كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

« الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم » وأخرج أبو داود ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف مشاة ، وصنف ركباناً ، وصنف على وجوههم » ، ثم ذكر نحو حديث أنس . وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } قال : يعني : أنهم وقودها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه في قوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } قال : سكنت . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في الآية قال : كلما أحرقهم سعرتهم حطباً ، فإذا أحرقتهم فلم يبق منهم شيء صارت جمراً تتوهج فذلك خبوها ، فإذا بدّلوا خلقاً جديداً عاودتهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله : { خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى } قال : الرزق . وأخرج أيضاً عن عكرمة في قوله : { إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق } قال : إذا ما أطعمتم أحداً شيئاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { خَشْيَةَ الإنفاق } قال : الفقر { وَكَانَ الإنسان قَتُورًا } قال : بخيلاً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة { خَشْيَةَ الإنفاق } قال : خشية الفاقة { وَكَانَ الإنسان قَتُورًا } قال : بخيلاً ممسكاً .

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)

قوله : { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات } أي : علامات دالة على نبوّته ، قيل : ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن المعجزات المذكورة كأنها مساوية لتلك الأمور التي اقترحها كفار قريش ، بل أقوى منها ، فليس عدم الاستجابة لما طلبوه من الآيات إلاّ لعدم المصلحة في استئصالهم إن لم يؤمنوا بها . قال أكثر المفسرين : الآيات التسع : هي الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، والسنين ، ونقص الثمرات . وجعل الحسن مكان السنين ونقص الثمرات البحر والجبل . وقال محمد بن كعب القرظي : هي الخمس التي في الأعراف ، والبحر ، والعصا ، والحجر ، والطمس على أموالهم . وقد تقدم الكلام على هذه الآيات مستوفى ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في تعداد هذه الآيات التسع . { فاسأل بَنِى إسراءيل } قرأ ابن عباس وابن نهيك ( فسأل ) على الخبر ، أي : سأل موسى فرعون أن يخلي بني إسرائيل ويطلق سبيلهم ويرسلهم معه ، وقرأ الآخرون { فاسأل } على الأمر أي : سلهم يا محمد حين { جَاءهُمُ } موسى ، والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينية والإيقان ، لأن الأدلة إذا تظافرت كان ذلك أقوى ، والمسئولون : مؤمنو بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وأصحابه { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّى لأظُنُّكَ ياموسى مَّسْحُورًا } الفاء هي الفصيحة ، أي : فأظهر موسى عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون . المسحور : الذي سحر فخولط عقله . وقال أبو عبيدة والفراء : هو بمعنى الساحر ، فوضع المفعول موضع الفاعل ، ف { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء } يعني : الآيات التي أظهرها ، وأنزل بمعنى : أوجد { إِلاَّ رَبُّ السموات والارض بَصَائِرَ } أي : دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته ، وانتصاب { بصائر } على الحال . قرأ الكسائي بضمّ التاء من « علمت » على أنها لموسى ، وروي ذلك عن عليّ ، وقرأ الباقون بفتحها على الخطاب لفرعون . ووجه القراءة الأولى أن فرعون لم يعلم ذلك ، وإنما علمه موسى . ووجه قراءة الجمهور أن فرعون كان عالماً بذلك كما قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] . قال أبو عبيد : المأخوذ به عندنا فتح التاء ، وهو الأصح للمعنى ، لأن موسى لا يقول : علمت أنا وهو الداعي ، وروي نحو هذا عن الزجاج . { وَإِنّى لاظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا } الظنّ هنا بمعنى اليقين ، والثبور : الهلاك والخسران . قال الكميت :
ورأت قضاعة في الأيا ... من رأى مثبور وثابر
أي : مخسور وخاسر ، وقيل : المثبور : الملعون ، ومنه قول الشاعر :
يا قومنا لا تروموا حربنا سفها ... إن السفاه وإن البغي مثبور
أي : ملعون ، وقيل : المثبور : ناقص العقل ، وقيل : هو الممنوع من الخير ، يقال : ما ثبرك عن كذا : ما منعك منه ، حكاه أهل اللغة ، وقيل : المسحور .

{ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مّنَ الارض } أي أراد فرعون أن يخرج بني إسرائيل وموسى ويزعجهم من الأرض ، يعني : أرض مصر بإبعادهم عنها ، وقيل : أراد أن يقتلهم ، وعلى هذا يراد بالأرض مطلق الأرض ، وقد تقدم قريباً معنى الاستفزاز { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا } فوقع عليه وعليهم الهلاك بالغرق ، ولم يبق منهم أحداً { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إسراءيل اسكنوا الأرض } أي : من بعد إغراقه ومن معه ، والمراد بالأرض هنا : أرض مصر التي أراد أن يستفزّهم منها { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخرة } أي الدار الآخرة وهو القيامة ، أو الكرّة الآخرة ، أو الساعة الآخرة { جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } قال الجوهري : اللفيف : ما اجتمع من الناس من قبائل شتى ، يقال : جاء القوم بلفهم ولفيفهم أي : بأخلاطهم ، فالمراد هنا جئنا بكم من قبوركم مختلطين من كل موضع ، قد اختلط المؤمن بالكافر . قال الأصمعي : اللفيف جمع وليس له واحد ، وهو مثل الجمع . { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } الضمير يرجع إلى القرآن ، ومعنى { بالحق أنزلناه } : أوحيناه متلبساً بالحق ، ومعنى { وبالحق نَزَلَ } : أنه نزل وفيه الحق ، وقيل : الباقي ، وبالحق الأول بمعنى : مع ، أي : مع الحق أنزلناه كقولهم : ركب الأمير بسيفه أي : مع سيفه ، و { بالحق نزل } أي : بمحمد كما تقول : نزلت يزيد . وقال أبو علي الفارسي : الباء في الموضعين بمعنى : مع ، وقيل : يجوز أن يكون المعنى : وبالحق قدرنا أن ينزل وكذلك نزل ، أو : ما أنزلناه من السماء إلاّ محفوظاً ، وما نزل على الرسول إلاّ محفوظاً من تخليط الشياطين ، والتقديم في الموضعين للتخصص . { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشّرًا وَنَذِيرًا } أي : مبشراً لمن أطاع بالجنة ونذيراً مخوّفاً لمن عصى بالنار . { وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ } انتصاب { قرآناً } بفعل مضمر يفسره ما بعده ، قرأ عليّ ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، وقتادة ، وأبو رجاء ، والشعبي ( فرقناه ) بالتشديد ، أي : أنزلناه شيئاً بعد شيء لا جملة واحدة . وقرأ الجمهور { فرقناه } بالتخفيف ، أي : بيناه وأوضحناه ، وفرقنا فيه بين الحق والباطل . وقال الزجاج : فرقه في التنزيل ليفهمه الناس . قال أبو عبيد : التخفيف أعجب إليّ ، لأن تفسيره بيناه ، وليس للتشديد معنى إلاّ أنه نزل متفرقاً . ويؤيده ما رواه ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : فرقت مخففاً بين الكلام ، وفرقت مشدداً بين الأجسام ، ثم ذكر سبحانه العلة لقوله : فَرَقْنَاهُ ، فقال : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ } أي : على تطاول في المدّة شيئاً بعد شيء على القراءة الأولى ، أو أنزلناه آية آية ، وسورة سورة . ومعناه على القراءة الثانية { على مكث } أي : على ترسل وتمهل في التلاوة ، فإن ذلك أقرب إلى الفهم وأسهل للحفظ . وقد اتفق القراء على ضم الميم في : { مكث } إلاّ ابن محيصن فإنه قرأ بفتح الميم { ونزلناه تَنْزِيلاً } التأكيد بالمصدر للمبالغة ، والمعنى : أنزلناه منجماً مفرّقاً لما في ذلك من المصلحة ، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا ولم يطيقوا .

{ قُلْ ءامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكافرين المقترحين للآيات : آمنوا به أو لا تؤمنوا ، فسواء إيمانكم به وامتناعكم عنه لا يزيده ذلك ولا ينقصه . وفي هذا وعيد شديد لأمره بالإعراض عنهم واحتقارهم ، ثم علّل ذلك بقوله : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } أي : أن العلماء الذين قرؤوا الكتب السابقة قبل إنزال القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوّة كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وعبد الله بن سلام { إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } أي : القرآن { يَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ سُجَّدًا } أي : يسقطون على وجوههم ساجدين لله سبحانه ، وإنما قيد الخرور ، وهو السقوط ، بكونه للأذقان ، أي : عليها ، لأن الذقن ، وهو مجتمع اللحيين أوّل ما يحاذي الأرض . قال الزجاج : لأن الذقن مجتمع اللحيين ، وكما يبتدىء الإنسان بالخرور للسجود ، فأوّل ما يحاذي الأرض به من وجهه الذقن ، وقيل : المراد تعفير اللحية في التراب ، فإن ذلك غاية الخضوع ، وإيثار اللام في الأذقان على « على » للدلالة على الاختصاص ، فكأنهم خصوا أذقانهم بالخرور ، أو خصوا الخرور بأذقانهم ، وقيل : الضمير في قوله { مِن قَبْلِهِ } راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والأولى ما ذكرناه من رجوعه إلى القرآن لدلالة السياق على ذلك ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم . وحاصلها : أنه إن لم يؤمن به هؤلاء الجهال الذين لا علم عندهم ولا معرفة بكتب الله ولا بأنبيائه ، فلا تبال بذلك ، فقد آمن به أهل العلم وخشعوا له وخضعوا عند تلاوته عليهم خضوعاً ظهر أثره البالغ بكونهم يخرّون على أذقانهم سجداً لله . { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبّنَا } أي : يقولون في سجودهم تنزيهاً لربنا عما يقوله الجاهلون من التكذيب ، أو تنزيهاً له عن خلف وعده { إِن كَانَ وَعْدُ رَبّنَا لَمَفْعُولاً } « إن » هذه هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة . ثم ذكر أنهم خروا لأذقانهم باكين فقال : { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } وكرّر ذكر الخرور للأذقان ، لاختلاف السيب ، فإن الأول لتعظيم الله سبحانه وتنزيهه ، والثاني : للبكاء بتأثير مواعظ القرآن في قلوبهم ومزيد خشوعهم ، ولهذا قال : { وَيَزِيدُهُمْ } أي : سماع القرآن ، أو القرآن بسماعهم له { خُشُوعًا } أي : لين قلب ورطوبة عين .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { تِسْع ءايات } فذكر ما ذكرناه عن أكثر المفسرين . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : يده ، وعصاه ولسانه ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم . وأخرج الطيالسي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن قانع ، والحاكم وصححه ، وأبو نعيم ، والبيهقي ، وابن مردويه عن صفوان بن عسال : أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه : انطلق بنا إلى هذا النبيّ نسأله ، فأتياه فسألاه عن قول الله { وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى تِسْعَ ءايات بَيّنَاتٍ } فقال :

" لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تزنوا ، ولا تسرفوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببرىء إلى سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة - أو قال : لا تفروا من الزحف - شكّ شعبة - وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت " ، فقبلا يديه ورجليه وقالا : نشهد أنك نبيّ الله ، قال : فما يمنعكما أن تسلما؟ قالا : إن داود دعا الله أن يزال في ذريته نبيّ ، وإنا نخاف إن أسلمنا أن يقتلنا اليهود . وأخرج ابن أبي الدينا في ذمّ الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن قوله : { وَإِنّى لأظُنُّكَ يافرعون مَثْبُورًا } قال : مخالفاً ، وقال : الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسبّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس «مثبوراً» قال : ملعوناً . وأخرج الشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عنه قال : قليل العقل . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً { لفيفاً } قال : جميعاً . وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ : ( وقرآناً فرقناه ) مثقلاً قال : نزل القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان جملة واحدة ، فكان المشركون إذا أحدثوا شيئاً أحدث لهم جواباً ، ففرقه الله في عشرين سنة . وقد روي نحو هذا عنه من طرق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { فَرَقْنَاهُ } قال : فصلناه على مكث بأمد { يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ } يقول : للوجوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } قال : كتابهم .

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)

أراد سبحانه أن يعلم عباده كيفية الدعاء والخشوع فقال : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } ومعناه : أنهما مستويان في جواز الإطلاق وحسن الدعاء بهما ، ولهذا قال : { أَيَّا ما تَدْعُواْ فَلَهُ الاسماء الحسنى } التنوين في « أيا » عوض عن المضاف إليه ، و « ما » مزيدة لتوكيد الإبهام في : « أيا » والضمير في « له » راجع إلى المسمى ، وكان أصل الكلام : أيا ما تدعوا فهو حسن ، فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة ، وللدلالة على أنها إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الإسمان ، ومعنى حسن الأسماء : استقلالها بنعوت الجلال والإكرام ، ذكر معنى هذا النيسابوري وتبعه أبو السعود . قال الزجاج : أعلمهم الله أن دعاءهم الله ودعاءهم الرحمن يرجعان إلى قول واحد ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية ، وبه يتضح المراد منها ، ثم ذكر كيفية أخرى للدعاء فقال : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أي : بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم بأن الجهر والمخافتة من نعوت الصوت ، لا من نعوت أفعال الصلاة ، فهو من إطلاق الكل وإرادة الجزء ، يقال : خفت صوته خفوتاً : إذا انقطع كلامه وضعف وسكن ، وخفت الزرع إذا ذبل ، وخافت الرجل بقراءته : إذا لم يرفع بها صوته ، وقيل معناه : لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها ، والأوّل أولى { وابتغ بَيْنَ ذلك } أي : الجهر والمخافتة المدلول عليها بالفعلين { سَبِيلاً } أي : طريقاً متوسطاً بين الأمرين فلا تكن مجهورة ولا مخافتاً بها ، وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك : النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها ، والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها ، والأمر بجعل البعض منها مجهوراً به ، وهو صلاة الليل والمخافتة بصلاة النهار ، وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] . ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلاّ بأسمائه الحسنى نبه على كيفية الحمد له فقال : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } كما تقوله اليهود والنصارى ، ومن قال من المشركين : إن الملائكة بنات الله ، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الملك } أي : مشارك له في ملكه وربوبيته كما تزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل } أي : لم يحتج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغنٍ عن الوليّ والنصير . قال الزجاج : أي لم يحتج أن ينتصر بغيره ، وفي التعرّض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من له هذه الصفات ، لأنه القادر على الإيجاد وإفاضة النعم لكون الولد مجبنة ومبخلة ، ولأنه أيضاً يستلزم حدوث الأب لأنه متولد من جزء من أجزائه ، والمحدث غير قادر على كمال الإنعام ، والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به ، ومن لا يقدر على الاستقلال عاجز فضلاً عن تمام ما هو له ، فضلاً عن نظام ما هو عليه ، وأيضاً الشركة موجبة للتنازع بين الشريكين ، فقد يمنعه الشريك من إفاضة الخير إلى أوليائه ومؤدية إلى الفساد :

{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] . والمحتاج إلى وليّ يمنعه من الذلّ وينصره على من أراد إذلاله ، ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغني بنفسه { وَكَبّرْهُ تَكْبِيرًا } أي : عظمه تعظيماً وصفه بأنه أعظم من كل شيء .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : «صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ذات يوم فقال في دعائه : " يا ألله يا رحمن " فقال المشركون : انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين ، وهو يدعو إلهين ، فأنزل الله { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال : إن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرحمن ، وكان لهم كاهن باليمامة يسمونه الرحمن ، فنزلت الآية . وهو مرسل . وأخرج ابن جرير عن مكحول : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتهجد بمكة ذات ليلة يقول في سجوده : " يا رحمن يا رحيم " فسمعه رجل من المشركين ، فلما أصبح قال لأصحابه : إن ابن أبي كبشة يدعو الليلة الرحمن الذي باليمن ، وكان رجل باليمن يقال له : رحمن ، فنزلت . وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيَّا ما تَدْعُواْ } إلى آخر الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هو أمان من السرق " وإن رجلاً من المهاجرين من أصحاب رسول الله تلاها حيث أخذ مضجعه ، فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجد الباب مردوداً ، فوضع الكارة ، ففعل ذلك ثلاث مرات ، فضحك صاحب الدار ثم قال : إني حصنت بيتي . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } الآية قال : نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوارٍ ، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به ، فقال الله لنبيه : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } أي : بقراءتك ، فيسمع المشركون ، فيسبوا القرآن { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك ، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } يقول : بين الجهر والمخافتة . وأخرج ابن مردويه عنه قال : كان نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالقراءة بمكة فيؤذى ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } .

وأخرج ابن أبي شيبة عنه أيضاً نحوه . وأخرج أبو داود في ناسخه عنه نحوه . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : كان مسيلمة الكذاب قد سمي الرحمن ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا صلى فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قال المشركون : يذكر إله اليمامة ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ } . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الشعب عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا قرأ خفض ، وكان عمر إذا قرأ جهر ، فقيل لأبي بكر : لم تصنع هذا؟ قال : أنا أناجي ربي ، وقد عرف حاجتي ، وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، فلما نزل { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } قيل لأبي بكر : ارفع شيئاً ، وقيل لعمر اخفض شيئاً . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبخاري ، ومسلم وغيرهم عن عائشة قالت : إنما نزلت هذه الآية { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } في الدعاء . وأخرج ابن جرير ، والحاكم عنها قالت : نزلت في التشهد . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن منيع ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس مثل حديث عائشة الأوّل . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولداً ، وقالت العرب : لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، وقال الصابئون والمجوس : لولا أولياء الله لذلّ . فأنزل الله هذه الآية : { وقل الحمد لِلَّهِ } إلى آخرها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذل } قال : لم يحالف أحداً ولم يبتغ نصر أحد . وأخرج أحمد ، والطبراني عن معاذ بن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «آية العزّ { الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } » الآية كلها . وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال : «خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويده في يدي ، فأتى عليّ رجل رثّ الهيئة فقال : " أي فلان ما بلغ بك ما أرى "؟ قال : السقم والضرّ ، قال : " ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضرّ؟ توكلت على الحي الذي لا يموت ، الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا " إلى آخر الآية ، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حسنت حاله فقال : " ممّ "؟ قال : لم أزل أقول الكلمات التي علمتني . وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك أبا هريرة .

قال ابن كثير : وإسناده ضعيف وفي متنه نكارة . وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله هذه الآية : { الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } إلى آخرها الصغير من أهله والكبير . وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عبد الكريم بن أبي أمية قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الغلام من بني هاشم إذا أفصح سبع مرات : { الحمد لِلَّهِ الذى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا } إلى آخر السورة . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف من طريق عبد الكريم ، عن عمرو بن شعيب فذكره . وأخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)

علّم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم ، ووصفه بالموصول يشعر بعليّة ما في حيز الصلة لما قبله ووجه كون إنزال الكتاب ، وهو القرآن نعمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد ، وأحوال الملائكة والأنبياء ، وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها ، وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبيّ : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي : شيئاً من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى ، والعوج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأعيان كذا قيل ، ويرد عليه قوله سبحانه : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [ طه : 107 ] ، يعني : الجبال ، وهي من الأعيان . قال الزجاج : المعنى في الآية : لم يجعل فيها اختلافاً كما قال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] . والقيم : المستقيم الذي لا ميل فيه ، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية ، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمناً عليها ، وعلى الأوّل يكون تأكيداً لما دل عليه نفي العوج ، فربّ مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة ، وانتصاب { قيماً } بمضمر ، أي جعله قيماً ، ومنع صاحب الكشاف أن يكون حالاً من الكتاب ، لأن قوله { ولم يجعل } معطوف على { أنزل } فهو داخل في حيز الصلة ، فجاعله حالاً من الكتاب فاصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة . وقال الأصفهاني : هما حالان متواليان إلا أن الأوّل جملة والثاني مفرد ، وهذا صواب لأن قوله : { وَلَمْ يَجْعَل } لم يكن معطوفاً على ما قبله بل الواو للحال ، فلا فصل بين الحال وذي الحال ببعض الصلة ، وقيل : إن { قيماً } حال من ضمير { لم يجعل له } . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ، ثم أراد سبحانه أن يفصل ما أجمله في قوله قيماً فقال : { لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا } وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم ، والمعنى : لينذر الكافرين ، والبأس : العذاب ، ومعنى { مِن لَّدُنْهُ } : صادراً من لدنه نازلاً من عنده . روى أبو بكر ، عن عاصم : أنه « قرأ من لدنه » بإشمام الدال الضمة ، وبكسر النون والهاء ، وهي لغة الكلابيين . وروى أبو زيد عن جميع القراء فتح اللام وضم الدال وسكون النون { وَيُبَشّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات } ، قرىء « يبشر » بالتشديد والتخفيف ، وأجرى الموصول على موصوفه المذكور ، لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا } وهو الجنة حال كونهم { مَّاكِثِينَ فِيهِ } أي : في ذلك الأجر { أَبَدًا } أي : مكثاً دائماً لا انقطاع له ، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار .

ثم كرر الإنذار وذكر المنذر لخصوصه وحذف المنذر به ، وهو البأس الشديد ، لتقدّم ذكره فقال : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } وهم : اليهود والنصارى وبعض كفار قريش ، القائلون بأن الملائكة بنات الله ، فذكر سبحانه أوّلاً قضية كلية ، وهي إنذار عموم الكفار ، ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية ، تنبيهاً على كونها أعظم جزئيات تلك الكلية . فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر . { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي : بالولد ، أو اتخاذ الله إياه ، و « من » مزيدة لتأكيد النفي ، والجملة في محل نصب على الحال أو هي مستأنفة ، والمعنى : ما لهم بذلك علم أصلاً { وَلاَ لآبَائِهِمْ } علم ، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة ، وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعاً { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } انتصاب { كلمة } على التمييز ، وقرىء بالرفع على الفاعلية . قال الفراء : كبرت تلك الكلمة كلمة . وقال الزجاج : كبرت مقالتهم كلمة ، والمراد بهذه الكلمة هي : قولهم اتخذ الله ولداً . ثم وصف الكلمة بقوله : { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوّه بها ، والخارج من الفم وإن كان هو مجرد الهوى ، لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهوى أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل . ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال : { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } أي : ما يقولون إلا كذباً لا مجال للصدق فيه بحال . ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على ءاثارهم } قال الأخفش والفراء : البخع : الجهد . وقال الكسائي : بخعت الأرض بالزراعة : إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة ، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها . وقال أبو عبيدة : معناه : مهلك نفسك ، ومنه قول ذي الرمة :
ألا أيها ذا الباخع الوجد نفسه ... فيكون المعنى على هذه الأقوال : لعلك مجهد نفسك أو مضعفها أو مهلكها { على ءاثارهم } على فراقهم ومن بعد توليهم وإعراضهم { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } أي : القرآن وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله . وقرىء بفتح « أن » . أي : لأن لم يؤمنوا { أَسَفاً } أي : غيظاً وحزناً وهو مفعول له أو مصدر في موضع الحال ، كذا قال الزجاج . { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } هذه الجملة استئناف . والمعنى : إنا جعلنا ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها من الحيوانات والنبات والجماد ، كقوله سبحانه : { هُوَ الذى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأرض جَمِيعاً } [ البقرة : 29 ] ، وانتصاب { زينة } على أنها مفعول ثانٍ ل { جعل } ، واللام في { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } متعلقة ب { جعلنا } ، وهي إما للغرض أو للعاقبة ، والمراد بالابتلاء : أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان .

وقال الزجاج : { أيهم } رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام ، والمعنى : لنمتحن أهذا أحسن عملاً أم ذاك؟ قال الحسن : أيهم أزهد ، وقال مقاتل : أيهم أصلح فيما أوتي من المال . ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } أي : لجاعلون ما عليها من هذه الزينة عند تناهي عمر الدنيا { صعيداً } : تراباً . قال أبو عبيدة : الصعيد : المستوي من الأرض . وقال الزجاج : هو الطريق الذي لا نبات فيه . قال الفراء : الجرز : الأرض التي لا نبات فيها ، ومن قولهم : امرأة جرزاً : إذا كانت أكولاً . وسيفاً جرازاً : إذا كان مستأصلاً ، وجرز الجراد والشاة والإبل : الأرض إذا أكلت ما عليها . قال ذو الرمة :
طوى النحز والإجراز ما في بطونها ... ومعنى النظم : لا تحزن يا محمد مما وقع من هؤلاء من التكذيب ، فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم ، وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازوهم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { الحمد لِلَّهِ الذى أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } الآية قال : أنزل الكتاب عدلاً قيماً { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } ملتبساً . وأخرج ابن المنذر عن الضحاك { قَيِّماً } قال : مستقيماً . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة { مِن لَّدُنْهُ } أي : من عنده . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي { حَسَنًا } يعني : الجنة { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا } قال : هم اليهود والنصارى . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبوجهل والنضر بن الحارث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البحتري في نفر من قريش ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه ، وإنكارهم ما جاء به من النصيحة ، فأحزنه حزناً شديداً ، فأنزل الله سبحانه : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ } . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه { باخع نَّفْسَكَ } يقول : قاتل نفسك ، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي مثله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { أَسَفاً } قال : جزعاً . وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة { أَسَفاً } قال : حزناً . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } قال : الرجال . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من قوله مثله . وأخرج أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس في الآية قال : العلماء زينة الأرض .

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هم الرجال العباد العمال لله بالطاعة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } فقلت : ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال : « ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله » وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال : ليختبرهم { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } قال : أيهم أتمّ عقلاً . وأخرج عن الحسن { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } قال : أشدهم للدنيا تركاً ، وأخرج أيضاً عن الثوري قال : أزهدهم في الدنيا . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } قال : يهلك كل شيء ويبيد . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : الصعيد : التراب والجبال التي ليس فيها زرع . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : يعني بالجرز : الخراب .

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)

قوله : { أَمْ حَسِبْتَ } « أم » : هي المنقطعة المقدّرة ببل والهمزة عند الجمهور ، وببل وحدها عند بعضهم والتقدير : بل أحسبت ، أو بل حسبت ، ومعناها : الانتقال من حديث إلى حديث آخر ، لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معنى بل في الأصل . والمعنى : أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول على سبيل الامتحان ، قال سبحانه : بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط؟ لا تحسب ذلك فإن آياتنا كلها عجب ، فإن من كان قادراً على جعل ما على الأرض زينة لها للابتلاء ، ثم جعل ما عليها صعيداً جرزاً كأن لم تغن بالأمس ، لا تستبعد قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة ، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة ، فإن آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك . و { عَجَبًا } منتصبة على أنه خبر كان أي : ذات عجب ، أو موصوفة بالعجب مبالغة ، و { من آياتنا } في محل نصب على الحال ، و { إِذْ أَوَى الفتية } ظرف لحسبت أو لفعل مقدّر ، وهو أذكر ، أي : صاروا إليه وجعلوه مأواهم ، والفتية : هم أصحاب الكهف ، والكهف : هو الغار الواسع في الجبل ، فإن كان صغيراً سمي غاراً ، والرقيم قال كعب والسدّي : إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف . وقال سعيد بن جبير ومجاهد : إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف . قال الفراء : ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة فيه . والرقم : الكتابة . وروي مثل ذلك عن ابن عباس . ومنه قول العجاج في أرجوزة له :
ومستقرى المصحف الرقيم ... وقيل : إن الرقيم : اسم كلبهم ، وقيل : هو اسم الوادي الذي كانوا فيه ، وقيل : اسم الجبل الذي فيه الغار . قال الزجاج : أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله ، لأن خلق السموات والأرض وما بينهما أعجب من قصة أصحاب الكهف { فَقَالُواْ رَبَّنَا ءاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي : من عندك ، و « من » ابتدائية متعلقة ب { آياتنا } ، أو لمحذوف وقع حالاً ، والتنوين في { رحمة } : إما للتعظيم أو للتنويع ، وتقديم { من لدنك } للاختصاص أي : رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك ، وهي : المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء ، والرزق في الدنيا { وَهَيّىء لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا } أي : أصلح لنا ، من قولك هيأت الأمر فتهيأ ، والمراد بأمرهم : الأمر الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار ، والرشد : نقيض الضلال ، و « من » للابتداء . ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك : رأيت منك رشداً . وتقدم المجرورين للاهتمام بهما . { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ } قال المفسرون : أنمناهم . والمعنى : سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سماع الأصوات ، والمفعول محذوف أي : ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيهاً للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ، و { فِى الكهف } ظرف لضربنا ، وانتصاب { سِنِينَ } على الظرفية ، و { عَدَدًا } صفة لسنين ، أي : ذوات عدد على أنه مصدر ، أو بمعنى : معدودة على أنه لمعنى المفعول ، ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة .

قال الزجاج : إن الشيء إذا قلّ فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد ، وإن كثر احتاج إلى أن يعدّ . وقيل : يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } [ الحج : 47 ] . { ثُمَّ بعثناهم } أي : أيقظناهم من تلك النومة { لنعلم } أي : ليظهر معلومنا ، وقرىء بالتحتية مبنياً للفاعل على طريقة الالتفات ، و { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } مبتدأ معلق عنه العلم لما في أيّ من الاستفهام ، وخبره { أحصى } وهو فعل ماض ، قيل : والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو : الاختبار مجازاً فيكون المعنى : بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم ، والأولى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده ، والمراد بالحزبين : الفريقان من المؤمنين والكافرين من أصحاب الكهف المختلفين في مدة لبثهم . ومعنى أحصى : أضبط . وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف ، فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك ، ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه ، و « ما » في { لِمَا لَبِثُواْ } مصدرية ، أي : أحصى للبثهم ، وقيل : اللام زائدة ، و « ما » بمعنى : الذي ، و { أَمَدًا } تمييز ، والأمد : الغاية ، وقيل : إن { أحصى } أفعل تفضيل . وردّ بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب ، وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم : أفلس من ابن المذلق ، وأعدى من الجرب . وأجيب بأن أفعل التفضيل من المزيد قياس مطرد عند سيبويه وابن عصفور ، وقيل : إنهم الحزبين هم أصحاب الكهف اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا ، وقيل : إن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب . وقال الفراء : إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } هذا شروع في تفصيل ما أجمل في قوله : { إِذْ أَوَى الفتية } أي : نحن نخبرك بخبرهم بالحق ، أي : قصصناه بالحق ، أو متلبساً بالحق { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } أي : أحداث شبان ، و { آمنوا بربهم } صفة ل { فتية } . والجملة مستأنفة بتقدير سؤال . والفتية جمع قلة ، و { زِدْنَاهُمْ هُدًى } بالتثبيت والتوفيق ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب . { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } أي : قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان ، وفراق الخلان والأخدان { إِذْ قَامُواْ } الظرف منصوب بربطنا . واختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال فقيل : إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد ، فقال رجل منهم هو أكبر القوم : إني لأجد في نفسي شيئاً ، إن ربي ربّ السموات والأرض ، فقالوا : ونحن أيضاً كذلك نجد في أنفسنا ، فقاموا جميعاً { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض } قاله مجاهد .

وقال أكثر المفسرين : إنه كان لهم ملك جبار يقال له : دقيانوس ، وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت ، فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ * السموات والارض } وقال عطاء ومقاتل : إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم { لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } أي : لن نعبد معبوداً آخر غير الله لا اشتراكاً ولا استقلالاً { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أي : قولاً ذا شطط ، أو قولاً هو نفس الشطط لقصد المبالغة بالوصف بالمصدر ، واللام هي : الموطئة للقسم ، والشطط : الغلو ومجاوزة الحد . قال أعشى بن قيس :
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
{ هَؤُلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } هؤلاء مبتدأ ، وخبره { اتخذوا } ، و { قومنا } عطف بيان ، وفي هذا الإخبار معنى للإنكار ، وفي الإشارة إليهم تحقير لهم { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بسلطان بَيّنٍ } أي : هلا يأتون بحجة ظاهرة تصلح للتمسك بها { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا } فزعم أن له شريكاً في العبادة أي : لا أحد أظلم منه .
{ وَإِذِ اعتزلتموهم } أي : فارقتموهم وتنحيتم عنهم جانباً ، أي : عن العابدين للأصنام ، وقوله : { وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله } معطوف على الضمير المنصوب ، و « ما » موصولة أو مصدرية أي : وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم معبودهم أو الذي يعبدونه ، وقوله : { إِلاَّ الله } استثناء منقطع على تقدير : أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام ، أو متصل على تقدير : أنهم شركوها في العبادة مع الله سبحانه وقيل : هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فتكون ما على هذا نافية { فَأْوُواْ إِلَى الكهف } أي : صيروا إليه واجعلوه مأواكم . قال الفراء : هو جواب إذ ، ومعناه : اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم ، وقيل : هو دليل على جوابه ، أي إذ اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً ، فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً ، وإذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ } أي : يبسط ويوسع { وَيُهَيّىء لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا } أي يسهل وييسر لكم من أمركم الذي أنتم بصدده { مّرْفَقًا } المرفق بفتح الميم وكسرها لغتان قرىء بهما ، مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع ، وقيل : فتح الميم أقيس ، وكسرها أكثر . قال الفراء : وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان ، وقد تفتح العرب الميم فيهما فهما لغتان ، وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر ، والمرفق من الإنسان . وقال الكسائي : الكسر في مرفق اليد ، وقيل : المرفق بالكسر : ما ارتفقت به ، والمرفق بالفتح : الأمر الرافق ، والمراد هنا : ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله ، والتقديم في الموضعين يفيد الاختصاص .

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : الرقيم : الكتاب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفيّ عنه قال : الرقيم : وادٍ دون فلسطين قريب من أيلة . والراويان عن ابن عباس ضعيفان . وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عنه أيضاً قال : هو الجبل الذي فيه الكهف . وأخرج ابن المنذر عنه ، قال : والله ما أدري ما الرقيم الكتاب أم بنيان؟ وفي رواية عنه من طريق أخرى قال : وسألت كعباً فقال : اسم القرية التي خرجوا منها . وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال : الرقيم : الكلب . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كَانُواْ مِنْ ءاياتنا عَجَبًا } يقول : الذي آتيتك من العلم والسنّة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { فَضَرَبْنَا على ءاذَانِهِمْ } يقول : أرقدناهم { ثُمَّ بعثناهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } من قوم الفتية ، أهل الهدى ، وأهل الضلالة { أحصى لِمَا لَبِثُواْ } ، وذلك أنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة . وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله : { وزدناهم هُدًى } قال : إخلاصاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } قال : بالإيمان وفي قوله : { لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } قال : كذباً . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : جوراً . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني في قوله : { وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ الله } قال : كان قوم الفتية يعبدون الله ويعبدون معه آلهة شتى ، فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هي في مصحف ابن مسعود ، وما يعبدون من دون الله ، فهذا تفسيرها .

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)

قوله : { وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت } شرع سبحانه في بيان حالهم ، بعد ما أووا إلى الكهف . { تَّزَاوَرُ } قرأ أهل الكوفة بحذف تاء التفاعل ، وقرأ ابن عامر ( تزور ) قال الأخفش : لا يوضع الازورار في هذا المعنى ، إنما يقال هو مزورّ عني ، أي : منقبض . وقرأ الباقون بتشديد الزاي وإدغام تاء التفاعل فيه بعد تسكينها ، وتزاور مأخوذ من الزور بفتح الواو ، وهو الميل ، ومنه زاره إذا مال إليه ، والزور : الميل ، فمعنى الآية : أن الشمس إذا طلعت تميل وتتنحى { عَن كَهْفِهِمْ } قال الراجز الكلبي :
جاب المندّا عن هوانا أزور ... أي : مائل { ذَاتَ اليمين } أي : ناحية اليمين ، وهي الجهة المسماة باليمين ، وانتصاب { ذات } على الظرف ، { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ } القرض : القطع . قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة : تعدل عنهم وتتركهم ، قرضت المكان : عدلت عنه ، تقول لصاحبك : هل وردت مكان كذا؟ فيقول : إنما قرضته : إذا مرّ به وتجاوز عنه ، والمعنى : أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين ، أي : يمين الكهف ، وإذا غربت تمرّ { ذَاتَ الشمال } أي شمال الكهف لا تصيبه . بل تعدل عن سمته إلى الجهتين ، والفجوة : المكان المتسع ، وجملة : { وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } في محل نصب على الحال ، وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان : الأوّل : أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً في ظلّ جميع نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها ، لأن الله سبحانه حجبها عنهم . والثاني : أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف ، وإذا غربت كانت عن يساره ، ويؤيد القول الأوّل قوله : { ذلك مِنْ آيات الله } فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية ، ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا ، ومما يدلّ على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة ... حتى أبيحوا وخلوا فجوة الدار
ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله : { مَن يَهْدِ الله } أي : إلى الحق { فَهُوَ المهتد } الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُّرْشِدًا } أي : ناصراً يهديه إلى الحق كدقيانوس وأصحابه . ثم حكى سبحانه طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا } جمع يقظ بكسر القاف وفتحها { وَهُمْ رُقُودٌ } أي : نيام ، وهو جمع راقد كقعود في قاعد . قيل : وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام . وقال الزجاج : لكثرة تقلبهم { وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } أي : نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم { وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ } حكاية حال ماضية ، لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضيّ كما تقرر في علم النحو .

قال أكثر المفسرين : هربوا من ملكهم ليلاً ، فمرّوا براع معه كلب فتبعهم . والوصيد ، قال أبو عبيد وأبو عبيدة هو فناء الباب ، وكذا قال المفسرون ، وقيل : العتبة ، وردّ بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب ، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } قال الزجاج : فراراً منصوب على المصدرية بمعنى : التولية ، والفرار : الهرب { وَلَمُلِئْتَ } قرىء بتشديد اللام وتخفيفها { مِنْهُمْ رُعْبًا } قرىء بسكون العين وضمها أي : خوفاً يملأ الصدر ، وانتصاب { رعباً } على التمييز ، أو على أنه مفعول ثانٍ ، وسبب الرّعب الهيبة التي ألبسهم الله إياها ، وقيل : طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم ، ويدفعه قوله تعالى : { لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئاً ، ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدّة . { وكذلك بعثناهم لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ } الإشارة إلى المذكور قبله أي : وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات بعثناهم من نومهم ، وفيه تذكير لقدرته على الإماتة والبعث جميعاً ، ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال : ليتساءلوا بينهم أي : ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة ، والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها ، وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار ، وجملة { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ } مبينة لما قبلها من التساؤل أي : كم مدّة لبثكم في النوم؟ قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أي : قال بعضهم جواباً عن سؤال من سأل منهم ، قال المفسرون : إنهم دخلوا الكهف غدوة ، وبعثهم الله سبحانه آخر النهار ، فلذلك قالوا يوماً ، فلما رأوا الشمس قالوا أو بعض يوم ، وكان قد بقيت بقية من النهار ، وقد مرّ مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة . { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أي : قال البعض الآخر هذا القول ، إما على طريق الاستدلال ، أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه ، أي : أنكم لا تعلمون مدّة لبثكم ، وإنما يعلمها الله سبحانه { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة } أعرضوا عن التحاور في مدّة اللبث ، وأخذوا في شيء آخر ، كأنه قال القائل منهم : اتركوا ما أنتم فيه من المحاورة ، وخذوا في شيء آخر مما يهمكم ، والفاء : للسببية ، والورق : الفضة مضروبة أو غير مضروبة . وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بكسر الراء ، وقرأ أبو عمرو وحمزة ، وأبو بكر عن عاصم بسكونها ، وقرىء بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف .

وقرأ ابن محيصن بكسر الواو وسكون الراء . وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله ، والمدينة : دقسوس ، وهي مدينتهم التي كانوا فيها ، ويقال لها اليوم : طرسوس ، كذا قال الواحدي : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أزكى طَعَامًا } أي : ينظر أيّ أهلها أطيب طعاماً ، وأحلّ مكسباً ، أو أرخص سعراً ، وقيل : يجوز أن يعود الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال : زيد طبت أبا ، على أن الأب هو زيد ، وفيه بعد . واستدل بالآية على حلّ ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً ، وفيهم قوم يخفون إيمانهم ، ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي : يدقق النظر حتى لا يعرف أو لا يغبن ، والأوّل أولى ، ويؤيده { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا } أي : لا يفعلنّ ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له ، فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف . ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } أي : يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم ، يعني : أهل المدينة { يَرْجُمُوكُمْ } يقتلوكم بالرجم ، وهذه القتلة هي أخبث قتلة . وكان ذلك عادة لهم ، ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ } أي : يردّوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله ، أو المراد بالعود هنا : الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم ، وإيثار كلمة « في » على كلمة « إلى » للدلالة على الاستقرار { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا } في إذاً معنى الشرط . كأنه قال : إن رجعتم إلى دينهم فلن تفلحوا إذاً أبداً ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { تَّزَاوَرُ } قال : تميل ، وفي قوله : { تَّقْرِضُهُمْ } قال : تذرهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { تَّقْرِضُهُمْ } قال : تتركهم ، { وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مّنْهُ } قال : المكان الداخل . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، قال : الفجوة : الخلوة من الأرض ، ويعني بالخلوة : الناحية من الأرض . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَنُقَلّبُهُمْ } الآية قال : ستة أشهر على ذي الجنب اليمين ، وستة أشهر على ذي الجنب الشمال . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير في الآية قال : كي لا تأكل الأرض لحومهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أن اسم كلبهم : قطمورا . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : اسمه قطمير . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { بالوصيد } قال : بالفناء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : بالباب . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { أزكى طَعَامًا } قال : أحلّ ذبيحة ، وكانوا يذبحون للطواغيت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { أزكى طَعَامًا } يعني : أطهر ، لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت .

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)

قوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي : وكما أنمناهم وبعثناهم ، أعثرنا عليهم ، أي : أطلعنا الناس عليهم وسمي الإعلام : إعثاراً ، لأن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه ، فكان الإعثار سبباً لحصول العلم . { لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي : ليعلم الذين أعثرهم الله عليهم أن وعد الله بالبعث حق . قيل : وكان ملك ذلك العصر ممن ينكر البعث ، فأراه الله هذه الآية . قيل : وسبب الإعثار عليهم أن ذلك الرجل الذي بعثوه بالورق ، وكانت من ضربة دقيانوس إلى السوق ، لما اطلع عليها أهل السوق اتهموه بأنه وجد كنزاً ، فذهبوا به إلى الملك ، فقال له : من أين وجدت هذه الدراهم؟ قال : بعت بها أمس شيئاً من التمر ، فعرف الملك صدقه ، ثم قصّ عليه القصة فركب الملك وركب أصحابه معه حتى وصلوا إلى الكهف { وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا } أي : وليعلموا أن القيامة لا شكّ في حصولها ، فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث { إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } الظرف متعلق بأعثرنا أي : أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث ، وقيل : في أمر أصحاب الكهف في قدر مكثهم ، وفي عددهم ، وفيما يفعلونه بعد أن اطلعوا عليهم { فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا } لئلا يتطرق الناس إليهم ، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم وهم أحياء أمات الله الفتية ، فقال بعضهم : ابنوا عليهم بنياناً يسترهم عن أعين الناس . ثم قال سبحانه حاكياً لقول المتنازعين فيهم وفي عددهم ، وفي مدّة لبثهم ، وفي نحو ذلك مما يتعلق بهم { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } من هؤلاء المتنازعين فيهم ، قالوا ذلك تفويضاً للعلم إلى الله سبحانه ، وقيل : هو من كلام الله سبحانه ، ردّاً لقول المتنازعين فيهم ، أي : دعوا ما أنتم فيه من التنازع ، فإني أعلم بهم منكم ، وقيل : إن الظرف في { إِذْ يتنازعون } متعلق بمحذوف هو أذكر ، ويؤيده أن الإعثار ليس في زمن التنازع بل قبله ، ويمكن أن يقال : إن أولئك القوم ما زالوا متنازعين فيما بينهم قرناً بعد قرن ، منذ أووا إلى الكهف إلى وقت الإعثار ، ويؤيد ذلك أن خبرهم كان مكتوباً على باب الغار ، كتبه بعض المعاصرين لهم من المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم كما قاله المفسرون { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا } ذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون ، وقيل : هم أهل السلطان ، والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم ، والأوّل أولى . قال الزجاج : هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث والنشور .

لأن المساجد للمؤمنين . { سَيَقُولُونَ ثلاثة رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } هؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة ، هم المتنازعون في عددهم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين ، وقيل : هم أهل الكتاب خاصة ، وعلى كل تقدير فليس المراد أنهم جميعاً قالوا جميع ذلك ، بل قال بعضهم بكذا ، وبعضهم بكذا ، وبعضهم بكذا } ثلاثة رابعهم كلبهم } أي : هم ثلاثة أشخاص ، وجملة { رابعهم كلبهم } في محل نصب على الحال أي : حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } الكلام فيه كالكلام فيما قبله ، وانتصاب { رَجْماً بالغيب } على الحال ، أي : راجمين أو على المصدر ، أي : يرجمون رجماً ، والرجم بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير يقين ، والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلين بأنهم ثلاثة ، والقائلين بأنهم خمسة { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } كأن قول هذه الفرقة أقرب إلى الصواب بدلالة عدم إدخالهم في سلك الراجمين بالغيب . قيل : وإظهار الواو في هذه الجملة يدل على أنها مرادة في الجملتين الأوليين . قال أبو عليّ الفارسي : قوله { رابعهم كلبهم } ، و { سادسهم كلبهم } جملتان استغني عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى وهي قوله : { ثلاثة } ، والتقدير : هم ثلاثة ، هكذا حكاه الواحدي عن أبي علي ، ثم قال : وهذا معنى قول الزجاج في دخول الواو في : { وثامنهم } وإخراجها من الأوّل ، وقيل : هي مزيدة للتوكيد ، وقيل : إنها واو الثمانية ، وإن ذكره متداول على ألسن العرب إذا وصلوا إلى الثمانية كما في قوله تعالى : { وَفُتِحَتْ أبوابها } [ الزمر : 73 ] وقوله : { ثيبات وَأَبْكَاراً } [ التحريم : 5 ] . ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال : { قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } منكم أيها المختلفون ، ثم أثبت علم ذلك لقليل من الناس فقال : { مَّا يَعْلَمُهُمْ } أي : يعلم ذواتهم فضلاً عن عددهم ، أو ما يعلم عددهم على حذف المضاف { إِلاَّ قَلِيلٌ } من الناس ، ثم نهى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } المراء في اللغة : الجدال يقال : مارى يماري مماراة ومراءً أي : جادل ، ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهراً واضحاً فقال : { إِلاَّ مِرَآء ظاهرا } أي : غير متعمق فيه وهو أن يقصّ عليهم ما أوحى الله إليه فحسب . وقال الرازي : هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد ، بل يقول : هذا التعيين لا دليل عليه ، فوجب التوقف ، ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال : { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً } أي : لا تستفت في شأنهم من الخائفيين فيهم أحداً منهم ، لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي ، وها هنا الأمر بالعكس ، ولا سيما في واقعة أهل الكهف ، وفيما قصّ الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له .

{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً } أي : لأجل شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان ، فعبر عنه بالغد ، ولم يرد الغد بعينه ، فيدخل فيه الغد دخولاً أوّلياً . قال الواحدي : قال المفسرون : لما سألت اليهود النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خبر الفتية فقال : « أخبركم غداً » ، ولم يقل إن شاء الله ، فاحتبس الوحي عنه حتى شقّ عليه ، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله يقول : إذا قلت لشيء : إني فاعل ذلك غداً ، فقل : إن شاء الله . وقال الأخفش والمبرد والكسائي والفراء : لا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن تقول إن شاء الله ، فأضمر القول ولما حذف تقول نقل شاء إلى لفظ الاستقبال ، قيل : وهذا الاستثناء مفرّغ ، أي : لا تقولنّ ذلك في حال من الأحوال ، إلا حال ملابسته لمشيئة الله وهو أن تقول إن شاء الله ، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله مطلقاً ، وقيل : الاستثناء جار مجرى التأبيد كأنه قيل : لا تقولنه أبداً كقوله : { وَمَا يكون لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله } [ الأعراف : 89 ] . لأن عودهم في ملتهم مما لا يشاؤه الله . { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } الاستثناء بمشيئة الله أي : فقل إن شاء الله ، سواء كانت المدّة قليلة أو كثيرة .
وقد اختلف أهل العلم في المدّة التي يجوز إلحاق الاستثناء فيها بعد المستثنى منه على أقوال معروفة في مواضعها وقيل : المعنى { واذكر رَّبَّكَ } بالاستغفار { إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لأقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا } المشار إليه بقوله : { من هذا } هو نبأ أصحاب الكهف ، أي : قل يا محمد عسى أن يوفقني ربي لشيء أقرب من هذا النبأ من الآيات والدلائل الدالة على نبوّتي . قال الزجاج : عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوّة ما يكون أقرب في الرشد وأدلّ من قصة أصحاب الكهف ، وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف ، وقيل : الإشارة إلى قوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أي : عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر بدل هذا المنسيّ ، وأقرب منه رشداً وأدنى منه خيراً ومنفعة ، والأوّل أولى . { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلاثمائة سنين وازدادوا تِسْعًا } قرأ الجمهور بتنوين مائة ونصب سنين ، فيكون سنين على هذه القراءة بدلاً أو عطف بيان . وقال الفراء وأبو عبيدة والزجاج والكسائي : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير سنين ثلثمائة ، ورجح الأوّل أبو عليّ الفارسي . وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين ، وعلى هذه القراءة تكون سنين تمييزاً على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز كقوله تعالى :

{ بالأخسرين أعمالا } [ الكهف : 103 ] قال الفراء : ومن العرب من يضع سنين موضع سنة . قال أبو علي الفارسي : هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى المجموع وفي مصحف عبد الله ( ثلثمائة سنة ) . وقال الأخفش : لا تكاد العرب تقول مائة سنين . وقرأ الضحاك ( ثلثمائة سنون ) بالواو . وقرأ الجمهور ( تسعاً ) بكسر التاء . وقرأ أبو عمرو بفتحها ، وهذا إخبار من الله سبحانه بمدّة لبثهم . قال ابن جرير : إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدّة بعد الإعثار عليهم ، فقال بعضهم : إنهم لبثوا ثلثمائة سنة وتسع سنين ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن هذه المدّة في كونهم نياماً ، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر ، فأمر الله أن يردّ علم ذلك إليه ، فقال : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } قال ابن عطية : فقوله على هذا : لبثوا الأوّل يريد في يوم الكهف ، ولبثوا الثاني يريد بعد الإعثار عليهم إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو إلى أن ماتوا . وقال بعضهم : إنه لما قال : { وازدادوا تِسْعًا } لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام؟ واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك ، فأمر الله برد العلم إليه في التسع ، فهي على هذا مبهمة . والأوّل أولى ، لأن الظاهر من كلام العرب المفهوم بحسب لغتهم أن التسع أعوام ، بدليل أن العدد في هذا الكلام للسنين لا للشهور ولا للأيام ولا للساعات . وعن الزجاج أن المراد : ثلثمائة سنة شمسية وثلثمائة وتسع سنين قمرية ، وهذا إنما يكون من الزجاج على جهة التقريب . ثم أكد سبحانه اختصاصه بعلم ما لبثوا بقوله : { لَهُ غَيْبُ السموات والأرض } أي : ما خفي فيهما وغاب من أحوالهما ليس لغيره من ذلك شيء ، ثم زاد في المبالغة والتأكيد فجاء بما يدلّ على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } فأفاد هذا التعجب على أن شأنه سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين ، وأنه يستوي في علمه الغائب والحاضر ، والخفيّ والظاهر ، والصغير والكبير ، واللطيف والكثيف ، وكأن أصله ما أبصره وما أسمعه ، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء ، والباء زائدة عند سيبويه وخالفه الأخفش ، والبحث مقرر في علم النحو { مَا لَهُم مّن دُونِهِ مِن وَلِىّ } الضمير لأهل السموات والأرض ، وقيل : لأهل الكهف ، وقيل : لمعاصري محمد من الكفار ، أي : ما لهم من موالٍ يواليهم أو يتولى أمورهم أو ينصرهم ، وفي هذا بيان لغاية قدرته وأن الكل تحت قهره { وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا } قرأ الجمهور برفع الكاف على الخبر عن الله سبحانه .

وقرأ ابن عباس والحسن وأبو رجاء وقتادة بالتاء الفوقية وإسكان الكاف على أنه نهي للنبيّ صلى الله عليه وسلم أن يجعل لله شريكاً في حكمه ، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر . وقرأ مجاهد بالتحتية والجزم . قال يعقوب : لا أعرف وجهها ، والمراد بحكم الله : ما يقضيه ، أو علم الغيب . والأوّل أولى . ويدخل علم الغيب في ذلك دخولاً أوّلياً ، فإن علمه سبحانه من جملة قضائه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } قال : أطلعنا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } قال : الأمراء ، أو قال : السلاطين . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { سَيَقُولُونَ ثلاثة } قال : اليهود { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ } قال : النصارى . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { رَجْماً بالغيب } قال : قذفاً بالظنّ . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله : { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال : أنا من القليل كانوا سبعة . وأخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح في قوله : { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } قال : أنا من أولئك القليل كانوا سبعة ، ثم ذكر أسماءهم . وحكاه ابن كثير عن ابن عباس في رواية قتادة وعطاء وعكرمة ، ثم قال : فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس : أنهم كانوا سبعة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ } يقول : حسبك ما قصصت عليك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مّنْهُمْ أَحَداً } قال : اليهود . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء } الآية قال : إذا نسيت أن تقول لشيء إني أفعله فنسيت أن تقول : إن شاء الله ، فقل إذا ذكرت : إن شاء الله . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه عنه أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ، ثم قرأ : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال : هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد أن يستثني إلا في صلة يمين . وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر قال : كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه ، وإذا كان غير موصول فهو حانث . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال سليمان بن داود : لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية : تسعين - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله ، فقال له الملك : قل إن شاء الله ، فلم يقل ، فطاف فلم يلد منهنّ إلا امرأة واحدة نصف إنسان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو قال : إن شاء الله لم يحنث ، وكان دركاً لحاجته »

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن عكرمة { إِذَا نَسِيتَ } قال : إذا غضبت . وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن الحسن { إِذَا نَسِيتَ } قال : إذا لم تقل إن شاء الله . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض ، ثم تلا { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ } الآية ، ثم قال : كم لبث القوم؟ قالوا : ثلثمائة وتسع سنين ، قال : لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } ولكنه حكى مقالة القوم فقال : { سَيَقُولُونَ ثلاثة } إلى قوله : { رَجْماً بالغيب } فأخبر أنهم لا يعلمون ، ثم قال : سيقولون { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلاثمائة سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا } . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في حرف ابن مسعود ، وقالوا : { ولبثوا في كهفهم } الآية ، يعني : إنما قاله الناس ألا ترى أنه قال : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } . وأخرج ابن مردويه عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثلاثمائة } قيل : يا رسول الله أياماً أم أشهراً أم سنين؟ فأنزل الله { سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا } . وأخرجه ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك بدون ذكر ابن عباس . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } قال : الله يقوله .

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)

قوله : { واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ } أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه ، قيل : ويحتمل أن يكون معنى قوله : { واتل } : واتبع ، أمراً من التلوّ ، لا من التلاوة ، و { مِن كتاب رَبّكَ } بيان للذي أوحي إليه { لاَ مُبَدّلَ لكلماته } أي : لا قادر على تبديلها وتغييرها ، وإنما يقدر على ذلك هو وحده . قال الزجاج : أي ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدّل له ، وعلى هذا يكون التقدير : لا مبدّل لحكم كلماته { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } الملتحد : الملتجأ ، وأصل اللحد : الميل ، قال الزجاج : لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه ، والمعنى : أنك إن لم تتبع القرآن وتتله وتعمل بأحكامه لن تجد معدلاً تعدل إليه ومكاناً تميل إليه . وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف . ثم شرح سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } قد تقدّم في الأنعام نهيه صلى الله عليه وسلم عن طرد فقراء المؤمنين بقوله : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } [ الأنعام : 52 ] وأمره سبحانه ههنا بأن يحبس نفسه معهم ، فصبر النفس هو حبسها ، وذكر الغداة والعشي كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات ، وقيل : في طرفي النهار ، وقيل المراد : صلاة العصر والفجر . وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبد الرحمن وابن عامر ( بالغدوة ) بالواو ، واحتجوا بأنها في المصحف كذلك مكتوبة بالواو . قال النحاس : وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو ، ولا تكاد العرب تقول : الغدوة ، ومعنى { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } : أنهم يريدون بدعائهم رضى الله سبحانه ، والجملة في محل نصب على الحال ، ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي : لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم . قال الفراء : معناه لا تصرف عيناك عنهم ، وقال الزجاج : لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة ، واستعماله بعن لتضمنه معنى النبوّ ، من عدوته عن الأمر ، أي : صرفته منه ، وقيل : معناه : لا تحتقرهم عيناك { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } أي : مجالسة أهل الشرف والغنى ، والجملة في محل نصب على الحال ، أي : حال كونك مريداً لذلك ، هذا إذا كان فاعل تريد هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الفاعل ضميراً يعود إلى العينين ، فالتقدير : مريدة زينة الحياة الدنيا ، وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز ، وتوحيد الضمير للتلازم كقول الشاعر :
لمن زحلوقة زل ... بها العينان تنهلّ
{ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } أي : جعلناه غافلاً بالختم عليه ، نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه ، فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله ، ومع هذا فهم ممن اتبع هواه وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } أي : متجاوزاً عن حدّ الاعتدال ، من قولهم : فرس فرط : إذا كان متقدماً للخيل فهو على هذا من الإفراط .

