . والمعنى : إني رأيت ، ولكنه عبر بالمضارع لاستحضار الصورة ، وكذلك قوله : { يَأْكُلُهُنَّ } عبر بالمضارع للاستحضار ، والعجاف جمع عجفاء ، وقياس جمعه عجف؛ لأن فعلاء وأفعل لا تجمع على فعال ، ولكنه عدل عن القياس حملاً على سمان { وَسَبْعَ سنبلات } معطوف على سبع بقرات . والمراد بقوله : { خُضْرٍ } أنه قد انعقد حبها ، واليابسات قد أدركت الخضر والتوت عليها حتى غلبتها ، ولعل عدم التعرّض لذكر هذا في النظم القرآني للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات . { ياأيها الملأ } خطاب للأشراف من قومه { أَفْتُونِى فِى رؤياى } أي : أخبروني بحكم هذه الرؤيا { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أي : تعلمون عبارة الرؤيا ، وأصل العبارة مشتقة من عبور النهر ، فمعنى عبرت النهر : بلغت شاطئه ، فعابر الرؤيا يخبر بما يئول إليه أمرها . قال الزجاج : اللام في { للرؤيا } للتبيين ، أي : إن كنتم تعبرون . ثم بين فقال : { للرؤيا } وقيل : هو للتقوية ، وتأخير الفعل العامل فيه لرعاية الفواصل .
وجملة { قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، والأضغاث : جمع ضغث ، وهو كل مختلط من بقل أو حشيش أو غيرهما ، والمعنى : أخاليط أحلام ، والأحلام : جمع حلم : وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها كما يكون من حديث النفس ووسواس الشيطان ، والإضافة بمعنى من ، وجمعوا الأحلام ولم يكن من الملك إلاّ رؤيا واحدة مبالغة منهم في بالبطلان ، ويجوز أن يكون رأى مع هذه الرؤيا غيرها مما لم يقصه الله علينا { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاحلام بعالمين } قال الزجاج : المعنى بتأويل الأحلام المختلطة ، نفوا عن أنفسهم علم ما لا تأويل له ، لا مطلق العلم بالتأويل . وقيل : إنهم نفوا عن أنفسهم علم التعبير مطلقاً ، ولم يدّعوا أنه لا تأويل لهذه الرؤيا . وقيل : إنهم قصدوا محوها من صدر الملك حتى لا يشتغل بها ، ولم يكن ما ذكروه من نفي العلم حقيقة .
{ وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا } أي : من الغلامين ، وهو الساقي الذي قال له يوسف : { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } { وادّكر بعد أمة } بالدال المهملة على قراءة الجمهور ، وهي القراءة الفصيحة ، أي : تذكر الساقي يوسف وما شاهده منه من العلم بتعبير الرؤيا ، وقرىء بالمعجمة ، ومعنى { بَعْدَ أُمَّةٍ } : بعد حين ، ومنه { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [ هود : 8 ] أي : إلى وقت ، قال ابن درستويه : والأمة لا تكون على الحين إلاّ على حذف مضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه ، كأنه قال : والله أعلم : وادكر بعد حين أمة أو بعد زمن أمة ، والأمة : الجماعة الكثيرة من الناس .

قال الأخفش : هو في اللفظ واحد وفي المعنى جمع ، وكل جنس من الحيوان أمة . وقرأ ابن عباس وعكرمة : « بعد أمة » بفتح الهمزة وتخفيف الميم ، أي : بعد نسيان ، ومنه قول الشاعر :
أمِهتُ وكنت لا أنسى حديثا ... كذاك الدهر يودي بالعقول
ويقال أمه يأمه أمها : إذا نسي . وقرأ الأشهب العقيلي { بعد إمَّة } بكسر الهمزة ، أي : بعد نعمة ، وهي نعمة النجاة . { أَنَاْ أُنَبّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي : أخبركم به بسؤالي عنه من له علم بتأويله ، وهو يوسف . { فَأَرْسِلُونِ } خاطب الملك بلفظ التعظيم ، أو خاطبه ومن كان عنده من الملأ ، طلب منهم أن يرسلوه إلى يوسف ليقصّ عليه رؤيا الملك حتى يخبره بتأويلها فيعود بذلك إلى الملك .
{ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا } أي : يا يوسف ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فأرسلوه إلى يوسف فسار إليه ، فقال له : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق } إلى آخر الكلام ، والمعنى : أخبرنا في رؤيا من رأى سبع بقرات إلخ ، وترك ذكر ذلك اكتفاء بما هو واثق به من فهم يوسف بأن ذلك رؤيا ، وأن المطلوب منه تعبيرها { لَّعَلّى أَرْجِعُ إِلَى الناس } أي : إلى الملك ومن عنده من الملأ { لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } ما تأتي به من تأويل هذه الرؤيا ، أو يعلمون فضلك ومعرفتك لفنّ التعبير . وجملة : { قَالَ تَزْرَعُونَ } إلخ مستأنفة جواب سؤال مقدّر كغيرها مما يرد هذا المورد { سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا } أي : متوالية متتابعة ، وهو مصدر . وقيل : هو حال ، أي : دائبين ، وقيل : صفة لسبع ، أي : دائبة . وحكى أبو حاتم عن يعقوب أنه قرأ « دأبا » بتحريك الهمزة ، وكذا روى حفص عن عاصم وهما لغتان قال الفراء : حرك لأن فيه حرفاً من حروف الحلق ، وكذلك كل حرف فتح أوّله وسكن ثانيه فتثقيله جائز في كلمات معروفة . فعبر يوسف عليه السلام السبع البقرات السمان بسبع سنين فيها خصب ، والعجاف بسبع سنين فيها جدب ، وهكذا عبر السبع السنبلات الخضر ، والسبع السنبلات اليابسات ، واستدل بالسبع السنبلات الخضر على ما ذكره في التعبير من قوله : { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ } أي : ما حصدتم في كل سنة من السنين المخصبة فذروا ذلك المحصود في سنبله ولا تفصلوه؛ عنها لئلا يأكله السوس إلاّ قليلاً مما تأكلون في هذه السنين المخصبة ، فإنه لا بدّ لكم من فصله عن سنبله وإخراجه عنها . واقتصر على استثناء المأكول دون ما يحتاجون إليه من البذر الذي يبذرونه في أموالهم ، لأنه قد علم من قوله : { تزرعون } { ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك } أي : من بعد السبع السنين المخصبة { سَبْعٌ شِدَادٌ } أي : سبع سنين مجدبة يصعب أمرها على الناس { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ } من تلك الحبوب المتروكة في سنابلها ، وإسناد الأكل إلى السنين مجاز ، والمعنى : يأكل الناس فيهنّ ، أو يأكل أهلهنّ ما قدمتم لهنّ : أي : ما ادخرتم لأجلهنّ ، فهو من باب : نهاره صائم ، ومنه قول الشاعر :

نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
{ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ } أي : مما تحبسون من الحب لتزرعوا به؛ لأن في استبقاء البذر تحصين الأقوات . وقال أبو عبيدة : معنى { تحصنون } تحرزون . وقيل : تدّخرون ، والمعنى واحد .
قوله : { ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } أي : من بعد السنين المجدبات ، فالإشارة إليها ، والعام : السنة { فِيهِ يُغَاثُ الناس } من الإغاثة أو الغوث ، والغيث المطر ، وقد غاث الغيث : بالأرض ، أي : أصابها ، وغاث الله البلاد يغيثها غوثاً : أمطرها ، فمعنى { يغاث الناس } : يمطرون { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } أي : يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون . وقيل : أراد حلب الألبان . وقيل : معنى { يعصرون } ينجون ، مأخوذ من العصرة وهي المنجاة . قال أبو عبيدة : والعصر بالتحريك : الملجأ والمنجاة ، ومنه قول الشاعر :
صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود
واعتصرت بفلان : التجأت به . وقرأ حمزة والكسائي : { تعصرون } بتاء الخطاب ، وقرىء : « يعصرون » بضم حرف المضارعة وفتح الصاد ، ومعناه يمطرون ، ومنه قوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً } [ النبأ : 14 ] .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال يوسف للساقي : أذكرني عند ربك ، أي : الملك الأعظم ، ومظلمتي وحبسي في غير شيء ، فقال : أفعل ، فلما خرج الساقي ردّ على ما كان عليه ، ورضي عنه صاحبه ، وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له ، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين ، ثم إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها فهالته ، وعرف أنها رؤيا واقعة ، ولم يدر ما تأويلها ، فقال للملأ حوله من أهل مملكته { إِنّى أرى سَبْعَ بقرات سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سنبلات خُضْرٍ وَأُخَرَ يابسات } فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها ، ذكر يوسف ما كان عبَّر له ولصاحبه ، وما جاء من ذلك على ما قال ، فقال : أنا أنبئكم بتأويله . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أضغاث أَحْلاَمٍ } يقول : مشتبهة . وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير عنه قال : من الأحلام الكاذبة . وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } قال : بعد حين . وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدّي مثله . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : بعد سنين . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بعد أمة من الناس .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بقرات } الآية ، قال : أما السمان فسنون فيها خصب ، وأما العجاف فسنون مجدبة ، وسبع سنبلات خضر هي السنون المخاصيب ، تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها ، وآخر يابسات : المحول الجُدُوب لا تنبت شيئاً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترطت عليهم أن يخرجوني ، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ، ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ } يقول : تخزنون ، وفي قوله : { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يقول : الأعناب والدهن . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فِيهِ يُغَاثُ الناس } يقول : يصيبهم فيه غيث { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } يقول : يعصرون فيه العنب ، ويعصرون فيه الزبيب ، ويعصرون من كل الثمرات . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه أيضاً { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } قال : يحتلبون . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عنه أيضاً { ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ } قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه كأنّ الله قد علمه إياه فيه يغاث الناس بالمطر ، وفيه يعصرون السمسم دهناً ، والعنب خمراً والزيتون زيتاً .

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)

قوله : { وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ } في الكلام حذف قبل هذا ، والتقدير : فذهب الرسول إلى الملك فأخبره بما أخبره به يوسف من تعبير تلك الرؤيا ، وقال الملك لمن بحضرته : { ائتوني به } أي : بيوسف ، رغب إلى رؤيته ومعرفة حاله ، بعد أن علم من فضله ما علمه ، من وصف الرسول له ومن تعبيره لرؤياه . { فَلَمَّا جَاءهُ } أي : جاء إلى يوسف { الرسول } واستدعاه إلى حضرة الملك ، وأمره بالخروج من السجن { قَالَ } يوسف للرسول { ارجع إلى رَبّكَ } أي : سيدك { فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } أمره بأن يسأل الملك عن ذلك ، وتوقف عن الخروج من السجن ، ولم يسارع إلى إجابة الملك ، ليظهر للناس براءة ساحته ونزاهة جانبه ، وأنه ظلم بكيد امرأة العزيز ظلماً بيناً ، ولقد أعطى عليه السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوّره ، ولهذا ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : « ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي » يعني : الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك . قال ابن عطية : هذا الفعل من يوسف أناة وصبراً ، وطلباً لبراءة ساحته ، وذلك أنه خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة ، ويسكت عن أمر ذنبه فيراه الناس بتلك العين يقولون : هذا الذي راود امرأة العزيز ، وإنما قال : { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة } وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز ، أو خوفاً منه من كيدها وعظيم شرّها ، وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهنّ له ، تنزهاً منه عن نسبة ذلك إليهنّ ، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدّم إلى امرأة العزيز إلاّ بعد أن رمته بدائها وانسلت . وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله : { إِنَّ رَبّى بكيدهن عَلِيمٌ } فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهنّ مغنياً عن التصريح .
وجملة { قَالَ فَمَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف؟ والخطب : الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة ، والمعنى : ما شأنكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه . وقد تقدّم معنى المراودة ، وإنما نسب إليهنّ المراودة ، لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم ، ومن جملة ما شمله خطاب الملك امرأة العزيز ، أو أراد بنسبة ذلك إليهنّ وقوعه منهنّ في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشياً عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز ، فأجبن عليه بقولهنّ : { قُلْنَ حَاشَ لله } أي : معاذ الله { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء } أي : من أمر سيء ينسب إليه ، فعند ذلك { قَالَتِ امرأت العزيز } منزهة لجانبه مقرّة على نفسها بالمراودة له { الآن حصحص الحق } أي : تبين وظهر .

وأصله : حصّ ، فقيل : حصحص كما قيل في كبوا : { فكبكبوا } [ الشعراء : 94 ] قاله الزجاج ، وأصل الحصّ : استئصال الشيء ، يقال : حصَّ شعره ، إذا استأصله ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
قد حَصت البيضةُ رأسي فما ... أطعمُ نوما غيرَ تهجاعِ
والمعنى : أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه ، ومنه :
فمن مبلغ عني خِداشا فإنه ... كَذوبٌ إذا ما حَصحَص الحق ظالِمُ
وقيل : هو مشتق من الحصة ، والمعنى : بانت حصّة الباطل . قال الخليل : معناه ظهر الحق بعد خفائه ، ثم أوضحت ذلك بقولها : { أَنَاْ راودته عَن نَّفْسِهِ } ولم تقع منه المراودة لي أصلاً { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } فيما قاله من تبرئة نفسه ، ونسبة المراودة إليها ، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام .
قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } : ذهب أكثر المفسرين إلى أن هذا من كلام يوسف عليه السلام . قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر ، إذا دلت القرينة الصارفة إلى كل منهما إلى ما يليق به ، والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه ، وهي تثبته وتأنيه ، أي : فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب ، والمعنى : بظهر الغيب ، والجار والمجرور في محل نصب على الحال أي : وهو غائب عني ، أو وأنا غائب عنه ، قيل : إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة ، وما قالته امرأة العزيز . وقيل : إنه قال ذلك وقد صار عند الملك ، والأوّل أولى ، وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز ، والمعنى : ذلك القول الذي قلته في تنزيهه ، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه ، فأنسب إليه ما لم يكن منه ، وهو غائب عني ، أو وأنا غائبة عنه ، والإقرار على نفسي به . { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِى كَيْدَ الخائنين } أي : لا يثبته ويسدّده ، أو لا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم ، وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها . وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته .
{ وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس ، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه بريء ، وظهر ذلك ظهور الشمس ، وأقرّت به المرأة التي ادّعت عليه الباطل ، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهنّ ، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة؛ لأنها قد أقرت بالذنب ، واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف . وقد قيل : إن هذا من قول العزيز وهو بعيد جدّاً ، ومعناه : وما أبرىء نفسي من سوء الظن بيوسف ، والمساعدة على حبسه بعد أن علمت ببراءته { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسوء } أي : إن هذا الجنس من الأنفس البشرية شأنه الأمر بالسوء لميله إلى الشهوات ، وتأثيرها بالطبع ، وصعوبة قهرها ، وكفها عن ذلك { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } أي : إلاّ من رحم من النفوس فعصمها عن أن تكون أمارة بالسوء ، أو إلاّ وقت رحمة ربي وعصمته لها ، وقيل : الاستثناء منقطع ، والمعنى : لكن رحمة ربي هي التي تكفها عن أن تكون أمارة بالسوء ، وجملة { إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تعليل لما قبلها ، أي : إن من شأنه كثرة المغفرة لعباده والرحمة لهم .

قوله : { وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } الملك هو الريان بن الوليد لا العزيز كما تقدّم . ومعنى { أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } : أجعله خالصاً لي دون غيري ، وقد كان قبل ذلك خالصاً للعزيز ، والاستخلاص : طلب خلوص الشيء من شوائب الشركة ، قال ذلك لما كان يوسف نفيساً ، وعادة الملوك أن يجعلوا الأشياء النفيسة خالصة لهم دون غيرهم { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } في الكلام حذف ، وتقديره فأتوه به ، فلما كلمه ، أي : فلما كلم الملك يوسف ، ويحتمل أن يكون المعنى : فلما كلم يوسف الملك ، قيل : والأوّل أولى؛ لأن مجالس الملوك لا يتكلم فيها ابتداء إلاّ هم دون من يدخل عليهم . وقيل : الثاني أولى؛ لقول الملك : { قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } فإن هذا يفيد أنه لما تكلم يوسف في مقام الملك جاء بما حببه إلى الملك ، وقربه من قلبه ، فقال هذه المقالة ، ومعنى { مكين } : ذو مكانة وأمانة بحيث يتمكن مما يريده من الملك ويأمنه الملك على ما يطلع عليه من أمره ، أو على ما يكله إليه من ذلك . قيل : إنه لما وصل إلى الملك أجلسه على سريره ، وقال له : إني أحبّ أن أسمع منك تعبير رؤياي ، فعبرها له بأكمل بيان ، وأتمّ عبارة ، فلما سمع الملك منه ذلك قال له : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ } .
فلما سمع يوسف منه ذلك قال { اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض } أي : ولني أمر الأرض التي أمرها إليك وهي أرض مصر ، أو اجعلني على حفظ خزائن الأرض ، وهي الأمكنة التي تخزن فيها الأموال . طلب يوسف عليه السلام منه ذلك ليتوصل به إلى نشر العدل ، ورفع الظلم ، ويتوسل به إلى دعاء أهل مصر إلى الإيمان بالله ، وترك عبادة الأوثان .
وفيه دليل على أنه يجوز لمن وثق من نفسه إذا دخل في أمر من أمور السلطان أن يرفع منار الحق ، ويهدم ما أمكنه من الباطل ، وطلب ذلك لنفسه ، ويجوز له أن يصف نفسه بالأوصاف التي لها ، ترغيباً فيما يرومه ، وتنشيطاً لمن يخاطبه من الملوك بإلقاء مقاليد الأمور إليه ، وجعلها منوطة به ، ولكنه يعارض هذا الجواز ما ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم من النهي عن طلب الولاية والمنع من تولية من طلبها ، أو حرص عليها .

والخزائن جمع خزانة ، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، والحفيظ : الذي يحفظ الشيء ، أي : { إِنّى حَفِيظٌ } لما جعلته إليّ من حفظ الأموال لا أخرجها في غير مخارجها ، ولا أصرفها في غير مصارفها { عَلِيمٌ } بوجوده جمعها وتفريقها ومدخلها ومخرجها .
{ وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ } أي : ومثل ذلك التمكين العجيب مكنا ليوسف في الأرض أي : جعلنا له مكاناً ، وهو عبارة عن كمال قدرته ، ونفوذ أمره ونهيه ، حتى صار الملك يصدر عن رأيه ، وصار الناس يعملون على أمره ونهيه { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء } أي : ينزل منها حيث أراد ويتخذه مباءة ، وهو عبارة عن كمال قدرته كما تقدّم ، وكأنه يتصرف في الأرض التي أمرها إلى سلطان مصر ، كما يتصرف الرجل في منزله . وقرأ ابن كثير بالنون ، وقد استدلّ بهذه الآية على أنه يجوز تولي الأعمال من جهة السلطان الجائر ، بل الكافر لمن وثق من نفسه بالقيام بالحق . وقد قدمنا الكلام على هذا مستوفياً في قوله سبحانه : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 113 ] { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء } من العباد فنرحمه في الدنيا بالإحسان إليه ، والإنعام عليه ، وفي الآخرة بإدخاله الجنة وإنجائه من النار { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } في أعمالهم الحسنة التي هي مطلوب الله منهم ، أي : لا نضيع ثوابهم فيها ، ومجازاتهم عليها { وَلأجْرُ الأخرة } أي : أجرهم في الآخرة ، وأضيف الأجر إلى الآخرة للملابسة ، وأجرهم هوالجزاء الذي يجازيهم الله به فيها ، وهو الجنة التي لا ينفد نعيمها ولا تنقضي مدّتها { خَيْرٌ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ } بالله { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } الوقوع فيما حرّمه عليهم . والمراد بهم : المحسنون المتقدم ذكرهم ، وفيه تنبيه على أن الإحسان المعتدّ به ، هو الإيمان والتقوى .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { مَا بَالُ النسوة } قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب عنه قال : لما قالت امرأة العزيز : أنا راودته ، قال يوسف : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } فغمزه جبريل فقال : ولا حين هممت بها؟ فقال : { وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى } الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { حَصْحَصَ الحق } قال : تبين . وأخرج ابن جرير عن مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد ، والسدّي مثله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، عن حكيم بن حزام في قوله : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } فقال له جبريل : ولا حين حللت السراويل؟ فقال عند ذلك { وما أبرئ نفسي } . وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله : { وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى } قال : فأتاه الرسول فقال : ألقِ عنك ثياب السجن والبس ثياباً جدداً وقم إلى الملك ، فدعا له أهل السجن وهو يومئذٍ ابن ثلاثين سنة ، فلما أتاه رأى غلاماً حدثاً ، فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟ وأقعده قدّامه وقال : لا تخف ، وألبسه طوقاً من ذهب وثياب حرير ، وأعطاه دابة مسروجة مزينة كدابة الملك ، وضرب الطبل بمصر : إن يوسف خليفة الملك .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قال الملك ليوسف : إني أحبّ أن تخالطني في كل شيء إلاّ في أهلي . وأنا آنف أن تأكل معي ، فغضب يوسف ، وقال : أنا أحق أن آنف ، أنا ابن إبراهيم خليل الله ، وأنا ابن إسحاق ذبيح الله ، وأنا ابن يعقوب نبيّ الله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن شيبة بن نعامة الضبي في قوله : { اجعلنى على خَزَائِنِ الارض } يقول : على جميع الطعام { إِنّى حَفِيظٌ } لما استودعتني { عَلِيمٌ } بسني المجاعة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض } قال : ملكناه فيها يكون فيها حيث يشاء من تلك الدنيا يصنع فيها ما يشاء . وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم ، أن يوسف تزوج امرأة العزيز فوجدها بكراً ، وكان زوجها عنينا .

وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)

قوله : { وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ } أي : جاءوا إلى مصر من أرض كنعان ليمتاروا لما أصابهم القحط { فَدَخَلُواْ } على يوسف { فَعَرَفَهُمْ } لأنه فارقهم رجالاً { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } لأنهم فارقوه صبياً يباع بالدراهم في أيدي السيارة بعد أن أخرجوه من الجبّ ، ودخلوا عليه الآن وهو رجل عليه أبهة الملك ، ورونق الرئاسة ، وعنده الخدم والحشم . وقيل : إنهم أنكروه لكونه كان في تلك الحال على هيئة ملك مصر ، ولبس تاجه وتطوّق بطوقه .
وقيل : كانوا بعيداً منه فلم يعرفوه ، وقيل غير ذلك .
{ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } المراد به هنا أنه أعطاهم ما طلبوه من الميرة ، وما يصلحون به سفرهم من العدّة التي يحتاجها المسافر . يقال : جهزت القوم تجهيزاً إذا تكلفت لهم جهازاً للسفر . قال الأزهري : القراء كلهم على فتح الجيم ، والكسر لغة جيدة . { قَالَ ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } قيل : لا بدّ من كلام ينشأ عنه طلبه لهم بأن يأتوه بأخ لهم من أبيهم ، فروي أنه لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم : ما أنتم وما شأنكم فإني أنكركم؟ فقالوا : نحن قوم من أهل الشام جئنا نمتار ولنا أب شيخ صديق نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب . قال : كم أنتم؟ قالوا : عشرة ، وقد كنا اثني عشر ، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك ، وكان أحبنا إلى أبينا ، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه هو باقٍ لديه ، يتسلى به ، فقال لهم حينئذٍ : { ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } يعني : أخاه « بنيامين » الذي تقدّم ذكره ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه ، فوعدوه بذلك ، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى يأتوه بالأخ الذي طلبه ، فاقترعوا فأصابت القرعة « شمعون » فخلفوه عنده ، ثم قال لهم : { أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل } أي : أتممه ، وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرّة ، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقاً به وتصديقاً لقوله ، فقال : { وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } أي : والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي كما فعلته بكم من حسن الضيافة ، وحسن الإنزال . قال الزجاج : قال يوسف : { وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم .
ثم توعدهم إذا لم يأتوه به فقال : { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ } أي : فلا أبيعكم شيئاً فيما بعد ، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم ، ومعنى لا تقربون : لا تدخلون بلادي فضلاً عن أن أحسن إليكم وقيل : معناه : لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرّة ، ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده ، و { تقربون } مجزوم إما على أن « لا » ناهية أو على أنها نافية ، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه كأنه قال : فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا .

فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم ، قالوا { سنراود عَنْهُ أَبَاهُ } أي : سنطلبه منه ، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه . وقيل : معنى المراودة هنا : المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه { وَإِنَّا لفاعلون } هذه المراودة غير مقصرين فيها . وقيل : معناه وإنا لقادرون على ذلك ، لا نتعانى به ولا نتعاظمه .
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ } . قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر « لفتيته » ، واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما . وقرأ سائر الكوفيين . { لفتيانه } ، وأختار هذه القراءة أبو عبيد ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود كالقراءة الآخرة . قال النحاس : لفتيانه مخالف للسواد الأعظم ، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع وأيضاً فإن فتية أشبه من « فتيان » ، لأن فتية عند العرب لأقل العدد ، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه ، والجملة مستأنفة جواب سؤال ، كأنه قيل : فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك ، فأجيب بأنه قال لفتيته . قال الزجاج : الفتية والفتيان في هذا الموضع : المماليك . وقال الثعلبي : هما لغتان جيدتان ، مثل الصبيان والصبية . والمراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام ، وكانت نعالاً وأدماً ، فعل يوسف عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم . وقيل : فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن . قاله الفراء . وقيل : فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام . وقيل : إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام .
ثم علل يوسف عليه السلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله : { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } فجعل علة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم ، وذلك لأنهم لا يعلمون بردّ البضاعة إليهم إلاّ عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام ، وهم لا يفرغونها إلاّ عند الوصول إلى أهلهم ، ثم علل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم ، المجعولة في رحالهم بقوله : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن ، وأن ما دفعوه عوضاً عنه قد رجع إليهم ، وتفضل به من وصلوا إليه عليهم ، نشطوا إلى العود إليه ، ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد ، والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم ، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع ، وبهذا يظهر أن يوسف عليه السلام لم يردّ البضاعة إليهم إلاّ لهذا المقصد ، وهو رجوعهم إليه ، فلا يتمّ تعليل ردّها بغير ذلك ، والرحال : جمع رحل ، والمراد به هنا : ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث .

قال الواحدي : الرحل كل شيء معدّ للرحيل من وعاء للمتاع ، ومركب للبعير ، ومجلس ورسن انتهى . والمراد هنا : الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام . قال ابن الأنباري : يقال للوعاء : رحل ، وللبيت : رحل .
{ فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل } أرادوا بهذا ما تقدّم من قول يوسف لهم : { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى } أي : منع منا الكيل في المستقبل ، وفيه دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه ، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا بردّ بضاعتهم كما يفيد ذلك قوله فيما بعد : { وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم } إلى آخره ، ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف ، فقالوا : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا } يعنون بنيامين ، و { نَكْتَلْ } جواب الأمر ، أي : نكتل بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام . قرأ أهل الحرمين ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : { نكتل } بالنون ، وقرأ سائر الكوفيون بالياء التحتية ، واختار أبو عبيد القراءة الأولى . قال : ليكونون كلهم داخلين فيمن يكتال ، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده ، أي : يكتال أخونا بنيامين ، واعترضه النحاس مما حاصله : أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه للجميع ، والمعنى : يكتال بنيامين لنا جميعاً . قال الزجاج : أي إن أرسلته اكتلنا وإلاّ منعنا الكيل { وَإِنَّا لَهُ } أي : لأخيهم بنيامين { لحافظون } من أن يصيبه سوء أو مكروه .
وجملة : { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كما تقدّم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة ، والمعنى : أنه لا يأمنهم على بنيامين إلاّ كما أمنهم على أخيه يوسف ، وقد قالوا له في يوسف : { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } كما قالوا هنا : { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } ثم خانوه في يوسف فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف { فالله خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } لعل هنا إضمار والتقدير فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم ، وقال : { فالله خير حفظاً } . قرأ أهل المدينة « حفظاً » وهو منتصب على التمييز . وهي قراءة أبي عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ، وقرأ سائر الكوفيين : { حافظاً } وهو منتصب على الحال . وقال الزجاج : على البيان يعني : التمييز ، ومعنى الآية : أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له ، لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه ، ولما قال في يوسف : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب } وقع له من الامتحان ما وقع .
{ وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم } أي : أوعية الطعام أو ما هو أعمّ من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع سواء كان الذي فيه طعاماً أو غير طعام { وَجَدُواْ بضاعتهم رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } أي : البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا بها ، وقد تقدّم بيانها .

وجملة : { قَالُواْ يأَبَانَا } مستأنفة كما تقدّم { مَا نَبْغِى } « ما » استفهامية والمعنى : أي شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان بردّ البضاعة والإكرام عند القدوم إليه ، وتوفير ما أردناه من الميرة؟ ويكون الاستفهام للإنكار ، وجملة : { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } مقرّرة لما دلّ عليه الاستفهام من الإنكار لطلب شيء مع كونها قد ردّت إليهم . وقيل : إن « ما » في { ما نبغي } نافية ، أي : ما نبغي في القول ، وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وإكرامه لنا ، ثم برهنوا على ما لقوه من التزيد في وصف الملك بقولهم : { هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } فإن من تفضل عليهم بردّ ذلك حقيق بالثناء عليه منهم ، مستحق لما وصفوه به .
ومعنى { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } . نجلب إليهم الميرة وهي الطعام ، والمائر الذي يأتي بالطعام . وقرأ السلمي بضم النون ، وهو معطوف على مقدر يدلّ عليه السياق ، والتقدير : هذه بضاعتنا ردّت إلينا فنحن نستعين بها على الرجوع ونمير أهلنا . { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } بنيامين مما تخافه عليه { وَنَزْدَادُ } بسبب إرساله معنا { كَيْلَ بَعِيرٍ } أي : حمل بعير زائد على ما جئنا به هذه المرة ، لأنه كان يكال لكل رجل وقر بعير ، ومعنى { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } أن زيادة كيل بعير لأخينا يسهل على الملك ، ولا يمتنع علينا من زيادته له لكونه يسيراً لا يتعاظمه ولا يضايقنا فيه . وقيل إن المعنى : ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه حمل بعير لأخينا . واختار الزجاج الأوّل . وقيل : إن هذا من كلام يعقوب جواباً على ما قاله أولاده ، { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } يعني : إن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لأجله بالولد ، وهو ضعيف؛ لأن جواب يعقوب هو { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله } أي : حتى تعطوني ما أثق به ، وأركن إليه من جهة الله سبحانه ، وهو الحلف به ، واللام في { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } جواب القسم؛ لأن معنى { حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله } : حتى تحلفوا بالله لتأتنني به أي : لتردنّ بنيامين إليّ .
والاستثناء بقوله : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } هو من أعمّ العام؛ لأن { لَتَأْتُنَّنِى بِهِ } وإن كان كلاماً مثبتاً فهو في معنى النفي ، فكأنه قال : لا تمنعون من إتياني به في حال من الأحوال لعلة من العلل إلاّ لعلة الإحاطة بكم ، والإحاطة مأخوذة من إحاطة العدو ، ومن أحاط به العدوّ فقد غلب أو هلك . فأخذ يعقوب عليهم العهد بأن يأتوه ببنيامين إلاّ أن تغلبوا عليه أو تهلكوا دونه ، فيكون ذلك عذراً لكم عندي { فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } أي : أعطوه ما طلبه منهم من اليمين { قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } أي : قال يعقوب : الله على ما قلناه من طلبي الموثق منكم وإعطائكم لي ما طلبته منكم مطلع رقيب لا يخفى عليه منه خافية ، فهو المعاقب لمن خاس في عهده ، وفجر في الحلف به ، أو موكول إليه القيام بما شهد عليه منا .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : إن إخوة يوسف لما دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ، جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه ، فوضعه على يده فجعل ينقره ويطنّ ، وينقره ويطنّ ، فقال : إن هذا الجام ليخبرني عنكم خبراً ، هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف؟ وكان أبوه يحبه دونكم ، وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجبّ ، وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال : فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون . وأخرج أبو الشيخ عن وهيب قال : لما جعل يوسف ينقر الصواع ويخبرهم ، قام إليه بعض إخوته فقال : أنشدك بالله أن لا تكشف لنا عورة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { ائتونى بِأَخٍ لَّكُمْ مّنْ أَبِيكُمْ } قال : يعني بنيامين ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } قال : خير من يضيف بمصر .
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : { لفتيانه } أي : لغلمانه { اجعلوا بضاعتهم } أي : أوراقهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { مَا نَبْغِى هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا } يقولون : ما نبغي وراء هذا { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } أي : حمل بعير . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } قال : حمل حمار ، قال : وهي لغة . قال أبو عبيد : يعني هذا أن الحمار يقال له : في بعض اللغات بعير .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } قال : تهلكوا جميعاً . وفي قوله : { فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } قال : عهدهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } قال إلاّ أن تغلبوا حتى لا تطيقوا ذلك .

وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين؛ لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر ، وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد ، فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد ، لأن في ذلك مظنة لإصابة الأعين لهم ، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة ، ولم يكتف بقوله : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } عن قوله : { وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ } لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد ، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين ، أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة ، قيل : وكانت أبواب مصر أربعة .
وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم ، والبلخي ، أن للعين تأثيراً ، وقالا : لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به . وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما ، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنّة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم ، وأيّ مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك؟
وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حقّ ، وأصيب بها جماعة في عصر النبوّة ، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره ، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدّعيه على العقل حتى يضمّ إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة ، والمذاهب الزائفة ، وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتدّ به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً ، وبما هو مشاهد في الوجود ، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب .
وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين ، فقال قوم : يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته . وقيل : ينفي ، وأبعد من قال إنه يقتل ، إلاّ إذا كان يتعمد ذلك ، وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك ، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل .
ثم قال يعقوب لأولاده { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَىْء } أي : لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا ، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة . قال الزجاج وابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرّقهم كاجتماعهم . وقال آخرون : ما كان يغني عنهم يعقوب شيئاً قط ، حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم ، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال : { إِنِ الحكم إِلاَّ لله } لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ذلك { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في كل إيراد وإصدار لا على غيره أي : اعتمدت ووثقت { وَعَلَيْهِ } لا على غيره { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } على العموم ، ويدخل فيه أولاده دخولاً أوّلياً .

{ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } أي : من الأبواب المتفرقة ولم يجتمعوا داخلين من باب واحد . وجواب لما { مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ } ذلك الدخول { مِنَ الله } أي : من جهته { مِن شَىْء } من الأشياء مما قدّره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } منقطع ، والمعنى : ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب ، وهي شفقته عليهم ، ومحبته لسلامتهم ، قضاها يعقوب ، أي : أظهرها لهم ، ووصاهم بها غير معتقد أن للتدبير الذي دبره لهم تأثيراً في دفع ما قضاه الله عليهم . وقيل : إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة ، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسداً وحقداً أو خوفاً منهم ، فأمرهم بالتفرّق لهذه العلة . وقد اختار هذا النحاس وقال : لا معنى للعين ها هنا . وفيه أن هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرّق ، ولم يخصّ النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من باب واحد؛ لأن هذا الحسد أو الخوف يحصل باجتماعهم داخل المدينة ، كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد . وقيل : إن الفاعل في { قضاها } ضمير يعود إلى الدخول لا إلى يعقوب . والمعنى : ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئاً ، ولكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ } أي : وإن يعقوب لصاحب علم لأجل تعليم الله إياه بما أوحاه الله من أن الحذر لا يدفع القدر ، وأن ما قضاه الله سبحانه فهو كائن لا محالة . { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } بذلك كما ينبغي . وقيل : لا يعلمون أن الحذر مندوب إليه ، وإن كان لا يغني من القدر شيئاً ، والسياق يدفعه . وقيل : المراد بأكثر الناس المشركون .
{ وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ أوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } أي : ضمّ إليه أخاه بنيامين ، قيل : إنه أمر بإنزال كل اثنين في منزل فبقي أخوه منفرداً فضمه إليه و { قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ } يوسف ، قال له ذلك سرّاً ، من دون أن يطلع عليه إخوته { فَلاَ تَبْتَئِسْ } أي : فلا تحزن { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي : إخوتك من الأعمال الماضية التي عملوها؛ وقيل : إنه لم يخبره بأنه يوسف ، بل قال له : إني أخوك مكان أخيك يوسف فلا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الجفاء حسداً وبغياً .

وقيل : إنه أخبره بما سيدبره معهم من جعل السقاية في رحله . فقال : لا أبالي ، وقيل : إنه لما أخبر يوسف أخاه بنيامين بأنه أخوه قال : لا تردّني إليهم ، فقال قد علمت اغتمام أبينا يعقوب ، فإذا حبستك عندي ازداد غمه ، فأتى بنيامين فقال له يوسف : لا يمكن حبسك عندي إلاّ بأن أنسبك إلى ما لا يجمل بك ، فقال : لا أبالي ، فدس الصاع في رحله ، وهو المراد بالسقاية وأصلها المشربة التي يشرب بها جعلت صاعاً يكال به . وقيل : كان تسقى بها الدوابّ ويكال بها الحبّ ، وقيل : كانت من فضة . وقيل : كانت من ذهب ، وقيل غير ذلك . وقد تقدم تفسير الجهاز والرحل ، والمعنى : أنه جعل السقاية التي هو الصواع في رحل أخيه الذي هو الوعاء الذي يجعل فيه ما يشتريه من الطعام من مصر { ثُمَّ } بعد ذلك { أَذَّنَ مُؤَذّنٌ } أي : نادى منادٍ قائلاً { أَيَّتُهَا العير } قال الزجاج : معناه يا أصحاب العير ، وكل ما امتير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير . وقيل : هي قافلة الحمير . وقال أبو عبيدة : العير الإبل المرحولة المركوبة { إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } نسبة السرق إليهم على حقيقتها؛ لأن المنادي غير عالم بما دبره يوسف . وقيل : إن المعنى إن حالكم حال السارقين كون الصواع صار لديكم من غير رضا من الملك .
{ قَالُواْ } أي : إخوة يوسف { وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ } أي حال كونهم مقبلين على من نادى منهم المنادي من أصحاب الملك { مَّاذَا تَفْقِدُونَ } أي : ما الذي فقدتموه؟ يقال : فقدت الشيء : إذا عدمته بضياع أونحوه ، فكأنهم قالوا ماذا ضاع عليكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة { قَالُواْ } في جوابهم { نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك } . قرأ يحيى بن يعمر « صواغ » بالغين المعجمة ، وقرأ أبو رجاء « صُوع » بضم الصاد المهملة وسكون الواو بعدها عين مهملة . وقرأ أبيّ « صياع » . وقرأ أبو جعفر : « صاع » ، وبها قرأ أبو هريرة ، وقرأ الجمهور : { صواع } بالصاد والعين المهملتين ، قال الزجاج : الصواع : هو الصاع بعينه ، وهو يذكر ويؤنث ، وهو السقاية ، ومنه قول الشاعر :
نشرب الخمر بالصواع جهارا ... { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } أي قالوا : ولمن جاء بالصواع من جهة نفسه حمل بعير . والبعير : الجمل ، وفي لغة بعض العرب أنه الحمار ، والمراد بالحمل ها هنا : ما يحمله البعير من الطعام ، ثم قال المنادي { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } أي : بحمل البعير الذي جعل لمن جاء بالصواع قبل التفتيش للأوعية ، والزعيم هو الكفيل ، ولعل القائل : { نفقد صواع الملك } هو المنادي ، وإنما نسب القول إلى الجماعة لكونه واحداً منهم ، ثم رجع الكلام إلى نسبة القول إلى المنادي وحده ، لأنه القائل بالحقيقة .

{ قَالُواْ تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الأرض } التاء بدل من واو القسم عند الجمهور . وقيل : من الباء ، وقيل : أصل بنفسها ، ولا تدخل إلاّ على هذا الاسم الشريف دون سائر أسمائه سبحانه ، وقد دخلت نادراً على الرب ، وعلى الرحمن ، والكلام على هذا مستوفي في علم الإعراب ، وجعلوا المقسم عليه هو علم يوسف وأصحابه بنزاهة جانبهم ، وطهارة ذيلهم ، عن التلوّث بقذر الفساد في الأرض ، الذي من أعظم أنواعه السرقة . لأنهم قد شاهدوا منهم في قدومهم عليه المرّة الأولى ، وهذه المرّة من التعفف والزهد عما هو دون السرقة ، بمراحل ما يستفاد منه العلم الجازم بأنهم ليسوا بمن يتجارأ على هذا النوع العظيم من أنواع الفساد ، ولو لم يكن من ذلك إلاّ ردّهم لبضاعتهم التي وجدوها في رحالهم ، والمراد بالأرض هنا : أرض مصر . ثم أكدوا هذه الجملة التي أقسموا بالله عليها بقولهم : { وَمَا كُنَّا سارقين } لزيادة التبرّي مما قذفوهم به والتنزه عن هذه النقيصة الخسيسة والرذيلة الشنعاء .
{ قَالُواْ فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كاذبين } هذه الجملة مستأنفة كما تقدّم غير مرّة في نظائرها . والقائلون : هم أصحاب يوسف ، أو المنادي منهم وحده كما مرّ ، والضمير في { جزاؤه } للصواع على حذف مضاف أي : فما جزاء سرقة الصواع عندكم ، أو الضمير للسارق ، أي : فما جزاء سارق الصواع عندكم { إِن كُنتُمْ كاذبين } فيما تدّعونه لأنفسكم من البراءة عن السرقة ، وذلك بأن يوجد الصواع معكم ، فأجاب أخوة يوسف وقالوا : { جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } أي : جزاء سرقة الصواع ، أو جزاء سارق الصواع . وجزاؤه مبتدأ ، والجملة الشرطية : وهي { من وجد في رحله فهو جزاؤه } خبر المبتدأ ، على إقامة الظاهر مقام المضمر فيها ، والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو ، فيكون الضمير الثاني عائداً إلى المبتدأ ، والأوّل إلى « من » ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ : و { من وجد في رحله } والتقدير : جزاء السرقة للصواع أخذ من وجد في رحله ، وتكون جملة { فهو جزاؤه } لتأكيد الجملة الأولى ، وتقريرها . قال الزجاج : وقوله : { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } زيادة في البيان أي : جزاؤه أخذ السارق فهو جزاؤه لا غير . قال المفسرون : وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترقّ سنة ، فلذلك استفتوهم في جزائه { كذلك نَجْزِى الظالمين } أي : مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الظالمين لغيرهم من الناس بسرقة أمتعتهم ، وهذه الجملة مؤكدة لما قبلها إذا كانت من كلام إخوة يوسف ، ويجوز أن تكون من كلام أصحاب يوسف ، أي : كذلك نحن نجزي الظالمين بالرق . ثم لما ذكروا جزاء السارق أرادوا أن يفتشوا أمتعتهم حتى يتبين الأمر ، فأقبل يوسف على ذلك ، فبدأ بتفتيش { أوعيتهم } أي : أوعية الإخوة العشرة { قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ } أي : قبل تفتيشه لوعاء أخيه بنيامين دفعاً للتهمة ورفعاً لما دبره من الحيلة { ثُمَّ استخرجها } أي : السقاية أو الصواع؛ لأنه يذكر ويؤنث { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } أي : مثل ذلك الكيد العجيب كدنا ليوسف يعني : علمناه إياه أوحيناه إليه ، والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ، ونهايته إلقاء المخدوع من حيث لا يشعر في أمر مكروه لا سبيل إلى دفعه ، وهو محمول في حق الله سبحانه على النهاية لا على البداية ، قال القتيبي : معنى { كدنا } دبرنا ، وقال ابن الأنباري : أردنا .

وفي الآية دليل على جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما صورته صورة الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف ذلك شرعاً ثابتاً .
{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } أي : ما كان يوسف ليأخذ أخاه بنيامين في دين الملك ، أي : ملك مصر ، وفي شريعته التي كان عليها ، بل كان دينه وقضاؤه أن يضرب السارق ويغرم ضعف ما سرقه دون الاستعباد سنة ، كما هو دين يعقوب وشريعته ، وحاصله أن يوسف ما كان يتمكن من إجراء حكم يعقوب على أخيه مع كونه مخالفاً لدين الملك وشريعته لولا ما كاد الله له ودبره وأراده حتى وجد السبيل إليه ، وهو ما أجراه على ألسن إخوته من قولهم : إن جزاء السارق الاسترقاق ، فكان قولهم هذا هو بمشيئة الله وتدبيره ، وهو معنى قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } أي : إلا حال مشيئته وإذنه بذلك وإرادته له ، وهذه الجملة : أعني { ما كان ليأخذ أخاه } إلخ ، تعليل لما صنعه الله من الكيد ليوسف ، أو تفسير له { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } بضروب العلوم والمعارف والعطايا والكرامات كما رفعنا درجة يوسف بذلك { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ } ممن رفعه الله بالعلم { عَلِيمٌ } أرفع رتبة منهم وأعلى درجة لا يبلغون مداه ، ولا يرتقون شأوه . وقيل : معنى ذلك أن فوق كل أهل العلم عليم وهو الله سبحانه .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَقَالَ يا بَنِى لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } قال : رهب يعقوب عليهم العين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن محمد بن كعب قال : خشي عليهم العين . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن النخعي في قوله : { وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ } قال : أحب يعقوب أن يلقى يوسف أخاه في خلوة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } قال : خيفة العين على بنيه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لّمَا عَلَّمْنَاهُ } قال : إنه لعامل بما علم ، ومن لا يعمل لا يكون عالماً . وأخرج هؤلاء عنه في قوله : { آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } قال : ضمه إليه ، وفي قوله : { فَلاَ تَبْتَئِسْ } قال : لا تحزن ولا تيأس ، وفي قوله : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } قال : قضى حاجتهم ، وكال لهم طعامهم ، وفي قوله : { جَعَلَ السقاية } قال : هو إناء الملك الذي يشرب منه { فِى رَحْلِ أَخِيهِ } قال : في متاع أخيه .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عباس في قوله : { جَعَلَ السقاية } قال : هو الصواع ، وكل شيء يشرب منه فهو صواع . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن جرير ، ابن أبي حاتم عن ابن زيد نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { أَيَّتُهَا العير } قال : كانت العير حميراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } قال : حمل حمار طعام ، وهي لغة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } يقول : كفيل . وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك مثله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس في قوله : { مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الارض } يقول : ما جئنا لنعصي في الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { فَمَا جَزَاؤُهُ } قال : عرفوا الحكم في حكمهم فقالوا : من وجد في رحله فهو جزاؤه . وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يؤخذ السارق بسرقته عبداً يسترقّ . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ } قال : ذكر لنا أنه كان كلما فتح متاع رجل استغفر تأثماً مما صنع حتى بقي متاع الغلام قال : ما أظن أن هذا أخذ شيئاً . قالوا : بلى فاستبره .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } قال : كذلك صنعنا ليوسف { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } يقول : في سلطان الملك . قال : كان في دين ملكهم أنه من سرق أخذت منه السرقة ومثلها معها من ماله فيعطيه المسروق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك } يقول : في سلطان الملك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { إِلاَّ أَن يَشَاء الله } قال : إلا بعلة كادها الله ليوسف فاعتلّ بها . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه في قوله : { نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء } قال : يوسف وإخوته أوتوا علماً فرفعنا يوسف في العلم فوقهم درجة .

وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس فحدث بحديث ، فقال رجل عنده : { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } فقال ابن عباس : بئس ما قلت . الله العليم الخبير ، وهو فوق كل عالم . وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب قال : سأل رجل علياً عن مسألة ، فقال فيها ، فقال الرجل ليس هكذا ولكن كذا وكذا ، قال عليّ : أصبت وأخطأت { وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عكرمة في قوله : { وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قال : علم الله فوق كل عالم .

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)

قوله : { قَالُواْ إِن يَسْرِقْ } أي بنيامين { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } يعنون يوسف .
وقد اختلف المفسرون في هذه السرقة التي نسبوها إلى يوسف ما هي؟ فقيل : إنه كان ليوسف عمة هي أكبر من يعقوب ، وكانت عندها منطقة إسحاق لكونها أسنّ أولاده وكانوا يتوارثونها فيأخذها الأكبر سناً ، من ذكر أو أنثى ، وكانت قد حضنت يوسف وأحبته حباً شديداً ، فلما ترعرع قال لها يعقوب : سلِّمي يوسف إليّ فأشفقت من فراقه ، واحتالت في بقائه لديها ، فجعلت المنطقة تحت ثيابه وحزمته بها ، ثم قالت : قد سرقت منطقة إسحاق فانظروا من سرقها ، فبحثوا عنها فوجدوها مع يوسف فأخذته عندها كما هو شرع الأنبياء في ذلك الوقت من آل إبراهيم . وقد سبق بيان شريعتهم في السرقة ، وقيل : إن يوسف أخذ صنماً كان لجدّه - أبي أمه - فكسره وألقاه على الطريق تغييراً للمنكر . وحكي عن الزجاج أنه كان صنماً من ذهب . وحكى الواحدي عن الزجاج أنه قال : الله أعلم ، أسرق أخ له أم لا؟ وحكى القرطبي في تفسيره عن الزجاج أنه قال : كذبوا عليه فيما نسبوه إليه ، قلت : وهذا أولى ، فما هذه الكذبة بأوّل كذباتهم ، وقد قدّمنا ما يدفع قول من قال : إنهم قد كانوا أنبياء عند صدور هذه الأمور منهم .
قوله : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ } قال الزجاج وغيره : الضمير في أسرّها يعود إلى الكلمة أو الجملة ، كأنه قيل : فأسرّ الجملة في نفسه { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } ثم فسرها بقوله : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } وقد ردّ أبو عليّ الفارسي هذا فقال : إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل . وقيل : الضمير عائد إلى الإجابة ، أي : أسرّ يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر ، وقيل : أسرّ في نفسه قولهم : { إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } . وهذا هو الأولى ، ويكون معنى { وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } أنه لم يبد لهم هذه المقالة التي أسرّها في نفسه بأن يذكر لهم صحتها ، أو بطلانها ، وجملة { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } مفسرة على القول الأوّل ، ومستأنفة على القولين الآخرين ، كأنه قيل : فماذا قال يوسف لما قالوا هذه المقالة؟ أي : { أنتم شرّ مكانا } أي : موضعاً ومنزلاً ممن نسبتموه إلى السرقة وهو بريء ، فإنكم قد فعلتم ما فعلتم من إلقاء يوسف إلى الجبّ ، والكذب على أبيكم وغير ذلك من أفاعيلكم ، ثم قال : { والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } من الباطل بنسبة السرقة إلى يوسف ، وأنه لا حقيقة لذلك .
ثم أرادوا أن يستعطفوه ليطلق له أخاهم بنيامين يكون معهم يرجعون به إلى أبيهم لما تقدّم من أخذه الميثاق عليهم بأن يردّوه إليه ، فقالوا : { يأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا } أي : إن لبنيامين هذا أباً متصفاً بهذه الصفة ، وهي كونه شيخاً كبيراً لا يستطيع فراقه ولا يصبر عنه ، ولا يقدر على الوصول إليه { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } يبقى لديك ، فإن له منزلة في قلب أبيه ليست لواحد منا فلا يتضرّر بفراق أحدنا كما لا يتضرّر بفراق بنيامين ، ثم عللوا ذلك بقوله : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } إلى الناس كافة ، وإلينا خاصة ، فنعم إحسانك إلنيا بإجابتنا إلى هذا المطلب ، فأجاب يوسف عليهم بقوله : { مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا متاعنا عِندَهُ } أي : نعوذ بالله معاذاً ، فهو مصدر منصوب بفعل محذوف ، والمستعيذ بالله هو المعتصم به ، وأن نأخذ منصوب بنزع الخافض ، والأصل من أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده ، وهو بنيامين لأنه الذي وجد الصواع في رحله فقد حلّ لنا استعباده بفتواكم التي أفتيتموها بقولكم : { جَزاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ } .

{ إِنَّا إِذًا لظالمون } أي : إنا إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده لظالمون في دينكم وما تقتضيه فتواكم .
{ فَلَمَّا استيأسوا منه } أي : يئسوا من يوسف وإسعافهم منه إلى مطلبهم الذي طلبوه ، والسين والتاء للمبالغة { خَلَصُواْ نَجِيّا } أي : انفردوا حال كونهم متناجين فيما بينهم ، وهو مصدر يقع على الواحد والجمع كما في قوله : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] . قال الزجاج : معناه انفردوا وليس معهم أخوهم متناجين فيما يعملون به في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم { قَالَ كَبِيرُهُمْ } ، قيل : هو « روبيل » لأنه الأسنّ ، وقيل : « يهوذا » لأنه الأوفر عقلاً ، وقيل : « شمعون » لأنه رئيسهم { أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مّنَ الله } أي : عهداً من الله في حفظ ابنه وردّه إليه ، ومعنى كونه من الله أنه بإذنه { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ } معطوف على ما قبله . والتقدير : ألم تعلموا أن أباكم وتعلموا تفريطكم في يوسف ، ذكر هذا النحاس وغيره ، و { من قبل } متعلقة ب { تعلموا } أي : وتعلموا تفريطكم في يوسف من قبل ، على أن « ما » مصدرية ، ويجوز أن تكون زائدة ، وقيل : { ما فرّطتم } مرفوع المحل على الابتداء ، وخبره { من قبل } وقيل : إن « ما » موصولة ، أو موصوفة ، وكلاهما في محل النصب أو الرفع ، وما ذكرناه هو الأولى ، ومعنى { فرطتم } : قصرتم في شأنه ، ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } . يقال : برح براحاً وبروحاً ، أي زال ، فإذا دخله النفي صار مثبتاً أي : لن أبرح من الأرض ، بل ألزمها ولا أزال مقيماً فيها { حتى يَأْذَنَ لِى أَبِى } في مفارقتها والخروج منها ، وإنما قال ذلك لأنه يستحي من أبيه أن يأتي إليه بغير ولده الذي أخذ عليهم الموثق بإرجاعه إليه إلاّ أن يحاط بهم كما تقدّم ، { أَوْ يَحْكُمَ الله لِى } بمفارقتها والخروج منها ، وقيل : المعنى : أو يحكم الله لي بخلاص أخي من الأسر حتى يعود إلى أبي وأعود معه ، وقيل : المعنى : أو يحكم الله لي بالنصر على من أخذ أخي فأحاربه وآخذ أخي منه ، أو أعجز فأنصرف بعد ذلك { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } لأن أحكامه لا تجري إلاّ على ما يوافق الحق ، ويطابق الصواب .

ثم قال كبيرهم مخاطباً لهم { ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابنك سَرَقَ } : قرأ الجمهور { سرق } على البناء للفاعل ، وذلك لأنهم قد شاهدوا استخراج الصواع من وعائه . وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين على البناء للمفعول ، وروى ذلك النحاس عن الكسائي . قال الزجاج : إنّ سرق يحتمل معنيين : أحدهما علم منه السرق ، والآخر اتهم بالسرق { وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } من استخراج الصواع من وعائه ، وقيل المعنى : ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من شريعتك وشريعة آبائك { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين } حتى يتضح لنا هل الأمر على ما شاهدناه أو على خلافه؟ وقيل : المعنى ما كنا وقت أخذنا له منك ليخرجا معنا إلى مصر للغيب حافظين بأنه سيقع منه السرق الذي افتضحنا به . وقيل : الغيب هو الليل ، ومرادهم أنه سرق وهم نيام ، وقيل : مرادهم أنه فعل ذلك وهو غائب عنهم ، فخفي عليهم فعله .
{ واسئل القرية التى كُنَّا فِيهَا } هذا من تمام قول كبيرهم لهم أي : قولوا لأبيكم : أسأل القرية التي كنا فيها أي : مصر ، والمراد أهلها أي : أسأل أهل القرية؛ وقيل : هي قرية من قرى مصر نزلوا فيها وامتاروا منها . وقيل : المعنى : واسأل القرية نفسها وإن كانت جماداً فإنك نبيّ الله ، والله سبحانه سينطقها فتجيبك . ومما يؤيد هذا أنه قال سيبويه : لا يجوز كلم هنداً وأنت تريد غلام هند { والعير التى أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي : وقولوا لأبيكم اسأل العير التي أقبلنا فيها أي : أصحابها وكانوا قوماً معروفين من جيران يعقوب { وِإِنَّا لصادقون } فيما قلنا . جاءوا بهذه الجملة مؤكدة هذا التأكيد ، لأن ما قد تقدّم منهم مع أبيهم يعقوب يوجب كمال الريبة في خبرهم هذا عند السامع .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } قال : يعنون يوسف . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : سرق مكحلة لخالته ، يعني : يوسف . وأخرج أبو الشيخ عن عطية قال : سرق في صباه ميلين من ذهب . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سرق يوسف صنماً لجدّه - أبى أمه - من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره بذلك إخوته »

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير مثله غير مرفوع ، وقد روى نحوه عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ } قال : أسرّ في نفسه قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن قتادة مثله .
وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق في قوله : { فلما استيأسوا منه } قال : أيسوا منه ، ورأوا شدّته في أمره . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { خَلَصُواْ نَجِيّا } قال : وحدهم . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { قَالَ كَبِيرُهُمْ } قال « شمعون » الذي تخلف ، أكبرهم عقلاً ، وأكبر منه في الميلاد « روبيل » . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة قال : كبيرهم هو « روبيل » ، وهو الذي كان نهاهم عن قتله ، وكان أكبر القوم . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أَوْ يَحْكُمَ الله لِى } قال : أقاتل بسيفي حتى أقتل . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن أبي صالح نحوه .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافظين } قال : ما كنا نعلم أن ابنك يسرق . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { واسئل القرية } قال : يعنون مصر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة مثله .

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

قوله : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا } أي : زينت ، والأمر هنا قولهم : { إِنَّ ابنك سَرَقَ } وما سرق في الحقيقة ، وقيل : المراد بالأمر إخراجهم بنيامين ، والمضي به إلى مصر طلباً للمنفعة فعاد ذلك بالمضرّة . وقيل : التسويل : التخييل ، أي : خيلت لكم أنفسكم أمراً لا أصل له . وقيل : الأمر الذي سوّلت لهم أنفسهم : فتياهم بأن السارق يؤخذ بسرقته ، والإضراب هنا هو باعتبار ما أثبتوه من البراءة لأنفسهم ، لا باعتبار أصل الكلام فإنه صحيح ، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال مقدّر كغيرها ، وجملة : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ خبره محذوف أي : فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل بي ، وأولى لي ، والصبر الجميل : هو الذي لا يبوح صاحبه بالشكوى ، بل يُفوّضُ أمره إلى الله ويسترجع ، وقد ورد أن الصبر عند أوّل الصدمة { عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } أي : بيوسف وأخيه بنيامين ، والأخ الثالث الباقي بمصر ، وهو كبيرهم كما تقدّم ، وإنما قال هكذا لأنه قد كان عنده أن يوسف لم يمت ، وأنه باقٍ على الحياة وإن غاب عنه خبره { إِنَّهُ هُوَ العليم } بحالي ، { الحكيم } فيما يقضي به { وتولى عَنْهُمْ } أي : أعرض عنهم ، وقطع الكلام معهم وقال : { يا أسفا على يوسف } . قال الزجاج : الأصل يا أسفي ، فأبدل من الياء ألفاً لخفة الفتحة ، والأسف : شدة الجزع . وقيل : شدة الحزن ، ومنه قول كثير :
فيا أسفا للقلب كيف انصرافه ... وللنفس لما سليت فتسلت
قال يعقوب هذه المقالة لما بلغ منه الحزن غاية مبالغة بسبب فراقه ليوسف ، وانضمام فراقه لأخيه بنيامين ، وبلوغ ما بلغه من كونه أسيراً عند ملك مصر ، فتضاعفت أحزانه ، وهاج عليه الوجد القديم بما أثاره من الخبر الأخير . وقد روي عن سعيد بن جبير : أن يعقوب لم يكن عنده ما ثبت في شريعتنا من الاسترجاع ، والصبر على المصائب ، ولو كان عنده ذلك لما قال : { يا أسفا على يوسف } . ومعنى المناداة للأسف طلب حضوره ، كأنه قال : تعال يا أسفي ، وأقبل إليّ { وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن } أي : انقلب سواد عينيه بياضاً من كثرة البكاء . قيل : إنه زال إدراكه بحاسة البصر بالمرة . وقيل : كان يدرك إدراكاً ضعيفاً . وقد قيل في توجيه ما وقع من يعقوب عليه السلام من هذا الحزن العظيم المفضي إلى ذهاب بصره كلاً أو بعضاً بأنه : إنما وقع منه ذلك لأنه علم أن يوسف حيّ ، فخاف على دينه مع كونه بأرض مصر وأهلها حينئذٍ كفار . وقيل : إن مجرد الحزن ليس بمحرّم ، وإنما المحرّم ما يفضي منه إلى الوله وشق الثياب والتكلم بما لا ينبغي ، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند موت ولده إبراهيم :

« تدمع العين ، ويحزن القلب ، ولا نقول ما يسخط الربّ ، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزنون » ويؤيد هذا قوله : { فَهُوَ كَظِيمٌ } أي : مكظوم ، فإن معناه : أنه مملوء من الحزن ممسك له لا يبثه ، ومنه كظم الغيظ وهو إخفاؤه ، فالمكظوم المسدود عليه طريق حزنه ، من كظم السقاء : إذا سدّه على ما فيه ، والكظم بفتح الظاء . مخرج النفس ، يقال : أخذ بأكظامه ، وقيل : الكظيم بمعنى الكاظم / أي : المشتمل على حزنه ، الممسك له ، ومنه :
فإن أك كاظما لمصاب ناسٍ ... فإني اليوم منطلق لساني
ومنه { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] . وقال الزجاج : معنى كظيم : محزون . وروي عن ابن عباس أنه قال : معناه : مغموم مكروب . قال بعض أهل اللغة : الحزن بالضم والسكون : البكاء ، وبفتحتين : ضدّ الفرح ، وقال أكثر أهل اللغة : هما لغتان : { قَالُواْ تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي : لا تفتأ ، فحذف حرف النفي لعدم اللبس . قال الكسائي : فتأت وفتئت أفعل كذا ، أي : مازلت . وقال الفراء : إن « لا » مضمرة ، أي : لا تفتأ . قال النحاس : والذي قال صحيح . وقد روي عن الخليل وسيبويه مثل قول الفراء ، وأنشد الفراء محتجاً على ما قاله :
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
ويقال : فتيء ، وفتأ لغتان ، ومنه قول الشاعر :
فما فتئت حتى كأن غبارها ... سرادق يوم ذي رياح ترفع
{ حتى تَكُونَ حَرَضاً } الحرض مصدر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، والصفة المشبهة ، حرض بكسر الراء كدنف ودنف ، وأصل الحرض : الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم ، حكي ذلك عن أبي عبيدة وغيره ، ومنه قول الشاعر :
سرى همي فأمرضني ... وقدماً زادني مرضا
كذاك الحب قبل اليو ... م ممَّ يورث الحرضَا
وقيل : الحرض ما دون الموت ، وقيل : الهرم ، وقيل : الحارض : البالي الدائر . وقال الفراء : الحارض : الفاسد الجسم والعقل ، وكذا الحرض . وقال مؤرج : هو الذائب من الهمّ ، ويدّل عليه قول الشاعر :
إني امرؤ لجّ بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم
ويقال : رجل محرض ، ومنه قول الشاعر :
طلبته الخيل يوماً كاملا ... ولو ألفته لأضحى محرضا
قال النحاس : وحكى أهل اللغة أحرضه الهمّ : إذا أسقمه ، ورجل حارض : أي أحمق . وقال الأخفش : الحارض الذاهب . وقال ابن الأنباري : هو الهالك . والأولى تفسير الحرض هنا بغير الموت والهلاك من هذه المعاني المذكورة حتى يكون لقوله : { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } معنى غير معنى الحرض ، فالتأسيس أولى من التأكيد ، ومعنى { من الهالكين } : من الميتين ، وغرضهم منع يعقوب من البكاء والحزن شفقة عليه وإن كانوا هم سبب أحزانه ومنشأ همومه وغمومه .
{ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } هذه الجملة مستأنفة ، كأنه قيل : فما قال يعقوب لما قالوا له ما قالوا؟ والبث : ما يرد على الإنسان من الأشياء التي يعظم حزن صاحبها بها حتى لا يقدر على إخفائها ، كذا قال أهل اللغة ، وهو مأخوذ من بثثته ، أي : فرقته ، فسميت المصيبة بثاً مجازاً ، قال ذو الرّمة :

