كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

قوله : { كتبُ } ِ معناه فرض ، وأثبت ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
كُتِبَ القَتْلُ والقِتالُ عَلَيْنَا ... وعَلَى الغَانِيات جَرُّ الذُّيَولِ
وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك . وقيل : إن { كتب } هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ . و { القصاص } أصله قص الأثر : أي : اتباعه ، ومنه القاصّ؛ لأنه يتتبع الآثار ، وقصّ الشعر اتباع أثره ، فكأن القاتل يسلك طريقاً من القتل ، يقصّ أثره فيها ، ومنه قوله تعالى : { فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا } [ الكهف : 64 ] . وقيل : إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع : يقال قصصت ما بينهما : أي : قطعته . وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد ، وهم الجمهور .
وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وداود إلى أنه يقتل به . قال القرطبي : وروى ذلك عن عليّ ، وابن مسعود ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النَّخعي ، وقتادة والحكم بن عتيبة ، واستدلوا بقوله تعالى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد } مفسر لقوله تعالى : { النفس بالنفس } وقالوا أيضاً : إن قوله : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا } يفيد أن ذلك حكاية عما شرعه الله لبني إسرائيل في التوراة .
ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » ويجاب عنه بأنه مجمل ، والآية مبينة ، ولكنه يقال : إن قوله تعالى : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد } إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ ، والعبد يقتل بالعبد ، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم ، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا ، والبحث في هذا محرر في علم الأصول .
وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر ، وهم : الكوفيون ، والثوري ، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم ، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : { أَنَّ النفس بالنفس } لأن النفس تصدق على النفس الكافرة كما تصدق على النفس المسلمة . وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر ، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر ، وهو مبين لما يراد في الآيتين ، والبحث في هذا يطول . واستدل بهذه الآية القائلون بأن الذكر لا يقتل بالأنثى ، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق إلا إذا سلم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل . وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبو ثور . وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ، ولا زيادة ، وهو الحق .

وقد بسطنا البحث في شرح المنْتقى ، فليرجع إليه .
قوله : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } «من» هنا عبارة عن القاتل . والمراد بالأخ المقتول ، أو الوليّ ، والشيء : عبارة عن الدم ، والمعنى : أن القاتل ، أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه ، أو الوليّ دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئاً من الدية ، أو الأرش ، فليتبع المجني عليه الولي من عليه الدم فيما يأخذه منه من ذلك اتباعاً بالمعروف ، وليؤدِّ الجاني ما لزمه من الدية ، أو الأرش إلى المجني عليه ، أو إلى الوليّ أداء بإحسان . وقيل إن : «من» عبارة عن الوليّ ، والأخ يراد به : القاتل ، والشيء : الدية ، والمعنى : أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية ، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها ، أو يسلم نفسه للقصاص كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك ، وذهب من عداه إلى أنه لا يخير ، بل إذا رضى الأولياء بالدية ، فلا خيار للقاتل بل يلزمه تسليمها . وقيل : معنى : «عُفِى» بذل . أي : من بُذِل له شيء من الدية ، فليقبل ، وليتبع بالمعروف . وقيل : إن المراد بذلك : أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات ، فيكون عفى بمعنى فضل ، وعلى جميع التقادير ، فتنكير شيء للتقليل ، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية ، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة . وقوله : { فاتباع } مرتفع بفعل محذوف ، أي : فليكن منه اتباع ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالأمر اتباع ، وكذا قوله : { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } وقوله : { ذلك تَخْفِيفٌ } إشارة إلى العفو ، والدية؛ أي : أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض ، أو بعوض ، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود ، فإنه أوجب عليهم القصاص ، ولا عفو ، وكما ضيق على النصارى ، فإنه أوجب عليهم العفو ، ولا دية . قوله : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } أي : بعد التخفيف ، نحو أن يأخذ الدية ، ثم يقتل القاتل ، أو يعفو ، ثم يستقص .
وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية؟ فقال جماعة منهم مالك ، والشافعي : إنه كمن قتل ابتداءً ، إن شاء الوليّ قتله ، وإن شاء عفا عنه . وقال قتادة وعكرمة ، والسدي وغيرهم؛ عذابه أن يقتل البتة ، ولا يمكِّنُ الحاكمُ الوليَّ من العفو . وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة . وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى .
قوله : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } أي : لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة؛ لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصاً إذا قتل آخر كَفَّ عن القتل ، وانزجر عن التسرع إليه ، والوقوع فيه ، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية ، وهذا نوع من البلاغة بليغ ، وجنس من الفصاحة رفيع ، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياةً باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضاً ، إبقاء على أنفسهم ، واستدامةً لحياتهم؛ وجعل هذا الخطاب موجهاً إلى أولي الألباب؛ لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ، ويتحامون ما فيه الضرر الآجل؛ وأما من كان مصاباً بالحمق ، والطيش ، والخفة ، فإنه لا ينظر عند سورة غضبه ، وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ، ولا يفكر في أمر مستقبل ، كما قال بعض فتاكهم :

سأَغْسِلُ عَنَّي العَارَ بِالسَيْفِ جَالباً ... عَليّ قَضَاء الله مَا كَان جَالِباً
ثم علّل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص ، فيكون ذلك سبباً للتقوى ، وقرأ أبو الجوزاء : « ولكم في القصص حياة » قيل : أراد بالقصص القرآن : أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة ، أي : نجاة ، وقيل : أراد حياة القلوب ، وقيل : هو مصدر بمعنى القصاص ، والكل ضعيف ، والقراءة به منكرة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل ، وجراحات حتى قتلوا العبيد ، والنساء ، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة ، والأموال ، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزلت هذه الآية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الشعبي نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله : {
1649;لنَّفْسَ بالنفس } [ المائدة : 45 ] ، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم ، في النفس ، وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس ، وفيما دون النفس رجالهم ، ونساءهم . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطَّوْل ، فكأنهم طلبوا الفضل ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية : { الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } [ المائدة : 45 ] قال ابن عباس : فنسختها : { النفس بالنفس } ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ } قال : هو : العمد رضي أهله بالعفو . { فاتباع بالمعروف } أمر به الطالب { وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان } من القابل ، قال : يؤدي المطلوب بإحسان . { ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } مما كان على بني إسرائيل . وأخرج نحوه ابن أبي حاتم ، عنه من وجه آخر .
وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ، ولم تكن الدية فيهم ، فقال الله لهذه الأمة : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } إلى قوله : { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } ، فالعفو أن تقبل الدية في العمد { فاتباع بالمعروف وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } مما كتب على من كان قبلكم { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } قيل : بعد قبول الدية { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
وأخرج ابن جرير ، عن قتادة قال : كان أهل التوراة إنما هو القصاص ، أو العفو ليس بينهما أرش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به ، وجعل الله لهذه الأمة القتل ، والعفو ، والدية إن شاءوا أحلها لهم ، ولم تكن لأمة قبلهم .

وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أصيب بقتل ، أو خبلٍ ، فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتصّ ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة ، فخذوا على يديه ، ومن اعتدى بعد ذلك ، فله نار جهنم خالداً فيها أبداً » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة ، أنه إذا قتل بعد أخذ الدية ، فله عذاب عظيم ، قال : فعليه القتل لا تقبل منه الدية . قال : وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية » ، وأخرج سمويه في فوائده ، عن سَمُرَة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عكرمة أنه قال : يقتل .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياة } قال : جعل الله في القصاص حياة ، ونكالاً ، وعظة إذا ذكره الظالم المعتدي كفّ عن القتل . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال : لعلك تتقي أن تقتله ، فتقتل به . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { يأُوْلِي الأباب } قال : من كان له لبّ يذكر القصاص ، فيحجزه خوف القصاص عن القتل { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال : لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص .

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

قد تقدّم معنى : { كتب } قريباً ، وحضور الموت : حضور أسبابه ، وظهور علاماته ، ومنه قول عنترة :
وإنَّ الموْتَ طَوعُ يَدي إذَا مَا ... وَصِلْتُ بَنَانها بالهنِدوانِي
وقال جرير :
أنَا المْوتَ الَّذي حُدِّثْتَ عَنْه ... فَلَيْس لِهَارب منِّي نَجَاةُ
وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية ، وهو : { كتب } لوجود الفاصل بينهما ، وقيل : لأنها بمعنى الإيصاء ، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل . وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية ، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيراً . واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش ، وجهان :
أحدهما أن التقدير : إن ترك خيراً ، فالوصية ، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر :
مَنْ يَفْعَل الحسَنَاتِ الله يَشْكُرها ... والشَّرّ بالشرّ عِنْد اللهِ مِثلانِ
والثاني : أن جوابه مقدّر قبله : أي : كتب الوصية للوالدين ، والأقربين إن ترك خيراً . واختلف أهل العلم في مقدار الخير ، فقيل : ما زاد على سبعمائة دينار ، وقيل : ألف دينار ، وقيل ما زاد على خمسمائة دينار . والوصية في الأصل : عبارة عن الأمر بالشيء ، والعهد به في الحياة ، وبعد الموت ، وهي هنا : عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت . وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين ، أو عنده وديعة ، أو نحوها . وأما من لم يكن كذلك ، فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيراً ، أو غنياً ، وقالت طائفة : إنها واجبة ،
ولم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين ، والأقربين ، فقيل : الخمس . وقيل : الربع . وقيل : الثلث .
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة ، قالوا : وهي ، وإن كانت عامة فمعناها الخصوص . والمراد بها من الوالدين مَنْ لا يرث كالأبوين الكافرين ، ومَنْ هو في الرقّ ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم . قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان ، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة .
وقال كثير من أهل العلم : إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم : « لا وصية لوارث » وهو حديث صححه بعض أهل الحديث ، وروي من غير وجه . وقال بعض أهل العلم : إنه نسخ الوجوب ، وبقي الندب ، وروي عن الشعبي ، والنخعي ، ومالك ،
قوله : { بالمعروف } ، أي : العدل لا وكس فيه ، ولا شطط . وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه . وقوله : { حَقّاً } ، مصدر معناه الثبوت ، والوجوب . قوله : { فَمَن بَدَّلَهُ } هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية ، وكذلك الضمير في قوله : { سَمِعَهُ } ، والتبديل : التغيير ، والضمير في قوله : { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ } راجع إلى التبديل المفهوم من قوله : { بَدَّلَهُ } وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحق ، التي لا جَنَف فيها ولا مضارَّة ، وأنه يبوء بالإثم ، وليس على الموصي من ذلك شيء ، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به .

قال القرطبي : ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ، مثل أن يوصي بخمر ، أو خنزير ، أو شيء من المعاصي أنه يجوز تبديله ، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث . قاله أبو عمر . انتهى .
والجنف : المجاوزة ، من جنف يجنف : إذا جاوز ، قاله النحاس ، وقيل : الجنف : الميل ، ومنه قول الأعشى :
تَجَانَفُ عن حجر اليمامة ناقتى ... وَمَا قَصَدتْ من أهلها لسَوائكا
قال في الصحاح : الجنف الميل ، وكذا في الكشاف . وقال لبيد :
إني امرُؤٌ مَنعتْ أرُومة عَامر ... ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عليّ خُصَومِي
وقوله : { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } أي : أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق ، والاضطراب بسبب الوصية بإبطال ما فيه ضرار ، ومخالفة لما شرعه الله ، وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث ، والضمير في قوله : { بَيْنَهُمْ } راجع إلى الورثة ، وإن لم يتقدم لهم ذكر؛ لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق . وقيل : راجع إلى الموصي لهم ، وهم الأبوان والقرابة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } قال : مالاً . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد نحوه ، وأخرج عبد بن حميد ، عن ابن عباس قال : من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن عروة ، أن عليّ بن أبي طالب دخل على مولى لهم في البيت ، وله سبعمائة درهم ، أو ستمائة درهم فقال : ألا أوصي؟ قال لا؟ إنما قال الله : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن عائشة ، أن رجلاً قال لها : أريد أن أوصي قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف . قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة ، قالت : قال الله : { إِن تَرَكَ خَيْرًا } وإن هذا شيء يسير ، فاتركه لعيالك ، فهو أفضل .
وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي عن ابن عباس قال : إذا ترك الميت سبعمائة درهم ، فلا يوصي . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن الزهري . قال : جعل الله الوصية حقاً مما قل منه ، ومما كثر ، وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر حديثاً ، وفيه : « انظر قرابتك الذين يحتاجون ، ولا يرثون ، فأوص لهم من مالك بالمعروف »

وأخرجا أيضاً ، عن طاوس قال : من أوصى لقوم ، وسماهم ، وترك ذوي قرابته . محتاجين انتزعت منهم ، وردت على قرابته ، وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في الناسخ ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس قال : نسخت هذه الآية .
وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم؛ أن هذه الآية نسخها قوله تعالى : { لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } الآية [ النساء : 7 ] . وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير وابن أبي حاتم؛ أنها منسوخة بآية الميراث . وأخرج عنه أبو داود في سننه ، والبيهقي مثله . وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : في الآية نسخ من يرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عمر؛ أنه قال : هذه الآية نسختها آية الميراث .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَمَنْ بَدَّلَهُ } الآية ، قال : وقد وقع أجر الموصي على الله ، وبرىء من إثمه ، وقال في قوله : { جَنَفًا } يعني : إثماً { فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ } قال : إذا أخطأ الميت في وصيته ، أو حاف فيها ، فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه؛ لكنه فسر الجنف بالميل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { جَنَفًا أَوْ إِثْمًا } قال : خطأ ، أو عمداً . وأخرج سعيد بن منصور ، والبيهقي في سننه عنه قال : الجنف في الوصية ، والإضرار فيها من الكبائر .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

قد تقدّم معنى : { كتب } ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة . والصيام أصله في اللغة : الإمساك ، وترك التنقل من حال إلى حال ، ويقال : للصمت : صوم؛ لأنه إمساك ، عن الكلام ، ومنه : { إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } [ مريم : 26 ] أي : إمساكاً عن الكلام ، ومنه قول النابغة :
خَيْلٌ صِيَامٌ وخَيْلٌ غَيْرٌ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ وَخَيْلٌ تَعْلُكُ اللُّجمَا
أي : خيل ممسكة عن الجري ، والحركة . وهو في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
وقوله : { كَمَا كُتِبَ } أي : صوماً كما كتب على أن الكاف في موضع نصب على النعت ، أو كتب عليكم الصيام مشبهاً ما كتب على أنه في محل نصب على الحال . وقال بعض النحاة : إن الكاف في موضع رفع نعتاً للصيام ، وهو ضعيف؛ لأن الصيام معرّف باللام ، والضمير المستتر في قوله : { كَمَا كُتِبَ } راجع إلى « ما » . واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو ، فقيل : هو قدر الصوم ، ووقته ، فإن الله كتب على اليهود ، والنصارى صوم رمضان ، فغيروا ، وقيل : هو : الوجوب ، فإن الله أوجب على الأمم الصيام . وقيل : هو الصفة . أي : ترك الأكل ، والشرب ، ونحوهما في وقت ، فعلى الأوّل معناه : أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم ، وعلى الثاني : أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم ، وعلى الثالث : أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم . وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } بالمحافظة عليها ، وقيل : تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة؛ لأنها تكسر الشهوة ، وتضعف دواعي المعاصي ، كما ورد في الحديث أنه « جُنَّة » ، وأنه و « جاء »
وقوله : { أَيَّامًا } منتصب على أنه مفعول ثان لقوله : { كتب } قاله الفراء . وقيل إنه منتصب على أنه ظرف ، أي : كتب عليكم الصيام في أيام . وقوله : { معدودات } أي : معينات بعدد معلوم ، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع لكونه من جموع القلة إشارة إلى تقليل الأيام . وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } قيل : للمريض حالتان : إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة ، وإن كان يطيقه مع تضرّر ، ومشقة كان رخصتة . وبهذا قال الجمهور . وقوله : { على سَفَرٍ } اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار ، فقيل : مسافة قصر الصلاة ، والخلاف في قدرها معروف ، وبه قال الجمهور . وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها . والحق أن ما صدق عليه مسمى السفر ، فهو الذي يباح عنده الفطر ، وهكذا ما صدق عليه مسمى المرض ، فهو الذي يباح عنده الفطر .

وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة . واختلفوا في الأسفار المباحة ، والحق أن الرخصة ثابتة فيه ، وكذا اختلفوا في سفر المعصية . وقوله : { فَعِدَّةٌ } أي : فعليه عدّة ، أو فالحكم عدّة ، أو فالواجب عدّة ، والعدّة فعلة من العدد ، وهو بمعنى . المعدود . وقوله : { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قال سيبويه : ولم ينصرف؛ لأنه معدول به عن الآخر؛ لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف واللام ، وقال الكسائي : هو معدول به عن آخر ، وقيل : إنه جمع أخرى ، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء .
قوله : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } قراءة الجمهور بكسر الطاء ، وسكون الياء ، وأصله : يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء ، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها . وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال ، وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة ، وتشديد الواو ، أي : يكلفونه ، وروى ابن الأنباري ، عن ابن عباس : «يطيقونه» بفتح الياء ، وتشديد الطاء ، والياء مفتوحتين بمعنى : يطيقونه . وروي عن عائشة ، وابن عباس ، وعمرو ابن دينار ، وطاوس أنهم قرءوا «يطيقونه» بفتح الياء ، وتشديد الطاء مفتوحة . وقرأ أهل المدينة ، والشام : " فِدْيَةٌ طَعَامُ " مضافاً . وقرءوا أيضاً : { مساكين } وقرأ ابن عباس : { طَعَامُ مساكين } وهي قراءة أبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي .
وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية ، هل هي محكمة ، أم منسوخة؟ فقيل : إنها منسوخة ، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام؛ لأنه شقّ عليهم ، فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم ، وهو يطيقه ، ثم نسخ ذلك ، وهذا قول الجمهور . وروي عن بعض أهل العلم ، أنها لم تنسخ ، وأنها رخصة للشيوخ ، والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة ، وهذا يناسب قراءة التشديد ، أي : يكلفونه كما مرّ . والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } . وقد اختلفوا في مقدار الفدية؛ فقيل : كل يوم صاع من غير البرّ ، ونصف صاع منه ، وقيل : مدّ فقط .
وقوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } قال ابن شهاب : معناه : من أراد الإطعام مع الصوم . وقال مجاهد : معناه : من زاد في الإطعام على المدّ . وقيل : من أطعم مع المسكين مسكيناً آخر . وقرأ عيسى بن عمر ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي : «يطوّع» مشدّداً مع جزم الفعل على معنى يتطوّع ، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض . وقوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } معناه : أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية ، وكان هذا قبل النسخ ، وقيل معناه : وأن تصوموا في السفر ، والمرض غير الشاق .
وقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن معاذ بن جبل؛ قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ، فذكر أحوال الصلاة ثم قال : وأما أحوال الصيام ، فإن رسول الله قدم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، وصام عاشوراء ، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام ، وأنزل عليه : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } إلى قوله : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكيناً ، فأجزأ ذلك عنه ، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم ، ورخص فيه للمريض ، والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، ثم ذكر تمام الحديث .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } قال : يعني بذلك أهل الكتاب . وأخرج البخاري في تاريخه ، والطبراني ، عن دغفل بن حنظلة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كان على النصارى صوم شهر رمضان ، فمرض ملكهم ، فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدنّ عشراً ، ثم كان آخر ، فأكل لحماً ، فأوجع فوه ، فقال : لئن شفاه الله ليزيدنّ سبعة ، ثم كان عليهم ملك آخر ، فقال : ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً أن نتمها ، ونجعل صومنا في الربيع ، ففعل ، فصارت خمسين يوماً » وأخرج ابن جرير ، عن السدي ، في قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } قال : تتقون من الطعام ، والشراب ، والنساء مثل ما اتقوا . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم » وأخرج البخاري ، ومسلم عن عائشة قالت : كان عاشوراء صياماً ، فلما أنزل رمضان كان من شاء صام ، ومن شاء أفطر . وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال : إن قوله تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } قد نسخت . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه نحو ذلك ، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } الآية . وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه . وأخرج نحوه عنه أيضاً سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وغيرهم . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من شاء صام ، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل ، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } . وأخرج البخاري ، عن ابن أبي ليلى قال : حدّثنا أصحاب محمد ، فذكر نحوه .
وأخرج ابن جرير ، عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ } قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر ، ويطعم مكان كل يوم مسكيناً .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والدارقطني ، والبيهقي؛ أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاماً قبل موته ، فصنع جَفْنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكيناً ، فأطعمهم . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والدارقطني وصححه عن ابن عباس أنه قال لأم ولد له حامل ، أو مرضعة : أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الطعام لا قضاء عليك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني ، عن ابن عمر؛ أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان ، وهي حامل ، قال : تفطر ، وتطعم كل يوم مسكيناً ، وقد روى نحو هذا ، عن جماعة من التابعين . وأخرج عبد بن حميد ، عن عكرمة في قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } قال : أطعم مسكينين . وأخرج عبد بن حميد ، عن طاوس في قوله : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا } قال : إطعام مساكين . وأخرج ابن جرير ، عن ابن شهاب في قوله : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : أن الصوم خير لكم من الفدية . وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جدّاً .

شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

{ رَمَضَانَ } مأخوذ من رمض الصائم يرمض : إذا احترق جوفه من شدة العطش ، والرمضاء ممدود : شدّة الحرّ ، ومنه الحديث الثابت في الصحيح : « صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال » أي : أحرقت الرمضاء أجوافها . قال الجوهري : وشهر رمضان يجمع على رمضانات ، وأرمضاء يقال : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام الحرّ ، فسمي بذلك ، وقيل : إنما سمي رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة . وقال الماوردي : إن اسمه في الجاهلية ناتق ، وأنشد المفضل :
وفي ناتِقٍ أجْلَت لَدى حَوْمَةِ الوَغَى ... وَوَلَّتْ على الأدبار فُرسانُ خَثْعَما
وإنما سموه بذلك؛ لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم ، و { شهر } مرتفع في قراءة الجماعة على أنه مبتدأ خبره : { الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : المفروض عليكم صومه شهر رمضان ، ويجوز أن يكون بدلاً من الصيام المذكور في قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام } . وقرأ مجاهد ، وشهر بن حوشب بنصب الشهر ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو ، وهو منتصب بتقدير : الزموا أو صوموا . قال الكسائي ، والفراء : إنه منصوب بتقدير فعل { كتب عليكم الصيام } { وأن تصوموا } وأنكر ذلك النحاس ، وقال : إنه منصوب على الإغراء . وقال الأخفش : إنه نصب على الظرف ، ومنع الصرف للألف والنون الزائدتين .
قوله : { أُنزِلَ فِيهِ القرآن } قيل : أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم كان جبريل ينزل به نجماً نجماً . وقيل : أنزل فيه أوّله ، وقيل : أنزل في شأنه القرآن . وهذه الآية أعم من قوله تعالى : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] . وقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } [ الدخان : 3 ] يعني : ليلة القدر . والقرآن اسم لكلام الله تعالى ، وهو بمعنى المقروء كالمشروب سمي شراباً ، والمكتوب سمي كتاباً ، وقيل : هو مصدر قرأ يقرأ ، ومنه قول الشاعر :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
أي : قراءة ، ومنه قوله تعالى : { وقرآن الفجر } [ الإسراء : 78 ] أي : قراءة الفجر . وقوله : { هُدىً لّلنَّاسِ } منتصب على الحال ، أي : هادياً لهم . وقوله : { وبينات مِّنَ الهدى } من عطف الخاص على العام ، إظهاراً لشرف المعطوف بإفراده بالذكر؛ لأن القرآن يشمل محكمه ، ومتشابهه ، والبينات تختص بالحكم منه . والفرقان : ما فرق بين الحق ، والباطل : أي : فصل . قوله : { مَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ } أي : حضر ، ولم يكن في سفر بل كان مقيماً ، والشهر منتصب على أنه ظرف ، ولا يصح أن يكون مفعولاً به . قال جماعة من السلف ، والخلف : إن من أدركه شهر رمضان مقيماً غير مسافر لزمه صيامه ، سافر بعد ذلك ، أو أقام استدلالاً بهذه الآية . وقال الجمهور : إنه إذا سافر أفطر ، لأن معنى الآية : إن حضر الشهر من أوّله إلى آخره لا إذا حضر بعضه ، وسافر ، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره ، وهذا هو الحق ، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة .

وقد كان يخرج صلى الله عليه وسلم في رمضان ، فيفطر . وقوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } قد تقدّم تفسيره .
وقوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } فيه أن هذا مقصد من مقاصد الربّ سبحانه ، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين ، ومثله قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يرشد إلى التيسير ، وينهى عن التعسير كقوله صلى الله عليه وسلم : « يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا » وهو في الصحيح . واليسر السهل الذي لا عسر فيه . وقوله : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } الظاهر أنه معطوف على قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } أي : يريد بكم اليسر ، ويريد إكمالكم للعدّة ، وتكبيركم ، وقيل : إنه متعلق بمحذوف تقديره : رخص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة ، وشرع لكم الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة . وقد ذهب إلى الأوّل البصريون قالوا : والتقدير يريد؛ لأن تكملوا العدّة ، ومثله قول كثير بن صخر :
أريدُ لأنسى ذِكُرَها فَكَأنَّما ... تَمَثَّل ليِ لَيْلا بِكُلِ سَبِيل
وذهب الكوفيون إلى الثاني ، وقيل : الواو مقحمة ، وقيل : إن هذه اللام لام الأمر ، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها . وقال في الكشاف : إن قوله : { وَأَحْصُواْ العدة } علة للأمر بمراعاة العدّة { وَلِتُكَبّرُواْ } علة ما علم من كيفية القضاء ، والخروج عن عهدة الفطر { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } علة الترخيص ، والتيسير ، والمراد بالتكبير هنا : هو قول القائل : « الله أكبر » . قال الجمهور ومعناه : الحضّ على التكبير في آخر رمضان . وقد وقع الخلاف في وقته ، فروى عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ، وقيل : إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة ، وقيل : إلى خروج الإمام ، وقيل : هو التكبير يوم الفطر . قال مالك : هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : يكبر في الأضحى ، ولا يكبر في الفطر . وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } قد تقدّم تفسيره .
وقد أخرج أبو حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عديّ ، والبيهقي في سننه ، عن أبي هريرة مرفوعاً ، وموقوفاً : « لا تقولوا رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا شهر رمضان » وقد ثبت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » وثبت عنه أنه قال : « من قام رمضان إيماناً ، واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه »

وثبت عنه أنه قال : " شهرا عيد لا ينقصان : رمضان ، وذو الحجة " وقال : " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة " وهذا كله في الصحيح . وثبت ، عنه في أحاديث كثيرة غير هذه أنه كان يقول : " رمضان " بدون ذكر الشهر . وأخرج ابن مردويه : والأصبهاني في الترغيب : عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي رمضان؛ لأن رمضان يرمض الذنوب " وأخرجا أيضاً ، عن عائشة مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر نحوه . وقد ورد في فضل رمضان أحاديث كثيرة ،
وأخرج أحمد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان ، وأنزل الزبور لثماني عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه عن جابر مثله ، لكنه قال : " وأنزل الزبور الاثني عشر " وزاد : " وأنزل التوراة لست خلون من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان " وأخرج محمد بن نصر عن عائشة نحو قول جابر ، إلا أنها لم تذكر نزول القرآن .
وأخرج ابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء ، والصفات عن مقسمٍ؛ قال : سأل عطيةُ بنُ الأسود ابنَ عباس فقال : إنه قد وقع في قلبي الشكّ في قول الله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن } . وقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] وقوله : { إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة } [ الدخان : 3 ] فقال ابن عباس : إنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان ، وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم رسلاً في الشهور والأيام . وأخرج محمد بن نصر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس؛ قال : نزل القرآن جملة لأربعة وعشرين من رمضان ، فوضع في بيت العزّة في السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلاً .
وأخرج ابن جرير ، عنه أنه قال : «ليلة القدر هي الليلة المباركة ، وهي في رمضان أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور» . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : { هُدىً للناس } قال : يهتدون به { وبينات مِّنَ الهدى } قال : فيه الحلال ، والحرام ، والحدود . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَن شَهِدَ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } قال : هو إهلاله بالدار . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عليّ قال : من أدرك رمضان ، وهو مقيم ، ثم سافر ، فقد لزمه الصوم؛ لأن الله يقول : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } .

وأخرج سعيد بن منصور ، عن ابن عمر نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن أي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عباس في قوله : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر } قال : اليسر الافطار في السفر ، والعسر : الصوم في السفر .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع في قوله : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة } قال : عدّة شهر رمضان . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : أنه قال : عدة ما أفطر المريض في السفر . وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم ، فأكملوا العدّة ثلاثين يوماً » وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : حقّ على الصائمين إذا نظروا إلى شهر شوّال أن يكبروا الله حتى يفرغوا من عيدهم؛ لأن الله يقول : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، عن ابن مسعود أنه كان يكبر : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس ، أنه كان يكبر : الله أكبر كبيرا ، الله أكبر كبيراً ، الله أكبر ، ولله الحمد وأجلّ ، الله أكبر على ما هدانا .

وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

قوله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي } يحتمل أن السؤال عن القرب والبعد كما يدل عليه قوله : { فَإِنّي قَرِيبٌ } ويحتمل أن السؤال عن إجابة الدعاء ، كما يدل على ذلك قوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع } ويحتمل أن السؤال عما هو أعمّ من ذلك ، وهذا هو الظاهر ، مع قطع النظر عن السبب الذي سيأتي بيانه . وقوله : { فَإِنّي قَرِيبٌ } قيل : بالإجابة . وقيل : بالعلم . وقيل : بالإنعام . وقيل في الكشاف : إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه ، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله بمن قرب مكانه ، فإذا دعى أسرعت تلبيته .
ومعنى الإجابة : هو معنى ما في قوله تعالى : { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] وقيل : معناه : أقبل عبادة من عبدني بالدعاء ، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من « أن الدعاء هو : العبادة ، » كما أخرجه أبو داود ، وغيره من حديث النعمان بن بشير ، والظاهر أن الإجابة هنا هي باقية على معناها اللغوي؛ وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي : القبول للدّعاء : أي : جعله عبادة متقبلة ، فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة . والمراد : أنه سبحانه يجيب بما شاء ، وكيف شاء ، فقد يحصل المطلوب قريباً ، وقد يحصل بعيداً ، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه ، وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه ، كما في قوله سبحانه { ادعوا ربكم تضرّعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين } [ الأعراف : 55 ] ومن الاعتداء أن يطلب ما لا يستحقه ، ولا يصلح له ، كمن يطلب منزلة في الجنة مساوية لمنزلة الأنبياء ، أو فوقها . وقوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } أي : كما أجبتهم إذا دعوني ، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات ، وقيل : معناه : أنهم يطلبون إجابة الله سبحانه لدعائهم باستجابتهم له : أي : القيام بما أمرهم به ، والترك لما نهاهم عنه . والرشد خلاف الغيّ ، رشد يرشد رَشَداً . ورُشداً . قال الهروي : الرُّشد ، والرَّشَد ، والرشاد : الهدى ، والاستقامة . قال : ومنه هذه الآية .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طريق الصلب بن حكيم عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جدّه؛ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله أقريب ربنا ، فنناجيه أم بعيد ، فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن الحسن قال : سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فأنزل الله هذه الآية . وأخرج ابن مردويه ، عن أنس أنه سأل أعرابيّ النبي صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فنزلت . وأخرج ابن عساكر في تاريخه ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« لا تعجزوا عن الدعاء ، فإن الله أنزل عليَّ » { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] فقال رجل : يا رسول الله ربنا يسمع الدعاء أم كيف ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عطاء أنه بلغه لما نزلت { ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قالوا : لو نعلم أيّ ساعة ندعو ، فنزلت .
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ، ولا قطيعة رحم ، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدّخر له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها » وثبت في الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يستجاب لأحدكم ما لم يَعْجَل ، يقول دعوت ، فلم يستجب لي » وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أنس في قوله : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } قال : ليدعوني : { وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } أي : أنهم إذا دعوني استجبت لهم . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } أي : فليطيعوني . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن الربيع بن أنس في قوله : { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } قال : يهتدون .

