كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

وقيل : اللام متعلقة بمحذوف غير ما ذكر ، وتقديره : لو قتلتموهم لأدخلهم الله في رحمته ، والأوّل أولى . وقيل : إن { من يشاء } : عباده ممن رغب في الإسلام من المشركين { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } التّزيّل : التميز ، أي : لو تميز الذين آمنوا من الذين كفروا منهم؛ لعذبنا الذين كفروا ، وقيل التّزيّل : التفرق ، أي : لو تفرّق هؤلاء من هؤلاء ، وقيل : لو زال المؤمنون من بين أظهرهم ، والمعاني متقاربة ، والعذاب الأليم : هو القتل والأسر والقهر ، والظرف في قوله : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ } منصوب بفعل مقدّر ، أي : اذكر وقت جعل الذين كفروا { فِى قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية } . وقيل : متعلق بعذبنا ، والحميّة : الأنفة ، يقال : فلان ذو حميّة ، أي : ذو أنفة وغضب ، أي : جعلوها ثابتة راسخة في قلوبهم ، والجعل بمعنى الإلقاء ، وحميّة الجاهلية بدل من الحميّة . قال مقاتل بن سليمان ، ومقاتل بن حيان : قال أهل مكة : قد قتلوا أبناءنا ، وإخواننا ، ويدخلون علينا في منازلنا ، فتتحدّث العرب أنهم قد دخلوا علينا على رغم أنفنا ، واللات والعزّى لا يدخلونها علينا ، فهذه الحميّة هي حميّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم . وقال الزهري : حميّتهم : أنفتهم من الإقرار للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة . قرأ الجمهور { لو تزيلوا } وقرأ ابن أبي عبلة ، وأبو حيوة ، وابن عون ( لو تزايلوا ) . والتزايل : التباين { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين } أي : أنزل الطمأنينة والوقار على رسوله وعلى المؤمنين حيث لم يدخلهم ما دخل أهل الكفر من الحميّة ، وقيل : ثبتهم على الرضى والتسليم { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } وهي : «لا إله إلاَّ الله» كذا قال الجمهور ، وزاد بعضهم : «محمد رسول الله» وزاد بعضهم : «وحده لا شريك له» . وقال الزهري هي : { بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم } وذلك أن الكفار لم يقرّوا بها ، وامتنعوا من كتابتها في كتاب الصلح الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير ، فخص الله بهذه الكلمة المؤمنين وألزمهم بها . والأوّل أولى؛ لأن كلمة التوحيد هي التي يتقى بها الشرك بالله ، وقيل : كلمة التقوى : هي الوفاء بالعهد والثبات عليه { وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } أي : وكان المؤمنون أحقّ بهذه الكلمة من الكفار والمستأهلين لها دونهم؛ لأن الله سبحانه أهلهم لدينه ، وصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم . { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } قال الواحدي : قال المفسرون : إن الله سبحانه أرى نبيه في المدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية ، كأنه هو وأصحابه حلقوا وقصروا ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا وحسبوا أنهم سيدخلون مكة عامهم ذلك ، فلما رجعوا من الحديبية ، ولم يدخلوا مكة قال المنافقون : والله ما حلقنا ولا قصرنا ، ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل الله هذه الآية ، وقيل : إن الرؤيا كانت بالحديبية ، وقوله : { بالحق } صفة لمصدر محذوف أي : صدقاً ملتبساً بالحقّ ، وجواب القسم المحذوف المدلول عليه باللام الموطئة هو قوله : { لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام } أي : في العام القابل ، وقوله : { إِن شَاء الله } تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد لما يجب أن يقولوه ، كما في قوله :

{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَاء الله } [ الكهف : 23 ، 24 ] قال ثعلب : إن الله استثنى فيما يعلم ليستثني الخلق فيما لا يعلمون . وقيل : كان الله سبحانه علم أنه يموت بعض هؤلاء الذين كانوا معه في الحديبية ، فوقع الاستثناء لهذا المعنى ، قاله الحسن بن الفضل . وقيل : معنى إن شاء الله : كما شاء الله . وقال أبو عبيدة : إن بمعنى إذ ، يعني : إذ شاء الله حيث أرى رسوله ذلك ، وانتصاب { ءامِنِينَ } على الحال من فاعل لتدخلنّ ، وكذا { مُحَلّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ } أي : آمنين من العدوّ ، ومحلقاً بعضكم ومقصراً بعضكم ، والحلق والتقصير خاصّ بالرجال ، والحلق أفضل من التقصير ، كما يدلّ على ذلك الحديث الصحيح في استغفاره صلى الله عليه وسلم للمحلقين في المرة الأولى والثانية ، والقائل