وقفتُ على ربَع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجارُهُ ومَلاعبُه
وقد ذكر المفسرون : أن الإنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان ذلك حزناً ، وإن لم يقدر على كتمه كان ذلك بثاً ، فالبثّ على هذا : أعظم الحزن وأصعبه ، وقيل : البثّ الهمّ؛ وقيل : هو الحاجة . وعلى هذا القول يكون عطف الحزن على البثّ واضح المعنى . وأما على تفسير البث بالحزن العظيم ، فكأنه قال : إنما أشكو حزني العظيم وما دونه من الحزن إلى الله لا إلى غيره من الناس . وقد قرىء { حزني } بضم الحاء وسكون الزاي و « حزني » بفتحهما { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : أعلم من لطفه وإحسانه وثوابه على المصيبة ما لا تعلمونه أنتم . وقيل : أراد علمه بأن يوسف حيّ . وقيل : أراد علمه بأن رؤياه صادقة . وقيل : أعلم من إجابة المضطرين إلى الله ما لا تعلمون .
{ يا بني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } التحسس بمهملات : طلب الشيء بالحواس ، مأخوذ من الحسّ ، أو من الإحساس أي : اذهبوا فتعرّفوا خبر يوسف وأخيه وتطلبوه . وقرىء بالجيم ، وهو أيضاً التطلب { وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } أي : لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه . قال الأصمعي : الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه ، والتركيب يدل على الحركة والهزة ، فكل ما يهتز الإنسان بوجوده ويلتذ به فهو روح . وحكى الواحدي عن الأصمعي أيضاً أنه قال : الروح : الاستراحة من غمّ القلب ، وقال أبو عمرو : الروح : الفرج ، وقيل : الرحمة { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } لكونهم لا يعلمون بقدرة الله سبحانه ، وعظيم صنعه ، وخفيّ ألطافه .
قوله : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } أي : على يوسف ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فذهبوا كما أمرهم أبوهم إلى مصر ليتحسسوا من يوسف وأخيه ، فلما دخلوا على يوسف { قَالُواْ أَيُّهَا العزيز } أي : الملك الممتنع القادر { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } أي : الجوع والحاجة ، وفيه دليل على أنه تجوز الشكوى عند الضرورة إذا خاف من إصابته على نفسه ، كما يجوز للعليل أن يشكو إلى الطبيب ما يجده من العلة ، وهذه المرّة التي دخلوا فيها مصر هي المرّة الثالثة ، كما يفيده ما تقدّم من سياق الكتاب العزيز { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } البضاعة هي القطعة من المال يقصد بها شراء شيء ، يقال : أبضعت الشيء واستبضعته : إذا جعلته بضاعة . وفي المثل : كمستبضع التمر إلى هجر . والإزجاء : السوق بدفع . قال الواحدي : الإزجاء في اللغة : السوق والدفع قليلاً قليلاً ، ومنه قوله تعالى :

{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِى سَحَاباً } [ النور : 43 ] ، والمعنى : أنها بضاعة تدفع ولا يقبلها التجار . قال ثعلب : البضاعة المزجاة الناقصة غير التامة . قال أبو عبيدة : إنما قيل للدراهم الرديئة : مزجاة لأنها مردودة مدفوعة غير مقبولة .
واختلف في هذه البضاعة ما هي؟ فقيل : كانت قديداً وحيساً ، وقيل : صوف وسمن ، وقيل : الحبة الخضراء والصنوبر ، وقيل : دراهم رديئة ، وقيل : النعال والأدم . ثم طلبوا منه بعد أن أخبروه بالبضاعة التي معهم أن يوفي لهم الكيل ، أي : يجعله تاماً لا نقص فيه ، وطلبوا منه أن يتصدّق عليهم إما بزيادة يزيدها لهم على ما يقابل بضاعتهم ، أو بالإغماض عن رداءة البضاعة التي جاءوا بها ، وأن يجعلها كالبضاعة الجيدة في إيفاء الكيل لهم بها ، وبهذا قال أكثر المفسرين . وقد قيل : كيف يطلبون التصدّق عليهم وهم أنبياء والصدقة محرّمة على الأنبياء . وأجيب باختصاص ذلك بنبينا صلى الله عليه وسلم ، { إِنَّ الله يَجْزِى المتصدقين } بما يجعله لهم من الثواب الأخروي ، أو التوسيع عليهم في الدنيا .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا } قال : يوسف وأخيه وروبيل . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : يوسف وأخيه وكبيرهم الذي تخلف ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { يا أسفا على يُوسُفَ } قال : يا حزناً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة مثله . وأخرجوا عن مجاهد قال : يا جزعاً .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فَهُوَ كَظِيمٌ } قال : حزين . وأخرج ابن المبارك ، وعبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة قال : كظم على الحزن فلم يقل إلاّ خيراً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : كظيم مكروب . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الضحاك قال : الكظيم : الكمد . وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { تالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } قال : لا تزال تذكر يوسف { حتى تَكُونَ حَرَضاً } قال : دنفاً من المرض . { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } قال : الميتين . وأخرج هؤلاء عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ } قال : لا تزال تذكر يوسف { حتى تَكُونَ حَرَضاً } قال : هرماً { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } قال : أو تموت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الضحاك { حتى تَكُونَ حَرَضاً } قال : الحرض : البالي { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } قال : من الميتين .

وأخرج ابن جرير ، وعبد الرزاق عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من بث لم يصبر ، » ثم قرأ { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } وأخرج ابن منده في المعرفة عن مسلم بن يسار عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره . وأخرج ابن مردويه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً مثله . وأخرجه ابن المنذر ، وابن مردويه عن عبد الرحمن بن يعمر مرفوعاً مرسلاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى } قال : همي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة ، وأني سأسجد له .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في قوله : { وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } قال : من رحمة الله . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك مثله . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال : من فرج الله يفرج عنكم الغم الذي أنتم فيه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } قال : أي الضرّ في المعيشة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بِبِضَاعَةٍ } قال : دراهم { مُّزْجَاةٍ } قال : كاسدة . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه قال : { مزجاة } رثة المتاع ، خلقة الحبل والغرارة والشيء . وأخرج أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه أيضاً { مزجاة } قال : الورق الزيوف التي لا تنفق حتى يوضع منها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن ابن جرير في قوله : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا } قال : أردد علينا أخانا .

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

الاستفهام في قوله : { هَلْ عَلِمْتُمْ } للتوبيخ والتقريع ، وقد كانوا عالمين بذلك ، ولكنه أراد ما ذكرناه ، ويستفاد منه تعظيم الواقعة لكونه في قوّة : ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وأخيه ، وما أقبح ما أقدمتم عليه؟ كما يقال للمذنب : هل تدري من عصيت؟ والذي فعلوا بيوسف هو ما تقدّم مما قصه الله سبحانه علينا في هذه السورة ، وأما ما فعلوا بأخيه ، فقال جماعة من المفسرين : هو ما أدخلوه عليه من الغمّ بفراق أخيه يوسف ، وما كان يناله منهم من الاحتقار والإهانة ، ولم يستفهمهم عما فعلوا بأبيهم يعقوب ، مع أنه قد ناله منهم ما قصه الله فيما سبق من صنوف الأذى . قال الواحدي : ولم يذكر أباه يعقوب مع عظم ما دخل عليه من الغمّ بفراقه تعظيماً له ، ورفعاً من قدره ، وعلماً بأن ذلك كان بلاء له من الله عزّ وجلّ ليزيد في درجته عنده { إِذْ أَنتُمْ جاهلون } نفى عنهم العلم ، وأثبت لهم صفة الجهل ، لأنهم لم يعملوا بما يقتضيه العلم ، وقيل : إنه أثبت لهم صفة الجهل لقصد الاعتذار عنهم ، وتخفيف الأمر عليهم ، فكأنه قال : إنما أقدمتم على هذا الفعل القبيح المنكر وقت عدم علمكم بما فيه من الإثم ، وقصور معارفكم عن عاقبته ، وما يترتب عليه ، أو أراد عند ذلك في أوان الصبا وزمان الصغر ، اعتذاراً لهم ، لما يدهمهم من الخجل والحيرة مع علمه وعلمهم بأنهم كانوا في ذلك الوقت كباراً .
{ قَالُواْ أَءنَّكَ لاَنتَ يُوسُفُ } . قرأ ابن كثير « إنك » على الخبر بدون استفهام . وقرأ الباقون على الاستفهام التقريري ، وكان ذلك منهم على طريق التعجب والاستغراب . قيل : سبب معرفتهم له بمجرد قوله لهم : { مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ } أنهم لما قال لهم ذلك تنبهوا وفهموا أنه لا يخاطبهم بمثل هذا إلاّ هو . وقيل : إنه لما قال لهم بهذه المقالة وضع التاج عن رأسه فعرفوه . وقيل : إنه تبسم فعرفوا ثناياه { قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِى } أجابهم بالاعتراف بما سألوه عنه . قال ابن الأنباري : أظهر الاسم فقال : أنا يوسف ، ولم يقل : أنا هو ، تعظيماً لما وقع به من ظلم إخوته ، كأنه قال : أنا المظلوم المستحل منه المحرم ، والمراد قتله . فاكتفى بإظهار الاسم عن هذه المعاني ، وقال : وهذا أخي مع كونهم يعرفونه ولا ينكرونه؛ لأن قصده وهذا أخي المظلوم كظلمي ، { قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا } بالخلاص عما ابتلينا به ، وقيل : منّ الله علينا بكل خير في الدنيا والآخرة . وقيل : بالجمع بيننا بعد التفرق ، ولا مانع من إرادة جميع ذلك { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } . قرأ الجمهور بالجزم على أن « من » شرطية . وقرأ ابن كثير بإثبات الياء في يتقي .

كما في قول الشاعر :
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبونُ بني زياد
وقيل إنه جعل « من » موصولة لا شرطية ، وهو بعيد . والمعنى : إنه من يفعل التقوى أو يفعل ما يقيه عن الذنوب ويصبر على المصائب { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } على العموم ، فيدخل فيه ما يفيده السياق دخولاً أوّلياً ، وجاء بالظاهر ، وكان المقام مقام المضمر ، أي : أجرهم للدلالة على أن الموصوفين بالتقوى موصوفون بصفة الإحسان { قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا } أي : لقد اختارك وفضلك علينا بما خصك به من صفات الكمال ، وهذا اعتراف منهم بفضله وعظيم قدره ، ولا يلزم من ذلك ألا يكونوا أنبياء ، فإن درج الأنبياء متفاوتة ، قال الله تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] { وَإِن كُنَّا لخاطئين } أي : وإن الشأن ذلك . قال أبو عبيدة : خطىء وأخطأ بمعنى واحد . وقال الأزهري : المخطىء من أراد الصواب فصار إلى غيره ، ومنه قولهم : المجتهد يخطىء ويصيب ، والخاطىء من تعمد ما لا ينبغي . قالوا هذه المقالة المتضمنة للاعتراف بالخطأ والذنب استجلاباً لعفوه واستجذاباً لصفحه .
{ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ } التثريب التعيير والتوبيخ أي : لا تعيير ولا توبيخ ، ولا لوم عليكم . قال الأصمعي : ثربت عليه : قبحت عليه فعله . وقال الزجاج : المعنى لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوّة ، ولكم عندي الصلح والعفو ، وأصل التثريب : الإفساد ، وهي لغة أهل الحجاز . وقال ابن الأنباري : معناه . قد انقطع عنكم توبيخي عند اعترافكم بالذنب . قال ثعلب : ثرب فلان على فلان إذا عدّد عليه ذنوبه ، وأصل التثريب من الثرب ، وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ، ومعناه : إزالة التثريب ، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع ، وانتصاب { اليوم } بالتثريب ، أي : لا أثرب عليكم أو منتصب بالعامل المقدّر في { عليكم } وهو مستقرّ أو ثابت أو نحوهما ، أي : لا تثريب مستقر أو ثابت عليكم . وقد جوّز الأخفش الوقف على { عليكم } فيكون : اليوم متعلق بالفعل الذي بعده . وقد ذكر مثل هذا ابن الأنباري ، ثم دعا لهم بقوله : { يَغْفِرَ الله لَكُمْ } على تقدير الوقف على اليوم ، أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على { اليوم } ، أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على { عليكم } { وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين } يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم فيجازي محسنهم ويغفر لمسيئهم .
قوله : { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } قيل : هذا القميص هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقي في النار وكساه إبراهيم إسحاق ، وكساه إسحاق يعقوب . وكان يعقوب أدرج هذا القميص في قضيب وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين ، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره؛ لأنّ فيه ريح الجنة ، وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شفي ، ولا مبتلي إلاّ عوفي { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } أي : يصْر بصيراً ، على أن { يأت } هي التي من أخوات كان .

قال الفراء : يرجع بصيراً . وقال السدّي : يعد بصيراً . وقيل : معناه يأتِ إليّ إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى ، ويؤيده قوله : { وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي : جميع من شمله لفظ الأهل من النساء والذراري ، وقيل : كانوا نحو سبعين ، وقيل : ثلاثة وتسعين .
{ وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } أي : خرجت منطلقة من مصر إلى الشام . يقال : فصل فصولاً ، وفصلته فصلاً ، لازم ومتعدّ ، ويقال : فصل من البلد فصولاً : إذا انفصل عنه وجاوز حيطانه { قَالَ أَبُوهُمْ } أي : يعقوب لمن عنده في أرض كنعان من أهله { إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } قيل : إنها هاجت ريح فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة ، فأخبرهم بما وجد ، ثم قال : { لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } لولا أن تنسبوني إلى الفند ، وهو ذهاب العقل من الهرم ، يقال : أفند الرجل إذا خرف وتغير عقله . وقال أبو عبيدة : لولا أن تسفهون ، فجعل الفند السفه . وقال الزجاج : لولا أن تجهلون ، فجعل الفند الجهل ، ويؤيد ذلك قول من قال : إنه السفه قول النابغة :
إلاّ سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحددها عن الفند
أي : امنعها عن السفه .
وقال أبو عمرو الشيباني : التفنيد : التقبيح ، ومنه قول الشاعر :
يا صاحبيّ دعا لومي وَتَفنيدي ... فليس ما فات من أمري بمردود
وقيل : هو الكذب ، ومنه قول الشاعر :
هل في افتخار الكريم من أود؟ ... أم هل لقول الصدّيق من فند؟
وقال ابن الأعرابي : { لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } لولا أن تضعفوا رأيي ، وروي مثله عن أبي عبيدة . وقال الأخفش : التفنيد : اللوم وضعف الرأي . وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز ، وتضعيف الرأي ، يقال : فنده تفنيداً : إذا عجزه ، وأفند : إذا تكلم بالخطأ ، والفند : الخطأ من الكلام ، ومما يدل على إطلاقه على اللوم قول الشاعر :
يا عاذِلي دعا الملام وأَقصِرا ... طال الهوى وَأطلتُما التفنيدا
أخبرهم يعقوب بأن الصبا قد حملت إليه ريح حبيبه ، وأنه لولا ما يخشاه من التفنيد لما شك في ذلك :
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على نفس مهموم تجلت همومها
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني ... نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر
ولقد تهبّ لي الصبا من أرضها ... فيلذّ مسّ هبوبها ويطيب
{ قَالُواْ تالله إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم } أي : قال الحاضرون عنده من أهله : إنك يا يعقوب لفي ذهابك عن طريق الصواب الذي كنت عليه قديماً من إفراط حبك ليوسف لا تنساه ، ولا تفترّ عنه ، ولسان حال يعقوب يقول لهم :

لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده ... ولا الصبابة إلاّ من يعانيها
لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى تكون حشاك في أحشائه
وقيل : المعنى : إنك لفي جنونك القديم ، وقيل : في محبتك القديمة . قالوا له ذلك لأنه لم يكن قد بلغهم قدوم البشير . { فَلَمَّا أَن جَاء البشير } قال المفسرون : البشير هو يهوذا بن يعقوب ، قال لإخوته : أنا جئته بالقميص ملطخاً بالدم ، فأعطني اليوم قميصك لأخبره أنك حيّ ، فأفرحه كما أحزنته { أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ } أي : ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب ، أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه { فارتد بَصِيرًا } الارتداد : انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها ، والمعنى : عاد ورجع إلى حالته الأولى من صحة بصره { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ } أي : قال يعقوب لمن كان عنده من أهله الذين قال لهم : إني لأجد ريح يوسف ، ألم أقل لكم هذا القول فقلتم ما قلتم ، ويكون قوله : { إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } كلاماً مبتدأ لا يتعلق بالقول ، ويجوز أن تكون جملة : { إِنّى أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } مقول القول ، ويريد بذلك إخبارهم بما قاله لهم سابقاً { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ يوسف : 86 ] ، { قَالُواْ يا أبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خاطئين } طلبوا منه أن يستغفر لهم ، واعترفوا بالذنب ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : ولما رجعوا من مصر ووصلوا إلى أبيهم قالوا هذا القول ، فوعدهم بما طلبوه منه ، و { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى } . قال الزجاج : أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر؛ لأنه أخلق بإجابة الدعاء ، لا أنه بخل عليهم بالاستغفار ، وقيل : أخره إلى ليلة الجمعة ، وقيل : أخره إلى أن يستحلّ لهم من يوسف ، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم . وجملة { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } تعليل لما قبله .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة في قوله : { لاَ تَثْرَيبَ } قال : لا تعيير . وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه قال : قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة التفت إلى الناس فقال : « ماذا تقولون وماذا تظنون؟ فقالوا : ابن عمّ كريم ، فقال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه . وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني قال : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ، ألم تر إلى قول يوسف { لا تثريب عليكم اليوم } ؟ . وقال يعقوب : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى } .
أقول : وفي هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف أن يعفو عنهم بقولهم : { لقد آثرك الله علينا } ، فقال : لا تثريب عليكم اليوم ، لأن مقصودهم صدور العفو منه عنهم ، وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم وهو لا يكون إلاّ بطلب ذلك منه إلى الله عزّ وجلّ ، وبين المقامين فرق ، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلاً عليهم بسؤال الله لهم ، ولا سيما إذا صح ما تقدّم من أنه أخر ذلك إلى وقت الإجابة .

فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول .
وأخرج الحكيم الترمذي ، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال : لما كان من أمر إخوة يوسف ما كان ، كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف : بسم الله الرحمن الرحيم ، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إلى عزيز آل فرعون : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ، أما بعد : فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء ، كان جدّي إبراهيم خليل الله ألقي في النار في طاعة ربه ، فجعلها الله عليه برداً وسلاما ، وأمر الله جدّي أن يذبح له أبي ففداه الله بما فداه ، وكان لي ابن وكان من أحبّ الناس إليّ ففقدته ، فأذهب حزني عليه نور بصري ، وكان له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب عني بعض وجدي ، وهوالمحبوس عندك في السرقة ، وإني أخبرك أني لم أسرق ، ولم ألد سارقاً؛ فلما قرأ يوسف الكتاب بكى وصاح وقال : { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا } .
وأخرج أبو الشيخ عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله : « { اذهبوا بِقَمِيصِى هذا } أن نمروذ لما ألقى إبراهيم في النار نزل إليه جبريل بقميص من الجنة وطنفسة من الجنة ، فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة ، وقعد معه يتحدّث ، فأوحى الله إلى النار { كُونِى بَرْداً وسلاما } [ الأنبياء : 69 ] » ولولا أنه قال { وسلاماً } لآذاه البرد . وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعاً : إن الله كسا إبراهيم ثوباً من الجنة ، فكساه إبراهيم إسحاق ، وكساه إسحاق يعقوب ، فأخذه يعقوب فجعله في قصبة من حديد وعلقه في عنق يوسف ، ولو علم إخوته إذ ألقوه في الجب لأخذوه ، فلما أراد الله أن يردّ يوسف على يعقوب كان بين رؤياه وتعبيره أربعون سنة ، أمر البشير أن يبشره من ثمان مراحل ، فوجد يعقوب ريحه فقال : { إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون } ، فلما ألقاه على وجهه ارتدّ بصيراً ، وليس يقع شيء من الجنة على عامة من عاهات الدنيا إلاّ أبرأها بإذن الله .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وأحمد في الزهد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } قال : لما خرجت العير هاجت الريح ، فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال : { إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } تسفهون ، فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه قال : وجد ريحه من مسيرة عشرة أيام . وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عنه قال : وجده من مسيرة ثمانين فرسخاً . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عنه أيضاً { لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } قال : تجهلون . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً : قال : تكذبون . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد قال : تهرمون ، يقولون : قد ذهب عقلك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن الربيع قال : لولا أن تحمقون .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { إِنَّكَ لَفِى ضلالك القديم } يقول : خطئك القديم . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : جنونك القديم . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : حبك القديم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : البشير : البريد . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن الضحاك مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن سفيان قال : البشير هو يهوذا بن يعقوب . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : لما أن جاء البشير إلى يعقوب فألقى عليه القميص قال : على أيّ دين خلفت يوسف؟ قال : على الإسلام ، قال : الآن تمت النعمة .
وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى } قال : إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : أخرهم إلى السحر ، وكان يصلي بالسحر . وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه عنه قال : أخرّهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عنه أيضاً قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصه " هو قول أخي يعقوب لبنيه : سوف أستغفر لكم ربي» ، يقول : حتى تأتي ليلة الجمعة " .

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

قوله : { فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ } لعلّ في الكلام محذوفاً مقدّراً ، وهو : فرحل يعقوب وأولاده وأهله إلى مصر ، فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه ، أي : ضمهما وأنزلهما عنده ، قال المفسرون : المراد بالأبوين هنا يعقوب وزوجته خالة يوسف؛ لأن أمه قد كانت ماتت في ولادتها لأخيه بنيامين ، كما تقدّم . وقيل : أحيا الله له أمه تحقيقاً للرؤيا حتى سجدت له { وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ إِن شَاء الله آمنين } مما تكرهون ، وقد كانوا فيما مضى يخافون ملوك مصر ، ولا يدخلونها إلاّ بجواز منهم . قيل : والتقييد بالمشيئة عائد إلى الأمن ، ولا مانع من عوده إلى الجميع؛ لأن دخولهم لا يكون إلا بمشيئة الله سبحانه ، كما أنهم لا يكونون آمنين إلاّ بمشيئته . وقيل : إن التقييد بالمشيئة راجع إلى قوله : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّى } وهو بعيد ، وظاهر النظم القرآني : أن يوسف قال لهم هذه المقالة ، أي : ادخلوا مصر قبل دخولهم ، وقد قيل في توجيه ذلك : أنه تلقاهم إلى خارج مصر ، فوقف منتظراً لهم في مكان أو خيمة ، فدخلوا عليه ف { آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادخلوا مِصْرَ } فلما دخلوا مصر ودخلوا عليه دخولاً أخر في المكان الذي له بمصر { رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } أي : أجلسهما معه على السرير الذي يجلس عليه كما هو عادة الملوك .
{ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } أي : الأبوان والأخوة ، والمعنى : أنهم خرّوا ليوسف سجداً ، وكان ذلك جائزاً في شريعتهم منزلاً منزلة التحية . وقيل : لم يكن ذلك سجوداً بل هو مجرد إيماء ، وكانت تلك تحيتهم ، وهو يخالف معنى : وخرّوا له سجداً ، فإن الخرور في اللغة المقيد بالسجود لا يكون إلاّ بوضع الوجه على الأرض . وقيل : الضمير في قوله : { له } راجع إلى الله سبحانه ، أي : وخرّوا لله سجداً ، وهو بعيد جداً . وقيل : إن الضمير ليوسف ، واللام للتعليل أي : وخرّوا لأجله سجداً ، وفيه أيضاً بعد؛ وقال يوسف : { يأَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رؤياى } يعني : التي تقدّم ذكرها { مِن قَبْلُ } أي : من قبل هذا الوقت { قَدْ جَعَلَهَا رَبّى حَقّا } بوقوع تأويلها على ما دلت عليه { وَقَدْ أَحْسَنَ بَى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السجن } الأصل أن يتعدّى فعل الإحسان بإلى ، وقد يتعدّى بالباء كما في قوله تعالى : { وبالوالدين إحسانا } [ الإسراء : 23 ] ، وقيل : إنه ضمن أحسن معنى لطف أي : لطف بي محسناً ، ولم يذكر إخراجه من الجبّ ، لأن في ذكره نوع تثريب للإخوة ، وقد قال : لا تثريب عليكم . وقد تقدّم سبب سجنه ومدّة بقائه فيه ، وقد قيل : إن وجه عدم ذكر إخراجه من الجبّ أن المنة كانت في إخراجه من السجن أكبر من المنة في إخراجه من الجبّ ، وفيه نظر ، { وَجَاء بِكُمْ مّنَ البدو } أي : البادية ، وهي أرض كنعان بالشام ، وكانوا أهل مواش وبرية ، وقيل : إن الله لم يبعث نبياً من البادية ، وأن المكان الذي كان فيه يعقوب يقال له : بدا ، وإياه عني جميل بقوله :

وأنت الذي حببت شعباً إلى بدا ... إليّ وأوطاني بلاد سواهما
وفيه نظر ، { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى } أي : أفسد بيننا وحمل بعضنا على بعض ، يقال : نزغه : إذا نخسه ، فأصله من نخس الدابة ليقوى مشيها . وأحال يوسف ذنب إخوته على الشيطان تكرماً منه وتأدّباً { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } اللطيف : الرفيق ، قال الأزهري : اللطيف من أسماء الله تعالى معناه : الرفيق بعباده ، يقال : لطف فلان بفلان يلطف : إذا رفق به ، وقال عمرو بن أبي عمرو : اللطيف : الذي يوصل إليك أربك في لطف . قال الخطابي : اللطيف هو البرّ بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون . وقيل : اللطيف : العالم بدقائق الأمور . ومعنى { لما يشاء } : لأجل ما يشاء حتى يجيء على وجه الصواب { إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم } أي : العليم بالأمور ، الحكيم في أفعاله .
ولما أتم الله نعمته على يوسف عليه السلام بما أخلصه منه من المحن العظيمة ، وبما خوّله من الملك ، وعلمه من العلم ، تاقت نفسه إلى الخير الأخروي الدائم الذي لا ينقطع ، فقال : { رَبّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الملك } « من » للتبعيض ، أي : بعض الملك ، لأنه لم يؤت كل الملك ، إنما أوتي ملكاً خاصاً ، وهو ملك مصر في زمن خاص { وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } أي : بعضها ، لأنه لم يؤت جميع علم التأويل ، سواء أريد به مطلق العلم والفهم ، أو مجرد تأويل الرؤيا . وقيل : « من » للجنس ، كما في قوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] . وقيل : زائدة أي : آتيتني الملك وعلمتني تأويل الأحاديث { فَاطِرَ السموات والأرض } منتصب على أنه صفة لربّ ، لكونه منادى مضافاً ، ويجوز أن يكون انتصابه على أنه منادى بحرف مقدّر ، أي : يا فاطر ، والفاطر : الخالق والمنشىء والمخترع والمبدع { أنت وليى } أي : ناصري ومتولي أموري { فِى الدنيا والآخرة } تتولانى فيهما { تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } أي : توفني على الإسلام لا يفارقني حتى أموت ، وألحقني بالصالحين من النبيين من آبائي وغيرهم فأظفر بثوابهم منك ودرجاتهم عندك . وقيل : إنه لما دعا بهذا الدعاء توفاه الله عزّ وجلّ . وقيل : كان عمره عند أن ألقي في الجبّ سبع عشرة سنة ، وكان في العبودية والسجن والملك ثمانين سنة إلى قدوم أبيه يعقوب عليه ، ثم عاش بعد اجتماع شملهم حتى كمل عمره المقدار الذي سيأتي وتوفاه الله . قيل : لم يتمنّ الموت أحد غير يوسف لا نبيّ ولا غيره . وذهب الجمهور إلى أنه لم يتمنّ الموت بهذا الدعاء ، وإنما دعا ربه أن يتوفاه على الإسلام ، ويلحقه بالصالحين من عباده عند حضور أجله .

وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال : دخل يعقوب مصر في ملك يوسف وهو ابن مائة وثلاثين سنة ، وعاش في ملكه ثلاثين سنة ، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة . قال أبو هريرة : وبلغني أنه كان عمر إبراهيم خليل الله مائة وخمساً وتسعين سنة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { آوى إليه أبويه } قال : أبوه وأمه ضمهما . وأخرجا عن وهب قال : أبوه وخالته ، وكانت توفيت أمّ يوسف في نفاس أخيه بنيامين . وأخرج أبو الشيخ نحوه عن سفيان بن عيينة .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } قال : السرير . وأخرج ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم في قوله : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } قال : كانت تحية من كان قبلكم فأعطاكم الله السلام مكانها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه ، وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن زيد قال : ذلك سجود تشرفة كما سجدت الملائكة تشرفة لآدم ، وليس سجود عبادة . وأخرج أبو الشيخ عن قتادة في قوله : { إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء } قال : لطيف ليوسف ، وصنع له حين أخرجه من السجن ، وجاء بأهله من البدو ، ونزع من قلبه نزغ الشيطان وتحريشه على إخوته .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ما سأل نبيّ الوفاة غير يوسف . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عنه قال : اشتاق إلى لقاء الله ، وأحب أن يلحق به وبآبائه ، فدعا الله أن يتوفاه ، وأن يلحقه بهم . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك في قوله : { وَأَلْحِقْنِى بالصالحين } قال : يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : يعني أهل الجنة .

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)

الخطاب بقوله : { ذلك } لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره { مِنْ أَنبَاء الغيب } ، و { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } خبر ثان . قال الزجاج : ويجوز أن يكون ذلك بمعنى : الذي ، ونوحيه إليك خبره أي : الذي من أنباء الغيب نوحيه إليك . والمعنى : الإخبار من الله تعالى لرسوله الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الذي قصه عليه من أمر يوسف وإخوته من الأخبار التي كانت غائبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأوحاه الله إليه وأعلمه به ، ولم يكن عنده قبل الوحي شيء من ذلك ، وفيه تعريض بكفار قريش ، لأنهم كانوا مكذبين له صلى الله عليه وسلم بما جاء به جحوداً وعناداً وحسداً ، مع كونهم يعلمون حقيقة الحال { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } لدي إخوة يوسف { إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } إجماع الأمر : العزم عليه ، أي : وما كنت لدى إخوة يوسف إذ عزموا جميعاً على إلقائه في الجبّ وهم في تلك الحالة { يَمْكُرُونَ } به ، أي : بيوسف في هذا الفعل الذي فعلوه به ، ويبغونه الغوائل ، وقيل : الضمير ليعقوب ، أي : يمكرون بيعقوب حين جاءوه بقميص يوسف ملطخاً بالدم ، وقالوا : أكله الذئب .
وإذا لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لديهم عند أن فعلوا ذلك ، انتفى علمه بذلك مشاهدة ، ولم يكن بين قوم لهم علم بأحوال الأمم السالفة ، ولا خالطهم ولا خالطوه ، فانتفى علمه بذلك بطريق الرواية عن الغير ، فلم يبق لعلمه بذلك طريق إلاّ مجردّ الوحي من الله سبحانه ، فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به ، فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار ، قال الله سبحانه ذاكراً لهذا { وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } أي : وما أكثر الناس المعاصرين لك يا محمد ، أو أكثر الناس على العموم ، ولو حرصت على هدايتهم وبالغت في ذلك بمؤمنين بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو دين آبائهم ، يقال : حرص يحرص مثل ضرب يضرب ، وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد ، والحرص : طلب الشيء باجتهاد . قال الزجاج : ومعناه : وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم؛ لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء . قال ابن الأنباري : إن قريشاً واليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحهما شرحاً شافياً ، وهو يأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم ، فخالفوا ظنه ، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك فعزاه الله بقوله : { وَمَا أَكْثَرُ الناس } الآية .
{ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي : على القرآن وما تتلوه عليهم منه ، أو على الإيمان ، وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحدّثهم به من هذا الحديث { من أجر } من مال يعطونك إياه ، ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم { إِنْ هُوَ } أي : القرآن ، أو الحديث الذي حدثهم به { إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين } أي : ما هو إلاّ ذكر للعالمين كافة لا يختص بهم وحدهم .

{ وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِى السموات والأرض } قال الخليل وسيبويه : والأكثرون إن { كأين } أصلها : أي دخل عليها كاف التشبيه ، لكنه انمحى عن الحرفين المعنى الإفرادي ، وصار المجموع كاسم واحد بمعنى « كم » الخبرية ، والأكثر إدخال « من » في مميزه ، وهو تمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلاً . وقد مرّ الكلام على هذا مستوفى في آل عمران . والمعنى : كم من آية تدلهم على توحيد الله كائنة في السموات من كونها منصوبة بغير عمد ، مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت ، وفي الأرض من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلهم على توحيد الله سبحانه ، وأنه الخالق لذلك ، الرزاق له ، المحيي والمميت ، ولكن أكثر الناس يمرّون على هذه الآيات غير متأملين لها ، ولا مفكرين فيها ، ولا ملتفتين إلى ما تدل عليه من وجود خالقها ، وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها { يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة ، وهي التفكر والاعتبار والاستدلال . وقرأ عكرمة وعمرو بن فايد برفع { الأرض } على أنه مبتدأ ، وخبره { يمرّون عليها } . وقرأ السدّي بنصب { الأرض } بتقدير فعل . وقرأ ابن مسعود « يمشون عليها »
{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله } أي : وما يصدّق ويقرّ أكثر الناس بالله من كونه الخالق الرزاق المحيي المميت { إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } بالله يعبدون معه غيره ، كما كانت تفعله الجاهلية ، فإنهم مقرّون بالله سبحانه ، وبأنه الخالق لهم { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] . { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقرّبوهم إلى الله { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله } [ الزمر : 3 ] ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله المعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه كما يفعله كثير من عبّاد القبور ، ولا ينافي هذا ما قيل من أن الآية نزلت في قوم مخصوصين ، فالاعتبار بما يدل عليه اللفظ لا بما يفيده السبب من الاختصاص بمن كان سبباً لنزول الحكم .
{ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله } الاستفهام للإنكار ، والغاشية ما يغشاهم ويغمرهم من العذاب كقوله تعالى : { يَوْمَ يغشاهم العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } [ العنكبوت : 55 ] وقيل : هي الساعة ، وقيل : هي الصواعق والقوارع ، ولا مانع من للحمل على العموم { أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } أي : فجأة ، وانتصاب بغتة على الحال . قال المبرد : جاء عن العرب حال بعد نكرة ، وهو قولهم : وقع أمر بغتة ، يقال : بغتهم الأمر بغتاً وبغتة : إذا فاجأهم { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } بإتيانه ، ويجوز انتصاب بغتة على أنها صفة مصدر محذوف .

{ قُلْ هذه سَبِيلِى } أي : قل يا محمد للمشركين : هذه الدعوة التي أدعو إليها ، والطريقة التي أنا عليها سبيلي ، أي : طريقتي وسنّتي ، فاسم الإشارة مبتدأ وخبره سبيلي ، وفسر ذلك بقوله : { ادعوا إلى الله على بَصِيرَةٍ } أي : على حجة واضحة ، والبصيرة : المعرفة التي يتميز بها الحق من الباطل ، والجملة في محل نصب على الحال { أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى } واهتدى بهديي . وقال الفراء : والمعنى ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو . وفي هذا دليل على أن كل متبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حق عليه أن يقتدي به في الدعاء إلى الله ، أي : الدعاء إلى الإيمان به وتوحيده ، والعمل بما شرعه لعباده { وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين } أي : وقل يا محمد لهم : سبحان الله وما أنا من المشركين بالله الذين يتخذون من دونه أنداداً . قال ابن الأنباري : ويجوز أن يتم الكلام عند قوله : { ادعوا إِلَى الله } ثم ابتدأ ، فقال : { على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى } .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } قال : هم بنو يعقوب إذ يمكرون بيوسف . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية يقول : وما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب ، وهم يمكرون بيوسف . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك { وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ } قال : كم من آية في السماء يعني : شمسها وقمرها ونجومها وسحابها ، وفي الأرض ما فيها من الخلق والأنهار والجبال والمدائن والقصور .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } قال : سلهم من خلقهم ، ومن خلق السموات والأرض ، فسيقولون الله ، فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن عطاء في قوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } قال : كانوا يعلمون أن الله ربهم وهو خالقهم وهو رازقهم ، وكانوا مع ذلك يشركون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك في الآية قال : كانوا يشركون به في تلبيتهم يقولون : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك . وأخرج أبو الشيخ عن الحسن في الآية قال : ذلك المنافق يعمل بالرياء وهو مشرك بعمله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { غَاشِيَةٌ مّنْ عَذَابِ الله } قال : وقيعة تغشاهم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { هذه سَبِيلِى } قل : هذه دعوتي . وأخرج أبو الشيخ عنه { قُلْ هذه سَبِيلِى } قال : صلاتي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في الآية قال : أمري ومشيئتي ومنهاجي ، وأخرجا عن قتادة في قوله : { على بَصِيرَةٍ } أي : على هدى { أَنَاْ وَمَنِ اتبعنى } .

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } هذا رد على من قال : { لَوْلا أُنزِلَ عليه مَلَكٌ } [ الأنعام : 8 ] أي : لم نبعث من الأنبياء إلى من قبلهم إلا رجالاً لا ملائكة . فكيف ينكرون إرسالنا إياك؟ وتدل الآية على أن الله سبحانه لم يبعث نبياً من النساء ولا من الجنّ ، وهذا يردّ على من قال : إن في النساء أربع نبيات : حواء ، وآسية ، وأم موسى ، ومريم . وقد كان بعثة الأنبياء من الرجال دون النساء أمراً معروفاً عند العرب ، حتى قال قيس بن عاصم في سجاح المتنبئة :
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الله ذكرانا
فلعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن باللوم أغرانا
{ نُّوحِى إِلَيْهِمْ } كما نوحي إليك { مّنْ أَهْلِ القرى } أي : المدائن دون أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على البدو ، ولكون أهل الأمصار أتم عقلاً وأكمل حلماً وأجلّ فضلاً { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني : المشركين المنكرين لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم أي : أفلم يسر المشركون هؤلاء فينظروا إلى مصارع الأمم الماضية فيعتبروا بهم حتى ينزعوا عما هم فيه من التكذيب { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لّلَّذِينَ اتقوا } أي : لدار الساعة الآخرة ، أو لحالة الآخرة على حذف الموصوف . وقال الفراء : إن الدار هي الآخرة ، وأضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظ كيوم الجمعة ، وصلاة الأولى ، ومسجد الجامع ، والكلام في ذلك مبين في كتب الإعراب ، والمراد بهذه الدار : الجنة ، أي : هي خير للمتقين من دار الدنيا . وقرىء « وللدار الآخرة » . وقرأ نافع وعاصم ويعقوب { أفلا تعقلون } بالتاء الفوقية على الخطاب . وقرأ الباقون بالتحتية .
{ حتى إِذَا استيئس الرسل } هذه الغاية المحذوف دلّ عليه الكلام ، وتقديره : { وما أرسلنا من قبلك } يا محمد إلاّ رجالاً ، ولم نعاجل أممهم الذين لم يؤمنوا بما جاءوا بالعقوبة { حتى إِذَا استيئس } من النصر بعقوبة قومهم ، أو { حتى إذ استيأس الرسل } من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } . قرأ ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو جعفر بن القعقاع ، والحسن ، وقتادة ، وأبو رجاء العطاردي ، وعاصم وحمزة والكسائي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش وخلف { كذبوا } بالتخفيف أي : ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا . وقيل : المعنى ظنّ القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم ، وقيل : المعنى وظنّ الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنهم ينصرون عليهم ، أو كذبهم رجاؤهم للنصر ، وقرأ الباقون « كذبوا » بالتشديد ، والمعنى عليها واضح أي : ظنّ الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب ، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظنّ القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد .

وقرأ مجاهد وحميد { قد كذبوا } بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى : وظنّ قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا؛ وقد قيل : إن الظنّ في هذه الآية بمعنى اليقين؛ لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم ، وليس ذلك مجرد ظنّ منهم . والذي ينبغي أن يفسر الظنّ باليقين في مثل هذه الصورة يفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظنّ فقط من الصور السابقة .
{ جَاءهُمْ نَصْرُنَا } أي : فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة ، أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين { فنجي مَّن نَّشَاء } . قرأ عاصم : { فنجي } بنون واحدة . وقرأ الباقون « فننجي » بنونين . واختار أبو عبيدة القراءة الأولى؛ لأنها في مصحف عثمان كذلك . وقرأ ابن محيصن « فنجا » على البناء للفاعل ، فتكون من على القراءة الأولى في محل رفع على أنها فاعل ، والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم ، وهلك المكذبون { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين } عند نزوله بهم ، وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين .
{ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ } أي : قصص الرسل ومن بعثوا إليه من الأمم ، أو في قصص يوسف وإخوته وأبيه { عِبْرَةٌ لاّوْلِى الألباب } والعبرة : الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة ، وقيل : هي نوع من الاعتبار ، وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول . وأولوا الألباب : هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ما فيه مصالح دينهم ، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدّة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم ، ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم { مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى } أي : ما كان هذا المقصوص الذي يدلّ عليه ذكر القصص وهو القرآن المشتمل على ذلك حديثاً يفترى { ولكن تَصْدِيقَ الذين بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : ما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور . وقرىء برفع « تصديق » على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو تصديق وتفصيل كل شيء من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها؛ لأن الله سبحانه لم يفرّط في الكتاب من شيء . وقيل : تفصيل كل شيء من قصة يوسف مع إخوته وأبيه . قيل : وليس المراد به ما يقتضيه من العموم ، بل المراد به الأصول والقوانين وما يئول إليها { وهدى } في الدنيا يهتدي به كل من أراد الله هدايته { وَرَحْمَةً } في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه شرط الإيمان الصحيح ، ولهذا قال : { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدّقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره ، وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدي بما اشتمل عليه من الهدى ، فلا يستحق ما يستحقونه .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً } قال : أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : ما نعلم أن الله أرسل رسولاً قط إلاّ من أهل القرى ، لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ } قال : كيف عذب الله قوم نوح وقوم لوط ، وقوم صالح ، والأمم التي عذب الله؟
وأخرج البخاري وغيره من طريق عروة؛ أنه سأل عائشة عن قول الله سبحانه { حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قال : قلت أكذبوا أم كذبوا؟ يعني : على هذه الكلمة مخففة أم مشددة ، فقالت : بل كذبوا تعني بالتشديد . قلت : والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن ، قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك ، فقلت : لعلها ، وظنوا أنهم قد كذبوا مخففة ، قالت : معاذ الله لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها ، قلت : فما هذه الآية؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عليهم النصر ، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن عبد الله بن أبي مليكة : أن ابن عباس قرأها عليه { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة ، يقول : أخلفوا . وقال ابن عباس : كانوا بشراً ، وتلا { حتى يَقُولَ الرسول والذين ءامَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله } [ البقرة : 214 ] قال ابن أبي مليكة : وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته ، وقالت : ما وعد الله رسوله من شيء إلاّ علم أنه سيكون قبل أن يموت ، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم ، وكانت تقرؤها مثقلة . وأخرج ابن مردويه من طريق عروة عن عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } مخففة . وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه كان يقرأ { قد كذبوا } مخففة . قال : يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم ، وظنّ قومهم أن الرسل قد كذبوهم بما جاءوا به { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } قال : جاء الرسل نصرنا .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ عن تميم بن حذلهم قال : قرأت على ابن مسعود القرآن فلم يأخذ عليّ إلاّ حرفين

{ كُلٌّ أَتَوْهُ داخرين } [ النمل : 87 ] فقال : أتوه مخففة ، وقرأت عليه { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } فقال : { كذبوا } مخففة . قال : استيأس الرسل من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم ، وظنّ قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا . وأخرج ابن مردويه من طريق أبي الأحوص عنه قال : حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة يوسف { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } خفيفة . وللسلف في هذا كلام يرجع إلى ما ذكرناه من الخلاف عن الصحابة .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { درجات مَّن نَّشَاء } قال : فننجي الرسل ومن نشاء { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القوم المجرمين } وذلك أن الله بعث الرسل يدعون قومهم ، فأخبروهم أن من أطاع الله نجا ومن عصاه عذب وغوى . وأخرج أبو الشيخ عنه قال : { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } العذاب . وأخرج أبو الشيخ عن السدّي { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا } قال : عذابه .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ } قال : يوسف وإخوته . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ { عِبْرَةٌ لأَوْلِى الألباب } قال : معروفة لذوي العقول . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة { مَا كَانَ حَدِيثًا يفترى } قال : الفرية : الكذب . { ولكن تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ } قال : القرآن يصدّق الكتب التي كانت قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه كالتوراة والإنجيل والزبور ، ويصدّق ذلك كله ، ويشهد عليه أن جميعه حق من عند الله { وَتَفْصِيلَ كُلّ شَىْء } فصل الله بين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته .

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

قوله : { المر } قد تقدّم الكلام في هذه الحروف الواقعة في أوائل السور بما يغني عن الإعادة ، وهو اسم للسورة مرفوع المحل على أنه خبر مبتدأ محذوف . أو على أنه مبتدأ خبره ما بعده ، والتقدير على الأول : هذه السورة اسمها هذا ، والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى آيات هذه السورة ، والمراد بالكتاب : السورة أي : تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن ، ويكون قوله : { والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق } مراداً به القرآن كله ، أي : هو الحق البالغ في اتصافه بهذه الصفة ، أو تكون الإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى آيات القرآن جميعه على أن المراد بالكتاب جميع القرآن . ويكون قوله : { والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق } جملة مبينة لكون هذا المنزل هو الحق . قال الفراء : { والذي } رفع بالاستئناف وخبره { الحق } ، قال : وإن شئت جعلت { الذي } خفضَا نعتاً للكتاب ، وإن كانت فيه الواو كما في قوله :
إلى الملكَ القرمِ وابن الهمامِ ... ويجوز أن يكون محل { والذي أنزل إليك } الجرّ على تقدير : وآيات الذي أنزل إليك ، فيكون الحق على هذا خبراً لمبتدأ محذوف { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } بهذا الحق الذي أنزله الله عليك . قال الزجاج : لما ذكر أنهم لا يؤمنون ذكر الدليل الذي يوجب التصديق بالخالق فقال : { الله الذى رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ } والعمد : الأساطين جمع عماد أي : قائمات بغير عمد تعتمد عليه ، وقيل لها عمد ولكن لا نراه . قال الزجاج : العمد : قدرته التي يمسك بها السموات ، وهي غير مرئية لنا ، وقرىء « عمد » على أنه جمع عمود يعمد به ، أي : يسند إليه . قال النابغة :
وخبر الجنّ إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وجملة { ترونها } مستأنفة استشهاد على رؤيتهم لها كذلك . وقيل : هي صفة لعمد ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : رفع السموات ترونها بغير عمد ، ولا ملجىء إلى مثل هذا التكلف { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } أي : استولى عليه بالحفظ والتدبير ، أو استوى أمره ، أو أقبل على خلق العرش ، وقد تقدّم الكلام على هذا مستوفى ، والاستواء على العرش صفة لله سبحانه بلا كيف كما هو مقرّر في موضعه من علم الكلام : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } أي : ذللهما لما يراد منهما من منافع الخلق ، ومصالح العباد { كُلٌّ يَجْرِى لأجل مُّسَمًّى } أي كلّ من الشمس والقمر يجري إلى وقت معلوم : وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي تكوّر عندها الشمس ويخسف القمر ، وتنكدر النجوم وتنتثر ، وقيل : المراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي تنتهيان إليها لا يجاوزنها ، وهي سنة للشمس ، وشهر للقمر { يُدَبّرُ الأمر } أي : يصرّفه على ما يريد ، وهو أمر ملكوته وربوبيته { يُفَصّلُ الآيات } أي : يبينها ، وهي الآيات الدالة على كمال قدرته وربوبيته ، ومنها ما تقدّم من رفع السماء بغير عمد ، وتسخير الشمس والقمر وجريهما لأجل مسمى ، والجملتان في محل نصب على الحال أو خبر إن لقوله : { الله الذى رَفَعَ } على أن الموصول صفة للمبتدأ ، والمراد من هذا تنبيه العباد أن من قدر على هذه الأشياء فهو قادر على البعث والإعادة ، ولذا قال : { لَعَلَّكُمْ بِلِقَاء رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } أي : لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات توقنون بذلك لا تشكون فيه ، ولا تمترون في صدقه .

ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال : { وَهُوَ الذى مَدَّ الأرض } قال الفراء : بسطها طولاً وعرضاً . وقال الأصمّ : إن المدّ : هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه ، وهذا المدّ الظاهر للبصر لا ينافي كريتها في نفسها لتباعد أطرافها { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } أي : جبالاً ثوابت ، واحدها راسية لأن الأرض ترسو بها ، أي : تثبت . والإرساء : الثبوت . قال عنترة :
فصرت عارفة لذلك حرّة ... ترسو إذا نفس الجبانِ تطلع
وقال جميل :
أُحبها والذي أرسى قواعِده ... حتى إذا ظَهرت آياتُه بطنا
{ وأنهارا } أي : مياهاً جارية في الأرض فيها منافع الخلق ، أو المراد جعل فيها مجاري الماء { وَمِن كُلّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } من كل الثمرات متعلق بالفعل الذي بعده ، أي : جعل فيها من كل الثمرات { زوجين اثنين } ، الزوج يطلق على الاثنين ، وعلى الواحد المزاوج لآخر ، والمراد هنا بالزوج الواحد ، ولهذا أكد الزوجين بالاثنين لدفع توهم أنه أريد بالزوج هنا الاثنين ، وقد تقدّم تحقيق هذا مستوفي ، أي : جعل كل نوع من أنواع ثمرات الدنيا صنفين ، إما في اللونية : كالبياض والسواد ونحوهما ، أو في الطعمية كالحلو والحامض ونحوهما ، أو في القدر كالصغر والكبر ، أو في الكيفية كالحر والبرد .
قال الفراء : يعني بالزوجين هنا : الذكر والأنثى . والأول أولى { يغشى الليل النهار } أي : يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلماً بعدما كان أبيض منيراً ، شبه إزالة نور الهدى بالظلمة بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية التي تسترها ، وقد سبق تفسير هذه في الأعراف { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيما ذكر من مدّ الأرض وإثباتها بالجبال ، وما جعله الله فيها من الثمرات المتزاوجة . وتعاقب النور والظلمة آيات بينة للناظرين المتفكرين المعتبرين .
{ وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات } هذا كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع آخر من أنواع الآيات . قيل : وفي الكلام حذف ، أي : قطع متجاورت ، وغير متجاورات ، كما في قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] أي : وتقيكم البرد . قيل : والمتجاورات : المدن وما كان عامراً ، وغير المتجاورات : الصحارى وما كان غير عامر ، وقيل : المعنى : متجاورات متدانيات ، ترابها واحد وماؤها واحد . وفيها زرع وجنات ، ثم تتفاوت في الثمار فيكون البعض حلواً والبعض حامضاً ، والبعض طيباً والبعض غير طيب ، والبعض يصلح فيه نوع والبعض الآخر نوع آخر { وجنات مّنْ أعناب } والجنات : البساتين ، قرأ الجمهور برفع { جنات } على تقدير : وفي الأرض جنات ، فهو معطوف على قطع متجاورات ، أو على تقدير : وبينها جنات .

وقرأ الحسن بالنصب على تقدير : وجعل فيها جنات ، وذكر سبحانه الزرع بين الأعناب والنخيل؛ لأنه يكون في الخارج كثيراً كذلك ، ومثله في قوله سبحانه { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أعناب وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } [ الكهف : 32 ] .
{ صنوان وَغَيْرُ صنوان } ، قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص { وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان } برفع هذه الأربع عطفاً على جنات ، وقرأ الباقون بالجرّ عطفاً على أعناب . وقرأ مجاهد والسلمي بضم الصاد من صنوان . وقرأ الباقون بالكسر ، وهما لغتان .
قال أبو عبيدة : صنوان : جمع صنو ، وهو أن يكون الأصل واحداً ، ثم يتفرع فيصير نخلاً ، ثم يحمل ، وهذا قول جميع أهل اللغة والتفسير . قال ابن الأعرابي : الصنو : المثل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « عم الرجل صنو أبيه » ، فمعنى الآية على هذا : أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون . قال في الكشاف : والصنوان جمع صنو ، وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد ، وقيل : الصنوان المجتمع ، وغير الصنوان المتفرق . قال النحاس : وهو كذلك في اللغة ، يقال للنخلة إذا كانت فيها نخلة أخرى أو أكثر : صنوان ، والصنو : المثل ، ولا فرق بين التثنية والجمع إلاّ بكسر النون في المثنى ، وبما يقتضيه الإعراب في الجمع .
{ يسقى بِمَاء واحد } ، قرأ عاصم وابن عامر : { يسقى } بالتحتية ، أي : يسقى ذلك كله . وقرأ الباقون بالفوقية بإرجاع الضمير إلى جنات ، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد وأبو عمرو ، قال أبو عمرو : التأنيث أحسن لقوله : { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل } ولم يقل : بعضه . وقرأ حمزة والكسائي « يفضل » بالتحتية كما في قوله : { يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات } [ الرعد : 2 ] وقرأ الباقون بالنون على تقدير : ونحن نفضل .
وفي هذا من الدلالة على بديع صنعه ، وعظيم قدرته ما لا يخفى على من له عقل؛ فإن القطع المتجاورة والجنات المتلاصقة المشتملة على أنواع النبات مع كونها تسقى بماء واحد وتتفاضل في الثمرات في الأكل ، فيكون طعم بعضها حلواً والآخر حامضاً ، وهذا في غاية الجودة ، وهذا ليس بجيد ، وهذا فائق في حسنه ، وهذا غير فائق مما يقطع من تفكر واعتبر ونظر نظر العقلاء أن السبب المقتضي لاختلافها ليس إلاّ قدرة الصانع الحكيم جلّ سلطانه وتعالى شأنه ، لأن تأثير الاختلاف فيما يخرج منها ويحصل من ثمراتها لا يكون في نظر العقلاء إلاّ لسببين : إما اختلاف المكان الذي هو المنبت ، أو اختلاف الماء الذي تسقى به ، فإذا كان المكان متجاوراً ، وقطع الأرض متلاصقة ، والماء الذي تسقى به واحداً ، لم يبق سبب للاختلاف في نظر العقل إلاّ تلك القدرة الباهرة والصنع العجيب ، ولهذا قال الله سبحانه : { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : يعلمون على قضية العقل وما يوجبه غير مهملين لما يقتضيه من التفكر في المخلوقات والاعتبار في العبر الموجودات .

وقد أخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { المر } قال : أنا الله أرى . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن مجاهد { المر } فواتح يفتتح بها كلامه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : { تِلْكَ ءايات الكتاب } قال : التوراة والإنجيل { والذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ الحق } قال : القرآن . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة نحو .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { رَفَعَ السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } قال : وما يدريك لعلها بعمد لا ترونها . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عنه في الآية قال : يقول لها عمد ولكن لا ترونها يعني : الأعماد . وأخرج ابن جرير عن إياس بن معاوية في الآية قال : السماء مقببة على الأرض مثل القبة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السماء على أربعة أملاك ، كل زاوية موكل بها ملك . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في قوله : { لأَجَلٍ مُّسَمًّى } قال : الدنيا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يُدَبّرُ الأمر } قال : يقضيه وحده . وأخرج . ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال : الدنيا مسيرة خمسمائة عام ، أربعمائة خراب ، ومائة عمران ، في أيدي المسلمين من ذلك مسيرة سنة . وقد روي عن جماعة من السلف في ذلك تقديرات لم يأت عليها دليل يصح .
وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال : لما خلق الله الأرض قمصت . وقالت : أي ربّ ، تجعل عليّ بني آدم يعملون عليّ الخطايا ويجعلون عليّ الخبث ، فأرسل الله فيها من الجبال ما ترون وما لا ترون ، فكان إقرارها كاللحم ترجرج . وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { يغشى الليل النهار } أي : يلبس الليل النهار .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبوالشيخ عن ابن عباس في قوله : { وَفِى الأرض قِطَعٌ متجاورات } قال : يريد الأرض الطيبة العذبة التي يخرج نباتها بإذن ربها ، تجاورها السبخة القبيحة المالحة التي لا تخرج ، وهما أرض واحدة ، وماؤها شيء واحد ، ملح أو عذب ، ففضلت إحداهما على الأخرى . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : قرىء « متجاورات » قريب بعضها من بعض .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : الأرض تنبت حلواً ، والأرض تنبت حامضاً ، وهي متجاورات تسقى بماء واحد .
وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله : { صنوان وَغَيْرُ صنوان } قال : الصنوان : ما كان أصله واحداً وهو متفرّق ، { وغير صنوان } التي تنبت وحدها ، وفي لفظ : صنوان : النخلة في النخلة ملتصقة ، وغير صنوان : النخل المتفرق .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { صنوان } قال : مجتمع النخل في أصل واحد { وَغَيْرُ صنوان } قال : النخل المتفرّق . وأخرج الترمذي وحسنه ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن أبي هريرة ، عن النبي في قوله : { وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِى الأكل } قال : « الدقل ، والفارسي ، والحلو ، والحامض » . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : هذا حامض ، وهذا حلو ، وهذا دقل ، وهذا فارسي .

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)

قوله : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } أي : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعد ما كنت عندهم من الصادقين فأعجب منه تكذيبهم بالبعث ، والله تعالى لا يجوز عليه التعجب؛ لأنه تغير النفس بشيء تخفى أسبابه وإنما ذكر ذلك ليعجب منه رسوله وأتباعه . قال الزجاج : أي هذا موضوع عجب أيضاً أنهم أنكروا البعث ، وقد بين لهم من خلق السموات والأرض ما يدل على أن البعث أسهل في القدرة . وقيل : الآية في منكري الصانع ، أي : إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بدّ له من مغير ، فهو محل التعجب ، والأول أولى لقوله : { أإذا كنا تراباً أئنا لفى خلق جديد } وهذه الجملة في محل رفع على البدلية من { قولهم } ، ويجوز أن تكون في محل نصب على أنها مقول القول ، والعجب على الأول كلامهم ، وعلى الثاني تكلمهم بذلك ، والعامل في «أإذا» ما يفيده قوله : { أإنا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ } وهو نبعث أو نعاد ، والاستفهام منهم للإنكار المفيد لكمال الاستبعاد ، وتقديم الظرف في قوله : { لَفِى خَلْقٍ } لتأكيد الإنكار بالبعث ، وكذلك تكرير الهمزة في قوله : " أإنا " . ثم لما حكى الله سبحانه ذلك عنهم حكم عليهم بأمور ثلاثة : الأول : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } أي : أولئك المنكرون لقدرته سبحانه على البعث : هم المتمادون في الكفر الكاملون فيه ، والثاني { وَأُوْلَئِكَ الأغلال فِى أعناقهم } الأغلال : جمع غلّ ، وهو طوق تشد به اليد إلى العنق ، أي : يغلون بها يوم القيامة ، وقيل : الأغلال أعمالهم السيئة التي هي لازمة لهم لزوم الأطواق للأعناق . والثالث : { وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون } لا ينفكون عنها بحال من الأحوال ، وفي توسيط ضمير الفصل دلالة على تخصيص الخلود بمنكري البعث .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } السيئة : العقوبة المهلكة ، والحسنة : العافية والسلامة . قالوا هذه المقالة لفرط إنكارهم وشدّة تصميمهم وتهالكهم على الكفر . وقيل : معنى الآية : أنهم طلبوا العقوبة قبل الحسنة ، وهي الإيمان { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } . قرأ الجمهور " مثُلات " بفتح الميم وضمّ المثلثة جمع مثلة كسمرة ، وهي العقوبة . قال ابن الأنباري : المثلة : العقوبة التي تبقى في المعاقب شيئا بتغيير بعض خلقه من قولهم : مثل فلان بفلان إذا شان خلقه بقطع أنفه وسمل عينيه وبقر بطنه . وقرأ الأعمش بفتح الميم وإسكان المثلثة تخفيفاً لثقل الضمة ، وفي لغة تميم بضم الميم والمثلثة جميعاً ، واحدتها على لغتهم : مُثلة ، بضم الميم وسكون المثلثة مثل غُرفة وغُرفات . وحكي عن الأعمش في رواية أخرى أنه قرأ هذا الحرف بضمها على لغة تميم . والمعنى : أن هؤلاء يستعجلونك بإنزال العقوبة بهم ، وقد مضت من قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذبين ، فما لهم لا يعتبرون بهم ، ويحذرون من حلول ما حلّ بهم ، والجملة في محل نصب على الحال ، وهذا الاستعجال من هؤلاء هو على طريقة الاستهزاء كقولهم :

{ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية . { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } أي : لذو تجاوز عظيم { لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } أنفسهم باقترافهم الذنوب ووقوعهم في المعاصي إن تابوا عن ذلك ، ورجعوا إلى الله سبحانه ، والجارّ والمجرور أي : على ظلمهم في محل نصب على الحال أي : حال كونهم ظالمين ، و « على » بمعنى : « مع » أي : مع ظلمهم ، وفي الآية بشارة عظيمة ورجاء كبير؛ لأن من المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائباً ، ولهذا قيل : إنها في عصاة الموحدين خاصة . وقيل : المراد بالمغفرة هنا : تأخير العقاب إلى الآخرة ليطابق ما حكاه الله من استعجال الكفار للعقوبة . وكما تفيده الجملة المذكورة بعد هذه الآية . وهي { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } يعاقب العصاة المكذبين من الكافرين عقاباً شديداً على ما تقتضيه مشيئته في الدار الآخرة .
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ } أي : هلا أنزل عليه آية غير ما قد جاء به من الآيات ، وهؤلاء الكفار القائلون هذه المقالة هم المستعجلون للعذاب . قال الزجاج : طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى ، فقال الله تعالى : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ } تنذرهم بالنار ، وليس إليك من الآيات شيء . انتهى . وهذا مكابرة من الكفار وعناد ، وإلاّ فقد أنزل الله على رسوله من الآيات ما يغني البعض منه ، وجاء في { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ } بصيغة الحصر لبيان أنه صلى الله عليه وسلم مرسل لإنذار العباد ، وبيان ما يحذرون عاقبته ، وليس عليه غير ذلك ، وقد فعل ما هو عليه ، وأنذر أبلغ إنذار ، ولم يدع شيئاً مما يحصل به ذلك إلاّ أتى به وأوضحه وكرره ، فجزاه الله عن أمته خيراً .
{ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } أي : نبيّ يدعوهم إلى ما فيه هدايتهم ورشادهم . وإن لم تقع الهداية لهم بالفعل ولم يقبلوها ، وآيات الرسل مختلفة هذا يأتي بآية أو آيات لم يأت بها الآخر بحسب ما يعطيه الله منها ، ومن طلب من بعضهم ما جاء به البعض الآخر فقد بلغ في التعنت إلى مكان عظيم ، فليس المراد من الآيات إلاّ الدلالة على النبوّة لكونها معجزة خارجة عن القدرة البشرية ، وذلك لا يختص بفرد منها ، ولا بأفراد معينة . وقيل : إن المعنى { ولكل قوم هاد } ، وهو الله - عزّ وجلّ - فإنه القادر على ذلك ، وليس على أنبيائه إلاّ مجرد الإنذار .
{ الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } الجملة مستأنفة مسوقة لبيان إحاطته بالعلم سبحانه ، وعلمه بالغيب الذي هذه الأمور المذكورة منه ، قيل : ويجوز أن يكون الاسم الشريف خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : ولكل قوم هاد وهو الله .