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

قوله : { أُحِلَّ لَكُمُ } فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراماً عليهم ، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية ، وسيأتي . والرفث : كناية عن الجماع . قال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وكذا قال الأزهري ، ومنه قول الشاعر :
ويُرَيْنَ من أنْس الحَدِيثِ زَوَانياً ... وبهنَّ عَنْ رَفَث الرجالِ نِفَارُ
وقيل : الرفث : أصله قول الفحش ، رفث وأرفث : إذا تكلم بالقبيح ، وليس هو المراد هنا ، وعدّى الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء . وجعل النساء لباساً للرجال؛ والرجال لباساً لهنّ لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ، ولابسه . قال أبو عبيدة ، وغيره : يقال للمرأة لباس ، وفراش ، وإزار . وقيل : إنما جل كل واحد منهما لباساً للآخر ، لأنه يستره عند الجماع ، عن أعين الناس .
وقوله : { تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } أي : تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم ، يقال خان ، واختان بمعنى ، وهما من الخيانة . قال القتيبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء ، فلا يؤدي الأمانة فيه . انتهى . وإنما سماهم خائنين لأنفسهم؛ لأن ضرر ذلك عائد عليهم ، وقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يحتمل معنيين : أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم ، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة ، والإباحة كقوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [ المزمل : 20 ] يعني : تخفف عنكم ، وكقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ الله } [ النساء : 92 ] يعني تخفيفاً ، وهكذا قوله : { الضر عَنْكُمْ } يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة ، والتسهيل . وقوله : { وابتغوا } قيل : هو الولد ، أي : ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح ، وهو حصول النسل . وقيل : المراد : ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه ، قاله الزجاج وغير . وقيل : ابتغوا الرخصة ، والتوسعة . وقيل : ابتغوا ما كتب لكم من الإماء ، والزوجات . وقيل : غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني ، ولا دل عليه دليل آخر . وقرأ الحسن البصري : «واتبعوا» بالعين المهملة من الإتباع . وقوله : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } هو : تشبيه بليغ ، والمراد هنا بالخيط الأبيض هو : المعترض في الأفق ، لا الذي هو كذَنَب السِّرْحان ، فإنه الفجر الكذاب ، الذي لا يحلّ شيئاً ، ولا يحرمه . والمراد بالخيط الأسود : سواد الليل ، والتبين : أن يمتاز أحدهما عن الآخر ، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر . وقوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل ، فعند إقبال الليل من المشرق ، وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ، ويحلّ له الأكل ، والشرب وغيرهما . وقول : { وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد } قيل : المراد : بالمباشرة هنا الجماع . وقيل : تشمل التقبيل ، واللمس إذا كانا لشهوة لا إذا كانا لغير شهوة ، فهما جائزان كما قاله عطاء ، والشافعي ، وابن المنذر ، وغيرهم ، وعلى هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ، ولا يقبل ، فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة ، والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال عكف على الشيء : إذا لازمه ، ومنه قول الشاعر :

وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلي عُكَّفاً ... عُكُوفَ البَواكِي حَوْلَهُنَّ صَرِيع
ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له : عاكف في المسجد ، ومعتكف فيه؛ لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد ، والاعتكاف في الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص . وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب ، وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد ، وللاعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه ، وشروح الحديث .
وقوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } أي : هذه الأحكام حدود الله ، وأصل الحدّ : المنع ، ومنه سمي البواب ، والسجان : حداداً ، وسميت الأوامر والنواهي حدود الله؛ لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج عنها ما هو منها ، ومن ذلك سميت الحدود حدوداً؛ لأنها تمنع أصحابها من العود . ومعنى النهي عن قربانها : النهي عن تعدّيها بالمخالفة لها ، وقيل : إن حدود الله هي محارمه فقط ، ومنها المباشرة من المعتكف ، والإفطار في رمضان لغير عذر ، وغير ذلك مما سبق النهي عنه ، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح . وقوله : { كذلك يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ } أي : كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق .
وقد أخرج البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وغيرهم عن البراء بن عازب؛ قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً ، فحضر الإفطار ، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ، ولا يومه حتى يمسي ، وإن قيس بن صِرْمَة الأنصاري كان صائماً ، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت لا ، ولكن أنطلق ، فأطلب لك ، فغلبته عينه ، فنام ، وجاءت امرأته ، فلما رأته نائماً قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غُشِي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام } إلى قوله : { مِنَ الفجر } ففرحوا بها فرحاً شديداً . وأخرج البخاري أيضاً من حديثه قال : لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، فكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } الآية . وقد روى في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان الناس أوّل ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام ، ثم قال : وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول إني أعتذر إلى الله ، وإليك من نفسي ، وذكر ما وقع منه ، فنزل قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام } الآية .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : إن المسلمين كانوا في شهر رمضان ، إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء ، والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة ، ثم إن ناساً من المسلمين أصابوا النساء ، والطعام في رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام } الآية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن ابن عباس قال : الرفث الجماع . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عمر مثله .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : الدخول ، والتفشي ، والإفضاء ، والمباشرة ، والرفث ، واللمس ، والمس هذا الجماع؛ غير أن الله حَيِي كريم يكني بما شاء عما شاء . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس ، في قوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } قال : هنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهنّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } قال : تظلمون أنفسكم . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { فالن باشروهن } قال : انكحوهنّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } قال : الولد . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد ، وقتادة والضحاك مثله .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } قال : ليلة القدر . وأخرج البخاري في تاريخه ، عن أنس مثله . وأخرج عبد الرزاق ، عن قتادة قال : { وابتغوا } الرخصة التي كتب الله لكم . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن سهل بن سعد . قال : أنزلت : { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } ولم ينزل : { مِنَ الفجر } فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض ، والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ، ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله : { مِنَ الفجر } فعلموا أنه يعني الليل والنهار . وفي الصحيحين ، وغيرهما عن عديّ بن حاتم ، أنه جعل تحت وساده خيطين أبيض وأسود ، وجعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فقال : « إن وسادك إذا لعريض ، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل » وفي رواية في البخاري ، وغيره . إنه قال له : « إنك لعريض القفا » . وفي رواية عند ابن جرير ، وابن أبي حاتم : أنه ضحك منه .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن الضحاك قال : كانوا يجامعون ، وهم معتكفون حتى نزلت : { وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن الربيع نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : «إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف» . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } قال : يعني طاعة الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الضحاك قال : { حُدُودَ الله } معصية الله : يعني المباشرة في الاعتكاف . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل أنها الجماع . وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير في قوله : { كذلك } يعني : هكذا يبين الله .

وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

هذا يعم جميع الأمة ، وجميع الأموال ، لا يخرج عن ذلك إلا ماورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه ، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل ، ومأكول بالحل لا بالإثم ، وإن كان صاحبه كارهاً كقضاء الدين إذا امتنع منه مَنْ هو عليه ، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها ، ونفقة من أوجب الشرع نفقته . والحاصل أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه ، فهو مأكول بالباطل ، وإن طابت به نفس مالكه : كمهر البغيّ ، وحلوان الكاهن ، وثمن الخمر . والباطل في اللغة : الذاهب الزائل .
وقوله : { وَتُدْلُواْ } مجزوم عطفاً على تأكلوا ، فهو من جملة المنهي عنه ، يقال أدلى الرجل بحجته ، أو بالأمر الذي يرجو النجاح به تشبيهاً بالذي يرسل الدلو في البئر ، يقال أدلى دلوه : أرسلها ، والمعنى أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل ، وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة ، وفي هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ، ولا يحرم الحلال من غير فرق بين الأموال والفروج ، فمن حكم له القاضي بشيء مستنداً في حكمه إلى شهادة زور أو يمين فجور ، فلا يحلّ له أكله ، فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل ، وهكذا إذا أرشى الحاكم ، فحكم له بغير الحق ، فإنه من أكل أموال الناس بالباطل . ولا خلاف بين أهل العلم ان حكم الحاكم لا يحلل الحرام ، ولا يحرم الحلال . وقد روى عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك ، وهو مردود لكتاب الله تعالى ، ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما في حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنكم تختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء ، فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار » وهو في الصحيحين ، وغيرهما .
وقوله : { فَرِيقاً } أي : قطعة أو جزءاً أو طائفة ، فعبر بالفريق عن ذلك ، وأصل الفريق : القطة من الغنم تشذ عن معظمها . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم ، وسمي الظلم ، والعدوان إثماً باعتبار تعلقه بفاعله . وقوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء ، وهذا أشدّ لعقابهم . وأعظم لجرمهم .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم } الآية ، قال : هذا في الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه بينة ، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه . وروى سعيد بن منصور وعبد بن حميد ، عن مجاهد قال : معناها : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم . وأخرج ابن المنذر ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير؛ أن امْرَأ القيس بن عابس ، وعيدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض ، وأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فنزلت : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم } الآية .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

قوله : { يَسْأَلُونَكَ } سيأتي بيان من هم السائلون له صلى الله عليه وسلم ، و { الأهلة } جمع هلال ، وجمعها باعتبار هلال كل شهر أو كل ليلة ، تنزيلاً لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات ، والهلال : اسم لما يبدو في أوّل الشهر ، وفي آخره . قال الأصمعي : هو هلال حتى يستدير ، وقيل : هو : هلال حتى ينير بضوئه السماء ، وذلك ليلة السابع . وإنما قيل له : هلال؛ لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته ، ومنه استهلّ الصبي : إذا صاح ، واستهلّ وجهه ، وتهلل إذا ظهر فيه السرور .
قوله : { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ، ونقصانه ، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ، ومعاملاتهم بها كالصوم ، والفطر ، والحج ، ومدّة الحمل ، والعدّة ، والإجارات ، والأيمان ، وغير ذلك ، ومثله قوله تعالى : { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] والمواقيت جمع الميقات ، وهو الوقت . وقراءة الجمهور : { والحج } بفتح الحاء . وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن . قال سيبويه : الحج بالفتح كالردّ والشدّ ، وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى ، وقيل : بالفتح مصدر ، وبالكسر الاسم . وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر؛ لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، ولا يجوز فيه النسيء ، عن وقته ، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه ، أو أخطأ وقتها ، أو وقت بعضها . وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب ، أعني قوله : { قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ } من الأسلوب الحكيم ، وهو : تلقي المخاطب بغير ما يترقب ، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد ، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ، ونقصانها ، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة ، والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل وأحق بأن يتطلع لعلمه .
قوله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة ، والجواب بأنها مواقيت للناس ، والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه؛ لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه ، وبين السماء حائل ، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم . وقال أبو عبيدة : إن هذا من ضرب المثل ، والمعنى : ليس البرّ أن تسألوا الجهال ، ولكن البرّ التقوى ، واسألوا العلماء كما تقول : أتيت هذا الأمر من بابه . وقيل : هو مثل في جماع النساء ، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر . وقيل : غير ذلك . والبيوت جمع بيت ، وقرىء بضم الباء ، وكسرها . وقد تقدّم تفسير التقوى والفلاح ، وسبق أيضاً أن التقدير في مثل قوله : { ولكن البر مَنِ اتقى } ولكن البرّ برّ من اتقى .
وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة } قال : نزلت في معاذ بن جبل ، وثعلبة بن عثمة .

وهما رجلان من الأنصار قالا : يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ، ويطلع دقيقاً مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ، ويستوي ، ثم لا يزال ينقص ، ويدقّ حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } في حلّ دَيْنهم ، ولصومهم ولفطرهم ، وعدد نسائهم ، والشروط التي إلى أجل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة قال : سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ، عن الأهلة لم جُعِلت؟ فأنزل الله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة } الآية ، فجعلها لصوم المسلمين ، ولإفطارهم ، ولمناسكهم ، وحجهم ، وعدد نسائهم ، ومَحلِّ ديَنْهم . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية نحوه .
وأخرج ابن جرير ، عن الربيع بن أنس نحوه . وقد روى ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جعل الله الأهلة مواقيت للناس ، فصوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غُمَّ عليكم ، فعدّوا ثلاثين يوماً » وأخرج أحمد ، والطبراني ، وابن عدي ، والدارقطني بسند ضعيف ، عن طَلْق بن عليّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو حديث ابن عمر . وأخرج البخاري ، وغيره ، عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت : { وَلَيْسَ البر } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن جابر قال : كانت قريش تدعي الحُمْس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار ، وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله في بستان إذ خرج من بابه ، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر ، وإنه خرج معك من الباب ، فقال له : « ما حملك على ما صنعت؟ » قال : رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت ، فقال : إني رجل أحمسي ، قال : فإن ديني دينك ، فأنزل الله الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس نحوه . وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة ، والتابعين .

وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)

لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعاً قبل الهجرة لقوله تعالى : { فاعف عَنْهُمْ واصفح } [ المائدة : 13 ] وقوله : { واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً } [ المزمل : 10 ] وقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] وقوله : { ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ المؤمنون : 96 ] ونحو ذلك مما نزل بمكة؛ فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال ، ونزلت هذه الآية ، وقيل : إن أوّل ما نزل قوله تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يقاتلون بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } [ الحج : 39 ] فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله تعالى : { افاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] . وقال جماعة من السلف : إن المراد بقوله : { الذين يقاتلونكم } من عدا النساء ، والصبيان ، والرهبان ، ونحوهم ، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأوّل هو : مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية . والمراد به على القول الثاني : مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدّم ذكره .
قوله : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } يقال ثقف يثقف ثقفاً ، ورجل ثقيف : إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور . قال في الكشاف : والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف : سريع الأخذ لأقرانه . انتهى . ومنه قول حسان :
فإما يثقفنّ بني لؤى ... جذيمة إنّ قتلهم دواء
قوله : { وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي : مكة . قال ابن جرير : الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش . انتهى . وقد امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه ، فأخرج من مكة مَن لم يُسلم عند أن فتحها الله عليه . قوله : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } أي : الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم ، وهي : رجوعكم إلى الكفر أشدّ من القتل . وقيل : المراد بالفتنة : المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه ، أو ماله ، أو اهله ، أو عرضه ، وقيل : إن المراد بالفتنة : الشرك الذي عليه المشركون؛ لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشدّ مما يستعظمونه ، وقيل : المراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام اشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم . والظاهر أن المراد : الفتنة في الدين بأيّ سبب كان ، وعلى أيّ صورة اتفقت ، فإنها أشدّ من القتل .
قوله : { وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام } الآية . اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأنه لا يجوز القتال في الحرم ، إلا بعد أن يتعدّى بالقتال فيه ، فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له ، وهذا هو الحق . وقالت طائفة : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 36 ] ويجاب عن هذا الاستدلال بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص ، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم ، ومما يؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :

« إنها لم تحلّ لأحد قبلي ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار » وهو في الصحيح . وقد احتجَ القائلون بالنسخ بقتله صلى الله عليه وسلم لابن خَطَل ، وهو متعلق بأستار الكعبة : ويجاب عنه ، بأنه وقع في تلك الساعة التي أحلّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .
قوله : { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } أي : عن قتالكم ، ودخلوا في الإسلام . قوله : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية هي أن لا تكون فتنة ، وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام ، وأقلع عن الشرك لم يحلّ قتاله . قيل : المراد بالفتنة هنا : الشرك ، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف . قوله : { فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } أي : لا تعتدوا إلا على من ظلم ، وهو من لم ينته عن الفتنة ، ولم يدخل في الإسلام ، وإنما سمي جزاء الظالمين عدواناً مشاكلة كقوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 4 ] . وقوله : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قوله تعالى : { وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله } الآية أنها أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن كفّ عنه ، حتى نزلت سورة براءة . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد في هذه الآية قال : إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَعْتَدُواْ } يقول لا تقتلوا النساء ، والصبيان ، والشيخ الكبير ، ولا من ألقى السلم وكفّ يده ، فإن فعلتم ، فقد اعتديتم . وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز؛ أنه قال : إن هذه الآية في النساء ، والذرية .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أبي العالية في قوله : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } يقول : الشرك أشدّ من القتل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في الآية قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من أن يقتل محقاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، عن قتادة في قوله : { وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ } قال : حتى يبدءوا بالقتال ، ثم نسخ بعد ذلك فقال : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه عن قتادة أن قوله : { وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام } وقوله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين جميعاً في براءة قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] { وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً }

[ التوبة : 36 ] وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } قال : فإن تابوا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس في قوله : { وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } يقول : شرك بالله : { وَيَكُونَ الدّينُ } ويخلص التوحيد لله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في الآية ، قال : الشرك . وقوله : { فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } قال : لا تقاتلوا إلا من قاتلكم . وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } يقول : حتى لا تعبدوا إلا الله . وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله : { فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين } قال : هم من أبى يقول لا إله إلا الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة نحوه .

الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

قوله : { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي : إذا قاتلوكم في الشهر الحرام ، وهتكوا حرمته قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ، ومجازاة على فعلهم . { والحرمات } جمع حرمة ، كالظلمات جمع ظلمة ، وإنما جمع الحرمات؛ لأنه أراد الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام ، والحرمة : ما منع الشرع من انتهاكه . والقصاص : المساواة ، والمعنى : أن كل حرمة يجري فيها القصاص ، فمن هتك حرمة عليكم ، فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصاً ، قيل وهذا كان في أوّل الإسلام ، ثم نسخ بالقتال ، وقيل : إنه ثابت بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم ينسخ ، ويجوز لمن تعدّى عليه في مال ، أو بدن ، أن يتعدّى بمثل ما تُعُدِّى عليه ، وبهذا قال الشافعي ، وغيره . وقال آخرون : إن أمور القصاص مقصورة على الحكام ، وهكذا الأموال لقوله صلى الله عليه وسلم : « أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك » أخرجه الدارقطني ، وغيره ، وبه قال أبو حنيفة ، وجمهور المالكية ، وعطاء الخراساني؛ والقول الأوّل أرجح ، وبه قال ابن المنذر ، واختاره ابن العربي والقرطبي ، وحكاه الداودي عن مالك ، ويؤيده إذنه صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها ، وولدها ، وهو في الصحيح ، ولا أصرح ولا أوضح من قوله تعالى : في هذه الآية { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى ، أعني قوله : { والحرمات قِصَاصٌ } وإنما سمي المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم .
وقد أخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في سنة ستّ من الهجرة ، وحبسه المشركون ، عن الدخول ، والوصول إلى البيت ، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة ، وهو شهر حرام قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية هو ، ومن كان معه من المسلمين ، وأقصه الله منهم نزلت في ذلك هذه الآية : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد نحوه أيضاً . وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج نحوه .
وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ } الآية ، وقوله { وَجَزَاء سَيّئَةٍ } [ الشورى : 40 ] الآية ، وقوله : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ } الآية ، [ الشورى : 41 ] ، وقوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } الآية [ النحل : 126 ] قال : هذا ونحوه نزل بمكة ، والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان يقهر المشركين ، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى ، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتي إليه ، أو يصبروا ، ويعفوا؛ فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وأعزّ الله سلطانه ، أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم ، ولا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية ، فقال

{ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا } [ الإسراء : 33 ] ، يقول : ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه ، ومن انتصر لنفسه دون السلطان ، فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ، ولم يرض بحكم الله تعالى . انتهى . وأقول : هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي الله عنه ناسخةً مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ، ومؤكدة له ، فإن الظاهر من قوله : { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا } أي جعل السلطان له ، أي : جعل له تسلطاً يتسلط به على القاتل ، ولهذا قال : { فَلاَ يُسْرِف فّى القتل } [ الإسراء : 33 ] ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصاً للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخاً لها ، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده ، وتلك الآيات شاملة له ولغيره ، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي : المرجع في تفسير كلام الله سبحانه .

وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

في هذه الآية الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، وهو الجهاد ، واللفظ يتناول غيره مما يصدق عليه أنه من سبيل الله ، والباء في قوله : { بِأَيْدِيكُمْ } زائدة ، والتقدير : ولا تلقوا أيديكم ، ومثله : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } [ العلق : 14 ] وقال المبرد : { بِأَيْدِيكُمْ } أي : بأنفسكم تعبيراً بالبعض عن الكل ، كقوله : { فبِمَا كَسَبَتْ * أَيْدِيكُم } [ الشورى : 30 ] وقيل : هذا مثل مضروب ، يقال فلان ألقى بيده في أمر كذا : إذا استسلم؛ لأن المستسلم في القتال يلقى سلاحه بيديه ، فكذلك فعل كل عاجز في أيّ فعل كان . وقال قوم : التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم .
والتهلكة : مصدر من هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة ، أي : لا تأخذوا فيما يهلككم . وللسلف في معنى الآية أقوال سيأتي بيانها ، وبيان سبب نزول الآية . والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل ما صدق عليه أنه تهلكة في الدين ، أو الدنيا ، فهو داخل في هذا ، وبه قال ابن جرير الطبري . ومن جملة ما يدخل تحت الآية ، أن يقتحم الرجل في الحرب ، فيحمل على الجيش مع عدم قدرته على التخلص ، وعدم تأثيره لأثر ينفع المجاهدين ، ولا يمنع من دخول هذا تحت الآية إنكار من أنكره من الذين رأوا السبب ، فإنهم ظنوا أن الآية لا تجاوز سببها ، وهو ظنّ تدفعه لغة العرب . وقوله : { وَأَحْسِنُواْ } أي : في الإنفاق في الطاعة ، أو أحسنوا الظن بالله في إخلافه عليكم .
وقد أخرج عبد بن حميد ، والبخاري ، والبيهقي في سننه ، عن حذيفة في قوله : { وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } قال : نزلت في النفقة . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : هو ترك النفقة في سبيل الله مخافة العيلة . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي ، عن ابن عباس نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عكرمة نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب عنه قال : هو البخل .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم في الآية قال : كان رجال يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة ، فإما يقطع لهم ، وإما كانوا عيالاً ، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، والتهلكة : أن تُهْلَك رجالٌ من الجوع ، والعطش ، ومن المشي . وقال لمن بيده فضل : { وَأَحْسِنُواْ إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، والبغوي في معجمه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مانع ، والطبراني ، عن الضحاك بن أبي جبير؛ أن الأنصار كانوا ينفقون في سبيل الله ، ويتصدّقون ، فأصابتهم سنة ، فساء ظنهم ، وأمسكوا عن ذلك ، فأنزل الله الآية .

وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن أسلم بن عمران قال : كنا بالقسطنطينية ، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر ، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد ، فخرج صفّ عظيم من الروم ، فصففنا لهم ، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم ، فصاح الناس ، وقالوا : سبحان الله! يلقي بيده إلى التهلكة؟ فقام أبو أيوب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس ، إنكم تؤوّلون الآية هذا التأويل . وإنما أنزلت فينا هذه الآية معشر الأنصار ، إنا لما أعزّ الله دينه ، وكثر ناصروه ، قال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموال الناس قد ضاعت ، وإن الله قد أعزّ الإسلام ، وكثر ناصروه ، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها؟ فأنزل الله على نبيه يردّ علينا : { وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } فكانت التهلكة الإقامة في الأموال ، وإصلاحها ، وترك الغزو .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وصححه ، والبيهقي ، عن البراء بن عازب ، قال في تفسير الآية : هو : الرجل يذنب الذنب ، فيلقي بيديه ، فيقول : لا يغفر الله لي أبداً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب ، عن النعمان بن بشير نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، قال في تفسير الآية : إنه القنوط . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : التهلكة عذاب الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، أنهم حاصروا دمشق ، فأسرع رجل إلى العدوّ وحده ، فعاب ذلك عليه المسلمون ، ورفع حديثه إلى عمرو بن العاص ، فأرسل إليه فردّه ، وقال : قال الله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } . وأخرج ابن جرير ، عن رجل من الصحابة في قوله : { وَأَحْسِنُواْ } قال : أدّو الفرائض . وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي إسحاق مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن عكرمة قال : أحسنوا الظنّ بالله .

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)

قوله : { وَأَتِمُّواْ الحج } اختلف العلماء في المعنى المراد بإتمام الحج ، والعمرة لله ، فقيل : أداؤهما ، والإتيان بهما ، من دون أن يشوبهما شيء مما هو محظور ، ولا يخلّ بشرط ، ولا فرض لقوله تعالى : { فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] وقوله : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل } [ البقرة : 187 ] . وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج لهما لا لغيرهما ، وقيل : إتمامهما أن تفرد كل واحد منهما من غير تمتُّعٍ ، ولا قِرَان ، وبه قال ابن حبيب . وقال مقاتل : إتمامهما ألا يَسْتَحِلوا فيهما ما لا ينبغي لهم ، وقيل : إتمامهما أن يُحِرْم لهما من دُوَيْرة أهله ، وقيل : أن ينفق في سفرهما الحلال الطيب ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وما هو مرويّ عن السلف في معنى إتمامهما .
وقد استُدِل بهذه الآية على وجوب العمرة؛ لأن الأمر بإتمامهما أمر بها ، وبذلك قال عليّ ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، ومسروق ، وعبد الله بن شدّاد ، والشافعي ، وأحمد . وإسحاق ، وأبو عبيد ، وابن الجهم من المالكية . وقال مالك والنخعي وأصحاب الرأي كما حكاه ابن المنذر عنهم : أنها سنة . وحكى عن أبي حنيفة أنه يقول بالوجوب . ومن القائلين بأنها سنة ابن مسعود وجابر بن عبد الله . ومن جملة ما استدل به الأوّلون ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال لأصحابه : « من كان معه هَدي فلْيُهِلِّ بحج وعمرة » وثبت عنه أيضاً في الصحيح أنه قال : « دخلت العمرة في الحجّ إلى يوم القيامة » وأخرج الدارقطني ، والحاكم من حديث زيد بن ثابت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الحجّ والعمرة فريضتان لا يضرّك بأيهما بدأت » واستدل الآخرون بما أخرجه الشافعي في الآية ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن أبي صالح الحنفي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الحجّ جهاد ، والعمرة تطوّع » وأخرج ابن ماجه عن طلحة بن عبيد الله مرفوعاً مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه عن جابر : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي؟ قال : « لا ، وأن تعتمروا خير لكم » وأجابوا عن الآية ، وعن الأحاديث المصرحة بأنها فريضة بحمل ذلك على أنه قد وقع الدخول فيها ، وهي بعد الشروع فيها واجبة بلا خلاف ،
وهذا ، وإن كان فيه بُعْدٌ ، لكنه يجب المصير إليه؛ جمعاً بين الأدلة ، ولا سيما بعد تصريحه صلى الله عليه وسلم بما تقدّم في حديث جابر من عدم الوجوب ، وعلى هذا يحمل ما ورد مما فيه دلالة على وجوبها ، كما أخرجه الشافعي في الأم ، أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم :

" إن العمرة هي الحج الأصغر " وكحديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب قال : «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أوصني ، " فقال : تعبد الله ، ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم شهر رمضان ، وتحجّ وتعتمر ، وتسمع وتطيع ، وعليك بالعلانية ، وإياك والسرّ " وهكذا ينبغي حمل ما ورد من الأحاديث التي قرن فيها بين الحج والعمرة في أنهما من أفضل الأعمال ، وأنهما كفارة لما بينهما ، وأنهما يهدمان ما كان قبلهما ونحو ذلك .
قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } الحصر : الحبس . قال أبو عبيدة ، والكسائي ، والخليل : إنه يقال أحُصِر بالمرض ، وحُصِر بالعدّو . وفي المجمل لابن فارس العكس ، يقال : أحصر بالعدّو ، وحُصر بالمرض . ورجح الأوّل ابن العربي ، وقال : هو رأي أكثر أهل اللغة . وقال الزجاج : أنه كذلك عند جميع أهل اللغة ، وقال الفراء : هما بمعنى واحد في المرض ، والعدّو . ووافقه على ذلك أبو عمرو الشيباني فقال : حصرني الشي ، وأحصرني : أي : حبسني . وبسبب هذا الاختلاف بين أهل اللغة اختلف أئمة الفقه في معنى الآية ، فقالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعاً من مكة بعد الإحرام بمرض ، أو عدوّ أو غيره . وقالت الشافعية ، وأهل المدينة المراد بالآية : حصر العدّو . وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن المحصر بعدوّ يحل حيث أحصر ، وينحر هديه إن كان ثمّ هدي ، ويحلق رأسه ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو ، وأصحابه في الحديبية .
وقوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } «ما» في موضع رفع على الابتداء ، أو الخبر ، أي : فالواجب أو فعليكم ، ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، أي : فانحروا ، أو فاهدوا ما استيسر أي : ما تيسر ، يقال يَسُر الأمر ، واستيسر ، كما يقال صَعُب واستصعب ، والهَديُّ ، والهَدْي لغتان ، وهما جمع هدية ، وهي ما يهدى إلى البيت من بدنة ، أو غيرها . قال الفراء : أهل الحجاز وبنو أسد يخففون الهدي ، وتميم ، وسفلي قيس يثقلون . قال الشاعر :
حَلْفتُ بِربّ كعبة والمصلى ... وأعْناقِ الْهَدِىّ مُقَلَّداتِ
قال : وواحد الهدي هدية ، ويقال في جمع الهديّ : أهد . واختلف أهل العلم في المراد بقوله : { مَا استيسر } فذهب الجمهور إلى أنه شاة . وقال ابن عمر وعائشة ، وابن الزبير : جمل أو بقرة . وقال الحسن : أعلا الهدي بَدَنَة ، وأوسطه بقرة ، وأدناه شاة ،
وقوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ } هو خطاب لجميع الأمة من غير فرق بين مُحْصَر ، وغير مُحَصر ، وإليه ذهب جمع من أهل العلم ، وذهبت طائفة إلى أنه خطاب للمُحْصَرين خاصة : أي : لا تحلوا من الإحرام حتى تعلموا أن الهدى الذي بعثتموه إلى الحرم قد بلغ مَحِلَّه ، وهو الموضع الذي يحلّ فيه ذبحُه .

واختلفوا في تعيينه ، فقال مالك ، والشافعي : هو موضع الحصر ، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أحصر في عام الحديبية . وقال أبو حنيفة : هو : الحرم لقوله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق } [ الحج : 33 ] وأجيب عن ذلك بأن المخاطب به هو الآمن الذي يمكنه الوصول إلى البيت . وأجاب الحنفية عن نحره صلى الله عليه وسلم في الحديبية بأن طرف الحديبية الذي إلى أسفل مكة هو من الحرم . ورُدَّ بأن المكان الذي وقع فيه النحر ليس هو من الحرم .
قوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } الآية ، المراد بالمرض هنا : ما يصدق عليه مسمى المرض لغة . والمراد بالأذى من الرأس : ما فيه من قمل ، أو جراح ، ونحو ذلك ، ومعنى الآية : أن من كان مريضاً ، أو به أذى من رأسه ، فحلق فعليه فدية . وقد بينت السنة ما أطلق هنا من الصيام ، والصدقة ، والنسك ، فثبت في الصحيح : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى كعب بن عَجْرَة ، وهو مُحْرِم ، وقملهُ يتساقط على وجهه ، " فقال : أيؤذيك هَوَامُّ رأسك؟ " قال : نعم ، " فأمره أن يحلق ، ويطعم ستة مساكين ، أو يُهْدِي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام " وقد ذكر ابن عبد البرّ أنه لا خلاف بين العلماء أن النسك هنا هو : شاة .
وحكى عن الجمهور أن الصوم المذكور في الآية ثلاثة أيام ، والإطعام لستة مساكين . وروى عن الحسن وعكرمة ونافع أنهم قالوا : الصوم في فدية الأذى عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين . والحديث الصحيح المتقدّم يردّ عليهم ، ويبطل قولهم . وقد ذهب مالك والشافعي وأبو حنيف وأصحابهم وداود إلى أن الإطعام في ذلك مُدَّان بمُدّ النبي صلى الله عليه وسلم أي : لكل مسكين ، وقال الثوري : نصف صاع من برّ ، أو صاع من غيره . وروى ذلك عن أبي حنيفة . قال ابن المنذر : وهذا غلط؛ لأن في بعض أخبار كعب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : " تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين " واختلفت الرواية عن أحمد بن حنبل ، فروى عنه مثل قول مالك ، والشافعي ، وروي عنه أنه إن أطعم بُرّاً ، فمدٌّ لكل مسكين ، وإن أطعم تمراً ، فنصف صاع . واختلفوا في مكان هذه الفدية ، فقال عطاء : ما كان من دم ، فبمكة ، وما كان من طعام ، أو صيام ، فحيث شاء . وبه قال أصحاب الرأي . وقال طاوس ، والشافعي : الإطعام ، والدم لا يكونان إلا بمكة ، والصوم حيث شاء . وقال مالك ومجاهد : حيث شاء في الجميع ، وهو : الحق لعدم الدليل على تعيين المكان .
قوله : { فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدى } أي : برأتم من المرض . وقيل : من خوفكم من العدّو على الخلاف السابق ، ولكن الأمن من العدوّ أظهر من استعمال أمنتم في ذهاب المرض ، فيكون مقوّياً لقول من قال إن قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } المراد به : الإحصار من العدّو ، كما أن قوله : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } يقوّي قول من قال بذلك لإفراد عذر المرض بالذكر .