وقيل هو : من التفريط ، وهو التقصير والتضييع . قال الزجاج : ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه . ثم بيّن سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ما يقوله لأولئك الغافلين ، فقال : { وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ } أي قل لهم : إن ما أوحي إليك وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة الله ، لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير ، وقيل : المراد بالحق الصبر مع الفقراء . قال الزجاج : أي الذين أتيتكم به الحق مِن رَّبّكُمْ يعني : لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } قيل : هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله ، والفاء لترتيب ما قبلها على ما بعدها ، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه تهديد شديد ، ويكون المعنى : قل لهم يا محمد الحق من ربكم وبعد أن تقول لهم هذا القول ، من شاء أن يؤمن بالله ويصدّقك فليؤمن ، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر . ثم أكد الوعيد وشدّده فقال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } أي : أعددنا وهيأنا للظالمين الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه ناراً عظيمة { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي : اشتمل عليهم . والسرادق : واحد السرادقات . قال الجوهري : وهي التي تمد فوق صحن الدار ، وكل بيت من كرسف فهو سرادق ، ومنه قول رؤبة :
يا حكم بن المنذر بن جارود ... سرادق المجد عليك ممدود
وقال الشاعر :
هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه ... صدور الفيول بعد بيت مسردق
يقوله سلام بن جندل لما قتل ملك الفرس ملك العرب النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة . وقال ابن الأعرابي : سرادقها : سورها . وقال القتيبي : السرادق : الحجرة التي تكون حول الفسطاط . والمعنى : أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من حرّ النار { يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل } وهو : الحديد المذاب . قال الزجاج : إنهم يغاثون بماء كالرصاص المذاب أو الصفر ، وقيل : هو درديّ الزيت . وقال أبو عبيدة والأخفش : هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس . وقيل : هو ضرب من القطران . ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه { يَشْوِى الوجوه } إذا قدّم إليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته { بِئْسَ الشراب } شرابهم هذا { وَسَاءتْ } النار { مُرْتَفَقًا } متكأً ، يقال : ارتفقت أي : اتكأت ، وأصل الارتفاق : نصب المرفق ، ويقال : ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه ، وقال القتيبي : هو المجلس ، وقيل ، المجتمع .

{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } هذا شروع في وعد المؤمنين بعد الفراغ من وعيد الكافرين ، والمعنى : إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحي إليك وعملوا الصالحات من الأعمال { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } هذا خبر { إن الذين آمنوا } ، والعائد محذوف ، أي : من أحسن منهم عملاً ، وجملة : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } استئناف لبيان الأجر ، والإشارة إلى من تقدّم ذكره ، وقيل : يجوز أن يكون { أولئك } خبر { إن الذين آمنوا } ، وتكون جملة : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراضاً ، ويجوز أن يكون { أولئك } خبراً بعد خبر ، وقد تقدّم الكلام { في جنات عدن } ، وفي كيفية جري الأنهار من تحتها { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } قال الزجاج : أساور جمع أسورة ، وأسورة جمع سوار ، وهي زينة تلبس في الزند من اليد وهي من زينة الملوك ، قيل : يحلى كل واحد منهم ثلاثة أسورة : واحد من فضة ، واحد من لؤلؤ ، وواحد من ذهب ، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب ، ويمكن أن يكون قول القائل هذا جمعاً بين الآيات لقوله سبحانه في آية أخرى : { أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } [ الإنسان : 21 ] ، ولقوله في آية أخرى : { وَلُؤْلُؤاً } [ الحج : 23 ] . و«من» في قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ } للابتداء ، وفي { من ذهب } للبيان . وحكى الفراء " يحلون " بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام ، يقال : حليت المرأة تحلى فهي حالية : إذا لبست الحليّ { وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } قال الكسائي : السندس : الرقيق ، واحده سندسة ، والإستبرق : ما ثخن وكذا قال المفسرون ، وقيل : الإستبرق : هو الديباج كما قال الشاعر :
وإستبرق الديباج طوراً لباسها ... وقيل : هو المنسوج بالذهب . قال القتيبي : هو فارسيّ معرّب . قال الجوهري : وتصغيره أبيرق ، وخصّ الأخضر لأنه الموافق للبصر ، ولكونه أحسن الألوان { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك } قال الزجاج : الأرائك : جمع أريكة ، وهي السرر في الحجال ، وقيل : هي أسرة من ذهب مكللة بالدرّ والياقوت ، وأصل اتكأ : اوتكأ ، وأصل متكئين : موتكئين ، والاتكاء : التحامل على الشيء { نِعْمَ الثواب } ذلك الذي أثابهم الله به { وَحَسُنَتْ } تلك الأرائك { مُرْتَفَقًا } أي متكأً وقد تقدّم قريباً .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { مُلْتَحَدًا } قال : ملتجأً . وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب عن سلمان قال : جاءت المؤلفة قلوبهم : عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس فقالوا : يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم ، يعنون : سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف ، جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك ، فأنزل الله { واتل مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ } إلى قوله : { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا } ، زاد أبو الشيخ عن سلمان :

« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال : » الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي ، معكم المحيا والممات « وأخرج ابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى } فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب الخلق ، فلما رآهم جلس معهم وقال : » الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم « وأخرج البزار عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم « ، وفي الباب روايات . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن نافع قال : أخبرني عبد الله بن عمر في هذه الآية : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } أنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريق عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه في قوله : { واصبر نَفْسَكَ } الآية قال : نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر . وأخرج ابن مردويه من طريق جويبر ، عن الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } قال : نزلت في أمية بن خلف ، وذلك أنه دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة ، فأنزل الله هذه الآية ، يعني : من ختمنا على قلبه يعني : التوحيد { واتبع هَوَاهُ } يعني الشرك { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } يعني : فرطاً في أمر الله وجهالة بالله . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن بريدة قال : دخل عيينة بن حصن على النبيّ في يوم حارّ ، وعنده سلمان عليه جبة صوف ، فصار منه ريح العرق في الصوف ، فقال عيينة : يا محمد إذا نحن أتيناك فأخرج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا ، فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم ، فأنزل الله : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } الآية . وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية ، وهي قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشى } [ الأنعام : 52 ] ، عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا ، قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما ، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدّث نفسه ، فأنزل الله { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } قال : ضياعاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة { وَقُلِ الحق } قال : هو القرآن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } يقول : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء له الكفر كفر ، وهو قوله : { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين } [ التكوير : 29 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال في الآية : هذا تهديد ووعيد . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قال : حائط من نار . وأخرج أحمد ، والترمذي ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « لسرادق النار أربعة جدر ، كثافة كل جدار منها مسيرة أربعين سنة » وأخرج أحمد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن يعلى بن أمية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن البحر هو من جهنم ، ثم تلا { نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } » وأخرج أحمد ، والترمذي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { بِمَاء كالمهل } قال : « كعكر الزيت ، فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه فيه » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كالمهل } قال : أسود كعكر الزيت . وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عطية قال : سئل ابن عباس عن المهل فقال : ماء غليظ كدرديّ الزيت . وأخرج هناد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود : أنه سئل عن المهل ، فدعا بذهب وفضة فأذابه ، فلما ذاب قال : هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء ، غير أن شراب أهل النار أشدّ حرّاً من هذا . وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال : هل تدرون ما المهل؟ المهل : سهل الزيت ، يعني : آخره . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا } قال : مجتمعاً .

وأخرج البخاري ، ومسلم عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » وأخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال : في الجنة شجرة تنبت السندس منه يكون ثياب أهل الجنة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن عكرمة قال : الإستبرق : الديباج الغليظ . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحوّل منه ولا يمله ، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه » وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأرائك : السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ . وأخرج البيهقي في البعث عنه قال : لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عكرمة ، أنه سئل عن الأرائك فقال : هي الحجال على السرر .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)

قوله : { واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ } هذا المثل ضربه الله سبحانه لمن يتعزّز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة الفقراء فهو على هذا متصل بقوله : { واصبر نَفْسَكَ } .
وقد اختلف في الرجلين هل هما مقدّران أو محققان؟ فقال بالأوّل : بعض المفسرين . وقال بالآخر : بعض آخر . واختلفوا في تعيينهما ، فقيل : هما أخوان من بني إسرائيل ، وقيل : هما أخوان مخزوميان من أهل مكة : أحدهما مؤمن ، والآخر كافر ، وقيل : هما المذكوران في سورة الصافات في قوله : { قَالَ قَائِلٌ مّنْهُمْ إِنّى كَانَ لِى قَرِينٌ } [ الصافات : 51 ] . وانتصاب { مثلاً } و { رجلين } على أنهما مفعولا { اضرب } ، قيل : والأوّل هو الثاني والثاني هو الأوّل { جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } هو الكافر ، و { مّنْ أعناب } بيان لما في الجنتين أي : من كروم متنوعة { وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ } الحفّ : الإحاطة ، ومنه { حَافّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } [ الزمر : 75 ] ويقال : حف القوم بفلان يحفون حفاً أي : أطافوا به ، فمعنى الآية : وجعلنا النخل مطيفاً بالجنتين من جميع جوانبهما { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا } أي : بين الجنتين ، وهو وسطهما ، ليكون كل واحد منهما جامعاً للأقوات والفواكه . ثم أخبر سبحانه عن الجنتين بأن كل واحدة منهما كانت تؤدّي حملها وما فيها ، فقال : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا } أخبر عن { كلتا } ب { آتت } ، لأن لفظه مفرد ، فراعى جانب اللفظ . وقد ذهب البصريون إلى أن كلتا وكلا اسم مفرد غير مثنى . وقال الفراء : هو مثنى . وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية . وقال سيبويه : ألف كلتا للتأنيث ، والتاء بدل من لام الفعل ، وهي واو ، والأصل كلوا . وقال أبو عمرو : التاء ملحقة ، وأكلهما هو : ثمرهما ، وفيه دلالة على أنه قد صار صالحاً للأكل . وقرأ عبد الله بن مسعود ( كل الجنتين آتى أكله ) . { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا } أي : لم تنقص من أكلها شيئاً ، يقال : ظلمه حقه ، أي : نقصه ، ووصف الجنتين بهذه الصفة للإشعار بأنهما على خلاف ما يعتاد في سائر البساتين فإنها في الغالب تكثر في عام ، وتقلّ في عام { وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَراً } أي : أجرينا وشققنا وسط الجنتين نهراً ليسقيهما دائماً من غير انقطاع ، وقرىء { فجرنا } بالتشديد للمبالغة ، وبالتخفيف على الأصل . { وَكَانَ لَهُ } أي : لصاحب الجنتين { ثَمَرٌ } قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق { ثمر } بفح الثاء والميم . وكذلك قرؤوا في قوله : { أُحِيطَ بِثَمَرِهِ } وقرأ أبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم فيهما . وقرأ الباقون بضمهما جميعاً في الموضعين . قال الجوهري : الثمرة واحدة الثمر ، وجمع الثمر : ثمار ، مثل : جبل وجبال . قال الفراء : وجمع الثمار : ثمر ، مثل : كتاب وكتب ، وجمع الثمر : أثمار ، مثل : عنق وأعناق ، وقيل : الثمر : جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك ، وقيل : هو الذهب والفضة خالصة { فَقَالَ لصاحبه } أي : قال صاحب الجنتين الكافر لصاحبه المؤمن { وَهُوَ يحاوره } أي : والكافر يحاور المؤمن ، والمعنى : يراجعه الكلام ويجاوبه ، والمحاورة : المراجعة ، والتحاور التجاوب { أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } النفر : الرهط ، وهو ما دون العشرة ، وأراد ها هنا الأتباع والخدم والأولاد .

{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } أي : دخل الكافر جنة نفسه . قال المفسرون : أخذ بيد أخيه المسلم ، فأدخله جنته يطوف به فيها ، ويريه عجائبها ، وإفراد الجنة هنا يحتمل أن وجهه : كونه لم يدخل أخاه إلا واحدة منهما ، أو لكونهما لما اتصلا كانا كواحدة ، أو لأنه أدخله في واحدة ، ثم واحدة أو لعدم تعلق الغرض بذكرهما . وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف : أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون ، وجملة : { وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } في محل نصب على الحال أي : وذلك الكافر ظالم لنفسه بكفره وعجبه { قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } أي : قال الكافر لفرط غفلته وطول أمله : ما أظن أن تفنى هذه الجنة التي تشاهدها . { وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } أنكر البعث بعد إنكاره لفناء جنته . قال الزجاج : أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا وقيام الساعة { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى لأجِدَنَّ خَيْراً مّنْهَا مُنْقَلَباً } اللام هي الموطئة للقسم ، والمعنى : أنه إن يردّ إلى ربه فرضاً وتقديراً كما زعم صاحبه ، واللام في { لأجِدَنَّ } جواب القسم ، والشرط أي : لأجدنّ يومئذٍ خيراً من هذه الجنة . في مصاحف مكة والمدينة والشام ( خيراً منهما ) وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة { خيراً منها } على الإفراد ، و { مُنْقَلَباً } منتصب على التمييز أي : مرجعاً وعاقبة ، قال هذا قياساً للغائب على الحاضر ، وأنه لما كان غنياً في الدنيا ، سيكون غنياً في الأخرى ، اغتراراً منه بما صار فيه من الغنى الذي هو استدراج له من الله . { قَالَ لَهُ صاحبه } أي : قال للكافر صاحبه المؤمن حال محاورته له منكراً عليه ما قاله { أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } بقولك { مَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } وقال خلقك : من تراب أي : جعل أصل خلقك من تراب حيث خلق أباك آدم منه ، وهو أصلك ، وأصل البشر فلكل فرد حظ من ذلك ، وقيل : يحتمل أنه كان كافراً بالله فأنكر عليه ما هو عليه من الكفر ، ولم يقصد أن الكفر حدث له بسبب هذه المقالة { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وهي المادّة القريبة { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } أي : صيرك إنساناً ذكراً ، وعدّل أعضاءك وكملك ، وفي هذا تلويخ بالدليل على البعث ، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة ، وانتصاب { رجلاً } على الحال أو التمييز . { لَكنا هُوَ الله رَبّى } كذا قرأ الجمهور بإثبات الألف بعد لكنّ المشددة .

وأصله : لكن أنا ، حذفت الهمزة وألقيت حركتها على النون الساكنة قبلها فصار لكننا ، ثم استثقلوا اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت الثانية ، وضمير هو للشأن ، والجملة بعده خبره والمجموع خبر أنا ، والراجع ياء الضمير ، وتقدير الكلام : لكن أنا الشأن الله ربي . قال أهل العربية : إثبات ألف أنا في الوصل ضعيف . قال النحاس : مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل : لكن أنا ، وذكر نحو ما قدّمنا . وروي عن الكسائي أن الأصل : لكن الله هو ربي أنا . قال الزجاج : إثبات الألف في لكنا في الإدراج جيد لأنها قد حذفت الألف من أنا ، فجاءوا بها عوضاً ، قال : وفي قراءة أبيّ ( لكن أنا هو الله ربي ) وقرأ ابن عامر والمثنى عن نافع ، وورش عن يعقوب { لكنا } في حال الوصل والوقف معاً بإثبات الألف ، ومثله قول الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني ... فإني قد تذربت السناما
ومنه قول الأعشى :
فكيف أنا وألحان القوافي ... وبعد الشيب كفى ذاك عارا
ولا خلاف في إثباتها في الوقف ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو العالية ، وروي عن الكسائي ( لكن هو الله ربي ) ثم نفى عن نفسه الشرك بالله ، فقال : { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا } وفيه إشارة إلى أن أخاه كان مشركاً ، ثم أقبل عليه يلومه فقال : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله } لولا للتحضيض ، أي : هلاّ قلت عندما دخلتها هذا القول . قال الفراء والزجاج : « ما » في موضع رفع على معنى الأمر ما شاء الله ، أي : هلاّ قلت حين دخلتها : الأمر بمشيئة الله ، وما شاء الله كان ، ويجوز أن تكون « ما » مبتدأ والخبر مقدّر ، أي : ما شاء الله كائن ، ويجوز أن تكون « ما » شرطية والجواب محذوف ، أي : أيّ شيء شاء الله كان { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } أي : هلا قلت : ما شاء الله لا قوّة إلاّ بالله ، تحضيضاً له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله ، إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها ، وعلى الاعتراف بالعجز ، وأن ما تيسر له من عمارتها إنما هو بمعونة الله لا بقوّته وقدرته . قال الزجاج : لا يقوى أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله ، ولا يكون إلا ما شاء الله . ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه أجابه على افتخاره بالمال والنفر فقال : { إن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا } المفعول الأوّل : ياء الضمير ، و « أنا » : ضمير فصل ، و { أقلّ } : المفعول الثاني للرؤية إن كانت علمية ، وإن جعلت بصرية كان انتصاب أقلّ على الحال ، ويجوز أن يكون { أنا } تأكيد لياء الضمير ، وانتصاب { مالاً } و { ولداً } على التمييز . { فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ } هذا جواب الشرط ، أي : إن ترني أفقر منك ، فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة خيراً من جنتك في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا } أي : ويرسل على جنتك حسباناً ، والحسبان مصدر ، بمعنى : الحساب كالغفران ، أي : مقداراً قدّره الله عليها ، ووقع في حسابه سبحانه ، وهو الحكم بتخريبها .

قال الزجاج : الحسبان من الحساب أي : يرسل عليها عذاب الحساب ، وهو حساب ما كسبت يداك . وقال الأخفش : حسباناً : أي مرامي { مّنَ السماء } واحدها حسبانه ، وكذا قال أبو عبيدة والقتيبي . وقال ابن الأعرابي : الحسبانة : السحابة ، والحسبانة : الوسادة ، والحسبانة : الصاعقة ، وقال النضر بن شميل : الحسبان : سهام يرمي بها الرجل في جوف قصبة تنزع في قوس ، ثم يرمي بعشرين منها دفعة ، والمعنى : يرسل عليها مرامي من عذابه : إما برد ، وإما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب . ومنه قول أبي زياد الكلابي :
أصاب الأرض حسبان ... أي : جراد { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } أي : فتصبح جنة الكافر بعد إرسال الله سبحانه عليها حسباناً صعيداً ، أي : أرضاً لا نبات بها وقد تقدّم تحقيقه { زلقاً } أي : تزلّ فيها الأقدام لملاستها ، يقال : مكان زلق بالتحريك أي : دحض ، وهو في الأصل مصدر قولك زلقت رجله تزلق زلقاً وأزلقها غيره ، والمزلقة : الموضع الذي لا يثبت عليه قدم ، وكذا الزلاقة ، وصف الصعيد بالمصدر مبالغة ، أو أريد به المفعول ، وجملة : { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } معطوفة على الجملة التي قبلها ، والغور : الغائر . وصف الماء بالمصدر مبالغة ، والمعنى : أنها تصير عادمة للماء بعد أن كانت واجدة له ، وكان خلالها ذلك النهر يسقيها دائماً ، ويجيء الغور بمعنى : الغروب ، ومنه قول أبي ذوئيب :
هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
{ فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } أي : لن تستطيع طلب الماء الغائر فضلاً عن وجوده وردّه ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل ، وقيل : المعنى : فلن تستطيع طلب غيره عوضاً عنه . ثم أخبر سبحانه عن وقوع ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } قد قدّمنا اختلاف القراء في هذا الحرف وتفسيره ، وأصل الإحاطة من إحاطة العدوّ بالشخص كما تقدّم في قوله : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] ، وهي عبارة عن إهلاكه وإفنائه ، وهو معطوف على مقدّر كأنه قيل : فوقع ما توقعه المؤمن وأحيط بثمره { فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } أي : يضرب إحدى يديه على الأخرى وهو كناية عن الندم ، كأنه قيل : فأصبح يندم { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } أي : في عمارتها وإصلاحها من الأموال ، وقيل : المعنى يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق ، لأن الملك قد يعبر عنه باليد من قولهم : في يده مال ، وهو بعيد جداً ، وجملة { وَهِىَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن تلك الجنة ساقطة على دعائمهم التي تعمد بها الكروم أو ساقط بعض تلك الجنة على بعض ، مأخوذ من خوت النجوم تخوى : إذا سقطت ولم تمطر في نوئها ، ومنه قوله تعالى :

{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة بِمَا ظَلَمُواْ } [ النمل : 52 ] قيل : وتخصيص ماله عروش بالذكر دون النخل والزرع لأنه الأصل ، وأيضاً إهلاكها مغن عن ذكر إهلاك الباقي ، وجملة : { وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا } معطوفة على { يقلب كفيه } ، أو حال من ضميره ، أي : وهو يقول تمنى عند مشاهدته لهلاك جنته بأنه لم يشرك بالله حتى تسلم جنته من الهلاك ، أو كان هذا القول منه على حقيقته ، لا لما فاته من الغرض الدنيوي ، بل لقصد التوبة من الشرك والندم على ما فرط منه . { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله } { فئة } اسم كان و { له } خبرها ، و { ينصرونه } صفةً لفئة ، أي : فئة ناصرة ، ويجوز أن تكون { ينصرونه } الخبر ، ورجح الأوّل سيبويه ، ورجح الثاني المبرّد ، واحتج بقوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] والمعنى : أنه لم تكن له فرقة وجماعة يلتجىء إليها وينتصر بها ، ولا نفعه النفر الذين افتخر بهم فيما سبق { وَمَا كَانَ } في نفسه { مُنْتَصِراً } أي : ممتنعاً بقوته عن إهلاك الله لجنته ، وانتقامه منه . { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } قرأ أبو عمرو والكسائي « الحق » بالرفع نعتاً للولاية ، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وعاصم وحمزة { الحق } بالجرّ نعته لله سبحانه . قال الزجاج : ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما تقول هذا لك حقاً . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : « الولاية » بكسر الواو ، وقرأ الباقون بفتحها ، وهما لغتان بمعنى ، والمعنى : هنالك ، أي : في ذلك المقام ، النصرة لله وحده لا يقدر عليها غيره ، وقيل : هو على التقديم والتأخير ، أي : الولاية لله الحق هنالك { هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي : هو سبحانه خير ثواباً لأوليائه في الدنيا والآخرة { وَخَيْرٌ عُقْبًا } أي : عاقبة ، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة { عقباً } بسكون القاف ، وقرأ الباقون بضمها ، وهما بمعنى واحد ، أي : هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به ، يقال : هذا عاقبة أمر فلان ، وعقباه : أي أخراه .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { جَعَلْنَا لأحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ } قال : الجنة : هي البستان ، فكان له بستان واحد وجدار واحد ، وكان بينهما نهر ، فلذلك كانا جنتين ، ولذلك سماه جنة من قبل الجدار الذي عليها . وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : نهر أبي قرطس نهر الجنتين . قال ابن أبي حاتم : وهو نهر مشهور بالرملة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئًا } قال : لم تنقص ، كل شجر الجنة أطعم . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } يقول : مال .

وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، قال : قرأها ابن عباس " وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ " بالضم ، وقال : هي أنواع المال . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } قال : ذهب وفضة . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة { وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ } يقول : كفور لنعمة ربه . وأخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهنّ عند الكرب : " الله الله ربي لا أشرك به شيئاً " وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن يحيى بن سليم الطائفي عمن ذكره قال : «طلب موسى من ربه حاجة فأبطأت عليه فقال : ما شاء الله ، فإذا حاجته بين يديه ، فقال : يا رب إني أطلب حاجتي منذ كذا وكذا أعطيتها الآن ، فأوحى الله إليه : يا موسى ، أما علمت أن قولك ما شاء الله أنجح ما طلبت به الحوائج» . وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوّة إلا بالله إلا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته ، وقرأ : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } " ، وفي إسناده عيسى بن عون ، عن عبد الملك بن زرارة ، عن أنس . قال أبو الفتح الأزدي : عيسى بن عون ، عن عبد الملك بن زرارة ، عن أنس لا يصح حديثه . وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر ، عن أنس نحوه موقوفاً . وأخرج البيهقي في الشعب عنه نحوه مرفوعاً . وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال : قال لي نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت : نعم ، قال : أن تقول : لا قوّة إلا بالله " وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له : " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوّة إلاّ بالله " ، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في فضل هذه الكلمة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عباس في قوله : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } قال : مثل الجرز . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { حُسْبَانًا مِّنَ السماء } قال : عذاباً { فتصبح صعيداً زلقاً } أي : قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } أي : ذاهباً قد غار في الأرض { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ } قال : يصفق { عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا } متلهفاً على ما فاته .

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)

ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا } أي : اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها ، وقد تقدّم هذا المثل في سورة يونس ، ثم بيّن سبحانه هذا المثل فقال : { كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء } ويجوز أن يكون هذا هو المفعول الثاني { لقوله } اضرب على جعله بمعنى : صير { فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } أي : اختلط بالماء نبات الأرض حتى استوى؛ وقيل : المعنى إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء ، لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر ، فتكون الباء في { به } سببية { فَأَصْبَحَ } النبات { هَشِيمًا } الهشيم : الكسير ، وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وتفتت ، ورجل هشيم : ضعيف البدن ، وتهشم عليه فلان : إذا تعطف . واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه ، وهشم الثريد كسره وثرده ، ومنه قول ابن الزبعري :
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
{ تَذْرُوهُ الرياح } تفرقه . قال أبو عبيدة وابن قتيبة : تذروه : تنسفه . وقال ابن كيسان : تذهب به وتجيء ، والمعنى متقارب . وقرأ طلحة بن مصرّف ( تذريه الريح ) قال الكسائي : وفي قراءة عبد الله ( تذريه ) يقال : ذرته الريح تذروه ، وأذرته تذريه . وحكى الفراء : أذريت الرجل عن فرسه أي : قلبته { وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا } أي : على كل شيء من الأشياء يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } هذا ردّ على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينفع في الآخرة ، كما قال في الآية الأخرى { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } [ التغابن : 15 ] . وقال : { إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } [ التغابن : 14 ] . ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله : { والباقيات الصالحات } أي : أعمال الخير ، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } أي : أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين ثواباً ، وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها { وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي أفضل أملاً ، يعني : أن هذه الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين ، لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا ، وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة ، ولكن هذا التفضيل خرّج مخرج قوله تعالى : { أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } [ الفرقان : 24 ] . والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه لقصرها على الصلاة كما قال بعض ، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر ، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبهذا تعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : { المال والبنون } حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة ، وقد جمعهما الله لأقوام . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { والباقيات الصالحات } قال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « استكثروا من الباقيات الصالحات ، قيل : وما هنّ يا رسول الله؟ قال : التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوّة إلا بالله » ، وأخرج الطبراني وابن شاهين وابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ : « سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله ، هنّ الباقيات الصالحات » وأخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الصغير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً : « خذوا جِنَّتَكم ، قيل : يا رسول الله من أيّ عدوّ قد حضر؟ قال : بل جِنَّتَكم من النار قول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فإنهنّ يأتين يوم القيامة مقدّمات معقبات ومجنبات ، وهي الباقيات الصالحات » وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وابن مردويه عن النعمان بن بشير ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا وإن سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، الباقيات الصالحات » وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أنس مرفوعاً ، وزاد التكبير وسماهنّ الباقيات الصالحات . وأخرج ابن مردويه نحوه من حديث أبي هريرة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن مردويه من حديث عائشة مرفوعاً نحوه ، وزادت : « ولا حول ولا قوة إلا بالله » وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه من حديث عليّ مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً فذكر نحوه دون الحوقلة . وأخرج الطبراني عن سعد بن جنادة مرفوعاً نحوه . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير عن ابن عمر من قوله نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس من قوله نحوه . وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات ، وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة لا فائدة في ذكرها هنا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كل شيء من طاعة الله ، فهو من الباقيات الصالحات .

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)

وقوله : { وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال } قرأ الحسن وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : « تسير » بمثناة فوقية مضمومة وفتح الياء التحتية على البناء للمفعول ، ورفع الجبال على النيابة عن الفاعل . وقرأ ابن محيصن ومجاهد ( تسير ) بفتح التاء الفوقية والتخفيف على أن الجبال فاعل . وقرأ الباقون ( نسير ) بالنون على أن الفاعل هو الله سبحانه والجبال منصوبة على المفعولية ، ويناسب القراءة الأولى قوله تعالى : { وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ } [ التكوير : 3 ] ، ويناسب القراءة الثانية قوله تعالى : { وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } [ الطور : 10 ] ، واختار القراءة الثالثة أبو عبيدة لأنها المناسبة لقوله : { وحشرناهم } قال بعض النحويين : التقدير : والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسيّر الجبال ، وقيل : العامل في الظرف فعل محذوف ، والتقدير : واذكر يوم نسيّر الجبال ، ومعنى تسيير الجبال : إزالتها من أماكنها وتسييرها كما تسير السحاب ، ومنه قوله تعالى : { وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } [ النمل : 88 ] ، ثم تعود إلى الأرض بعد أن جعلها الله كما قال : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً } [ الواقعة : 5 6 ] . والخطاب في قوله : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح للرؤية ، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان . وقيل : المعنى ببروزها : بروز ما فيها من الكنوز والأموات كما قال سبحانه : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [ الإنشقاق : 4 ] ، وقال : { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 2 ] . فيكون المعنى : وترى الأرض بارزاً ما في جوفها { وحشرناهم } أي : الخلائق ، ومعنى الحشر الجمع أي : جمعناهم إلى الموقف من كل مكان { فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } فلم نترك منهم أحداً ، يقال : غادره وأغدره إذا تركه ، قال عنترة :
غادرته متعفراً أوصاله ... والقوم بين مجرّح ومجندل
أي : تركته ، ومنه الغدر ، لأن الغادر ترك الوفاء للمغدور ، قالوا : وإنما سمي الغدير غديراً ، لأن الماء ذهب وتركه ، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها { وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا } انتصاب { صفاً } على الحال أي : مصفوفين كل أمة وزمرة صف ، وقيل : عرضوا صفاً واحداً كما في قوله : { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } [ طه : 64 ] أي جميعاً ، وقيل : قياماً . وفي الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ } هو على إضمار القول ، أي : قلنا لهم لقد جئتمونا ، والكاف في { كما خلقناكم } نعت مصدر محذوف ، أي : مجيئاً كائناً كمجيئكم عند أن خلقناكم أوّل مرّة ، أو كائنين كما خلقناكم أوّل مرّة ، أي : حفاة عراة غرلاً ، كما ورد ذلك في الحديث . قال الزجاج أي : بعثناكم وأعدناكم كما خلقناكم ، لأن قوله { لقد جئتمونا } معناه : بعثناكم { بَلْ زَعَمْتُمْ أن لَنْ نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا } هذا إضراب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ ، وهو خطاب لمنكري البعث ، أي : زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا ، وأن لن نجعل لكم موعداً نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب .

وجملة : { وَوُضِعَ الكتاب } معطوفة على { عرضوا } ، والمراد بالكتاب : صحائف الأعمال ، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس ، والوضع إما حسي بأن يوضع صحيفة كل واحد في يده : السعيد في يمينه ، والشقيّ في شماله ، أو في الميزان . وإما عقلي ، أي : أظهر عمل كل واحد من خير وشرّ بالحساب الكائن في ذلك اليوم { فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي : خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع ، والمجازاة بالعذاب الأليم { وَيَقُولُونَ ياويلتنا } يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك ، ومعنى هذا النداء قد تقدّم تحقيقه في المائدة { مَّالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } أي : أي شيء له لا يترك معصية صغيرة ولا معصية كبيرة إلا حواها وضبطها وأثبتها { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ } في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة ، أو وجدوا جزاء ما عملوا { حَاضِرًا } مكتوباً مثبتاً { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } أي : لا يعاقب أحداً من عباده بغير ذنب ، ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه . ثم إنه سبحانه عاد إلى الردّ على أرباب الخيلاء من قريش ، فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآدَمَ } أي : واذكر وقت قولنا لهم اسجدوا سجود تحية وتكريم ، كما مرّ تحقيقه { فجسدوا } طاعة لأمر الله وامتثالاً لطلبه السجود { إِلاَّ إِبْلِيسَ } فإنه أبى واستكبر ولم يسجد ، وجملة { كَانَ مِنَ الجن } مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه كان من الجنّ ولم يكن من الملائكة فلهذا عصى . ومعنى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } : أنه خرج عن طاعة ربه . قال الفراء : العرب تقول : فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه . قال النحاس : اختلف في معنى { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } على قولين : الأوّل مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى : أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه ، كما تقول : أطعمه عن جوع . والقول الآخر قول قطرب : أن المعنى على حذف المضاف أي : فسق عن ترك أمره . ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي وخالف أمر الله فقال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء } كأنه قال : أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه وتتخذون ذريته ، أي : أولاده؛ وقيل : أتباعه مجازاً { أولياء مِن دُونِى } فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي ، والحال أنهم أي : إبليس وذريته { لَكُمْ عَدُوٌّ } أي : أعداء . وأفرده لكونه اسم جنس ، أو لتشبيهه بالمصادر كما في قوله : { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى } [ الشعراء : 77 ] . وقوله : { هُمُ العدو } [ المنافقون : 4 ] أي : كيف تصنعون هذا الصنع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم؟ بمن لم يكن لكم منه منفعة قط ، بل هو عدوّ لكم يترقب حصول ما يضركم في كل وقت { بِئْسَ للظالمين بَدَلاً } أي : الواضعين للشيء في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان ، فبئس ذلك البدل الذي استبدلوه بدلاً عن الله سبحانه .

{ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض } قال أكثر المفسرون : إن الضمير للشركاء ، والمعنى : أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم لكانوا مشاهدين خلق ذلك مشاركين لي فيه ، ولم يشاهدوا ذلك ولا أشهدتهم إياه أنا فليسوا لي بشركاء . وهذا استدلال بانتفاء الملزوم المساوي على انتفاء اللازم ، وقيل : الضمير للمشركين الذين التمسوا طرد فقراء المؤمنين ، والمراد : أنهم ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ : ما اعتضدت بهم بل هم كسائر الخلق ، وقيل : المعنى أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل ، لأنهم لم يكونوا مشاهدين خلق العالم ، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله ، والأوّل من هذه الوجوه أولى لما يلزم في الوجهين الآخرين من تفكيك الضميرين ، وهذه الجملة مستأنفة لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور ، وقرأ أبو جعفر ( ما أشهدناهم ) وقرأ الباقون ( ما أشهدتهم ) ويؤيده { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } والعضد يستعمل كثيراً في معنى العون ، وذلك أن العضد قوام اليد ، ومنه قوله : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [ القصص : 35 ] أي : سنعينك ونقوّيك به ، ويقال : أعضدت بفلان : إذا استعنت به ، وذكر العضد على جهة المثل ، وخصّ المضلين بالذكر لزيادة الذمّ والتوبيخ . والمعنى : ما استعنت على خلق السموات والأرض بهم ولا شاورتهم وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعواناً ، ووحد العضد لموافقة الفواصل ، وقرأ أبو جعفر الجحدري ( وما كنت ) بفتح التاء على أن الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم أي : وما كنت يا محمد متخذاً لهم عضداً ولا صح لك ذلك ، وقرأ الباقون بضم التاء . وفي عضد لغات ثمانِ أفصحها فتح العين وضمّ الضاد ، وبها قرأ الجمهور . وقرأ الحسن : «عضد» بضم العين والضاد . وقرأ عكرمة بضم العين وإسكان الضاد ، وقرأ الضحاك بكسر العين وفتح الضاد ، وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما ، ولغة تميم فتح العين وسكون الضاد . ثم عاد سبحانه إلى ترهيبهم بأحوال القيامة فقال : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ } قرأ حمزة ويحيى بن وثاب وعيسى بن عمر " نقول " بالنون ، وقرأ الباقون بالياء التحتية أي : اذكر يوم يقول الله عزّ وجلّ للكفار توبيخاً لهم وتقريعاً : نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم ، وأضافهم سبحانه إلى نفسه جرياً على ما يعتقده المشركون ، تعالى الله عن ذلك { فَدَعَوْهُمْ } أي : فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } إذ ذاك ، أي : لم يقع منهم مجرد الاستجابة لهم ، فضلاً عن أن ينفعوهم أو يدفعوا عنهم { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } أي : جعلنا بين هؤلاء المشركين وبين من جعلوهم شركاء لله موبقاً ، ذكر جماعة من المفسرين أنه اسم وادٍ عميق فرق الله به تعالى بينهم ، وعلى هذا فهو اسم مكان .

قال ابن الأعرابي : كل حاجز بين شيئين فهو موبق . وقال الفراء : الموبق : المهلك . والمعنى : جعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة ، يقال : وبق يوبق فهو وبق . هكذا ذكره الفراء في المصادر . وحكى الكسائي : وبق يبق وبوقاً فهو وابق ، والمراد بالمهلك على هذا : هو عذاب النار يشتركون فيه . والأوّل أولى ، لأن من جملة من زعموا أنهم شركاء لله الملائكة وعزير والمسيح ، فالموبق : هو المكان الحائل بينهم . وقال أبو عبيدة : الموبق هنا : الموعد للهلاك ، وقد ثبت في اللغة أوبقه بمعنى : أهلكه ، ومنه قول زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله ... يصن عرضه عن كل شنعاء موبق
ولكن المناسب لمعنى الآية : هو المعنى الأوّل . { وَرَأَى المجرمون النار فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } : { المجرمون } موضوع موضع الضمير للإشارة إلى زيادة الذمّ لهم بهذا الوصف المسجل عليهم به ، والظن هنا بمعنى اليقين . والمواقعة : المخالطة بالوقوع فيها ، وقيل : إن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون ذلك ظناً { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا } أي : معدلاً يعدلون إليه ، أو انصرافاً ، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب . قال الواحدي : المصرف : الموضع الذي ينصرف إليه . وقال القتيبي : أي معدلاً ينصرفون إليه ، وقيل : ملجأً يلجأون إليه . والمعنى متقارب في الجميع .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } قال : ليس عليها بناء ولا شجر . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } قال : الصغيرة التبسم ، والكبيرة : الضحك . وزاد ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عنه قال : الصغيرة : التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين ، والكبيرة : القهقهة بذلك . وأقول : صغيرة وكبيرة نكرتان في سياق النفي ، فيدخل تحت ذلك كل ذنب يتصف بصغر ، وكل ذنب يتصف بالكبر ، فلا يبقى من الذنوب شيء إلا أحصاه الله وما كان من الذنوب ملتبساً بين كونه صغيراً أو كبيراً ، فذلك إنما هو بالنسبة إلى العباد لا بالنسبة إلى الله سبحانه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن من الملائكة قبيلة يقال لهم : الجنّ ، فكان إبليس منهم ، وكان يوسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى فسخط الله عليه فمسخه الله شيطاناً رجيماً . وأخرج ابن جرير عنه في قوله : { كَانَ مِنَ الجن } قال : كان خازن الجنان ، فسمي بالجانّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً قال : إن إبليس كان من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازناً على الجنان .

وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن قال : قاتل الله أقواماً زعموا أن إبليس كان من الملائكة ، طرفة عين ، إنه لأصل الجنّ كما أن آدم أصل الإنس . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض } قال : يقول : ما أشهدت الشياطين الذين اتخذتم معي هذا { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } قال : الشياطين عضداً ، قال : ولا اتخذتهم عضداً على شيء عضدوني عليه فأعانوني . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } يقول : مهلكاً . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد مثله . وأخرج أبو عبيد ، وهناد ، وابن المنذر عنه قال : وادٍ في جهنم . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن أنس في الآية قال : وادٍ في جهنم من قيح ودم . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عمرو قال : هو وادٍ عميق في النار فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } قال : علموا .

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)

لما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم ، وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة ، حكى بعض أهوال الآخرة فقال : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } أي : كرّرنا ورددنا { فِى هذا القرآن للناس } أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم { مِن كُلّ مَثَلٍ } من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل ، وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدال بالباطل ، ختم الآية بقوله { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } قال الزجاج : المراد بالإنسان : الكافر ، واستدل على أن المراد الكافر بقوله تعالى : { ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل } وقيل : المراد به في الآية : النضر بن الحارث ، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدال جدلاً ، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلاً ، فقال : « ألا تصليان؟ » فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً ، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } ، وانتصاب جدلاً على التمييز . { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين } قد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل ، وذكرنا أنّ ( أن ) الأولى في محل نصب ، والثانية في محل رفع ، والهدى : القرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم ، والناس هنا هم أهل مكة ، والمعنى على حذف مضاف ، أي : ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأوّلين ، أو انتظار إتيان سنة الأوّلين ، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل ، وسنة الأوّلين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال . قال الزجاج : سنّتهم هو قولهم : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } الآية [ الأنفال : 2 ] { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب } أي : عذاب الآخرة { قُبُلاً } قال الفراء : إن قبلاً جمع قبيل ، أي : متفرقاً يتلو بعضه بعضاً ، وقيل : عياناً ، وقيل : فجأة . ويناسب ما قاله الفراء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب وخلف { قُبُلاً } بضمتين فإنه جمع قبيل ، نحو سبيل وسبل ، والمراد : أصناف العذاب ، ويناسب التفسير الثاني ، أي : عياناً ، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء أي : مقابلة ومعاينة ، وقرىء بفتحتين على معنى : أو يأتيهم العذاب مستقبلاً ، وانتصابه على الحال . فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم ، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته .

{ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين } من رسلنا إلى الأمم { إِلا } حال كونهم { مُبَشّرِينَ } للمؤمنين { وَمُنذِرِينَ } للكافرين . فالاستثناء مفرّغ من أعمّ العام ، وقد تقدّم تفسير هذا { ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } أي : ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه وأصل الدحض : الزلق يقال : دحضت رجله ، أي : زلقت تدحض دحضاً ، ودحضت الشمس عن كبد السماء : زالت ، ودحضت حجته دحوضاً . بطلت ، ومن ذلك قول طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض
ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل { مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا } [ الشعراء : 154 ] . ونحو ذلك : { واتخذوا ءاياتى } أي : القرآن { وَمَا أُنْذِرُواْ } به من الوعيد والتهديد { هزؤا } أي : لعباً وباطلاً ، وقد تقدّم هذا في البقرة . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } أي : لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما فتهاون بها وأعرض عن قبولها ، ولم يتدبرها حقّ التدبر ويتفكر فيها حق التفكر { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } من الكفر والمعاصي ، فلم يتب عنها . قيل : والنسيان هنا بمعنى الترك ، وقيل : هو على حقيقته { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } أي : أغطية ، والأكنة : جمع كنان ، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم . قال الزجاج : أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم { وفي آذنهم وقرا } أي : وجعلنا في آذانهم ثقلاً يمنع من استماعه ، وقد تقدّم تفسير هذا في الأنعام { وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً } لأن الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم . { وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة } أي : كثير المغفرة ، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة ، ولهذا قال : { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ } أي : بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض { لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } لاستحقاقهم لذلك { بَلِ } جعل { لَّهُم مَّوْعِدٌ } أي : أجل مقدّر لعذابهم ، قيل : هو عذاب الآخرة ، وقيل : يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } أي : ملجأً يلجئون إليه . وقال أبو عبيدة : منجاً ، وقيل : محيصاً ، ومنه قول الشاعر :
لا وا ألت نفسك خليتها ... للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى :
وقد أخالس ربّ البيت غفلته ... وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو . { وَتِلْكَ القرى } أي : قرى عاد وثمود وأمثالها { أهلكناهم } هذا خبر اسم الإشارة و { القرى } صفته ، والكلام على حذف مضاف ، أي : أهل القرى أهلكناهم { لَمَّا ظَلَمُواْ } أي : وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } أي : وقتاً معيناً ، وقرأ عاصم مهلكهم بفتح الميم واللام ، وهو مصدر هلك ، وأجاز الكسائي والفراء كسر اللام وفتح الميم ، وبذلك قرأ حفص ، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح اللام .

وقال الزجاج مهلك : اسم للزمان ، والتقدير : لوقت مهلكهم .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين } قال : عقوبة الأولين . وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش في قوله : { قُبُلاً } قال : جهاراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : فجأة . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } قال : نسي ما سلف من الذنوب الكثيرة . وأخرج أيضاً عن ابن عباس { بِمَا كَسَبُواْ } يقول : بما عملوا . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } قال : الموعد يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله { مَوْئِلاً } قال : ملجأ . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { مَوْئِلاً } قال : محرزاً .

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)

الظرف في قوله : { وَإِذْ قَالَ } متعلق بفعل محذوف هو أذكر . قيل : ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة : أن اليهود لما سألوا النبيّ عن قصة أصحاب الكهف وقالوا : إن أخبركم فهو نبيّ وإلا فلا . ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبيّ لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار . وقد اتفق أهل العلم على أن موسى المذكور هو موسى بن عمران النبيّ المرسل إلى فرعون ، وقالت فرقة لا التفات إلى ما تقوله منهم نوف البكالي : إنه ليس ابن عمران ، وإنما هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب ، وكان نبياً قبل موسى بن عمران ، وهذا باطل قد ردّه السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم كما في صحيح البخاري وغيره ، والمراد بفتاه هنا هو : يوشع بن نون . قال الواحدي : أجمعوا على أنه يوشع بن نون ، وقد مضى ذكره في المائدة ، وفي آخر سورة يوسف ، ومن قال : إن موسى هو ابن ميشى قال : إن هذا الفتى لم يكن هو يوشع بن نون . قال الفراء : وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له يأخذ عنه العلم ويخدمه ، ومعنى { لا أَبْرَحُ } لا أزال ، ومنه قوله : { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين } [ طه : 91 ] . ومنه قول الشاعر :
وأبرح ما أدام الله قومي ... بحمد الله منتطقاً مجيداً
وبرح إذا كان بمعنى زال فهو من الأفعال الناقصة ، وخبره هنا محذوف اعتماداً على دلالة ما بعده وهو { حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } قال الزجاج : لا أبرح بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ، ولأن قوله : { حتى أَبْلُغَ } غاية مضروبة ، فلا بدّ لها من ذي غاية ، فالمعنى : لا أزال أسير إلى أن أبلغ ، ويجوز أن يراد : لا يبرح مسيري حتى أبلغ ، وقيل : معنى { لا أبرح } : لا أفارقك حتى أبلغ مجمع البحرين ، وقيل : يجوز أن يكون من برح التام ، بمعنى : زال يزال ، ومجمع البحرين : ملتقاهما . قيل : المراد بالبحرين : بحر فارس والروم؛ وقيل : بحر الأردن وبحر القلزم ، وقيل : مجمع البحرين عند طنجة ، وقيل : بإفريقية . وقالت طائفة : المراد بالبحرين موسى والخضر ، وهو من الضعف بمكان . وقد حكي عن ابن عباس ولا يصح . { أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً } أي : أسير زماناً طويلاً . قال الجوهري : الحقب بالضم : ثمانون سنة . وقال النحاس : الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة : زمان من الدهر مبهم غير محدود ، كما أن رهطاً وقوماً منهم غير محدود ، وجمعه أحقاب . وسبب هذه العزيمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؟ فقال : أنا ، فأوحى الله إليه : إنّ أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين .

{ فَلَمَّا بَلَغَا } أي : موسى وفتاه { مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي : بين البحرين ، وأضيف مجمع إلى الظرف توسعاً وقيل : البين : بمعنى الافتراق أي : البحران المفترقان يجتمعان هناك ، وقيل : الضمير لموسى والخضر ، أي : وصلا الموضع الذي فيه اجتماع شملهما ، ويكون البين على هذا بمعنى الوصل ، لأنه من الأضداد ، والأوّل أولى { نَسِيَا حُوتَهُمَا } قال المفسرون : إنهما تزوّدا حوتاً مملحاً في زنبيل ، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام ، وكان قد جعل الله فقدانه أمارة لهما على وجدان المطلوب . والمعنى أنهما نسيا بفقد أمره ، وقيل : الذي نسي إنما هو فتى موسى ، لأنه وكل أمر الحوت إليه ، وأمره أن يخبره إذا فقده ، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله ، فتحرّك واضطرب في المكتل ، ثم انسرب في البحر ، ولهذا قال : { فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً } انتصاب { سرباً } على أنه المفعول الثاني لاتخذ ، أي اتخذ سبيلاً سرباً ، والسرب : النفق الذي يكون في الأرض للضبّ ونحوه من الحيوانات ، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق ، فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجياب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوّة المحفورة في الأرض . قال الفراء : لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب ، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كانت عنده الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا ، فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال ، ولم يجدا النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر ، ولهذا قال سبحانه : { فَلَمَّا جَاوَزَا } أي : مجمع البحرين الذي جعل موعداً للملاقاة { قَالَ لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا } وهو ما يؤكل بالغداة ، وأراد موسى أن يأتيه بالحوت الذي حملاه معهما { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } أي : تعباً وإعياء ، قال المفسرون : الإشارة بقوله { سفرنا هذا } إلى السفر الكائن منهما بعد مجاوزة المكان المذكور ، فإنهما لم يجدا النصب إلا في ذلك دون ما قبله { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة } أي : قال فتى موسى لموسى ، ومعنى الاستفهام : تعجيبه لموسى مما وقع له من النسيان هناك مع كون ذلك الأمر مما لا ينسى ، لأنه قد شاهد أمراً عظيماً من قدرة الله الباهرة ، ومفعول { أرأيت } محذوف لدلالة ما ذكره من النسيان عليه ، والتقدير : أرأيت ما دهاني ، أو نابني في ذلك الوقت والمكان . وتلك الصخرة كانت عند مجمع البحرين الذي هو الموعد ، وإنما ذكرها دون أن يذكر مجمع البحرين لكونها متضمنة لزيادة تعيين المكان ، لاحتمال أن يكون المجمع مكاناً متسعاً يتناول مكان الصخرة وغيره ، وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدّم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زاداً لهما ، وأمارة لوجدان مطلوبهما . ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } بما يقع منه من الوسوسة ، و { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدل اشتمال من الضمير في أنسانيه ، وفي مصحف عبد الله : وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان { واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا } انتصاب { عجباً } على أنه المفعول الثاني كما مرّ في { سرباً } ، والظرف في محل نصب على الحال ، يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع ، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجباً للناس ، وموضع التعجب : أن يحيا حوت قد مات وأكل شقه ، ثم يثب إلى البحر ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان ماء البحر ، ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر من أمر الحوت ، فيكون ما بين الكلامين اعتراضاً .

{ قَالَ ذلك مَا كُنَّا نبغ } أي ، قال موسى لفتاه : ذلك الذي ذكرت من فقد الحوت في ذلك الموضع هو الذي كنا نطلبه ، فإن الرجل الذي نريده هو هنالك { فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا } أي : رجعا على الطريق التي جاءا منها يقصان أثرهما لئلا يخطئا طريقهما ، وانتصاب { قصصاً } على أنه مصدر لفعل محذوف ، أو على الحال ، أي : قاصين أو مقتصين ، والقصص في اللغة اتباع الأثر { فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا } هو الخضر في قول جمهور المفسرين ، وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة ، وخالف في ذلك من لا يعتدّ بقوله ، فقال : ليس هو الخضر بل عالم آخر؛ قيل : سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضرّ ما حوله ، قيل واسمه بليا بن ملكان . ثم وصفه الله سبحانه فقال : { آتيناه رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } قيل : الرحمة هي النبوّة ، وقيل : النعمة التي أنعم الله بها عليه { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } وهو ما علمه الله سبحانه من علم الغيب الذي استأثر به ، وفي قوله { من لدنا } تفخيم لشأن ذلك العلم ، وتعظيم له . قال الزجاج : وفيما فعل موسى وهو من جملة الأنبياء من طلب العلم ، والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته ، وأن يتواضع لمن هو أعلم منه . ثم قصّ الله سبحانه علينا ما دار بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال : { قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً } في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في حسن الأدب ، لأنه استأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم . والرشد الوقوف على الخير وإصابة الصواب ، وانتصابه على أنه مفعول ثانٍ ل { تعلمني } أي : علماً ذا رشد أرشد به ، وقرىء « رشداً » بفتحتين ، وهما لغتان كالبخل والبخل . وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت المراتب ، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى ، فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الآخر ، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها ، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن .

{ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } أي : قال الخضر لموسى : إنك لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي ، لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك ، ثم أكد ذلك مشيراً إلى علة عدم الاستطاعة ، فقال : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } أي : كيف تصبر على علم ظاهره منكر ، وأنت لا تعلم ، ومثلك مع كونك صاحب شرع لا يسوغ له السكوت على منكر والإقرار عليه ، و { خبراً } منتصب على التمييز ، أي : لم تحط به خبرك ، والخبر : العلم بالشيء ، والخبير بالأمور هو : العالم بخفاياها ، وبما يحتاج إلى الاختبار منها . { قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا } أي : قال موسى للخضر : ستجدني صابراً معك ، ملتزماً طاعتك { وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً } فجملة : { ولا أعصي } معطوفة على { صابراً } ، فيكون التقييد بقوله { إن شاء الله } شاملاً للصبر ونفي المعصية ، وقيل : إن التقييد بالمشيئة مختص بالصبر ، لأنه أمر مستقبل لا يدري كيف يكون حاله فيه ، ونفي المعصية معزوم عليه في الحال ، ويجاب عنه بأن الصبر ، ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوم عليه في الحال ، وفي كون كل واحد منهما لا يدري كيف حاله فيه في المستقبل . { قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء } مما تشاهده من أفعالي المخالفة لما يقتضيه ظاهر الشرع الذي بعثك الله به { حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي : حتى أكون أنا المبتدىء لك بذكره ، وبيان وجهه وما يئول إليه ، وهذه الجمل المعنونة بقال وقال مستأنفة ، لأنها جوابات عن سؤالات مقدّرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها .
وقد أخرج الدارقطني في الإفراد ، وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال . وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء » وأخرجه ابن عساكر من حديث ابن عباس . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن مجاهد : إنما سمي الخضر لأنه إذا صلى اخضرّ ما حوله . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن زيد في قوله : { لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } قال : حتى أنتهي . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { مَجْمَعَ البحرين } قال : بحر فارس والروم ، وهما نحو المشرق والمغرب .

وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس مثله . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبيّ بن كعب قال : { مَجْمَعَ البحرين } إفريقية . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب قال : طنجة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً } قال : سبعين خريفاً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : دهراً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } قال : كان مملوحاً مشقوق البطن . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر سَرَباً } قال : أثره يابس في البحر كأنه في حجر . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا } قال : عودهما على بدئهما . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } قال : أعطيناه الهدى والنبوّة .
واعلم أنها قد رويت في قصة الخضر مع موسى المذكورة في الكتاب العزيز أحاديث كثيرة ، وأتمها وأكملها ما روي عن ابن عباس ولكنها اختلفت بعض الألفاظ ، وكلها مروية من طريق سعيد بن جبير عنه ، وبعضها في الصحيحين وغيرهما ، وبعضها في أحدهما ، وبعضها خارج عنهما . وقد رويت من طريق العوفي عنه كما أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، ومن طريق هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عنه عند ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والخطيب ، وابن عساكر ، فلنقتصر على الرواية التي هي أتمّ الروايات الثابتة في الصحيحين ، ففي ذلك ما يغني عن غيره ، وهي : قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل ، قال ابن عباس : كذب عدوّ الله . حدّثنا أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل . فسئل أيّ الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه ، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك ، قال موسى : يا رب فكيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل . ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق ، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كانا من الغد قال موسى لفتاه : { آتنا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } قال : ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ، فقال له فتاه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة فَإِنّى نَسِيتُ الحوت وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا } قال : فكان للحوت سرباً ، ولموسى وفتاه عجباً ، فقال موسى : { ذلك مَا كُنَّا فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا } » قال سفيان : يزعم ناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها ميتاً إلا عاش ، قال : وكان الحوت قد أكل منه .

فلما قطر عليه الماء عاش ، قال : فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنيّ بأرضك السلام؟ قال : أنا موسى . قال : موسى نبي إسرائيل؟ قال : نعم ، قال : أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً ، قال : { إنك لن تستطيع معي صبراً } يا موسى ، إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من الله علمك الله لا أعلمه ، قال موسى : { ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً } فقال له الخضر : { فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرّت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم ح لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً } . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكانت الأولى من موسى نسياناً " . قال : " وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة ، فقال له الخضر : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر . ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله ، فقال موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } قال : وهذه أشدّ من الأولى { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعما أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } قال : مائل ، فقال الخضر بيده هكذا فأقامه ، فقال موسى : قوم آتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقصّ الله علينا من خبرهما» . قال سعيد بن جبير : وكان ابن عباس يقرأ " وَكَانَ أمامهم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً " وكان يقرأ : " وَأَمَّا الغلام فَكَانَ كافراً وكان أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ " وبقية روايات سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب هي موافقة لهذه الرواية في المعنى وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها فلا فائدة في الإطالة بذكرها ، وكذلك روايات غير سعيد عنه .

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)

قوله : { فانطلقا } أي : موسى والخضر على ساحل البحر يطلبان السفينة ، فمرّت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فحملوهم { حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا } قيل : قلع لوحاً من ألواحها ، وقيل : لوحين مما يلي الماء ، وقيل : خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها { قَالَ } موسى : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } أي : لقد أتيت أمراً عظيماً ، يقال : أمر الأمر إذا كبر ، والأمر الاسم منه . وقال أبو عبيدة : الأمر : الداهية العظيمة وأنشد :
قد لقي الأقران مني نكرا ... داهية دهياً وأمراً إمرا
وقال القتيبي : الأمر العجب . وقال الأخفش : أمر أمره يأمر إذا اشتد ، والاسم الأمر . قرأ حمزة والكسائي « ليغرق أهلها » بالياء التحتية المفتوحة ، ورفع « أهلها » على أنه فاعل ، وقرأ الباقون بالفوقية المضمومة ونصب « أهلها » على المفعولية { قَالَ } أي : الخضر { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } أذكره ما تقدم من قوله له سابقاً { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } [ الكهف : 67 ] ف { قَالَ } له موسى { لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } يحتمل أن تكون « ما » مصدرية ، أي : لا تؤاخذني بنسياني أو موصولة ، أي : لا تؤاخذني بالذي نسيته ، وهو قول الخضر { فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىء حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } فالنسيان إما على حقيقته على تقدير أن موسى نسي ذلك ، أو بمعنى : الترك على تقدير أنه لم ينس ما قاله له ، ولكنه ترك العمل به { وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً } قال أبو زيد : أرهقته عسراً إذا كلفته ذلك ، والمعنى : عاملني باليسر لا بالعسر . وقرىء « عسراً » بضمتين . { فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ } أي : الخضر ، ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير ، قيل : كان الغلام يلعب مع الصبيان فاقتلع الخضر رأسه { قَالَ } موسى { أَقَتَلْتَ نَفْسًا زكية بِغَيْرِ نَفْسٍ } قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وأويس بألف بعد الزاي وتخفيف الياء اسم فاعل . وقرأ الباقون بتشديد الياء من دون ألف ، الزاكية : البريئة من الذنوب . قال أبو عمرو : الزاكية : التي لم تذنب ، والزكية : التي أذنبت ثم تابت . وقال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان . وقال الفراء : الزاكية والزكية : مثل القاسية والقسية ، ومعنى { بِغَيْرِ نَفْسٍ } : بغير قتل نفس محرّمة حتى يكون قتل هذه قصاصاً { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } أي : فظيعاً منكراً لا يعرف في الشرع . قيل : معناه : أنكر من الأمر الأوّل لكون القتل لا يمكن تداركه ، بخلاف نزع اللوح من السفينة فإنه يمكن تداركه بإرجاعه ، وقيل : النكر أقلّ من الإمر ، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة .

قيل : استبعد موسى أن يقتل نفساً بغير نفس ، ولم يتأول للخضر بأنه يحلّ القتل بأسباب أخرى { قَالَ } الخضر { أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } زاد هنا لفظ « لك » ، لأن سبب العتاب أكثر ، وموجبه أقوى ، وقيل : زاد لفظ « لك » لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه : لك أقول وإياك أعني { قَالَ } موسى { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا } أي : بعد هذه المرة ، أو بعد هذه النفس المقتولة { فَلاَ تُصَاحِبْنِى } أي : لا تجعلني صاحباً لك ، نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره ، ولذا قال : { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } يريد أنك قد أعذرت حيث خالفتك ثلاث مرّات ، وهذا كلام نادم شديد الندامة ، اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف . قرأ الأعرج ( تصحبني ) بفتح التاء والباء وتشديد النون . وقرأ الجمهور { تصاحبني } وقرأ يعقوب ( تصحبني ) بضم التاء وكسر الحاء ، ورواها سهل عن أبي عمرو . قال الكسائي : معناه لا تتركني أصحبك . وقرأ الجمهور { لدني } بضم الدال إلا أن نافعاً وعاصماً خففا النون ، وشددها الباقون . وقرأ أبو بكر عن عاصم ( لدني ) بضم اللام وسكون الدال . قال ابن مجاهد : وهي غلط . قال أبو عليّ : هذا التغليط لعله من جهة الرواية ، فأما على قياس العربية فصحيحة . وقرأ الجمهور { عذراً } بسكون الذال . وقرأ عيسى بن عمر بضم الذال . وحكى الداني أن أبيا روى عن النبيّ بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه . { فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } قيل : هي أيلة؛ وقيل : أنطاكية؛ وقيل : برقة؛ وقيل : قرية من قرى أذربيجان؛ وقيل : قرية من قرى الروم { استطعما أَهْلَهَا } هذه الجملة في محل الجر على أنها صفة لقرية ، ووضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد ، أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة لما فيه من الكلفة ، أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا } أي : أبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من ضيافتهما ، فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحلّ الكدية فقد أخطأ خطأً بيناً ، ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس :
فإن رددت فما في الرد منقصة ... عليّ قد ردّ موسى قبل والخضر
وقد ثبت في السنّة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة { فَوَجَدَا فِيهَا } أي : في القرية { جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز . قال الزجاج : الجدار لا يريد إرادة حقيقية إلا أن هيئة السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة ، ومنه قول الراعي :
في مهمه فلقت به هاماتها ... فلق الفؤوس إذا أردن نصولا
ومعنى الانقضاض : السقوط بسرعة ، يقال : انقضّ الحائط إذا وقع ، وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء ، ومعنى { فأقامه } : فسوّاه ، لأنه وجده مائلاً فردّه كما كان؛ وقيل : نقضه وبناه؛ وقيل : أقامه بعمود .

وقد تقدّم في الحديث الصحيح أنه مسحه بيده { قَالَ } موسى { لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي : على إقامته وإصلاحه ، تحريضاً من موسى للخضر على أخذ الأجر . قال الفراء : معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر ، قرأ أبو عمرو ، ويعقوب ، وابن كثير ، وابن محيصن ، واليزيدي ، والحسن ( لتخذت ) يقال : تخذ فلان يتخذ تخذاً مثل : اتخذ . وقرأ الباقون { لاتخذت } . { قَالَ } الخضر { هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } على إضافة { فراق } إلى الظرف اتساعاً ، أي : هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا . قال الزجاج : المعنى : هذا فراق بيننا ، أي : هذا فراق اتصالنا ، وكرّر « بين » تأكيداً ، ولما قال الخضر لموسى بهذا ، أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال : { سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } والتأويل : رجوع الشيء إلى مآله . ثم شرع في البيان له فقال : { أَمَّا السفينة } يعني : التي خرقها { فَكَانَتْ لمساكين } لضعفاء لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم { يَعْمَلُونَ فِى البحر } ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة ، وقد استدل الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } أي : أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها { وَكَانَ ورائهم ملك } قال المفسرون : يعني أمامهم ، ووراء يكون بمعنى : أمام ، وقد مرّ الكلام على هذا في قوله : { وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [ إبراهيم : 17 ] . وقيل : أراد خلفهم ، وكان طريقهم في الرجوع عليه ، وما كان عندهم خبر بأنه { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } أي : كل سفينة صالحة لا معيبة ، وقد قرىء بزيادة « صالحة » ، روي ذلك عن أبيّ وابن عباس . وقرأ جماعة بتشديد السين من مساكين ، واختلف في معناها ، فقيل : هم ملاحو السفينة ، وذلك أن المساك هو الذي يمسك السفينة ، والأظهر قراءة الجمهور بالتخفيف . { وَأَمَّا الغلام } يعني : الذي قتله { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } أي : ولم يكن هو كذلك { فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا } أي : يرهق الغلام أبويه ، يقال : رهقه أي : غشيه ، وأرهقه أغشاه . قال المفسرون : معناه خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه ، وهو الكفر ، و { طُغْيَانًا } مفعول يرهقهما { وَكُفْراً } معطوف عليه ، وقيل : المعنى : فخشينا أن يرهق الوالدين طغياناً عليهما وكفراً لنعمتهما بعقوقه . قيل : ويجوز أن يكون { فخشينا } من كلام الله ، ويكون المعنى : كرهنا كراهة من خشي سوء عاقبة أمره فغيره ، وهذا ضعيف جدّاً ، فالكلام كلام الخضر . وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة ، فقيل : إنه كان بالغاً وقد استحق ذلك بكفره؛ وقيل : كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك ، ويكون معنى { فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً } : أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية ، وقد يؤدّي ذلك إلى الكفر والارتداد .

والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغاً كافراً أو قاطعاً للطريق هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية ، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوّغ له ذلك ، وأما إذا كان الغلام صبياً غير بالغ ، فقيل : إن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يتسبب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما ، وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه ، فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحلّ في الشريعة المحمدية ، ولكنه حلّ في شريعة أخرى ، فلا إشكال . وقد ذهب الجمهور إلى أن الخضر كان نبياً { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مّنْهُ } قرأ الجمهور بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال . وقرأ عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بسكون الباء وتخفيف الدال ، والمعنى : أردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولداً خيراً منه { زكواة } أي : ديناً وصلاحاً وطهارة من الذنوب { وَأَقْرَبَ رُحْماً } قرأ ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي ، وابن كثير ، وابن عامر ( رحماً ) بضم الحاء . وقرأ الباقون بسكونها ، ومعنى الرحم : الرحمة ، يقال : رحمه الله رحمة ورحمى ، والألف للتأنيث . { وَأَمَّا الجدار } يعني : الذي أصلحه { فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ فِى المدينة } هي القرية المذكورة سابقاً ، وفيه جواز إطلاق اسم المدينة على القرية لغة { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } قيل : كان مالاً جسيماً كما يفيده اسم الكنز ، إذ هو المال المجموع . قال الزجاج : المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه : المال المدفون ، فإذا لم يكن مالاً قيل : كنز علم وكنز فهم؛ وقيل : لوح من ذهب ، وقيل : صحف مكتوبة { وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا } فكان صلاحه مقتضياً لرعاية ولديه وحفظ مالهما ، قيل : هو الذي دفنه؛ وقيل : هو الأب السابع من عند الدافن له ، وقيل : العاشر { فَأَرَادَ رَبُّكَ } أي : مالكك ومدبر أمرك ، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفاً له { أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي : كمالهما وتمام نموّهما { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } من ذلك الموضع الذي عليه الجدار ، ولو انقضّ لخرج الكنز من تحته { رَحْمَةً مّن رَّبّكَ } لهما ، وهو مصدر في موضع الحال أي : مرحومين من الله سبحانه { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى } أي : عن اجتهادي ورأيي ، وهو تأكيد لما قبله ، فقد علم بقوله فأراد ربك أنه لم يفعله الخضر عن أمر نفسه { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } أي : ذلك المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك وأوضحت وجوهها تأويل ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه ، ومعنى التأويل هنا : هو المآل الذي آلت إليه تلك الأمور ، وهو اتضاح ما كان مشتبهاً على موسى وظهور وجهه ، وحذف التاء من { تسطع } تخفيفاً .

وقد أخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } يقول : نكراً . وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إِمْراً } قال : عجباً . وأخرج ابن جرير ، عن أبيّ بن كعب في قوله : { لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } قال : لم ينس ، ولكنها من معاريض الكلام . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : كان الخضر عبداً لا تراه الأعين ، إلا من أراد الله أن يريه إياه ، فلم يره من القوم إلا موسى ، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام . وأقول : ينبغي أن ينظر من أين له هذا؟ فإن لم يكن مستنده إلا قوله : ولو رآه القوم إلخ ، فليس ذلك بموجب لما ذكره ، أما أوّلاً : فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام ، لا لكونه لا تراه الأعين ، بل لكونه فعل ذلك من غير اطلاعهم . وأما ثانياً : فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء ، فسلموا لأمر الله . وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { نَفْساً زكية } قال : مسلمة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، قال : لم تبلغ الخطايا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، عن الحسن نحوه . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة في قوله : { شَيْئاً نُّكْراً } قال : النكر أنكر من العجب . وأخرج أحمد ، عن عطاء قال : كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان ، فكتب إليه : إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم . وزاد ابن أبي شيبة من طريق أخرى عنه : ولكنك لا تعلم ، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلهم فاعتزلهم . وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن مردويه ، عن أبيّ بن كعب ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً ، ولو أدرك لأرهق أبويه طغياناً وكفراً » وأخرج أبو داود ، والترمذي ، وعبد الله بن أحمد والبزار ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، عن أبيّ؛ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ { مِن لَّدُنّى عُذْراً } مثقلة . وأخرج ابن مردويه عن أبيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ : { أَن يُضَيّفُوهُمَا } مشدّدة .

وأخرج ابن الأنباري في المصاحف ، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنه قرأ » فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ « فهدمه ، ثم قعد يبنيه » قلت : ورواية الصحيحين التي قدّمناها أنه مسحه بيده أولى . وأخرج الفريابي في معجمه ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبيّ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ « لَوْ شِئْتَ لتخذت عَلَيْهِ أَجْر » مخففة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحمة الله علينا وعلى موسى . لو صبر لقصّ الله علينا من خبره ، ولكن قَال : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى } » وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ « وَكَانَ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً » . وأخرج ابن الأنباري ، عن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، عن أبي الزاهرية قال : كتب عثمان « وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً » . وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، عن ابن عباس أنه كان يقرأ « وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين » . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة قال : هي في مصحف عبد الله « فخاف ربك أن يرهقهما طغياناً وكفراً » . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { خَيْراً مّنْهُ زكواة } قال : ديناً { وَأَقْرَبَ رُحْماً } قال : مودّة ، فأبدلا جارية ولدت نبياً . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } قال : كان الكنز لمن قبلنا وحرّم علينا ، وحرّمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا ، فلا يعجبنّ الرجل ، فيقول : فما شأن الكنز ، أحلّ لمن قبلنا وحرّم علينا؟ فإن الله يحلّ من أمره ما يشاء ويحرّم ما يشاء ، وهي السنن والفرائض ، يحلّ لأمة ويحرّم على أخرى . وأخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي وحسنه ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي الدرداء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } قال : « ذهب وفضة » . وأخرج الطبراني عن أبي الدرداء في قوله : { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } قال : أحلت لهم الكنوز وحرّمت عليهم الغنائم ، وأحلّت لنا الغنائم وحرّمت علينا الكنوز .

وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي ذر رفعه قال : إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب ، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك ، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . وفي نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة . وأخرج ابن المبارك ، وسعيد بن منصور ، وأحمد في الزهد ، والحميدي في مسنده ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، عن ابن عباس في قوله : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا } قال : حفظاً بصلاح أبيهما . وأخرج ابن مردويه عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله عزّ وجلّ يصلح بصلاح الرجل الصالح ، ولده ، وولد ولده ، وأهل دويرته وأهل دويرات حوله ، فما يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده ، وولد ولده ، ويحفظه في دويرته ، والدويرات حوله ، فما يزالون في ستر من الله وعافية . وأخرج ابن جرير من طريق الحسن بن عمارة عن أبيه قال : قيل لابن عباس : لم نسمع لفتى موسى بذكر وقد كان معه؟ فقال ابن عباس : قال فيما يذكر من حديث الفتى : إنه شرب من الماء فخلد ، فأخذه العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر ، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة ، وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه . قال ابن كثير : إسناده ضعيف ، الحسن متروك وأبوه غير معروف .

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)

لما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود ، وانتهى الكلام إلى حيث انتهى شرع سبحانه في السؤال الثالث والجواب عنه ، فالمراد بالسائلين هنا هم اليهود .
واختلفوا في ذي القرنين اختلافاً كثيراً ، فقيل : هو الإسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا بأسرها اليوناني باني الإسكندرية . وقال ابن إسحاق : هو رجل من أهل مصر ، اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح؛ وقيل : هو ملك اسمه هرمس؛ وقيل : ملك اسمه هردبس؛ وقيل : شاب من الروم ، وقيل : كان نبياً ، وقيل : كان عبداً صالحاً وقيل : اسمه عبد الله بن الضحاك؛ وقيل : مصعب بن عبد الله ، من أولاد كهلان بن سبأ . وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال : إن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان : أحدهما : كان على عهد إبراهيم عليه السلام . والآخر : كان قريباً من عيسى عليه السلام؛ وقيل : هو أبو كرب الحميري؛ وقيل : هو ملك من الملائكة ، ورجح الرازي القول الأوّل ، قال : لأن من بلغ ملكه من السعة والقوّة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الإسكندر اليوناني كما تشهد به كتب التاريح؛ قال : فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر ، قال : وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم ، وكان على مذهبه ، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق ، وذلك مما لا سبيل إليه . قال النيسابوري : قلت : ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم . ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي أنهما اثنان كما قدّمنا ذلك ، وبين أن الأوّل : طاف بالبيت مع إبراهيم أوّل ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر . وأما الثاني : فهو الإسكندر المقدوني اليوناني ، وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس ، وكان قبل المسيح بنحو من ثلثمائة سنة . فأما الأوّل المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل ، هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره؛ ثم قال : وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية . وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال : وإنما بينا هذا يعني : أنهما اثنان ، لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد ، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر ، فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثير ، كيف لا ، والأوّل : كان عبداً صالحاً مؤمناً ، وملكاً عادلاً ، ووزيره الخضر ، وقد قيل : إنه كان نبياً ، وأما الثاني : فقد كان كافراً ، ووزيره إرسطاطاليس الفيلسوف ، وكان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة ، فأين هذا من ذاك؟ انتهى . قلت : لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً ، وسماه بالبداية والنهاية ولم يقف عليه ، والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان ، كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكره الرازي وادّعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ ، وقد وقع الخلاف هل هو نبيّ أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب آخر هذا البحث إن شاء الله .

وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين ، فقال الزجاج والأزهري : إنما سمي ذا القرنين ، لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها ، وقرن الشمس من مغربها؛ وقيل : إنه كان له ضفيرتان من شعر ، والضفائر تسمى قروناً ، ومنه قول الشاعر :
فلثمت فاها آخذاً بقرونها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
والحشرج : ماء من مياه العرب؛ وقيل : إنه رأى في أوّل ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك ، وقيل : كان له قرنان تحت عمامته؛ وقيل : إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه ، ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر ، وقيل : إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه ، وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حيّ ، وقيل : لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعاً ، وقيل : لأنه أعطي علم الظاهر والباطن ، وقيل : لأنه دخل النور والظلمة ، وقيل : لأنه ملك فارس والروم ، وقيل : لأنه ملك الروم والترك ، وقيل : لأنه كان لتاجه قرنان . قوله : { قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً } أي : سأتلو عليكم أيها السائلون من ذي القرنين خبراً . وذلك بطريق الوحي المتلوّ . ثم شرع سبحانه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكراً فقال : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } أي : أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب ، فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها ، وسهلّ عليه المسير في مواضعها ، وذللّ له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء؟ ومن جملة تمكينه فيها أنه جعل له الليل والنهار سواء في الإضاءة { وآتيناه مِن كُلّ شَىْء } مما يتعلق بمطلوبه { سَبَباً } أي : طريقاً يتوصل بها إلى ما يريده { فَأَتْبَعَ سَبَباً } من تلك الأسباب . قال المفسرون : والمعنى طريقاً تؤديه إلى مغرب الشمس . قال الزجاج : فأتبع سبباً من الأسباب التي أوتي ، وذلك أنه أوتي من كل شيء سبباً فأتبع من تلك الأسباب التي أوتي سبباً في المسير إلى المغرب ، وقيل : أتبع من كل شيء علماً يتسبب به إلى ما يريد؛ وقيل : بلاغاً إلى حيث أراد؛ وقيل : من كل شيء يحتاج إليه الخلق؛ وقيل : من كل شيء تستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء . وأصل السبب : الحبل ، فاستعين لكل ما يتوصل به إلى شيء . قرأ ابن عامر ، وأهل الكوفة ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ( وأتبع ) بقطع الهمزة ، وقرأ أهل المدينة وأهل مكة وأبو عمرو بوصلها .

قال الأخفش : تبعته وأتبعته بمعنى . مثل ردفته وأردفته ، ومنه قوله : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] . قال النحاس : واختار أبو عبيدة قراءة أهل الكوفة ، قال : لأنها من السير . وحكى هو والأصمعي أنه يقال : تبعته وأتبعته إذا سار ولم يلحقه ، وأتبعه إذا لحقه . قال أبو عبيدة : ومثله { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } . قال النحاس : وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل ، وقوله عزّ وجلّ : { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } [ الشعراء : 60 ] ليس في الحديث أنهم لحقوهم ، وإنما الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه في البحر انطبق عليهم البحر . والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات بمعنى واحد ، وهو بمعنى : السير . { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس } أي : نهاية الأرض من جهة المغرب ، لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط ، وهو لا يمكن المضيّ فيه { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي « حامية » : أي : حارّة . وقرأ الباقون « حمئة » أي : كثيرة الحمأة ، وهي الطينة السوداء ، تقول : حمئت البئر حمأ بالتسكين : إذا نزعت حمأتها ، وحمأت البئر حمأتها بالتحريك : كثرت حمأتها ، ويجوز أن تكون حامية من الحمأة ، فخففت الهمزة وقلبت ياء ، وقد يجمع بين القراءتين فيقال : كانت حارة وذات حمأة . قيل : ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره ، ولا يبعد أن يقال : لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر المحيط حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس ، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مغرب الشمس ، ومكن له في الأرض والبحر من جملتها ، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } الضمير في عندها إما للعين أو للشمس . قيل : هم قوم لباسهم جلود الوحش ، وكانوا كفاراً ، فخيّره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم ، فقال : { إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } أي : إما أن تعذبهم بالقتل من أوّل الأمر ، وإما أن تتخذ فيهم أمراً ذا حسن أو أمراً حسناً مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر ، والمراد : دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع . { قَالَ } ذو القرنين مختاراً للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد { أَمَّا مَن ظَلَمَ } نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } بالقتل في الدنيا { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ } في الآخرة { فَيْعَذّبُهُ } فيها { عَذَاباً نُّكْراً } أي : منكراً فظيعاً . قال الزجاج : خيّره الله بين الأمرين . قال النحاس : وردّ عليّ بن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبيّ فيخاطب بهذا ، فكيف يقول لربه عزّ وجلّ { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ } وكيف يقول : { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } فيخاطبه بالنون ، قال : والتقدير قلنا : يا محمد قالوا : يا ذا القرنين .

قال النحاس : وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عزّ وجلّ خاطبه على لسان نبيّ في وقته ، وكأن ذا القرنين خاطب أولئك القوم فلا يلزم ما ذكره . ويمكن أن يكون مخاطباً للنبيّ الذي خاطبه الله على لسانه ، أو خاطب قومه الذين وصل بهم إلى ذلك الموضع . قال ثعلب : إن في قوله : { إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ } في موضع نصب ، ولو رفعت لكان صواباً بمعنى فأما هو كقول الشاعر :
فسيروا فإما حاجة تقضيانها ... وإما مقيل صالح وصديق
{ وَأَمَّا مَنْ امَنَ } بالله وصدّق دعوتي { وَعَمِلَ } عملاً { صالحا } مما يقتضيه الإيمان { فَلَهُ جَزَاء الحسنى } قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم وابن كثير وابن عامر : ( فله جزاء ) بالرفع على الابتداء أي : جزاء الخصلة الحسنى عند الله ، أو الفعلة الحسنى وهي الجنة قاله الفراء . وإضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة ، ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين أي : أعطيه وأتفضل عليه ، وقرأ سائر الكوفيين « فله جزاء الحسنى » بنصب { جزاء } وتنوينه . قال الفراء : انتصابه على التمييز . وقال الزجاج : هو مصدر في موضع الحال أي مجزياً بها جزاءً . وقرأ ابن عباس ومسروق بنصب ( جزاء ) من غير تنوين . قال أبو حاتم : هي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين . قال النحاس : وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين . وقرىء برفع : ( جزاء ) منوّناً على أنه مبتدأ ، و { الحسنى } بدل منه والخبر الجارّ والمجرور { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } أي : مما نأمر به قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق ، أو أطلق عليه المصدر مبالغة . { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي : طريقاً آخر غير الطريق الأولى وهي التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق { حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس } أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أوّلاً من معمور الأرض ، أو مكان طلوعها لعدم المانع شرعاً ولا عقلاً من وصوله إليه كما أوضحناه فيما سبق { وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا سِتْراً } يسترهم ، لا من البيوت ولا من اللباس ، بل هم حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة . قيل : لأنهم بأرض لا يمكن أن يستقرّ عليها البناء { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } أي : كذلك أمر ذي القرنين أتبع هذه الأسباب حتى بلغ ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به؛ وقيل : المعنى لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب ، وقيل : المعنى كذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها ، وقيل : المعنى كذلك تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم ، فقضي في هؤلاء كما قضي في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين ، ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه الوجوه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأوّل .

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : قالت اليهود للنبيّ صلى الله عليه وسلم : يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين ، إنك سمعت ذكرهم منا ، فأخبرنا عن نبيّ لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد ، قال : « ومن هو »؟ قالوا : ذو القرنين ، قال : « ما بلغني عنه شيء » ، فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم ، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين } . وأخرج عبد الرزاق ، ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أدري أتبع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟ » ، وأخرج ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال : سئل عليّ عن ذي القرنين أنبيّ هو؟ قال : سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : « هو عبد ناصح الله فنصحه » وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف ، وابن أبي عاصم في السنة ، وابن مردويه من طريق أبي الطفيل : أن ابن الكواء سأل عليّ بن أبي طالب عن ذي القرنين أنبياً كان أم ملكاً؟ قال : لم يكن نبياً ولا ملكاً ، ولكن كان عبداً صالحاً أحبّ الله فأحبه الله ، ونصح لله فنصحه الله ، بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه فمات ، ثم أحياه الله لجهادهم ، ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات ، فأحياه الله لجهادهم ، فلذلك سمي ذا القرنين ، وإن فيكم مثله . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عمرو قال : ذو القرنين نبيّ . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الأخرص بن حكيم ، عن أبيه ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال : « هو ملك مسح الأرض بالأسباب » وأخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن خالد بن معدان الكلاعي مرفوعاً مثله . وأخرج ابن عبد الحكم ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد ، وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب : أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين ، فقال عمر : ها أنتم قد سمعتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة؟ وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه .

وقد أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن : أن نفراً من اليهود سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين ، فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء ، وكان فيما أخبرهم به " أنه كان شاباً من الروم ، وأنه بنى الإسكندرية ، وأنه علا به ملك في السماء ، وذهب به إلى السدّ " ، وإسناده ضعيف ، وفي متنه نكارة ، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل ، ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه ، ثم قال بعد ذلك : والعجب أن أبا زرعة الداري مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوّة ، انتهى . وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدرّ المنثور ، وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والشيرازي في الألقاب ، وأبي الشيخ ، وفيه أشياء منكرة جدّاً ، وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب ، وقد أمرنا بأن لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وآتيناه مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } قال : علماً . وأخرج ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن أبي هلال : أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار : أنت تقول : إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ، قال له كعب : إن كنت قلت ذلك فإن الله قال : { وآتيناه مِن كُلّ شَىْء سَبَباً } . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاصر ، أن ابن عباس ذكر له : أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف " تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَامِيَةً " قال ابن عباس : فقلت لمعاوية : ما نقرؤها إلا { حمئة } فسأل معاوية عبد بن عمرو كيف تقرؤها؟ فقال عبد الله : كما قرأتها ، قال ابن عباس : فقلت لمعاوية : في بيتي نزل القرآن ، فأرسل إلى كعب ، فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب : سل أهل العربية فإنهم أعلم بها ، وأما أنا فإني أجد في التوراة في ماء وطين ، وأشار بيده إلى المغرب . قال ابن أبي حاصر : لو أني عند كما أيدتك بكلام تزداد به بصيرة في حمئة . قال ابن عباس : وما هو؟ قلت : فيما نأثر قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه :
قد كان ذو القرنين عمر مسلماً ... ملكاً تذلّ له الملوك وتحشد
فأتى المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثاط حرمد
فقال ابن عباس : ما الخلب؟ قلت : الطين بكلامهم ، قال : فما الثأط؟ قلت : الحمأة . قال : فما الحرمد؟ قلت : الأسود ، فدعا ابن عباس غلاماً فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل . وأخرج الترمذي ، وأبو داود الطيالسي ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبيّ بن كعب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " كان يقرأ { فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } » " . وأخرج الطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعاً مثله .

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى ، وهي ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي : طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب { حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص ، وابن محيصن ، ويحيى اليزيدي ، وأبو زيد ، عن المفضل بفتح السين . وقرأ الباقون بضمها . قال أبو عبيدة وابن الأنباري وأبو عمرو بن العلاء : السد إن كان بخلق الله سبحانه فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول ، أي : هو مما فعله الله وخلقه ، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً . وقال ابن الأعرابي : كل ما قابلك فسدّ ما وراءه فهو سدّ وسد نحو الضعف والضعف ، والفقر والفقر ، والسدّان هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان ، وانتصاب « بين » على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] . وقيل : موضع بين السدّين هو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق لا جبلا أرمينية وأذربيجان . وحكى ابن جرير في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً من ناحية الجزر فشاهده ، ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع ، و { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أي : من ورائهما مجازاً عنهما ، وقيل : أمامهما { قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } قرأ حمزة والكسائي ( يفقهون ) بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان ، أي : لا يبينون لغيرهم كلاماً ، وقرأ الباقون بفتح الياء والقاف ، أي : لا يفهمون كلام غيرهم ، والقراءتان صحيحتان ، ومعناهما : لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم ، لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم . { قَالُواْ } أي : هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولاً ، قيل : إن فهم ذي القرنين لكلامهم من جملة الأسباب التي أعطاه الله ، وقيل : إنهم قالوا ذلك لترجمانهم ، فقال لذي القرنين بما قالوا له { ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الأرض } يأجوج ومأجوج : اسمان عجميان بدليل منع صرفهما ، وبه قال الأكثر . وقيل : مشتقان من أجّ الظليم في مشيه : إذا هرول ، وتأججت النار : إذا تلهبت ، قرأهما الجمهور بغير همز ، وقرأ عاصم بالهمز . قال ابن الأنباري : وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفاً لا يعرف للهمز فيها أصل كقولهم : كبأث ورثأت واستشأث الريح . قال أبو علي : يجوز أن يكونا عربيين ، فمن همز فهو على وزن يفعول مثل : يربوع ، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقبلها ألفاً مثل : رأس . وأما مأجوج ، فهو مفعول من أجّ ، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق . قال : وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة .
واختلف في نسبهم؛ فقيل : هم من ولد يافث بن نوح ، وقيل : يأجوج من الترك ومأجوج من الجبل والديلم .