وجملة { يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } تفسير لهاد على الوجه الأخير ، وهذا بعيد جداً ، و " ما " موصولة ، أي : يعلم الذي تحمله كل أنثى في بطنها من علقة ، أو مضغة ، أو ذكر ، أو أنثى ، أو صبيح ، أو قبيح ، أو سعيد ، أو شقي . ويجوز أن تكون استفهامية ، أيّ : يعلم أي شيء في بطنها ، وعلى أيّ حال هو . ويجوز أن تكون مصدرية أي : يعلم حملها { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } الغيض : النقص ، أي : يعلم الذي تغيضه الأرحام ، أي : تنقصه ، ويعلم ما تزداده . فقيل : المراد نقص خلقة الحمل وزيادته كنقص إصبع أو زيادتها . وقيل : إن المراد نقص مدّة الحمل على تسعة أشهر ، أو زيادتها ، وقيل . إذا حاضت المرأة في حال حملها كان ذلك نقصاً في ولدها ، وقيل : الغيض : ما تنقصه الأرحام من الدم ، والزيادة ما تزداده منه ، و «ما» في { ما تغيض } { وما تزداد } تحتمل الثلاثة الوجوه المتقدّمة في { ما تحمل كل أنثى } { وَكُلُّ شَىْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } أي : كل شيء من الأشياء التي من جملتها الأشياء المذكورة عند الله سبحانه بمقدار ، والمقدار : القدر الذي قدّره الله .
وهو معنى قوله سبحانه : { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } [ القمر : 49 ] أي : كل الأشياء عند الله سبحانه جارية على قدره الذي قد سبق وفرغ منه ، لا يخرج عن ذلك شيء .
{ عالم الغيب والشهادة } أي : عالم كل غائب عن الحسّ ، وكل مشهود حاضر ، أو كل معدوم وموجود ولا مانع من حمل الكلام على ما هو أعمّ من ذلك { الكبير المتعال } أي : العظيم الذي كل شيء دونه ، المتعالي عما يقوله المشركون ، أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره .
ثم لما ذكر سبحانه أنه يعلم تلك المغيبات لا يغادره شيء منها ، بين أنه عالم بما يسرّونه في أنفسهم وما يجهرون به لغيره ، وأن ذلك لا يتفاوت عنده فقال : { سَوَاء مّنْكُمْ من أسرّ القول ومن جهر به } فهو يعلم ما أسرّه الإنسان كعلمه بما جهر به من خير وشر ، وقوله : { منكم } متعلق بسواء على معنى : يستوي منكم من أسرّ ومن جهر ، أو سرّ من أسرّ وجهر من جهر { ومن هو مستخف بالليل } أي : مستتر في الظلمة الكائنة في الليل متوار عن الأعين . يقال : خفي الشيء واستخفى أي : استتر وتوارى { وَسَارِبٌ بالنهار } قال الكسائي : سرب يسرب سُرباً وسُروباً إذا ذهب . ومنه قول الشاعر :
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي : ذهب . وقال القتيبي : سارب بالنهار متصرّف في حوائجه بسرعة ، من قولهم : أسرب الماء . قال الأصمعي حلّ سربه أي : طريقته . وقال الزجاج : معنى الآية : الجاهر بنطقه ، والمضمر في نفسه ، والظاهر في الطرقات والمستخفي في الظلمات علم الله فيهم جميعاً سوّى ، وهذا ألصق بمعنى الآية كما تفيده المقابلة بين المستخفي والسارب ، فالمستخفي : المستتر ، والسارب البارز الظاهر .

{ لَهُ معقبات } الضمير في «له» راجع إلى " من " في قوله : { من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف } أي : لكل من هؤلاء معقبات . والمعقبات : المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه ، ويكون بدلاً منه ، وهم الحفظة من الملائكة في قول عامة المفسرين . قال الزجاج : المعقبات ملائكة يأتي بعضهم بعقب بعض ، وإنما قال : معقبات مع كون الملائكة ذكوراً؛ لأن الجماعة من الملائكة يقال لها : معقبة ، ثم جمع معقبة على معقبات : ذكر معناه الفراء ، وقيل : أنث لكثرة ذلك منهم نحو نسابة وعلامة . قال الجوهري : والتعقب العود بعد البدء . قال الله تعالى : { ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقّبْ } [ النمل : 10 ] وقرىء " معاقيب " جمع معقب { مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } أي : من بين يدي من له المعقبات ، والمراد : أن الحفظة من الملائكة من جميع جوانبه . وقيل : المراد بالمعقبات : الأعمال ، ومعنى { من بين يديه ومن خلفه } : ما تقدم منها وما تأخر .
{ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } أي : من أجل أمر الله ، وقيل : يحفظونه من بأس الله إذا أذنب بالاستمهال له والاستغفار حتى يتوب . قال الفراء : في هذا قولان : أحدهما أنه على التقديم والتأخير . تقديره : له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، والثاني أن كون الحفظة يحفظونه هو مما أمر الله به . قال الزجاج : المعنى : حفظهم إياه من أمر الله أي : مما أمرهم به لا أنهم يقدرون أن يدفعوا أمرالله . قال ابن الأنباري : وفي هذا قول آخر ، وهو أن «من» بمعنى الباء ، أي : يحفظونه بأمر الله . وقيل : إن " من " بمعنى عن ، أي : يحفظونه عن أمر الله ، بمعنى من عند الله ، لا من عند أنفسهم ، كقوله : { أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ } [ قريش : 4 ] أي : عن جوع . وقيل : يحفظونه من ملائكة العذاب . وقيل : يحفظونه من الجن . واختار ابن جرير أن المعقبات المواكب بين أيدي الأمراء ، على معنى أن ذلك لا يدفع عنه القضاء .
{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ } من النعمة والعافية { حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ } من طاعة الله ، والمعنى : أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعم بها عليهم حتى يغيروا الذي بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة ، أو يغيروا الفطرة التي فطرهم الله عليها . قيل : وليس المراد ، أنه لا ينزل بأحد من عباده عقوبة حتى يتقدم له ذنب ، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير كما في الحديث " أنه سأل رسول الله سائل فقال : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث " { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا } أي : هلاكاً وعذاباً { فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أي فلا ردّ له .

وقيل : المعنى إذا أراد الله بقوم سوءاً أعمى قلوبهم ، حتى يختاروا ما فيه البلاء { وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ } يلي أمرهم ويلتجئون إليه ، فيدفع عنهم ما ينزل بهم من الله سبحانه من العقاب ، أو من ناصر ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله . والمعنى : أنه لا رادّ لعذاب الله ولا ناقص لحكمه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن في قوله : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } قال : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك فعجب قولهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم ، وهم رأوا من قدرة الله وأمره ، وما ضرب لهم من الأمثال وأراهم من حياة الموتى والأرض الميتة { فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفى خلق جديد } أو لا يرون أنه خلقهم من نطفة ، فالخلق من نطفة أشد من الخلق من تراب وعظام .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } قال : العقوبات . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في { المثلات } قال : وقائع الله في الأمم فيمن خلا قبلكم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { المثلات } ما أصاب القرون الماضية من العذاب . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش : ولولا وعيده وعقابه لاتكل ، كل أحد » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس { وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } نبيّ يدعوهم إلى الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : محمد المنذر ، والهادي الله - عزّ وجلّ - وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه أيضاً . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المنذر وهو الهادي . وأخرج ابن جرير عن عكرمة وأبي الضحى نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، والديلمي ، وابن عساكر ، وابن النجار عن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ } : وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال : « أنا المنذر » ، وأومأ بيده إلى منكب عليّ فقال : « أنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي » قال ابن كثير في تفسيره : وهذا الحديث فيه نكارة شديدة .

وأخرج ابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه . وأخرج ابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس مرفوعاً نحوه أيضاً .
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عليّ بن أبي طالب في الآية نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } قال : كل أنثى من خلق الله . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في الآية قال : يعلم ذكراً هو أو أنثى { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } قال : هي المرأة ترى الدم في حملها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } قال : خروج الدم { وَمَا تَزْدَادُ } قال : استمساكه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } قال : أن ترى الدم في حملها { وَمَا تَزْدَادُ } قال : في التسعة أشهر ، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عنه في الآية قال : ما تزداد على تسعة ، وما تنقص من التسعة . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ عنه أيضاً في الآية { مَا تَغِيضُ الأرحام } قال : السقط { وَمَا تَزْدَادُ } ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً ، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهنّ من تحمل تسعة أشهر ، ومنهنّ من تنقص ، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله ، وكل ذلك بعلمه تعالى .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { عالم الغيب والشهادة } قال : السرّ والعلانية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله : { ومن هو مستخف بالليل } قال : راكب رأسه في المعاصي { وَسَارِبٌ بالنهار } قال : ظاهر بالنهار بالمعاصي . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن ابن عباس { وَسَارِبٌ بالنهار } قال : الظاهر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس : أن سبب نزول الآية قدوم عامر بن الطفيل ، وأربد بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصة المشهورة ، وأنه لما أصيب عامر بن الطفيل بالغدّة نزل قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } إلى قوله : { معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } قال : المعقبات من أمر الله يحفظون محمداً صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر أربد بن قيس وما قتله ، فقال : { هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق } إلى قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { معقبات } الآية قال : هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } قال : ذلك الحفظ من أمر الله بأمر الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { مِنْ أَمْرِ الله } قال : بإذن الله . وأخرج ابن جرير عن قتادة مثله . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : وليّ السلطان يكون عليه الحراس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، يقول : يحفظونه من أمري ، فإني إذا أردت بقوم سوءاً فلا مردّ له . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه في الآية قال : الملوك يتخذون الحرس يحفظونه من أمامه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، يحفظونه من القتل ، ألم تسمع أن الله يقول : { إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } أي : إذا أراد سوءاً لم يغن الحرس عنه شيئاً . وأخرج ابن جرير عن عكرمة في الآية قال : هؤلاء الأمراء . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هم الملائكة تعقب بالليل تكتب على ابن آدم . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه . وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ عن عليّ في الآية قال : ليس من عبد إلاّ ومعه ملائكة يحفظونه من أن تقع عليه حائط ، أو ينزوي في بئر ، أو يأكله سبع ، أو غرق أو حرق ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبين القدر . وقد ورد في ذكر الحفظة الموكلين بالإنسان أحاديث كثيرة مذكورة في كتب الحديث .

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)

لما خوّف سبحانه عباده بإنزال مالاً مرد له أتبعه بأمور ترجى من بعض الوجوه ، ويخاف من بعضها ، وهي البرق ، والسحاب ، والرعد ، والصاعقة ، وقد مر في أول البقرة تفسير هذه الألفاظ وأسبابها .
وقد اختلف في وجه انتصاب { خَوْفًا وَطَمَعًا } فقيل : على المصدرية ، أي : لتخافوا ولتطمعوا طمعاً ، وقيل : على العلة بتقدير إرادة الخوف والطمع ، لئلا يختلف فاعل الفعل المعلل وفاعل المفعول له ، أو على الحالية من البرق ، أو من المخاطبين بتقدير ذوي خوف . وقيل غير ذلك مما لا حاجة إليه . قيل : والمراد بالخوف هو الحاصل من الصواعق ، وبالطمع هو الحاصل في المطر ، وقال الزجاج : الخوف للمسافر لما يتأذى به من المطر ، والطمع للحاضر . لأنه إذا رأى البرق طمع في المطر ، الذي هو سبب الخصب { وَيُنْشِىء السحاب الثقال } التعريف للجنس ، والواحدة سحابة ، والثقال : جمع ثقيلة ، والمراد أن الله سبحانه يجعل السحاب التي ينشئها ثقالاً بما يجعله فيها من الماء .
{ وَيُسَبّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } أي : يسبح الرعد نفسه بحمد الله أي : متلبساً بحمده ، وليس هذا بمستبعد ، ولا مانع من أن ينطقه الله بذلك { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ } [ الإسراء : 44 ] . وأما على تفسير الرعد بملك من الملائكة فلا استبعاد في ذلك ، ويكون ذكره على الإفراد مع ذكر الملائكة بعده لمزيد خصوصية له ، وعناية به ، وقيل : المراد : ويسبح سامعو الرعد ، أي يقولون : سبحان الله والحمدلله { والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ } أي : ويسبح الملائكة من خيفة الله سبحانه . وقيل : من خيفة الرعد . وقد ذكر جماعة من المفسرين أن هؤلاء الملائكة هم أعوان الرعد . وأن الله سبحانه جعل له أعواناً { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء } من خلقه فيهلكه ، وسياق هذه الأمور هنا للغرض الذي سيقت له الآيات التي قبلها ، وهي الدلالة على كمال قدرته { وَهُمْ يجادلون فِى الله } الضمير راجع إلى الكفار ، المخاطبين في قوله : { هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق } أي : وهؤلاء الكفرة مع هذه الآيات التي أراهم الله يجادلون في شأن الله سبحانه فينكرون البعث تارة ، ويستعجلون العذاب أخرى ، ويكذبون الرسل ويعصون الله ، وهذه الجملة في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة .
{ وَهُوَ شَدِيدُ المحال } قال ابن الأعرابي : المحال المكر ، والمكر من الله : التدبير بالحق . وقال النحاس : المكر من الله إيصال المكروه إلى من يستحقه من حيث لا يشعر . وقال الأزهري : المحال : القوة والشدة ، والميم أصلية ، وما حلت فلاناً محالاً أينا أشد . وقال أبو عبيد : المحال : العقوبة والمكروه . قال الزجاج : يقال ما حلته محالاً : إذا قاويته حتى يتبين أيكما أشد ، والمحْلُ في اللغة : الشدة . وقال ابن قتيبة : أي شديد الكيد ، وأصله من الحيلة جعل الميم كميم المكان ، وأصله من الكون ، ثم يقال : تمكنت .

قال الأزهري : غلط ابن قتيبة أن الميم فيه زائدة ، بل هي أصلية . وإذا رأيت الحرف على مثال فعال أوله ميم مكسورة فهي أصلية ، مثل مهاد وملاك ومراسي وغير ذلك من الحروف . وقرأ الأعرج « وهو شديد المحال » بفتح الميم . وقد فسرت هذه القراءة بالحول .
وللصحابة والتابعين في تفسير المحال هنا أقوال ثمانية : الأول : العداوة . الثاني الحول . الثالث الأخذ . الرابع : الحقد . الخامس : القوة . السادس : الغضب . السابع : الهلاك . الثامن : الحيلة . { لَهُ دَعْوَةُ الحق } إضافة الدعوة إلى الحق للملابسة ، أي : الدعوة الملابسة للحق المختصة به التي لا مدخل للباطل فيها بوجه من الوجوه ، كما يقال : كلمة الحق ، والمعنى أنها دعوة مجابة واقعة في موقعها ، لا كدعوة من دونه . وقيل : الحق هو الله سبحانه ، والمعنى : أن لله سبحانه دعوة المدعو الحق ، وهو الذي يسمع فيجيب ، وقيل : المراد بدعوة الحق ها هنا : كلمة التوحيد والإخلاص ، والمعنى : لله من خلقه أن يوحدوه ويخلصوا له . وقيل : دعوة الحق دعاؤه سبحانه عند الخوف فإنه لا يدعى فيه سواه كما قال تعالى : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] . وقيل : الدعوة : العبادة ، فإن عبادة الله هي الحق والصدق : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء } أي : والآلهة الذين يدعونهم - يعني الكفار - من دون الله - عزّ وجلّ - لا يستجيبون لهم بشيء مما يطلبونه منهم كائناً ما كان إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فإنه لا يجيبه؛ لأنه جماد لا يشعر بحاجته إليه ، ولا يدري أنه طلب منه أن يبلغ فاه . ولهذا قال : { وَمَا هُوَ } أي : الماء { بِبَالِغِهِ } أي : ببالغ فيه . قال الزجاج : إلاّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه إلى الماء يدعو الماء إلى فيه ، والماء لا يستجيب ، أعلم الله سبحانه أن دعاءهم الأصنام كدعاء العطشان إلى الماء يدعوه إلى بلوغ فمه ، وما الماء ببالغه . وقيل : المعنى : أنه كباسط كفيه إلى الماء ليقبض عليه فلا يحصل في كفه شيء منه . وقد ضربت العرب لمن سعى فيما لا يدركه مثلاً بالقبض على الماء كما قال الشاعر :
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد
وقال الآخر :
ومن يأمن الدنيا يكن مثل قابض ... على الماء خانته فروج الأصابع
وقال الفراء : إن المراد بالماء هنا ماء البئر ، لأنها معدن للماء ، وأنه شبهه بمن مد يده إلى البئر بغير رشاء ، ضرب الله سبحانه هذا مثلاً لمن يدعو غيره من الأصنام . { وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ فِى ضلال } أي : يضل عنهم ذلك الدعاء فلا يجدون منه شيئاً ، ولا ينفعهم بوجه من الوجوه ، بل هو ضائع ذاهب .
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السموات والأرض * طَوْعًا وَكَرْهًا } إن كان المراد بالسجود معناه الحقيقي ، وهو وضع الجبهة على الأرض للتعظيم مع الخضوع والتذلل ، فذلك ظاهر في المؤمنين والملائكة ومسلمي الجن ، وأما في الكفار فلا يصح تأويل السجود بهذا في حقهم ، فلا بدّ أن يحمل السجود المذكور في الآية على معنى : حق لله السجود ووجب ، حتى يُناول السجود بالفعل وغيره ، أو يفسر للسجود بالانقياد .

لأن الكفار وإن لم يسجدوا لله سبحانه فهم منقادون لأمره ، وحكمه فيهم بالصحة والمرض والحياة والموت والفقر والغنى . ويدل على إرادة هذا المعنى قوله : { طَوْعًا وَكَرْهًا } فإن الكفار ينقادون كرهاً كما ينقاد المؤمنون طوعاً ، وهما منتصبان على المصدرية ، أي : انقياد طوع وانقياد كره ، أو على الحال ، أي : طائعين وكارهين ، وقال الفراء : الآية خاصة بالمؤمنين فإنهم يسجدون طوعاً ، وبعض الكفار يسجدون إكراهاً وخوفاً كالمنافقين ، فالآية محمولة على هؤلاء . وقيل : الآية في المؤمنين ، فمنهم من سجد طوعاً لا يثقل عليه السجود ، ومنهم من يثقل عليه لأن التزام التكليف مشقة ولكنهم يتحملون المشقة إيماناً بالله وإخلاصاً له .
{ وظلالهم بالغدو والآصال } وظلالهم : جمع ظل ، والمراد به : ظل الإنسان الذي يتبعه ، جعل ساجداً بسجوده حيث صار لازماً له لا ينفك عنه . قال الزجاج ، وابن الأنباري : ولا يبعد أن يخلق الله للظلال أفهاماً تسجد بها لله سبحانه ، كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيحه ، فظل المؤمن يسجد لله طوعاً . وظل الكافر يسجد لله كرهاً . وخص الغدو والآصال بالذاكر ، لأنه يزداد ظهور الظلال فيهما ، وهما ظرف للسجود المقدر ، أي : ويسجد ظلالهم في هذين الوقتين ، وقد تقدّم تفسير الغدوّ والآصال في الأعراف ، وفي معنى هذه الآية قوله سبحانه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء يَتَفَيَّأُ ظلاله عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ داخرون } [ النحل : 48 ] وجاء بمن في { من في السموات والأرض } تغليباً للعقلاء على غيرهم ، ولكون سجود غيرهم تبعاً لسجودهم ، ومما يؤيد حمل السجود على الانقياد ما يفيده تقديم { لله } على الفعل من الاختصاص ، فإن سجود الكفار لأصنامهم معلوم ، ولا ينقادون لهم كانقيادهم لله في الأمور التي يقرّون على أنفسهم بأنها من الله ، كالخلق والحياة والموت ، ونحو ذلك .
{ قُلْ مَن رَّبُّ السموات والأرض } أمر الله سبحانه رسوله أن يسأل الكفار : من رب السموات والأرض؟ ثم لما كانوا يقرّون بذلك ويعترفون به كما حكاه الله سبحانه في قوله : { ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] . وقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب ، فقال : { قُلِ الله } فكأنه حكى جوابهم وما يعتقدونه ، لأنهم ربما تلعثموا في الجواب حذراً مما يلزمهم ، ثم أمره بأن يلزمهم الحجة ويبكتهم فقال : { قُلْ اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } والاستفهام للإنكار ، أي : إذا كان رب السموات والأرض هو الله كما تقرون بذلك وتعترفون به كما حكاه سبحانه عنكم بقوله :

{ قُلْ مَن رَّبُّ * السموات * السبع وَرَبُّ العرش العظيم * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } [ المؤمنون : 86 - 87 ] فما بالكم اتخذتم لأنفسكم من دونه أولياء عاجزين { لاَ يَمْلِكُونَ لانْفُسِهِمْ نَفْعًا } ينفعونها به { وَلاَ ضَرّا } يضرون به غيرهم أو يدفعونه عن أنفسهم ، فكيف ترجون منهم النفع والضر وهم لا يملكونهما لأنفسهم ، والجملة في محل نصب على الحال ، ثم ضرب الله سبحانه لهم مثلاً وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم . فقال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير } أي : هل يستوي الأعمى في دينه وهو الكافر ، والبصير فيه وهو الموحد ، فإن الأول جاهل لما يجب عليه وما يلزمه ، والثاني عالم بذلك . قرأ ابن محيصن ، وأبو بكر ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي « أم هل يستوي الظلمات والنور » بالتحتية . وقرأ الباقون بالفوقية . واختار القراءة الثانية أبو عبيد ، والمراد بالظلمات : الكفر ، وبالنور : الإيمان ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي : كيف يكونان مستويين وبينهما من التفاوت ما بين الأعمى والبصير ، وما بين الظلمات والنور؟ ووحد النور وجمع الظلمات ، لأن طريق الحق واحدة لا تختلف ، وطرائق الباطل كثيرة غير منحصرة .
{ أَمْ جَعَلُواْ لله شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } « أم » هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة ، أي : بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه ، والاستفهام لإنكار الوقوع . قال ابن الأنباري : معناه أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم ، أي : ليس الأمر على هذا حتى يشتبه الأمر عليهم ، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا الله هو المنفرد بالخلق ، وسائر الشركاء لا يخلقون شيئاً ، وجملة : { خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } في محل نصب صفة لشركاء ، والمعنى : أنهم لم يجعلوا لله شركاء متصفين بأنهم خلقوا كخلقه { فَتَشَابَهَ } بهذا السبب { الخلق عَلَيْهِمْ } حتى يستحقوا بذلك العبادة منهم ، بل إنما جعلوا له شركاء الأصنام ونحوها ، وهي بمعزل عن أن تكون كذلك ، ثم أمره الله سبحانه بأن يوضح لهم الحق ويرشدهم إلى الصواب فقال : { قُلِ الله خالق كُلّ شَىْء } كائناً ما كان ليس لغيره في ذلك مشاركة بوجه من الوجوه . قال الزجاج : والمعنى : أنه خالق كل شيء مما يصح أن يكون مخلوقاً ، ألا ترى أنه تعالى شيء وهو غير مخلوق { وَهُوَ الواحد } أي : المتفرّد بالربوبية { القهار } لما عداه ، فكل ما عداه مربوب مقهور مغلوب .
ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر للحق وذويه ، وللباطل ومنتحليه فقال : { أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } أي : من جهتها ، والتنكير للتكثير أو للنوعية { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } جمع وادٍ ، وهو كل منفرج بين جبلين أو نحوهما . قال أبو علي الفارسي : لا نعلم فاعلاً جمع على أفعلة إلاّ هذا ، وكأنه حمل على فعيل فجمع على أفعلة مثل جريب وأجربة .

كما أن فعيلاً حمل على فاعل ، فجمع على أفعال مثل يتيم وأيتام وشريف وأشراف ، كأصحاب وأنصار في صاحب وناصر . قال : وفي قوله : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ } توسع أي : سال ماؤها ، قال : ومعنى { بِقَدَرِهَا } بقدر مائها ، لأن الأودية ما سالت بقدر أنفسها . قال الواحدي : والقدر مبلغ الشيء ، والمعنى : بقدرها من الماء ، فإن صغر الوادي قلّ الماء وإن اتسع كثر ، وقال في الكشاف : { بقدرها } بمقدارها الذي يعرف الله أنه نافع للممطور عليهم غير ضارّ . قال ابن الأنباري : شبه نزول القرآن الجامع للهدى والبيان بنزول المطر ، إذ نفع نزول القرآن يعمّ كعموم نفع نزول المطر ، وشبه الأودية بالقلوب : إذ الأودية يستكنّ فيها الماء كما يستكنّ القرآن والإيمان في قلوب المؤمنين .
{ فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا } الزبد : هو الأبيض المرتفع المنتفخ على وجه السيل ، ويقال له : الغثاء والرغوة ، والرابي : العالي المرتفع فوق الماء . قال الزجاج : هو الطافي فوق الماء ، وقال غيره : هو الزائد بسبب انتفاخه ، من ربا يربو إذا زاد . والمراد من هذا تشبيه الكفر بالزبد الذي يعلو الماء ، فإنه يضمحلّ ويعلق بجنبات الوادي وتدفعه الرياح . فكذلك يذهب الكفر ويضمحلّ . وقد تمّ المثل الأولّ ، ثم شرح سبحانه في ذكر المثل الثاني فقال : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النار } « من » لابتداء الغاية ، أي : ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء ، أو للتبعيض ، بمعنى : وبعضه زبد مثله ، والضمير للناس ، أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره . هذا على قراءة { يوقدون } بالتحتية ، وبها قرأ حميد وابن محيصن ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص . وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد . والمعنى : ومما توقدون عليه في النار فيذوب من الأجسام المنطرقة الذائبة .
{ ابتغاء حِلْيَةٍ } أي : لطلب اتخاذ حلية تتزينون بها وتتجملون كالذهب والفضة { أَوْ متاع } أي : أو طلب متاع تتمتعون به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والصفر والنحاس والرصاص { زَبَدٌ مّثْلُهُ } المراد بالزبد هنا الخبث ، فإنه يعلو فوق ما أذيب من تلك الأجسام كما يعلو الزبد على الماء فالضمير في { مثله } يعود إلى { زبداً رابياً } وارتفاع { زبد } على الابتداء وخبره { مما يوقدون } ، { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } أي : مثل ذلك الضرب البديع يضرب الله مثل الحق ومثل الباطل ، ثم شرع في تقسيم المثل فقال : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء } يقال : جفأ الوادي بالهمز جفاء : إذا رمى بالقذر والزبد . قال الفراء : الجفاء الرمي . يقال : جفأ الوادي غثاء جفاء : إذا رمى به ، والجفاء بمنزلة الغثاء . وكذا قال أبو عمرو بن العلاء ، وحكى أبو عبيدة أنه سمع رؤبة يقرأ « جفالاً » . قال أبو عبيدة : يقال : أجفلت القدر إذا قذفت بزبدها . وأجفلت الريح السحاب إذا قطعته ، قال أبو حاتم : لا يقرأ بقراءة رؤبة ، لأنه كان يأكل الفأر .

واعلم أن وجه المماثلة بين الزبدين في الزبد الذي يحمله السيل والزبد الذي يعلو الأجسام المنطرقة ، أن تراب الأرض لما خالط الماء وحمله معه صار زبداً رابياً فوقه . وكذلك ما يوقد عليه في النار حتى يذوب من الأجسام المنطرقة ، فإن أصله من المعادن التي تنبت في الأرض فيخالطها التراب ، فإذا أذبيت صار ذلك التراب الذي خالطها خبثاً مرتفعاً فوقها .
{ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس } منهما وهو الماء الصافي ، والذائب الخالص من الخبث { فَيَمْكُثُ فِى الأرض } أي : يثبت فيها . أما الماء فإنه يسلك في عروق الأرض فتنتفع الناس به ، وأما ما أذيب من تلك الأجسام فإنه يصاغ حلية وأمتعة . وهذان مثلان ضربهما الله سبحانه للحق والباطل ، يقول : إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه ، فإن الله سبحانه سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء ويضمحلّ وكخبث هذه الأجسام فإنه وإن علا عليها فإن الكير يقذفه ويدفعه ، فهذا مثل الباطل؛ وأما الماء الذي ينفع الناس وينبت المراعي فيمكث في الأرض ، كذلك الصفو من هذه الأجسام فإنه يبقى خالصاً لا شوب فيه ، وهو مثل الحق . قال الزجاج : فمثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان كمثل هذا الماء المنتفع به في نبات الأرض وحياة كل شيء ، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر لأنها كلها تبقى منتفعاً بها ، ومثل الكافر وكفره كمثل الزبد الذي يذهب جفاء ، وكمثل خبث الحديد وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي لا ينتفع به . وقد حكينا عن ابن الأنباري فيما تقدّم أنه شبه نزول القرآن إلى آخر ما ذكرناه فجعل ذلك مثلاً ضربه الله للقرآن . { كذلك يَضْرِبُ الله الامثال } أي : مثل ذلك الضرب العجيب يضرب الله الأمثال في كل باب لكمال العناية بعباده واللطف بهم ، وهذا تأكيد لقوله : { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } .
ثم بين سبحانه من ضرب له مثل الحق ومثل الباطل من عباده ، فقال : فيمن ضرب له مثل الحق { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبّهِمُ } أي : أجابوا دعوته إذ دعاهم إلى توحيده وتصديق أنبيائه والعمل بشرائعه ، و { الحسنى } صفة موصوف محذوف ، أي : المثوبة الحسنى وهي الجنة ، وقال سبحانه فيمن ضرب له مثل الباطل { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } لدعوته إلى ما دعاهم إليه ، والموصول مبتدأ وخبره الجملة الشرطية ، وهي { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } من أصناف الأموال التي يتملكها العباد ويجمعونها بحيث لا يخرج عن ملكهم منها شيء { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي : مثل ما في الأرض جميعاً كائناً معه ومنضماً إليه { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } أي : بمجموع ما ذكر وهو ما في الأرض ومثله . والمعنى : ليخلصوا به مما هم فيه من العذاب الكبير والهول العظيم ، ثم بين الله سبحانه ما أعدّه لهم فقال : { أولئك } يعني : الذين لم يستجيبوا { لَهُمْ سُوء الحساب } قال الزجاج : لأن كفرهم أحبط أعمالهم ، وقال غيره : سوء الحساب المناقشة فيه؛ وقيل : هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : مرجعهم إليها { وَبِئْسَ المهاد } أي : المستقرّ الذي يستقرون فيه .