يقول له : وللمقصرين ، فقال في الثالثة : وللمقصرين ، وقوله : { لاَ تخافون } في محل نصب على الحال أو مستأنف ، وفيه زيادة تأكيد لما قد فهم من قوله : { ءامِنِينَ } ، { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } أي : ما لم تعلموا من المصلحة في الصلح لما في دخولكم في عام الحديبية من الضرر على المستضعفين من المؤمنين ، وهو معطوف على صدق ، أي : صدق رسوله الرؤيا ، فعلم ما لم تعلموا به { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } أي : فجعل من دون دخولكم مكة كما أرى رسوله ، فتحاً قريباً . قال أكثر المفسرين : هو صلح الحديبية . وقال ابن زيد ، والضحاك : فتح خيبر . وقال الزهري : لا فتح في الإسلام كان أعظم من صلح الحديبية ، ولقد دخل في تلك السنتين في الإسلام مثل من كان قد دخل فيه قبل ذلك بل أكثر ، فإن المسلمين كانوا في سنة ستّ ، وهي سنة الحديبية ألفاً وأربعمائة وكانوا في سنة ثمان عشرة آلاف . { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى } أي : إرسالاً ملتبساً بالهدى { وَدِينِ الحق } وهو الإسلام { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ } أي : يعليه على كل الأديان ، كما يفيده تأكيد الجنس ، وقيل : ليظهر رسوله ، والأوّل أولى . وقد كان ذلك بحمد الله ، فإن دين الإسلام قد ظهر على جميع الأديان ، وانقهر له كل أهل الملل { وكفى بالله شَهِيداً } الباء زائدة كما تقدّم في غير موضع ، أي : كفى الله شهيداً على هذا الإظهار الذي وعد المسلمين به ، وعلى صحة نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } محمد مبتدأ ، ورسول الله خبره ، أو هو خبر مبتدأ محذوف ، ورسول الله بدل منه ، وقيل : محمد مبتدأ ، ورسول الله نعت له { والذين مَعَهُ } معطوف على المبتدأ وما بعده الخبر ، والأوّل أولى ، والجملة مبينة لما هو من جملة المشهود به .

{ والذين مَعَهُ } قيل : هم أصحاب الحديبية ، والأولى الحمل على العموم { أَشِدَّاء عَلَى الكفار } أي : غلاظ عليهم ، كما يغلظ الأسد على فريسته ، وهو جمع شديد { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } أي : متوادّون متعاطفون ، وهو جمع رحيم ، والمعنى : أنهم يظهرون لمن خالف دينهم الشدّة والصلابة ، ولمن وافقه الرحمة والرأفة . قرأ الجمهور برفع { أشداء } ، و { رحماء } على أنه خبر للموصول ، أو خبر لمحمد ، وما عطف عليه ، كما تقدّم . وقرأ الحسن بنصبهما على الحال ، أو المدح ، ويكون الخبر على هذه القراءة { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } أي : تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين ، وعلى قراءة الجمهور هو خبر آخر ، أو اسئتناف : أعني قوله : { تَرَاهُمْ } { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً } أي : يطلبون ثواب الله لهم ورضاه عنهم ، وهذه الجملة خبر ثالث على قراءة الجمهور ، أو في محل نصب على الحال من ضمير تراهم ، وهكذا { سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود } السيما : العلامة ، وفيها لغتان المدّ والقصر ، أي : تظهر علامتهم في جباههم من أثر السجود في الصلاة ، وكثرة التعبد بالليل والنهار . وقال الضحاك : إذا سهر الرجل أصبح مصفراً ، فجعل هذا هو السيما . وقال الزهري : مواضع السجود أشدّ وجوههم بياضاً يوم القيامة . وقال مجاهد : هو الخشوع والتواضع ، وبالأوّل - أعني : كونه ما يظهر في الجباه من كثرة السجود - قاله سعيد بن جبير ، ومالك . وقال ابن جريح : هو الوقار . وقال الحسن : إذا رأيتهم مرضى وما هم بمرضى ، وقيل : هو البهاء في الوجه وظهور الأنوار عليه ، وبه قال سفيان الثوري ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم من هذه الصفات الجليلة ، وهو مبتدأ ، وخبره قوله : { مَثَلُهُمْ فِى التوراة } أي : وصفهم الذي وصفوا به في التوراة ، ووصفهم الذي وصفوا به { فِى الإنجيل } وتكرير ذكر المثل لزيادة تقريره ، وللتنبيه على غرابته ، وأنه جار مجرى الأمثال في الغرابة { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } إلخ ، كلام مستأنف ، أي : هم كزرع إلخ ، وقيل : هو تفسير لذلك على أنه إشارة مبهمة لم يرد به ما تقدّم من الأوصاف ، وقيل : هو خبر لقوله : { وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل } أي : ومثلهم في الإنجيل كزرع . قال الفراء : فيه وجهان : إن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل يعني : كمثلهم في القرآن ، فيكون الوقف على الإنجيل ، وإن شئت قلت ذلك مثلهم في التوراة ، ثم تبتدىء ومثلهم في الإنجيل كزرع .