وقد وقع الخلاف : هل المخاطب بهذا هم المحصرون خاصة أم جميع الأمة على حسب ما سلف؟ والمراد بالتمتع المذكور في الآية : أن يحرم الرجل بعمرة ، ثم يقيم حلالاً بمكة إلى أن يحرم بالحج ، فقد استباح بذلك ما لا يحلّ للمُحْرِم استباحته ، وهو معنى : تمتع واستمتع ، ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التمتع ، بل هو عندي أفضل أنواع الحج كما حررته في شرحي على المنتقى . وقد تقدّم الخلاف في معنى قوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدى }
قوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } الآية ، أي : فمن لم يجد الهدي ، إما لعدم المال ، أو لعدم الحيوان ، صام ثلاثة أيام في الحج ، أي : في أيام الحج ، وهي من عند شروعه في الإحرام إلى يوم النحر . وقيل : يصوم قبل يوم التروية يوماً ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وقيل : ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة ، وقيل : يصومهنّ من أوّل عشر ذي الحجة ، وقيل : ما دام بمكة . وقيل : إنه يجوز أن يصوم الثلاث قبل أن يحرم . وقد جوز بعض أهل العلم صيام أيام التشريق لمن لم يجد الهدي ، ومنعه آخرون . قوله : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } قرأه الجمهور بخفض سبعة ، وقرأ زيد بن عليّ ، وابن أبي عبلة بالنصب على أنه مفعول بفعل مقدّر ، أي : وصوموا سبعة ، وقيل : على أنه معطوف على ثلاثة؛ لأنها ، وإن كانت مجرورة لفظاً ، فهي في محل نصب كأنه قيل : فصيام ثلاثة . والمراد بالرجوع هنا : الرجوع إلى الأوطان . قال أحمد وإسحاق : يجزيه الصوم في الطريق ، ولا يتضيق عليه الوجوب إلا إذا وصل وطنه ، وبه قال الشافعي وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وغيرهم . وقال مالك : إذا رجع من مِنىً ، فلا بأس أن يصوم . والأوّل أرجح ، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أنه قال صلى الله عليه وسلم : " فمن لم يجد ، فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله " فبيَّن صلى الله عليه وسلم أن الرجوع المذكور في الآية هو : الرجوع إلى الأهل ، وثبت أيضاً في الصحيح من حديث ابن عباس بلفظ : «وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم» ، وإنما قال سبحانه : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة ، والسبعة عشرة لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج ، والسبعة إذا رجع . قاله الزجاج . وقال المبرد : ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهّم أنه قد بقي منه شيء بعد ذكر السبعة . وقيل : هو : توكيد كما تقول : كتبت بيدي . وقد كانت العرب تأتي بمثل هذه الفذلكة فيما دون هذا العدد ، كقول الشاعر :

ثلاث واثنتان فهنَّ خمس ... وسادسة تميل إلى سهامي
وكذا قول الآخر :
ثلاث بالعداد وذاك حسبي ... وست حين يدركني العشاء
فذلك تسعة في اليوم ريّ ... وشرب المرء فوق الري داء
وقوله : { كَامِلَةٌ } توكيد آخر بعد الفذلكة لزيادة التوصية لصيامها ، وأن لا ينقص من عددها . وقوله : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام } الإشارة بقوله : ذلك قيل : هي راجعة إلى التمتع ، فتدل على أنه لا متعة لحاضري المسجد الحرام ، كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه . قالوا : ومن تمتع منهم كان عليه دم ، وهو دم جناية لا يأكل منه . وقيل : إنها راجعة إلى الحكم ، وهو وجوب الهدي ، والصيام ، فلا يجب ذلك على من كان من حاضري المسجد الحرام ، كما يقوله الشافعي ، ومن وافقه . والمراد بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام : من لم يكن ساكناً في الحرم ، أو من لم يكن ساكناً في المواقيت ، فما دونها على الخلاف في ذلك بين الأئمة . وقوله : { واتقوا الله } أي : فيما فرضه عليكم في هذه الأحكام ، وقيل هو أمر بالتقوى على العموم ، وتحذير من شدّة عقاب الله سبحانه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الدلائل ، وابن عبد البرّ في التمهيد ، عن يعلى بن أمية؛ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو بالجِعِرَّانة ، وعليه جبة ، وعليه أثر خَلُوق ، فقال : كيف تأمرني يا رسول الله أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أين السائل عن العمرة؟ » فقال : ها أنذا ، قال : « اخلع الجبة ، واغسل عنك أثر الخَلُوق ، ثم ما كنت صانعاً في حجك ، فاصنعه في عمرتك » وقد أخرجه البخاري ، ومسلم ، وغيرهما من حديثه ، ولكن فيهما أنه نزل عليه صلى الله عليه وسلم الوحي بعد السؤال ، ولم يذكر ما هو الذي أنزل عليه . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عليّ في قوله : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ } قال : أن تحرم من دُوُيْرة أهلك . وأخرج ابن عديّ ، والبيهقي مثله من حديث أبي هريرة مرفوعاً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر قال : من تمامهما أن يُفْرِد كل واحد منهما عن الآخر ، وأن يعتمر في غير أشهر الحجّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : تمام الحجّ يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة ، وزار البيت ، فقد حلّ ، وتمام العمرة إذا طاف بالبيت ، وبالصفا ، والمروة ، فقد حلّ . وقد ورد في فضل الحج ، والعمرة أحاديث كثيرة ، ليس هذا موطن ذكرها .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } يقول : من أحرم بحج ، أو عمرة ، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده ، أو عدوّ يحبسه ، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي شاة فما فوقها ، وإن كانت حجة الإسلام ، فعليه قضاؤها ، وإن كانت بعد حجة الفريضة ، فلا قضاء عليه ، وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود في قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } يقول : الرجل إذا أهلّ بالحج ، فأحصر بعث بما استيسر من الهدي فإن كان عجل قبل أن يبلغ الهدي محله ، فحلق رأسه ، أو مس طيباً ، أو تداوى بدواء ، كان عليه فدية من صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، فالصيام ثلاثة أيام ، والصدقة ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع ، والنسك شاة { فَإِذَا أَمِنتُمْ } يقول : فإذا بريء ، فمضى من وجهه ذلك إلى البيت أحلّ من حجته بعمرة ، وكان عليه الحجّ من قابل ، فإن هو رجع ، ولم يتمّ من وجهه ذلك إلى البيت كان عليه حجة ، وعمرة ، فإن هو رجع متمتعاً في أشهر الحج كان عليه ما استيسر من الهدى شاة ، فإن هو لم يجد ، فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع .

قال إبراهيم : فذكرت هذا الحديث لسعيد بن جبير فقال : هكذا قال ابن عباس في هذا الحديث كله . وأخرج مالك ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن عليّ في قوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } قال : شاة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس مثله . وأخرج الشافعي في الأم ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي [ عن ابن عمر ] : { فَمَا استيسر مِنَ الهدى } قال : بقرة ، أو جزور؛ قيل : أوما يكفيه شاة؟ قال : لا . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، عن ابن عباس قال في تفسير : { مَا * استيسر } ما يجد . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : إن كان موسراً ، فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق القاسم ، عن عائشة ، وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل ، والبقر . وكان ابن عباس يقول : ما استيسر من الهدي شاة .
وأخرج الشافعي في الأم ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس؛ قال : لا حصر إلا حصر العدوّ ، فأما من أصابه مرض ، أو وجع ، أو ضلال؛ فليس عليه شيء ، إنما قال الله : { فَإِذَا أَمِنتُمْ } فلا يكون الأمن إلا من الخوف ، وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن عمر قال : لا إحصار إلا من عدوّ .

وأخرج أيضاً ، عن الزهري نحوه . وأخرج أيضاً ، عن عطاء قال : لا إحصار إلا من مرض ، أو عدوّ ، أو أمر حادث . وأخرج أيضاً ، عن عروة قال : كل شيء حبس المحرم ، فهو إحصار .
وأخرج البخاري ، عن المُسور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق ، وأمر أصحابه بذلك . وأخرج أبو داود في ناسخه ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدى مَحِلَّهُ } ثم استثنى فقال : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } الآية . وأخرج الترمذي ، وابن جرير ، عن كعب بن عجرة قال : لفيّ نزلت ، وإياي عني بها { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذىً مّن رَّأْسِهِ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا } يعني من اشتدّ مرضه . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر عنه . قال : يعني بالمرض أن يكون برأسه أذى ، أو قروح ، أو به أذى من رأسه ، قال : الأذى : هو القمل . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : النسك المذكور في الآية شاة . وروى أيضاً ، عن علي مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } يقول : من أحرم بالعمرة في أشهر الحج . وأخرج عبد بن حميد ، عن الضحاك نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم أن ابن الزبير كان يقول : إنما المتعة لمن أحصر ، وليست لمن خُلِّي سبيله . وقال ابن عباس : هي لمن أحصر ، ومن خُلِّي سبيله . وأخرج ابن جرير ، عن عليّ في قوله : { فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج } قال فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحجّ ، فعليه الهدي .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ } قال : قبل التروية يوم ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، فإن فاتته صامهنّ أيام التشريق . وأخرج هؤلاء إلا ابن أبي حاتم ، والبيهقي ، عن ابن عمر مثله إلا أنه قال : وإذا فاته صام أيام منى ، فإنهنّ من الحج . وأخرج ابن جرير ، والدارقطني ، والبيهقي ، عن ابن عمر نحوه مرفوعاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن علقمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير مثله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في الآية قال : إذا لم يجد المتمتع بالعمرة هدياً ، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، وإن كان يوم عرفة الثالث ، فقد تمّ صومه ، وسبعة إذا رجع إلى أهله .
وأخرج الدارقطني عن عائشة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

" من لم يكن معه هدى ، فليصم ثلاثة أيام قبل يوم النحر ، ومن لم يكن صام تلك الثلاثة الأيام ، فليصم أيام التشريق " وأخرج أيضاً عن عبد الله بن حُذَافة : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره في رهط أن يطوفوا في منى في حجة الوداع ، فينادوا : إن هذه أيام أكل ، وشرب ، وذكر الله ، فلا نصوم فيهنّ إلا صوماً في هدي» . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن عطاء في قوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام } قال : ست قريات : عرفة ، وعرنة ، والرجيع والنخلتان ، ومرّ الظهران ، وضجنان ، وقال مجاهد : هم أهل الحرم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس . قال : هم أهل الحرم . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عمر مثله .

الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)

قوله : { الحج أَشْهُرٌ } فيه حذف ، والتقدير : وقت الحج أشهر ، أي : وقت عمل الحج . وقيل التقدير : الحج في أشهر ، وفيه أنه يلزم النصب مع حذف حرف الجر لا الرفع . قال الفراء : الأشهر رفع؛ لأن معناه وقت الحج أشهر معلومات ، وقيل التقدير : الحج حج أشهر معلومات . وقد اختلف في الأشهر المعلومات ، فقال ابن مسعود ، وابن عمر ، وعطاء ، والربيع ، ومجاهد ، والزهري : هي شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة كله ، وبه قال مالك . وقال ابن عباس ، والسدي ، والشعبي ، والنخعي : هي شوّال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم . وقد روي أيضاً عن مالك . ويظهر فائدة الخلاف فيما وقع من أعمال الحج بعد يوم النحر ، فمن قال إن ذا الحجة كله من الوقت لم يلزمه دم التأخير ، ومن قال : ليس إلا العشر منه ، قال يلزم دم التأخير .
وقد استدل بهذه الآية من قال : إنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ، وهو عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور قالوا : فمن أحرم بالحج قبلها أحلّ بعمرة ، ولا يجزيه عن إحرام الحج ، كمن دخل في صلاة قبل وقتها ، فإنها لا تجزيه . وقال أحمد ، وأبو حنيفة : إنه مكروه فقط . وروي نحوه عن مالك ، والمشهور عنه جواز الإحرام بالحج في جميع السنة من غير كراهة . وروي مثله عن أبي حنيفة . وعلى هذا القول ينبغي أن ينظر في فائدة توقيت الحج بالأشهر المذكورة في الآية . وقد قيل : إن النص عليها لزيادة فضلها . وقد روي القول بجواز الإحرام في جميع السنة عن إسحاق بن راهويه ، وإبراهيم النخعي ، والثوري ، والليث بن سعد ، واحتج لهم بقوله تعالى : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج ، ولم يخص الثلاثة الأشهر ، ويجاب بأن هذه الآية عامة ، وتلك خاصة ، والخاص مقدّم على العام .
ومن جملة ما احتجوا به القياس للحج على العمرة ، فكما يجوز الإحرام للعمرة في جميع السنة ، كذلك يجوز للحج ، ولا يخفى أن هذا القياس مصادم للنصّ القرآني ، فهو باطل ، فالحق ما ذهب إليه الأوّلون ، إن كانت الأشهر المذكورة في قوله : { الحج أَشْهُرٌ } مختصة بالثلاثة المذكورة بنص ، أو إجماع ، فإن لم يكن كذلك ، فالأشهر جمع شهر ، وهو من جموع القلة يتردد ما بين الثلاثة إلى العشرة ، والثلاثة هي المتيقنة ، فيجب الوقوف عندها . ومعنى قوله : { معلومات } أن الحج في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ، ليس كالعمرة ، أو المراد معلومات ببيان النبي صلى الله عليه وسلم ، أو معلومات عند المخاطبين لا يجوز التقدّم عليها ، ولا التأخير عنها ،
قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } أصل الفرض في اللغة : الحزّ والقطع ، ومنه فرضة القوس ، والنهر ، والجبل ، ففرضية الحج لازمة للعبد الحر ، كلزوم الحزّ للقوس .

وقيل : معنى فرض : أبان ، وهو أيضاً يرجع إلى القطع؛ لأن من قطع شيئاً فقد أبانه عن غيره . والمعنى في الآية : فمن ألزم نفسه فيهنّ الحج بالشروع فيه بالنية قصداً باطناً ، وبالإحرام فعلاً ظاهراً ، وبالتلبية نطقاً مسموعاً . وقال أبو حنيفة : إن إلزامه نفسه يكون بالتلبية ، أو بتقليد الهدي ، وسوقه ، وقال الشافعي : تكفي النية في الإحرام بالحج .
والرفث : قال : ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة ، والزهري ، ومجاهد ، ومالك : هو الجماع . وقال ابن عمر ، وطاوس ، وعطاء ، وغيرهم : الرفث : الإفحاش بالكلام . قال أبو عبيدة : الرفث : اللغاء من الكلام ، وأنشد :
وربّ أسراب حَجِيج كُظَّم ... عن اللغا وَرَفَث التَّكَلُّم
يقال : رفث يرفث بكسر الفاء ، وضمها .
والفسوق : الخروج عن حدود الشرع . وقيل : هو الذبح للأصنام . وقيل : التنابز بالألقاب . وقيل : السباب . والظاهر أنه لا يختص بمعصية معينة ، وإنما خصصه من خصصه بما ذكر باعتبار أنه قد أطلق ، على ذلك الفرد اسم الفسوق ، كما قال سبحانه في الذبح للأصنام : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] . قال في التنابز : { بِئْسَ الاسم الفسوق } [ الحجرات : 11 ] . وقال صلى الله عليه وسلم في السباب : « سباب المسلم فسوق » ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به .
والجدال مشتق من الجدل ، وهو القتل ، والمراد به هنا : المماراة ، وقيل : السباب ، وقيل : الفخر بالآباء ، والظاهر الأوّل . وقد قرىء بنصب الثلاثة ورفعها ، ورفع الأوّلين ، ونصب الثالث ، وعكس ذلك ، ومعنى النفي لهذه الأمور : النهي عنها .
وقوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } حثّ على الخير بعد ذكر الشرّ ، وعلى الطاعة بعد ذكر المعصية ، وفيه أن كل ما يفعلونه من ذلك ، فهو معلوم عند الله لا يفوت منه شيء . وقوله : { وَتَزَوَّدُواْ } فيه الأمر باتخاذ الزاد؛ لأن بعض العرب كانوا يقولون كيف نحجّ بيت ربنا ، ولا يطعمنا؟ فكانوا يحجون بلا زاد ، ويقولون : نحن متوكلون على الله سبحانه ، وقيل : المعنى تزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } والأوّل أرجح كما يدل على ذلك سبب نزول الآية ، وسيأتي وقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } إخبار بأن خير الزاد اتقاء المنهيات ، فكأنه قال : اتقوا الله في إتيان ما أمركم به من الخروج بالزاد ، فإن خير الزاد التقوى ، وقيل : المعنى فإن خير الزاد ما اتقى به المسافر من الهلكة ، والحاجة إلى السؤال ، والتكفف ، وقوله : { واتقون يأُوْلِي الألباب } فيه التخصيص لأولي الألباب بالخطاب بعد حثّ جميع العباد على التقوى؛ لأن أرباب الألباب هم القابلون لأوامر الله الناهضون بها ، ولبّ كل شيء خالصه .
قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } فيه الترخيص لمن حجّ في التجارة ، ونحوها من الأعمال التي يحصل بها شيء من الرزق ، وهو المراد بالفضل هنا ، ومنه قوله تعالى :

{ فانتشروا فِى الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } [ الجمعة : 10 ] أي : لا إثم عليكم في أن تبتغوا فضلاً من ربكم مع سفركم لتأدية ما افترضه عليكم من الحج . قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُم } أي : دفعتم ، يقال فاض الإناء : إذا امتلأ ماء حتى ينصبّ من نواحيه ، ورجل فياض ، أي : متدفقة يداه بالعطاء ، ومعناه : أفضتم أنفسكم ، فترك ذكر المفعول ، كما ترك في قولهم : دفعوا من موضع كذا .
و { عرفات } : اسم لتلك البقعة ، أي : موضع الوقوف . وقرأه الجماعة بالتنوين ، وليس التنوين هنا للفرق بين ما ينصرف ، وما لا ينصرف ، وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين . قال النحاس : هذا الجيد ، وحكى سيبويه عن العرب حذف التنوين من عرفات قال : لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين . وحكى الأخفش ، والكوفيون فتح التاء تشبيهاً بتاء فاطمة ، وأنشدوا :
تنوّرتها من أذرعات وأهلُها ... بِيَثْربَ أدْنَى دارِها نَظَر عالي
وقال في الكشاف : فإن قلت : هلا منعت الصرف ، وفيها السببان : التعريف ، والتأنيث ، قلت : لا يخلو التأنيث ، إما أن يكون بالتاء التي في لفظها ، وإما بتاء مقدّرة كما في سعاد ، فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث . ولا يصح تقدير التاء فيها؛ لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها ، كما لا تقدّر تاء التأنيث في بنت؛ لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث ، فأبت تقديرها . انتهى . وسميت عرفات؛ لأن الناس يتعارفون فيه . وقيل : إن آدم التقى هو وحواء فيها ، فتعارف . وقيل : غير ذلك ، قال ابن عطية : والظاهر : أنه اسم مرتجل كسائر أسماء البقاع ، واستدل بالآية على وجوب الوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده ،
والمراد بذكر الله عند المشعر الحرام : دعاؤه ، ومنه التلبية والتكبير ، وسمي المشعر مشعراً من الشعار ، وهو : العلامة ، والدعاء عنده من شعائر الحج ، ووصف بالحرام لحرمته ، وقيل : المراد بالذكر : صلاة المغرب ، والعشاء بالمزدلفة جمعاً . وقد أجمع أهل العلم على أن السنة أن يجمع الحاجّ بينهما فيها . والمشعر : هو جبل قزح الذي يقف عليه الإمام . وقيل : هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى وادي محسر .
قوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } الكاف نعت مصدر محذوف ، وما مصدرية ، أو كافة أي : اذكروه ذكراً حسناً ، كما هداكم هداية حسنة ، وكرّر الأمر بالذكر تأكيداً ، وقيل : الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص ، وقيل : المراد بالثاني تعديد النعمة عليهم ، و «إن» في قوله : { وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ } مخففة كما يفيده دخول اللام في الخبر . وقيل : هي بمعنى قد ، أي : قد كنتم ، والضمير في قوله : { مِن قَبْلِهِ } عائد إلى الهدي ، وقيل : إلى القرآن .

وقد أخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ معلومات } « شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة » وأخرج الطبراني في الأوسط أيضاً ، عن ابن عمر مرفوعاً مثله . وأخرج الخطيب ، عن ابن عباس مرفوعاً مثله أيضاً . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن عمر بن الخطاب موقوفاً مثله . وأخرج الشافعي في الأم ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر موقوفاً مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن عباس ، وعطاء ، والضحاك مثله .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه من طرق ، عن ابن عمر في قوله : { الحج أَشْهُرٌ معلومات } قال شوّال ، وذو القعدة ، وعشر ليال من ذي الحجة . وأخرجوا إلا الحاكم ، عن ابن مسعود مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي ، عن ابن عباس من طرق مثله . وأخرج ابن المنذر ، والدارقطني ، والطبراني ، والبيهقي عن عبد الله بن الزبير مثله أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن الحسن ، ومحمد ، وإبراهيم مثله .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن حرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عمر في قوله : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } قال : من أهل فيهن بحج ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن مسعود قال الفرض : الإحرام . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن الزبير قال : الإهلال . وأخرج عنه ابن المنذر ، والدارقطني ، والبيهقي قال : فرض الحج الإحرام . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : الفرض الإهلال . وروى نحو ذلك عن جماعة من التابعين . وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس؛ قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج من أجل قول الله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ معلومات } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن خزيمة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عنه نحوه . وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي شيبة ، وابن مردويه ، والبيهقي عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : « لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج » وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : « { فلا رفث ، ولا فسوق ، ولا جدال في الحج } قال : الرفث : التعريض للنساء بالجماع ، والفسوق : المعاصي كلها ، والجدال : جدال الرجل صاحبه » وأخرج ابن مردويه ، والأصبهاني في الترغيب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فلا رفث : لا جماع ، ولا فسوق : المعاصي والكذب »

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس في الآية قال : الرفث الجماع ، والفسوق : المعاصي ، والجدال : المِرَاء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال : الرفث : غشيان النساء ، والفسوق : السباب ، والجدال : المراء . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عنه نحوه . وروى نحو ما تقدّم عن جماعة من التابعين بعبارات مختلفة ،
وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وغيرهم عن ابن عباس؛ قال : كان أهل اليمن يحجون ، ولا يتزوّدون ، ويقولون نحن متوكلون ، ثم يقدمون ، فيسألون الناس ، فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودَةٌ يقولون نحجّ بيت الله ، ولا يطعمنا؟ فنزلت الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا بها ، واستأنفوا زاداً آخر ، فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } فنُهُوا عن ذلك ، وأمروا أن يتزوّدوا الكعك ، والدقيق ، والسويق . وأخرج الطبراني عن ابن الزبير قال : كان الناس يتوكل بعضهم على بعض في الزاد ، فأمرهم الله ، أن يتزوّدوا . وقد روي عن جماعة من التابعين مثل ما تقدّم عن الصحابة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن جرير عن ابن عباس؛ قال : كانوا يتقون البيوع ، والتجارة في الموسم ، والحج ، ويقولون أيام ذكر الله ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } الآية . وقد أخرج نحوه عنه البخاري ، وغيره . وأخرج عبد بن حميد ، وعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، عن أبي أمامة التميمي؛ قال : قلت لابن عمر : إنا أناس نُكْرَي ، فهل لنا من حجّ؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وتأتون المعرَّف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم؟ قلت بلى ، فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه الآية ، وقال : « أنتم حجاج » . وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس أنه كان يقرأ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } في مواسم الحج . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن الزبير أنه قرأها كما قرأها ابن عباس .

وأخرج ابن أبي داود في المصاحف : أن ابن مسعود قرأها كذلك .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : إنما سمي عرفات؛ لأن جبريل كان يقول لإبراهيم عليه السلام حين رأى المناسك عرفت . وأخرج مثله ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر . وأخرج مثله عبد الرزاق ، وابن جرير ، عن عليّ . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر؛ أنه سئل ، عن المشعر الحرام ، فسكت ، حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال : هذا المشعر الحرام . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه؛ أنه قال : المشعر الحرام المزدلفة كلها . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عنه؛ قال : هو : الجبل ، وما حوله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : ما بين الجبلين الذي بجمع مشعر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، عن ابن الزبير في قوله : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } قال : ليس هذا بعامّ ، هذا لأهل البلد كانوا يفيضون من جمع ، ويفيض سائر الناس من عرفات ، فأبى الله لهم ذلك ، فأنزل : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } وأخرج عبد بن حميد ، عن سفيان في قوله : { وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ } قال : من قبل القرآن . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضالين } قال لمن الجاهلين .

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

قيل : الخطاب في قوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ } للحمس من قريش ، لأنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات . بل كانوا يقفون بالمزدلفة ، وهي من الحرم ، فأمروا بذلك ، وعلى هذا تكون ، ثم لعطف جملة على جملة لا للترتيب ، وقيل : الخطاب لجميع الأمة ، والمراد بالناس إبراهيم ، أي : ثم أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم ، فيحتمل أن يكون أمراً لهم بالإفاضة من عرفة . ويحتمل أن يكون إفاضة أخرى ، وهي التي من المزدلفة ، وعلى هذا تكون ، « ثم » على بابها أي : للترتيب ، وقد رجح هذا الاحتمال الأخير ابن جرير الطبري ، وإنما أمروا بالاستغفار؛ لأنهم في مساقط الرحمة ، ومواطن القبول ، ومظنات الإجابة . وقيل : إن المعنى استغفروا للذي كان مخالفاً لسنة إبراهيم ، وهو : وقوفكم بالمزدلفة دون عرفة .
والمراد بالمناسك : أعمال الحج ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني مناسككم » أي : فإذا فرغتم من أعمال الحجّ ، فاذكروا الله . وقيل : المراد : بالمناسك : الذبائح ، وإنما قال سبحانه : { كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة ، فيذكرون مفاخر آبائهم ، ومناقب أسلافهم ، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر ، ويجعلونه ذكراً مثل ذكرهم لآبائهم ، أو أشدّ من ذكرهم لآبائهم . قال الزجاج : إن قوله : { أَوْ أَشَدَّ } في موضع خفض عطفاً على ذكركم ، والمعنى ، أو كأشدّ ذكراً ، ويجوز أن يكون في موضع نصب : أي اذكروه أشدّ ذكراً . وقال في الكشاف : إنه عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله : { كَذِكْرِكُمْ } كما تقول كذكر قريش آباءهم ، أو قوم أشدّ منهم ذكراً .
قوله : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } الآية ، لما أرشد سبحانه عباده إلى ذكره ، وكان الدعاء نوعاً من أنواع الذكر جعل من يدعوه منقسماً إلى قسمين : أحدهما : يطلب حظ الدنيا ، ولا يلتفت إلى حظ الآخرة ، والقسم الآخر : يطلب الأمرين جميعاً ، ومفعول الفعل ، أعني قوله : { أتانا } محذوف ، أي : ما نريد ، أو ما نطلب ، والواو في قوله : { وما له } واو الحال ، والجملة بعدها حالية . والخَلاق : النصيب ، أي : وما لهذا الداعي في الآخرة من نصيب؛ لأن همه مقصور على الدنيا لا يريد غيرها ، ولا يطلب سواها . وفي هذا الخبر معنى النهي عن الاقتصار على طلب الدنيا ، والذمّ لمن جعلها غاية رغبته ، ومعظم مقصوده .
وقد اختلف في تفسير الحسنتين المذكورتين في الآية ، فقيل : هما ما يطلبه الصالحون في الدنيا من العافية ، وما لا بدّ منه من الرزق ، وما يطلبونه في الآخرة من نعيم الجنة والرضا؛ وقيل : المراد بحسنة الدنيا : الزوجة الحسناء ، وحسنة الآخرة : الحور العين ، وقيل : حسنة الدنيا : العلم والعبادة ، وقيل غير ذلك . قال القرطبي : والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسنتين : نعيم الدنيا ، والآخرة ، قال : وهذا هو الصحيح ، فإن اللفظ يقتضي هذا كله ، فإن حسنة نكرة في سياق الدعاء ، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل ، وحسنة الآخرة : الجنة بإجماع .

انتهى .
قوله : { حَسَنَةً وَقِنَا } أصله أوقنا حذفت الواو ، كما حذفت في يقي؛ لأنها بين ياء ، وكسرة ، مثل : يعد ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : حذفت فرقاً بين اللازم ، والمتعدّي . وقوله : { أولئك } إشارة إلى الفريق الثاني { لَهُمْ نَصِيبٌ مّنَ } جنس { مَّا كَسَبُواْ } من الأعمال أي : من ثوابها ، ومن جملة أعمالهم الدعاء ، فما أعطاهم الله بسببه من الخير ، فهو مما كسبوا ، وقيل : إن معنى قوله : { مِمَّا كَسَبُواْ } التعليل ، أي : نصيب من الدنيا ، ولا نصيب لهم في الآخرة ، وللآخرين نصيب من أجل ما كسبوا ، وهو بعيد . قيل : إن قوله : { أولئك } إشارة إلى الفريقين جميعاً : أي : للأوّلين نصيب مما كسبوا من الدنيا ، ولا نصيب لهم في الآخرة ، وللآخرين نصيب مما كسبوا في الدنيا ، وفي الآخرة . وسريع من سَرُع يَسْرُع كعظُم يعظُم سرعاً ، وسرعة ، والحساب مصدر كالمحاسبة ، وأصله العدد ، يقال : حسب يحسب حساباً ، وحسابة ، وحسباناً ، وحسباً . والمراد هنا المحسوب ، سمي حساباً تسمية للمفعول بالمصدر ، والمعنى : أن حسابه لعباده في يوم القيامة سريع مجيئه ، فبادروا ذلك بأعمال الخير ، أو أنه وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم ، وأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فيحاسبهم في حالة واحدة ، كما قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } [ لقمان : 28 ] ،
قوله : { فِى أَيَّامٍ معدودات } قال القرطبي : لا خلاف بين العلماء أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي : أيام منى ، وهي أيام التشريق ، وهي أيام رمي الجمار . وقال الثعلبي : قال إبراهيم : الأيام المعدودات أيام العشر ، والأيام المعلومات : أيام النحر . وكذا روي عن مكي ، والمهدوي . قال القرطبي : ولا يصح لما ذكرناه من الإجماع على ما نقله أبو عمر بن عبد البرّ ، وغيره . وروى الطحاوي عن أبي يوسف أن الأيام المعلومات : أيام النحر ، قال : لقوله تعالى : { وَيَذْكُرُواْ الله فِى أَيَّامٍ معلومات على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الانعام } [ الحج : 28 ] وحكى الكرخي عن محمد بن الحسن أن الأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة : يوم الأضحى ، ويومان بعده . قال الكيا الطبري : فعلى قول أبي يوسف ، ومحمد لا فرق بين المعلومات ، والمعدودات ، لأن المعدودات المذكورة في القرآن أيام التشريق بلا خلاف . وروي عن مالك أن الأيام المعدودات ، والأيام المعلومات يجمعها أربعة أيام ، يوم النحر ، وثلاثة أيام بعده ، فيوم النحر معلوم غير معدود ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرابع معدود لا معلوم ، وهو مرويّ عن ابن عمر . وقال ابن زيد : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة ، وأيام التشريق . والمخاطب بهذا الخطاب المذكور في الآية ، أعني قوله تعالى : { واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } هو الحاجّ ، وغيره كما ذهب إليه الجمهور؛ وقيل : هو خاص بالحاج .

وقد اختلف أهل العلم في وقته ، فقيل من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق؛ وقيل : من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر النحر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقيل : من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وبه قال مالك ، والشافعي ، قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ } الآية ، اليومان هما : يوم ثاني النحر ، ويوم ثالثه . وقال ابن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والنخعي : من رمى في اليوم الثاني من الأيام المعدودات ، فلا حرج ، ومن تأخر إلى الثالث ، فلا حرج ، فمعنى الآية : كل ذلك مباح ، وعبر عنه بهذا التقسيم اهتماماً ، وتأكيداً؛ لأن من العرب من كان يذمّ التعجل ، ومنهم من كان يذمّ التأخر ، فنزلت الآية رافعة للجناح في كل ذلك . وقال عليّ ، وابن مسعود : معنى الآية : من تعجل ، فقد غفر له ، ومن تأخر ، فقد غفر له . والآية قد دلّت على أن التعجل ، والتأخر مباحان . وقوله : { لِمَنِ اتقى } معناه : أن التخيير ، ورفع الإثم ثابت لمن اتقى؛ لأن صاحب التقوى يتحرّز ، عن كل ما يريبه ، فكان أحق بتخصيصه بهذا الحكم . قال الأخفش : التقدير ذلك لمن اتقى . وقيل : لمن اتقى بعد انصرافه من الحج عن جميع المعاصي . وقيل : لمن اتقى قتل الصيد . وقيل معناه : السلامة لمن اتقى . وقيل : هو متعلق بالذكر ، أي : الذكر لمن اتقى .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن عائشة قالت : «كانت قريش ، ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكانت سائر العرب يقفون بعرفات ، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ، ثم يقف بها ثم يفيض منها ، فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } . وأخرجا أيضاً ، عنها موقوفاً ، نحوه . وقد ورد في هذا المعنى روايات ، عن الصحابة ، والتابعين . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى سماء الدنيا في الملائكة ، فيقول لهم : عبادي آمنوا بوعدي ، وصدّقوا برسلي ما جزاؤهم؟ فيقال أن تغفر لهم ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وقد وردت أحاديث كثيرة في المغفرة لأهل عرفة ، ونزول الرحمة عليهم ، وإجابة دعائهم .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء في قوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } قال : حجكم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : { فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم } قال : إهراق الدماء { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } قال : تفاخر العرب بينها بفعال آبائها يوم النحر حين يفرغون ، فأمروا بذكر الله مكان ذلك . وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : كان المشركون يجلسون في الحج ، فيذكرون أيام آبائهم ، وما يعدّون من أنسابهم يومهم أجمع ، فأنزل الله على رسوله : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا } .

وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن عبد الله بن الزبير نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } يقول : كما يذكر الأبناء الآباء . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أيضاً أنه قيل له في قوله : { كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ } إن الرجل ليأتي عليه اليوم ، وما يذكر أباه . فقال : إنه ليس بذاك ، ولكن يقول : تغضب لله إذا عُصِىَ أشدّ من غضبك إذا ذُكر والدك بسوء .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف ، فيقولون : اللهم اجعله عام غيث ، وعام خصب ، وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً ، فأنزل الله فيهم : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا وَمَا لَهُ فِى الاخرة مِنْ خلاق } ويجىء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون { رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } فأنزل الله فيهم : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب } . وأخرج الطبراني ، عن عبد الله بن الزبير قال : كان الناس في الجاهلية إذا وقفوا عند المشعر الحرام دعوا ، فقال أحدهم : اللهم ارزقني إبلاً ، وقال الآخر : اللهمّ ارزقني غنماً ، فأنزل الله الآية . وأخرج ابن جرير ، عن أنس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فيدعون : اللهم اسقنا المطر ، وأعطنا على عدوّنا الظفر ، وردّنا صالحين إلى صالحين ، فنزلت الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء في قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ } قال : مما عملوا من الخير . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله : { سَرِيعُ الحساب } قال : سريع الإحصاء .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن أبي حاتم ، عن عليّ قال : الأيام المعدودات ثلاثة أيام : يوم الأضحى ، ويومان بعده ، اذبح في أيها شئت ، وأفضلها ، أوّلها . وأخرج الفريابي ، وابن أبي الدنيا ، وابن المنذر ، عن ابن عمر؛ أنها أيام التشريق الثلاثة ، وفي لفظ : هذه الأيام الثلاثة بعد يوم النحر . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، والضياء في المختارة ، عن ابن عباس؛ قال : الأيام المعلومات : أيام العشر ، والأيام المعدودات : أيام التشريق . وأخرج الطبراني ، عن ابن الزبير قال في قوله : { واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } قال : هنّ أيام التشريق ، يذكر فيهنّ بتسبيح ، وتهليل ، وتكبير ، وتحميد . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : الأيام المعدودات أربعة أيام : يوم النحر ، والثلاثة أيام بعده . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر؛ أنه كان يكبر تلك الأيام بمنى ، ويقول التكبير واجب ، ويتأوّل هذه الآية : { واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس أنه كان يكبر يوم النحر ، ويتلو هذه الآية .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : { واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات } قال : التكبير أيام التشريق : يقول في دبر كل صلاة : الله أكبر الله أكبر الله أكبر . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثاً ثلاثاً وراء الصلوات ، ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير . وأخرج المروزي عن الزهري قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر أيام التشريق كلها . وأخرج مالك ، عن يحيى بن سعيد أنه بلغه أن عمر بن الخطاب خرج الغد من يوم النحر بمنى حين ارتفع النهار شيئاً ، فكبرَّ ، وكبرَّ الناس بتكبيره ، ثم خرج الثانية في يومه ذلك بعد ارتفاع النهار ، فكبرَّ ، وكبرَّ الناس بتكبيره حتى بلغ تكبيرهم البيت ، ثم خرج الثالثة من يومه ذلك حين زاغت الشمس ، فكبرَّ ، وكبرَّ الناس بتكبيره . وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي الجمار ، ويكبر مع كل حصاة . وقد روى نحو ذلك من حديث عائشة عند الحاكم وصححه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } قال : في تعجيله : { وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } قال : في تأخيره . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عمر قال : النَّفْر في يومين لمن اتقى . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه قال : من غابت له الشمس في اليوم الذي قال الله فيه : { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ } وهو بمنى ، فلا ينفرنّ حتى يرمى الجمار من الغد ، وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { لِمَنِ اتقى } قال : لمن اتقى الصيد ، وهو محرم .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأهل السنن ، والحاكم وصححه ، عن عبد الرحمن بن يَعْمُر الديلي : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، وهو واقف بعرفة ، وأتاه الناس من أهل مكة ، فقالوا : يا رسول الله كيف الحج؟ قال : « الحج عرفات ، فمن أدرك ليلة جَمْع قبل أن يطلع الفجر ، فقد أدرك أيام منى ثلاثة أيام : { فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } قال : مغفوراً له : { وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } قال مغفوراً له » وأخرج ابن جرير ، عن قتادة في قوله : { لِمَنِ اتقى } قال : لمن اتقى في حجه . قال قتادة ، وذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول : من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن أبي العالية في قوله : { فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى } قال : ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي من عمره .

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)

لما ذكر سبحانه طائفتي المسلمين بقوله : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ } عقب ذلك بذكر طائفة المنافقين ، وهم الذين يظهرون الإيمان ، ويبطنون الكفر . وسبب النزول الأخنس بن شريق كما يأتي بيانه . قال ابن عطية : ما ثبت قط أن الأخنس أسلم ، وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين ، وقيل : إنها نزلت في كل من أضمر كفرّاً ، أو نفاقاً ، أو كذباً ، وأظهر بلسانه خلافه . ومعنى قوله : { يُعْجِبُكَ } واضح . ومعنى قوله : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } أنه يحلف على ذلك فيقول : يشهد الله على ما في قلبي من محبتك ، أو من الإسلام ، أو يقول : الله يعلم أني أقول حقاً ، وأني صادق في قولي لك . وقرأ ابن محيصن : " وَيُشْهِدُ الله " بفتح حرف المضارعة ، ورفع الإسم الشريف على أنه فاعل ، والمعنى : ويعلم الله منه خلاف ما قال ، ومثله قوله تعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] وقراءة الجماعة أبلغ في الذمّ . وقرأ ابن عباس : { والله يشهد على ما في قلبه } وقرأ أبيّ ، وابن مسعود : «ويستشهد الله على ما في قلبه» . وقوله : { في الحياة الدنيا } متعلق بالقول ، أو ب { يعجبك } ، فعلى الأوّل القول صادر في الحياة ، وعلى الثاني الإعجاب صادر فيها . والألدّ : الشديد الخصومة . يقال رجل ألدّ ، وامرأة لداء ، ولددته ألدّه : إذا جادلته ، فغلبته ، ومنه قول الشاعر :
وألدّ ذي جَنَفٍ عليَّ كَأنَّما ... نَغْلِى عَداوةٌ صدره في مْرجَل
والخصام مصدر خاصم . قاله الخليل ، وقيل : جمع خصم ، قاله الزجاج ككلب ، وكلاب ، وصعب ، وصعاب ، وضخم ، وضخام ، والمعنى : أنه أشدّ المخاصمين خصومة ، لكثرة جداله ، وقوّة مراجعته ، وإضافة الألدّ إلى الخصام بمعنى : في ، أي : ألدّ في الخصام ، أو جعل الخصام ألدّ على المبالغة .
وقوله : { وَإِذَا تولى } أي : أدبر ، وذهب عنك يا محمد . وقيل : إنه بمعنى ضلّ ، وغضب ، وقيل : إنه بمعنى الولاية : أي : إذا كان والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض . والسعي المذكور يحتمل أن يكون المراد به : السعي بالقدمين إلى ما هو فساد في الأرض ، كقطع الطريق ، وحرب المسلمين ، ويحتمل أن يكون المراد به العمل في الفساد ، وإن لم يكن فيه سعي بالقدمين ، كالتدبير على المسلمين بما يضرّهم ، وأعمال الحيل عليهم ، وكل عمل يعمله الإنسان بجوارحه ، أو حواسه يقال له سعي ، وهذا هو الظاهر من هذه الآية .
وقوله : { وَيُهْلِكَ } عطف على قوله : { لِيُفْسِدَ } وفي قراءة أبيّ : «وليهلك» . وقرأه قتادة بالرفع . وروى عن ابن كثير : " وَيُهْلِكَ " بفتح الياء وضم الكاف ، ورفع الحرث ، والنسل ، وهي قراءة الحسن ، وابن محيصن . والمراد بالحرث : الزرع والنسل : الأولاد ، وقيل الحرث : النساء . قال الزجاج : وذلك ، لأن النفاق يؤدي إلى تفريق الكلمة ، ووقوع القتال ، وفيه هلاك الخلق ، وقيل معناه : أن الظالم يفسد في الأرض ، فيمسك الله المطر ، فيهلك الحرث ، والنسل .

وأصل الحرث في اللغة : الشق ، ومنه المحراث لما يشق به الأرض ، والحرث : كسب المال ، وجمعه . وأصل النسل في اللغة : الخروج ، والسقوط ، ومنه نسل الشعر ، ومنه أيضاً : { إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ } [ يس : 51 ] { وهم من كل حدب ينسلون } [ الأنبياء : 96 ] ، ويقال لما خرج من كل أنثى نسل ، لخروجه منها . وقوله : { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } يشمل كل نوع من أنواعه من غير فرق بين ما فيه فساد الدين ، وما فيه فساد الدنيا . والعزة : القوّة والغلبة ، من عَزَّه يعزّه : إذا غلبه ، ومنه : { وَعَزَّنِى فِى الخطاب } [ ص : 23 ] وقيل : العزة هنا : الحمية ، ومنه قول الشاعر :
أخذَته عزّة من جهْله ... فَتولىَّ مُغْضَباً فعل الضَّجِر
وقيل : العزة هنا : المنعة وشدّة النفس . ومعنى : { أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } حملته العزة على الإثم ، من قولك أخذته بكذا : إذا حملته عليه ، وألزمته إياه . وقيل : أخذته العزة بما يؤثمه ، أي : ارتكب الكفر للعزة ، ومنه : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 2 ] وقيل : الباء في قوله : { بالإثم } بمعنى اللام ، أي : أخذته العزّة ، والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه ، وهو : النفاق ، وقيل : الباء بمعنى : مع ، أي : أخذته العزّة مع الإثم .
وقوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي : كافية معاقبة ، وجزاءً ، كما تقول للرجل : كفاك ما حلّ بك ، وأنت تستعظم عليه ما حلّ به . والمهاد جمع المهد ، وهو الموضع المهيأ للنوم ، ومنه مهد الصبي ، وسميت جهنم مهاداً؛ لأنها مستقرّ الكفار . وقيل المعنى : أنها بدل لهم من المهاد كقوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] وقول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع ... ويشرى بمعنى يبيع ، أي : يبيع نفسه في مرضاة الله كالجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ومثله قوله تعالى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } [ يوسف : 20 ] وأصله الاستبدال ومنه قوله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } [ التوبة : 111 ] ، ومنه قول الشاعر :
وَشَرْيتُ برداً لَيْتَنِي ... مِنْ بعد بُرْدٍ كُنْتُ هَامَه
ومنه قول الآخر :
يُعْطي بها ثمناً فَيمنعُها ... وَيَقُولُ صاحبه ألا تَشْرِي
والمرضاة : الرضا ، تقول : رضي يرضى ، رضا ومرضاة . ووجه ذكر الرأفة هنا أنه أوجب عليهم ما أوجبه ليجازيهم ، ويثيبهم عليه ، فكان ذلك رأفة بهم ، ولطفاً لهم .
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : لما أصيبت السرية التي فيها عاصم ، ومرثد ، قال رجال من المنافقين : يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا ، لا هم قعدوا في أهلهم ، ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم؟ فأنزل الله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا } أي : ما يظهر من الإسلام بلسانه : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } أنه مخالف لما يقوله بلسانه : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } أي : ذو جدال إذا كلمك وراجعك : { وَإِذَا تولى } خرج من عندك : { سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد } أي : لا يحبّ عمله ، ولا يرضى به : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } الذين يشرون أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله ، والقيام بحقه ، حتى هلكوا على ذلك .

يعني : هذه السرية .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قوله } الآية ، قال : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقال جئت أريد الإسلام ، ويعلم الله أني لصادق ، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه ، فذلك قوله : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ } . ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فمرّ بزرع لقوم من المسلمين ، وحمر ، فأحرق الزرع ، وعقر الحمر ، فأنزل الله : { وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } قال هو : شديد الخصومة . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد في قوله : { وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض } قال عمل في الأرض : { وَيُهْلِكَ الحرث } قال : نبات الأرض : { والنسل } نسل كل شيء من الحيوان الناس ، والدواب .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد أيضاً أنه سئل ، عن قوله : { وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض } قال : يلي في الأرض ، فيعمل فيها بالعدوان ، والظلم ، فيحبس الله بذلك القطر من السماء ، فتهلك بحبس القطر الحرث ، والنسل ، { والله لا يحبّ الفساد } . ثم قرأ مجاهد : { ظَهَرَ الفساد فِى البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى الناس } الآية [ الروم : 41 ] . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { وَيُهْلِكَ الحرث والنسل } قال : الحرث : الزرع ، والنسل : نسل كل دابة . وأخرج ابن المنذر ، والطبراني والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود؛ قال : «إن من أكبر الذنوب عند الله أن يقول الرجل لأخيه : اتق الله ، فيقول عليك بنفسك أنت تأمرني» . وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، عن سفيان قال : قال رجل لمالك بن مغْوَل : اتق الله ، فسقط ، فوضع خدّه على الأرض تواضعاً لله .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَبِئْسَ المهاد } قال : بئس المنزل . وأخرجا عن مجاهد قال : بئس ما شهدوا لأنفسهم . وأخرج ابن مردويه ، عن صهيب قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ، ولا مال لك ، وتخرج أنت ، ومالك ، والله لا يكون ذلك أبداً ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا : نعم ، فدفعت إليهم مالي ، فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " ربح البيع صهيب مرتين " . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن عساكر ، عن سعيد بن المسيب ، نحوه . وأخرج الطبراني ، والحاكم ، والبيهقي في الدلائل ، عن صهيب ، نحوه . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم وصححه ، عن أنس قال : نزلت في خروج صهيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، عن قتادة قال : هم المهاجرون والأنصار .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

لما ذكر الله سبحانه أن الناس ينقسمون إلى ثلاث طوائف : مؤمنين ، وكافرين ، ومنافقين ، أمرهم بعد ذلك بالكون على ملة واحدة . وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان؛ لأن أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم ، وكتابهم ، والمنافق مؤمن بلسانه ، وإن كان غير مؤمن بقلبه . و { السلم } بفتح السين وكسرها قال الكسائي : ومعناهما واحد ، وكذا عند البصريين ، وهما جميعاً يقعان للإسلام ، والمسالمة . وقال أبو عمرو بن العلاء : إنه بالفتح للمسالمة ، وبالكسر للإسلام . وأنكر المبرد هذه التفرقة . وقال الجوهري : { السلم } بفتح السين : الصلح ، وتكسر ، ويذكر ويؤنث ، وأصله من الاستسلام ، والانقياد . ورجح الطبري أنه هنا بمعنى الإسلام ، ومنه قول الشاعر الكندي :
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي للِسِّلم لَمّا ... رَأيْتُهمُ تَوَلَّوا مُدْبِرين
أي : إلى الإسلام . وقرأ الأعمش : «السَّلمَ» بفتح السين ، واللام . وقد حكى البصريون في سَلْم ، وسِلْم ، وسلم أنها بمعنى واحد : { وكافة } حال من { السلم } ، أو من ضمير المؤمنين ، فمعناه على الأوّل : لا يخرج منكم أحد ، وعلى الثاني : لا يخرج من أنواع السلم شيء بل ادخلوا فيها جميعاً . أي : في خصال الإسلام ، وهو مشتق من قولهم كففت أي : منعت ، أي : لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام ، والكفّ : المنع ، والمراد به هنا : الجميع { ادخلوا فِي السلم كَافَّةً } أي : جميعاً . وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان } أي : لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم إليه الشيطان ، وقد تقدّم الكلام على خطوات .
قوله : { زَلَلْتُمْ } أي : تنحيتم عن طريق الاستقامة ، وأصل الزلل في القدم ، ثم استعمل في الاعتقادات ، والآراء ، وغير ذلك ، يقال زلّ يَزِلُّ زلاً ، وزللاً ، وزلولاً : أي : دحضت قدمه . وقرىء : " زَلِلْتُمْ " بكسر اللام ، وهما لغتان ، والمعنى : فإن ضللتم ، وعرّجتم عن الحق : { مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات } أي : الحجج الواضحة ، والبراهين الصحيحة ، أن الدخول في الإسلام هو الحق { فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يعجزه الانتقام منكم { حَكِيمٌ } لا ينتقم إلا بحق . قوله { هَلْ يَنظُرُونَ } أي : ينتظرون ، يقال نظرته وانتظرته بمعنى ، والمراد هل ينتظر التاركون للدخول في السلم ، والظُّللَ جمع ظُلَّة ، وهي ما يظلك ، وقرأ قتادة ، ويزيد بن القعقاع : «في ظلال» وقرأ يزيد أيضاً " والملئكة " بالجرّ عطفاً على الغمام ، أو على ظلل . قال الأخفش : { والملئكة } الخفض بمعنى : وفي الملائكة؛ قال : والرفع أجود . وقال الزجاج : التقدير في ظلل من الغمام ، ومن الملائكة ، والمعنى : هل ينتظرون إلا أن يأتيهم الله بما وعدهم من الحساب والعذاب في ظلل من الغمام ، والملائكة . قال الأخفش : وقد يحتمل أن يكون معنى الإتيان راجعاً إلى الجزاء ، فسمي الجزاء إتياناً كما سمي التخويف ، والتعذيب في قصة ثمود إتياناً ، فقال { فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد }

[ النحل : 26 ] وقال في قصة النضير { فأتاهم الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [ الحشر : 2 ] وإنما احتمل الإتيان هذا؛ لأن أصله عند أهل اللغة القصد إلى الشيء ، فمعنى الآية : هل ينظرون إلا أن يظهر الله فعلاً من الأفعال مع خلق من خلقه يقصد إلى محاربتهم؟ وقيل إن المعنى : يأتيهم أمر الله ، وحكمه ، وقيل : إن قوله : { فِي ظُلَلٍ } بمعنى يظلل ، وقيل : المعنى : يأتيهم ببأسه في ظلل . والغمام : السحاب الرقيق الأبيض ، سمي بذلك؛ لأنه يغم . أي : يستر . ووجه إتيان العذاب في الغمام على تقدير أن ذلك هو المراد ما في مجيء الخوف من محل الأمن من الفظاعة ، وعظم الموقع؛ لأن الغمام مظنة الرحمة لا مظنة العذاب .
وقوله : { وَقُضِىَ الأمر } عطف على { يأتيهم } داخل في حيز الانتظار ، وإنما عدل إلى صيغة الماضي دلالة على تحققه؛ فكأنه قد كان ، أو جملة مستأنفة جيء بها للدلالة على أن مضمونها واقع لا محالة ، أي : وفرغ من الأمر الذي هو إهلاكهم . وقرأ معاذ بن جبل : «وقضاءَ الأمر» بالمصدر عطفاً على الملائكة . وقرأ يحيى بن يَعْمُر : «وقضى الأمور» بالجمع . وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : { تُرْجَعُ الأمور } على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ الباقون على البناء للمفعول .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً } قال : يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أمر التوراة ، والشرائع التي أنزلت فيهم ، يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد ، ولا تَدَعُوا منها شيئاً ، وحسبكم الإيمان بالتوراة ، وما فيها . وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة : أن هذه الآية نزلت في ثعلبة ، وعبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وأسد ، وأسيد ابني كعب ، وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد ، كلهم من يهود قالوا : يا رسول الله يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنُسْبِت فيه ، وإن التوراة كتاب الله ، فلنقم بها الليل ، فنزلت : { يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : { السلم } الطاعة لله ، و { كافة } يقول : جميعاً .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : السلم : الإسلام ، والزلل : ترك الإسلام . وأخرج ابن جرير ، عن السدي قال : { فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات } قال : فإن ظللتم من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجمع الله الأوّلين ، والآخرين لميقات يوم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء ، وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن ابن عمر في هذه الآية قال : يهبط حين يهبط ، وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب ، منها النور ، والظلمة ، والماء ، فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب .

وأخرج أبو يعلى ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في هذه الآية قال : يأتي الله يوم القيامة في ظلل من السحاب قد قُطِّعَت طاقات . وأخرج ابن جرير ، والديلمي عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفات بالملائكة » وذلك قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة : { فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام } قال : طاقات ، والملائكة حوله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة في الآية قال : يأتيهم الله في ظلل من الغمام ، وتأتيهم الملائكة عند الموت . وأخرج عن عكرمة في قوله : { وَقُضِىَ الأمر } يقول : قامت الساعة .

سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

المأمور بالسؤال لبني إسرائيل هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن يكون هو كل فرد من السائلين ، وهو سؤال تقريع وتوبيخ . و { كَمْ } في محل نصب بالفعل المذكور بعدها على أنها مفعول بآتي ، ويجوز أن ينتصب بفعل مقدّر دلّ عليه المذكور . أي : كم آتينا آتيناهم ، وقُدِّر متأخراً؛ لأن لها صدر الكلام ، وهي إما استفهامية للتقرير ، أو خبرية للتكثير . و { مّنْ ءَايَةٍ } في موضع نصب على التمييز ، وهي البراهين التي جاء بها أنبياؤهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد بذلك الآيات التي جاء بها موسى ، وهي التسع . والمراد بالنعمة هنا : ما جاءهم من الآيات . وقال ابن جرير الطبري : النعمة هنا الإسلام ، والظاهر دخول كل نعمة أنعم الله بها على عبد من عباده كائناً من كان ، فوقع منه التبديل لها ، وعدم القيام بشكرها ، ولا ينافي ذلك كون السياق في بني إسرائيل ، أو كونهم السبب في النزول لما تقرر من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وفي قوله : { فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } من الترهيب ، والتخويف ما لا يقادر قدره .
قوله : { زُيّنَ } مبني للمجهول ، والمُزَيِّن : هو الشيطان ، أو الأنفس المجبولة على حبّ العاجلة . والمراد بالذين كفروا : رؤساء قريش ، أو كل كافر . وقرأ مجاهد ، وحميد بن قيس : «زين» على البناء للمعلوم . قال النحاس : وهي قراءة شاذة؛ لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر . وقرأ ابن أبي عبلة : «زينت» وإنما خص الذين كفروا بالذكر مع كون الدنيا مزينة للمسلم ، والكافر كما وصف سبحانه بأنه جعل ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً؛ لأن الكافر افتتن بهذا التزيين ، وأعرض عن الآخرة ، والمسلم لم يفتتن به؛ بل أقبل على الآخرة .
قوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } هذه الجملة في محل نصب على الحال . أي : والحال أن أولئك الكفار يسخرون من الذين آمنوا لكونهم فقراء لا حظّ لهم من الدنيا كحظ رؤساء الكفر ، وأساطين الضلال ، وذلك : لأن عرض الدنيا عندهم هو الأمر الذي يكون من ناله سعيداً رابحاً ، ومن حُرِمَه شقياً خاسراً . وقد كان غالب المؤمنين إذ ذاك فقراء لاشتغالهم بالعبادة ، وأمر الآخرة ، وعدم التفاتهم إلى الدنيا وزينتها . وحكى الأخفش أنه يقال : سخرت منه ، وسخرت به ، وضحكت منه ، وضحكت به ، وهزأت منه ، وهزأت به ، والاسم السخرية ، والسّخْري .
ولما وقع من الكفار ما وقع من السخرية بالمؤمنين ردّ الله عليهم بقوله : { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } والمراد بالفوقية هنا : العلوّ في الدرجة؛ لأنهم في الجنة ، والكفار في النار ، ويحتمل أن يراد بالفوق : المكان؛ لأن الجنة في السماء ، والنار في أسفل سافلين ، أو أن المؤمنين هم الغالبون في الدنيا كما وقع ذلك من ظهور الإسلام ، وسقوط الكفر ، وقتل أهله ، وأسرهم ، وتشريدهم ، وضرب الجزية عليهم ، ولا مانع من حمل الآية على جميع ذلك لولا التقييد بكونه في يوم القيامة .

قوله : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } يحتمل أن يكون فيه إشارة إلى أن الله سبحانه سيرزق المستضعفين من المؤمنين ، ويوسع عليهم ، ويجعل ما يعطيهم من الرزق بغير حساب ، أي : بغير تقدير ، ويحتمل أن المعنى : أن الله يوسع على بعض عباده في الرزق ، كما وسع على أولئك الرؤساء من الكفار استدراجاً لهم ، وليس في التوسعة دليل على أن من وسع عليه ، فقد رضي عنه ، ويحتمل أن يراد بغير حساب من المرزوقين كما قال سبحانه : { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] .
قوله : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } أي : كانوا على دين واحد فاختلفوا : { فَبَعَثَ الله النبيين } واختلف في الناس المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل هم بنو آدم . حين أخرجهم الله نسماً من ظهر آدم وقيل : آدم وحده ، وسمي ناساً؛ لأنه أصل النسل ، وقيل : آدم وحواء . وقيل : القرون الأولى التي كانت بين آدم ونوح . وقيل : المراد : نوح ومَنْ في سفينته ، وقيل : معنى : الآية كان الناس أمة واحدة كلهم كفار فبعث الله النبيين؛ وقيل المراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم كانوا أمة واحدة في خلوّهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق ، لولا أن الله مَنَّ عليهم بإرسال الرسل ، والأمة مأخوذة من قولهم أممت الشيء : أي : قصدته ، أي : مقصدهم واحد غير مختلف . قوله : { فَبَعَثَ الله النبيين } قيل : جملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر . وقوله : { مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } بالنصب على الحال .
قوله : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب } أي الجنس . وقال ابن جرير الطبري : إن الألف واللام للعهد والمراد التوراة . وقوله { لِيَحْكُمَ } مسند إلى الكتاب في قول الجمهور ، وهو : مجاز مثل قوله تعالى : { هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] وقيل : إن المعنى ليحكم كل نبيّ بكتابه ، وقيل : ليحكم الله ، والضمير في قوله : { فِيهِ } الأولى راجع إلى « ما » في قوله : { فِيمَا اختلفوا فِيهِ } والضمير في قوله : { وَمَا اختلف فِيهِ } يحتمل أن يعود إلى الكتاب ، ويحتمل أن يعود إلى المُنَزَّل عليه وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، قاله الزجاج؛ ويحتمل أن يعود إلى الحق ، وقوله { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } أي : أوتوا الكتاب ، أو أوتوا الحق ، أو أوتوا النبيّ : أي : أعطوا علمه . وقوله : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } منتصب على أنه مفعول به ، أي لم يختلفوا إلا للبغي : أي الحسد والحرص على الدنيا ، وفي هذا تنبيه على السفه في فعلهم ، والقبح الذي وقعوا فيه؛ لأنهم جعلوا نزول الكتاب سبباً في شدّة الخلاف .
وقوله : { فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بإذنه } أي : فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الحق ، وذلك بما بينه لهم في القرآن من اختلاف من كان قبلهم .

وقيل : معناه : فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للتصديق ، بجميع الكتب بخلاف مَنْ قبلهم ، فإن بعضهم كذَّب كتاب بعض؛ وقيل : إن الله هداهم إلى الحق من القبلة . وقيل : هداهم ليوم الجمعة . وقيل : هداهم لاعتقاد الحق في عيسى بعد أن كذّبته اليهود ، وجعلته النصارى رباً ، وقيل : المراد بالحق : الإسلام . وقال الفراء : إن في الآية قلباً ، وتقديره : فهدى الله الذين آمنوا بالحق لما اختلفوا فيه ، واختاره ابن جرير ، وضعَّفه ابن عطية . وقوله : { بِإِذْنِهِ } . قال الزجاج : معناه بعلمه . قال النحاس : وهذا غلط ، والمعنى بأمره .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { سَلْ بَنِى إسراءيل } قال : هم اليهود { كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } ما ذكر الله في القرآن ، وما لم يذكر : { وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله } قال : يكفرها . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : آتاهم الله آيات بينات : عصى موسى ، ويده ، وأقطعهم البحر ، وأغرق عدوّهم ، وهم ينظرون ، وظلل من الغمام ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى . { وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله } يقول من يكفر بنعمة الله .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج في قوله : { زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا } قال : الكفار يبتغون الدنيا ، ويطلبونها { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } في طلبهم الآخرة . قال ابن جريج : لا أحسبه إلا عن عكرمة . قال : قالوا : لو كان محمد نبياً لاتبعه ساداتنا ، وأشرافنا ، والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود ، وأصحابه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ } يقولون : ما هؤلاء على شيء ، استهزاءً ، وسخرياً { والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة } هنا كم التفاضل . وأخرج عبد الرزاق ، عن قتادة قال : فوقهم في الجنة . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء قال : سألت ابن عباس ، عن هذه الآية : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال : تفسيرها ليس على الله رقيب ، ولا من يحاسبه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : لا يحاسب الربّ .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو يعلى ، والطبراني بسند صحيح ، عن ابن عباس قال : { كان الناس أمة واحدة } قال : على الإسلام كلهم . وأخرج البزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عنه قال : كان بين آدم ، ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين . قال : وكذلك في قراءة عبد الله « كَانَ الناس أُمَّةً واحدة * فاختلفوا » . وأخرج ابن جرير ، وابن أبَي حاتم ، عن أبيّ بن كعب؛ قال : كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ، ففطرهم الله على الإسلام ، وأقرّوا له بالعبودية ، وكانوا أمة واحدة مسلمين ، ثم اختلفوا من بعد آدم .

وأخرج وكيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد : كان الناس أمة واحدة قال : آدم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبيّ أنه كان يقرؤها : « كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فاختلفوا فَبَعَثَ الله النبيين » وإن الله إنما بعث الرسل ، وأنزل الكتب بعد الاختلاف ، { وما اختلف الذين أوتوه } يعني بني إسرائيل أوتوا الكتاب ، والعلم { بغياً بينهم } يقول : بغياً على الدنيا ، وطلب ملكها ، وزخرفها أيهم يكون له الملك ، والمهابة في الناس . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } قال : كفاراً .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة في قوله : { فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ } قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة ، وأوّل الناس دخولاً يبدأ بهم ، أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، فغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى » وهو في الصحيح بدون ذكر الآية .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم في قوله : { فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بإذنه } قال : اختلفوا في يوم الجمعة ، فأخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد ، فهدى الله أمة محمد ليوم الجمعة ، واختلفوا في القبلة ، فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس ، وهدى أمة محمد للقبلة ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يركع ، ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ، ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم النهار ، ومنهم من يصوم من بعد الطعام ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في إبراهيم ، فقالت : اليهود كان يهودياً ، وقالت النصارى كان نصرانياً ، وجعله الله حنيفاً مسلماً ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في عيسى ، فكذبت به اليهود ، وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً ، وجعلته النصارى إلهاً وولداً ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك .

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

{ أم } هنا : منقطعة بمعنى : بل . وحكى بعض اللغويين أنها قد تجيء بمثابة همزة الاستفهام يبتدأ بها الكلام ، فعلى هذا معنى الاستفهام هنا : التقرير ، والإنكار ، أي : أحسبتم دخولكم الجنة واقعاً ، ولم تُمْتَحنوا بمثل ما امتِحَن به مَنْ كان قبلكم ، فتصبروا كما صبروا؟ ذكر الله سبحانه هذه التسلية بعد أن ذكر اختلاف الأمم على أنبيائهم ، تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لقلوبهم ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ } [ آل عمران : 142 ] وقوله تعالى : { الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 1 - 2 ] وقوله : { مَسَّتْهُمْ } بيان لقوله : { مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ } ، و { البأساء والضراء } قد تقدّم تفسيرهما ، والزلزلة : شدّة التحريك يكون في الأشخاص وفي الأحوال ، يقال : زلزل الله الأرض زَلزلة ، وزلزالاً بالكسر ، فتزلزلت إذا تحركت ، واضطربت ، فمعنى زُلزلوا : خُوِّفوا وأزعجوا إزعاجاً شديداً . وقال الزجاج : أصل الزلزلة : نقل الشيء من مكانه ، فإذا قلت : زلزلته فمعناه كررت زلله من مكانه .
وقوله : { حتى يَقُولَ } أي : استمرّ ذلك إلى غاية هي : قول الرسول ، ومن معه { متى نَصْرُ الله } والرسول هنا قيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو شعياء . وقيل هو كل رسول بعث إلى أمته . وقرأ مجاهد ، والأعرج ، ونافع ، وابن محيصن بالرفع في قوله : { حتى يَقُولَ } وقرأ غيرهم بالنصب ، فالرفع : على أنه حكاية لحال ماضية ، والنصب بإضمار « أن » على أنه غاية لما قبله . وقرأ الأعمش : { وَزُلْزِلُواْ وَيَقُولُ الرسول } بالواو بدل حتى ، ومعنى ذلك : أن الرسول ومن معه بلغ بهم الضجر إلى أن قالوا هذه المقالة المقتضية لطلب النصر ، واستبطاء حصوله ، واستطالة تأخره ، فبشرهم الله سبحانه بقوله : { أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } . وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله؟ ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم ألا إن نصر الله قريب . ولا مُلْجىء لهذا التكلف ، لأن قول الرسول ، ومن معه : { متى نَصْرُ الله } ليس فيه إلا استعجال النصر من الله سبحانه ، وليس فيه ما زعموه من الشكّ ، والارتياب حتى يحتاج إلى ذلك التأويل المتعسّف .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، أن هذه الآية نزلت في يوم الأحزاب ، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ، وأصحابه بلاء ، وحصر . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دار بلاء ، وأنه مبتليهم فيها ، وأخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه ، وصفوته لتطيب نفوسهم ، فقال { مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء } فالبأساء : الفتن ، والضرّاء : السقم ، وزلزلوا بالفتن ، وأذى الناس إياهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ } قال : أصابهم هذا يوم الأحزاب حتى قال قائلهم : { مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 12 ] ولعله يعني بقوله : حتى قال قائلهم : يعني : قائل المنافقين كما يفيد ذلك قوله تعالى : { إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا * هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } [ الأحزاب : 10 - 12 ] .