والمخصوص بالذم محذوف .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { هُوَ الذى يُرِيكُمُ البرق خَوْفًا وَطَمَعًا } قال : خوفاً للمسافر يخاف أذاه ومشقته ، وطمعاً للمقيم يطمع في رزق الله ويرجو بركة المطر ومنفعته . وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال : خوفاً لأهل البحر وطمعاً لأهل البر . وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك قال : الخوف ما يخاف من الصواعق ، والطمع : الغيث . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ، والبيهقي في سنّنه من طرق عن عليّ بن أبي طالب قال : البرق : مخاريق من نار بأيدي ملائكة السحاب يزجرون به السحاب . وروي عن جماعة من السلف ما يوافق هذا ويخالفه ، ولعلنا قد قدّمنا في سورة البقرة شيئاً من ذلك .
وأخرج أحمد عن شيخ من بني غفار قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله ينشىء السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك أحسن الضحك " قيل : والمراد بنطقها الرعد ، وبضحكها البرق . وقد ثبت عند أحمد ، والترمذي ، والنسائي في اليوم والليلة ، والحاكم في مستدركه من حديث ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " وأخرج العقيلي وضعفه ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينشىء الله السحاب ثم ينزل فيه الماء ، فلا شيء أحسن من ضحكه ، ولا شيء أحسن من نطقه ، ومنطقه الرعد وضحكه البرق " وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله : «أن خزيمة بن ثابت ، وليس بالأنصاري ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منشأ السحاب فقال : " إن ملكاً موكلاً يلمّ القاصية ويلحم الدانية ، في يده مخراق ، فإذا رفع برقت وإذا زجر رعدت ، وإذا ضرب صعقت " وأخرج أحمد ، والترمذي وصححه . والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : «أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ، إنا نسألك عن خمسة أشياء ، فإن أنبأتنا بهنّ عرفنا أنك نبيّ واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال :

{ الله على ما نقول وكيل } [ يوسف : 66 ] ، قال « هاتوا » ، قالوا : أخبرنا عن علامة النبيّ؟ قال : « تنام عيناه ولا ينام قلبه » ، قالوا : أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر؟ قال : « يلتقي الماءان ، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت » قالوا : أخبرنا عمّا حرم إسرائيل على نفسه؟ قال : « كان يشتكي عرق النساء ، فلم يجد شيئاً يلائمه إلاّ ألبان كذا وكذا : يعني : الإبل ، فحرم لحومها » قالوا : صدقت ، قالوا أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال : « ملك من ملائكة الله موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله » ، قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : « صوته » ، قالوا : صدقت إنما بقيت واحدة ، وهي التي نتابعك إن أخبرتنا ، إنه ليس من نبيّ إلاّ له ملك يأتيه بالخبر ، فأخبرنا من صاحبك؟ قال : « جبريل ، » قالوا : جبريل ذاك ينزل بالخراب والقتال والعذاب عدوّنا ، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فأنزل الله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّا لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] إلى آخر الآية . وأخرج البخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي الدنيا في المطر ، وابن جرير عن ابن عباس أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال : سبحان الذي سبحت له ، وقال : إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه . وقد روي نحو هذا عنه من طرق . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن الرعد صوت الملك ، وكذا أخرج نحوه أبو الشيخ عن ابن عمر . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : الرعد ملك اسمه الرعد ، وصوته هذا تسبيحه ، فإذا اشتدّ زجره احتك السحاب واضطرم من خوفه ، فتخرج الصواعق من بينه ، وأخرج ابن أبي حاتم ، والخرائطي ، وأبو الشيخ في العظمة عن أبي عمران الجوني قال : إن بحوراً من نار دون العرش يكون منها الصواعق . وأخرج أبو الشيخ عن السدّي قال : الصواعق نار . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } قال : شديد القوّة . وأخرج ابن جرير عن علي قال : شديد الأخذ .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عنه في قوله : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } قال : التوحيد : لا إله إلاّ الله . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طرق عن ابن عباس في قوله { دَعْوَةُ الحق } قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله . وأخرج ابن جرير عن علي في قوله : { إِلاَّ كباسط كَفَّيْهِ إِلَى الماء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } قال : كان الرجل العطشان يمدّ يده إلى البئر ليرتفع الماء إليه وما هو ببالغه .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في الآية قال : هذا مثل المشرك الذي عبد مع الله غيره ، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي ينظر إلى خياله في الماء من بعيد وهو يريد أن يتناوله ولا يقدر عليه .
وأخرج أبو الشيخ عنه في قوله : { هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير } قال : المؤمن والكافر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه أيضاً في قوله : { أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } الآية قال : هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاء } وهو الشك { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِى الأرض } وهو اليقين ، وكما يجعل الحليّ في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً : { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } قال : الصغير قدر صغره ، والكبير قدر كبره .

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)

الهمزة في قوله : { أَفَمَن يَعْلَمُ } للإنكار على من يتوهم المماثلة بين من يعلم أنما أنزله الله سبحانه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ، وهو القرآن ، وبين من هو أعمى لا يعلم ذلك ، فإن الحال بينهما متباعد جدّاً كالتباعد الذي بين الماء والزبد ، وبين الخبث والخالص من تلك الأجسام ، ثم بين سبحانه أنه إنما يقف على تفاوت المنزلتين ، وتباين الرتبتين أهل العقول الصحيحة ، فقال : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } .
ثم وصفهم بهذه الأوصاف المادحة ، فقال : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } أي : بما عقدوه من العهود فيما بينهم وبين ربهم ، أو فيما بينهم وبين العباد { وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق } الذي وثقوه على أنفسهم ، وأكدوه بالإيمان ونحوها ، وهذا تعميم بعد التخصيص ، لأنه يدخل تحت الميثاق كل ما أوجبه العبد على نفسه كالنذور ونحوها ، ويحتمل أن يكون الأمر بالعكس فيكون من التخصيص بعد التعميم على أن يراد بالعهد جميع عهود الله ، وهي أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده ، ويدخل في ذلك الالتزامات التي يلزم بها العبد نفسه ، ويراد بالميثاق : ما أخذه الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم في عالم الذرّ المذكور في قوله سبحانه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ } [ الأعراف : 171 ] .
{ والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } ظاهره شمول كل ما أمر الله بصلته ، ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق عباده ، ويدخل تحت ذلك صلة الأرحام دخولاً أوّلياً ، وقد قصره كثير من المفسرين على صلة الرحم ، واللفظ أوسع من ذلك { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } خشية تحملهم على فعل ما وجب ، واجتناب ما لا يحلّ { وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } وهو الاستقصاء فيه والمناقشة للعبد ، فمن نوقش الحساب عذب ، ومن حق هذه الخيفة أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا .
{ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبّهِمْ } قيل : هو كلام مستأنف ، وقيل : معطوف على ما قبله ، والتعبير عنه بلفظ المضيّ للتنبيه على أنه ينبغي تحققه ، والمراد بالصبر الصبر على الإتيان بما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه . وقيل : على الرزايا والمصائب ، ومعنى كون ذلك الصبر لابتغاء وجه الله : أن يكون خالصاً له ، لا شائبة فيه لغيره { وأقاموا الصلاة } أي : فعلوها في أوقاتها على ما شرعه الله سبحانه في أذكارها وأركانها مع الخشوع والإخلاص ، والمراد بها الصلوات المفروضة ، وقيل أعمّ من ذلك { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي : أنفقوا بعض ما رزقناهم ، والمراد بالسرّ : صدقة النفل ، والعلانية : صدقة الفرض؛ وقيل : السرّ لمن لم يعرف بالمال ، أو لا يتهم بترك الزكاة ، والعلانية لمن كان يعرف بالمال أو يتهم بترك الزكاة { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } أي : يدفعون سيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه كما في قوله تعالى :

{ ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ فصلت : 34 ] ، أو يدفعون بالعمل الصالح العمل السيء ، أو يدفعون الشرّ بالخير ، أو المنكر بالمعروف ، أو الظلم بالعفو ، أو الذنب بالتوبة ، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصوفين بالصفات المتقدّمة { لَهُمْ عقبى الدار } العقبى مصدر كالعاقبة؛ والمراد بالدار الدنيا ، وعقباها الجنة؛ وقيل : المراد بالدار الدار الآخرة ، وعقباها الجنة للمطيعين ، والنار للعصاة .
{ جنات عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } بدل من عقبى الدار أي : لهم جنات عدن ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، وخبره يدخلونها ، والعدن أصله الإقامة ، ثم صار علماً لجنة من الجنان . قال القشيري : وجنات عدن : وسط الجنة وقصبتها وسقفها عرش الرحمن ، ولكن في صحيح البخاري وغيره : « إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة »
{ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ } يشمل الآباء والأمهات { وأزواجهم وذرياتهم } معطوف على الضمير في يدخلون ، وجاز ذلك للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، أي : ويدخلها أزواجهم وذرياتهم ، وذكر الصلاح دليل على أنه لا يدخل الجنة إلاّ من كان كذلك من قرابات أولئك ، ولا ينفع مجرد كونه من الآباء أو الأزواج ، أو الذرية بدون صلاح { والملائكة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ } أي : من جميع أبواب المنازل التي يسكنونها ، أو المراد من كل باب من أبواب التحف والهدايا من الله سبحانه . { سلام عَلَيْكُمُ } أي : قائلين سلام عليكم أي : سلمتم من الآفات أو دامت لكم السلامة { بِمَا صَبَرْتُمْ } أي بسبب صبركم وهو متعلق بالسلام أي : إنما حصلت لكم هذه السلامة بواسطة صبركم أو متعلق بعليكم ، أو بمحذوف أي : هذه الكرامة بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاقّ الصبر { فَنِعْمَ عقبى الدار } جاء سبحانه بهذه الجملة المتضمنة لمدح ما أعطاهم من عقبى الدار المتقدّم ذكرها للترغيب والتشويق .
ثم اتبع أحوال السعداء بأحوال الأشقياء ، فقال : { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } وقد مرّ تفسير عدم النقض وعدم القطع فعرف منهما تفسير النقض والقطع ، ولم يتعرض لنفي الخشية والخوف عنهم وما بعدهما من الأوصاف المتقدّمة لدخولها في النقض والقطع { وَيُفْسِدُونَ فِى الأرض } بالكفر وارتكاب المعاصي والأضرار بالأنفس والأموال { أولئك } الموصوفون بهذه الصفات الذميمة { لَهُمْ } بسبب ذلك { اللعنة } : أي : الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه { وَلَهُمْ سُوء الدار } أي : سوء عاقبة دار الدنيا ، وهي النار أو عذاب النار .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ الحق } قال : هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه { كَمَنْ هُوَ أعمى } قال : عن الحق فلا يبصره ولا يعقله { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } فبين من هم ، فقال : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله } .

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير { أولوا الألباب } قال : من كان له لبّ ، أي : عقل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة أن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين آية من القرآن .
وأخرج الخطيب ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن البرّ والصلة ليخففان سوء الحساب يوم القيامة " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } » . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله : { والذين يَصِلُونَ مَا أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } يعني : من إيمان بالنبيين وبالكتب كلها { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يعني : يخافون من قطيعة ما أمر الله به أن يوصل { وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } يعني : شدّة الحساب .
وقد ورد في صلة الرحم وتحريم قطعها أحاديث كثيرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، أبو الشيخ عن الضحاك { وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة } قال : يدفعون بالحسنة السيئة .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ عن ابن مسعود في قوله : { جنات عَدْنٍ } قال : بطنان الجنة ، يعني : وسطها . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن عمر قال لكعب : ما عدن؟ قال : هو قصر في الجنة لا يدخله إلاّ نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حكم عدل . وأخرج ابن مردويه عن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ، ثم قال له : كن فكان " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ } قال : من آمن في الدنيا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني في قوله : { سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } قال : على دينكم { فَنِعْمَ عقبى الدار } قال : نعم ما أعقبكم الله من الدنيا في الجنة .
وأخرج أحمد ، والبزار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوّل من يدخل الجنة من خلق الله فقراء المهاجرين الذين تسدّ بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته ، في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم ، فتقول الملائكة : ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك ، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال الله : إن هؤلاء عبادي كانوا يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ، وتسدّ بهم الثغور ، وتتقى بهم المكاره ، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء ، فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب { سلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } "

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي أمامة : «إن المؤمن ليكون متكئاً على أريكة إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم ، وعند طرف السماطين باب مبوّب ، فيقبل الملك فيستأذن ، فيقول أقصى الخدم للذي يليه : ملك يستأذن ، ويقول الذي يليه : ملك يستأذن ، حتى يبلغ المؤمن ، فيقول : ائذنوا له ، فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا له ، ويقول الذي يليه للذي يليه : ائذنوا له حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل ويسلم عليه ، ثم ينصرف . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَلَهُمْ سُوء الدار } قال : سوء العاقبة .

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)

لما ذكر الله سبحانه عاقبة المشركين بقوله : { وَلَهُمْ سُوء الدار } كان لقائل أن يقول : قد نرى كثيراً منهم قد وفر الله له الرزق وبسط له فيه ، فأجاب عن ذلك بقوله : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } فقد يبسط الرزق لمن كان كافراً ، ويقتره على من كان مؤمناً ابتلاءً وامتحاناً ، ولا يدلّ البسط على الكرامة ولا القبض على الإهانة ، ومعنى يقدر : يضيق ، ومنه { مِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] أي : ضيق . وقيل : معنى يقدر يعطي بقدر الكفاية ، ومعنى الآية : أنه الفاعل لذلك وحده القادر عليه دون غيره { وَفَرِحُواْ بالحياة الدنيا } أي : مشركو مكة فرحوا بالدنيا وجهلوا ما عند الله ، قيل : وفي هذه الآية تقديم وتأخير ، والتقدير : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض وفرحوا بالحياة الدنيا ، فيكون { وفرحوا } معطوفاً على يفسدون { وَمَا الحياة الدنيا فِى الآخرة إِلاَّ متاع } أي : ما هي إلاّ شيء يستمتع به ، وقيل : المتاع واحد الأمتعة كالقصعة والسكرجة ونحوهما ، وقيل : المعنى : شيء قليل ذاهب ، من متع النهار : إذا ارتفع فلا بدّ له من زوال ، وقيل : زاد كزاد الراكب يتزوّد به منها إلى الآخرة .
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رَّبّهِ } أي يقول : أولئك المشركون من أهل مكة هلا أنزل على محمد آية من ربه؟ وقد تقدّم تفسير هذا قريباً ، وتكرر في مواضع { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء } أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بهذا ، وهو أن الضلال بمشيئة الله سبحانه ، من شاء أن يضله ضلّ كما ضلّ هؤلاء القائلون { لولا أنزل عليه آية من ربه } ، { وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي : ويهدي إلى الحق ، أو إلى الإسلام ، أو إلى جنابه - عزّ وجلّ - { مَنْ أَنَابَ } : أي : من رجع إلى الله بالتوبة والإقلاع عما كان عليه ، وأصل الإنابة الدخول في نوبة الخير . كذا قال النيسابوري ، ومحل الذين آمنوا النصب على البدلية من قوله : { مَنْ أَنَابَ } أي : أنهم هم الذين هداهم الله وأنابوا إليه ، ويجوز أن يكون { الذين أمنوا } خبر مبتدأ محذوف أي : هم الذين آمنوا ، أو منصوب على المدح { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } أي : تسكن وتستأنس بذكر الله سبحانه بألسنتهم ، كتلاوة القرآن ، والتسبيح ، والتحميد ، والتكبير ، والتوحيد ، أو بسماع ذلك من غيرهم ، وقد سمي سبحانه القرآن ذكراً قال : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أنزلناه } [ الأنبياء : 50 ] ، وقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } [ الحجر : 9 ] . قال الزجاج : أي إذا ذكر الله وحده آمنوا به غير شاكين بخلاف من وصف بقوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة }

[ الزمر : 45 ] وقيل : تطمئن قلوبهم بتوحيد الله ، وقيل : المراد بالذكر هنا : الطاعة ، وقيل : بوعد الله ، وقيل : بالحلف بالله ، فإذا حلف خصمه بالله سكن قلبه ، وقيل : بذكر رحمته ، وقيل : بذكر دلائله الدالة على توحيده { أَلاَ بِذِكْرِ الله } وحده دون غيره { تَطْمَئِنُّ القلوب } والنظر في مخلوقات الله سبحانه وبدائع صنعه وإن كان يفيد طمأنينة في الجملة ، لكن ليست كهذه الطمأنينة ، وكذلك النظر في المعجزات من الأمور التي لا يطيقها البشر ، فليس إفادتها للطمأنينة كإفادة ذكر الله ، فهذا وجه ما يفيده هذا التركيب من القصر .
{ الذين امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ } الموصول مبتدأ خبره الجملة الدعائية ، وهي طوبى لهم على التأويل المشهور ، ويجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المدح ، وطوبى لهم خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من القلوب على حذف مضاف أي : قلوب الذين آمنوا . قال أبو عبيدة ، والزجاج ، وأهل اللغة : طوبى فعلى من الطيب . قال ابن الأنباري : وتأويلها الحال المستطابة ، وقيل : طوبى شجرة في الجنة ، وقيل : هي الجنة ، وقيل : هي البستان بلغة الهند ، وقيل : معنى { طوبى لهم } : حسنى لهم ، وقيل : خير لهم ، وقيل : كرامة لهم ، وقيل : غبطة لهم ، قال النحاس : وهذه الأقوال متقاربة ، والأصل طيبى فصارت الياء واواً لسكونها وضم ما قبلها ، واللام في لهم للبيان مثل سقياً لك ورعياً لك ، وقرىء ( حسن مآب ) بالنصب والرفع ، من آب إذا رجع أي : وحسن مرجع ، وهو الدار الآخرة .
{ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } أي : مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المشتمل على المعجزة الباهرة ، أرسلناك يا محمد ، وقيل : شبه الأنعام على من أرسل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بالأنعام على من أرسل إليه الأنبياء قبله ، ومعنى { فِى أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ } في قرن قد مضت من قبله قرون ، أو في جماعة من الناس قد مضت من قبلها جماعات { لّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي : لتقرأ عليهم القرآن { يَكْفُرُونَ * بالرحمن } أي : بالكثير الرحمة لعباده ، ومن رحمته لهم إرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم كما قال سبحانه : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] وجملة { قُلْ هُوَ رَبّى } مستأنفة بتقدير سؤال كأنهم قالوا : وما الرحمن؟ فقال سبحانه : { قُلْ } يا محمد { هُوَ رَبّى } أي : خالقي { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي : لا يستحق العبادة له والإيمان به سواه { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري { وَإِلَيْهِ } لا إلى غيره { مَتَابِ } أي : توبتي ، وفيه تعريض بالكفار وحثّ لهم على الرجوع إلى الله والتوبة من الكفر والدخول في الإسلام .
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عبد الرحمن بن سابط في قوله : { وَمَا الحياة الدنيا فِى الاخرة إِلاَّ متاع } قال : كزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرب عليه اللبن .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : كان الرجل يخرج في الزمان الأول في إبله ، أو غنمه ، فيقول لأهله : متعوني فيمتعونه فلقة الخبز أوالتمر ، فهذا مثل ضربه الله للدنيا . وأخرج الترمذي وصححه عن عبد الله ابن مسعود قال : «نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه ، فقلنا : يا رسول الله لو اتخذنا لك؟ فقال " ما لي وللدنيا ، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكب استظل تحت شجرة ، ثم راح وتركها " وأخرج مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه عن المستورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما الدنيا في الآخرة إلاّ كمثل ما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم يرجع؟ وأشار بالسبابة "
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } قال : هشت إليه واستأنست به ، وأخرج أبو الشيخ عن السدّي في الآية قال : إذا حلف لهم بالله صدقوا . { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } قال : تسكن . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال : بمحمد وأصحابه . وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين نزلت هذه الآية « { ألا بذكر الله تَطْمَئِنُّ القلوب } " هل تدرون ما معنى ذلك؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " من أحبّ الله ورسوله وأحبّ أصحابي "
وأخرج ابن مردويه عن عليّ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } قال : " ذاك من أحبّ الله ورسوله ، وأحبّ أهل بيتي صادقاً غير كاذب ، وأحبّ المؤمنين شاهداً وغائباً ، ألا بذكر الله يتحابون "
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله : { طوبى لَهُمْ } قال : فرح وقرّة عين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : { طوبى لَهُمْ } قال : نعم ما لهم .
وقد روي عن جماعة من السلف نحو ما قدّمنا ذكره من الأقوال ، والأرجح تفسير الآية بما روي مرفوعاً إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم كما أخرجه أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي عن عتبة ابن عبد قال : " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله في الجنة فاكهة؟ قال : نعم فيها شجرة تدعى طوبى "

الحديث . وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والخطيب في تاريخه عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن رجلاً قال : يا رسول الله ، طوبى لمن رآك وآمن بك ، قال : " طوبى لمن آمن بي ورآني ، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني " ، فقال رجل : وما طوبى؟ قال : " شجرة في الجنة مسير مائة عام ، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " وفي الباب أحاديث وآثار عن السلف ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة ، اقرءوا إن شئتم { وَظِلّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] وفي بعض الألفاظ «إنها شجرة الخلد " وأخرج أبو الشيخ عن السديّ { وَحُسْنُ مَئَابٍ } قال : حسن منقلب . وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشاً كتب في الكتاب : «بسم الله الرحمن الرحيم ، فقالت قريش : أما الرحمن فلا نعرفه ، وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم ، فقال أصحابه : دعنا نقاتلهم ، فقال : " لا ، ولكن اكتبوا كما يريدون» . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في هذه الآية نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } قال : توبتي .

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)

قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } قيل : هذا متصل بقوله : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ } 7 ] وأن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح فإنها أرض ضيقة ، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن ، وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصرّوا على تعنتهم وطلبهم ، ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية ، من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد . ومعنى { سيّرت به الجبال } أي : بإنزاله وقراءته فسارت عن محل استقرارها { أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الأرض } أي : صدّعت حتى صارت قطعاً متفرقة { أَوْ كُلّمَ بِهِ الموتى } أي : صاروا أحياء بقراءته عليهم ، فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء .
وقد اختلف في جواب « لو » ماذا هو؟ فقال الفراء : هو محذوف ، وتقديره : لكان هذا القرآن ، وروي عنه أنه قال : إن الجواب : لكفروا بالرحمن ، أي : لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن ، وقيل : جوابه لما آمنوا كما سبق في قوله : { مَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } [ الأنعام : 111 ] وقيل : الجواب متقدّم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي : وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآنا إلى آخره ، وكثيراً ما تحذف العرب جواب « لو » إذا دلّ عليه سياق الكلام ، ومنه قول امرىء القيس :
فلو أنها نفس تموت جميعةً ... ولكنها نفس تساقط أنفساً
أي : لهان عليّ ذلك { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا } أي : لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هذا القرآن ، ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن ، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا ، وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات ، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدّى إليه كون الأمر لله سبحانه ، ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، ويدلّ على أن هذا هو المعنى المراد من ذلك قوله : { أفلم ييأس الذين آمنوا أن يشاء الله لهدى الناس جميعاً } . قال الفراء : قال الكلبي : { أفلم ييأس } بمعنى : أفلم يعلم ، وهي لغة النخع . قال في الصحاح : وقيل : هي لغة هوازن ، وبهذا قال جماعة من السلف . قال أبو عبيدة : أفلم يعلموا ويتبينوا ، قال الزجاج : وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون ، نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما ، ويؤيده قراءة عليّ ، وابن عباس ، وجماعة « أفلم يتبين » ، ومن هذا قول رباح بن عدّي :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائبا
أي : لم يعلم ، وأنشد في هذا أبو عبيدة قول مالك بن عوف النضري :

أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أي : لم تعلموا ، فمعنى الآية على هذا : أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً من غير أن يشاهدوا الآيات ، وقيل : إن الإياس على معناه الحقيقي أي : أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار ، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم؛ لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعاً في إيمانهم { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } هذا وعيد للكفار على العموم أو لكفار مكة على الخصوص أي : لا يزال الذين كفروا تصيبهم بسبب ما صنعوا من الكفر والتكذيب للرسل قارعة أي : داهية تفجؤهم ، يقال : قرعه الأمر إذا أصابه ، والجمع قوارع ، والأصل في القرع الضرب . قال الشاعر :
أفنى تلادي وما جمعت من نشب ... قرع القراقير أفواه الأباريق
والمعنى : أن الكفار لا يزالون كذلك حتى تصيبهم داهية مهلكة من قتل أو أسر أو جدب أو نحو ذلك من العذاب ، وقد قيل : إن القارعة النكبة ، وقيل : الطلائع والسرايا ، ولا يخفى أن القارعة تطلق على ما هو أعمّ من ذلك { أَوْ تَحُلُّ } أي : القارعة { قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ } فيفزعون منها ويشاهدون من آثارها ما ترجف له قلوبهم وترعد منه بوادرهم . وقيل : إن الضمير في { تَحُلُّ } للنبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى : أو تحلّ أنت يا محمد قريباً من دارهم محاصراً لهم آخذاً بمخانقهم كما وقع منه لأهل الطائف { حتى يَأْتِىَ وَعْدُ الله } وهو موتهم ، أو قيام الساعة عليهم ، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حلّ بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدّة ، وقيل : المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار ، والأوّل أولى { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة .
{ وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } التنكير في رسل للتكثير أي : برسل كثيرة ، والإملاء : الإمهال ، وقد مرّ تحقيقه في الأعراف { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } بالعذاب الذي أنزلته بهم { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } الاستفهام للتقريع والتهديد أي : فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزءوا بالرسل ، فأمليت لهم ثم أخذتهم .
ثم استفهم سبحانه استفهاماً آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم ، فقال : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ } القائم الحفيظ والمتولي للأمور ، وأراد سبحانه نفسه ، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق ، وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت ، والجواب محذوف أي : أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضرّ . قال الفراء : كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله ، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما ، وقيل : المراد بمن هو قائم على كل نفس الملائكة الموكلون ببني آدم ، والأوّل أولى ، وجملة { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء } معطوفة على الجواب المقدّر مبينة له أو حالية بتقدير قد أي : وقد جعلوا ، أو معطوفة على { وَلَقَدِ استهزىء } أي : استهزءوا وجعلوا { قُلْ سَمُّوهُمْ } أي : قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ؛ لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحّق أن يلتفت إليه ، فيقال : سمه إن شئت يعني : أنه أحقر من أن يسمى؛ وقيل : إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون ، فيكون ذلك تهديداً لهم { أَمْ تُنَبّئُونَهُ } أي : بل أتنبئون الله { بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض } من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السموات والأرض { أَم بظاهر مّنَ القول } أي : بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة؛ وقيل : المعنى قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه؟ فإن قالوا : بباطن لايعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة ، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم : سموهم ، فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما ، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكاً ، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها ، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض ، لأنهم ادّعوا له شريكاً في الأرض .

وقيل : معنى { أَم بظاهر مّنَ القول } أم بزائل من القول باطل ، ومنه قول الشاعر :
أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
أي : زائل باطل ، وقيل : بكذب من القول ، وقيل : معنى { بظاهر من القول } بحجة من القول ظاهرة على زعمهم { بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } أي : ليس لله شريك ، بل زين للذين كفروا مكرهم . وقرأ ابن عباس « زين » على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم . وقرأ من عداه بالبناه للمفعول ، والمزين هو الله سبحانه ، أو الشيطان ويجوز أن يسمى المكر كفراً ، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم كان كفراً . وأما معناه الحقيقي فهو الكيد ، أو التمويه بالأباطيل { وَصُدُّواْ عَنِ السبيل } قرأ حمزة والكسائي وعاصم { صدّوا } على البناء للمفعول أي : صدهم الله ، أو صدهم الشيطان . وقرأ الباقون على البناء للفاعل أي : صدّوا غيرهم ، واختار هذه القراءة أبو حاتم . وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الصاد { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي : يجعله ضالاً وتقتضي مشيئته إضلاله ، فما له من هادٍ يهديه إلى الخير . قرأ الجمهور { هاد } من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة . وقرىء بإثباتها على اللغة القليلة ، ثم بين سبحانه ما يستحقونه ، فقال : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا } بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك { وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ } عليهم من عذاب الحياة الدنيا { وَمَا لَهُم مّنَ الله مِن وَاقٍ } يقيهم عذابه ، ولا عاصم يعصمهم منه .

ثم لما ذكر سبحانه مما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى ، ذكر ما أعدّه للمؤمنين ، فقال : { مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي : صفقتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل ، قال ابن قتيبة : المثل الشبه في أصل اللغة ، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته ، يقال : مثلت لك كذا أي : صوّرته ووصفته ، فأراد هنا بمثل الجنة وصورتها وصفتها ، ثم ذكرها ، فقال : { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } وهو كالتفسير للمثل . قال سيبويه : وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة . وقال الخليل وغيره : إن { مثل الجنة } مبتدأ والخبر { تجري } . وقال الزجاج : إنه تمثيل للغائب بالشاهد ، ومعناه مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، وقيل : إن فائدة الخبر ترجع إلى { أُكُلُهَا دَائِمٌ } أي : لا ينقطع ، ومثله قوله سبحانه : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 33 ] وقال الفراء : المثل مقحم للتأكيد ، والمعنى : الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ، والعرب تفعل ذلك كثيراً { وِظِلُّهَا } أي : كذلك دائم لا يتقلص ولا تنسخه الشمس ، والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى الجنة الموصوفة بالصفات المتقدّمة ، وهو مبتدأ خبره { عقبى الذين اتقوا } أي : عاقبة الذين اتقوا المعاصي ، ومنتهى أمرهم { وَّعُقْبَى الكافرين النار } ليس لهم عاقبة ولا منتهى إلاّ ذلك .
وقد أخرج الطبراني ، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال : قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلمهم ، وافسح لنا هذه الجبال جبال مكة التي قد ضمتنا ، فنزلت : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه عن عطية العوفي قال : قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان يحيي عيسى الموتى لقومه ، فأنزل الله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال } الآية إلى قوله : { أفلم ييأس الذين ءامنوا } قال : أفلم يتبين الذين آمنوا ، قالوا : هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ؟ قال : عن أبي سعيد الخدريّ : عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرجه أيضاً ابن أبي حاتم قال : حدّثنا أبو زرعة ، حدّثنا منجاب بن الحرث ، أخبرنا بشر بن عمارة ، حدّثنا عمر بن حسان ، عن عطية العوفي فذكره . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه مختصراً .

وأخرج أبو يعلى ، وأبو نعيم في الدلائل ، وابن مردويه عن الزبير بن العوام في ذكر سبب نزول الآية نحو ما تقدّم مطوّلاً . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعًا } لا يصنع من ذلك إلاّ ما يشاء ولم يكن ليفعل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أفلم ييأس } يقول : يعلم . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ من طريق أخرى عنه نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن أبي العالية { وَلَوْ أَنَّ } قال : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء الله لهدى الناس جميعاً .
وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } قال : السرايا . وأخرج الطيالسي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عنه نحوه ، وزاد { أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ } قال : أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله . قال : فتح مكة . وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { قَارِعَةٌ } قال : نكبة . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه من طريق العوفي عنه قارعة قال : عذاب من السماء ، { أو تحلّ قريباً من دارهم } : يعني نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله آباءهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } قال : يعني بذلك نفسه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عطاء في الآية قال : الله تعالى قائم بالقسط والعدل على كل نفس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : { أَم بظاهر مّنَ القول } قال : الظاهر من القول هو الباطل .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : { مَّثَلُ الجنة } قال : نعت الجنة ، ليس للجنة مثل . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن إبراهيم التيمي في قوله : { أُكُلُهَا دَائِمٌ } قال : لذَّاتها دائمة في أفوائهم .