قرأ الجمهور : { شطأه } بسكون الطاء ، وقرأ ابن كثير ، وابن ذكوان بفتحها ، وقرأ أنس ، ونصر بن عاصم ، ويحيى بن وثاب : { شطاه } كعصاه . وقرأه الجحدري ، وابن أبي إسحاق : ( شطه ) بغير همزة ، وكلها لغات ، قال الأخفش والكسائي : { شطأه } أي : طرفه . قال الفراء : شطأ الزرع فهو مشطىء : إذا خرج . قال الزجاج : { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي : نباته . وقال قطرب : الشطأ : سوى السنبل ، وروي عن الفراء أيضاً أنه قال : هو السنبل ، وقال الجوهري : شطأ الزرع والنبات ، والجمع أشطاء ، وقد أشطأ الزرع : خرج شطؤه { فَآزَرَهُ } أي : قوّاه وأعانه وشده ، قيل المعنى : إن الشطأ قوّى الزرع ، وقيل : إن الزرع قويّ الشطأ ، ومما يدلّ على أن الشطأ خروج النبات . قول الشاعر :
أخرج الشطأ على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر
قرأ الجمهور { فآزره } بالمد . وقرأ ابن ذكوان ، وأبو حيوة ، وحميد بن قيس بالقصر ، وعلى قراءة الجمهور قول امرىء القيس :
بمحنية قد آزر الضالّ نبتها ... مجرّ جيوش غانمين وخيب
قال الفراء : آزرت فلاناً آزره أزراً : إذا قوّيته { فاستغلظ } أي : صار ذلك الزرع غليظاً بعد أن كان دقيقاً { فاستوى على سُوقِهِ } أي : فاستقام على أعواده ، والسوق جمع ساق . وقرأ قنبل : ( سؤقه ) بالهمزة الساكنة { يُعْجِبُ الزراع } أي : يعجب هذا الزرع زارعه لقوّته وحسن منظره ، وهذا مثل ضربه الله سبحانه لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنهم يكونون في الابتداء قليلاً ، ثم يزدادون ويكثرون ويقوون كالزرع ، فإنه يكون في الابتداء ضعيفاً ، ثم يقوى حالاً بعد حال حتى يغلظ ساقه . قال قتادة : مثل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الإنجيل ، أنه سيخرج من قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ثم ذكر سبحانه علة تكثيره لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وتقويته لهم فقال : { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } أي : كثرهم وقوّاهم ، ليكونوا غيظاً للكافرين ، واللام متعلقة بمحذوف ، أي : فعل ذلك ليغيظ { وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } أي : وعد سبحانه هؤلاء الذين مع محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر ذنوبهم ، ويجزل أجرهم بإدخالهم الجنة التي هي أكبر نعمة وأعظم منّة .