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)

السائلون هنا : هم المؤمنون سألوا عن الشيء الذي ينفقونه ما هو؟ فأجيبوا ببيان المَصْرِف الذي يصرفون فيه ، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد؛ لأن الشيء لا يعتدّ به إلا إذا وضع في موضعه ، وصادف مصرفه . وقيل : إنه قد تضمن قوله : { مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه ، وهو كل خير . وقيل : إنهم إنما سألوا عن وجوه البرّ التي ينفقون فيها ، وهو خلاف الظاهر . وقد تقدم الكلام في الأقربين ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل .
وقوله : { كُتِبَ } أي : فرض ، وقد تقدّم بيان معناه . بين سبحانه أن هذا؛ أي : فرض القتال عليهم من جملة ما امتحنوا به . والمراد بالقتال : قتال الكفار . والكُرْه بالضم : المشقة ، وبالفتح : ما أكرهت عليه ، ويجوز الضم في معنى الفتح ، فيكونان لغتين ، يقال : كرهت الشيء كَرْهاً وكُرْهاً ، وكَراهة وكراهية ، وأكرهته عليه إكراهاً ، وإنما كان الجهاد كرهاً؛ لأن فيه إخراج المال ، ومفارقة الأهل ، والوطن ، والتعرّض لذهاب النفس ، وفي التعبير بالمصدر ، وهو قوله : { كُرْهٌ } مبالغة ، ويحتمل أن يكون بمعنى المكروه كما في قولهم : الدرهم ضرب الأمير .
وقوله : { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } قيل : عسى هنا بمعنى قد ، وروي ذلك عن الأصم . وقال أبو عبيدة : عسى من الله إيجاب ، والمعنى : عسى أن تكرهوا الجهاد لما فيه من المشقة ، وهو خير لكم ، فربما تغلبون ، وتَظْفَرون ، وتَغْنَمون ، وتُؤْجَرون ، ومن مات مات شهيداً ، وعسى أن تحبوا الدَّعَة ، وترك القتال ، وهو شرُّ لكم ، فربما يتقوّى عليكم العدوّ ، فيغلبكم ، ويقصدكم إلى عقر دياركم ، فيحلّ بكم أشدّ مما تخافونه من الجهاد الذي كرهتم مع ما يفوتكم في ذلك من الفوائد العاجلة ، والآجلة { والله يَعْلَمُ } ما فيه صلاحكم ، وفلاحكم { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن السدي في قوله : { يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } قال : يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وهي : النفقة ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها ، فنسختها الزكاة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن جريح قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت : { يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } الآية ، فذلك النفقة في التطوّع ، والزكاة سواء ذلك كله . وأخرج ابن المنذر ، أن عمرو بن الجَمُوح سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ماذا ننفق من أموالنا ، وأين نضعها؟ فنزلت . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } قال : إن الله أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين بمكة بالتوحيد ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن يكفوا أيديهم ، عن القتال ، فلما هاجر إلى المدينة نزلت سائر الفرائض ، وأذن لهم في القتال ، فنزلت : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } يعني فرض عليكم ، وأذن لهم بعد ما نهاهم عنه { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } يعني : القتال ، وهو مشقة عليكم { وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا } يعني : الجهاد : قتال المشركين ، وهو خير لكم ، ويجعل الله عاقبته ، فتحاً ، وغنيمة ، وشهادة { وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا } يعني : القعود عن الجهاد { وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } فيجعل الله عاقبته شرّاً ، فلا تصيبوا ظفراً ، ولا غنيمة .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن جريج قال : قلت : لعطاء : ما تقول في قوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال } أوجب الغزو على الناس من أجلها؟ قال لا ، كتب على أولئك حينئذ . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن شهاب في الآية قال : الجهاد مكتوب على كل أحد غزا أو قعد ، فالقاعد إن استُعين به أعان ، وإن استغيث به أغاث ، وإن استُنفر نَفَر ، وإن استُغِنى عنه قعد ، وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } قال : نسختها هذه الآية : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وأخرجه ابن جرير موصولاً ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وأخرج ابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، من طريق عليّ قال : عسى من الله واجب . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي نحوه أيضاً ، وقد ورد في فضل الجهاد ، ووجوبه أحاديث كثيرة لا يتسع المقام لبسطها .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

قوله : { قِتَالٍ فِيهِ } هو بدل اشتمال ، قاله سيبويه . ووجهه أن السؤال عن الشهر لم يكن إلا باعتبار ما وقع فيه من القتال . قال الزجاج : المعنى يسئلونك عن القتال في الشهر الحرام ، وأنشد سيبويه قول الشاعر :
فَمَا كَانَ قيسُ هُلْكُه هُلْكَ وَاحدٍ ... وَلكنَّه بُنْيَانُ قَومٍ تَهدَّمَاً
فقوله : هلكه بدل اشتمال من قيس ، وقال الفراء : هو مخفوض يعني : قوله : { قِتَالٍ فِيهِ } على نية عن ، وقال أبو عبيدة : هو : مخفوض على الجوار . قال النحاس : لا يجوز أن يعرب الشيء على الجوار في كتاب الله ، ولا في شيء من الكلام ، وإنما وقع في شيء شاذّ ، وهو قولهم : هذا جحر ضب خرب . وتابع النحاس ابن عطية في تخطئة أبي عبيدة . قال النحاس : ولا يجوز إضمار عن ، والقول فيه أنه بدل . وقرأ ابن مسعود ، وعكرمة : «يسألونك عن الشهر الحرام ، وعن قتال فيه» . وقرأ الأعرج : «قتال فيه» بالرفع . قال النحاس : وهو غامض في العربية ، والمعنى : يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه . وقوله : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } مبتدأ وخبر ، أي : القتال فيه أمر كبير مستنكر ، والشهر الحرام : المراد به : الجنس ، وقد كانت العرب لا تسفك فيه دماً ، ولا تُغِير على عدوّ ، والأشهر الحرم هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب ، ثلاثة سرد وواحد فرد .
وقوله : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } مبتدأ . وقوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } معطوف على صدّ . وقوله : { أَكْبَرُ عِندَ الله } خبر صدّ ، وما عطف عليه : أي : الصدّ عن سبيل الله ، والكفر به ، والصدّ عن المسجد الحرام ، وإخراج أهل الحرم منه : { أَكْبَرُ عِندَ الله } أي : أعظم إثماً ، وأشدّ ذنباً من القتال في الشهر الحرام ، كذا قال المبرد ، وغيره ، والضمير في قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } يعود إلى الله . وقيل : يعود إلى الحج . وقال الفراء : إن قوله : { وَصُدَّ } عطف على كبير ، والمسجد عطف على الضمير في قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } فيكون الكلام منتسقاً متصلاً غير منفصل . قال ابن عطية : وذلك خطأ؛ لأن المعنى يسوق إلى أن قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } أي : بالله عطف أيضاً على كبير ، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر بالله ، وهذا بيّن فساده ، ومعنى الآية على القول الأوّل الذي ذهب إليه الجمهور : أنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام ، وما تفعلون أنتم من الصدّ عن سبيل الله لمن أراد الإسلام ، ومن الكفر بالله ، ومن الصدّ عن المسجد الحرام ، ومن إخراج أهل الحرم منه أكبر جرماً عند الله . والسبب يشهد لهذا المعنى ، ويفيد أنه المراد كما سيأتي بيانه ، فإن السؤال منهم المذكور في هذه الآية هو سؤال إنكار لما وقع من السرية التي بعثها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالفتنة هنا : الكفر ، أي : كفركم أكبر من القتل الواقع من السرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم .

وقيل المراد بالفتنة : الإخراج لأهل الحرم منه ، وقيل المراد بالفتنة هنا : فتنتهم عن دينهم حتى يهلكوا . أي : فتنة المستضعفين من المؤمنين ، أو نفس الفتنة التي الكفار عليها . وهذا أرجح من الوجهين الأوّلين ، لأن الكفر ، والإخراج قد سبق ذكرهما ، وأنهما مع الصدّ أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام .
وقوله : { وَلاَ يَزَالُونَ } ابتداء كلام يتضمن الإخبار من الله عزّ وجل للمؤمنين بأن هؤلاء الكفار لا يزالون مستمرين على قتالكم ، وعداوتكم حتى يردوكم عن الإسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك ، وتهيأ لهم منكم ، والتقيد بهذا الشرط مشعر باستبعاد تمكنهم من ذلك ، وقدرتهم عليه ، ثم حذّر الله سبحانه المؤمنين من الاغترار بالكفار ، والدخول فيما يريدونه من ردّهم عن دينهم الذي هو الغاية لما يريدونه من المقاتلة للمؤمنين ، فقال : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم } إلى آخر الآية والردة : الرجوع عن الإسلام إلى الكفر ، والتقييد بقوله : { فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ } يفيد أن عمل من ارتد إنما يبطل إذا مات على الكفر . وحبط : معناه بطل ، وفسد ، ومنه الحبط ، وهو : فساد يلحق المواشي في بطونها من كثرة أكلها للكلأ ، فتنتفخ أجوافها ، وربما تموت من ذلك . وفي هذه الآية تهديد للمسلمين ليثبتوا على دين الإسلام . ومعنى قوله : { فِى الدنيا والاخرة } أنه لا يبقى له حكم المسلمين في الدنيا ، فلا يأخذ شيئاً مما يستحقه المسلمون ، ولا يظفر بحظ من حظوظ الإسلام ، ولا ينال شيئاً من ثواب الآخرة الذي يوجبه الإسلام ، ويستحقه أهله . وقد اختلف أهل العلم في الردّة هل تحبط العمل بمجردها أم لا تحبط إلا بالموت على الكفر؟ والواجب حمل ما أطلقته الآيات في غير هذا الموضع على ما في هذه الآية من التقييد . وقد تقدم الكلام في معنى الخلود .
قوله : { وَهَاجَرُواْ } الهجرة معناها الانتقال من موضع إلى موضع ، وترك الأوّل لإيثار الثاني ، والهجر ضدّ الوصل ، والتهاجر : التقاطع ، والمراد بها هنا : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام . والمجاهدة : استخراج الجهد ، جهد ، مجاهدة ، وجهاداً ، والجهاد والتجاهد : بذل الوسع . وقوله : { يَرْجُونَ } معناه : يطمعون ، وإنما قال : يرجون بعد تلك الأوصاف المادحة التي وصفهم بها ، لأنه لا يعلم أحد في هذه الدنيا أنه صائر إلى الجنة ، ولو بلغ في طاعة الله كل مبلغ . والرجاء الأمل ، يقال : رجوت فلاناً أرجو رجاء ، ورجاوة . وقد يكون الرجاء بمعنى الخوف كما في قوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] أي : لا تخافون عظمة الله .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والبيهقي في سننه بسند صحيح ، عن جُنْدُب بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث رهطاً ، وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، أو عبيدة بن الحارث ، فلما ذهب ينطلق بكى شوقاً ، وصبابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فجلس ، فبعث مكانه عبد الله بن جحش ، وكتب له كتاباً ، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا ، وكذا ، وقال : لا تكرهنّ أحداً من أصحابك على المسير معك ، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال : سمعاً ، وطاعة لله ، ولرسوله ، فخبرهم الخبر ، وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان ، ومضى بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ، ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب ، أو جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام ، فأنزل الله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } الآية ، فقال بعضهم : إن لم يكونوا أصابوا وزراً ، فليس لهم أجر ، فأنزل الله : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ } إلى آخر الآية .

وأخرج البزار عن ابن عباس أن سبب نزول الآية هو ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : إن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وردّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام ، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل ، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام . فقال الله : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } من القتال فيه ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية ، فلقوا عمرو بن الحضرمي ، وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى وأوّل ليلة من رجب ، وإن أصحاب محمد كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أوّل رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم ، وأخذوا ما كان معه ، وأن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك ، فنزلت الآية . وأخرج ابن إسحاق عنه : أن سبب نزول الآية مصاب عمرو بن الحضرمي . وقد ورد من طرق كثيرة في تعيين السبب مثل ما تقدّم . وأخرج ابن أبي داود عن عطاء بن ميسرة قال : أحلّ القتال في الشهر الحرام في براءة في قوله : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً } [ التوبة : 36 ] . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سفيان الثوري : أنه سئل عن هذه الآية فقال : هذا شيء منسوخ ، ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام . وأخرج النحاس في ناسخه ، عن ابن عباس أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن عمر : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } قال : الشرك . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد : { وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم } قال : كفار قريش . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس في قوله : { أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله } قال : هؤلاء خيار هذه الأمة جعلهم الله أهل رجاء ، إنه من رجا طلب ، ومن خاف هرب . وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

السائلون في قوله : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } هم المؤمنون كما سيأتي بيانه عند ذكر سبب نزول الآية ، والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر ، ومنه خمار المرأة ، وكل شيء غطى شيئاً ، فقد خمره ، ومنه : «خمروا آنيتكم» وسمي خمراً ، لأنه يخمر العقل ، أي : يغطيه ويستره ، ومن ذلك الشجر الملتفّ يقال : له الخمر بفتح الميم ، لأنه يغطي ما تحته ويستره ، يقال منه أخمرت الأرض : كثر خمرها . قال الشاعر :
ألا يا زَيْدُ والضَّحَاك سِيرَا ... فَقَد جَاوَزْتُما خَمْر الطَّرِيقِ
أي : جاوزتما الوهد . وقيل : إنما سميت الخمر خمراً؛ لأنها تركت حتى أدركت ، كما يقال قد اختمر العجين : أي : بلغ إدراكه ، وخمر الرأي : أي : ترك حتى تبين فيه الوجه ، وقيل : إنما سميت الخمر خمراً؛ لأنها تخالط العقل من المخامرة ، وهي : المخالطة . وهذه المعاني الثلاثة متقاربة موجودة في الخمر؛ لأنها تركت حتى أدركت ، ثم خالطت العقل ، فخمرته : أي : سترته . والخمر : ماء العنب الذي غلا ، واشتدّ ، وقذف بالزَّبدَ ، وما خامر العقل من غيره ، فهو في حكمه كما ذهب إليه الجمهور . وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وجماعة من فقهاء الكوفة : ما أسكر كثيره من غير خمر العنب ، فهو حلال : أي : ما دون المسكر فيه . وذهب أبو حنيفة إلى حِل ما ذهب ثلثاه بالطبخ ، والخلاف في ذلك مشهور . وقد أطلت الكلام على الخمر في شرحي للمنتقى ، فليرجع إليه .
والميسر مأخوذ من اليسر ، وهو وجوب الشيء لصاحبه ، يقال يسر لي كذا : إذا وجب ، فهو ييسر يسراً ، وميسراً ، والياسر : اللاعب بالقداح . وقد يسر ييسر . قال الشاعر :
فَأعِنهُم وَأيْسرْ كما يَسَرُوا به ... وإذا هُمُ نَزلوُا بضَنْك فَانْزِلِ
وقال الأزهري : الميسر : الجَزُور التي كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسراً؛ لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته ، فقد يسرته ، والياسر : الجازر ، قال : وهذا الأصل في الياسر ، ثم يقال للضاربين بالقداح ، والمتقامرين على الجزور : ياسرون ، لأنهم جازرون ، إذ كانوا سبياً لذلك . وقال في الصحاح : ويسر القوم الجزور : إذا اجتزروها ، واقتسموا أعضاءها ، ثم قال : ويقال يسر القوم : إذا قامروا ، ورجل ميسر وياسر بمعنى ، والجمع أيسار ، قال النابغة :
إني أتمِّم أيسارِى وأمْنَحُهم ... مَثْنَى الأيادِي وأكْسوا الحفْنَة الأدَمَا
والمراد بالميسر في الآية : قمار العرب بالأزلام ، قال جماعة من السلف من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم : كل شيء فيه قمار من نَرْدٍ ، أو شطرنج ، أو غيرهما ، فهو الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز ، والكِعَاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل ، والقرعة في إفراز الحقوق . وقال مالك : الميسر ميسران : ميسر اللهو ، وميسر القمار ، فمن ميسر اللهو : النرد ، والشطرنج ، والملاهي كلها ، وميسر القمار : ما يتخاطر الناس عليه ، وكل ما قومر به ، فهو ميسر ، وسيأتي البحث مطوّلاً في هذا في سورة المائدة عند قوله :

{ إِنَّمَا الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] .
قوله : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } يعني الخمر والميسر ، فإثم الخمر أي : إثم تعاطيها ينشأ من فساد عقل مستعملها ، فيصدر عنه ما يصدر عن فاسد العقل من المخاصمة ، والمشاتمة ، وقول الفحش ، والزور ، وتعطيل الصلوات ، وسائر ما يجب عليه ، وأما إثم الميسر أي : إثم تعاطيه ، فما ينشأ عن ذلك من الفقر ، وذهاب المال في غير طائل ، والعدواة ، وإيحاش الصدور . وأما منافع الخمر فربح التجارة فيها ، وقيل : ما يصدر عنها من الطرب والنشاط وقوّة القلب ، وثبات الجنان ، وإصلاح المعدة ، وقوّة الباءة ، وقد أشار شعراء العرب إلى شيء من ذلك قال :
وَإذَا شَرِبْتُ فَإِنَّني ... رَبُّ الخَوَرْنَق والسَّدِير
وإذَا صَحُوْتُ فَإِنني ... رَبُّ الشَّوَيهةِ وَالبعير
وقال آخر :
ونشر بها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما يهنهنا اللقاء
وقال من أشار إلى ما فيها من المفاسد ، والمصالح :
رأيتُ الخمرَ صالحة وَفيها ... خِصَالُ تُفْسِدُ الرَّجُلُ الحَليما
فلا والله أشْرَبْها صحيحاً ... ولا أشفَى بها أبداً سقيماً
ولا أعْطى بها ثمناً حَيَاتي ... ولا أدعو لَها أبَداً نَدِيَماً
ومنافع الميسر : مصير الشيء إلى الإنسان بغير تعب ، ولا كدّ ، وما يحصل من السرور ، والأريحية عند أن يصير له منها سهم صالح . وسهام الميسر أحد عشر ، منها سبعة لها فروض على عدد ما فيها من الحظوظ : الأول : الفَذ بفتح الفاء بعدها معجمة ، وفيه علامة واحدة ، وله نصيب ، وعليه نصيب . الثاني : التوأم بفتح المثناة الفوقية ، وسكون الواو وفتح الهمزة ، وفيه علامتان ، وله وعليه نصيبان . الثالث : الرقيب ، وفيه ثلاث علامات ، وله وعليه ثلاثة أنصباء . الرابع الحلس؛ بمهملتين ، الأولى مكسورة ، واللام ساكنة ، وفيه أربع علامات ، وله وعليه أربعة أنصباء ، الخامس : النافر بالنون ، والفاء ، والمهملة ، ويقال : النافس بالسين المهملة مكان الراء ، وفيه خمس علامات ، وله وعليه خمسة أنصباء . السادس المُسْبَل بضم الميم ، وسكون المهملة ، وفتح الباء الموحدة ، وفيه ست علامات ، وله وعليه ستة أنصباء . السابع المعلَّى بضم الميم ، وفتح المهملة ، وتشديد اللام المفتوحة ، وفيه سبع علامات ، وله وعليه سبعة أنصباء ، وهو أكثر السهام حظاً ، وأعلاها قدراً ، فجملة ذلك ثمانية وعشرون فرداً .
والجزور تجعل ثمانية وعشرين جزءاً ، هكذا قال الأصمعي ، وبقي من السهام أربعة أغفالاً ، لا فروض لها ، وهي : المنيح ، بفتح الميم ، وكسر النون وسكون الياء التحتية ، وبعدها مهملة ، والسفيح بفتح المهملة ، وكسر الفاء ، وسكون الياء التحتية بعدها مهملة ، والوغد بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة ، والضعف بالمعجمة بعدها مهملة ثم فاء ، وإنما أدخلوا هذه الأربعة التي لا فروض لها بين ذوات الفروض لتكثر السهام على الذي يجيلها ، ويضرب بها ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً . وقد كان المجيل للسهام يلتحف بثوب ، ويجِثوا على ركبتيه ، ويخرج رأسه من الثوب ، ثم يدخل يده في الربابة بكسر المهملة ، وبعدها باء موحدة ، وبعد الألف باء موحدة أيضاً ، وهي الخريطة التي يجعل فيها السهام ، فيخرج منها باسم كل رجل سهماً ، فمن خرج له سهم له فرض أخذ فرضه ، ومن خرج له سهم لا فرض له لم يأخذ شيئاً ، وغرم قيمة الجزور ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء .

وقد قال ابن عطية : إن الأصمعي أخطأ في قوله : إن الجزور تقسم على ثمانية وعشرين جزءاً ، وقال : إنما تقسم على عشرة أجزاء .
قوله تعالى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أخبر سبحانه بأن الخمر ، والميسر ، وإن كان فيهما نفع ، فالإثم الذي يلحق متعاطيهما أكثر من هذا النفع؛ لأنه لا خير يساوي فساد العقل الحاصل بالخمر ، فإنه ينشأ عنه من الشرور ما لا يأتي عليه الحصر ، وكذلك لا خير في الميسر يساوي ما فيها من المخاطرة بالمال ، والتعرض للفقر ، واستجلاب العداوات المفضية إلى سفك الدماء ، وهتك الحرم . وقرأ حمزة ، والكسائي : «كثير» بالمثلثة . وقرأ الباقون بالباء الموحدة . وقرأ أبيّ : «وإثمهما أقرب من نفعها» . قوله : { قُلِ العفو } قرأه الجمهور بالنصب . وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع . واختلف فيه عن ابن كثير ، وبالرفع قرأه الحسن ، وقتادة قال النحاس : إن جعلت " ذا " بمعنى الذي كان الاختيار الرفع على معنى : الذي ينفقون هو : العفو ، وإن جعلت " ما " و " ذا " شيئاً واحداً كان الاختيار النصب على معنى : قل : ينفقون العفو ، والعفو : ما سهل ، وتيسر ، ولم يشق على القلب ، والمعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ، ولم تجهدوا فيه أنفسكم ، وقيل : هو ما فضل عن نفقة العيال . وقال جمهور العلماء : هو نفقات التطوّع ، وقيل : إن هذه الآية منسوخة بآية الزكاة المفروضة ، وقيل : هي محكمة ، وفي المال حق سوى الزكاة . قوله : { كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات } أي : في أمر النفقة .
وقوله : { فِى الدنيا والأخرة } متعلق بقوله : { تَتَفَكَّرُونَ } أي : تتفكرون في أمرهما ، فتحبسون من أموالكم ما تصلحون به معايش دنياكم ، وتنفقون الباقي في الوجوه المقرّبة إلى الآخرة . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير : أي : كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا ، والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا ، وزوالها ، في الآخرة ، وبقائها ، فترغبون عن العاجلة إلى الآجلة . وقيل : يجوز أن يكون إشارة إلى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } أي : لتتفكروا في أمر الدنيا ، والآخرة ، وليس هذا بجيد . قوله : { ويسألونك عن اليتامى } هذه الآية نزلت بعد نزول قوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } [ الأنعام : 152 ] وقوله : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى } [ النساء : 10 ] وقد كان ضاق على الأولياء الأمر - كما سيأتي بيانه إن شاء الله - فنزلت هده الآية . والمراد بالإصلاح هنا : مخالطتهم على وجه الإصلاح لأموالهم ، فإن ذلك أصلح من مجانبتهم وفي ذلك دليل على جواز التصرف في أموال الأيتام من الأولياء ، والأوصياء بالبيع ، والمضاربة والإجارة ونحو ذلك .

قوله : { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم } اختلف في تفسير المخالطة لهم ، فقال أبو عبيدة : مخالطة اليتامى أن يكون لأحدهم المال ، ويشقّ على كافله أن يفرد طعامه عنه ، ولا يجد بداً من خلطه بعياله ، فيأخذ من مال اليتيم ما يرى أنه كافيه بالتحري ، فيجعله مع نفقة أهله ، وهذا قد تقع فيه الزيادة ، والنقصان ، فدلت هذه الآية على الرخصة ، وهي : ناسخة لما قبله . وقيل : المراد بالمخالطة : المعاشرة للأيتام . وقيل : المراد بها : المصاهرة لهم ، والأولى عدم قصر المخالطة على نوع خاص ، بل تشمل كل مخالطة كما يستفاد من الجملة الشرطية . وقوله : { فَإِخوَانُكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف أي : فهم إخوانكم في الدين . وفي قوله : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } تحذير للأولياء أي : لا يخفى على الله من ذلك شيء ، فهو يجازي كل أحد بعمله من أصلح ، فلنفسه ، ومن أفسد فعلى نفسه . وقوله : { لأعْنَتَكُمْ } أي : ولو شاء لجعل ذلك شاقاً عليكم ، ومتعباً لكم ، وأوقعكم فيما فيه الحرج ، والمشقة . وقيل العنت هنا : معناه : الهلاك . قاله أبو عبيدة ، وأصل العنت المشقة . وقال ابن الأنباري : أصل العنت التشديد ، ثم نقل إلى معنى الهلاك . وقوله : { عَزِيزٌ } أي : لا يمتنع عليه شيء؛ لأنه غالب لا يُغَالَب { حَكِيمٌ } يتصرف في ملكه بما تقتضيه مشيئته ، وحكمته ، وليس لكم أن تختاروا لأنفسكم .
وقد أخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والضياء في المختارة ، عن عمر أنه قال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فإنها تذهب بالمال والعقل ، فنزلت : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } يعني هذه الآية ، فدعى عمر ، فقرئت عليه فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت التي في سورة النساء : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] فكان منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة نادى : « أن لا يقربن الصلاة » سكران ، فدعى عمر ، فقرئت عليه فقال : اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر ، فقرئت عليه ، فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] قال عمر : انتهينا انتهينا . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أنس قال : كنا نشرب الخمر ، فأنزلت : { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } الآية ، فقلنا : نشرب منها ما ينفعنا ، فنزلت في المائدة : { إِنَّمَا الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] الآية فقالوا : اللهمّ انتهينا . وأخرج أبو عبيد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر؛ قال الميسر القمار . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن ابن عباس مثله قال : كان الرجل في الجاهلية يخاطر عن أهله ، وماله ، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله ، وماله .

وقوله : { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } يعني : ما ينقص من الدين عند شربها : { ومنافع لِلنَّاسِ } يقول : فيما يصيبون من لذتها ، وفرحها إذا شربوا : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } يقول : ما يذهب من الدين ، فالإثم فيه أكبر مما يصيبون من لذتها ، وفرحها إذا شربوها ، فأنزل الله بعد ذلك : { لا تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى } [ النساء : 43 ] الآية ، فكانوا لا يشربونها عند الصلاة ، فإذا صلوا العشاء ، شربوها ، ثم إن ناساً من المسلمين شربوها فقاتل بعضهم بعضاً ، وتكلموا بما لم يرض الله من القول ، فأنزل الله : { إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب } الآية [ المائدة : 90 ] ، فحرّم الخمر ، ونهى عنها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : منافعهما قبل التحريم ، وإثمهما بعد ما حرّمهما .
وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم عنه؛ أن نفراً من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل الله أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا ، فما ننفق منها؟ فأنزل الله : { يسئلونك ماذا ينفقون قل العفو } وكان قبل ذلك ينفق ماله حتى ما يجد ما يتصدق به ، ولا ما يأكل حتى يُتصدّق عليه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : العفو هو : ما لا يتبين في أموالكم ، وكان هذا قبل أن تفرض الصدقة . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال : { العفو } ما يفضل عن أهلك وفي لفظ قال : الفضل عن العيال . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { قُلِ العفو } قال : لم تفرض فيه فريضة معلومة ثم قال : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف } [ الأعراف : 199 ] ثم نزلت في الفرائض بعد ذلك مسماة . وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، وابدأ بمن تعول » وثبت نحوه في الصحيح مرفوعاً من حديث حكيم بن حزام . وفي الباب أحاديث كثيرة ،
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ * فِى الدنيا والأخرة } قال : يعني في زوال الدنيا ، وفنائها ، وإقبال الآخرة ، وبقائها . وأخرج أبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عنه قال : لما أنزل الله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] { وَأَنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى } [ النساء : 10 ] الآية ، انطلق من كان عنده يتيم يعزل طعامه عن طعامه ، وشرابه عن شرابه ، فجعل يفصل له الشيء من طعامه ، فيحبس له حتى يأكله ، أو يفسد فيرمى به ، فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { ويسألونك عن اليتامى } الآية .

فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم . وقد روى نحو ذلك ، عن جماعة من التابعين .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِن تُخَالِطُوهُمْ } قال : المخالطة : أن يشرب من لبنك ، وتشرب من لبنه ، ويأكل من قصعتك ، وتأكل من قصعته ، ويأكل من ثمرتك ، وتأكل من ثمرته : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } قال : يعلم من يتعمد أكل مال اليتيم ، ومن يتحرج منه ، ولا يألو عن إصلاحه : { وَلَوْ شَاء الله لأعْنَتَكُمْ } يقول : لو شاء ما أحلّ لكم ما أعنتكم مما لا تتعمدون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { لأعْنَتَكُمْ } يقول : لأحرجكم ، وضيق عليكم ، ولكنه وسع ، ويسر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ } قال ، ولو شاء لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً .

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ } قرأه الجمهور بفتح التاء ، وقرىء في الشواذ بضمها؛ قيل : والمعنى : كان المتزوج لها أنكحها من نفسها . وفي هذه الآية النهي عن نكاح المشركات ، فقيل : المراد بالمشركات : الوثنيات ، وقيل : إنها تعم الكتابيات؛ لأن أهل الكتاب مشركون ، { وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية ، فقالت طائفة : إن الله حرم نكاح المشركات فيها ، والكتابيات من الجملة ، ثم جاءت آية المائدة ، فخصصت الكتابيات من هذا العموم . وهذا محكي عن ابن عباس ، ومالك ، وسفيان بن سعيد ، وعبد الرحمن بن عمر ، والأوزاعي . وذهبت طائفة إلى أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة ، وأنه يحرم نكاح الكتابيات ، والمشركات ، وهذا أحد قولي الشافعي ، وبه قال جماعة من أهل العلم . ويجاب عن قولهم : أن هذه الآية ناسخة لآية المائدة بأن سورة البقرة من أوّل ما نزل ، وسورة المائدة من آخر ما نزل . والقول الأوّل هو الراجح . وقد قال به مع من تقدم عثمان بن عفان ، وطلحة ، وجابر ، وحذيفة ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وطاوس ، وعكرمة ، والشعبي ، والضحاك كما حكاه النحاس ، والقرطبي . وقد حكاه ابن المنذر عن المذكورين ، وزاد عمر بن الخطاب وقال : لا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرّم ذلك . وقال بعض أهل العلم : إن لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ رَبُّكُمْ } [ البقرة : 105 ] . وقال : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } [ البينة : 1 ] وعلى فرض أن لفظ المشركين يعمّ ، فهذا العموم مخصوص بآية المائدة كما قدمنا .
قوله : { وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ } أي : ولرقيقة مؤمنة ، وقيل : المراد بالأمة : الحرة؛ لأن الناس كلهم عبيد الله ، وإماؤه ، والأول أولى لما سيأتي؛ لأنه الظاهر من اللفظ؛ ولأنه أبلغ ، فإن تفضيل الأمة الرقيقة المؤمنة على الحرّة المشركة يستفاد منه تفضيل الحرّة المؤمنة على الحرّة المشركة بالأولى . وقوله : { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } أي : ولو أعجبتكم المشركة من جهة كونها ذات جمال ، أو مال ، أو شرف ، وهذه الجملة حالية . قوله : { وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين } أي : لا تزوجوهم بالمؤمنات { حتى يُؤْمِنُواْ } قال القرطبي : وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه؛ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام ، وأجمع القراء على ضم التاء من تنكحوا . وقوله : { وَلَعَبْدٌ } الكلام فيه كالكلام في قوله : { وَلأمَةٌ } والترجيح كالترجيح . قوله : { أولئك } إشارة إلى المشركين ، والمشركات { يَدْعُونَ إِلَى النار } أي : إلى الأعمال الموجبة للنار ، فكان في مصاهرتهم ، ومعاشرتهم ، ومصاحبتهم من الخطر العظيم ما لا يجوز للمؤمنين أن يتعرضوا له ، ويدخلوا فيه { والله يَدْعُو إلى الجنة } أي : إلى الأعمال الموجبة للجنة .