وقال كعب الأحبار : احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء . قال القرطبي : وهذا فيه نظر ، لأن الأنبياء لا يحتلمون ، وإنما هم من ولد يافث ، كذلك قال مقاتل وغيره .
وقد وقع الخلاف في صفتهم؛ فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة ، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة ، ومنهم من يقول : لهم مخالب كمخالب السباع ، وإن منهم صنفاً يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى ، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم .
واختلف في إفسادهم في الأرض؛ فقيل : هو أكل بني آدم؛ وقيل : هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد؛ وقيل : كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه . { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين . وقرىء ( خراجاً ) . قال الأزهري : الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء ، ويقع على الجزية وعلى الغلة . والخراج أيضاً اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال ، والخرج : المصدر . وقال قطرب : الخرج : الجزية والخراج في الأرض ، وقيل : الخرج : ما يخرجه كل أحد من ماله ، والخراج : ما يجبيه السلطان؛ وقيل : هما بمعنى واحد { على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا } أي : ردماً حاجزاً بيننا وبينهم . وقرىء { سداً } بفتح السين . قال الخليل وسيبويه : الضم هو الاسم ، والفتح المصدر . وقال الكسائي : الفتح والضم لغتان بمعنى واحد ، وقد سبق قريباً ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء ، وأبي عبيدة ، وابن الأنباري من الفرق بينهما . وقال ابن أبي إسحاق : ما رأته عيناك فهو سدّ بالضم ، وما لا ترى فهو سدّ بالفتح ، وقد قدّمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدّين . { قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى } أي قال لهم ذو القرنين : ما بسطه الله لي من القدرة والملك { خَيْرٌ } من خرجكم ، ثم طلب منهم المعاونة له فقال : { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } أي : برجال منكم يعملون بأيديهم ، أو أعينوني بآلات البناء ، أو بمجموعهما . قال الزجاج : بعمل تعملونه معي . قرأ ابن كثير وحده . ( ما مكنني ) بنونين ، وقرأ الباقون بنون واحدة . { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } هذا جواب الأمر ، والردم : ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل . قال الهروي : يقال : ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردماً : أي سددتها ، والردم أيضاً الاسم ، وهو السدّ ، وقيل : الردم أبلغ من السدّ ، إذ السدّ كل ما يسدّ به ، والردم : وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ، ومنه ردم ثوبه : إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض ، ومنه قول عنترة :
هل غادر الشعراء من متردّم ...

أي : من قول يركب بعضه على بعض . { آتوني زُبَرَ الحديد } أي : أعطوني وناولوني ، وزبر الحديد : جمع زبرة ، وهي القطعة . قال الخليل : الزبرة من الحديد : القطعة الضخمة . قال الفراء : معنى { آتوني زُبَرَ الحديد } ائتوني بها فلما ألقيت الياء زيدت ألفاً ، وعلى هذا فانتصاب { زبر } بنزع الخافض { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } والصدفان : جانبا الجبل . قال الأزهري : يقال لجانبي الجبل صدفان : إذا تحاذيا لتصادفهما أي : تلاقيهما ، وكذا قال أبو عبيدة والهروي . قال الشاعر :
كلا الصدفين ينفده سناها ... توقد مثل مصباح الظلام
وقد يقال : لكل بناء عظيم مرتفع : صدف ، قاله أبو عبيدة . قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : { الصدفين } بفتح الصاد والدال . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، واليزيدي ، وابن محيصن بضم الصاد والدال . وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بضم الصاد وسكون الدال . وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد لأنها أشهر اللغات . ومعنى الآية : أنهم أعطوه زبر الحديد ، فجعل يبني بها بين الجبلين حتى ساواهما { قَالَ انفخوا } أي قال للعملة : انفخوا على هذه الزبر بالكيران { حتى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } أي : جعل ذلك المنفوخ فيه ، وهو الزبر ناراً ، أي : كالنار في حرّها وإسناد الجعل إلى ذي القرنين مجاز لكونه الآمر بالنفخ . قيل : كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى يتحمى ، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار ، ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على تلك الطاقة ، وهو معنى قوله : { قَالَ آتُونِى أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } قال أهل اللغة : القطر : النحاس الذائب ، والإفراغ : الصبّ ، وكذا قال أكثر المفسرين . وقالت طائفة : القطر الحديد المذاب . وقالت فرقة أخرى منهم ابن الأنباري : هو الرصاص المذاب . { فَمَا اسطاعوا } أصله : استطاعوا ، فلما اجتمع المتقاربان ، وهما التاء والطاء خففوا بالحذف . قال ابن السكيت : يقال : ما أستطيع ، وما أسطيع ، وما أستيع . وبالتخفيف قرأ الجمهور ، وقرأ حمزة وحده ( فما اسطاعوا ) بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا فأدغم التاء في الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه ، قال أبو علي الفارسي : هي غير جائزة . وقرأ الأعمش ( فما استطاعوا ) على الأصل ، ومعنى { أَن يَظْهَرُوهُ } أن يعلوه أي : فما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه وملاسته { وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا } يقال : نقبت الحائط : إذا خرقت فيه خرقاً فخلص إلى ما وراءه . قال الزجاج : ما قدروا أن يعلوا عليه لارتفاعه وانملاسه ، وما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدّته وصلابته . { قَالَ هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } أي : قال ذو القرنين مشيراً إلى السدّ : هذا السدّ رحمة من ربي ، أي : أثر من آثار رحمته لهؤلاء المتجاوزين للسدّ ولمن خلفهم ممن يخشى عليه معرتهم لو لم يكن ذلك السد؛ وقيل : الإشارة إلى التمكين من بنائه { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى } أي : أجل ربي أن يخرجوا منه ، وقيل : هو مصدر بمعنى المفعول ، وهو يوم القيامة { جَعَلَهُ دَكَّاء } أي : مستوياً بالأرض ومنه قوله :

{ حتى إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً } [ الفجر : 21 ] . قال الترمذي : أي مستوياً ، يقال ناقة دكاء : إذا ذهب سنامها . وقال القتيبي : أي جعله مدكوكاً ملصقاً بالأرض . وقال الحليمي : قطعاً متكسراً . قال الشاعر :
هل غير غار دك غاراً فانهدم ... قال الأزهري : دككته ، أي : دققته . ومن قرأ { دكاء } بالمد وهو عاصم وحمزة والكسائي أراد التشبيه بالناقة الدكاء ، وهي التي لا سنام لها ، أي : مثل دكاء ، لأن السدّ مذكر فلا يوصف بدكاء . وقرأ الباقون ( دكاً ) بالتنوين على أنه مصدر ، ومعناه ما تقدّم ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الحال ، أي : مدكوكاً { وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً } أي : وعده بالثواب والعقاب ، أو الوعد المعهود حقاً ثابتاً لا يتخلف . وهذا أخر قول ذي القرنين .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } قال : الجبلين أرمينية وأذربيجان . وأخرج أيضاً عن ابن جريج { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } قال : الترك . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم صححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : يأجوج ومأجوج شبر وشبران وأطولهم ثلاثة أشبار؛ وهم من ولد آدم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر والطبراني وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، وابن عساكر عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً ، وإن من ورائهم ثلاث أمم : تاويل ، وتاريس ، ومنسك » وأخرج النسائي من حديث عمرو بن أوس عن أبيه مرفوعاً : « أنه لا يموت رجل منهم إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً » وأخرج أحمد ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض يحفرون السدّ كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستفتحونه غداً ، فيعودون إليه أشدّ ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستفتحونه غداً إن شاء الله ، ويستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه . ويتحصن الناس منهم في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء ، فيقولون : قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسراً وعلواً ، فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فوالذي نفس محمد بيده إن دوابّ الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكراً من لحومهم »

وقد ثبت في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش قالت : استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمرّ وجهه وهو يقول : « لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق ، قلت : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم ، إذا كثر الخبث » وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } قال : أجراً عظيماً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { رَدْمًا } قال : هو كأشد الحجاب . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { زُبَرَ الحديد } قال : قطع الحديد . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { بَيْنَ الصدفين } قال : الجبلين . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : رؤوس الجبلين . وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله : { قِطْراً } قال : النحاس . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن قتادة { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ } قال : أن يرتقوه . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : أن يعلوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { جَعَلَهُ دَكَّاء } قال : لا أدري الجبلين يعني به أم بينهما .

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)

قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ } هذا من كلام الله سبحانه بعد انقضاء كلام ذي القرنين ، والضمير في { بعضهم } ليأجوج ومأجوج ، أي : تركنا بعض يأجوج ومأجوج يوم مجيء الوعد ، أو يوم خروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم ، يقال : ماج الناس : إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء . والمعنى : أنهم يضطربون ويختلطون ، وقيل : الضمير في { بعضهم } للخلق ، واليوم : يوم القيامة أي : وجعلنا بعض الخلق من الجنّ والإنس يموج في بعض ، وقيل : المعنى : وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السدّ وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض ، وقد تقدّم تفسير { وَنُفِخَ فِى الصور } في الأنعام ، قيل : هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد : { فجمعناهم جَمْعاً } فإن الفاء تشعر بذلك ، ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة .
والمعنى : جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها تراباً جمعاً تاماً على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب . { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً } المراد بالعرض هنا : الإظهار ، أي : أظهرنا لهم جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا لهم ، وفي ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة ، ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله : { الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِى } أي : كانت أعينهم في الدنيا في غطاء ، وهو ما غطى الشيء وستره من جميع الجوانب { عن ذكري } عن سبب ذكري ، وهو الآيات التي يشاهدها من له تفكر واعتبار ، فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد ، فأطلق المسبب على السبب ، أو عن القرآن العظيم ، وتأمل معانيه وتدبر فوائده . ثم لما وصفهم سبحانه بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التنزيلية أو مجموعهما ، أراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال : { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } أي : لا يقدرون على الاستماع لما فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله ، وهذا أبلغ مما لو قال : وكانوا صماً ، لأن الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية ، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية . { أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ } الحسبان هنا بمعنى : الظنّ . والاستفهام : للتقريع والتوبيخ ، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره . والمعنى : أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردّهم عن قبول الحق ، ومعنى { أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى } أي : يتخذوهم من دون الله ، وهم الملائكة والمسيح والشياطين { أَوْلِيَاء } أي : معبودين ، قال الزجاج : المعنى : أيحسبون أن ينفعهم ذلك؟ وقرىء ( أفحسب ) بسكون السين ، ومعناه : أكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على أنه مبتدأ وخبر ، يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلاً } أي : هيأناها لهم نزلاً يتمتعون به عند ورودهم .

قال الزجاج : النزل : المأوى والمنزل ، وقيل : إنه الذي يعدّ للضيف ، فيكون تهكماً بهم كقوله : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . والمعنى : أن جهنم معدّة لهم عندنا كما يعد النزل للضيف ، { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } انتصاب { أعمالاً } على التمييز ، والجمع للدلالة على إرادة الأنواع منها ، ومحل الموصول وهو { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الحياة الدنيا } الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : من هم؟ فقيل : هم الذين ضل سعيهم ، والمراد بضلال السعي : بطلانه وضياعه ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذمّ ، ويكون الجواب : { أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ } ويجوز أن يكون في محل جرّ على أنه نعت ل { لأخسرين } أو بدل منه ، ويكون الجواب أيضاً هو أولئك وما بعده ، وأول هذه الوجوه هو أولاها ، وجملة : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } في محل نصب على الحال من فاعل { ضلّ } ، أي : والحال أنهم يظنون أنهم محسنون في ذلك منتفعون بآثاره ، وتكون جملة { أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ } مستأنفة مسوقة لتكميل الخسران وبيان سببه ، هذا على الوجه الأوّل الراجح لا على الوجوه الآخرة ، فإنها هي الجواب كما قدّمنا ، ومعنى كفرهم بآيات ربهم : كفرهم بدلائل توحيده من الآيات التكوينية والتنزيلية ، ومعنى كفرهم بلقائه : كفرهم بالبعث وما بعده من أمور الآخرة ، ثم رتب على ذلك قوله : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : التي عملوها مما يظنونه حسناً ، وهو خسران وضلال ، ثم حكم عليهم بقوله : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } أي : لا يكون لهم عندنا قدر ولا نعبأ بهم ، وقيل : لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم ، لأن ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ، وهؤلاء لا حسنات لهم . قال ابن الأعرابي : العرب تقول : ما لفلان عندنا وزن ، أي : قدر لخسته ، ويوصف الرجل بأنه لا وزن له لخفته ، وسرعة طيشه ، وقلة تثبته . والمعنى على هذا : أنهم لا يعتدّ بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة ، وقرأ مجاهد ( يقيم ) بالياء التحتية ، أي : فلا يقيم الله ، وقرأ الباقون بالنون . ثم بيّن سبحانه عاقبة هؤلاء وما يئول إليه أمرهم فقال : { ذلك } أي : الذي ذكرناه من أنواع الوعيد جزاؤهم ، ويكون قوله : { جهنم } عطف بيان للجزاء ، أو جملة { جزاؤهم جهنم } مبتدأ وخبر ، والجملة خبر { ذلك } ، والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى الكفر اتخاذ آيات الله واتخاذ رسله هزوا ، فالباء في { بِمَا كَفَرُواْ } للسببية ، ومعنى كونهم هزوا : أنهم مهزوء بهم . وقد اختلف السلف في تعيين هؤلاء الأخسرين أعمالاً ، فقيل : اليهود والنصارى ، وقيل : كفار مكة ، وقيل : الخوارج ، وقيل : الرهبان أصحاب الصوامع ، والأولى حمل الآية على العموم لكل من اتصف بتلك الصفات المذكورة .

ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار الوعد للمؤمنين فقال : { إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي : جمعوا بينهما حتى كانوا على ضد صفة من قبلهم { كَانَتْ لَهُمْ } قال ابن الأنباري : كانت فيما سبق من علم الله كانت لأهل طاعته { جنات الفردوس نُزُلاً } قال المبرد : الفردوس فيما سمعت من كلام العرب : الشجر الملتف والأغلب عليه العنب . واختار الزجاج ما قاله مجاهد : إن الفردوس : البستان باللغة الرومية ، وقد تقدّم بيان النزل ، وانتصابه على أنه خبر كان . والمعنى : كانت لهم ثمار جنة الفردوس : نزلاً معداً لهم مبالغة في إكرامهم ، وانتصاب { خالدين فِيهَا } على الحال ، وكذلك جملة { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } في محل نصب على الحال ، والحول : مصدر ، أي : لا يطلبون تحوّلاً عنها إذ هي أعزّ من أن يطلبوا غيرها ، أو تشتاق أنفسهم إلى سواها . قال ابن الأعرابي وابن قتيبة والأزهري : الحول : اسم بمعنى التحوّل يقوم مقام المصدر ، وقال أبو عبيدة والفراء : إن الحول التحويل .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ } الآية قال : الجنّ والإنس { يَمُوجُ } بعضهم { فِى بَعْضِ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } قال : لا يعقلون سمعاً . وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر عن عليّ : أنه قرأ « أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ » قال أبو عبيد : بجزم السين وضم الباء . وأخرج أبو عبيد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة : أنه قرأ كذلك . وأخرج عبد الرزاق ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه من طريق مصعب بن سعد قال : سألت أبي { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } أهم الحرورية؟ قال : لا هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب ، والحرورية { الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ ميثاقه } ، وكان سعد يسميهم : الفاسقين . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن مصعب قال : قلت لأبي { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } الحرورية هم؟ قال : لا ولكنهم أصحاب الصوامع ، والحرورية قوم : زاغوا فأزاغ الله قلوبهم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي حميصة عبد الله بن قيس قال : سمعت عليّ بن أبي طالب يقول : في هذه الآية { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } إنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري . وأخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال : سمعت عليّ بن أبي طالب وسأله ابن الكوّا فقال : { هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } قال : فجرة قريش .

وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طريقين عن عليّ : أنه سئل عن هذه الآية { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } قال : لا أظنّ إلا أن الخوارج منهم ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرءوا إن شئتم : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } » وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سلوا الله الفردوس ، فإنها سرّة الجنة ، وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش » وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه وسط الجنة ، وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تفجر أنهار الجنة » وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأحمد ، والترمذي ، وابن جرير ، والحاكم ، والبيهقي ، وابن مردويه عن عبادة بن الصامت ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة مائة درجة ، كل درجة منها ما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومن فوقها يكون العرش ، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس » والأحاديث بهذا المعنى كثيرة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الفردوس : بستان بالرومية . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : هو الكرم بالنبطية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن المنذر ، عن عبد الله بن الحارث : أن ابن عباس سأل كعباً عن الفردوس قال : هي جنات الأعناب بالسريانية . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } قال : متحوّلاً .

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)

لما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبّى } قال ابن الأنباري : سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب ، وأصله من الزيادة ومجيء الشيء بعد الشيء ، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج : مداد ، والمراد بالبحر هنا : الجنس . والمعنى : لو كتبت كلمات علم الله وحكمته ، وفرض أن جنس البحر مداداً لها لنفد البحر قبل نفود الكلمات ، ولو جئنا بمثل البحر مداداً لنفد أيضاً ، وقيل في بيان المعنى : لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } وقوله : { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله : { قل لو كان } . وفيه زيادة مبالغة وتأكيد ، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدّرة مدلول عليها بما قبلها أي : لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته لو لم يجىء بمثله مدداً ولو جئنا بمثله مدداً ، والمدد الزيادة ، وقيل : عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى ، وهو وإن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد ، وقد عبّرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع ، قال الأعشى :
ووجه نقّي اللون صاف يزينه ... مع الجيد لبات لها ومعاصم
فعبّر باللبات عن اللبة . قال الجبائي : إن قوله { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى } يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة ، وما ثبت عدمه امتنع قدمه . وأجيب بأن المراد : الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية ، وقيل في الجواب : إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدّل على نفاد الشيء الآخر ، ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر ، أما أنها متناهية ، أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في الآية . والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته ، وهي غير متناهية ، فالكلمات غير متناهية . وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد ( ولو جئنا بمثله مداداً ) وهي كذلك في مصحف أبيّ ، وقرأ الباقون { مدداً } وقرأ حمزة والكسائي ( قبل أن ينفد ) بالتحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية ، ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك مسلك التواضع ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ } أي : إن حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية ، ومن كان هكذا فهو لا يدّعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال : { يوحى إِلَىَّ } وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر ، ثم بيّن أن الذي أوحى إليه هو قوله : { أَنَّمَا إلهكم إله واحد } لا شريك له في ألوهيته ، وفي هذا إرشاد إلى التوحيد ، ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الرجاء : توقع وصول الخير في المستقبل ، والمعنى : من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا } وهو ما دلّ الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } من خلقه سواء كان صالحاً ، أو طالحاً ، حيواناً أو جماداً ، قال الماوردي : قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية : إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً .

وأقول : إن دخول الشرك الجليّ الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدّم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء ، ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها ، إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { لكلمات رَبّى } يقول : علم ربي . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : يقول : ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية قال : أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلها غيره ، وليست هذه في المؤمنين . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رجل : يا نبيّ الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله ، وأحبّ أن يرى موطني ، فلم يردّ عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية : { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } . وأخرج ابن منده ، وأبو نعيم في الصحابة ، وابن عساكر من طريق السدّي الصغير عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدّق فذكر بخير ارتاح له ، فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله ، فنزل في ذلك { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : «قال رجل : يا رسول الله أعتق وأحبّ أن يرى ، وأتصدّق وأحبّ أن يرى ، فنزلت : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية وهو مرسل . وأخرجه هناد في الزهد عنه أيضاً . وأخرج ابن سعد ، وأحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، نادى منادٍ : من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي هريرة : أن رجلاً قال : يا رسول الله ، الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا؟ فقال : " لا أجر له ، "

فأعظم الناس ذلك ، فعاد الرجل فقال : « لا أجر له » . وأخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص ، وابن جرير في تهذيبه ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن شدّاد بن أوس قال : كنا نعدّ الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر . وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، وابن أبي الدنيا ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن شدّاد بن أوس أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك ، ثم قرأ { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية » وأخرج الطيالسي ، وأحمد ، وابن مردويه ، وأبو نعيم عن شدّاد أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله يقول : أنا خير قسيم لمن أشرك بي ، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غنيّ » وأخرج أحمد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير في تهذيبه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيخ؟ الشرك الخفي ، أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل » وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن شدّاد بن أوس سمعت رسول الله يقول صلى الله عليه وسلم : « أتخوّف على أمتي الشرك والشهوة الخفية ، قلت : أتشرك أمتك من بعدك؟ قال : نعم ، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ، ولكن يراءون الناس بأعمالهم ، قلت : يا رسول الله ما الشهوة الخفية؟ قال : يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته » وأخرج أحمد ، ومسلم ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال : « أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه ، وهو للذي أشرك » ، وفي لفظ : « فمن أشرك بي أحداً فهو له كله » وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر ، وأن الله لا يقبله ، وقد استوفاها صاحب الدرّ المنثور في هذا الموضع فليرجع إليه ، ولكنها لا تدلّ على أنه المراد بالآية ، بل الشرك الجليّ يدخل تحتها دخولاً أوّلياً ، وعلى فرض أن سبب النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدّمنا ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرّر في علم الأصول .
وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني ، وابن مردويه عن أبي حكيم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم »

وأخرج ابن راهويه ، والبزار ، والحاكم وصححه ، والشيرازي في الألقاب ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ في ليلة { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } الآية ، كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة » قال ابن كثير بعد إخراجه : غريب جداً . وأخرج ابن الضريس عن أبي الدرداء قال : من حفظ خاتمة الكهف كان له نور يوم القيامة من لدن قرنه إلى قدمه . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } وقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن . قال ابن كثير : وهذا أثر مشكل ، فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف ، والكهف كلها مكية ، ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا يغير حكمها ، بل هي مثبتة محكمة ، فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه .

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

قوله : { كهيعص } قرأ أبو جعفر هذه الحروف مقطعة ، ووصلها الباقون ، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء ، وعكس ذلك ابن عامر وحمزة ، وأمالهما جميعاً الكسائي وأبو بكر وخلف ، وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة وفتحهما الباقون . وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف ، وحكي عن غيره أنه كان يضم « ها » . وقال أبو حاتم : لا يجوز ضمّ الكاف ولا الهاء ولا الياء . قال النحاس : قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا ، والإمالة جائزة في « ها » وفي « يا » وقد اعترض على قراءة الحسن جماعة . وقيل في تأويلها : أنه كان يشمّ الرفع فقط . وأظهر الدال من هجاء « صاد » نافع وأبو جعفر وابن كثير وعاصم ويعقوب ، وهو اختيار أبي عبيد وأدغمها الباقون . وقد قيل في توجيه هذه القراءات : أن التفخيم هو الأصل ، والإمالة فرع عنه ، فمن قرأ بتفخيم الهاء والياء فقد عمل بالأصل ، ومن أمالهما فقد عمل بالفرع ، ومن أمال أحدهما وفخم الآخر فقد عمل بالأمرين ، وقد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في فواتح السورة مستوفى في أوائل سورة البقرة .
ومحل هذه الفاتحة إن جعلت اسماً للسورة على ما عليه الأكثر الرفع على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها ، قاله الفراء . واعترضه الزجاج فقال : هذا محال لأن { كهيعص } ليس هو مما أنبأنا الله عزّ وجلّ به عن زكريا ، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه وعما بشر به ، وليس { كهيعص } من قصته ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف ، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد ، فقوله : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ } خبر لمبتدأ محذوف أي : هذا ذكر رحمة ربك وقيل : هو مبتدأ خبره محذوف أي : فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك . قال الزجاج : { ذكر } مرتفع بالمضمر ، والمعنى : هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك { عَبْدِهِ زكريا } يعني : إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد ، وانتصاب { عبده } على أنه مفعول للرحمة ، قاله الأخفش . وقيل : للذكر . ومعنى ذكر الرحمة : بلوغها وإصابتها ، كما يقال : ذكرني معروف فلان أي : بلغني . وقرأ يحيى بن يعمر : « ذكر » بالنصب ، وقرأ أبو العالية « عبده » بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول ، وفاعل الذكر هو عبده ، وزكريا على القراءتين عطف بيان له أو بدل منه ، وقرأ الكلبي : « ذكر » على صيغة الفعل الماضي مشدّداً ومخففاً على أن الفاعل عبده ، وقرأ ابن معمر على الأمر ، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكريا ، لأن كل نبيّ رحمة لأمته .
{ إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } العامل في الظرف : رحمة . وقيل : ذكر . وقيل : هو بدل اشتمال من زكريا . واختلف في وجه كون ندائه هذا خفياً؛ فقيل : لأنه أبعد عن الرياء ، وقيل : أخفاه ، لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته ، ولكونه من أمور الدنيا .

وقيل : أخفاه مخافة من قومه . وقيل : كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفاً هرماً لا يقدر على الجهر . { قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ العظم مِنّي } هذه الجملة مفسرة لقوله : { نادى ربه } يقال : وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن ، وقرىء بالحركات الثلاث . أراد أن عظامه فترت وضعفت قوّته ، وذكر العظم ، لأنه عمود البدن ، وبه قوامه ، وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته ، ولأن أشدّ ما في الإنسان صلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ووحد العظم قصداً إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام { واشتعل الرأس شَيْباً } قرأ أبو عمرو بإدغام السين في الشين ، والباقون بعدمه ، والاشتعال في الأصل : انتشار شعاع النار ، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية ، بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه ، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها . قال الزجاج : يقال للشيب إذا كثر جدّاً : قد اشتعل رأس فلان ، وأنشد للبيد :
فإن ترى رأسي أمسى واضحا ... سلط الشيب عليه فاشتعل
وانتصاب { شيباً } على التمييز ، قاله الزجاج . وقال الأخفش : انتصابه على المصدر ، لأن معنى اشتعل : شاب . قال النحاس : قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل ، والمصدرية أظهر فيما كان كذلك ، وكان الأصل اشتعل شيب رأسي ، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة الشمول { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً } أي لم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من الأوقات ، بل كلما دعوتك استجبت لي .
قال العلماء : يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع ، وذكر نعم الله عليه كما فعل زكريا ها هنا ، فإن في قوله : { وَهَنَ العظم مِنّي واشتعل الرأس شَيْباً } غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه ، وبلوغ مآربه ، وفي قوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً } ذكر ما عوّده الله من الإنعام عليه بإجابة أدعيته ، يقال شقي بكذا ، أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه .
{ وَإِنّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى } قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي بن الحسين وأبوه علي ويحيى بن يعمر « خفت » بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وفاعله { الموالي } أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي ، أو انقطعوا بالموت ، مأخوذاً من خفت القوم إذا ارتحلوا ، وهذه قراءة شاذة بعيدة عن الصواب . وقرأ الباقون { خفت } بكسر الخاء وسكون الفاء على أن فاعله ضمير يعود إلى زكرياء ، ومفعوله الموالي ، ومن ورائي متعلق بمحذوف لا بخفت ، وتقديره : خفت فعل الموالي من بعدي . قرأ الجمهور : { ورائي } بالهمز والمدّ وسكون الياء ، وقرأ ابن كثير بالهمز والمدّ وفتح الياء .

وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء ، مثل عصاي . والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العمّ ونحوهم ، والعرب تسمي هؤلاء موالي ، قال الشاعر :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا تنشروا بيننا ما كان مدفوناً
قيل : الموالي الناصرون له . واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده ، فقيل : خاف أن يرثوا ماله ، وأراد أن يرثه ولده ، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولداً . وقال آخرون : إنهم كانوا مهملين لأمر الدين ، فخاف أن يضيع الدين بموته . فطلب ولياً يقوم به بعد موته ، وهذا القول أرجح من الأوّل لأن الأنبياء لا يورثون وهم أجلّ من أن يعتنوا بأمور الدنيا ، فليس المراد هنا : وراثة المال ، بل المراد : وراثة العلم والنبوّة والقيام بأمر الدين . وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة » { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا } العاقر : هي التي لا تلد لكبر سنها ، والتي لا تلد أيضاً لغير كبر وهي المرادة هنا ، ويقال : للرجل الذي لا يلد : عاقر أيضاً ، ومنه قول عامر ابن الطفيل :
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ... قال ابن جرير : وكان اسم امرأته : أشاع بنت فأقود بن ميل ، وهي أخت حنة ، وحنة هي أمّ مريم . وقال القتيبي : هي أشاع بنت عمران ، فعلى القول يكون يحيى بن زكريا ابن خالة أمّ عيسى ، وعلى القول الثاني يكونان ابني خالة كما ورد في الحديث الصحيح . { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } أي أعطني من فضلك ولياً ، ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوّز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما . وقد قيل : إنه كان ابن بضع وتسعين سنة ، وقيل : بل أراد بالوليّ الذي طلبه هو الولد ، ولا مانع من سؤال من كان مثله لما هو خارق للعادة ، فإن الله سبحانه قد يكرم رسله بما يكون كذلك ، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم .
{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ } قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة وابن محيصن واليزيدي ويحيى بن المبارك بالرفع في الفعلين جميعاً ، على أنهما صفتان للوليّ وليسا بجواب للدعاء . وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى ابن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما ، على أنهما جواب للدعاء . ورجح القراءة الأولى أبو عبيد وقال : هي أصوب في المعنى؛ لأنه طلب ولياً هذه صفته فقال : هب لي الذي يكون وارثي . ورجح ذلك النحاس وقال : لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة ، تقول : أطع الله يدخلك الجنة أي إن تطعه يدخلك الجنة ، وكيف يخبر الله سبحانه بهذا ، أعني كونه أن يهب له ولياً يرثه ، وهو أعلم بذلك ، والوراثة هنا هي وراثة العلم والنبوّة على ما هو الراجح كما سلف .

وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن يعقوب المذكور هنا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم . وزعم بعض المفسرين أنه يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان ، وبه قال الكلبي ومقاتل ، وآل يعقوب هم خاصته الذين يؤول أمرهم إليه للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين ، وقد كان فيهم أنبياء وملوك ، وقرىء : « يرثني وارث من آل يعقوب » على أنه فاعل يرثني . وقرىء : « وأرث آل يعقوب » أي أنا . وقرىء : « أو يرث آل يعقوب » بلفظ التصغير على أن هذا المصغر فاعل يرثني . وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظاً ومعنى { واجعله رَبّ رَضِيّاً } أي مرضياً في أخلاقه وأفعاله؛ وقيل : راضياً بقضائك وقدرك ، وقيل : رجلاً صالحاً ترضى عنه ، وقيل : نبياً كما جعلت آباءه أنبياء .
{ رَضِيّاً يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى } قال جمهور المفسرين : إن هذا النداء من الله سبحانه ، وقيل : إنه من جهة الملائكة ، لقوله في آل عمران { فَنَادَتْهُ الملئكة } [ آل عمران : 39 ] ، وفي الكلام حذف ، أي فاستجاب له دعاءه ، فقال : يا زكريا ، وقد تقدّم في آل عمران وجه التسمية بيحيى وزكريا . قال الزجاج : سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } قال أكثر المفسرين : معناه : لم نسمّ أحداً قبله يحيى . وقال مجاهد وجماعة : معنى { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } أنه لم يجعل له مثلاً ولا نظيراً ، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة أو السموّ ، وردّ هذا بأنه يقتضي تفضيله على إبراهيم وموسى . وقيل : معناه لم تلد عاقر مثله ، والأوّل أولى . وفي إخباره سبحانه بأنه لم يسمّ بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين : الأولى : أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به ، ولم يكلها إلى الأبوين . والجهة الثانية : أن تسميته باسم لم يوضع لغيره يفيد تشريفه وتعظيمه .
{ قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام } أي كيف أو من أين يكون لي غلام؟ وليس معنى هذا الاستفهام الإنكار ، بل التعجب من قدرة الله وبديع صنعه ، حيث يخرج ولداً من امرأة عاقر وشيخ كبير ، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في آل عمران ، { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } يقال : عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر ، وشيخ عات إذا صار إلى حال اليبس والجفاف ، والأصل عتوا لأنه من ذوات الواو فأبدلوه ياء لكونها أخفّ ، ومثل ما في الآية قول الشاعر :
إنما يعذر الوليد ولا يع ... ذر من كان في الزمان عتياً
وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص والأعمش { عتياً } بكسر العين ، وقرأ الباقون بضم العين وهما لغتان ، ومحل جملة { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا } النصب على الحال من ضمير المتكلم ، ومحل جملة { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } النصب أيضاً على الحال ، وكلا الجملتين لتأكيد الاستبعاد والتعجب المستفاد من قوله : { أنى يَكُونُ لِي غلام } أي كيف يحصل بيننا ولد الآن ، وقد كانت امرأتي عاقراً لم تلد في شبابها وشبابي وهي الآن عجوز ، وأنا شيخ هرم؟
ثم أجاب الله سبحانه على هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله : { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ } الكاف في محل رفع ، أي الأمر كذلك ، والإشارة إلى ما سبق من قول زكريا ، ثم ابتدأ بقوله : { قَالَ رَبُّكِ } ويحتمل أن يكون محله النصب على المصدرية ، أي : قال قولاً مثل ذلك ، والإشارة بذلك إلى مبهم يفسره قوله : { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } وأما على الاحتمال الأوّل فتكون جملة { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } مستأنفة مسوقة لإزالة استبعاد زكريا بعد تقريره ، أي قال : هو مع بعده عندك ، عليّ هين ، وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع من المراد .

قال الفراء : أي خلقه عليّ هين { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها . قال الزجاج : أي فخلق الولد لك كخلقك ، والمعنى : أن الله سبحانه خلقه ابتداء وأوجده من العدم المحض ، فإيجاد الولد له بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه ، وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه السلام لكونه المخلوق من العدم حقيقة بأن يقول : وقد خلقت أباك آدم من قبل ولم يك شيئاً ، للدلالة على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشاء آدم من العدم . قرأ أهل المدينة وأهل مكة والبصرة وعاصم وابن عامر { وقد خلقتك من قبل } وقرأ سائر الكوفيين : « وقد خلقناك من قبل » .
{ قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } أي علامة تدلني على وقوع المسؤول وتحققه وحصول الحبل ، والمقصود من هذا السؤال تعريفه وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه . قال ابن الأنباري : وجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر ، فسأل الله آية يستدلّ بها على قرب ما منّ به عليه . وقيل : طلب آية تدله على أن البشرى من الله سبحانه لا من الشيطان ، لأن إبليس أوهمه بذلك ، كذا قال الضحاك والسدّي وهو بعيد جدّاً { قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } قد تقدّم تفسير هذا في آل عمران مستوفى ، وانتصاب { سوياً } على الحال ، والمعنى : آيتك أن لا تقدر على الكلام والحال أنك سويّ الخلق ليس بك آفة تمنعك منه ، وقد دل بذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران . أن المراد ثلاثة أيام ولياليهنّ .
{ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } وهو مصلاه ، واشتقاقه من الحرب ، كأنّ ملازمه يحارب الشيطان .

وقيل : من الحرب محركاً ، كأن ملازمه يلقى حرباً وتعباً ونصباً { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قيل : معنى { أوحى } : أومأ بدليل قوله في آل عمران { إِلاَّ رَمْزًا } [ آل عمران : 41 ] . وقيل : كتب لهم في الأرض . وبالأوّل قال الكلبي والقرظي وقتادة وابن منبه ، وبالثاني قال مجاهد . وقد يطلق الوحي على الكتابة ومنه قول ذي الرّمة :
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها ... بقية وحي في بطون الصحائف
وقال عنترة :
كوحي صحائف من عهد كسرى ... فأهداها لأعجم طمطميّ
و«أن» في قوله : { أَن سَبّحُواْ } مصدرية أو مفسرة ، والمعنى : فأوحى إليهم بأن صلوا ، أو أي صلوا ، وانتصاب { بكرة } و { عشياً } على الظرفية . قال الفراء : العشي يؤنث ، ويجوز تذكيره إذا أبهم . قال : وقد يقال العشيّ جمع عشية ، قيل : والمراد : صلاة الفجر والعصر . وقيل : المراد بالتسبيح : هو قولهم سبحان الله في الوقتين : أي نزهوا ربكم طرفي النهار .
وقد أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { كهيعص } كبير هاد أمين عزيز صادق ، وفي لفظ : كاف بدل كبير . وأخرج عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس ، وعثمان بن سعيد الدارمي في التوحيد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس : { كهيعص } قال : كاف من كريم ، وهاء من هاد ، وياء من حكيم ، وعين من عليم ، وصاد من صادق . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس : من الصحابة { كهيعص } هو الهجاء المقطع ، الكاف من الملك ، والهاء من الله ، والياء والعين من العزيز ، والصاد من المصوّر . وأخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن { كهيعص } فحدّث عن أبي صالح عن أمّ هانىء ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كاف هاد عالم صادق " وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة ابنة عليّ قالت : كان علي يقول : يا كهيعص اغفر لي . وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في : { كهيعص } قال : الكاف الكافي ، والهاء الهادي ، والعين العالم ، والصاد الصادق . وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن السدّي قال : كان ابن عباس يقول في كهيعص وحموياس وأشباه هذا : هو اسم الله الأعظم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو قسم أقسم الله به ، وهو من أسماء الله .
وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم ولم يصح مرفوعاً في ذلك شيء ، ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روى عن غيره ما يخالفه ، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة المتناقضة في هذه الفواتح فلا يقوم شيء من ذلك حجة ، بل الحق الوقف ، وردّ العلم في مثلها إلى الله سبحانه ، وقد قدّمنا تحقيق هذا في فاتحة سورة البقرة .

وأخرج أحمد وأبو يعلى ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كان زكريا نجاراً » وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : كان آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا بن أزر بن مسلم من ذرية يعقوب دعا ربه سرّاً { قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ العظم مِنّي } إلى قوله : { خِفْتُ الموالي } قال : وهم العصبة { يَرِثُنِي } يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب ، فنادته الملائكة ، وهو جبريل : إن الله يبشرك { بغلام اسمه يحيى } فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال : يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان سخر بك ، فشك وقال : { أنى يَكُونُ لِي غلام } يقول : من أين يكون وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر ، قال الله : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَإِنّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَائِي } قال : الورثة : وهم عصبة الرجل . وأخرج الفريابي عنه قال : كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال : { رب هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ } قال : يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوّة .
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } قال : مثلاً . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه قال : لا أدري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الحرف عتياً أو عسياً . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله : { عِتِيّاً } قال : لبث زماناً في الكبر . وأخرج أيضاً عن السدّي قال : هرماً . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً } قال : اعتقل لسانه من غير مرض ، وفي لفظ من غير خرس ، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { فأوحى إِلَيْهِمْ } قال : كتب لهم كتاباً . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { أَن سَبّحُواْ } قال : أمرهم بالصلاة { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } .

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

قوله : { يا يحيى } ها هنا حذف ، وتقديره : وقال الله للمولود : يا يحيى ، أو فولد له مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه ، فقلنا له : يا يحيى . وقال الزجاج : المعنى فوهبنا له وقلنا له : يا يحيى . والمراد بالكتاب : التوراة لأنه المعهود حينئذٍ ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن ، والمراد بالأخذ : إما الأخذ الحسي أو الأخذ من حيث المعنى ، وهو القيام بما فيه كما ينبغي ، وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به ، والإحجام عن المنهيّ عنه ، ثم أكده بقوله : { بقُوَّةَ } أي بجدّ وعزيمة واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } المراد بالحكم : الحكمة ، وهي الفهم للكتاب الذي أمر بأخذه وفهم الأحكام الدينية . وقيل : هي العلم وحفظه والعمل به وقيل : النبوّة وقيل : العقل ، ولا مانع من أن يكون الحكم صالحاً لحمله على جميع ما ذكر . قيل : كان يحيى عند هذا الخطاب له ابن سنتين ، وقيل : ابن ثلاث .
{ وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا } معطوف على الحكم . قال جمهور المفسرين : الحنان الرحمة والشفقة والعطف والمحبة ، وأصله توقان النفس ، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها . قال أبو عبيدة : تقول حنانك يا ربّ ، وحنانيك يا ربّ ، بمعنى واحد ، يريد : رحمتك ، قال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
وقال امرؤ القيس :
ويمنحها بنو سلخ بن بكر ... معيزهم حنانك ذا الحنان
قال ابن الأعرابي : الحنان مشدّداً من صفات الله عزّ وجلّ ، والحنان مخففاً : العطف والرحمة . والحنان : الرزق والبركة . قال ابن عطية : والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله ، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل : والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً ، يعني : بلالاً ، لما مرَّ به وهو يعذب . وقيل : إن القائل لذلك هو ورقة بن نوفل . قال الأزهري : معنى ذلك لأترحمنّ عليه ، ولأتعطفنّ عليه لأنه من أهل الجنة ، ومثله قول الحطيئة :
تحنن عليّ هداك المليك ... فإن لكل مقام مقالا
ومعنى { مّن لَّدُنَّا } من جنابنا . قيل : ويجوز أن يكون المعنى : أعطيناه رحمة من لدنا كائنة في قلبه يتحنن بها على الناس ، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر { وزكواة } معطوف على ما قبله ، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبرّ ، أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم إلى الخير؛ وقيل : زكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود وقيل : صدقة تصدقنا به على أبويه قاله ابن قتيبة { وَكَانَ تَقِيّا } أي متجنباً لمعاصي الله مطيعاً له . وقد روي أنه لم يعمل معصية قط .
{ وَبَرّا بوالديه } معطوف على { تقياً } ، البرّ هنا بمعنى البارّ ، فعل بمعنى فاعل ، والمعنى : لطيفاً بهما محسناً إليهما { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } أي لم يكن متكبراً ولا عاصياً لوالديه أو لربه ، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح { وسلام عَلَيْهِ } قال ابن جرير وغيره : معناه : أمان عليه من الله .

قال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه ، وهو أقلّ درجاته ، وإنما الشرف في أن يسلم الله عليه ، ومعنى { يَوْمَ وُلِدَ } أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم ، أو أن الله حياه في ذلك اليوم ، وهكذا معنى { يَوْمَ يَمُوتُ } وهكذا معنى { يَوْمَ يُبعثُ حَياً } قيل : أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن : يوم ولد لأنه خرج مما كان فيه ، ويوم يموت لأنه يرى قوماً لم يكن قد عرفهم وأحكاماً ليس له بها عهد ، ويوم يبعث لأنه يرى هول يوم القيامة . فخصّ الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ } قال : بجدّ { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } قال : الفهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : يقول : اعمل بما فيه من فرائض . وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار قال : اللب . وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } قال : « أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين » وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن أبي حاتم عن قتادة : بدله وهو ابن ثلاث سنين . وأخرج الحاكم في تاريخه من طريق نهشل بن سعد عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الغلمان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال يحيى : ما للعب خلقنا ، اذهبوا نصلي فهو قول الله : { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } » وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ القرآن قبل أن يحتلم ، فهو ممن أوتي الحكم صبياً » وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله : { وَحَنَانًا } قال : لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف الله على عبده بالرحمة ، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وزكواة } قال : بركة ، وفي قوله : { وَكَانَ تَقِيّا } قال : طهر فلم يعمل بذنب .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

قوله : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } هذا شروع في ابتداء خلق عيسى ، والمراد بالكتاب : هذه السورة ، أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم ، ويجوز أن يراد بالكتاب : جنس القرآن وهذه السورة منه ، ولما كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر ، وهو قصة مريم ، أو خبر مريم { إِذِ انتبذت } العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدّر ، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم ، لأن الأزمان مشتملة على ما فيها ، ويكون المراد بمريم : خبرها ، وفي هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه ، والنبذ : الطرح والرمي . قال الله سبحانه { فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } [ آل عمران : 187 ] . والمعنى : أنها تنحت وتباعدت . وقال ابن قتيبة : اعتزلت . وقيل : انفردت ، والمعاني متقاربة . واختلفوا في سبب انتباذها ، فقيل : لأجل أن تعبد الله سبحانه وقيل لتطهر من حيضها ، و { مّنْ أَهْلِهَا } متعلق ب { انتبذت } ، وانتصاب { مَكَاناً شَرْقِياً } على المفعولية للفعل المذكور ، أي مكاناً من جانب الشرق ، والشرق بسكون الراء : المكان الذي تشرق فيه الشمس ، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار ، حكى معناه ابن جرير .
وقد اختلف الناس في نبوّة مريم ، فقيل : إنها نبية بمجرّد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك وقيل : لم تكن نبية ، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر ، وقد تقدّم الكلام في هذا في آل عمران .
{ فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } أي اتخذت من دون أهلها حجاباً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة ، أو حال التطهر من الحيض ، والحجاب الستر والحاجز { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } هو جبريل عليه السلام . وقيل : هو روح عيسى ، لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد ، والأوّل أولى لقوله : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } أي تمثل جبريل لها بشراً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً . قيل : ووجه تمثل الملك لها بشراً أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته ، فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء ، فاستعاذت بالله منه و { قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي ممن يتقي الله ويخافه . وقيل : إن تقياً اسم رجل صالح ، فتعوّذت منه تعجباً . وقيل : إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت ، والأوّل أولى . وجواب الشرط محذوف ، أي فلا تتعرض لي .
{ قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ } أي قال لها جبريل : إنما أنا رسول ربك الذي استعذت به ، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء { لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً } جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته ، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر .

وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع « ليهب » على معنى أرسلني ليهب لك ، وقرأ الباقون بالهمز . والزكيّ : الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة . وقيل : المراد بالزكيّ النبيّ { قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } أي لم يقربني زوج ولا غيره { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } البغيّ هي الزانية التي تبغي الرجال . قال المبرد : أصله بغوى على فعول ، قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة . وقال ابن جني : إنه فعيل . وزيادة ذكر كونها لم تك بغياً مع كون قولها : لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهاً لجانبها من الفحشاء وقيل : ما استبعدت من قدرة الله شيئاً ، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد هل من قبل زوج تتزوّجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداء؟ وقيل : إن المس عبارة عن النكاح الحلال ، وعلى هذا لا يحتاج إلى بيان وجه قولها : { ولم أك بغياً } وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة ، وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده اه . { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } أي ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب آية للناس يستدلون بها على كمال القدرة ، وهو علة لمعلل محذوف ، والتقدير خلقناه لنجعله ، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه : { هُوَ علي هَيّنٌ } وجملة { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ } مستأنفة ، والقائل هو الملك ، والكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من قول زكريا . وقوله : { وَرَحْمَةً مّنَّا } معطوف على آية أي : ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير ، لأن كل نبيّ رحمة لأمته { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } أي وكان ذلك المذكور أمراً مقدّراً قد قدّره الله سبحانه وجف به القلم . { فَحَمَلَتْهُ } ها هنا كلام مطويّ ، والتقدير : فاطمأنت إلى قوله ، فدنا منها ، فنفخ في جيب درعها ، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته . وقيل : كانت النفخة في ذيلها ، وقيل : في فمها . قيل : إن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضيّ مدة الحمل ، ويدلّ على ذلك قوله : { فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد ، والقصيّ هو البعيد . قيل : كان هذا المكان وراء الجبل ، وقيل : أبعد مكان في تلك الدار . وقيل : أقصى الوادي . وقيل : إنها حملت به ستة أشهر . وقيل : ثمانية أشهر ، وقيل : سبعة { فَأَجَاءهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة } أي ألجأها واضطرها ، ومنه قول زهير :
أجاءته المخافة والرجاء ... وقرأ شبل : « فاجأها » من المفاجأة ، ورويت هذه القراءة عن عاصم ، وقرأ الحسن بغير همز ، وفي مصحف أبيّ : « فلما أجاءها » قال في الكشاف : إن « أجاءها » منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء ، وفيه بعد ، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقلّ ، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً إذا دنا ولادها .

وقرأ الجمهور بفتح الميم . وقرأ ابن كثير بكسرها ، والجذع : ساق النخلة اليابسة ، كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدّة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها ، والتعريف إما للجنس أو للعهد { قَالَتْ يا مِتُّ قَبْلَ هذا } أي قبل هذا الوقت ، تمنت الموت لأنها خافت أن يظنّ بها السوء في دينها ، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان { وَكُنتُ نَسْياً } النسي في كلاب العرب : الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل ، ومنه قول الكميت :
أتجعلنا خسراً لكلب قضاعة ... ولسنا بنسي في معدّ ولا دخل
وقال الفراء : النسي : ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ، فتقول مريم : { نَسْياً مَّنسِيّاً } أي حيضة ملقاة ، وقد قرىء بفتح النون وكسرها ، وهما لغتان مثل الحجر والحجر ، والوتر والوتر . وقرأ محمد بن كعب القرظي : « نساء » بالهمز مع كسر النون . وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون . وقرأ بكر بن حبيب { نسياً } بفتح النون وتشديد الياء بدون همز ، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } أي جبريل لما سمع قولها ، وكان أسفل منها تحت الأكمة . وقيل : تحت النخلة ، وقيل المنادي هو عيسى ، وقد قرىء بفتح الميم من { من } وكسرها . وقوله : { أَلاَّ تَحْزَنِي } تفسير للنداء ، أي لا تحزني أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } قال جمهور المفسرين : السريّ : النهر الصغير ، والمعنى : قد جعل ربك تحت قدمك نهراً . قيل : كان نهراً قد انقطع عنه الماء ، فأرسل الله فيه الماء لمريم ، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر . وقيل : المراد بالسريّ هنا : عيسى ، والسريّ : العظيم من الرجال؛ ومنه قولهم فلان سريّ ، أي عظيم ، ومن قوم سراة أي عظام .
{ وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } الهزّ : التحريك ، يقال : هزه فاهتزّ ، والباء في بجذع النخلة مزيدة للتوكيد . وقال الفراء : العرب تقول هزّه وهزّ به ، والجذع : هو أسفل الشجرة . قال قطرب : كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع ، ومعنى إليك : إلى جهتك ، وأصل تساقط : تتساقط ، فأدغم التاء في السين . وقرأ حمزة والأعمش { تساقط } مخففاً . وقرأ عاصم في رواية حفص والحسن بضم التاء مع التخفيف وكسر القاف . وقرىء : « تتساقط » بإظهار التاءين . وقرىء بالتحتية مع تشديد السين . وقرىء « تسقط ، ويسقط » .

وقرأ الباقون بإدغام التاء في السين ، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة ، ومن قرأ بالتحتية جعل الضمير للجذع؛ وانتصاب { رُطَباً } على بعض هذه القراءات للتمييز ، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط . قال المبرد والأخفش : يجوز انتصاب رطباً بهزّي أي : هزّي إليك رطباً { جَنِيّاً } بجذع النخلة ، أي على جذعها وضعفه الزمخشري ، والجنيّ : المأخوذ طرياً . وقيل : هو ما طلب وصلح للاجتناء ، وهو فعيل بمعنى مفعول . قال الفراء : الجنيّ والمجني واحد . وقيل : هو فعيل بمعنى فاعل ، أي رطباً طرياً طيباً .
{ فَكُلِي واشربي } أي من ذلك الرطب وذلك الماء ، أو من الرطب وعصيره ، وقدّم الأكل مع أن ذكر النهر مقدّم على الرطب ، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء ، ثم قال : { وَقَرّي عَيْناً } قرأ الجمهور بفتح القاف . وحكى ابن جرير أنه قرىء بكسرها ، قال : وهي لغة نجد . والمعنى : طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن ، وهو مأخوذ من القرّ والقرّة وهما البرد ، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح . وقيل : المعنى : وقرّي عيناً برؤية الولد الموهوب لك . وقال الشيباني : معناه : نامي . قال أبو عمرو : أقرّ الله عينه ، أي : أنام عينه وأذهب سهره { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } أصله : ترأيين : مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد ، ومثل هذا مع عدم لحوق نون التوكيد قول ابن دريد :
أما ترى رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى
وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة " ترين " بسكون الياء وفتح النون مخففة . قال أبو الفتح : وهي شاذة ، وجواب الشرط { فَقُولِي إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً وقيل : المراد به : الصوم الشرعي ، وهو الإمساك عن المفطرات ، والأوّل أولى . وفي قراءة أبيّ : " إني نذرت للرحمن صوماً صمتاً " بالجمع بين اللفظين ، وكذا روي عن أنس . وروي عنه أنه قرأ : «صوماً وصمتاً» بالواو ، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا : الصمت ، ويدل عليه { فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } ومعنى الصوم في اللغة : أوسع من المعنيين . قال أبوعبيدة : كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم . وقراءة أبيّ تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت ، لأنه تفسير للصوم . وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو . ومعنى { فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر ، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها وقيل : إنها لم تخبرهم هنا باللفظ ، بل بالإشارة المفيدة للنذر .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } قال : مكاناً أظلها الشمس أن يراها أحد منهم .

وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال : إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة ، لأن مريم اتخذت من أهلها مكاناً شرقياً ، فاتخذوا ميلاده قبلة ، وإنما سجدت اليهود على حرف حين نتق فوقهم الجبل ، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه ، يتخوّفون أن يقع عليهم ، فسجدوا سجدة رضيها الله ، فاتخذوها سنة . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن عساكر من طريق السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس . وعن مرّة عن ابن مسعود قالا : خرجت مريم بنت عمران إلى جانب المحراب لحيض أصابها ، فلما طهرت إذا هي برجل معها { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً } ففزعت و { قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } فخرجت وعليها جلبابها ، فأخذ بكمها فنفخ في جنب درعها ، وكان مشقوقاً من قدّامها ، فدخلت النفخة صدرها فحملت ، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها ، فلما فتحت لها الباب التزمتها ، فقالت امرأة زكريا : يا مريم أشعرت أني حبلى ، قالت مريم : أشعرت أني حبلى ، فقالت امرأة زكرياء : فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك ، فذلك قوله تعالى : { مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله } [ آل عمران : 39 ] . فولدت امرأة زكرياء يحيى ، ولما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى جانب المحراب { فَأَجَاءهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتنى مِتُّ قَبْلَ هذا } الآية { فَنَادَاهَا } جبريل { مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي } فلما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم ولدت ، فلما أرادوها على الكلام أشارت إلى عيسى فتكلم فقَال { إِنّي عَبْدُ الله ءَاتَانِىَ الكتاب } الآيات ، ولما ولد لم يبق في الأرض صنم إلا خرّ لوجهه .
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في مريم قال : حين حملت وضعت . وأخرج ابن عساكر عنه قال : وضعت لثمانية أشهر . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } قال : جبريل . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء نحوه أيضاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، وابن عساكر عن أبيّ بن كعب في الآية قال : تمثل لها روح عيسى في صورة بشر فحملته ، قال : حملت الذي خاطبها . دخل في فيها . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { مَكَاناً قَصِيّاً } قال : نائياً . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : { إلى جِذْعِ النخلة } قال : كان جذعاً يابساً . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } قال : لم أخلق ولم أك شيئاً . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } قال : حيضة ملقاة .

وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد بن حميد عن نوف البكالي والضحاك مثله .
وأخرج عبد ابن حميد عن عكرمة في قوله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } قال : الذي ناداها جبريل . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : الذي ناداها من تحتها جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها . وقد اختلفت الروايات عن السلف ، هل هذا المنادي هو جبريل أو عيسى . وأخرج عبد بن حميد ، عن أبي بكر بن عياش قال : قرأ عاصم بن أبي النجود { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } بالنصب ، قال : وقال عاصم : من قرأ بالنصب فهو عيسى ، ومن قرأ بالخفض فهو جبريل . وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن النجار عن ابن عمر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن السريّ الذي قال الله لمريم { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } نهر أخرجه الله لها لتشرب منه » وفي إسناده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف ، وقال أبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو فتح الأزدي : متروك الحديث ، وقال الطبراني بعد إخراج هذا الحديث : إنه غريب جدّاً . وأخرج الطبراني في الصغير ، وابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } قال : « النهر » وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وصححه والحاكم ، وابن مردويه عن البراء قال في الآية : هو الجدول ، وهو النهر الصغير ، فظهر بهذا أن الموقوف أصح . وقد روي عن جماعة من التابعين أن السريّ هو عيسى . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { رُطَباً جَنِيّاً } قال : طرياً . وأخرج ابن المنذر وابن مردويه في قوله : { إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } قال : صمتاً . وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عنه أنه قرأ : « صوماً صمتاً » .

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات وفرغت من نفاسها { أَتَتْ بِهِ } أي بعيسى ، وجملة : { تَحْمِلُهُ } في محل نصب على الحال ، وكان إتيانها إليهم من المكان القصيّ التي انتبذت فيه ، فلما رأوا الولد معها حزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين { فَقَالُواْ } منكرين لذلك { يا مريم لَقَدْ جِئْتَ } أي فعلت { شَيْئاً فَرِيّاً } قال أبو عبيدة : الفرّي : العجيب النادر ، وكذا قال الأخفش . والفرّي : القطع ، كأنه مما يخرق العادة ، أو يقطع بكونه عجيباً نادراً . وقال قطرب : الفرّي الجديد من الأسقية ، أي جئت بأمر بديع جديد لم تسبقي إليه . وقال سعيد بن مسعدة : الفرّي : المختلق المفتعل ، يقال : فريت وأفريت بمعنى واحد ، والولد من الزنا كالشيء المفترى ، قال تعالى : { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [ الممتحنة : 12 ] وقال مجاهد : الفرّي : العظيم . { يا أخت هارون } .
قد وقع الخلاف في معنى هذه الأخوّة ، وفي هارون المذكور من هو؟ فقيل : هو هارون أخو موسى ، والمعنى : أن من كانت نظنها مثل هارون في العبادة كيف تأتي بمثل هذا وقيل : كانت مريم من ولد هارون أخي موسى ، فقيل : لها يا أخت هارون ، كما يقال لمن كان من العرب : يا أخا العرب وقيل : كان لها أخ من أبيها اسمه هارون وقيل : هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت وقيل : بل كان في ذلك الوقت رجل فاجر اسمه هارون ، فنسبوها إليه على وجهة التعيير والتوبيخ ، حكاه ابن جرير ولم يسمّ قائله وهو ضعيف { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } هذا فيه تقريره لما تقدّم من التعيير والتوبيخ ، وتنبيه على أن الفاحشة من ذرّية الصالحين مما لا ينبغي أن تكون .
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } أي إلى عيسى ، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق ، لأنها نذرت للرحمن صوماً عن الكلام كما تقدّم ، هذا على تقدير أنها كانت إذ ذاك في أيام نذرها ، وعلى تقدير أنها قد خرجت من أيام نذرها ، فيمكن أن يقال : إن اقتصارها على الإشارة للمبالغة في إظهار الآية العظيمة ، وأن هذا المولود يفهم الإشارة ويقدر على العبارة { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } هذا الاستفهام للإنكار والتعجب من إشارتها إلى ذلك المولود بأن يكلمهم . قال أبو عبيدة : في الكلام حشو زائد . والمعنى : كيف نكلم صبياً في المهد كقول الشاعر :
وجيران لنا كانوا كرام ... وقال الزجاج : الأجود أن تكون من في معنى الشرط والجزاء ، والمعنى : من يكون في المهد صبياً فكيف نكلمه . ورجحه ابن الأنباري وقال : لا يجوز أن يقال : إن { كان } زائدة وقد نصبت { صبياً } ، ويجاب عنه بأن القائل بزيادتها يجعل الناصب له الفعل ، وهو { نكلم } كما سبق تقديره .