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)

اختلف المفسرون في تفسير الكتاب المذكور فقيل : هو التوراة والإنجيل ، والذين يفرحون بما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من أسلم من اليهود والنصارى ، وقيل : الذين يفرحون هم أهل الكتابين لكون ذلك موافقاً لما في كتبهم مصدّقاً له ، فعلى الأوّل يكون المراد بقوله : { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } من لم يسلم من اليهود والنصارى ، وعلى الثاني يكون المراد به المشركين من أهل مكة ومن يمثالهم ، أو يكون المراد به البعض من أهل الكتابين أي : من أحزابهما ، فإنهم أنكروه لما يشتمل عليه من كونه ناسخاً لشرائعهم فيتوجه فرح من فرح به منهم إلى ما هو موافق لما في الكتابين ، وإنكار من أنكر منهم إلى ما خالفهما ، وقيل : المراد بالكتاب القرآن ، والمراد بمن يفرح به المسلمون ، والمراد بالأحزاب المتحزّبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين واليهود والنصارى ، والمراد بالبعض الذي أنكروه من خالف ما يعتقدونه على اختلاف اعتقادهم . واعترض على هذا بأن فرح المسلمين بنزول القرآن معلوم فلا فائدة في ذكره ، وأجيب عنه بأن المراد زيادة الفرح والاستبشار ، وقال كثير من المفسرين : إن عبد الله بن سلام والذين آمنوا معه من أهل الكتاب ساءهم قلة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة ، فأنزل الله { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] ففرحوا بذلك ، ثم لما بين ما يحصل بنزول القرآن من الفرح للبعض والإنكار للبعض صرّح بما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يقول لهم ذلك ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ } أي : لا أشرك به بوجه من الوجوه أي قل لهم : يا محمد إلزاماً للحجة ، ورّداً للإنكار : إنما أمرت فيما أنزل إليّ بعبادة الله وتوحيده ، وهذا أمر اتفقت عليه الشرائع وتطابقت على عدم إنكاره جميع الملل المقتدية بالرسل . وقد اتفق القرّاء على نصب : { ولا أشرك به } عطفاً على { أعبد } . وقرأ أبو خليد بالرفع على الاستئناف ، وروى هذه القراءة عن نافع { إِلَيْهِ ادعوا } أي : إلى الله لا إلى غيره أو إلى ما أمرت به ، وهو عبادة الله وحده ، والأوّل أولى لقوله : { وَإِلَيْهِ مَآبِ } فإن الضمير لله سبحانه أي : إليه وحده : لا إلى غيره مرجعي .
ثم ذكر بعض فضائل القرآن ، وأوعد على الإعراض عن اتباعه مع التعرّض لردّ ما أنكروه من اشتماله على نسخ بعض شرائعهم فقال : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيّا } أي : مثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا القرآن مشتملاً على أصول الشرائع وفروعها . وقيل : المعنى : وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغاتهم ، كذلك أنزلنا عليك القرآن بلسان العرب ، ونريد بالحكم ما فيه من الأحكام ، أو حكمة عربية مترجمة بلسان العرب ، وانتصاب { حكماً } على الحال { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم } التي يطلبون منك موافقتهم عليها كالاستمرار منك على التوجه إلى قبلتهم وعدم مخالفتك لشيء مما يعتقدونه { بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم } الذي علمك الله إياه { مالك مِنَ الله } أي : من جنابه { مِن وَلِىّ } يلي أمرك وينصرك { وَلاَ وَاقٍ } يقيك من عذابه .

والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريض لأمته ، واللام في { ولئن اتبعت } هي الموطئة للقسم ، و { مالك } سادّ مسدّ جواب القسم والشرط .
{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً } أي : إن الرسل الذين أرسلناهم قبلك هم من جنس البشر ، لهم أزواج من النساء ، ولهم ذرّية توالدوا منهم ومن أزواجهم ، ولم نرسل الرسل من الملائكة الذين لا يتزوجون ولا يكون لهم ذرية . وفي هذا ردّ على من كان ينكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّجه بالنساء أي : أن هذا شأن رسل الله المرسلين من قبل هذا الرسول فما بالكم تنكرون عليه ما كانوا عليه؟! { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : لم يكن لرسول من الرسل أن يأتي بآية من الآيات ، ومن جملتها ما اقترحه عليه الكفار إلاّ بإذن الله سبحانه ، وفيه ردّ على الكفار حيث اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات ما اقترحوه بما سبق ذكره . { لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي : لكل أمر مما قضاه الله ، أو لكل وقت من الأوقات التي قضى الله بوقوع أمر فيها كتاب عند الله يكتبه على عباده ويحكم به فيهم . وقال الفراء : فيه تقديم وتأخير ، والمعنى : لكل كتاب أجل أي : لكل أمر كتبه الله أجل مؤجل ، ووقت معلوم ، كقوله سبحانه : { لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } [ الأنعام : 67 ] وليس الأمر على حسب إرادة الكفار واقتراحاتهم ، بل على حسب ما يشاؤه ويختاره .
{ يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } أي : يمحو من ذلك الكتاب ويثبت ما يشاء منه ، يقال : محوت الكتاب محواً إذا أذهبت أثره . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم { ويثبت } بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد ، وظاهر النظم القرآني العموم في كل شيء مما في الكتاب ، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر ، أو خير أو شرّ ، ويبدل هذا بهذا ، ويجعل هذا مكان هذا { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وأبو وائل ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جريج وغيرهم . وقيل : الآية خاصة بالسعادة والشقاوة . وقيل : يمحو ما يشاء من ديوان الحفظة ، وهو ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ، ويثبت ما فيه الثواب والعقاب .

وقيل : يمحو ما يشاء من الرزق ، وقيل يمحو من الأجل . وقيل : يمحو ما يشاء من الشرائع فينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه . وقيل : يمحو ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء . وقيل : يمحو ما يشاء من الذنوب بالتوبة ، ويترك ما يشاء منها مع عدم التوبة . وقيل : يمحو الآباء ويثبت الأبناء . وقيل : يمحو القمر ويثبت الشمس كقوله : { فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل وَجَعَلْنَا ءايَةَ النهار مُبْصِرَةً } [ الإسراء : 12 ] وقيل : يمحو ما يشاء من الأرواح التي يقبضها حال النوم فيميت صاحبه ويثبت ما يشاء فيردّه إلى صاحبه . وقيل : يمحو ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها . وقيل : يمحو الدنيا ويثبت الآخرة . وقيل : غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره ، والأوّل أولى كما تفيده " ما " في قوله؛ { ما يشاء } من العموم مع تقدم ذكر الكتاب في قوله : { لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ } ومع قوله : { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } أي : أصله ، وهو اللوح المحفوظ ، فالمراد من الآية أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ فيكون كالعدم ، ويثبت ما يشاء مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته ، وهذا لا ينافي ما ثبت عنه من قوله صلى الله عليه وسلم : «جفّ القلم» ، وذلك لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه الله سبحانه . وقيل : إن أم الكتاب هو علم الله تعالى بما خلق وما هو خالق .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ } قال : أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرحوا بكتاب الله وبرسله وصدّقوا به { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } يعني : اليهود والنصارى والمجوس . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يفرحون بذلك . { ومنهم من يؤمن به ، ومنهم من لا يؤمن به } [ يونس : 40 ] . { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } قال : الأحزاب الأمم اليهود والنصارى والمجوس . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : { وَإِلَيْهِ مَابِ } قال : إليه مصير كل عبد .
وأخرج ابن ماجه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طريق قتادة عن الحسن عن سمرة قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبتل ، وقرأ قتادة : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن سعد بن هشام قال : دخلت على عائشة فقلت : إني أريد أن أتبتل؟ قالت : لا تفعل ، أما سمعت الله يقول : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً } . وقد ورد في النهي عن التبتل والترغيب في النكاح ما هو معروف .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قالت قريش حين أنزل : { مَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ما نراك يا محمد تملك من شيء ، ولقد فرغ من الأمر ، فأنزلت هذه الآية تخويفاً لهم ووعيداً لهم { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا شيئاً ، ويحدث الله في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } قال : ينزل الله في كل شهر رمضان إلى سماء الدنيا ، فيدبر أمر السنة إلى السنة فيمحو ما يشاء ويثبت ، إلا الشقاوة والسعادة والحياة والموت . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد سبق له خير حتى يموت على طاعة الله .
وأخرج ابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه أيضاً في الآية قال : هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت ، وعنده أم الكتاب ، أي : جملة الكتاب . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درّة بيضاء ، له دفتان من ياقوت ، والدفتان لوحان : لله كل يوم ثلاث وستون لحظة { يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } . وإسناده عند ابن جرير هكذا : حدّثنا محمد بن شهر بن عسكر ، حدّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس فذكره .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والطبراني عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت " الحديث . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه بإسناد . قال السيوطي : ضعيف ، عن ابن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يمحو الله ما يشاء ويثبت إلاّ الشقاوة والسعادة والحياة والممات " وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً نحوه . وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال : «لا ينفع الحذر من القدر ، ولكنّ الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» . وأخرج ابن جرير عن قيس بن عباد قال : العاشر من رجب وهو يوم يمحو الله فيه ما يشاء .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه نحوه بأطول منه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب؛ أنه قال وهو يطوف بالبيت : اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنباً فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ، وعندك أمّ الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني عن ابن مسعود نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في المدخل عن ابن عباس في قوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } قال : يبدّل الله ما يشاء من القرآن فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدّله { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } يقول : وجملة ذلك عنده في أمّ الكتاب : الناسخ والمنسوخ ، ما يبدّل ، وما يثبت كل ذلك في كتاب . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } قال : الذكر . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن يسار ، عن ابن عباس : أنه سأل كعباً عن أمّ الكتاب ، فقال : علم الله ما هو خالق ، وما خلقه عالمون ، فقال لعلمه : كن كتاباً ، فكان كتاباً .

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)

{ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } « ما » زائدة وأصله : وإن نرك { بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ } من العذاب كما وعدناهم بذلك بقولنا : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الحياة الدنيا } وبقولنا : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } والمراد أريناك بعض ما نعدهم قبل موتك ، أو توفيناك قبل إراءتك لذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } أي : فليس عليك إلاّ تبليغ أحكام الرسالة ، ولا يلزمك حصول الإجابة منهم لما بلغته إليهم { وَعَلَيْنَا الحساب } أي : محاسبتهم بأعمالهم ومجازاتهم عليها ، وليس ذلك عليك . وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم وإخبار له أنه قد فعل ما أمره الله به ، وليس عليه غيره ، وأن من لم يجب دعوته ، ويصدّق نبوّته فالله سبحانه محاسبه على ما اجترم واجترأ عليه من ذلك .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ } يعني أهل مكة ، والاستفهام للإنكار ، أي : أولم ينظروا { أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي : نأتي أرض الكفر كمكة ننقصها من أطرافها بالفتوح على المسلمين منها شيئاً فشيئاً . قال الزجاج : أعلم الله أن بيان ما وعد المشركين من قهرهم قد ظهر ، يقول : أولم يروا أنا فتحنا على المسلمين من الأرض ما قد تبين لهم ، فكيف لا يعتبرون؟ وقيل : إن معنى الآية : موت العلماء والصلحاء . قال القشيري : وعلى هذا فالأطراف الأشراف . وقد قال ابن الأعرابي : الطرف الرجل الكريم . قال القرطبي : وهذا القول بعيد؛ لأن مقصود الآية : أنا أريناهم النقصان في أمرهم ليعلموا أن تأخير العقاب عنهم ليس عن عجز إلاّ أن يحمل على موت أحبار اليهود والنصارى . وقيل : المراد من الآية خراب الأرض المعمورة حتى يكون العمران في ناحية منها . وقيل : المراد بالآية هلاك من هلك من الأمم . وقيل : المراد نقص ثمرات الأرض . وقيل : المراد جور ولاتها حتى تنقص .
{ والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } أي : يحكم ما يشاء في خلقه ، فيرفع هذا ويضع هذا ، ويحيي وهذا ويميت هذا ، ويغني هذا ، ويفقر هذا ، وقد حكم بعزّة الإسلام وعلوّه على الأديان . وجملة { لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } في محل نصب على الحال . وقيل : معترضة . والمعقب : الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، وحقيقته الذي يقفيه بالردّ والإبطال . قال الفراء : معناه لا رادّ لحكمه ، قال : والمعقب الذي يتبع الشيء فيستدركه ، ولا يستدرك أحد عليه ، والمراد من الآية أنه لا يتعقب أحد حكم الله سبحانه بنقص ولا تغيير . { وَهُوَ سَرِيعُ الحساب } فيجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته على السرعة { وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا } أي : قد مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة بمن أرسله الله إليهم من الرسل؛ فكادوهم وكفروا بهم ، وهذا تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم حيث أخبره أن هذا ديدن الكفار من قديم الزمان مع رسل الله سبحانه ، ثم أخبره بأن مكرهم هذا كالعدم ، وأن المكر كله لله ، فقال : { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعًا } لا اعتداد بمكر غيره ، ثم فسر سبحانه هذا المكر الثابت له دون غيره ، فقال : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } من خير وشرّ فيجازيها على ذلك .

ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها كان المكر كله له؛ لأنه يأتيهم من حيث لا يشعرون . وقال الواحدي : إن مكر الماكرين مخلوق فلا يضرّ إلاّ بإرادته . وقيل : المعنى فللّه جزاء مكر الماكرين { وَسَيَعْلَمْ * الكافر لِمَنْ عُقْبَى الدار } . قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو « الكافر » بالإفراد ، وقرأ الباقون { الكفار } بالجمع ، أي : سيعلم جنس الكافر لمن العاقبة المحمودة من الفريقين في دار الدنيا ، أو في الدار الآخرة ، أو فيهما . وقيل المراد بالكافر ، أبو جهل .
{ وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } أي : يقول المشركون أو جميع الكفار : لست يا محمد مرسلاً إلى الناس من الله ، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم ، فقال : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } فهو يعلم صحة رسالتي ، وصدق دعواتي ، ويعلم كذبكم { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أي : علم جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل ، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وتميم الداري ونحوهم ، وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم ، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك . وقيل : المراد بالكتاب القرآن ، ومن عنده علم منه هم المسلمون . وقيل : المراد من عنده علم اللوح المحفوظ ، وهو الله سبحانه ، واختار هذا الزجاج وقال : لأن الأشبه أن الله لا يستشهد على خلقه بغيره .
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : « { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قال : » ذهاب العلماء « وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، ونعيم بن حماد في الفتن ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قال : موت علمائها وفقهائها وذهاب خيار أهلها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال : موت العلماء . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : أولم يروا أنا نفتح لمحمد الأرض بعد الأرض . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : يعني أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان ينتقص له ما حوله من الأرضين ينظرون إلى ذلك فلا يعتبرون .

وقال الله في سورة الأنبياء : { نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] . بل نبي الله وأصحابه هم الغالبون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : نقصان أهلها وبركتها . وأخرج ابن المنذر عنه قال : إنما ننقص الأنفس والثمرات وأما الأرض فلا تنقص . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : أولم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية منها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد { والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقّبَ لِحُكْمِهِ } ليس أحد يتعقب حكمه فيردّه كما يتعقب أهل الدنيا بعضهم حكم بعض فيرده .
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل تجدني في الإنجيل؟ قال : لا ، فأنزل الله : { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } » يقول عبد الله بن سلام . وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال : جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضاضتي باب المسجد ، ثم قال : أنشدكم بالله أتعلمون أني الذي أنزلت فيّ : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } ؟ قالوا : اللهم نعم . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه من طريق أخرى عنه نحوه . وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } قال : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في الآية قال : كان قوم من أهل الكتاب يشهدون بالحق ويعرفونه ، منهم عبد الله بن سلام ، والجارود ، وتميم الداري ، وسلمان الفارسي . وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن مردويه ، وابن عديّ بسندٍ ضعيف عن ابن عمر ، أن النبيّ قرأ : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } قال : « ومن عند الله علم الكتاب » .
وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يقول : ومن عند الله علم الكتاب . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أنه سئل عن قوله : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } أهو عبد الله بن سلام؟ قال : كيف؟ وهذه السورة مكية . . وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال : ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } قال : جبريل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : هو الله .

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)

قوله : { الر } قد تقدم الكلام في أمثال هذا ، وبيان قول من قال إنه غير متشابه ، وهو إما مبتدأ خبره كتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف ، ويكون { كِتَابٌ } خبراً لمحذوف مقدّر ، أو خبراً ثانياً لهذا المبتدأ ، أو يكون { الر } مسروداً على نمط التعديد فلا محلّ له ، و { أنزلناه إِلَيْكَ } صفة لكتاب : أي أنزلنا الكتاب إليك يا محمد ، ومعنى { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } لتخرجهم من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية . جعل الكفر بمنزلة الظلمات ، والإيمان بمنزلة النور على طريق الاستعارة ، واللام في { لتخرج } للغرض والغاية ، والتعريف في الناس للجنس ، والمعنى : أنه صلى الله عليه وسلم يخرج بالكتاب المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه من الظلمات إلى ما صاروا إليه من النور . وقيل : إن الظلمة مستعارة للبدعة ، والنور مستعار للسنّة . وقيل : من الشك إلى اليقين . ولا مانع من إرادة جميع هذه الأمور ، والباء في { بِإِذْنِ رَبّهِمْ } متعلقة ب « تخرج » ، وأسند الفعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الداعي والهادي والمنذر . قال الزجاج : بما أذن لك من تعليمهم ودعائهم إلى الإيمان { إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } هو بدل من { إلى النور } بتكرير العامل كما يقع مثله كثيراً ، أي : لتخرج الناس من الظلمات إلى صراط العزيز الحميد ، وهو طريقة الله الواضحة التي شرعها لعباده ، وأمرهم بالمصير إليها والدخول فيها ، ويجوز أن يكون مستأنفاً بتقدير سؤال ، كأنه قيل : ما هذا النور الذي أخرجهم إليه؟ فقيل : صراط العزيز الحميد ، والعزيز هو القادر الغالب ، والحميد هو الكامل في استحقاق الحمد .
{ الله الذى لَهُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } قرأ نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الله المتصف بملك ما في السموات وما في الأرض ، وقرأ الجمهور بالجرّ على أنه عطف بيان لكونه من الأعلام الغالبة ، فلا يصح وصف ما قبله به؛ لأن العلم لا يوصف به . وقيل : يجوز أن يوصف به من حيث المعنى . وقال أبو عمر : إن قراءة الجرّ محمولة على التقديم والتأخير ، والتقدير : إلى صراط الله العزيز الحميد . وكان يعقوب إذا وقف على { الحميد } رفع ، وإذا وصل خفض . قال ابن الأنباري : من خفض وقف على وما في الأرض . ثم توعد من لا يعترف بربوبيته فقال : { وَوَيْلٌ للكافرين مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قد تقدم بيان معنى الويل ، وأصله النصب . كسائر المصادر ، ثم رفع للدلالة على الثبات . قال الزجاج : هي كلمة تقال للعذاب والهلكة ، فدعا سبحانه وتعالى بذلك على من لم يخرج من الكفار بهداية رسول الله صلى الله عليه وسلم له بما أنزله الله عليه من العذاب الشديد الذي صاروا فيه .

ثم وصف هؤلاء الكفار بقوله : { الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا } أي : يؤثرونها لمحبتهم لها { على الآخرة } الدائمة والنعيم الأبدي . وقيل : إن الموصول في موضع رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هم الذين . وقيل : الموصول مبتدأ وخبره أولئك ، وجملة { وَيَصُدُّونَ } وكذلك { ويبغون } معطوفتان على { يستحبون } ، ومعنى الصدّ { عن سبيل الله } صرف الناس عنه ومنعهم منه ، وسبيل الله دينه الذي شرعه لعباده { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : يطلبون لها زيغاً وميلاً لموافقة أهوائهم وقضاء حاجاتهم وأغراضهم ، والعوج بكسر العين في المعاني وبفتح العين في الأعيان ، وقد سبق تحقيقه . والأصل : يبغون لها . فحذف الحرف وأوصل الفعل إلى الضمير ، واجتماع هذه الخصال نهاية الضلال ، ولهذا وصف ضلالهم بالبعد عن الحق فقال : { أُوْلَئِكَ فِى ضلال بَعِيدٍ } والإشارة إلى الموصوفين بتلك الصفات القبيحة والبعد وإن كان من صفة الضال لكنه يجوز وصف الضلال به مجازاً لقصد المبالغة .
ثم لمّا منّ على المكلفين بإنزال الكتاب وإرسال الرسل ذكر من كمال تلك النعمة أن ذلك المرسل بلسان قومه فقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } أي : متلبساً بلسانهم ، متكلماً بلغتهم؛ لأنه إذا كان كذلك فهم عنه المرسل إليهم ما يقوله لهم وسهل عليهم ذلك بخلاف ما لو كان بلسان غيرهم فإنهم لا يدرون ما يقول ، ولا يفهمون ما يخاطبهم به ، حتى يتعلموا ذلك اللسان دهراً طويلاً ، ومع ذلك فلا بدّ أن يصعب عليهم فهم ذلك بعض صعوبة؛ ولهذا علل سبحانه ما امتن به على العباد بقوله : { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } أي : ليوضح لهم ما أمرهم الله به من الشريعة التي شرعها لهم ووحد اللسان لأن المراد بها اللغة .
وقد قيل : في هذه الآية إشكال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس جميعاً ، بل إلى الجنّ والإنس ولغاتهم متباينة وألسنتهم مختلفة . وأجيب بأنه وإن كان صلى الله عليه وسلم مرسلاً إلى الثقلين كما مرّ لكن لما كان قومه العرب ، وكانوا أخصّ به وأقرب إليه كان إرساله بلسانهم أولى من إرساله بلسان غيرهم ، وهم يبينونه لمن كان على غير لسانهم ، ويوضحونه حتى يصير فإهماً له كفهمهم إياه ، ولو نزل القرآن بجميع لغات من أرسل إليهم ، وبينه رسول الله لكل قوم بلسانهم لكان ذلك مظنة للاختلاف وفتحاً لباب التنازع؛ لأن كل أمة قد تدّعي من المعاني في لسانها ما لا يعرفه غيرها ، وربما كان ذلك أيضاً مفضياً إلى التحريف والتصحيف بسبب الدعاوي الباطلة التي يقع فيها المتعصبون .
وجملة { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء } مستأنفة أي : يضلّ من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته .

قال الفراء : إذا ذكر فعل وبعده فعل آخر فإن لم يكن النسق مشاكلاً للأوّل فالرفع على الاستئناف هو الوجه ، فيكون معنى هذه الآية : وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها وفهموها ، ومع ذلك فإن المضلّ والهادي هو ، الله عزّ وجلّ ، والبيان لا يوجب حصول الهداية إلاّ إذا جعله الله سبحانه واسطة وسبباً ، وتقديم الإضلال على الهداية لأنه متقدّم عليها ، إذ هو إبقاء على الأصل ، والهداية إنشاء ما لم يكن { وَهُوَ العزيز } الذي لا يغالبه مغالب { الحكيم } الذي يجري أفعاله على مقتضى الحكمة .
ثم لما بيّن أن المقصود من بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور أراد أن يبين أن الغرض من إرسال الأنبياء لم يكن إلاّ ذلك ، وخصّ موسى بالذكر لأن أمته أكثر الأمم المتقدّمة على هذه الأمة المحمدية فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } أي : متلبساً بها ، والمراد بالآيات : المعجزات التي لموسى ، ومعنى { أَنْ أَخْرِجْ } أي : أخرج ، لأن الإرسال فيه معنى القول ، ويجوز أن يكون التقدير بأن أخرج ، والمراد بقومه بنو إسرائيل بعد ملك فرعون . { مِنَ الظلمات } من الكفر أو من الجهل الذي قالوا بسببه : { اجعل لَّنَا إلها كَمَا لَهُمْ ءالِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] . { إِلَى النور } إلى الإيمان ، أو إلى العلم { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أي : بوقائعه . قال ابن السكيت : العرب تقول الأيام ، في معنى الوقائع ، يقال : فلان عالم بأيام العرب ، أي : بوقائعها . وقال الزجاج : أي ذكرهم بنعم الله عليهم وبنقم أيام الله التي انتقم فيها من قوم نوح وعاد وثمود ، والمعنى : عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : في التذكير بأيام الله ، أو في نفس أيام الله { لآيَاتٍ } لدلالات عظيمة دالة على التوحيد وكمال القدرة { لّكُلّ صَبَّارٍ } أي : كثير الصبر على المحن والمنح { شَكُورٍ } كثير الشكر للنعم التي أنعم الله بها عليه . وقيل : المراد بذلك كل مؤمن ، وعبَّر عنه بالوصفين المذكورين؛ لأنهما ملاك الإيمان ، وقدّم الصبار على الشكور؛ لكون الشكر عاقبة الصبر .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } قال : من الضلالة إلى الهدى . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : { يَسْتَحِبُّونَ } قال : يختارون . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : إن الله فضل محمداً على أهل السماء وعلى الأنبياء ، قيل : ما فضله على أهل السماء؟ قال : إن الله قال لأهل السماء : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 29 ] وقال لمحمد : { لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }

[ الفتح : 2 ] . فكتب له براءة من النار . قيل : فما فضله على الأنبياء؟ قال : إن الله يقول : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } ، وقال لمحمد : { وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ } [ سبأ : 28 ] فأرسله إلى الإنس والجنّ . وأخرج ابن مردويه عن عثمان بن عفان { إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } قال : نزل القرآن بلسان قريش . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد وعطاء وعبيد بن عمير في قوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا } قال : بالآيات التسع الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا ويده والسنين ونقص من الثمرات . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } قال : من الضلالة إلى الهدى . وأخرج النسائي ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : « { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } قال : » بنعم الله وآلائه « وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } قال : نعم الله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } قال : وعظهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في الآية قال : بوقائع الله في القرون الأولى . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } قال : نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر ، وإذا أعطي شكر .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

قوله : { وَإِذْ قَالَ موسى } الظرف متعلق بمحذوف هو أذكر ، أي : اذكر وقت قول موسى ، و { إِذْ أَنجَاكُمْ } متعلق ب { اذكروا } أي : اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه لكم من آل فرعون ، أو بالنعمة ، أو بمتعلق عليكم ، أي : مستقرة عليكم وقت إنجائه ، وهو بدل اشتمال من النعمة مراداً بها الإنعام أو العطية { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } أي : يبغونكم ، يقال سامه ظلماً أي : أولاه ظلماً ، وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء ، وسوء العذاب : مصدر ساء يسوء ، والمراد حبس العذاب السيء . وهو استعبادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة ، وعطف { يُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ } على { يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب } وإن كان التذبيح من جنس سوء العذاب؛ إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد حتى كأنه جنس آخر لما فيه من الشدّة ، ومع طرح الواو كما في الآية الأخرى يكون التذبيح تفسيراً لسوء العذاب { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ } أي : يتركونهنّ في الحياة لإهانتهنّ وإذلالهنّ { وَفِى ذلكم } المذكور من أفعالهم { بَلاء مِّن رَّبّكُمْ عَظِيمٌ } أي : ابتلاء لكم ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة البقرة مستوفى .
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } { تأذن } بمعنى أذن ، قاله الفراء ، قال في الكشاف : ولا بدّ في تفعل من زيادة معنى ليست في أفعل ، كأنه قيل : وإذ أذن ربكم إيذاناً بليغاً تنتفي عنه الشكوك وتنزاح الشبه . والمعنى : وإذ تأذن ربكم فقال : { لَئِن شَكَرْتُمْ } أو أجرى { تأذن } مجرى قال ، لأنه ضرب من القول . انتهى . وهذا من قول موسى لقومه ، وهو معطوف على نعمة الله أي : اذكروا نعمة الله عليكم ، واذكروا حين تأذن ربكم . وقيل : هو معطوف على قوله : إذ أنجاكم ، أي : اذكروا نعمة الله تعالى في هذين الوقتين ، فإن هذا التأذن أيضاً نعمة . وقيل : هو من قول الله سبحانه ، أي : واذكر يا محمد إذ تأذن ربكم ، وقرأ ابن مسعود « وإذ قال ربكم » والمعنى واحد كما تقدم ، واللام في لئن شكرتم هي الموطئة للقسم . وقوله : { لأَزِيدَنَّكُمْ } سادّ مسدّ جوابي الشرط والقسم ، وكذا اللام في { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } وقوله : { إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ } سادّ مسدّ الجوابين أيضاً ، والمعنى : لأن شكرتم إنعامي عليكم بما ذكر لأزيدنكم نعمة إلى نعمة تفضلاً مني . وقيل : لأزيدنكم من طاعتي . وقيل : لأزيدنكم من الثواب . والأوّل أظهر ، فالشكر سبب المزيد ، ولئن كفرتم ذلك وجحدتموه { إن عذابي لشديد } ، فلا بدّ أن يصيبكم منه ما يصيب . وقيل : إن الجواب محذوف ، أي : ولئن كفرتم لأعذبنكم ، والمذكور تعليل للجواب المحذوف .
{ وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الأرض جَمِيعًا } أي : إن تكفروا نعمته تعالى أنتم وجميع الخلق ولم تشكروها { فَإِنَّ الله } سبحانه { لَغَنِىٌّ } عن شكركم لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص { حَمِيدٌ } أي : مستوجب للحمد لذاته لكثرة إنعامه ، وإن لم تشكروه ، أو يحمده غيركم من الملائكة .

{ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } يحتمل أن يكون هذا خطاباً من موسى لقومه ، فيكون داخلاً تحت التذكير بأيام الله ، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه ابتداء خطاباً لقوم موسى ، وتذكيراً لهم بالقرون الأولى وأخبارهم ، ومجيء رسل الله إليهم ، ويحتمل أنه ابتداء خطاب من الله سبحانه لقوم محمد صلى الله عليه وسلم تحذيراً لهم عن مخالفته ، والنبأ : الخبر ، والجمع الأنباء ، ومنه قول الشاعر :
ألم يأتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبون بني زياد
و { قَوْمُ نُوحٍ } بدل من الموصول ، أو عطف بيان { وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ } أي : من بعد هؤلاء المذكورين { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } أي : لا يحصي عددهم ويحيط بهم علماً إلاّ الله سبحانه ، والموصول مبتدأ وخبره لا يعلمهم إلاّ الله ، والجملة معترضة ، أو يكون الموصول معطوفاً على ما قبله ، ولا يعلمهم إلاّ الله اعتراض ، وعدم العلم من غير الله إما أن يكون راجعاً إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم ، أي : هذه الأمور لا يعلمها إلاّ الله ، ولا يعلمها غيره ، أو يكون راجعاً إلى ذواتهم ، أي : لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلاّ الله سبحانه . وجملة { جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } مستأنفة لبيان النبأ المذكور في { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ } أي : جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرة وبالشرائع الواضحة { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } أي جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظاً مما جاءت به الرسل كما في قوله تعالى : { عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } [ آل عمران : 119 ] ، لأن الرسل جاءتهم بتسفيه أحلامهم ، وشتم أصنامهم . وقيل : إن المعنى أنهم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم لما جاءتهم الرسل بالبينات ، أي : اسكتوا واتركوا هذا الذي جئتم به تكذيباً لهم وردّا لقولهم . وقيل : المعنى أنهم أشاروا إلى أنفسهم وما يصدر عنها من المقالة ، وهي قولهم : { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي : لا جواب لكم سوى هذا الذي قلناه لكم بألسنتا هذه . وقيل : وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاءا وتعجباً . كما يفعله من غلبه الضحك من وضع يده على فيه . وقيل : المعنى ردّوا على الرسل قولهم ، وكذبوهم بأفواههم ، فالضمير الأوّل للرسل والثاني للكفار . وقيل : جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردّاً لقولهم ، فالضمير الأول على هذا للكفار ، والثاني للرسل . وقيل : معناه أومئوا إلى الرسل أن اسكتوا . وقيل : أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم . وقيل : إن الأيدي هنا النعم ، أي : ردّوا نعم الرسل بأفواههم ، أي : بالنطق والتكذيب ، والمراد بالنعم هنا ما جاءهم به من الشرائع ، وقال أبو عبيدة : ونعم ما قال : هو ضرب مثل ، أي : لم يؤمنوا ولم يجيبوا .

والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت : قد ردّ يده في فيه . وهكذا قال الأخفش ، واعترض ذلك القتيبي فقال : لم يسمع أحد من العرب يقول ردّ يده في فيه : إذا ترك ما أمر به ، وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنقاً وغيظاً ، كقول الشاعر :
يردّن في فيه غيظ الحسود ... حتى يعض عليّ الأكفا
وهذا هو القول الذي قدّمناه على جميع هذه الأقوال ، ومنه قول الشاعر :
لو أن سلمى أبصرت تخددي ... عضت من الوجد بأطراف اليد
وهو أقرب التفاسير للآية إن لم يصح عن العرب ما ذكره أبو عبيدة والأخفش ، فإن صح ما ذكراه فتفسير الآية به أقرب { وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي قال الكفار للرسل : إنا كفرنا بما أرسلتم به من البينات على زعمكم { وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ } أي : في شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه { مُرِيبٍ } أي : موجب للريب . يقال : أربته إذا فعلت أمراً أوجب ريبة وشكاً . والريب قلق النفس وعدم سكونها . وقد قيل : كيف صرحوا بالكفر ثم أمرهم على الشك؟ وأجيب بأنهم أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوّتكم .
ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم ، وجملة { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى الله شَكٌّ } مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل : فماذا قالت لهم الرسل؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ أي : أفي وحدانيته سبحانه شك؟ وهي في غاية الوضوح والجلاء . ثم إن الرسل ذكروا بعد إنكارهم على الكفار ما يؤكد ذلك الإنكار من الشواهد الدالة على عدم الشك في وجوده سبحانه ووحدانيته ، فقالوا : { فَاطِرَ السموات والأرض } أي : خالقهما ومخترعهما ومبدعهما وموجدهما بعد العدم { يَدْعُوكُمْ } إلى الإيمان به وتوحيده { لِيَغْفِرَ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } قال أبو عبيدة : « من » زائدة ، ووجه ذلك قوله في موضع آخر { إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] . وقال سيبويه : هي للتبعيض ، ويجوز أن يذكر البعض ويراد منه الجميع؛ وقيل : التبعيض على حقيقته ، ولا يلزم من غفران جميع الذنوب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غفران جميعها لغيرهم . وبهذه الآية احتج من جوّز زيادة « من » في الإثبات . وقيل : « من » للبدل وليست بزائدة ولا تبعيضية ، أي : لتكون المغفرة بدلاً من الذنوب { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : إلى وقت مسمى عنده سبحانه ، وهو الموت فلا يعذبكم في الدنيا { قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } أي : ما أنتم إلاّ بشر مثلنا في الهيئة والصورة ، تأكلون وتشربون كما نأكل ونشرب ، ولستم ملائكة { تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا } وصفوهم بالبشر أوّلاً ، ثم بإرادة الصدّ لهم عما كان يعبد آباؤهم ثانياً أي : تريدون أن تصرفونا عن معبودات آبائنا من الأصنام ونحوها { فَأْتُونَا } إن كنتم صادقين بأنكم مرسلون من عند الله { بسلطان مُّبِينٍ } أي : بحجة ظاهرة تدل على صحة ما تدّعونه ، وقد جاؤهم بالسلطان المبين والحجة الظاهرة ، ولكن هذا النوع من تعنتاتهم ، ولون من تلوناتهم .

{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي : ما نحن في الصورة والهيئة إلاّ بشر مثلكم كما قلتم { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي : يتفضل على من يشاء منهم بالنبوّة . وقيل : بالتوفيق والهداية { وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُمْ بسلطان } أي : ما صح ولا استقام لنا أن نأتيكم بحجة من الحجج { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : إلاّ بمشيئته وليس ذلك في قدرتنا . قيل : المراد بالسلطان هنا هو ما يطلبه الكفار من الآيات على سبيل التعنت ، وقيل أعم من ذلك ، فإن ما شاءه الله كان وما لم يشأه لم يكن { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي : عليه وحده ، وهذا أمر منهم للمؤمنين بالتوكل على الله دون من عداه ، وكأنّ الرسل فصدوا بهذا الأمر للمؤمنين الأمر لهم أنفسهم قصداً أوّلياً ، ولهذا قالوا : { وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } أي : وأيّ عذر لنا في ألاّ نتوكل عليه سبحانه؟ { وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } أي : والحال أنه قد فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه من هدايتنا إلى الطريق الموصل إلى رحمته ، وهو ما شرعه لعباده وأوجب عليهم سلوكه { وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا آذَيْتُمُونَا } بما يقع منكم من التكذيب لنا والاقتراحات الباطلة { وَعَلَى الله } وحده دون من عداه { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } قيل : المراد بالتوكل الأوّل استحداثه ، وبهذا السعي في بقائه وثبوته . وقيل : معنى الأوّل إن الذين يطلبون المعجزات يجب عليهم أن يتوكلوا في حصولها على الله سبحانه لا علينا ، فإن شاء سبحانه أظهرها وإن شاء لم يظهرها . ومعنى الثاني : أبداء التوكل على الله في دفع شر الكفار وسفاهتهم .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ } قال : أخبرهم موسى عن ربه أنهم إن شكروا النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم من الرزق وأظهرهم على العالم . وأخرج ابن جرير عن الحسن { لأزِيدَنَّكُمْ } قال : من طاعتي . وأخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن صالح مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن سفيان الثوري في الآية قال : لا تذهب أنفسكم إلى الدينا فإنها أهون عند الله من ذلك ، ولكن يقول لئن شكرتم لأزيدنكم من طاعتي . وأخرج أحمد ، والبيهقي عن أنس قال : « أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم يأخذها ، وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقبلها وقال : تمرة من رسول الله ، فقال للجارية : اذهبي إلى أمّ سلمة فأعطيه الأربعين درهماً التي عندها »

، وفي إسناد أحمد عمارة بن زاذان ، وثقه أحمد ويعقوب بن سفيان وابن حبان . وقال ابن معين : صالح ، وقال أبو زرعة : لا بأس به . وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتين ، وقال البخاري : ربما يضطرب في حديثه ، وقال أحمد : روي عنه أحاديث منكرة ، وقال أبو داود : ليس بذاك . وضعفه الدارقطني ، وقال ابن عدي : لا بأس به .
وأخرج البخاري في تاريخه ، والضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ألهم خمسة لم يحرم خمسة ، وفيها : ومن ألهم الشكر لم يحرم الزيادة » وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأغرّ أن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أربع من أعطيهنّ لم يمنع من الله أربعاً ، وفيها : ومن أعطي الشكر لم يمنع الزيادة؟ » ولا وجه لتقييد الزيادة بالزيادة في الطاعة ، بل الظاهر من الآية العموم كما يفيده جعل الزيادة جزاء للشكر ، فمن شكر الله على ما رزقه وسع الله عليه في زرقه ، ومن شكر الله على ما أقدره عليه من طاعته زاده من طاعته ، ومن شكره على ما أنعم عليه به من الصحة زاده الله صحة ونحو ذلك .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : { والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } ويقول : كذب النسابون . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن عمرو بن ميمون مثله . وأخرج ابن الضريس عن أبي مجلز قال : قال رجل لعليّ بن أبي طالب : أنا أنسب الناس ، قال : إنك لا تنسب الناس ، فقال بلى : فقال له عليّ : أرأيت قوله : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وأصحاب الرس وَقُرُوناً بَيْنَ ذلك كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] قال : أنا أنسب ذلك الكثير ، قال : أرأيت قوله : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } فسكت . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير قال : ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء معدّ بن عدنان . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أباً لا يعرفون . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ } قال : لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم { وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } يقولون : لا نصدّقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكاً قوياً . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وأبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود : { فرّدوا أيديهم في أفواههم } قال : عضوا عليها . وفي لفظ : على أناملهم غيظاً على رسلهم .

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)

قوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } هؤلاء القائلون هم طائفة المتمرّدين عن إجابة الرسل ، واللام في لنخرجنكم هي الموطئة للقسم ، أي : والله لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا ، لم يقنعوا بردهم لما جاءت به الرسل وعدم امتثالهم لما دعوهم إليه حتى اجترءوا عليهم بهذا ، وخيروهم بين الخروج من أرضهم ، أو العود في ملتهم الكفرية . وقد قيل : إن «أو» في { أو لتعودنّ } بمعنى حتى ، أو يعني : إلا أن تعودوا كما قاله بعض المفسرين ، وردّ بأنه لا حاجة إلى ذلك ، بل " أو " على بابها للتخيير بين أحد الأمرين ، وقد تقدّم تفسير الآية في سورة الأعراف . قيل : والعود هنا بمعنى الصيرورة لعصمة الأنبياء عن أن يكونوا على ملة الكفر قبل النبوة وبعدها . وقيل : إن الخطاب للرسل ولمن آمن بهم فغلب على أتباعهم { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } أي : إلى الرسل { لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } أي قال لهم : لنهلكن الظالمين .
{ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض } أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها } [ الأعراف : 137 ] . وقال : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم } [ الأحزاب : 27 ] وقرىء " ليهلكن " ، " وليسكننكم " بالتحتية في الفعلين اعتباراً بقوله { فأوحى } ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم { لِمَنْ خَافَ مَقَامِى } أي : موقفي ، وذلك يوم الحساب ، فإنه موقف الله سبحانه ، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة . وبالضم فعل الإقامة ، وقيل : إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام ، أي : لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له ، كقوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] . وقال الأخفش : { ذلك لمن خاف مقامي } أي : عذابي { وَخَافَ وَعِيدِ } أي : خاف وعيدي بالعذاب . وقيل : بالقرآن وزواجره . وقيل : هو نفس العذاب ، والوعيد الاسم من الوعد .
{ واستفتحوا } معطوف على { أوحى } ، والمعنى : أنهم استنصروا بالله على أعدائهم ، أو سألوا الله القضاء بينهم ، من الفتاحة وهي الحكومة ومن المعنى الأوّل قوله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] أي : إن تستنصروا فقد جاءكم النصر . ومن المعنى الثاني قوله : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } [ الأعراف : 19 ] أي : احكم ، والضمير في { استفتحوا } للرسل . وقيل : للكفار . وقيل : للفريقين { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } الجبار المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقاً ، هكذا حكاه النحاس عن أهل اللغة ، والعنيد المعاند للحق والمجانب له ، وهو مأخوذ من العند ، وهو الناحية ، أي : أخذ في ناحية معرضاً . قال الشاعر :
إذا نزلت فاجعلوني وسطا ... إني كبير لا أطيق العندا
قال الزجاج : العنيد الذي يعدل عن القصد ، وبمثله قال الهروي ، وقال أبو عبيد : هو الذي عند وبغى .

وقال ابن كيسان : هو الشامخ بأنفه . وقيل : المراد به العاصي . وقيل : الذي أبى أن يقول لا إله إلاّ الله . ومعنى الآية : أنه خسر وهلك من كان متصفاً بهذه الصفة { مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ } أي : من بعده جهنم ، والمراد بعد هلاكه على أن وراءها ها هنا بمعنى بعد ، ومنه قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
أي : ليس بعد الله ، ومثله قوله : { ومن مِنَ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي : من بعده . كذا قال الفراء . وقيل : من ورائه أي : من أمامه ، قال أبو عبيد : هو من أسماء الأضداد ، لأن أحدهما ينقلب إلى الآخر ، ومنه قول الشاعر :
ومن ورائك يوم أنت بالغه ... لا حاضر معجز عنه ولا بادي
وقال آخر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا
أي : أمامي ، ومنه قوله تعالى : { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } [ الكهف : 79 ] . أي : أمامهم ، ويقول أبي عبيدة هذا قاله قطرب . وقال الأخفش : هو كما يقال : هذا الأمر من ورائك ، أي : سوف يأتيك ، وأنا من وراء فلان ، أي : في طلبه . وقال النحاس : من ورائه ، أي : من أمامه ، وليس من الأضداد ، ولكنه من توارى ، أي : استتر فصارت جهنم من ورائه؛ لأنها لا ترى ، وحكى مثله ابن الأنباري . { ويسقى مِن مَّاء صَدِيدٍ } معطوف على مقدّر جواباً عن سؤال سائل ، كأنه قيل : فماذا يكون إذن؟ قيل : يلقى فيها ويسقى ، والصديد ما يسيل من جلود أهل النار ، واشتقاقه من الصدّ ، لأنه يصدّ الناظرين عن رؤيته ، وهو دم مختلط بقيح ، والصديد صفة لماء . وقيل : عطف بيان منه { ويتجرعه } في محل جر على أنه صفة لماء ، أو في محل نصب على أنه حال . وقيل : هو استئناف مبنيّ على سؤال . والتجرع التحسي أي : يتحساه مرة بعد مرّة لا مرّة واحدة لمرارته وحرارته { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي : يبتلعه ، يقال ساغ الشراب في الحلق يسوغ سوغاً : إذا كان سهلاً ، والمعنى : ولا يقارب إساغته ، فكيف تكون الإساغة؟ بل يغص به فيطول عذابه بالعطش تارة ، ويشربه على هذه الحال أخرى . وقيل : إنه يسيغه بعد شدة وإبطاء ، كقوله : { وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] أي : يفعلون بعد إبطاء ، كما يدلّ عليه قوله تعالى في آية أخرى { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ } [ الحج : 20 ] { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ } أي : تأتيه أسباب الموت من كل جهة من الجهات . أو من كل موضع من مواضع بدنه . وقال الأخفش : المراد بالموت هنا البلايا التي تصيب الكافر في النار ، سماها موتاً لشدّتها { وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ } أي : والحال أنه لم يمت حقيقة فيستريح . وقيل : تعلق نفسه في حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيحيا ، ومثله قوله تعالى :

{ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } [ الأعلى : 13 ] ، وقيل : معنى { وما هو بميت } لتطاول شدائد الموت به وامتداد سكراته عليه ، والأولى تفسير الآية بعدم الموت حقيقة لما ذكرنا من قوله سبحانه { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } وقوله : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } أي من أمامه ، أو من بعده عذاب شديد . وقيل هو الخلود . وقيل حبس النفس .
{ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } قال سيبويه : مثل مرتفع على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي : فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا وبه قال الزجاج . وقال الفراء : التقدير { مثل } أعمال الذين كفروا فحذف المضاف . وروي عنه أنه قال بإلغاء مثل . والتقدير الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد . وقيل هو : أعني { مثل } مبتدأ وخبره { أعمالهم كرماد } على أن معناه الصفة ، فكأنه قال صفتهم العجيبة أعمالهم كرماد . والمعنى : أن أعمالهم باطلة غير مقبولة ، والرماد ما يبقى بعد احتراق الشيء ، ضرب الله سبحانه هذه الآية مثلاً لأعمال الكفار في أنه يمحقها كما تمحق الريح الشديدة الرماد في يوم عاصف ، ومعنى اشتدّت به الريح : حملته بشدّة وسرعة ، والعصف شدّة الريح ، وصف به زمانها مبالغة كما يقال : يوم حار ويوم بارد ، والبرد والحر فيهما لا منهما { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَىْء } أي : لا يقدر الكفار مما كسبوا من تلك الأعمال الباطلة على شيء منها ، ولا يرون له أثراً في الآخرة يجازون به ويثابون عليه ، بل جميع ما عملوه في الدنيا باطل ذاهب كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما دلّ عليه التمثيل أي : هذا البطلان لأعمالهم وذهاب أثرها { هُوَ الضلال البعيد } عن طريق الحقّ المخالف لمنهج الصواب ، لما كان هذا خسراناً لا يمكن تداركه سماه بعيداً .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا } الآية ، قال كانت الرسل والمؤمنون يستضعفهم قومهم ، ويقهرونهم ، ويكذبونهم ، ويدعونهم إلى أن يعودوا في ملتهم ، فأبى الله لرسوله والمؤمنين أن يعودوا في ملة الكفر ، وأمرهم أن يتوكلوا على الله ، وأمرهم أن يستفتحوا على الجبابرة ، ووعدهم أن يسكنهم الأرض من بعدهم ، فأنجز لهم ما وعدهم . واستفتحوا كما أمرهم الله أن يستفتحوا . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة ، فبين الله من يسكنها من عباده فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] وإن لله مقاماً هو قائمه ، وإن أهل الإيمان خافوا ذلك المقام فنصبوا ودأبوا الليل والنهار .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { واستفتحوا } قال : للرسل كلها يقول استُنصروا ، وفي قوله : { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } قال : معاند للحقّ مجانب له .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : استنصرت الرسل على قومها { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } يقول : عنيد عن الحق معرض عنه ، أبى أن يقول لا إله إلاّ إله . وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : العنيد الناكب عن الحق .
وأخرج أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي الدنيا ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو نعيم في الحلية ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : « { ويسقى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ } قال : » يقرب إليه فيتكرهه « ، فإذا دنا منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره . يقول الله تعالى : { وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ } » [ محمد : 15 ] . وقال : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل يَشْوِى الوجوه } [ الكهف : 29 ] . وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس في قوله : { مِن مَّاء صَدِيدٍ } قال : يسيل من جلد الكافر ولحمه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : { مِن مَّاء صَدِيدٍ } هو القيح والدم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ } قال : أنواع العذاب ، وليس منها نوع إلاّ الموت يأتيه منه لو كان يموت ، ولكنه لا يموت لأن الله يقول : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } [ فاطر : 36 ] . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ } قال : من كلّ عظم وعرق وعصب . وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، عن محمد بن كعب نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي قال : من موضع كل شعرة في جسده { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } قال : الخلود . وأخرج ابن المنذر عن الفضيل بن عياض { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } قال : حبس الأنفاس .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } الآية قال : مثل الذين عبدوا غيره فأعمالهم يوم القيامة كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف ، لا يقدرون على شيء من أعمالهم ، ينفعهم كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل في يوم عاصف .

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)

قوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض بالحق } الرؤية هنا هي القلبية ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته ، أو الخطاب لكلّ من يصلح له . وقرأ حمزة والكسائي { خالق السموات } ومعنى بالحقّ : بالوجه الصحيح الذي يحقّ أن يخلقها عليه ليستدلّ بها على كمال قدرته . ثم بيّن كمال قدرته سبحانه واستغناءه عن كل واحد من خلقه فقال : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين ، ويهلك العصاة ، ويأتي بمن يطيعه من خلقه ، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان ، ويحتمل أن يكون من نوع آخر { وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } أي : بممتنع؛ لأنه سبحانه قادر على كل شيء ، وفيه أن الله تعالى هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخاف عقابه؛ فلذلك أتبعه بذكر أحوال الآخرة فقال : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا } أي : برزوا من قبورهم يوم القيامة ، والبروز : الظهور ، والبراز : المكان الواسع لظهوره ، ومنه امرأة برزة ، أي : تظهر للرجال ، فمعنى { برزوا } ظهروا من قبورهم . وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه كما هو مقرّر في علم المعاني ، وإنما قال : { وبرزوا لله } مع كونه سبحانه عالماً بهم لا تخفى عليه خافية من أحوالهم برزوا أو لم يبرزوا؛ لأنهم كانوا يستترون عن العيون عند فعلهم للمعاصي ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى ، فالكلام خارج على ما يعتقدونه .
{ فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا } أي قال : الأتباع الضعفاء للرؤساء الأقوياء المتكبرين لما هم فيه من الرياسة : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أي : في الدنيا ، فكذبنا الرسل وكفرنا بالله متابعة لكم . والتبع جمع تابع ، أو مصدر وصف به للمبالغة ، أو على تقدير : ذوي تبع . قال الزجاج : جمعهم في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع ، فقال الضعفاء للذين استكبروا من أكابرهم عن عبادة الله : إنا كنا لكم تبعاً . جمع تابع ، مثل خادم وخدم ، وحارس وحرس ، وراصد ورصد { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا } أي : دافعون عنا { من عذاب الله من شيء } ، « من » الأولى للبيان ، والثانية للتبعيض ، أي : بعض الشيء الذي هو عذاب الله؛ يقال : أغنى عنه : إذا دفع عنه الأذى ، وأغناه إذا أوصل إليه النفع .
{ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } أي : قال المستكبرون مجيبين عن قول المستضعفين ، والجملة مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل : كيف أجابوا؟ أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه . وقيل : لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها . وقيل : لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه . { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ما لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي : مستوٍ علينا الجزع والصبر ، والهمزة و « أم » لتأكيد التسوية في قوله :

{ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ } [ البقرة : 6 ] . { مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي : من منجى ومهرب من العذاب ، يقال : حاص فلان عن كذا ، أي : فرّ وزاغ ، يحيص حيصاً وحيوصاً وحيصاناً ، والمعنى : ما لنا وجه نتباعد به عن النار ، ويجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين ، وإن كان الظاهر أنه من كلام المستكبرين .
{ وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الأمر } أي : قال للفريقين هذه المقالة ، ومعنى { لما قضي الأمر } : لما دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار على ما يأتي بيانه في سورة مريم . { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } وهو وعده سبحانه بالبعث والحساب ، ومجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته { وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } أي : وعدتكم وعداً باطلاً ، بأنه لا بعث ولا حساب ، ولا جنة ولا نار ، فأخلفتكم ما وعدتكم به من ذلك . قال الفراء : وعد الحق هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم : مسجد الجامع . وقال البصريون : وعدكم وعد اليوم الحق { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان } أي : تسلط عليكم بإظهار حجة على ما وعدتكم به وزينته لكم { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى } أي : إلا مجرّد دعائي لكم إلى الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان ، ودعوته إياهم ليست من جنس السلطان حتى تستثنى منه ، بل الاستثناء منقطع ، أي : لكن دعوتكم فاستجبتم لي ، أي : فسارعتم إلى إجابتي . وقيل : المراد بالسلطان هنا : القهر ، أي : ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلى إجابتي . وقيل : هذا الاستثناء هو من باب : تحية بينهم ضرب وجيع . مبالغة في نفيه للسلطان عن نفسه كأنه قال : إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرّد الدعاء من السلطان ، وليس منه قطعاً .
{ فَلاَ تَلُومُونِى } بما وقعتم فيه بسبب وعدي لكم بالباطل وإخلافي لهذا الموعد { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } باستجابتكم لي بمجرّد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجة ، فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوي الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى ، ولمارنه قطع ، ولا سيما ودعوتي هذه الباطلة ، وموعدي الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وعد الحق ، ودعوته لكم إلى الدار السلام ، مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل ، ولا تلتبس إلاّ على مخذول ، وقريب من هذا من يقتدي بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله سبحانه ، ولما في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤثرها على ما فيهما ، فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقع عليه حجة ، ولا دلّ عليه برهان ، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره ، كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المتنكبين طريق الحق بسوء اختيارهم ، اللهم غفرا .
{ مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } يقال : صرخ فلان : إذا استغاث يصرخ صراخاً وصرخاً ، واستصرخ بمعنى : صرخ ، والمصرخ : المغيث ، والمستصرخ : المستغيث . يقال : استصرخني فأصرخته ، والصريخ : صوت المستصرخ ، والصريخ أيضاً : الصارخ ، وهو المغيث والمستغيث ، وهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح .

قال ابن الأعرابي : الصارخ : المستغيث ، والمصرخ : المغيث ، ومعنى الآية : ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب ، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه ، وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به من العذاب ، محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه ، فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه؟ ومما ورد مورد هذه الأقوال من قول العرب قول أمية بن أبي الصلت :
فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ ... وليس لكم عندي غناء ولا نفر
و { مصرخيّ } بفتح الياء في قراءة الجمهور ، وقرأ الأعمش وحمزة بكسر الياء على أصل التقاء الساكنين . قال الفراء : قراءة حمزة وهم منه ، وقلّ من سلم عن خطأ . وقال الزجاج : هي قراءة رديئة ولا وجه لها إلاّ وجه ضعيف يعني : ما ذكرناه من أنه كسرها على الأصل في التقاء الساكنين . وقال قطرب : هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء ، وأنشد الفراء فيما ورد على هذه القراءة قول الشاعر :
قلت لها يا تاء هل لك في ... قالت له ما أنت بالمرضي
{ إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } لما كشف لهم القناع بأنه لا يغني عنهم من عذاب الله شيئاً ، ولا ينصرهم بنوع من أنواع النصر ، صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الرّبوبية ، من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة ، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكاً . ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاماً يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم ، فأوضح لهم أولاً أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها ، ثم أوضح لهم ثانياً بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول ، ولا يتفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بدّ للعاقل منها في قبول قول غيره ، ثم أوضح ثالثاً بأنه لم يكن منه إلاّ مجرّد الدعوة العاطلة عن البرهان ، الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء ، ثم نعى عليهم رابعاً ما وقعوا فيه ، ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم؛ لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت ، الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل ، ثم أوضح لهم خامساً بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة ، ولا يستطيع لهم نفعاً ، ولا يدفع عنهم ضرّاً ، بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة ، ثم صرح لهم سادساً بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له ، فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب .

وإذا كان جملة { إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به ، فأثبت لهم الظلم ، ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم ، لا على قول من قال : إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه . وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن « ما » مصدرية في { ما أشركتمون } وقيل : يجوز أن تكون موصولة على معنى { إني كفرت } بالذي أشركتمونيه وهو الله ، عزّ وجلّ ، ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم .
{ وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } لما أخبر سبحانه بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة . وقرأ الجمهور { أدخل } على البناء للمفعول ، وقرأ الحسن « وأدخل » على الاستقبال والبناء للفاعل ، أي : وأنا أدخل الذين آمنوا ، ثم ذكر سبحانه خلودهم في الجنات وعدم انقطاع نعيمهم ، ثم ذكر أن ذلك بإذن ربهم ، أي : بتوفيقه ولطفه وهدايته ، هذا على قراءة الجمهور ، وأما على قراءة الحسن فيكون { بإذن ربهم } متعلقاً بقوله : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } أي : تحية الملائكة في الجنة سلام بإذن ربهم ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة يونس .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } قال : بخلق آخر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { فقال الضعفاء } قال : الأتباع { لِلَّذِينَ استكبروا } قال : للقادة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : { سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا } قال زيد بن أسلم : جزعوا مائة سنة . وصبروا مائة سنة . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن كعب بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { سَوَاء عَلَيْنَا } الآية قال : « يقول أهل النار : هلموا فلنصبر ، فيصبرون خمسمائة عام ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : هلموا فلنجزع ، فبكوا خمسمائة عام ، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص } » والظاهر أن هذه المراجعة كانت بينهم بعد دخولهم النار ، كما في قوله تعالى : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار * قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد } [ غافر : 47 - 48 ] . وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عقبة بن عامر يرفعه ، وذكر فيه حديث الشفاعة ، ثم قال : « ويقول الكافر عند ذلك : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلاّ إبليس فهو الذي أضلنا ، فيأتون إبليس فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا ، فيقوم إبليس فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ، ثم يعظهم بجهنم ، ويقول عند ذلك { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } »

الآية . وضعف السيوطي إسناده ، ولعلّ سبب ذلك كون في إسناده رشدين ابن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم ، عن دجين الحجزي ، عن عقبة .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن قال : إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيباً على منبر من نار فقال : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ } إلى قوله : { وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } قال : بناصريّ { إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } قال : بطاعتكم إياي في الدنيا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن الشعبي في هذه الآية قال : خطيبان يقومان يوم القيامة : إبليس ، وعيسى ، فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول : هذا القول يعني : المذكور في الآية ، وأما عيسى فيقول : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المائدة : 117 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ } قال : ما أنا بنافعكم ، وما أنتم بنافعيّ { إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } قال شركه : عبادته . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن قتادة { مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } قال : ما أنا بمغيثكم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام } قال : الملائكة يسلمون عليهم في الجنة .

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)

لما ذكر سبحانه مثل أعمال الكفار ، وأنها كرماد اشتدّت به الريح ، ثم ذكر نعيم المؤمنين ، وما جازاهم الله به من إدخالهم الجنة خالدين فيها ، وتحية الملائكة لهم ذكر تعالى ها هنا مثلاً للكلمة الطيبة ، وهي كلمة الإسلام ، أي : لا إله إلاّ الله ، أو ما هو أعمّ من ذلك من كلمات الخير ، وذكر مثلاً للكلمة الخبيثة ، وهي كلمة الشرك ، أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الشرّ ، فقال مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو مخاطباً لمن يصلح للخطاب : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً } أي : اختار مثلاً وضعه في موضعه اللائق به ، وانتصاب { مثلاً } على أنه مفعول ضرب ، و { كلمة } بدل منه ، ويجوز أن تنتصب الكلمة على أنها عطف بيان ل { مثلاً } ، ويجوز أن تنتصب الكلمة بفعل مقدّر ، أي : جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة ، وحكم بأنها مثلها ، ومحل { كشجرة } النصب على أنها صفة لكلمة ، أو الرفع على تقدير مبتدأ ، أي : هي كشجرة ، ويجوز أن تكون { كلمة } أوّل مفعولي { ضرب } ، وأخرت عن المفعول الثاني ، وهو { مثلاً } لئلا تبعد عن صفتها ، والأوّل أولى ، و { كلمة } وما بعدها تفسير للمثل ، ثم وصف الشجرة بقوله : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } أي : راسخ آمن من الانقلاع بسبب تمكنها من الأرض بعروقها { فِى السماء } أي : أعلاها ذاهب إلى جهة السماء مرتفع في الهواء .
ثم وصفها سبحانه بأنها { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } كل وقت { بِإِذْنِ رَبّهَا } بإرادته ومشيئته ، قيل : وهي النخلة . وقيل غيرها . وقيل : والمراد بكونها { تؤتي أكلها كل حين } أي : كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار في جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف . وقيل : المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين؛ وقيل : كل غدوة وعشية ، وقيل : كل شهر . وقيل : كل ستة أشهر . قال النحاس : وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة؛ لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلاّ من شذّ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره ، وأنشد الأصمعي قول النابغة :
تطلقه حيناً وحيناً تراجع ... قال النحاس : وهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت . وقد ورد الحين في بعض المواضع يراد به : أكثر كقوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] . وقد تقدّم بيان أقوال العلماء في الحين في سورة البقرة في قوله : { وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ ومتاع إلى حِينٍ } [ البقرة : 36 ] . وقال الزجاج : الحين : الوقت طال أم قصر . { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتفكرون أحوال المبدأ والمعاد . وبدائع صنعه سبحانه الدالة على وجوده ووحدانيته ، وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني . { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } قد تقدّم تفسيرها . وقيل : هي الكافر نفسه ، والكلمة الطيبة : المؤمن نفسه .

{ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } أي : كمثل شجرة خبيثة ، قيل : هي شجرة الحنظل . وقيل : هي شجرة الثوم . وقيل : الكمأة؛ وقيل : الطحلبة . وقيل : هي الكشوث بالضم وآخره مثلثة ، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض . قال الشاعر :
وهي كشوث فلا أصل ولا ثمر ... وقرىء " ومثلاً كلمة " بالنصب عطفاً على كلمة طيبة { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض } أي : استؤصلت واقتلعت من أصلها ، ومنه قول الشاعر :
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... قال المؤرج : أخذت جثتها وهي نفسها ، والجثة : شخص الإنسان ، يقال : جثَّه : قلعه ، واجتثه : اقتلعه . ومعنى { من فوق الأرض } : أنه ليس لها أصل راسخ ، وعروق متمكنة من الأرض { ما لَهَا مِن قَرَارٍ } أي : من استقرار على الأرض . وقيل : من : ثبات على الأرض ، كما أن الكافر وكلمته لا حجة له ولا ثبات فيه ، ولا خير يأتي منه أصلاً ، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل طيب .
{ يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت } أي : بالحجة الواضحة ، وهي الكلمة الطيبة المتقدّم ذكرها ، وقد ثبت في الصحيح أنها كلمة الشهادة : «شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله» وذلك إذا قعد المؤمن في قبره . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فذلك قوله تعالى : { يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت } " وقيل : معنى تثبيت الله لهم : هو أن يدوموا على القول الثابت ، ومنه قول عبد الله بن رواحة :
يثبت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
ومعنى { في الحياة الدنيا } أنهم يستمرّون على القول الثابت في الحياة الدنيا . قال جماعة : المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية : القبر؛ لأن الموتى في الدنيا حتى يبعثوا . ومعنى { وَفِي الآخرة } وقت الحساب . وقيل : المراد بالحياة الدنيا : وقت المساءلة في القبر ، وفي الآخرة : وقت المساءلة يوم القيامة : والمراد : أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم ولا تردّد ولا جهل ، كما يقول : من لم يوفق : لا أدري ، فيقال له : لا دريت ولا تليت { وَيُضِلُّ الله الظالمين } أي : يضلهم عن حجتهم التي هي القول الثابت فلا يقدرون على التكلم بها في قبورهم ، ولا عند الحساب ، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا . قيل : والمراد بالظالمين هنا : الكفرة . وقيل : كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة ، فإنه لا يثبت في مواقف الفتن ، ولا يهتدي إلى الحق . ثم ذكر سبحانه أنه يفعل ما يشاء من التثبيت والخذلان لا رادّ لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل . قال الفراء : أي لا تنكر له قدرة ولا يسأل عما يفعل ، والإظهار في محل الإضمار في الموضعين لتربية المهابة كما قيل : والله أعلم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً } قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } وهو المؤمن { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يقول : لا إله إلاّ الله ثابت في قلب المؤمن { وَفَرْعُهَا فِى السماء } يقول : يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34