وقيل : المراد : أن أولياء الله هم : المؤمنون يدعون إلى الجنة . وقوله : { بِإِذْنِهِ } أي : بأمره ، قاله الزجاج ، وقيل : بتيسيره ، وتوفيقه ، قاله صاحب الكشاف .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، عن مقاتل بن حيان قال : نزلت هذه الآية في أبي مَرْثد الغنوي استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في عَنَاقٍ أن يتزوجها ، وكانت ذات حظ من جمال ، وهي مشركة ، وأبو مرثد يومئذ مسلم ، فقال : يا رسول الله إنها تعجبني ، فأنزل الله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } قال : استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب ، فقال : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ المائدة : 5 ] . وقد روى هذا المعنى عنه من طرق . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن سعيد بن جبير في قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات } يعني أهل الأوثان . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي عن مجاهد نحوه ، وكذلك أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن قتادة نحوه أيضاً . وأخرج عبد بن حميد ، عن النخعي نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر أنه كره نكاح نساء أهل الكتاب ، وتأوّل : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } . وأخرج البخاري عنه قال : حرّم الله نكاح المشركات على المسلمين ، ولا أعرف شيئاً من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى ، أو عبد من عباد الله . وأخرج الواحدي ، وابن عساكر من طريق السدّي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ ولو أعجبتكم } قال نزلت في عبد الله بن رواحة ، وكانت له أمة سوداء ، وأنه غضب عليها فلطمها ، ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره خبرها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له : « ما هي يا عبد الله؟ » قال : تصوم ، وتصلي ، وتحسن الوضوء ، وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فقال : « يا عبد الله هذه مؤمنة ، » فقال عبد الله : فوالذي بعثك بالحق ، لأعتقنها ، ولأتزوجنها ، ففعل ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، وقالوا نكح أمَة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ، وينكحوهم رغبة في أحسابهم ، فأنزل الله فيهم : { وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ } وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السدي مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل بن حيان في قوله : { وَلأمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ } قال : بلغنا أنها كانت أمة لحذيفة سوداء ، فأعتقها وتزوجها حذيفة . وأخرج ابن جرير ، عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال : النكاح بولى في كتاب الله ، ثم قرأ : { وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

قوله : { المحيض } هو : الحيض ، وهو مصدر ، يقال : حاضت المرأة حيضاً ، ومحيضاً ، فهي حائض ، وحائضة ، كذا قال الفراء ، وأنشد :
كحائضة تُزْنَي بها غير طاهرة ... ونساء حُيَّض ، وحوائض ، والحِيضة بالكسر : المرة الواحدة وقيل : الاسم ، وقيل : المحيض عبارة عن الزمان ، والمكان ، وهو مجاز فيهما ، وقال ابن جرير الطبري : المحيض اسم الحيض ، ومثله قول رؤبة :
إليك أشكو شدة المعيش ... أي العيش ، وأصل هذه الكلمة من السيلان ، والانفجار يقال : حاض السيل وفاض ، وحاضت الشجرة : أي : سالت رطوبتها ، ومنه الحيض أي : الحوض؛ لأن الماء يحوض إليه ، أي : يسيل . وقوله : { قُلْ هُوَ أَذًى } أي : قل هو شيء يتأذى به أي : برائحته . والأذى كناية عن القذر ، ويطلق على القول المكروه ، ومنه قوله تعالى : { لاَ تُبْطِلُواْ صدقاتكم بالمن والاذى } [ البقرة : 264 ] ، ومنه قوله تعالى : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } [ الأحزاب : 48 ] وقوله : { فاعتزلوا النساء فِي المحيض } أي : فاجتنبوهنّ في زمان المحيض إن حمل المحيض على المصدر ، أو في محل الحيض إن حمل على الاسم . والمراد من هذا الاعتزال : ترك المجامعة لا ترك المجالسة ، أو الملامسة ، فإن ذلك جائز ، بل يجوز الاستمتاع منها بما عدا الفرج ، أو بما دون الإزار على خلاف في ذلك ، وأما ما يروى عن ابن عباس ، وعبيدة السلماني أنه يجب على الرجل أن يعتزل فراش زوجته إذا حاضت ، فليس ذلك بشيء ، ولا خلاف بين أهل العلم في تحريم وطء الحائض ، وهو معلوم من ضرورة الدين .
قوله : { ولاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم في رواية حفص عنه بسكون الطاء ، وضم الهاء . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية أبي بكر : «يطَّهرن» بتشديد الطاء ، وفتحها ، وفتح الهاء ، وتشديدها . وفي مصحف أبيّ ، وابن مسعود : «ويتطهرن» والطهر انقطاع الحيض ، والتطهر : الاغتسال . وبسبب اختلاف القراء اختلف أهل العلم ، فذهب الجمهور إلى أن الحائض لا يحل وطؤها لزوجها ، حتى تتطهر بالماء . وقال محمد بن كعب القرظي ، ويحيى بن بكير : إذا طهرت الحائض ، وتيمّمت حيث لا ماء حلت لزوجها ، وإن لم تغتسل . وقال مجاهد وعكرمة : إن انقطاع الدم يحلها لزوجها ، ولكن تتوضأ . وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : إن انقطع دمها بعد مضي عشرة أيام جاز له أن يطأها قبل الغسل ، وإن كان انقطاعه قبل العشر لم يجز حتى تغتسل ، أو يدخل عليها ، وقت الصلاة . وقد رجح ابن جرير الطبري قراءة التشديد ، والأولى أن يقال : إن الله سبحانه جعل للحلّ غايتين كما تقتضيه القراءتان : إحداهما : انقطاع الدم ، والأخرى : التطهر منه ، والغاية الأخرى مشتملة على زيادة على الغاية الأولى ، فيجب المصير إليها . وقد دلّ أن الغاية الأخرى هي المعتبرة . قوله تعالى بعد ذلك : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } فإن ذلك يفيد أن المعتبر التطهر ، لا مجرد انقطاع الدم .

وقد تقرر أن القراءتين بمنزلة الآيتين ، فكما أنه يجب الجمع بين الآيتين المشتملة إحداهما على زيادة بالعمل بتلك الزيادة ، كذلك يجب الجمع بين القراءتين .
قوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } أي : فجامعوهنّ ، وكني عنه بالإتيان ، والمراد : أنهم يجامعونهنّ في المأتي الذي أباحه الله ، وهو : القُبُل قيل : و { مّنْ حَيْثُ } بمعنى : في حيث ، كما في قوله تعالى : { إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة } [ الجمعة : 9 ] أي : في يوم الجمعة ، وقوله : { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } [ فاطر : 4 ] أي : في الأرض ، وقيل : إن المعنى من الوجه الذي أذن الله لكم فيه : أي : من غير صوم ، وإحرام ، واعتكاف ، وقيل إن المعنى من قبل الطهر ، لا من قبل الحيض ، وقيل : من قبل الحلال ، لا من قبل الزنا . قوله : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين وَيُحِبُّ المتطهرين } قيل : المراد : التوابون من الذنوب ، والمتطهرون من الجنابة ، والأحداث . وقيل التوابون من إتيان النساء في أدبارهنّ . وقيل : من إتيانهن في الحيض ، والأول أظهر .
قوله : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } لفظ الحرث يفيد أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج الذي هو القبل خاصة؛ إذ هو مزدرع الذرية ، كما أن الحرث مزدرع النبات . فقد شبه ما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بما يلقى في الأرض من البذور التي منها النبات بجامع أن كل واحد منهما مادة لما يحصل منه ، وهذه الجملة بيان للجملة الأولى ، أعني قوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } . وقوله : { أنى شِئْتُمْ } أي : من أي جهة شئتم من خلف ، وقدام ، وباركة ، ومستلقية ، ومضطجعة ، إذا كان في موضع الحرث ، وأنشد ثعلب :
إنما الأرحام أرضو ... ن لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها ... وعلى الله النبات
وإنما عبر سبحانه بقوله : { إِنّى } لكونها أعم في اللغة من كيف ، وأين ، ومتى . وأما سيبويه ، ففسرها ها هنا ب " كيف " ، وقد ذهب الخلف والسلف ، من الصحابة ، والتابعين ، والأئمة إلى ما ذكرناه من تفسير الآية ، وأن إتيان الزوجة في دبرها حرام ، وروي عن سعيد بن المسيب ، ونافع ، وابن عمر ، ومحمد بن كعب القرظي ، وعبد الملك بن الماجشون أنه يجوز ذلك ، حكاه عنهم القرطبي في تفسير قال : وحكى ذلك عن مالك في كتاب له يسمى : «كتاب السر» وحذاق أصحاب مالك ، ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب ، ومالك أجلّ من أن يكون له كتاب سرّ ، ووقع هذا القول في العُتْبِيَّة . وذكر ابن العربي أن ابن شعبان أسند جواز ذلك إلى زمرة كبيرة من الصحابة ، والتابعين ، وإلى مالك من روايات كثيرة في كتاب : «جماع النسوان وأحكام القرآن» وقال الطحاوي : روى أصبغ بن الفرج ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، قال : ما أدركت أحداً أقتدي به في ديني شك في أنه حلال ، يعني وطء المرأة في دبرها ثم قرأ : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } ثم قال : فأي شيء أبين من هذا .

وقد روى الحاكم ، والدارقطني ، والخطيب البغدادي ، عن مالك من طرق ما يقتضي إباحة ذلك . وفي أسانيدها ضعف . وقد روى الطحاوي عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنه سمع الشافعي يقول : ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تحليله ، ولا تحريمه شيء ، والقياس أنه حلال . وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب . قال ابن الصباغ : كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا الله هو لقد كذب ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك ، فإن الشافعي نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه .
قوله : { وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ } أي : خيراً كما في قوله تعالى : { وَمَا تُقَدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ * تَجِدُواْ * عَندَ الله } [ البقرة : 110 ] وقيل : ابتغاء الولد . وقيل : التزويج بالعفائف . وقيل : غير ذلك . وقوله : { واتقوا الله } فيه تحذير عن الوقوع في شيء من المحرّمات . وفي قوله : { واعلموا أَنَّكُم ملاقوه } مبالغة في التحذير . وفي قوله : { وَبَشّرِ المؤمنين } تأنيس لمن يفعل الخير ويجتنب الشر .
وقد أخرج مسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم ، عن أنس : «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ، ولم يؤاكلوها ، ولم يشاربوها ، ولم يجامعوها في البيوت ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله : { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض } الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جامعوهنّ في البيوت ، واصنعوا كل شيء إلا النكاح " وأخرج النسائي ، والبزار ، عن جابر قال : إن اليهود قالوا : من أتى المرأة في دبرها كان ولده أحول فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن ذلك ، وعن إتيان الحائض ، فنزلت . وأخرج ابن جرير ، عن مجاهد قال : الأذي : الدم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { فاعتزلوا النساء } يقول : اعتزلوا نكاح فروجهن . وفي قوله : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } قال : من الدم . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد قال : حتى ينقطع الدم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } قال : بالماء . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، عن عكرمة نحوه أيضاً . وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد ، وعطاء : أنهما قالا : إذا رأت الطهر ، فلا بأس أن تستطيب بالماء ، ويأتيها قبل أن تغتسل .
وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } قال : يعني : أن يأتيها طاهراً غير حائض .

وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } قال من حيث أمركم أن تعتزلوهنّ . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن عكرمة مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي ، عن ابن عباس؛ قال : من حيث نهاكم أن تأتوهنّ وهنّ حَيض : يعني : من قبل الفرج . وأخرج ابن أبي شيبة ، عن ابن الحنفية قال : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } من قبل التزويج . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن عطاء في قوله : { يُحِبُّ التوبين } قال : من الذنوب { وَيُحِبُّ المتطهرين } قال : بالماء . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الأعمش قال : التوبة من الذنوب ، والتطهير من الشرك .
وأخرج البخاري ، وأهل السنن ، وغيرهم عن جابر؛ قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها جاء الولد أحول ، فنزلت : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } إن شاء محتبية ، وإن شاء غير محتبية ، غير أن ذلك في صمام واحد . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مُرَّة الهمداني نحوه . وقد روى هذا ، عن جماعة من السلف ، وصرحوا أنه السبب ، ومن الراوين لذلك : عبد الله بن عمر ، عند ابن عساكر ، وأم سلمة ، عند عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب . وأخرجه أيضاً ، عنها ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والدارمي ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وحسنه : «أنها سألت رسول الله بعض نساء الأنصار عن التحبية ، فتلا عليها الآية ، وقال : " صماماً واحداً " والصمام : السبيل ، وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، والضياء في المختارة ، وغيرهم ، عن ابن عباس قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله هلكت قال : " وما أهلكك؟ " قال : حوّلت رحلي الليلة . فلم يردّ عليه شيئاً ، فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } يقول : أقبل ، وأدبر ، واتق الدُّبُرَ ، والحيضة . وأخرج أحمد ، عن ابن عباس مرفوعاً : أن هذه الآية نزلت في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألوه فقال : " ائتها على كل حال إذا كان في الفرج " . وأخرج الدارمي ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، عنه قال : إن ابن عمر- والله يغفر له - أوهم ، إنما كان هذا الحي من الأنصار ، وهم أهل وثن ، مع هذا الحيّ من اليهود ، وهم أهل الكتاب كانوا يرون لهم ، فضلاً عليهم في العلم ، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، فكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف ، وذلك أستر ما تكون المرأة ، وكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بفعلهم ، وكان هذا الحيّ من قريش يشرحون النساء شرحاً ، ويتلذذون منهن مقبلات ، ومدبرات ، ومستلقيات ، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار .

فذهب يفعل بها ذلك ، فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نؤتى على حرف ، فاصنع ذلك ، وإلا فاجتنبني ، فسرى أمرهما ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله الآية : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } يقول مقبلات ، ومدبرات بعد أن يكون في الفرج ، وإن كان من قبل دبرها في قبلها ، زاد الطبراني : قال ابن عباس : قال ابن عمر : في دبرها ، فأوهم ، والله يغفر له ، وإنما كان هذا الحديث على هذا . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، والبيهقي ، عن ابن مسعود؛ أنه قال : محاشُّ النساء عليكم حرام .
وأخرج الشافعي في الأم ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طريق خزيمة بن ثابت؛ «أن سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهنّ ، فقال : حلال ، أو لا بأس ، فلما ولى دعاه فقال : " كيف قلت؟ أمن دبرها في قبلها ، فنعم ، أم من دبرها في دبرها فلا ، إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهنّ " وأخرج ابن عدي ، والدارقطني ، عن جابر بن عبد الله نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، وابن حبان عن ابن عباس؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في الدبر " وأخرج أحمد ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمرو؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يأتي امرأته في دبرها هي : اللوطية الصغرى " وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ملعون من أتى امرأته في دبرها " . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، والبيهقي عنه قال : إتيان الرجال ، والنساء في أدبارهن كفر . وقد رواه ابن عدي ، عن أبي هريرة مرفوعاً . قال ابن كثير : والموقوف أصح .
وقد ورد النهي عن ذلك من طرق منها : عند البزار عن عمر مرفوعاً ، وعند النسائي عنه موقوفاً ، وهو أصح . وعند ابن عدي في الكامل ، عن ابن مسعود مرفوعاً ، وعند ابن عدي أيضاً ، عن عقبة بن عامر مرفوعاً ، وعند أحمد عن طلق بن يزيد ، أو يزيد بن طلق مرفوعاً ، وعند ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وحسنه ، عن علي بن طلق مرفوعاً ، وقد ثبت نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ، والتابعين مرفوعاً ، وموقوفاً ، وأخرج البخاري ، وغيره عن نافع قال : قرأت ذات يوم : { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } فقال ابن عمر : أتدري فيم أنزلت هذه الآية؟ قلت : لا ، قال نزلت في إتيان النساء في أدبارهنّ .

وأخرج البخاري عن ابن عمر أنه قال : { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } قال : في الدبر . وقد روى هذا عن ابن عمر من طرق كثيرة ، وفي رواية عند الدارقطني أنه قال له نافع : من دبرها في قبلها؟ فقال لا : إلا في دبرها . وأخرج ابن راهويه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، والطحاوي ، وابن مردويه بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري ، أن رجلاً أصاب امرأته في دبرها ، فأنكر الناس عليه ذلك ، فنزلت الآية . وأخرج البيهقي في سننه عن محمد بن علي قال : كنْتُ عند محمد بن كعب القرظي ، فجاءه رجل ، فقال : ما تقول في إتيان المرأة في دبرها؟ فقال : هذا شيخ من قريش ، فسله ، يعني عبد الله بن علي بن السائب ، فقال : قذر ، ولو كان حلالاً . وقد روي القول بحلّ ذلك ، عن محمد بن المنكدر ، عند ابن جرير ، وعن ابن أبي مليكة ، عند ابن جرير أيضاً ، وعن مالك بن أنس عند ابن جرير ، والخطيب ، وغيرهما ، وعن الشافعي عند الطحاوي ، والحاكم والخطيب . وقد قدّمنا مثل هذا . وليس في أقوال هؤلاء حجة البتة : ولا يجوز لأحد أن يعمل على أقوالهم ، فإنهم لم يأتوا بدليل يدلّ على الجواز ، فمن زعم منهم أنه فهم ذلك من الآية ، فقد أخطأ في فهمه . وقد فسرها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكابر أصحابه بخلاف ما قاله هذا المخطىء في فهمه كائناً من كان ، ومن زعم منهم أن سبب نزول الآية أن رجلاً أتى امرأته في دبرها ، فليس في هذا ما يدل على أن الآية أحلت ذلك ، ومن زعم ذلك ، فقد أخطأ ، بل الذي تدل عليه الآية أن ذلك حرام ، فكون ذلك هو السبب لا يستلزم أن تكون الآية نازلة في تحليله ، فإن الآيات النازلة على أسباب تأتي تارة بتحليل هذا ، وتارة بتحريمه . وقد روي عن ابن عباس : أنه فسّر هذه الآية بغير ما تقدّم ، فقال : معناها : إن شئتم ، فاعزلوا ، وإن شئتم ، فلا تعزلوا ، روى ذلك عنه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والضياء في المختارة . وروى نحو ذلك عن ابن عمر . أخرجه ابن أبي شيبة ، وعن سعيد بن المسيب ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن جرير .

وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)

العرضة : النصبة ، قاله الجوهري . يقال جعلت فلاناً عرضة لكذا : أي : نصبة . وقيل : العرضة من الشدة ، والقوّة ، ومنه قولهم للمرأة : عرضة للنكاح : إذا صلحت له ، وقويت عليه ، ولفلان عرضة : أي : قوّة ، ومنه قول كعب بن زهير :
مِنْ كُلَّ نَضَّاحِة الدِّفرى إذا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُها طَامِسُ الأعْلامِ مَجْهُولُ
ومثله قول أوس بن حجر :
وأدْمَاءُ مِثل العجل يوماً عَرَضتُها ... لِرَحْلي وفيها هِزَّة وَتَقَاذُفُ
ويطلق العرضة على الهمة ، ومنه قول الشاعر :
هم الأنصار عرضتها اللقاء ... أي : همتها ، ويقال : فلان عرضة للناس لا يزالون يقعون فيه ، فعلى المعنى الذي ذكره الجوهري أن العرضة : النصبة كالقبضة ، والغرفة يكون ذلك اسماً لما تعرضه دون الشيء ، أي تجعله حاجزاً له ، ومانعاً منه ، أي : لا تجعلوا الله حاجزاً ، ومانعاً لما حلفتم عليه ، وذلك؛ لأن الرجل كان يحلف على بعض الخير من صلة رحم ، أو إحسان إلى الغير ، أو إصلاح بين الناس بأن لا يفعل ذلك ، ثم يمتنع من فعله معللاً لذلك الامتناع بأنه قد حلف أن لا يفعله ، وهذا المعنى هو الذي ذكره الجمهور في تفسير الآية ، ينهاهم الله أن يجعلوه عرضة لأيمانهم ، أي : حاجزاً لما حلفوا عليه ، ومانعاً منه ، وسمى المحلوف عليه يميناً لتلبسه باليمين ، وعلى هذا يكون قوله : { أَن تَبَرُّواْ } عطف بيان { لأيمانكم } أي : لا تجعلوا الله مانعاً للأيمان التي هي بركم ، وتقواكم ، وإصلاحكم بين الناس ، ويتعلق قوله : { لايمانكم } بقوله : { لا تجعلوا } أي : لا تجعلوا الله لأيمانكم مانعاً ، وحاجزاً ، ويجوز أن يتعلق بعرضة ، أي : لا تجعلوه شيئاً معترضاً بينكم ، وبين البرّ ، وما بعده ، وعلى المعنى الثاني ، وهو أن العرضة : الشدة ، والقوّة يكون معنى الآية : لا تجعلوا اليمين بالله قوة لأنفسكم ، وعدّة في الامتناع من الخير ، ولا يصح تفسير الآية على المعنى الثالث ، وهو : تفسير العرضة بالهمة ، وأما على المعنى الرابع ، وهو من قولهم : فلان لا يزال عرضة للناس ، أي : يقعون فيه ، فيكون معنى الآية عليه : ولا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم ، فتبتذلونه بكثرة الحلف به ، ومنه { واحفظوا أيمانكم } [ المائدة : 89 ] وقد ذمّ الله المكثرين للحلف فقال : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } [ القلم : 10 ] وقد كانت العرب تتمادح بقلة الأيمان حتى قال قائلهم :
قَلِيلُ الألايَا حَافِظُ ليمينه ... وإن سبقت منه الألية بَرّت
وعلى هذا ، فيكون قوله : { أَن تَبَرُّواْ } علة للنهي ، أي : لا تجعلوا الله معرضاً لأيمانكم إرادة أن تبروا ، وتتقوا ، وتصلحوا؛ لأن من يكثر الحلف بالله يجتريء على الحنث ، ويفجر في يمينه . وقد قيل في تفسير الآية أقوال هي راجعة إلى هذه الوجوه التي ذكرناها ، فمن ذلك قول الزجاج : معنى الآية : أن يكون الرجل إذا طلب منه الفعل الذي فيه خير اعتلّ بالله ، فقال عليَّ يمين ، وهو لم يحلف .

وقيل : معناها : لا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البرّ ، والتقوى ، والإصلاح . وقيل : معناها : إذا حلفتم على أن لا تصلوا أرحامكم ، ولا تتصدقوا ، ولا تصلحوا ، وعلى أشباه ذلك من أبواب البر ، فكفروا عن اليمين ، وقد قيل : إن قوله : { أَن تَبَرُّواْ } مبتدأ خبره محذوف أي : البرّ ، والتقوى ، والإصلاح أولى . قاله الزجاج ، وقيل : إنه منصوب أي : لا تمنعكم اليمين بالله البرّ ، والتقوى ، والإصلاح . وروى ذلك عن الزجاج أيضاً . وقيل : معناه : أن لا تبروا ، فحذف لا ، كقوله : { يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] أي : لا تضلوا . قاله ابن جرير الطبري . وقيل : هو في موضع جرّ على قول الخليل ، والكسائي ، والتقدير : في { أَن تَبَرُّواْ } وقوله : { سَمِيعُ } أي : لأقوال العباد : { عَلِيمٌ } بما يصدر منهم . واللغو : مصدر لغا يلغو لغواً ، ولغى يلغي لغياً : إذا أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام ، أو بما لا خير فيه ، وهو الساقط الذي لا يعتدّ به ، فاللغو من اليمين : هو الساقط الذي لا يعتدّ به ، ومنه اللغو في الدية ، وهو الساقط الذي لا يعتد به من أولاد الإبل ، قال جرير :
ويذهب بينها المرى لغوا كما ... ألغيت في الدية الحوارا
وقال آخر :
وَرَب أسْرَاب حَجيجٍ كُظَّم ... عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
أي : لا يتكلمن بالساقط والرفث ، ومعنى الآية : لا يعاقبكم الله بالساقط من أيمانكم ، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم ، أي : اقترفته بالقصد إليه ، وهي اليمين المعقودة ، ومثله قوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] ومثله قول الشاعر :
ولستَ بمأخوذ بِلَغوِ يقولُه ... إذا لم تَعَمدَّ عاقداتِ العزائِمِ
وقد اختلف أهل العلم في تفسير اللغو ، فذهب ابن عباس ، وعائشة ، وجمهور العلماء أيضاً : أنه قول الرجل : لا والله ، وبلى والله في حديثه ، وكلامه ، غير معتقد لليمين ، ولا مريد لها . قال المروزي : هذا معنى لغو اليمين الذي اتفق عليه عامة العلماء . وقال أبو هريرة ، وجماعة من السلف : هو أن يحلف الرجل على الشيء لا يظن إلا أنه إياه فإذا ليس هو ما ظنه ، وإلى هذا ذهبت الحنفية ، والزيدية ، وبه قال مالك في الموطأ . وروي عن ابن عباس : أنه قال : لغو اليمين أن تحلف ، وأنت غضبان ، وبه قال طاوس ، ومكحول . وروى عن مالك ، وقيل : إن اللغو هو يمين المعصية ، قاله سعيد بن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير ، وأخوه عروة كالذي يقسم ليشربنَّ الخمر ، أو ليقطعنَّ الرحم ، وقيل : لغو اليمين : هو دعاء الرجل على نفسه ، كأن يقول : أعمى الله بصره ، أذهب الله ماله ، هو يهودي ، هو مشرك . قاله زيد بن أسلم . وقال مجاهد : لغو اليمين أن يتبايع الرجلان ، فيقول أحدهما : والله لا أبيعك بكذا ، ويقول الآخر : والله لا أشتريه بكذا .

وقال الضحاك : لغو اليمين : هي المكفرة . أي : إذا كفرت سقطت ، وصارت لغواً . والراجح القول الأول لمطابقته للمعنى اللغوي ، ولدلالة الأدلة عليه كما سيأتي . وقوله : { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي : حيث لم يؤاخذكم بما تقولونه بألسنتكم من دون عمد أو قصد ، وآخذكم بما تعمدته قلوبكم ، وتكلمت به ألسنتكم ، وتلك هي اليمين المعقودة المقصودة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم } يقول : لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ، ولكن كفر عن يمينك ، واصنع الخير . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عنه هو : أن يحلف الرجل أن لا يكلِّم قرابته أولا يتصدق ، ويكون بين رجلين مغاضبة ، فيحلف لا يصلح بينهما ، ويقول قد حلفت ، قال : يكفر عن يمينه . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء قال : جاء رجل إلى عائشة ، فقال : إني نذرت إن كلمت فلاناً ، فإن كل مملوك لي عتيق ، وكل مال لي ستر للبيت ، فقالت : لا تجعل مملوكيك عتقاء ، ولا تجعل مالك ستراً للبيت ، فإن الله يقول : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم } فكفر عن يمينك ، وقد ورد أن هذه الآية نزلت في أبي بكر في شأن مسطح . رواه ابن جرير ، عن ابن جريج ، والقصة مشهورة ،
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة في الصحيحين ، وغيرهما؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها ، فليأت الذي هو خير ، وليكفر عن يمينه » وثبت أيضاً في الصحيحين ، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والله إن شاء الله لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير ، وكفَّرتُ عن يميني » وأخرج ابن ماجه ، وابن جرير عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من حلف على يمين قطيعة رحم ، أو معصية ، فبرُّه أن يحنث فيها ، ويرجع عن يمينه » وأخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا نذَر ، ولا يمينَ ، فيما لا يملك ابن آدم ، ولا في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم » وأخرج أبو داود ، والحاكم ، وصححه عن عمر مرفوعاً مثله . وأخرج النسائي ، وابن ماجه ، عن مالك الجُشَمي قال : قلت يا رسول الله يأتيني ابن عمي ، فأحلف أن لا أعطيه ، ولا أصله ، فقال : « كفر عن يمينك » . وأخرج مالك في الموطأ ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وغيرهم عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم } في قول الرجل لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله .

وأخرج أبو داود ، وابن جرير ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي من طريق عطاء بن أبي رباح؛ أنه سئل عن اللغو في اليمين ، فقال : قالت عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « هو كلام الرجل في بيته كلا والله ، وبلى والله » وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عائشة ، أنها قالت في تفسيره الآية : إن اللغو هو القوم يتدارؤون في الأمر يقول هذا : لا والله ، ويقول هذا : كلا والله ، يتدارون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عائشة أنها قالت : هو اللغو في المزاحة والهزل ، وهو : قول الرجل لا والله ، وبلى والله ، فذاك لا كفارة فيه ، وإنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ، ثم لا يفعله . وأخرج ابن جرير ، عن الحسن : قال : مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون ، ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه ، فرمى رجل من القوم ، فقال : أصبت والله ، وأخطأت والله ، فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ، فقال : « كلا ، أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ، ولا عقوبة » . وقد روى أبو الشيخ عن عائشة ، وابن عباس ، وابن عمر ، وابن عمرو أن اللغو لا والله ، وبلى والله . أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن ابن عباس؛ أنه قال : لغو اليمين أن تحلف ، وأنت غضبان . وأخرج ابن جرير ، عن أبي هريرة قال : لغو اليمين حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه ، فإذا هو غير ذلك . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي عن عائشة نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أنها أن يحلف الرجل على تحريم ما أحلّ الله له . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : هو الرجل يحلف على المعصية ، وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن النخعي : هو أن يحلف الرجل على الشيء ثم ينسى . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قوله : { والله غَفُورٌ } يعني إذ تجاوز عن اليمين التي حلف عليها { حَلِيمٌ } إذ لم يجعل فيها الكفارة .

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

قوله : { يُؤْلُونَ } أي : يحلفون : والمصدر إيلاء ، وألية ، وألوة ، وقرأ ابن عباس : «الذين آلوا» يقال آلى يؤالي إيلاً ، ويأتلي بالتاء ائتلاء : أي : حلف ، ومنه : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } [ النور : 22 ] ومنه : قليل الألايا حافظ ليمينه البيت .
وقد اختلف أهل العلم في الإيلاء ، فقال الجمهور : إن الإيلاء هو أن يحلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر ، فإن حلف على أربعة أشهر ، فما دونها لم يكن مولياً ، وكانت عندهم يميناً محضاً ، وبهذا قال مالك والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور . وقال الثوري ، والكوفيون : الإيلاء أن يحلف على أربعة أشهر فصاعداً ، وهو قول عطاء . وروي عن ابن عباس : أنه لا يكون مولياً حتى يحلف أن لا يمسها أبداً . وقالت طائفة : إذا حلف أن لا يقرب امرأته يوماً ، أو أقل ، أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء . وبه قال ابن مسعود ، والنخعي ، وابن أبي ليلى ، والحكم ، وحماد بن أبي سليمان ، وقتادة ، وإسحاق . قال ابن المنذر : وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم .
قوله : { مِن نّسَائِهِمْ } يشمل الحرائر ، والإماء ، إذا كنّ زوجات ، وكذلك يدخل تحت قوله : { لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } العبد إذا حلف من زوجته ، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور قالوا : وإيلاؤه كالحر؛ وقال مالك ، والزهري ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، وإسحاق : إن أجله شهران . وقال الشعبي : إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة . والتربص : التأني والتأخر ، قال الشاعر :
تَرَبَّصْ بِها رَيْبَ المنُون لَعَلَّها ... تطلَّق يَوْماً أو يموتُ حَلِيلُها
وقت الله سبحانه بهذه المدة دفعاً للضرار عن الزوجة ، وقد كان أهل الجاهلية يؤلون السنة ، والسنتين ، وأكثر من ذلك ، يقصدون بذلك ضرار النساء ، وقد قيل : إن الأربعة الأشهر هي التي لا تطيق المرأة الصبر عن زوجها زيادة عليها . قوله : { فَإِن فَآءوا } أي : رجعوا ومنه { حتى تَفِىء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ] أي : ترجع ، ومنه قيل : للظل بعد الزوال فيء؛ لأنه رجع عن جانب المشرق إلى جانب المغرب ، يقال فاء يفيء فيئة ، وفيوءاً ، وإنه لسريع الفيئة : أي : الرجعة ، ومنه قول الشاعر :
فَفاءَت وَلَمَ تقض الَّذي أقبلَتْ له ... وَمِن حَاجَة الإنسان مَا لَيس قَاضِيا
قال ابن المنذر : وأجمع كل من يحفظ عنه العلم على أن الفيء : الجماع لمن لا عذر له ، فإن كان له عذر مرض أو سجن فهي امرأته ، فإذا زال العذر فأبى الوطء فرّق بينهما إن كانت المدة قد انقضت ، قاله مالك؛ وقالت طائفة : إذا أشهد على فيئته بقلبه في حال العذر أجزأه . وبه قال الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، والأوزاعي ، وأحمد بن حنبل . وقد أوجب الجمهور على المولى إذا فاء بجماع امرأته الكفارة . وقال الحسن ، والنخعي : لا كفارة عليه .

قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } العزم : العقد على الشيء ويقال عزم يعزم عزماً وعزيمة وعزماناً واعتزم اعتزاماً ، فمعنى عزموا الطلاق : عقدوا عليه قلوبهم . والطلاق : من طلقت المرأة تطلق - كنصر ينصر طلاقاً فهي طالق وطالقة أيضاً ، ويجوز طلقت بضم اللام ، مثل عظم يعظم ، وأنكره الأخفش . والطلاق : حلّ عقد النكاح ، وفي ذلك دليل على أنها لا تطلق بمضيّ أربعة أشهر كما قال مالك ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة ، وأيضاً ، فإنه قال : { سَمِيعُ } ، وسميع يقتضي مسموعاً بعد المضيّ . وقال أبو حنيفة : { سَمِيعُ } لإيلائه { عَلِيمٌ } بعزمه الذي دل عليه مضيّ أربعة أشهر .
واعلم أن أهل كل مذهب قد فسروا هذه الآية بما يطابق مذهبهم ، وتكلفوا بما لم يدل عليه اللفظ ، ولا دليل آخر ، ومعناها ظاهر واضح ، وهو أن الله جعل الأجل لمن يوليَ - أي يحلف من امرأته أربعة أشهر . ثم قال مخبراً لعباده بحكم هذا المُولى بعد هذه المدّة : { فَإِن فَآءوا } رجعوا إلى بقاء الزوجية ، واستدامة النكاح { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : لا يؤاخذهم بتلك اليمين بل يغفر لهم ، ويرحمهم { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } أي : وقع العزم منهم عليه ، والقصد له { فَإِنَّ الله سَمِيعٌ } لذلك منهم { عَلِيمٌ } به ، فهذا معنى الآية الذي لا شك فيه ، ولا شبهة ، فمن حلف أن لا يطأ امرأته ، ولم يقيد بمدّة ، أو قيد بزيادة على أربعة أشهر كان علينا إمهاله أربعة أشهر ، فإذا مضت ، فهو بالخيار ، إما رجع إلى نكاح امرأته ، وكانت زوجته بعد مضيّ المدة كما كانت زوجته قبلها ، أو طلقها ، وكان له حكم المطلق لامرأته ابتداء ، وأما إذا وقت بدون أربعة أشهر ، فإن أراد أن يبرّ في يمينه اعتزل امرأته التي حلف منها حتى تنقضي المدة ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً ، فإنه اعتزلهنّ حتى مضى الشهر ، وإن أراد أن يطأ امرأته قبل مضي تلك المدّة التي هي دون أربعة أشهر حنث في يمينه ، ولزمته الكفارة ، وكان ممتثلاً لما صح عنه من قوله : « من حلف على شيء ، فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير منه ، وليكفر عن يمينه »
وقد أخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : الإيلاء أن يحلف أنه لا يجامعها أبداً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه في قوله : { لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ } قال : هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها ، فتتربص أربعة أشهر ، فإن هو نكحها كفَّر عن يمينه ، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها خيَّره السلطان إما أن يفىء ، وإما أن يعزم ، فيطلق كما قال الله سبحانه .

وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والطبراني ، والبيهقي عنه؛ قال : كان إيلاء الجاهلية السنة ، والسنتين ، وأكثر من ذلك ، فوقت الله لهم أربعة أشهر ، فإن كان إيلاؤه أقلّ من أربعة أشهر ، فليس بإيلاء . وأخرج عبد بن حميد ، عن علي قال : الإيلاء إيلاءان : إيلاء في الغضب ، وإيلاء في الرضا ، فأما الإيلاء في الغضب : فإذا مضت أربعة أشهر ، فقد بانت منه ، وأما ما كان في الرضا ، فلا يؤاخذ به ، وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس قال : لا إيلاء إلا بغضب . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وابن المنذر عن أبيّ بن كعب؛ أنه قرأ : «فإن فاءوا فيهنّ فإن الله غفور رحيم» .
وأخرج عبد بن حميد ، عن علي قال : الفيء : الجماع . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طرق ، عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن مسعود مثله . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، قال : الفيء الإشهاد ، وأخرج عبد الرزاق عنه قال : الفيء الجماع ، فإن كان له عذر أجزأه أن يفيء بلسانه . أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود قال : إذا حال بينه ، وبينها مرض ، أو سفر ، أو حبس ، أو شيء يعذر به ، فإشهاده فيء . وللسلف في الفيء أقوال مختلفة ، فينبغي الرجوع إلى معنى الفيء لغة ، وقد بيناه . وأخرج ابن جرير ، عن عمر بن الخطاب : أنه قال في الإيلاء : إذا مضت أربعة أشهر لا شيء عليه حتى يوقف ، فيطلق ، أو يمسك . وأخرج الشافعي ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن عثمان بن عفان نحوه . وأخرج مالك ، والشافعي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي عن عليّ نحوه . وأخرج البخاري ، وعبد بن حميد ، عن ابن عمر نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي ، عن عائشة نحوه .
وأخرج ابن جرير ، والدارقطني ، والبيهقي من طرق سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه قال : سألت اثني عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يولي من امرأته ، فكلهم يقول : ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر ، فتوقف ، فإن فاء ، وإلا طلق . وأخرج البيهقي ، عن ثابت بن عبيدة مولى زيد بن ثابت ، عن اثني عشر رجلاً من الصحابة نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن عمر ، وعثمان ، وعليّ ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن عباس قالوا : الإيلاء تطليقة بائنة إذا مرت أربعة أشهر ، قيل أن يفيء ، فهي أملك بنفسها ، وللصحابة ، والتابعين في هذا أقوال مختلفة متناقضة ، والمتعين الرجوع إلى ما في الآية الكريمة ، وهو ما عرفناك ، فاشدد عليه يديك . وأخرج عبد الرزاق عن عمر قال : إيلاء العبد شهران . وأخرج مالك عن ابن شهاب قال : إيلاء العبد نحو إيلاء الحرّ .

وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

قوله : { والمطلقات } يدخل تحت عمومه المطلقة قبل الدخول ، ثم خصص بقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] فوجب بناء العام على الخاص ، وخرجت من هذا العموم المطلَّقة قبل الدخول ، وكذلك خرجت الحامل بقوله تعالى : { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] وكذلك خرجت الآيسة بقوله تعالى : { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] والتربص : الانتظار ، قيل : هو خبر في معنى الأمر أي : ليتربصن قصد بإخراجه مخرج الخبر تأكيد وقوعه ، وزاده تأكيداً وقوعه خبراً للمبتدأ . قال ابن العربي : وهذا باطل ، وإنما هو : خبر عن حكم الشرع ، فإن وجدت مطلقة لا تتربص ، فليس ذلك من الشرع ، ولا يلزم من ذلك ، وقوع خبر الله سبحانه على خلاف مخبره . والقروء : جمع قرء . وروي عن نافع أنه قرأ : «قرو» بتشديد الواو . وقرأه الجمهور بالهمز . وقرأ الحسن بفتح القاف ، وسكون الراء ، والتنوين . قال الأصمعي : الواحد قرء بضم القاف . وقال أبو زيد بالفتح : وكلاهما قال : أقرأت المرأة : حاضت ، وأقرأت : ظهرت . وقال الأخفش : أقرأت المرأة : إذا صارت صاحبة حيض ، فإذا حاضت قلت : قرأت بلا ألف . وقال أبو عمرو بن العلاء من العرب من يسمي الحيض قرءاً ، ومنهم من يسمي الطهر قرءاً ، ومنهم من يجمعهما جميعاً ، فيسمي الحيض مع الطهر قرءاً ، وينبغي أن يعلم أن القرء في الأصل : الوقت؛ يقال : هبت الرياح لقرئها ، ولقارئها : أي : لوقتها ، ومنه قول الشاعر :
كَرهتُ العَقْر عقربني شَليل ... إذَا هَبَّتْ لقارئها الرَّياحُ
فيقال للحيض : قرء ، وللطهر : قرء؛ لأن كل واحد منهما له وقت معلوم . وقد أطلقته العرب تارة على الأطهار ، وتارة على الحيض ، فمن إطلاقه على الأطهار قول الأعشى :
أفِي كلٍ عَامٍ أنتَ جَاشِمُ غَزْوةٍ ... تَشُدّ لأقصَاهَا عزيم عَزَائكا
موِّرثة مَالاً وفي الحي رفعة ... لِما ضَاعَ فِيها من قُرُوءِ نِسائكا
أي أطهارهن ، ومن إطلاقه على الحيض قول الشاعر :
يَا ربَّ ذي حِنْق عليّ قَارضٍ ... له قُرُوّ كقُروُّ الحائِض
يعني أنه طعنه ، فكان له دم كدم الحائض . وقال قوم : هو مأخوذ من قري الماء في الحوض ، وهو جمعه ، ومنه القرآن لاجتماع المعاني فيه . قال عمرو بن كلثوم :
ذِراعَي عَيْطَلٍ أدْمَاء بِكرٍ ... هِجَانِ اللونِ لِم تَقْرَأ جنينا
أي : لم تجمعه في بطنها . والحاصل أن القروء في لغة العرب مشترك بين الحيض ، والطهر ، ولأجل هذا الاشتراك ، اختلف أهل العلم في تعيين ما هو المراد بالقروء المذكورة في الآية ، فقال أهل الكوفة : هي الحيض ، وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبي موسى ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وعكرمة ، والسدي ، وأحمد بن حنبل . وقال أهل الحجاز : هي : الأطهار ، وهو قول عائشة ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، والزهري ، وأبان بن عثمان ، والشافعي .

واعلم أنه قد وقع الاتفاق بينهم على أن القرء الوقت ، فصار معنى الآية عند الجميع : والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة أوقات ، فهي على هذا مفسرة في العدد مجملة في المعدود ، فوجب طلب البيان للمعدود من غيرها ، فأهل القول الأول استدلوا على أن المراد في هذه الآية الحيض بقوله صلى الله عليه وسلم : « دعي الصلاة أيام أقرائك » وبقوله صلى الله عليه وسلم : « طلاق الأمة تطليقتان ، وعدّتها حيضتان » وبأن المقصود من العدّة استبراء الرحم ، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر . واستدل أهل القول الثاني بقوله تعالى : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] ولا خلاف أنه يؤمر بالطلاق ، وقت الطهر ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لعمر : « مُرْه فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء » وذلك؛ لأن زمن الطهر هو الذي تطلق فيه النساء . قال أبو بكر بن عبد الرحمن : ما أدركنا أحداً من فقهائنا إلا يقول بأن الأقراء هي : الأطهار ، فإذا طلق الرجل في طهر لم يطأ فيه اعتدت بما بقي منه ، ولو ساعة ، ولو لحظة ، ثم استقبلت طهراً ثانياً بعد حيضة ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة خرجت من العدّة . انتهى .
وعندي أن لا حجة في بعض ما احتج به أهل القولين جميعاً . أما قول الأولين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « دعي الصلاة أيام أقرائك » فغاية ما في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأقراء على الحيض ، ولا نزاع في جواز ذلك كما هو شأن اللفظ المشترك ، فإنه يطلق تارة على هذا ، وتارة على هذا ، وإنما النزاع في الأقراء المذكورة في هذه الآية ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأمة : « وعدّتها حيضتان » فهو حديث أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والحاكم وصححه ، من حديث عائشة مرفوعاً . وأخرجه ابن ماجه ، والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً أيضاً ، ودلالته على ما قاله الأولون قوية . وأما قولهم : إن المقصود من العدّة استبراء الرحم ، وهو يحصل بالحيض لا بالطهر ، فيجاب عنه بأنه إنما يتم لو لم يكن في هذه العدّة شيء من الحيض على فرض تفسير الأقراء بالأطهار ، وليس كذلك بل هي مشتملة على الحيض ، كما هي مشتملة على الأطهار ، وأما استدلال أهل القول الثاني بقوله تعالى : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] فيجاب عنه بأن التنازع في اللام في قوله : { لِعِدَّتِهِنَّ } يصير ذلك محتملاً ، ولا تقوم الحجة بمحتمل . وأما استدلالهم بقوله لعمر : « مُرْه فليراجعها » الحديث ، فهو في الصحيح ، ودلالته قوية على ما ذهبوا إليه ، ويمكن أن يقال إنها تنقضي العدّة بثلاثة أطهار ، أو بثلاث حِيَض ، ولا مانع من ذلك ، فقد جوز جمع من أهل العلم حمل المشترك على معنييه ، وبذلك يجمع بين الأدلة ، ويرتفع الخلاف ، ويندفع النزاع .

وقد استشكل الزمخشري تمييز الثلاثة بقوله : قروء ، وهي جمع كثرة دون أقراء التي هي من جموع القلة . وأجاب بأنهم يتسعون في ذلك ، فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية .
قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } قيل : المراد به : الحيض ، وقيل : الحمل . وقيل كلاهما ، ووجه النهي عن الكتمان ما فيه في بعض الأحوال من الإضرار بالزوج ، وإذهاب حقه؛ فإذا قالت المرأة : حضت ، وهي لم تحض ذهبت بحقه من الارتجاع؛ وإذا قالت لم تحض ، وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه ، فاضرّت به ، وكذلك الحمل ربما تكتمه التقطع حقه من الارتجاع ، وربما تدّعيه لتوجب عليه النفقة ، ونحو ذلك من المقاصد المستلزمة للإضرار بالزوج . وقد اختلفت الأقوال في المدّة التي تصدَّق فيها المرأة إذا ادّعت انقضاء عدّتها . وقوله : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الأخر } فيه ، وعيد شديد للكاتمات ، وبيان أن من كتمت ذلك منهنّ لم تستحق اسم الإيمان . والبعولة جمع بعل ، وهو الزوج ، سمي بعلاً لعلوّه على الزوجة؛ لأنهم يطلقونه على الرب ، ومنه قوله : تعالى : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } [ الصافات : 125 ] أي : رباً . ويقال : بعول ، وبعولة ، كما يقال في جمع الذكر ذكور ، وذكورة ، وهذه التاء لتأنيث الجمع ، وهو شاذ لا يقاس عليه بل يعتبر فيه السماع ، والبعولة أيضاً تكون مصدراً من بعل الرجل يبعل ، مثل منع يمنع . أي : صار بعلاً .
وقوله : { أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } أي : برجعتهنّ ، وذلك يختص بمن كان يجوز للزوج مراجعتها ، فيكون في حكم التخصيص لعموم قوله : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } لأنه يعم المثلثات ، وغيرهنّ . وقوله : { فِي ذلك } يعني في مدة التربص ، فإن انقضت مدّة التربص ، فهي أحق بنفسها ، ولا تحلّ له إلا بنكاح مستأنف بوليّ ، وشهود ، ومهر جديد ، ولا خلاف في ذلك ، والرجعة تكون باللفظ ، وتكون بالوطء ، ولا يلزم المراجع شيء من أحكام النكاح بلا خلاف . وقوله : { إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا } أي : بالمراجعة ، أي : إصلاح حاله معها ، وحالها معه ، فإن قصد الإضرار بها ، فهي محرّمة لقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ } قيل : وإذا قصد بالرجعة الضرار ، فهي صحيحة ، وإن ارتكب بذلك محرّماً ، وظلم نفسه ، وعلى هذا ، فيكون الشرط المذكور في الآية للحث للأزواج على قصد الصلاح ، والزجر لهم عن قصد الضرار ، وليس المراد به جعل قصد الإصلاح شرطاً لصحة الرجعة . قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف } أي : لهنّ من حقوق الزوجية على الرجال بمثل ما للرجال عليهنّ . فيحسن عشرتها بما هو معروف من عادة الناس أنهم يفعلونه لنسائهم . وهي : كذلك تحسن عشرة زوجها بما هو معروف من عادة النساء أنهنّ يفعلنه؛ لأوزاجهنّ من طاعة ، وتزين ، وتحبب ، ونحو ذلك .

قوله : { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي : منزلة ليست لهنّ ، وهو قيامه عليها في الإنفاق ، وكونه من أهل الجهاد ، والعقل ، والقوّة ، وله من الميراث أكثر مما لها ، وكونه يجب عليها امتثال أمره ، والوقوف عند رضاه ، ولو لم يكن من فضيلة الرجال على النساء إلا كونهنّ خلقن من الرجال لما ثبت أن حوّاء خلقت من ضلع آدم .
وقد أخرج أبو داود ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طلِّقْتُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن للمطلقة عدّة ، فأنزل الله حين طلقت العدّة للطلاق ، فقال : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ } الآية . وأخرج أبو داود ، والنسائي ، وابن المنذر عن ابن عباس : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء } ثم قال : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ } [ الطلاق : 4 ] فنسخ ، وقال : { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [ الأحزاب : 49 ] . وأخرج مالك ، والشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني ، والبيهقي من طرق ، عن عائشة؛ أنها قالت : الأقراء : الأطهار . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت مثله . وأخرج المذكورون ، عن عمرو بن دينار ، قال : الأقراء : الحيض عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج البيهقي ، وابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { ثلاثة قُرُوء } قال : ثلاث حيض .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } قال : كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر ، فنهاهنّ الله عن ذلك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عمر في الآية قال : الحمل ، والحيض ، وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ } يقول : إذا طلق الرجل امرأته تطليقة ، أو تطليقتين ، وهي حامل ، فهو أحقّ برجعتها ما لم تضع حملها ، وهو قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن مجاهد في قوله : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك } قال : في العدّة . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة مثله ، وزاد ما لم يطلقها ثلاثاً . وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ } قال : إذا أطعن الله ، وأطعن أزواجهنّ ، فعليه أن يحسن صحبتها ، ويكف عنها أذاه ، وينفق عليها من سعته .
وقد أخرج أهل السنن عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

" ألا إن لكم على نسائكم حقاً ، ولنسائكم عليكم حقاً ، أما حقكم على نسائكم أن لا يوطئن ، فُرُشكم من تكرهون ، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهون ، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهنّ ، وطعامهنّ " وصححه الترمذي . وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري : «أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما حق المرأة على الزوج؟ قال : " أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تهجر إلا في البيت " وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن مجاهد في قوله : { وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } قال : فضل ما فضله الله به عليها من الجهاد ، وفضل ميراثه على ميراثها ، وكل ما فضل به عليها . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن أبي مالك في الآية قال : يطلقها ، وليس لها من الأمر شيء . وأخرجا عن زيد بن أسلم قال : الإمارة .

الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

المراد بالطلاق المذكور : هو : الرجعي بدليل ما تقدّم في الآية الأولى : أي : الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة للأزواج هو مرتان ، أي : الطلقة الأولى ، والثانية ، إذ لا رجعة بعد الثالثة ، وإنما قال سبحانه : { مَرَّتَانِ } ولم يقل طلقتان إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الطلاق مرة بعد مرة ، لا طلقتان دفعة واحدة ، كذا قال جماعة من المفسرين ، ولما لم يكن بعد الطلقة الثانية إلا أحد أمرين ، إما إيقاع الثالثة التي بها تبين الزوجة ، أو الإمساك لها ، واستدامة نكاحها ، وعدم إيقاع الثالثة عليها قال سبحانه : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } أي : فإمساك بعد الرجعة لمن طلقها زوجها طلقتين بمعروف أي : بما هو معروف عند الناس من حسن العشرة { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } أي : بإيقاع طلقة ثالثة عليها من دون ضرار لها . وقيل : المراد : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } أي : برجعة بعد الطلقة الثانية { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } أي : بترك الرجعة بعد الثانية حتى تنقضي عدّتها . والأول أظهر . وقوله : { الطلاق } مبتدأ بتقدير مضاف أي : عدد الطلاق الذي تثبت فيه الرجعة مرتان . وقد اختلف أهل العلم في إرسال الثلاث دفعة واحدة هل يقع ثلاثاً ، أو واحدة فقط؟ فذهب إلى الأوّل الجمهور ، وذهب إلى الثاني مَنْ عداهم ، وهو الحق . وقد قررته في مؤلفاتي تقريراً بالغاً ، وأفردته برسالة مستقلة .
قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } الخطاب للأزواج ، أي : لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا مما دفعوه إلى نسائهم من المهر شيئاً على وجه المضارة لهنّ ، وتنكير { شيئاً } للتحقير : أي : شيئاً نزراً فضلاً عن الكثير ، وخص ما دفعوه إليهنّ بعدم حلّ الأخذ منه مع كونه لا يحلّ للأزواج أن يأخذوا شيئاً من أموالهنّ التي يملكنها من غير المهر لكون ذلك ، هو الذي تتعلق به نفس الزوج ، وتتطلع لأخذه دون ما عداه مما هو في ملكها ، على أنه إذا كان أخذ ما دفعه إليها لا يحلّ له كان ما عداه ممنوعاً منه بالأولى . وقيل : الخطاب في قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ } للأئمة ، والحكام ليطابق قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } فإن الخطاب فيه للأئمة ، والحكام ، وعلى هذا يكون إسناد الأخذ إليهم لكونهم الآمرين بذلك . والأول أولى لقوله : { مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ } فإن إسناده إلى غير الأزواج بعيد جداً؛ لأن إيتاء الأزواج لم يكن عن أمرهم . وقيل : إن الثاني أولى لئلا يتشوّش النظم . قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَا } أي : لا يجوز لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئاً إلا أن يخافا { يُقِيمَا حُدُودَ الله } أي : عدم إقامة حدود الله التي حدّها للزوجينّ ، وأوجب عليهما الوفاء بها من حسن العشرة والطاعة ، فإن خافا ذلك { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } أي : لا جناح على الرجل في الأخذ ، وعلى المرأة في الإعطاء بأن تفتدي نفسها من ذلك النكاح ببذل شيء من المال يرضى به الزوج ، فيطلقها لأجله ، وهذا هو الخلع ، وقد ذهب الجمهور إلى جواز ذلك للزوج ، وأنه يحلّ له الأخذ مع ذلك الخوف ، وهو الذي صرّح به القرآن .

وحكى ابن المنذر ، عن بعض أهل العلم أنه لا يحلّ له ما أخذ ، ولا يجبر على ردّه ، وهذا في غاية السقوط . وقرأ حمزة : «إلا أن يخافا» على البناء للمجهول ، والفاعل محذوف ، وهو الأئمة ، والحكام واختاره أبو عبيد قال : لقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ } فجعل الخوف لغير الزوجين . وقد احتج بذلك من جعل الخلع إلى السلطان ، وهو سعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين . وقد ضعف النحاس اختيار أبي عبيد المذكور .
وقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ ألاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } أي : إذا خاف الأئمة ، والحكام ، أو المتوسطون بين الزوجين ، وإن لم يكونوا أئمة ، وحكاماً عدم إقامة حدود الله من الزوجين ، وهي : ما أوجبه عليهما كما سلف . وقد حكى عن بكر بن عبد الله المزني : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة النساء { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 20 ] وهو قول خارج عن الإجماع ، ولا تنافي بين الاثنين . وقد اختلف أهل العلم إذا طلب الزوج من المرأة زيادة على ما دفعه إليها من المهر ، وما يتبعه ، ورضيت بذلك المرأة هل يجوز أم لا؟ وظاهر القرآن الجواز لعدم تقييده بمقدار معين ، وبذا قال مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وروي مثل ذلك عن جماعة من الصحابة ، والتابعين ، وقال طاوس ، وعطاء ، والأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق : إنه لا يجوز ، وسيأتي ما ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ الله } أي : أحكام النكاح ، والفراق المذكورة هي : حدود الله التي أمرتم بامتثالها ، فلا تعتدوها بالمخالفة لها ، فتستحقوا ما ذكره الله من التسجيل على فاعل ذلك بأنه ظالم .
قوله تعالى : { فَإِن طَلَّقَهَا } أي : الطلقة الثالثة التي ذكرها سبحانه بقوله : { أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } أي : فإن وقع منه ذلك ، فقد حرمت عليه بالتثليث { فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي : حتى تتزوج بزوج آخر . وقد أخذ بظاهر الآية سعيد بن المسيب ، ومن وافقه قالوا : يكفي مجرد العقد؛ لأنه المراد بقوله : { حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وذهب الجمهور من السلف ، والخلف إلى أنه لا بدّ مع العقد من الوطء لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من اعتبار ذلك ، وهو زيادة يتعين قبولها ، ولعله لم يبلغ سعيد بن المسيب ، ومن تابعه . وفي الآية دليل على أنه لا بد من أن يكون ذلك نكاحاً شرعياً مقصوداً لذاته لا نكاحاً غير مقصود لذاته ، بل حيلة للتحليل ، وذريعة إلى ردها إلى الزوج الأوّل ، فإن ذلك حرام للأدلة الواردة في ذمه وذمّ فاعله ، وأنه التيس المستعار الذي لعنه الشارع ، ولعن من اتخذه لذلك .

قوله : { فَإِن طَلَّقَهَا } أي : الزوج الثاني : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي : الزوج الأول والمرأة { أَن يَتَرَاجَعَا } أي : يرجع كل واحد منهما لصاحبه . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الحرّ إذا طلق زوجته ثلاثاً ، ثم انقضت عدّتها ، ونكحت زوجاً ، ودخل بها ، ثم فارقها ، وانقضت عدّتها ، ثم نكحها الزوج الأوّل ، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات . قوله : { إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } أي : حقوق الزوجية الواجبة لكل منهما على الآخر ، وأما إذا لم يحصل ظن ذلك بأن يعلما ، أو أحدهما عدم الإقامة لحدود الله ، أو تردداً ، أو أحدهما ، ولم يحصل لهما الظنّ ، فلا يجوز الدخول في هذا النكاح؛ لأنه مظنة للمعصية لله ، والوقوع فيما حرّمه على الزوجين . وقوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } إشارة إلى الأحكام المذكورة ، كما سلف ، وخص الذين يعلمون مع عموم الدعوة للعالم ، وغيره ، ووجوب التبليغ لكل فرد؛ لأنهم المنتفعون بالبيان المذكور .
وقد أخرج مالك ، والشافعي ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ، ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له ، وإن طلقها ألف مرة ، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما دنا وقت انقضاء عدتها ارتجعها ، ثم طلقها ، ثم قال : والله لا آويك إليّ ولا تحلين لي أبداً ، فأنزل الله : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذ؛ من كان منهم طلق ، ومن لم يطلق . وأخرج نحوه الترمذي ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة . وأخرج البخاري عنها أنها أتتها امرأة ، فسألتها عن شيء من الطلاق ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { الطلاق مَرَّتَانِ } . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي رزين الأسدي قال : قال رجل : «يا رسول الله أرأيت قول الله الطلاق مرتان؟ فأين الثالثة؟ قال : " التسريح بإحسان الثالثة " وأخرج نحوه ابن مردويه ، والبيهقي عن ابن ابن عباس مرفوعاً . وأخرج عبد بن حميد ، عن مجاهد أنه قال : قال الله للثالثة : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان } وأخرج ابن أبي حاتم ، عن يزيد بن أبي حبيب قال : التسريح في كتاب الله الطلاق .

وأخرج البيهقي ، من طريق السدي ، عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } قالوا : وهو الميقات الذي تكون فيه الرجعة ، فإذا طلق واحدة ، أو اثنتين ، فإما أن يمسك ، ويراجع بمعروف ، وإما أن يسكت عنها حتى تنقضي عدتها ، فتكون أحق بنفسها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في الآية نحوه . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يأكل من مال امرأته الذي نَحَلها ، وغيره لا يرى أن عليه جناحاً ، فأنزل الله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } فلم يصح لهم بعد هذه الآية أخذ شيء من أموالهنّ إلا بحقها ، ثم قال : { إِلاَّ أَن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } وقال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } قال : إلا أن يكون النشوز ، وسوء الخلق من قبلها ، فتدعوك إلى أن تفتدي منك ، فلا جناح عليك فيما افتدت به .
وأخرج مالك ، والشافعي وأحمد ، وأبو داود والنسائي ، والبيهقي من طريق عَمْرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن حبيبة بنت سهل الأنصارى؛ «أنها كانت تحبّ ثابت بن قيس ، وأن رسول الله خرج إلى الصبح ، فوجدها عند بابه في الغلس ، فقال : " من هذه؟ " قالت : أنا حبيبة بنت سهل ، فقال : " ما شأنك؟ " قالت : لا أنا ، ولا ثابت ، فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذه حبيبة بنت سهل ، فذكرت ما شاء الله أن تذكر ، فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذ منها ، " فأخذ منها ، وجلست في أهلها» . وأخرج ابن جرير ، عن ابن جريج قال : نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس ، وفي حبيبة ، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تردين عليه حديقته؟ " قالت : نعم ، فدعاه ، فذكر ذلك له ، فقال : ويطيب لي ذلك ، قال : " نعم ، " قال ثابت : قد فعلت ، فنزلت : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ } الآية» وأخرج عبد الرزاق ، واأبو داود ، وابن جرير ، والبيهقي من طريق عمرة ، عن عائشة نحوه . وأخرج البخاري ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن ابن عباس؛ أن جميلة بنت عبد الله بن سلول ، امرأة ثابت بن قيس بن شَمَّاس : «أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ، ولا دين ، ولكن لا أطيقه بغضاً ، وأكره الكفر في الإسلام ، قال :

" أتردين عليه حديقته؟ " قالت : نعم ، قال : " أقبل الحديقة ، وطلقها تطليقة " ولفظ ابن ماجه : «فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها حديقته ، ولا يزداد» .
وأخرج البيهقي من طريق عطاء قال : «أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : إني أبغض زوجي ، وأحب فراقه ، قال : " أتردين عليه حديقته التي أصدقك؟ " قالت : نعم ، وزيادة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما الزيادة من مالك فلا " وأخرج البيهقي ، عن أبي الزبير : أن ثابت بن قيس ، فذكر القصة ، وفيه : " أما الزيادة فلا " وأخرج ابن مردويه بإسناد جيد عن ابن عباس ، وفيه «أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً أن يأخذ ما ساق ، ولا يزداد» . وأخرج البيهقي عن أبي سعيد ، وذكر القصة ، وفيها : " فردت عليه حديقته وزادت " وأخرج ابن جرير ، عن عمر : أنه قال في بعض المختلعات : «اخلعها ، ولو من قرطها» . وفي لفظ أخرجه عبد الرزاق ، عنه أنه قال للزوج : «خذ ولو عقاصها» . قال البخاري : أجاز عثمان الخلع دون عقاصها . وأخرج عبد بن حميد ، والبيهقي ، عن عطاء : كره أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها .
وقد ورد في ذم المختلعات أحاديث منها : عن ثوبان عند أحمد ، وأبي داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس ، فحرام عليها رائحة الجنة ، وقال : المختلعات هنّ المنافقات " ، ومنها عن ابن عباس ، عند ابن ماجه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تسأل المرأة زوجها الطلاق في غير كنهه ، فتجد ريح الجنة ، وإن ريحها لتُوجد مسيرة أربعين عاماً " ومنها عن أبي هريرة عند أحمد ، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المختلعات ، والمنتزعات هنّ المنافقات " ومنها عن عقبة عند ابن جرير مرفوعاً مثل حديث أبي هريرة .
وقد اختلف أهل العلم في عدة المختلعة ، والراجح أنها تعتدّ بحيضة لما أخرجه أبو داود ، والترمذي وحسنه ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس : «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس ، أن تعتدّ بحيضة» ولما أخرجه الترمذي ، عن الرُّبَيِّع بنت معوذ بن عفراء : «أنها اختلعت على عهد رسول الله ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتدّ بحيضة ، أو أمرت أن تعتد بحيضة» . قال الترمذي : الصحيح أنها أمرت أن تعتدّ بحيضة . وأخرج النسائي ، وابن ماجه ، عنها أنها قالت : اختلعت من زوجي ، فجئت عثمان ، فسألته ماذا عليّ من العدّة؟ فقال : لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك ، فتمكثين حتى تحيضي حيضة ، قالت : إنما أتبع في ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مريم المغالية ، وكانت تحب ثابت بن قيس ، فاختلعت منه .

وأخرج النسائي ، عن الربيع بنت معوذ : «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة ثابت بن قيس ، أن تتربص حيضة واحدة ، فتلحق بأهلها» ولم يرد ما يعارض هذا من المرفوع ، بل ورد عن جماعة من الصحابة ، والتابعين أن عدّة المختلعة كعدّة الطلاق ، وبه قال الجمهور . قال الترمذي : وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة ، وغيرهم ، واستدلوا على ذلك بأن المختلعة من جملة المطلقات ، فهي داخلة تحت عموم القرآن . والحق ما ذكرناه؛ لأن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم يخصص عموم القرآن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ } يقول : فإن طلقها ثلاثاً ، فلا تحلّ له حتى تنكح زوجاً غيره . وأخرج ابن المنذر ، عن عليّ نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة نحوه . وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والبيهقي ، عن عائشة قالت : «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة ، فطلقني فبتَّ طلاقي ، فتزوجني عبد الرحمن بن الزَّبير ، وما معه إلا مثل هُدْبَة الثوب ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عُسَيْلته ، ويذوق عُسَيْلتك " وقد روى نحو هذا عنها من طرق . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن عمر مرفوعاً نحوه . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه ، ولم يسمّ هؤلاء الثلاثة الصحابة صاحبة القصة . وأخرج أحمد ، والنسائي ، عن ابن عباس : «أن العُمْيصاء ، أو الرُّمَيْصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم » وفي آخره «فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس ذلك لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره "
وقد ثبت لعن المحلل في أحاديث منها عن ابن مسعود عند أحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، والبيهقي في سننه قال : «لعن النبي صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له» ومنها عن علي عند أحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبيهقي مرفوعاً مثل حديث ابن مسعود ، ومنها عن جابر مرفوعاً عند الترمذي مثله ، ومنها عن ابن عباس مرفوعاً عند ابن ماجه مثله ، ومنها عن عقبة بن عامر ، عند ابن ماجه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي مرفوعاً مثله ، ومنها عن أبي هريرة مرفوعاً عند أحمد ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي مثله . وفي الباب أحاديث في ذم التحليل ، وفاعله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا } يقول : إذا تزوجت بعد الأوّل ، فدخل بها الآخر ، فلا حرج على الأوّل أن يتزوجها إذا طلقها الآخر ، أو مات عنها ، فقد حلت له . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل في قوله : { أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } قال : أمر الله وطاعته .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)

البلوغ إلى الشيء : معناه الحقيقي الوصول إليه ، ولا يستعمل البلوغ بمعنى المقاربة إلا مجازاً لعلاقة مع قرينة كما هنا ، فإنه لا يصح إرادة المعنى الحقيقي؛ لأن المرأة إذاً قد بلغت آخر جزء من مدّة العدّة ، وجاوزته إلى الجزء الذي هو الأجل للانقضاء ، فقد خرجت من العدّة ، ولم يبق للزوج عليها سبيل . قال القرطبي في تفسيره : إن معنى : { بَلَغْنَ } هنا قاربن بإجماع العلماء . قال : ولأن المعنى يضطر إلى ذلك؛ لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك ، والإمساك بمعروف : هو القيام بحقوق الزوجية . أي : إذا طلقتم النساء ، فقاربن آخر العدّة ، فلا تضاروهنّ بالمراجعة من غير قصد؛ لاستمرار الزوجية ، واستدامتها ، بل اختاروا أحد أمرين : إما الإمساك بمعروف من غير قصد لضرار ، أو التسريح بإحسان : أي : تركها حتى تنقضي عدّتها من غير مراجعة ضرار ، ولا تمسكوهن ضراراً ، كما كانت تفعل الجاهلية من طلاق المرأة حتى يقرب انقضاء عدّتها ، ثم مراجعتها لا عن حاجة ، ولا لمحبة ، ولكن لقصد تطويل العدّة ، وتوسيع مدّة الانتظار { ضِرَارًا } لقصد الاعتداء منكم عليهن والظلم لهنّ { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } لأنه عرضها لعقاب الله وسخطه . قال الزجاج : يعني عرّض نفسه للعذاب ، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزوا } أي : لا تأخذوا أحكام الله على طريقة الهزؤ ، فإنها جدّ كلها ، فمن هزل فيها فقد لزمته نهاهم سبحانه أن يفعلوا كما كانت الجاهلية تفعل ، فإنه كان يطلق الرجل منهم ، أو يعتق ، أو يتزوج ، ويقول : كنت لاعباً . قال القرطبي ، ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه . قوله : { هُزُوًا واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } أي : النعمة التي صرتم فيها بالإسلام ، وشرائعه بعد أن كنتم في جاهلية جهلاء ، وظلمات بعضها فوق بعض ، والكتاب : هو القرآن . والحكمة قال المفسرون : هي السنة التي سنها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : يخوفكم بما أنزل عليكم ، وأفرد الكتاب ، والحكمة بالذكر مع دخولهما في النعمة دخولاً أولياً ، تنبيهاً على خطرهما ، وعظم شأنهما .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يطلق امرأته ، ثم يراجعها قبل انقضاء عدّتها ، ثم يطلقها ، فيفعل بها ذلك يضارّها ، ويعطلها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } الآية . وأخرج نحوه مالك ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ثور بن يزيد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن الحسن في قوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ } قال : هو الرجل يطلق امرأته ، فإذا أرادت أن تنقضي عدّتها أشهد على رجعتها ، يريد أن يطوّل عليها .