وقيل : إن { كان } هنا هي التامة التي بمعنى الحدوث والوجود . وردّ بأنها لو كانت تامة لاستغنت عن الخبر ، والمهد هو : شيء معروف يتخذ لتنويم الصبي . والمعنى : كيف نكلم من سبيله أن ينوّم في المهد لصغره . وقيل : هو هنا حجر الأمّ . وقيل : سرير كالمهد ، فلما سمع عيسى كلامهم { قَالَ إِنّي عَبْدُ الله } فكان أوّل ما نطق به ، الاعتراف بالعبودية لله { آتاني الكتاب } أي الإنجيل ، أي حكم لي بإيتائي الكتاب والنبوّة في الأزل ، وإن لم يكن قد نزل عليه في تلك الحال ولا قد صار نبياً وقيل : إنه آتاه الكتاب وجعله نبياً في تلك الحال ، وهو بعيد { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } أي حيثما كنت ، والبركة أصلها من بروك البعير ، والمعنى : جعلني ثابتاً في دين الله ، وقيل : البركة هي : الزيادة والعلوّ ، فكأنه قال : جعلني في جميع الأشياء زائداً عالياً منجحاً . وقيل : معنى المبارك : النفاع للعباد ، وقيل : المعلم للخير ، وقيل : الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر . { وأوصاني بالصلاة } أي أمرني بها { والزكواة } زكاة المال ، أو تطهير النفس { مَا دُمْتُ حَيّاً } أي مدة دوام حياتي ، وهذه الأفعال الماضية هي من باب تنزيل ما لم يقع منزلة الواقع تنبيهاً على تحقيق وقوعه لكونه قد سبق في القضاء المبرم .
{ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } معطوف على { مباركاً } واقتصر على البرّ بوالدته لأنه قد علم في تلك الحال أنه لم يكن له أب ، وقرىء : « وبراً » بكسر الباء على أنه مصدر وصف به مبالغة { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } الجبار : المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقاً ، والشقيّ العاصي لربه . وقيل الخائب . وقيل العاقّ . { والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } قال المفسرون : السلام هنا بمعنى السلامة أي : السلامة عليّ يوم ولدت ، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت ولا أغواني عند الموت ولا عند البعث . وقيل : المراد به التحية . قيل : واللام للجنس . وقيل : للعهد ، أي وذلك السلام الموجه إلى يحيى في هذه المواطن الثلاثة موجه إليّ . قيل : إنه لم يتكلم المسيح بعد هذا الكلام حتى بلغ المدّة التي تتكلم فيها الصبيان في العادة .
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } قال : بعد أربعين يوماً بعد ما تعافت من نفاسها . وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل نجران ، فقالوا : أرأيت ما تقرؤون { يا أخت هارون } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟ »

وهذا التفسير النبوّي يغني عن سائر ما روي عن السلف في ذلك .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن أنس قال : كان عيسى قد درس الإنجيل وأحكامها في بطن أمه ، فذلك قوله : { قَالَ إِنّى عَبْدُ الله ءاتَانِىَ } . وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { آتاني الكتاب } الآية ، قال : قضى أن أكون كذلك . وأخرج الإسماعيلي في معجمه ، وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه وابن النجار عن أبي هريرة قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم في قول عيسى : { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } قال : « جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت » وأخرج ابن عديّ وابن عساكر عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } قال : معلماً ومؤدّباً . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } يقول : عصياً .

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

الإشارة بقوله : { ذلك } إلى المتصف بالأوصاف السابقة . قال الزجاج : ذلك الذي قال إني عبد الله عيسى ابن مريم ، لا ما تقوله النصارى من أنه ابن الله وأنه إله . وقرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب : { قَوْلَ الحق } بالنصب . وقرأ الباقون بالرفع . فوجه القراءة الأولى أنه منتصب على المدح ، أو على أنه مصدر مؤكد لقال : إني عبد الله ، قاله الزجاج . ووجه القراءة الثانية أنه نعت لعيسى أي ذلك عيسى ابن مريم قول الحقّ ، قاله الكسائي . وسمي قول الحق كما سمي كلمة الله ، والحق هو الله عزّ وجلّ . وقال أبو حاتم : المعنى : هو قول الحق . وقيل التقدير : هذا لكلام قول الحق . وهو من باب إضافة الموصوف إلى الصفة مثل حق اليقين . وقيل : الإضافة للبيان . وقرىء « قال الحق » وروي ذلك عن ابن مسعود ، وقرأ الحسن : « قول الحق » بضم القاف ، والقول والقول والقال والمقال بمعنى واحد ، و { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } صفة لعيسى أي : ذلك عيسى ابن مريم الذي فيه يمترون قول الحق ، ومعنى { يمترون } : يختلفون ، على أنه من المماراة ، أو يشكوا على أنه من المرية . وقد وقع الاختلاف في عيسى؛ فقالت اليهود : هو ساحر ، وقالت النصارى : هو ابن الله .
{ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } أي ما صحّ ولا استقام ذلك ، ف « أن » في محل رفع على أنها اسم كان . قال الزجاج : « من » في { من ولد } مؤكدة تدلّ على نفي الواحد والجماعة؛ ثم نزّه سبحانه نفسه فقال : { سبحانه } أي : تنزّه وتقدّس عن مقالتهم هذه ، ثم صرح سبحانه بما هو شأنه تعالى سلطانه فقال : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي : إذا قضى أمراً من الأمور فيكون حينئذٍ بلا تأخير . وقد سبق الكلام على هذا مستوفى في البقرة ، وفي إيراده في هذا الموضع تبكيت عظيم للنصارى ، أي من كان هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد؟ { وَإِنَّ الله رَبّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } قرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو بفتح « أن » . وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بكسرها ، وهو من تمام كلام عيسى ، وقرأ أبيّ : « إن الله » بغير واو ، قال الخليل وسيبويه : في توجيه قراءة النصب بأن المعنى : ولأن الله ربي وربكم ، وأجاز الفراء أن يكون في موضع خفض عطفاً على الصلاة ، وجوز أبو عمرو بن العلاء عطفه على { أمراً } . { هذا صراط مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا الذي ذكرته لكم من أنه ربي وربكم ، هو الطريق القيم الذي لا اعوجاج فيه ولا يضلّ سالكه .
{ فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } .

« من » زائد للتوكيد ، والأحزاب : اليهود والنصارى ، أي فاختلفت الفرق من أهل الكتاب في أمر عيسى ، فاليهود قالوا إنه ساحر ، كما تقدّم ، وقالوا : إنه ابن يوسف النجار ، والنصارى اختلفت فرقهم فيه ، فقالت النسطورية منهم : هو ابن الله . وقالت الملكانية : هو ثالث ثلاثة . وقالت اليعقوبية : هو الله تعالى ، فأفرطت النصارى وغلت ، وفرّطت اليهود وقصرت { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } وهم المختلفون في أمره { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي من شهود يوم القيامة وما يجري فيه من الحساب والعقاب ، أو من مكان الشهود فيه ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم . وقيل : المعنى : فويل لهم من حضورهم المشهد العظيم الذي اجتمعوا فيه للتشاور .
{ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } قال أبو العباس : العرب تقول هذا في موضع التعجب ، فيقولون : أسمع تريد وأبصر به ، أي ما أسمعه وأبصره ، فعجب الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم منهم { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } أي للحساب والجزاء { لكن الظالمون اليوم } أي : في الدنيا { فِي ضلال مُّبِينٍ } أي واضح ظاهر ، ولكنهم أغفلوا التفكر ، والاعتبار والنظر في الآثار . { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } أي يوم يتحسرون جميعاً ، فالمسيء يتحسر على إساءته ، والمحسن على عدم استكثاره من الخير { إِذْ قُضِيَ الأمر } أي فرغ من الحساب وطويت الصحف ، وصار أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، وجملة : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } في محل نصب على الحال أي غافلين عما يعمل بهم ، وكذلك جملة { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } في محل نصب على الحال { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الارض وَمَنْ عَلَيْهَا } أي نميت سكانها فلا يبقى بها أحد يرث الأموات ، فكأنه سبحانه ورث الأرض ومن عليها حيث أماتهم جميعاً { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي يردّون إلينا يوم القيامة فنجازي كلا بعمله ، وقد تقدّم مثل هذا في سورة الحجر .
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { قَوْلَ الحق } قال : الله الحقّ عزّ وجلّ . وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه في قوله : { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } قال : اجتمع بنو إسرائيل وأخرجوا منهم أربعة نفر من كل قوم عالمهم ، فامتروا في عيسى حين رفع ، فقال أحدهم : هو الله هبط إلى الأرض وأحيا من أحيا ، وأمات من أمات ، ثم صعد إلى السماء ، وهم اليعقوبية؛ فقالت الثلاثة : كذبت ، ثم قال اثنان منهم للثالث : قل فيه ، فقال : هو ابن الله ، وهم النسطورية؛ فقال اثنان كذبت؛ ثم قال أحد الاثنين للآخر : قل فيه ، فقال : هو ثالث ثلاثة ، الله إله ، وعيسى إله ، وأمه إله ، وهم الإسرائيلية ، وهم ملوك النصارى؛ فقال الرابع : كذبت ، هو عبد الله ورسوله وروحه من كلمته ، وهم المسلمون ، فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قال فاقتتلوا ، فظهروا على المسلمين ، فذلك قول الله سبحانه :

{ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } [ آل عمران : 21 ] . قال قتادة : وهم الذين قال الله : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } قال : اختلفوا فيه فصاروا أحزاباً ، فاختصم القوم ، فقال المرء المسلم : أنشدكم بالله هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام وأن الله لا يطعم؟ قالوا : اللّهم نعم ، قال : فهل تعلمون أن عيسى كان ينام وأن الله لا ينام؟ قالوا : اللّهم نعم ، فخصمهم المسلمون فاقتتل القوم ، فذكر لنا أن اليعقوبية ظهرت يومئذٍ وأصيب المسلمون ، فأنزل الله : { فَوْيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } يقول الكفار يومئذٍ : أسمع شيء وأبصره ، وهم اليوم لا يسمعون ولا يبصرون . وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } قال : ذلك يوم القيامة . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون : نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، ثم ينادى يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون إليه فيقولون : نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، فيؤمر به فيذبح ويقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } الآية ، وأشار بيده وقال : « أهل الدنيا في غفلة » وأخرج النسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : يوم الحسرة : هو من أسماء يوم القيامة ، وقرأ { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِى جَنبِ الله } [ الزمر : 56 ] وعلى هذا ضعيف ، والآية التي استدل بها ابن عباس لا تدل على المطلوب لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

قوله : { واذكر } معطوف على « وأنذر » ، والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] ، وجملة { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً } تعليل لما تقدّم من الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكره ، وهي معترضة ما بين البدل والمبدل منه ، والصدّيق : كثير الصدق ، وانتصاب { نبياً } على أنه خبر آخر لكان ، أي اذكر إبراهيم الجامع لهذين الوصفين ، و { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ } بدل اشتمال من إبراهيم ، وتعليق الذكر الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث للمبالغة ، وأبو إبراهيم هو آزر على ما تقدّم تقريره ، التاء في { يا أبت } عوض عن الياء ، ولهذا لا يجتمعان ، والاستفهام في { لِمَ تَعْبُدُ } للإنكار والتوبيخ { مَا لاَ يَسْمَعُ } ما تقوله من الثناء عليه والدعاء له { وَلاَ يَبْصِرُ } ما تفعله من عبادته ومن الأفعال التي تفعلها مريداً بها الثواب ، يجوز أن يحمل نفي السمع والإبصار على ما هو أعمّ من ذلك ، أي لا يسمع شيئاً من المسموعات ، ولا يبصر شيئاً من المبصرات { وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } من الأشياء ، فلا يجلب لك نفعاً ولا يدفع عنك ضرراً ، وهي الأصنام التي كان يعبدها آزر . أورد إبراهيم عليه السلام على أبيه الدلائل والنصائح ، وصدّر كلا منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلبه ، وامتثالاً لأمر ربه . ثم كرّر دعوته إلى الحق فقال : { ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ } فأخبر أنه قد وصل إليه من العلم نصيب لم يصل إلى أبيه ، وأنه قد تجدّد له حصول ما يتوصل به منه إلى الحق ، ويقتدر به على إرشاد الضالّ ، ولهذا أمره باتباعه فقال : { فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } مستوياً موصلاً إلى المطلوب منجياً من المكروه . ثم أكد ذلك بنصيحة أخرى زاجرة له عما هو فيه فقال : { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } أي لا تطعه ، فإن عبادة الأصنام هي من طاعة الشيطان ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } حين ترك ما أمر به من السجود لآدم ، ومن أطاع من هو عاصٍ لله سبحانه فهو عاصٍ لله ، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم وتحلّ به النقم . قال الكسائي : العصيّ والعاصي بمعنى واحد .
ثم بين له الباعث على هذه النصائح فقال : { ياأبت إِنّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن } قال الفراء : معنى أخاف هنا : أعلم . وقال الأكثرون : إن الخوف هنا محمول على ظاهره ، لأن إبراهيم غير جازم بموت أبيه على الكفر ، إذ لو كان جازماً بذلك لم يشتغل بنصحه ، ومعنى الخوف على الغير : هو أن يظنّ وصول الضرر إلى ذلك الغير { فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً } أي إنك إذا أطعت الشيطان كنت معه في النار واللعنة ، فتكون بهذا السبب موالياً ، أو تكون بسبب موالاته في العذاب معه ، وليس هناك ولاية حقيقية لقوله سبحانه :

{ الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } [ الزخرف : 67 ] . وقيل : الوليّ بمعنى التالي . وقيل : الوليّ بمعنى القريب ، أي تكون للشيطان قريباً منه في النار ، فلما مرّت هذه النصائح النافعة والمواعظ المقبولة بسمع آزر قابلها بالغلظة والفظاظة والقسوة ، فقَال { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإبراهيم } والاستفهام للتقريع والتوبيخ والتعجيب ، والمعنى : أمعرض أنت عن ذلك ومنصرف إلى غيره؟ ثم توعده فقال : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } أي بالحجارة . وقيل : باللسان ، فيكون معناه : لأشتمنك . وقيل : معناه لأضربنك . وقيل : لأظهرنّ أمرك { واهجرني مَلِيّاً } أي زماناً طويلاً . قال الكسائي : يقال هجرته ملياً وملوة وملاوة ، بمعنى : الملاوة من الزمان ، وهو الطويل ، ومنه قول مهلهل :
فتصدّعت صمّ الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات ملياً
وقيل : معناه اعتزلني سالم العرض لا تصيبك مني معرّة ، واختار هذا ابن جرير ، فملياً على هذا منتصب على الحال من إبراهيم وعلى القول الأوّل منتصب على الظرفية ، فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على العناد { قَالَ سلام عَلَيْكَ } أي تحية توديع ومتاركة كقوله : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . وقيل : معناه : أمنة مني لك ، قاله ابن جرير . وإنما أمنه مع كفره لأنه لم يؤمر بقتاله ، والأوّل أولى ، وبه قال الجمهور . وقيل : معناه الدعاء له بالسلامة ، استمالة له ورفقاً به ثم وعده بأن يطلب له المغفرة من الله سبحانه تألفاً له وطمعاً في لينه وذهاب قسوته :
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه
وكان منه هذا الوعد قبل أن يعلم أنه يموت على الكفر ، وتحق عليه الكلمة ، ولهذا قال الله سبحانه في موضع آخر : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } . بعد قوله : { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] وجملة : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } تعليل لما قبلها؛ والمعنى : سأطلب لك المغفرة من الله ، فإنه كان بي كثير البرّ واللطف . يقال : حفي به وتحفّى إذا برّه . قال الكسائي : يقال حفي بي حفاوة وحفوة . وقال الفراء : إنه كان بي حفياً ، أي عالماً لطيفاً يجيبني إذا دعوته .
ثم صرح الخليل بما تضمنه سلامه من التوديع والمتاركة فقال : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي أهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم حيث لم تقبلوا نصحي ولا نجعت فيكم دعوتي { وادعوا رَبّي } وحده { عسى أَن لا أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } أي خائباً . وقيل : عاصياً . قيل : أراد بهذا الدعاء : هو أن يهب الله له ولداً وأهلاً يستأنس بهم في اعتزاله ويطمأن إليهم عند وحشته . وقيل : أراد دعاءه لأبيه بالهداية ، وعسى للشك لأنه كان لا يدري هل يستجاب له فيه أم لا ، والأوّل أولى لقوله : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } أي جعلنا هؤلاء الموهوبين له ، أهلاً وولداً بدل الأهل الذين فارقهم { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } أي كل واحد منهما ، وانتصاب { كلا } على أنه المفعول الأوّل لجعلنا قدّم عليه للتخصيص ، لكن بالنسبة إليهم أنفسهم لا بالنسبة إلى من عداهم أي كل واحد منهم جعلنا نبياً ، لا بعضهم دون بعض { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } بأن جعلناهم أنبياء ، وذكر هذا بعد التصريح بجعلهم أنبياء لبيان أن النبوّة هي من باب الرحمة .

وقيل : المراد بالرحمة هنا : المال ، وقيل : الأولاد ، وقيل : الكتاب ، ولا يبعد أن يندرج تحتها جميع هذه الأمور { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } لسان الصدق : الثناء الحسن ، عبر عنه باللسان لكونه يوجد به كما عبر باليد عن العطية . وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلوّ للدلالة على أنهم أحقاء بما يقال فيهم من الثناء على ألسن العباد .
وقد أخرج ابن المنذر . وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لأرْجُمَنَّكَ } قال : لأشتمنك { واهجرني مَلِيّاً } قال : حيناً . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه { واهجرني مَلِيّاً } قال : اجتنبني سوياً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : اجتنبني سالماً قبل أن تصيبك مني عقوبة . وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير وعكرمة { مَلِيّاً } دهراً . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال : سالماً . وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } قال : لطيفاً . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ } قال : يقول : وهبنا له إسحاق ويعقوب ابن ابنه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } قال : الثناء الحسن .

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)

قفّى سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلاه في الشرف . وقدّمه على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب ، أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى { إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } قرأ أهل الكوفة بفتح اللام ، أي جعلناه مختاراً وأخلصناه ، وقرأ الباقون بكسرها ، أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد { إِنَّهُ كَانَ رَسُولاً نبياً } أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم ، فهذا وجه ذكر النبيّ بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوّة ، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي ، والله أعلم . وقال النيسابوري : الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء ، والنبيّ الذي ينبىء عن الله عزّ وجلّ وإن لم يكن معه كتاب ، وكان المناسب ذكر الأعمّ قبل الأخص ، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه : { ا رَبّ موسى وهارون } [ طه : 70 ] انتهى . { وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن } أي كلمناه من جانب الطور ، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير ، ومعنى الأيمن : أنه كان ذلك الجانب عن يمين موسى ، فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها ، وليس المراد : يمين الجبل نفسه . فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال؛ وقيل : معنى الأيمن : الميمون ، ومعنى النداء : أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه ، والنجيّ بمعنى المناجي كالجليس والنديم ، فالتقريب هنا هو تقريب التشريف والإكرام ، مثلت حاله بحال من قرّبه الملك لمناجاته . قال الزجاج : قربه منه في المنزلة حتى سمع مناجاته وقيل : إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم . روي هذا عن بعض السلف .
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا } أي من نعمتنا ، وقيل : من أجل رحمتنا ، و { هارون } عطف بيان ، و { نَبِيّاً } حال منه ، وذلك حين سأل ربه قال : { واجعل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِي } [ طه : 29 30 ] . ووصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كونه جميع الأنبياء كذلك ، لأنه كان مشهوراً بذلك مبالغاً فيه ، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح فوفى بذلك ، وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي ، حتى قيل : إنه انتظر لبعض من وعده حولاً . والمراد بإسماعيل هنا : هو إسماعيل بن إبراهيم ، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتدّ به فقال : هو إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه ، فخيره الله فيما شاء من عذابهم ، فاستعفاه ورضي بثوابه ، وقد استدل بقوله تعالى في إسماعيل : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته . وقيل : إنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة } قيل : المراد بأهله هنا أمته .

وقيل : جرهم ، وقيل : عشيرته كما في قوله : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] والمراد بالصلاة والزكاة هنا : هما العبادتان الشرعيتان ويجوز أن يراد معناهما اللغوي { وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً } أي رضياً زاكياً صالحاً . قال الكسائي والفراء : من قال مرضيّ بنى على رضيت ، قالا : وأهل الحجاز يقولون . مرضوّ . { واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ } اسم إدريس أخنوخ ، قيل : هو جدّ نوح ، فإن نوحاً هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وعلى هذا فيكون جد أبي نوح . ذكره الثعلبي وغيره ، وقد قيل : إن هذا خطأ ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية . وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في النجوم والحساب ، وأوّل من خاط الثياب . قيل : وهو أوّل من أعطي النبوّة من بني آدم . وقد اختلف في معنى قوله : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } فقيل : إن الله رفعه إلى السماء الرابعة . وقيل : إلى السادسة . وقيل : إلى الثانية . وقد روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء وفيه : ومنهم إدريس في الثانية ، وهو غلط من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر . والصحيح أنه في السماء الرابعة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : إن المراد برفعه مكاناً علياً : ما أعطيه من شرف النبوّة . وقيل : إنه رفع إلى الجنة .
{ أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين } الإشارة إلى المذكورين من أوّل السورة إلى هنا ، والموصول صفته ، و { من النبيين } بيان للموصول ، و { مِن ذُرّيَّةِ * ءادَمَ } بدل منه بإعادة الخافض . وقيل : إن « من » في { من ذرية } آدم للتبعيض { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } أي : من ذرية من حملنا معه وهم من عدا إدريس ، فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح { وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم } وهم الباقون { وإسراءيل } أي ومن ذرية إسرائيل ، ومنهم موسى وهارون ويحيى وعيسى . وقيل : إنه أراد بقوله : { مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ } إدريس وحده ، وأراد بقوله : { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } إبراهيم وحده ، وأراد بقوله : { وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم } إسماعيل وإسحاق ويعقوب ، وأراد بقوله : { وَمِن ذُرّيَّةِ إسراءيل } موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا } أي : من جملة من هدينا إلى الإسلام { واجتبينا } بالإيمان { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً } وهذا خبر لأولئك ، ويجوز أن يكون الخبر هو { الذين أنعم الله عليهم } وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه . وقد تقدّم في سبحان بيان معنى خرّوا سجداً : يقال : بكى يبكي بكاءً وبكياً . قال الخليل : إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن ، أي ليس معه صوت ، ومنه قول الشاعر :
بكت عيني وحقّ لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل

و { سجدا } منصوب على الحال . قال الزجاج : قد بيّن الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا ، وقد استدلّ بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة .
ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيراً للناس عن طريقتهم فقال : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي عقب سوء . قال أهل اللغة : يقال لعقب الخير : خلف بفتح اللام ، ولعقب الشر خلف بسكون اللام ، وقد قدّمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف { أضاعوا الصلاة } قال الأكثر : معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها وقيل : أضاعوا الوقت وقيل : كفروا بها وجحدوا وجوبها وقيل : لم يأتوا بها على الوجه المشروع . والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها ، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرّة أو أحدها دخولاً أوّلياً .
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقيل : في اليهود وقيل : في النصارى وقيل : في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون في آخر الزمان ، ومعنى { واتبعوا الشهوات } أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } الغيّ : هو الشرّ عند أهل اللغة ، كما أن الخير : هو الرشاد ، والمعنى : أنهم سيلقون شرّاً لا خيراً . وقيل : الغيّ الضلال ، وقيل : الخيبة . وقيل : هو اسم وادٍ في جهنم وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : سيلقون جزاء الغيّ ، كذا قال الزجاج ، ومثله قوله سبحانه : { يَلْقَ أَثَاماً } [ الفرقان : 68 ] . أي جزاء أثام .
{ إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا } أي تاب مما فرط منه من تضييع الصلوات و اتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملاً صالحاً ، وفي هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة } قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر « يدخلون » بضم الياء وفتح الخاء ، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } أي لا ينقص من أجورهم شيء وإن كان قليلاً ، فإن الله سبحانه يوفي إليهم أجورهم . وانتصاب { جنات عَدْنٍ } على البدل من الجنة ، بدل البعض لكون جنات عدن بعض من الجنة . قال الزجاج : ويجوز « جنات عدن » بالرفع على الابتداء ، وقرىء كذلك . قال أبو حاتم : ولولا الخط لكان جنة عدن ، يعني : بالإفراد ، مكان الجمع وليس هذا بشيء ، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس . وقرىء بنصب الجنات على المدح ، وقد قرىء جنة بالإفراد { التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب } هذه الجملة صفة لجنات عدن ، و { بالغيب } في محل نصب على الحال من الجنات ، أو من عباده ، أي متلبسة ، أو متلبسين بالغيب ، وقرىء : بصرف عدن ، ومنعها على أنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة ، أو علم لأرض الجنة { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } أي : موعوده على العموم ، فتدخل فيه الجنات دخولاً أوّلياً .

قال الفراء : لم يقل آتياً ، لأن كل ما أتاك فقد أتيته ، وكذا قال الزجاج .
{ لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } هو الهذر من الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته ، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم؛ وقيل : اللغو : كل ما لم يكن فيه ذكر الله { إِلاَّ سلاما } هو استثناء منقطع : أي سلام بعضهم على بعض ، أو سلام الملائكة عليهم . وقال الزجاج : السلام اسم جامع للخير ، لأنه يتضمن السلامة ، والمعنى : أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قال المفسرون : ليس في الجنة بكرة ولا عشية ، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء { تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها من كان من أهل التقوى كما يبقى على الوارث مال موروثه . قرأ يعقوب « نورّث » بفتح الواو وتشديد الراء ، وقرأ الباقون بالتخفيف . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : نورّث من كان تقياً من عبادنا .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } قال : النبي الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل . ولفظ ابن أبي حاتم : الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد . والرسل : الأنبياء الذين يوحى إليهم ويرسلون . وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { جَانِبِ الطور الأيمن } قال : جانب الجبل الأيمن { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } قال : نجا بصدقه . وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : قربه حتى سمع صريف القلم ، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال : حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح . وأخرجه الديلمي عنه مرفوعاً . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون } قال : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن إنما وهب له نبوّته .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } قال : كان إدريس خياطاً ، وكان لا يغرز غرزة إلا قال : سبحان الله ، وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملاً منه ، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال : يا ربّ ائذن لي فأهبط إلى إدريس ، فأذن له فأتى إدريس فقال : إني جئتك لأخدمك ، قال : كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان؟ ثم قال إدريس : هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك : ذاك أخي من الملائكة ، قال : هل تستطيع أن تنفعني؟ قال : أما يؤخر شيئاً أو يقدّمه فلا ، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت ، فقال : اركب بين جناحيّ ، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه ، فقال له الملك : إن لي إليك حاجة ، قال : علمت حاجتك تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين ، فمات إدريس بين جناحي الملك .

وأخرج ابن أبي شيبة في الصنف ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : سألت كعباً فذكر نحوه ، فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : «رفع إدريس إلى السماء السادسة» . وأخرج الترمذي وصححه ، وابن المنذر وابن مردويه قال : حدثنا أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة " وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : إدريس هو إلياس . وحسنه السيوطي .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : { أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم } إلى آخره ، قال : هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم؛ أما من ذرية آدم : فإدريس ونوح؛ وأما من حمل مع نوح فإبراهيم ، وأما ذرية إبراهيم : فإسماعيل ، وإسحاق ويعقوب؛ وأما ذرية إسرائيل : فموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } قال : هم اليهود والنصارى . وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال : هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس ، ولا يخافون من الله في السماء . وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في قوله : { أضاعوا الصلاة } قال : ليس إضاعتها تركها قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه ، ولكن إضاعتها : إذا لم يصلها لوقتها . وأخرج أحمد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات } الآية قال : " يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } ، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم ، ويقرأ القرآن ثلاثة : مؤمن ، ومنافق ، وفاجر " وأخرج أحمد ، والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن ، قلت : يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال :

« قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا » ، قلت : ما أهل اللبن؟ قال : « قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات » وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، والحاكم وصححه عن عائشة ، أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول : لا تعطوا منها بربرياً ولا بربرية ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « هم الخلف الذين قال الله : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } » وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } قال : خسراً . وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث من طرق عن ابن مسعود في قوله : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } قال : الغيّ نهر ، أو وادٍ في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم ، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات . وقد قال بأنه وادٍ في جهنم البراء بن عازب . وروى ذلك عنه ابن المنذر والطبراني . وأخرج ابن جرير والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أن صخرة زنة عشر عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً ، ثم تنتهي إلى غيّ وأثام » قلت : وما غيّ وأثام؟ قال : « نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار ، وهما اللذان ذكر الله في كتابه : { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } { ومن يفعل ذلك يلق أثاماً } [ الفرقان : 68 ] » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الغيّ وادٍ في جهنم » وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } قال : باطلاً . وأخرج سعيد ابن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قال : يؤتون به في الآخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا : قال رجل : يا رسول الله ، هل في الجنة من ليل؟ قال : « وما هيجك على هذا » ؟ قال : سمعت الله يذكر في الكتاب : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } فقلت : الليل من البكرة والعشي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس هناك ليل ، وإنما هو ضوء ونور ، يرد الغدوّ على الرواح والرواح على الغدوّ ، تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة » وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ما من غداة من غدوات الجنة ، وكل الجنة غدوات ، إلى أنه يزف إلى وليّ الله فيها زوجة من الحور العين وأدناهنّ التي خلقت من الزعفران » قال بعد إخراجه : قال أبو محمد : هذا حديث منكر .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34