وأخرج ابن ماجه ، وابن جرير ، والبيهقي ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما بال أقوام يلعبون بحدود الله يقول : قد طلقتك ، قد راجعتك ، قد طلقتك ، قد راجعتك ، ليس هذا طلاق المسلمين ، طلقوا المرأة في قبل عدّتها » وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن عبادة بن الصامت قال : كان الرجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للرجل : زوَّجتك ابنتي ، ثم يقول : كنت لاعباً ، ويقول : قد أعتقت ، ويقول : كنت لاعباً ، فأنزل الله سبحانه : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث من قالهنّ لاعباً ، أو غير لاعب ، فهن جائزات عليه : الطلاق ، والنكاح ، والعتاق » وأخرج ابن مردويه ، عن أبي الدرداء قال : كان الرجل يطلق ، ثم يقول : لعبت ، ويعتق ، ثم يقول لعبت ، فأنزل الله : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من طلق ، أو أعتق ، فقال لعبت ، فليس قوله بشيء ، يقع عليه ، فيلزمه » . وأخرج ابن مردويه أيضاً ، عن ابن عباس قال : طلق رجل امرأته ، وهو يلعب لا يريد الطلاق ، فأنزل الله : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هزواً } فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن مرفوعاً نحو حديث عبادة . وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، عن أبي هريرة؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث جدّهنَّ جِدٌّ ، وهزلهنّ جدّ : النكاح ، والطلاق ، والرجعة » .

وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)

الخطاب في هذه الآية بقوله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ } وبقوله : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } إما أن يكون للأزواج ، ويكون معنى العَضْل منهم أن يمنعوهنّ من أن يتزوجن مَنْ أردْن من الأزواج بعد انقضاء عدّتهنّ لحمية الجاهلية ، كما يقع كثيراً من الخلفاء ، والسلاطين غيرة على من كنّ تحتهم من النساء أن يصرن تحت غيرهم؛ لأنهم لما نالوه من رياسة الدنيا ، وما صاروا فيه من النخوة ، والكبرياء ، يتخيلون أنهم قد خرجوا من جنس بني آدم إلا من عصمه الله منهم بالورع ، والتواضع؛ وإما أن يكون الخطاب للأولياء ، ويكون معنى إسناد الطلاق إليهم أنهم سبب له لكونهم المزوّجين للنساء المطلقات من الأزواج المطلقين لهنّ . وبلوغ الأجل المذكور هنا المراد به : المعنى الحقيقي ، أي : نهايته لا كما سبق في الآية الأولى . والعضل : الحبس . وحكى الخليل دجاجة معضلة قد احتبس بيضها . وقيل : العضل : التضييق والمنع ، وهو راجع إلى معنى الحبس ، يقال أردت أمراً ، فعضلتني عنه ، أي : منعتني ، وضيقت عليّ ، وأعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل . وقال الأزهري : أصل العضل من قولهم عضلت الناقة : إذا نشب ولدها ، فلم يسهل خروجه ، وعضلت الدجاجة : نشب بيضها ، وكل مشكل عند العرب معضل ، ومنه قول الشافعي رحمه الله :
إذا المْعضِلاتُ تصدّين لي ... كشفتُ حَقَائِقها بالنظر
ويقال أعضل الأمر : إذا اشتد ، وداء عُضال . أي : شديد عسير البرء أعيا الأطباء ، وعضل فلان أيمِّه : أي : منعها يعضلها بالضم ، والكسر لغتان . قوله : { أَن يَنكِحْنَ } أي : من أن ينكحن ، فمحله الجر عند الخليل ، والنصب عند سيبويه ، والفراء ، وقيل : هو بدل اشتمال من الضمير المنصوب في قوله : { فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } . وقوله : { أزواجهن } إن أريد به المطلقون لهنّ ، فهو مجاز باعتبار ما كان ، وإن أريد به من يردْن أن يتزوّجنه ، فهو مجاز باعتبار ما سيكون . وقوله : { ذلك } إشارة إلى ما فصل من الأحكام ، وإنما أفرد مع كون المذكور قبله جمعاً حملاً على معنى الجمع بتأويله بالفريق ، ونحوه . وقوله : { ذلكم } محمول على لفظ الجمع ، خالف سبحانه ما بين الإشارتين افتناناً . وقوله : { أزكى } أي : أنمى وأنفع : { وَأَطْهَرُ } من الأدناس { والله يَعْلَمُ } ما لكم فيه الصلاح { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك .
وقد أخرج البخاري ، وأهل السنن ، وغيرهم عن مَعْقِل بن يسار؛ قال : كانت لي أخت ، فأتاني ابن عم ، فأنكحتها إياه ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة ، فَهَويِهَا ، وهويتَه ، ثم خطبها مع الخُطَّاب فقلت له : يا لكع أكرمتك بها ، وزوّجتكها ، فطلقتها ، ثم جئت تخطبها ، والله لا ترجع إليك أبداً ، وكان رجلاً لا بأس به ، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه ، فعلم الله حاجته إليها ، وحاجتها إلى بعلها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } الآية ، قال : ففيَّ نزلت هذه الآية ، فكفَّرْتُ عن يميني ، وأنكحتها إياه .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة ، أو طلقتين ، فتنقضي عدّتها ، ثم يبدو له تزويجها ، وأن يراجعها ، وتريد المرأة ذلك ، فمنعها وليها من ذلك ، فنهى الله أن يمنعوها .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن السدّي قال : نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري ، كانت له ابنة عم ، فطلقها زوجها تطليقة ، وانقضت عدّتها ، فأراد مراجعتها فأبى جابر ، فقال : طلقت بنت عمنا ، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟ وكانت المرأة تريد زوجها ، فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل : { إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف } يعني بمهر ، وبينة ، ونكاح مؤتنف . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنكحوا الأيامى ، » فقال رجل : يا رسول الله ما العلائق بينهم؟ قال : « ما تراضى عليه أهلهنّ » . وأخرج ابن المنذر ، عن الضحاك قال : { والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } قال : الله يعلم من حبّ كل واحد منهما لصاحبه ما لا تعلم أنت أيها الوليّ .

وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ، ذكر الرضاع؛ لأن الزوجين قد يفترقان ، وبينهما ولد ، ولهذا قيل : إن هذا خاص بالمطلقات . وقيل : هو عام . وقوله : { يُرْضِعْنَ } قيل : هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه ، وقيل : هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله : { يَتَرَبَّصْنَ } وقوله : { كَامِلَيْنِ } تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي . وقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } أي : ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتماً ، بل هو التمام ، ويجوز الاقتصار على ما دونه . وقرأ مجاهد ، وابن محيصن : «لمن أراد أن تتم» بفتح التاء ، ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها . وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة ، والجارود ابن أبي سَبْرَة بكسر الراء من الرضاعة ، وهي لغة . وروي عن مجاهد أنه قرأ : " الرضعة " ، وقرأ ابن عباس : «لمن أراد أن يكمل الرضاعة» . قال النحاس : لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء . وحكى الكوفيون جواز الكسر . والآية تدل على وجوب الرضاع على الأم لولدها ، وقد حُمِل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها .
قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } أي : على الأب الذي يولد له ، وآثر هذا اللفظ دون قوله : وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات ، ولهذا ينسبون إليهم دونهنّ ، كأنهنّ إنما ولدن لهم فقط ، ذكر معناه في الكشاف ، والمراد بالرزق هنا : الطعام الكافي المتعارف به بين الناس ، والمراد بالكسوة : ما يتعارفون به أيضاً ، وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات . وهذا في المطلقات ، وأما غير المطلقات ، فنفقتهنّ ، وكسوتهنّ واجبة على الأزواج من غير إرضاعهنّ لأولادهنّ . وقوله : { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } هو : تقييد لقوله : { بالمعروف } أي : هذه النفقة ، والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ، ويعجز عنه ، وقيل : المراد : لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف ، بل يراعي القصد .
قوله : { لاَ تُضَارَّ } قرأ أبو عمرو ، وابن كثير ، وجماعة ورواه أبان عن عاصم بالرفع على الخبر . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في المشهور عنه : «تضار» بفتح الراء المشدّدة على النهي ، وأصله : لا تضار ، أو لا تضارر على البناء للفاعل ، أو المفعول : أي : لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق ، والكسوة ، أو بأن تفرط في حفظ الولد ، والقيام بما يحتاج إليه ، ولا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه ، أو ينتزع ولدها منها بلا سبب ، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين .

وقرأ عمر بن الخطاب : «لا تضارر» على الأصل بفتح الراء الأولى؛ وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «لا تضار» بإسكان الراء ، وتخفيفها ، وروى عنه الإسكان ، والتشديد . وقرأ الحسن ، وابن عباس : «لا تضارر» بكسر الراء الأولى؛ ويجوز أن تكون الباء في قوله : بولده ، صلة لقوله تضارّ على أنه بمعنى تضر . أي : لا تضرّ والدة بولدها ، فتسيء تربيته ، أو تقصر في غذائه ، وأضيف الولد تارة إلى الأب ، وتارة إلى الأم ، لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف ، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقريرها . أي : لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه ، فلا تضاره بسبب ولده .
قوله : { وَعَلَى الوارث } هو : معطوف على قوله : { وَعلَى المولود لَهُ } وما بينهما تفسير للمعروف ، أو تعليل له معترض بين المعطوف ، والمعطوف عليه . واختلف أهل العلم في معنى قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } فقيل : هو وارث الصبي : أي : إذا مات المولود له كان على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك ، قاله عمر بن الخطاب ، وقتادة ، والسدّي ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، وابن أبي ليلى على خلاف بينهم ، هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيباً من الميراث ، أو على الذكور فقط ، أو على كل ذي رحم له ، وإن لم يكن ، وارثاً منه ، وقيل : المراد بالوارث : وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة ، وكسوتها بالمعروف ، قاله الضحاك . وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك ، ولكنه قال : إنها منسوخة ، وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ ، ولا ذي قرابة ، ولا ذي رحم منه ، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبيّ مال ، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله . وقيل : المراد : بالوارث المذكور في الآية هو : الصبي نفسه . أي : عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه ، وورث من ماله ، قاله قبيصة بن ذؤيب ، وبشير بن نصر قاضي عمر بن عبد العزيز . وروي عن الشافعي ، وقيل : هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما ، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل ، إذا لم يكن له مال ، قاله سفيان الثوري ،
وقيل : إن معنى قوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } أي : وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع ، والخدمة ، والتربية . وقيل : إن معنى قوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب ، وبه قالت طائفة من أهل العلم ، قالوا : وهذا هو الأصل ، فمن ادّعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم ، فعليه الدليل .

قال القرطبي : وهو الصحيح ، إذ لو أراد الجميع الذي هو : الرضاع ، والإنفاق ، وعدم الضرر يقال : وعلى الوارث مثل هؤلاء ، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارّة ، وعلى ذلك تأوّله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب . قال ابن عطية ، وقال مالك ، وجميع أصحابه ، والشعبي ، والزهري ، والضحاك ، وجماعة من العلماء : المراد بقوله : { مثل ذلك } ألاّ تضارّ . وأما الرزق ، والكسوة ، فلا يجب شيء منه . وحكى ابن القاسم ، عن مالك ، مثل ما قدمنا عنه ، في تفسير هذه الآية ، ودعوى النسخ . ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة ، فإن ما خصصوا به معنى قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } من ذلك المعنى . أي : عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله : { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا } لصدق ذلك على كل مضارّة ترد عليها من المولود له ، أو غيره . وأما قول القرطبي : لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء ، فلا يخفى ما فيه من الضعف البيّن ، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور ، أو نحوه . وأما ما ذهب إليه أهل القول الأوّل من أن المراد بالوارث : وارث الصبيّ ، فيقال عليه إن لم يكن وارثاً حقيقة مع وجود الصبيّ حياً ، بل هو وارث مجازاً باعتبار ما يئول إليه . وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني ، فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي ، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبيّ ما فيه ، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيراً ، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدّم من ذكر الوالدات ، والمولود له والولد ، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم .
قوله : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } الضمير للوالدين . والفصال : الفطام عن الرضاع . أي : التفريق بين الصبيّ ، والثدي ، ومنه سمي الفصيل؛ لأنه مفصول عن أمه . وقوله : { عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا } أي : صادراً عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } في ذلك الفصال . سبحانه لما بين أن مدّة الرضاع حولين كاملين قيد ذلك بقوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبيّ قبل الحولين كان ذلك جائزاً له ، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما فلا بدّ من الجمع بين الأمرين : بأن يقال إن الإرادة المذكورة في قوله : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } لا بدّ أن تكون منهما ، أو يقال : إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبيّ حيين بأن كان الموجود أحدها ، أو كانت المرضعة للصبي ظئراً غير أمه . والتشاور : استخراج الرأي يقال : شُرْتُ العسل : استخرجته ، وشُرْتُ الدابة : أجريتها لاستخراج جريها ، فلا بدّ لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر ، ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك .

قوله : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم } قال الزجاج : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة . وعن سيبويه أنه حذف اللام؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين ، والمفعول الأول محذوف ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم { إذا سلمتم ما آتيتم } بالمدّ ، أي : أعطيتم ، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير ، فإنه قرأ بالقصر . أي : فعلتم ، ومنه قول زهير :
وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرِ أتَوْه فَإنَّما ... توارثَه آباءُ آبائهم قَبْلُ
والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتهم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهنّ بحساب ما قد أرضعن لكم ، إلى وقت إرادة الاسترضاع ، قاله سفيان الثوري ، ومجاهد . وقال قتادة ، والزهري : إن معنى الآية : إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي : سلم كل واحد من الأبوين ورضي ، وكان ذلك عن اتفاق منهما ، وقصد خير وإرادة معروف من الأمر ، وعلى هذا ، فيكون قوله : { سَلَّمْتُم } عاماً للرجال ، والنساء تغليباً ، وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط ، وقيل : المعنى : إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها ، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه . أي : إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف ، أي : بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهنّ ، أو حط بعض ما هو لهنّ من ذلك ، فإن عدم توفير أجرهنّ يبعثهنّ على التساهل بأمر الصبيّ ، والتفريط في شأنه .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن مجاهد في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } قال : المطلقات { حَوْلَيْنِ } قال : سنتين { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا } يقول : لا تأبى أن ترضعه ضراراً لتشق على أبيه { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } يقول : ولا يضارّ الوالد بولده ، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك { وَعَلَى الوارث } قال : يعني الوليّ من كان { مِثْلُ ذلك } قال : النفقة بالمعروف ، وكفالته ، ورضاعه إن لم يكن للمولود مال ، وأن لا تضارّ أمه { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } قال : غير مسيئين في ظلم أنفسهما ، ولا إلى صبيهما ، فلا جناح عليهما { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم } قال : خيفة الضيعة على الصبيّ { فَلاَ جُنَاحَ } قال : حساب ما أرضع به الصبيّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية أنه قال : المراد بقوله : { إذا سلمتم ما آتيتم } هي في الرجل يطلق امرأته ، وله منها ولد . وقال في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ } قال : ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها .
وأخرج أبو داود في ناسخه ، عن زيد بن أسلم في قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن } قال : إنها المرأة تطلق ، أو يموت عنها زوجها . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس في التي تضع لستة أشهر؛ أنها ترضع حولين كاملين ، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً لتمام ثلاثين شهراً ، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهراً ، ثم تلا :

{ وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } قال : على قدر الميسرة . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم في قوله : { لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } ليس لها أن تلقي ولدها عليه ، ولا يجد من يرضعه ، وليس له أن يضارها ، فينتزع منها ولدها ، وهي تحب أن ترضعه { وَعَلَى الوارث } قال : هو وليّ الميت .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عطاء ، وإبراهيم ، والشعبي في قوله : { وَعَلَى الوارث } قال : هو وارث الصبي ينفق عليه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن قتادة نحوه ، وزاد : إذا كان المولود لا مال له ، مثل الذي على والده من أجر الرضاع . وأخرج عبد بن حميد ، عن الحسن نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن ابن سيرين نحوه أيضاً . وأخرج ابن جرير ، عن قبيصة بن ذؤيب في قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } قال : هو الصبيّ . وأخرج وكيع عن عبد الله بن مُغَفَّل نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } قال : لا يضارّ . وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً } قال : الفطام . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد؛ قال : التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى ، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى . وأخرجوا أيضاً عن عطاء في قوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم } قال : أمه أو غيرها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم } قال : إذا سلمت لها أجرها { مَّا ءاتَيْتُم } ما أعطيتم .

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

لما ذكر سبحانه عدّة الطلاق ، واتصل بذكرها ذكر الإرضاع عقَّب ذلك بذكر عدّة الوفاة ، لئلا يتوهم أن عدّة الوفاة مثل عدّة الطلاق . قال الزجاج : ومعنى الآية ، والرجال الذين يتوفون منكم ، ويذرون أزواجاً : أي : ولهم زوجات ، فالزوجات يتربصن . وقال أبو علي الفارسي : تقديره ، والذين يتوفون منكم ، ويذرون أزواجاً يتربصن بعدهم ، وهو : كقولك السمن مَنَوان بدرهم . أي : منه . وحكى المهدوي عن سيبويه أن المعنى : وفيما يتلى عليكم الذين يتوفون . وقيل : التقدير : وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن ، ذكره صاحب الكشاف ، وفيه أن قوله : { وَيَذَرُونَ أزواجا } لا يلائم ذلك التقدير؛ لأن الظاهر من النكرة المعادة المغايرة . وقال بعض النحاة من الكوفيين : إن الخبر عن الذين متروك ، والقصد الإخبار عن أزواجهم بأنهنّ يتربصنّ . ووجه الحكمة في جعل العدّة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر ، والأنثى لأربعة ، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً؛ لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة ، فتتأخر حركته قليلاً ، ولا تتأخر عن هذا الأجل .
وظاهر هذه الآية العموم ، وأن كل من مات عنها زوجها تكون عدّتها هذه العدّة ، ولكنه قد خصص هذا العموم قوله تعالى : { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] وإلى هذا ذهب الجمهور . وروى عن بعض الصحابة ، وجماعة من أهل العلم أن الحامل تعتدّ بآخر الأجلين جمعاً بين العام والخاص ، وإعمالاً لهما ، والحق ما قاله الجمهور ، والجمع بين العام ، والخاص على هذه الصفة لا يناسب قوانين اللغة ، ولا قواعد الشرع ، ولا معنى لإخراج الخاص من بين أفراد العام إلا بيان أن حكمه مغاير لحكم العام ، ومخالف له . وقد صح صلى الله عليه وسلم عنه أنه أذن لسبيعة الأسلمية أن تتزوّج بعد الوضع ، والتربص الثاني ، والتصبر عن النكاح .
وظاهر الآية عدم الفرق بين الصغيرة ، والكبيرة ، والحرّة والأمة ، وذات الحيض ، والآيسة ، وأن عدّتهنّ جميعاً للوفاة أربعة أشهر وعشر . وقيل : إن عدّة الأمة نصف عدّة الحرة شهران وخمسة أيام . قال ابن العربي إجماعاً إلا ما يحكى عن الأصم ، فإنه سوّى بين الحرة ، والأمة ، وقال الباجي : ولا نعلم في ذلك خلافاً إلا ما يروى عن ابن سيرين أنه قال : عدّتها عدّة الحرّة ، وليس بالثابت عنه ، ووجه ما ذهب إليه الأصمّ ، وابن سيرين ما في هذه الآية من العموم ، ووجه ما ذهب إليه من عداهما قياس عدّة الوفاة على الحد ، فإنه ينصف للأمة بقوله سبحانه : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] . وقد تقدم حديث : « طلاق الأمة تطليقتان ، وعدّتها حيضتان » وهو : صالح للإحتجاج به ، وليس المراد منه : إلا جعل طلاقها على النصف من طلاق الحرة ، وعدّتها على النصف من عدّتها ، ولكنه لما لم يمكن أن يقال : طلاقها تطليقة ونصف ، وعدّتها حيضة ونصف ، لكون ذلك لا يعقل كانت عدّتها ، وطلاقها ذلك القدر المذكور في الحديث جبراً للكسر ، ولكن ها هنا أمر يمنع من هذا القياس الذي عمل به الجمهور ، وهو أن الحكمة في جعل عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشراً هو ما قدّمنا من معرفة خلوّها من الحمل ، ولا يعرف إلا بتلك المدّة .

ولا فرق بين الحرة ، والأمة في مثل ذلك ، بخلاف كون عدتها في غير الوفاة حيضتين ، فإن ذلك يعرف به خلو الرحم ، ويؤيد عدم الفرق ما سيأتي في عدّة أم الولد .
واختلف أهل العلم في عدّة أم الولد لموت سيدها . فقال سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، والزهري ، وعمر بن عبد العزيز ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وابن راهويه ، وأحمد بن حنبل في رواية عنه : أنها تعتدّ بأربعة أشهر وعشر لحديث عمرو بن العاص قال : لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه وسلم : «عدّة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر» . أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، وضعفه أحمد ، وأبو عبيد . وقال الدارقطني : الصواب : أنه موقوف . وقال طاوس ، وقتادة : عدّتها شهران وخمس ليال . وقال أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، والحسن بن صالح : تعتدّ بثلاث حيض ، وهو : قول عليّ ، وابن مسعود ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي . وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد في المشهور عنه : عدّتها حيضة ، وغير الحائض شهر ، وبه يقول ابن عمر ، والشعبي ، ومكحول ، والليث ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، والجمهور .
قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } المراد بالبلوغ هنا : انقضاء العدّة { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ أَنفُسِهِنَّ } من التزين ، والتعرّض للخطاب { بالمعروف } الذي لا يخالف شرعاً ، ولا عادة مستحسنة . وقد استدل بذلك على وجوب الإحداد على المعتدة عدة الوفاة . وقد ثبت ذلك في الصحيحين ، وغيرهما من غير وجه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله ، واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " وكذلك ثبت عنه في الصحيحن ، وغيرهما النهي عن الكحل لمن هي في عدّة الوفاة ، والإحداد : ترك الزينة من الطيب ، وليس الثياب الجيدة ، والحليّ ، وغير ذلك ، ولا خلاف في وجوب ذلك في عدّة الوفاة ، ولا خلاف في عدم وجوبه في عدّة الرجعية . واختلفوا في عدّة البائنة على قولين ، ومحل ذلك كتب الفروع . وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } قال : كان الرجل إذا مات ، وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله . ثم أنزل الله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ } الآية . فهذه عدة المتوفي عنها إلا أن تكون حاملاً ، فعدتها أن تضع ما في بطنها .

وقال في ميراثها : { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ } [ النساء : 12 ] فبين ميراث المرأة ، وترك الوصية ، والنفقة { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يقول : إذا طلقت المرأة ، أو مات عنها زوجها ، فإذا انقضت عدتها ، فلا جناح عليها أن تتزين ، وتتصنع ، وتتعرّض للتزويج ، فذلك المعروف . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي العالية قال : ضمت هذه الأيام العشر إلى الأربعة أشهر ، لأن في العشر ينفخ فيه الروح . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } يقول : إذا انقضت عدتها . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن شهاب في قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } يعني أولياءها . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن ابن عباس أنه كره للمتوفى عنها زوجها الطيب ، والزينة ،
وأخرج مالك ، وعبد الرزاق ، وأهل السنن وصححه الترمذي ، والحاكم عن الفريعة بنت مالك بن سنان ، وهي أخت أبي سعيد الخدري أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأل أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، وأن زوجها خرج في طلب أعْبُد لها أبقوا حتى إذا تطرف القدوم لحقهم فقتلوه . قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ، ولا نفقة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نعم ، » فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ، أو في المسجد ، فدعاني ، أو أمر بي ، فدعيت ، فقال : « كيف قلت؟ » قالت : فرددت إليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي ، فقال : « امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله » . قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً ، قالت : فلما كان عثمان بن عفان أرسل إليّ ، فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتبعه وقضى به .

وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

الجناح : الإثم ، أي : لا إثم عليكم ، والتعريض ضد التصريح ، وهو : من عرض الشيء . أي : جانبه ، كأنه يحوم به حول الشيء ، ولا يظهره . وقيل : هو من قولك : عرضت الرجل . أي : أهديت له . ومنه أن ركباً من المسلمين عرضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ثياباً بيضاً ، أي : أهدوا لهما ، فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاماً يفهم معناه . وقال في الكشاف : الفرق بين الكناية ، والتعريض ، أن الكناية أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له ، والتعريض أن يذكر شيئاً يدل به على شيء لم يذكره ، كما يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ، ولأنظر إلى وجهك الكريم ، ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضياً ... وكأنه إمالة الكلام إلى عرض يدل على الغرض ، ويسمى التلويح؛ لأنه يلوح منه ما يريده . انتهى . والخطبة بالكسر : ما يفعله الطالب من الطلب ، والاستلطاف بالقول ، والفعل ، يقال : خطبها يخطبها خطبة ، وخطباً . وأما الخطبة بضم الخاء ، فهي الكلام الذي يقوم به الرجل خاطباً .
وقوله : { أَكْنَنتُمْ } معناه سترتم ، وأضمرتم من التزويج بعد انقضاء العدة . والإكنان : التستر والإخفاء : يقال : أكننته ، وكننته بمعنى واحد . ومنه { بيض مكنون } [ الصافات : 9 ] ، ودر مكنون . ومنه أيضاً أكنّ البيت صاحبه . أي : ستره . وقوله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : علم الله أنكم لا تصبرون عن النطق لهنّ برغبتكم فيهن ، فرخص لكم في التعريض دون التصريح . وقال في الكشاف : إن فيه طرفاً من التوبيخ كقوله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } . وقوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } معناه : على سرّ ، فحذف الحرف؛ لأن الفعل لا يتعدى إلى المفعولين . وقد اختلف العلماء في معنى السر ، فقيل : معناه نكاحاً . أي : لا يقل الرجل لهذه المعتدّة تزوّجيني بل يعرض تعريضاً . وقد ذهب إلى أن معنى الآية هذا جمهور العلماء ، وقيل : السرّ : الزنا ، أي : لا يكن منكم مواعدة على الزنا في العدّة ، ثم التزويج بعدها . قاله جابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، والنخعي ، واختاره ابن جرير الطبري ، ومنه قول حطيئة :
وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِم عَلَيهم ... وَيَأْكُلُ جَارُهُم أنفَ القِصَاعِ
وقيل : السرّ : الجماع ، أي : لا تصفوا أنفسكم لهنّ بكثرة الجماع ترغيباً لهنّ في النكاحّ ، وإلى هذا ذهب الشافعي في معنى الآية ، ومنه قول امرىء القيس :
ألاَ زَعَمْت بَسْبَاسة اليوم أنَّني ... كِبرْتُ وَأنْ لا يُحْسِن السِرّ أمثَاليِ
ومثله قول الأعشى :
فَلَنْ تَطْلُبُوا سِرَّها لْلغِنَى ... وَلنْ تَسْلِموها لأَزْهَادِهَا
أراد : تطلبون نكاحها لكثرة مالها ، ولن تسلموها لقلة مالها ، والاستدراك بقوله : { لَكِنِ } من مقدّر محذوف دلّ عليه { سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي : فاذكروهنّ { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } . قال ابن عطية : أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو رفث من ذكر جماع ، أو تحريض عليه لا يجوز .

وقال أيضاً : أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدّة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر ، وللسيد في أمته . قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } قيل : هو استثناء منقطع بمعنى لكن ، والقول المعروف : هو ما أبيح من التعريض . ومنع صاحب الكشاف أن يكون منقطعاً ، وقال : هو مستثنى من قوله : { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ } أي : لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة؛ فجعله على هذا استثناء مفرغاً ، ووجه منع كونه منقطعاً أنه يؤدي إلى جعل التعريض موعوداً ، وليس كذلك؛ لأن التعريض طريق المواعدة ، لا أنه الموعود في نفسه . قوله : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } قد تقدّم الكلام في معنى العزم ، يقال : عزم الشيء ، وعزم عليه ، والمعنى هنا : لا تعزموا على عقدة النكاح ، ثم حذف « على » . قال سيبويه : والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه . وقال النحاس : يجوز أن يكون المعنى ، ولا تعقدوا عقدة النكاح؛ لأن معنى تعزموا ، وتعقدوا واحد ، وقيل : إن العزم على الفعل يتقدّمه ، فيكون في هذا النهي مبالغة؛ لأنه إذا نهى عن المتقدم على الشيء ، كان النهي عن ذلك الشيء بالأولى . قوله : { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } يريد حتى تنقضي العدّة ، والكتاب هنا هو : الحدّ ، والقدر الذي رسم من المدّة ، سماه كتاباً؛ لكونه محدوداً ، ومفروضاً كقوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [ النساء : 103 ] وهذا الحكم أعني تحريم عقد النكاح في العدّة مجمع عليه .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء } قال : التعريض أن تقول : إني أريد التزويج ، وإني لأحب المرأة من أمرها ، وأمرها ، وإن من شأني النساء ، ولوددت أن الله يسر لي امرأة صالحة . وأخرج ابن جرير عنه أنه يقول لها : إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك ، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك ، ونحو هذا من الكلام . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه قال : يقول إني فيك لراغب ، ولوددت أني تزوجتك .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن في قوله : { أَوْ أَكْنَنتُمْ } قال : أسررتم . وأخرج عبد الرزاق عن الضحاك مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن في قوله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } قال : بالخطيئة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن مجاهد قال : ذكره إياها في نفسه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } قال : يقول لها إني عاشق ، وعاهديني أن لا تتزوّجي غيري ونحو هذا { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وهو قوله : إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك . وأخرج ابن جرير عنه في السرّ أنه الزنا ، كان الرجل يدخل من أجل الزنا ، وهو يعرض بالنكاح ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عنه في قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } قال : يقول : إنك لجميلة ، وإنك إليّ خير ، وإن النساء من حاجتي . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عنه في قوله : { وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح } قال : لا تنكحوا { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } قال : حتى تنقضي العدّة .

لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

المراد بالجناح هنا : التبعة من المهر ، ونحوه ، فرفعه رفع لذلك ، أي : لا تبعة عليكم بالمهر ، ونحوه إن طلقتم النساء على الصفة المذكورة ، و«ما» في قوله : { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } هي مصدرية ظرفية بتقدير المضاف ، أي : مدّة عدم مسيسكم . ونقل أبو البقاء أنها شرطية من باب اعتراض الشرط على الشرط ليكون الثاني قيداً للأوّل كما في قولك : إن تأتني إن تحسن إليّ أكرمك . أي : إن تأتني محسناً إليّ ، والمعنى : إن طلقتموهن غير ماسين لهنّ . وقيل : إنها موصولة ، أي : إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهنّ ، وهكذا اختلفوا في قوله : { أَوْ تَفْرِضُواْ } فقيل : " أو " بمعنى " إلا " أي : إلا أن تفرضوا . وقيل : بمعنى حتى ، أي : حتى تفرضوا . وقيل : بمعنى الواو ، أي : وتفرضوا . ولست أرى لهذا التطويل وجهاً . ومعنى الآية أوضح من أن يلتبس ، فإن الله سبحانه رفع الجناح عن المطلقين ما لم يقع أحد الأمرين . أي : مدّة انتفاء ذلك الأحد ، ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بإنتفاء الأمرين معاً ، فإن وجد المسيس ، وجب المسمى ، أو مهر المثل ، وإن وجد الفرض وجب نصفه مع عدم المسيس ، وكل واحد منها جناح . أي : المسمى ، أو نصفه ، أو مهر المثل .
واعلم أن المطلقات أربع : مطلقة مدخول بها مفروض لها ، وهي التي تقدّم ذكرها قبل هذه الآية ، وفيها نهى الأزواج عن أن يأخذوا مما آتوهنّ شيئاً ، وأن عدّتهنّ ثلاثة قروء . ومطلقة غير مفروض لها ، ولا مدخول بها ، وهي المذكورة هنا ، فلا مهر لها ، بل المتعة ، وبين في سورة الأحزاب أن غير المدخول بها إذا طلقت ، فلا عدّة عليها . ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ، وهي المذكورة بقوله سبحانه هنا : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } ، ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها ، وهي المذكورة في قوله تعالى : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 24 ] والمراد بقوله : { مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ } ما لم تجامعوهنّ؛ وقرأ ابن مسعود : «من قبل أن تجامعوهنّ» أخرجه عنه ابن جرير ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وعاصم : «ما لم تمسوهنّ» وقرأ حمزة ، والكسائي : «تماسوهنّ» من المفاعلة ، والمراد بالفريضة هنا تسمية المهر .
قوله : { وَمَتّعُوهُنَّ } أي : أعطوهن شيئاً يكون متاعاً لهنّ ، وظاهر الأمر الوجوب ، وبه قال علي ، وابن عمر ، والحسن البصري ، وسعيد بن جبير ، وأبو قلابة ، والزهري ، وقتادة ، والضحاك ، ومن أدلة الوجوب قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ وَسَرّحُوهُنَّ سراحاً جميلاً } [ الأحزاب : 49 ] وقال مالك ، وأبو عبيد ، والقاضي شريح ، وغيرهم : إن المتعة للمطلقة المذكورة مندوبة لا واجبة لقوله تعالى : { حَقّا عَلَى المحسنين } ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين ، ويجاب عنه بأن ذلك لا ينافي الوجوب بل هو تأكيد له ، كما في قوله في الآية الأخرى :

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34