وقد أخرج أحمد ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نحروا يوم الحديبية سبعين بدنة ، فلما صدّت عن البيت حنّت كما تحنّ إلى أولادها . وأخرج الحسن بن سفيان ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن قانع ، والباوردي ، والطبراني ، وابن مردويه . قال السيوطي : بسند جيد عن أبي جمعة حنيذ بن سبع قال : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل النهار كافراً ، وقابلت معه آخر النهار مسلماً وفينا نزلت : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات } وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتان ، وفي رواية عند ابن أبي حاتم : كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس { لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مؤمنات لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } قال : حين ردّوا النبي صلى الله عليه وسلم { أَن تَطَئُوهُمْ } بقتلكم إياهم { لَوْ تَزَيَّلُواْ } يقول : لو تزيّل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلكم إياهم . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين : اتهموا أنفسكم ، فلقد رأيتنا يوم الحديبية ، يعني : الصلح الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين ، ولو نرى قتالاً لقاتلنا ، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ألسنا على الحق ، وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار؟ قال : " بلى " . قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال : " يا ابن الخطاب إني رسول الله ، ولن يضيعني الله أبداً " ، فرجع متغيظاً ، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ألسنا على الحق ، وهم على الباطل؟ قال : بلى ، قال : أليس قتلانا في الجنة ، وقتلاهم في النار؟ قال : بلى ، قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ قال : يا ابن الخطاب إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولن يضيعه الله أبداً ، فنزلت سورة الفتح ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمر ، فأقرأه إياها ، قال : يا رسول الله أفتح هو؟ قال : " نعم " . وأخرج الترمذي ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وابن جرير ، والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أُبيّ بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } قال : «لا إله إلاّ الله» وفي إسناده الحسن بن قزعة ، قال الترمذي بعد إخراجه : حديث غريب لا نعرفه إلاّ من حديثه ، وكذا قال أبو زرعة . وأخرج ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع مرفوعاً مثله . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عليّ بن أبي طالب مثله من قوله . وأخرج أحمد ، وابن حبان ، والحاكم من قول عمر بن الخطاب نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد عن المسور بن مخرمة ، ومروان نحوه ، وروي عن جماعة من التابعين نحو ذلك . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق } قال : هو دخول محمد البيت ، والمؤمنين محلقين ومقصرين ، وقد ورد في الدعاء للمحلقين والمقصرين في الصحيحين ، وغيرهما أحاديث منها ما قدّمنا الإشارة إليه ، وهو في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وفيهما من حديث أبي هريرة أيضاً .

وأخرج ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله : { سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ } قال : أما إنه ليس الذي يرونه ، ولكنه سيما الإسلام ، وسمته وخشوعه . وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال : هو السمت الحسن . وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير ، وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند حسن عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود } قال : « النور يوم القيامة » وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن نصر عن ابن عباس في الآية قال : بياض يغشى وجوههم يوم القيامة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التوراة } يعني : نعتهم مكتوب في التوراة والإنجيل قبل أن يخلق الله السموات والأرض . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أنس { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } قال : نباته : فروخه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } قرأ الجمهور { تقدّموا } بضم المثناة الفوقية ، وتشديد الدال مكسورة ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه متعدّ ، وحذف مفعوله لقصد التعميم ، أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل كقولهم : هو يعطي ويمنع ، والثاني : أنه لازم نحو : وجه وتوجه ، ويعضدّه قراءة ابن عباس ، والضحاك ، ويعقوب ( تقدموا ) بفتح التاء والقاف والدال . قال الواحدي : قدم ها هنا بمعنى تقدّم ، وهو لازم . قال أبو عبيدة : العرب تقول : لا تقدّم بين يدي الإمام وبين يدي الأب ، أي : لا تعجل بالأمر دونه والنهي؛ لأن المعنى : لا تقدّموا قبل أمرهما ونهيهما ، وبين يدي الإمام عبارة عن الإمام لا ما بين يدي الإنسان ، ومعنى الآية : لا تقطعوا أمراً دون الله ورسوله ، ولا تعجلوا به . وقيل : المراد معنى بين يدي فلان : بحضرته؛ لأن ما يحضره الإنسان ، فهو بين يديه { واتقوا الله } في كلّ أموركم ، ويدخل تحتها الترك للتقدّم بين يدي الله ورسوله دخولاً أوّلياً . ثم علل ما أمر به من التقوى بقوله : { إِنَّ الله سَمِيعٌ } لكلّ مسموع { عَلِيمٌ } بكل معلوم { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت؛ لأن ذلك يدلّ على قلة الاحتشام وترك الاحترام؛ لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير . ويحتمل أن يكون المراد : المنع من كثرة الكلام ومزيد اللغط ، والأوّل أولى . والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم إلى حدّ يكون فوق ما يبلغه صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال المفسرون : المراد من الآية : تعظيم النبي وتوقيره ، وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضاً { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي : لا تجهروا بالقول إذا كلمتموه ، كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلم بعضكم بعضاً . قال الزجاج : أمرهم الله بتجليل نبيه ، وأن يغضوا أصواتهم ، ويخاطبوه بالسكينة والوقار ، وقيل : المراد بقوله { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول } : لا تقولوا يا محمد ويا أحمد؛ ولكن يا نبيّ ، الله ويا رسول الله ، توقيراً له ، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف ، أي : جهراً مثل جهر بعضكم لبعض ، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف ، فإن ذلك كفر ، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره . والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور ، الأوّل : عن التقدّم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام . والثاني : عن رفع الصوت البالغ إلى حدّ يكون فوق صوته ، سواء كان في خطابه ، أو في خطاب غيره . والثالث : ترك الجفاء في مخاطبته ، ولزوم الأدب في مجاورته؛ لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره .

ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } قال الزجاج : أن تحبط أعمالكم التقدير : لأن تحبط أعمالكم ، أي : فتحبط ، فاللام المقدرة لام الصيرورة كذا قال ، وهذه العلة يصح أن تكون للنهي ، أي : نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط ، أو كراهة أن تحبط ، أو علة للمنهي أي : لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدّي إلى الحبوط ، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأوّل ، وجملة : { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال ، وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم . قال الزجاج : وليس المراد وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلاّ باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم . ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به ، فقال : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله } أصل الغض : النقص من كل شيء . ومنه نقص الصوت { أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } قال الفراء : أخلص قلوبهم للتقوى ، كما يمتحن الذهب بالنار ، فيخرج جيده من رديئه ، ويسقط خبيثه . وبه قال مقاتل ، ومجاهد وقتادة . وقال الأخفش : اختصها للتقوى ، وقيل : طهرها من كلّ قبيح ، وقيل : وسعها وسرّحها ، من محنت الأديم : إذا وسعته . وقال أبو عمرو : كلّ شيء جهدته فقد محنته ، واللام في { للتقوى } متعلقة بمحذوف ، أي : صالحة للتقوى كقولك أنت صالح لكذا ، أو للتعليل الجاري مجرى بيان السبب ، كقولك جئتك لأداء الواجب ، أي : ليكون مجيئي سبباً لأداء الواجب { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : أولئك لهم ، فهو خبر آخر لاسم الإشارة ، ويجوز أن يكون مستأنفاً لبيان ما أعدّ الله لهم في الآخرة . { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } هم جفاة بني تميم كما سيأتي بيانه ، و { وراء الحجرات } : خارجها وخلفها ، والحجرات : جمع حجرة ، كالغرفات جمع غرفة ، والظلمات جمع ظلمة ، وقيل : الحجرات جمع حجرة ، والحجر جمع حجرة ، فهو جمع الجمع ، الحجرة : الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة . قرأ الجمهور : { الحجرات } بضم الجيم . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بفتحها تخفيفاً ، وقرأ ابن أبي عبلة بإسكانها ، وهي لغات ، و «من» في { من وراء } لابتداء الغاية ، ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } لغلبة الجهل عليهم ، وكثرة الجفاء في طباعهم . { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي : لو انتظروا خروجك ، ولم يعجلوا بالمناداة لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم ، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورعاية جانبه الشريف والعمل بما يستحقه من التعظيم والتجليل .

وقيل : إنهم جاءوا شفعاء في أسارى ، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم نصفهم ، وفادى نصفهم ، ولو صبروا لأعتق الجميع ، ذكر معناه مقاتل { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كثير المغفرة والرحمة بليغهما لا يؤاخذ مثل هؤلاء فيما فرط منهم من إساءة الأدب { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ } قرأ الجمهور { فتبينوا } من التبين ، وقرأ حمزة ، والكسائي ( فتثبتوا ) من التثبت ، والمراد من التبين : التعرّف والتفحص ، ومن التثبت : الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر . قال المفسرون : إن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله . وقوله : { إن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ } مفعول له ، أي : كراهة أن تصيبوا ، أو لئلا تصيبوا؛ لأن الخطأ ممن لم يتبين الأمر ، ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة؛ لأنه لم يصدر عن علم ، والمعنى : ملتبسين بجهالة بحالهم { فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ } بهم من إصابتهم بالخطأ { نادمين } على ذلك مغتمين له مهتمين به . ثم وعظهم الله سبحانه ، فقال : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } فلا تقولوا قولاً باطلاً ، ولا تتسرّعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبين ، و « أن » وما في حيزها سادة مسدّ مفعولي اعلموا ، وجملة : { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } في محل نصب على الحال من ضمير فيكم ، أو مستأنفة ، والمعنى : لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه به من الأخبار الباطلة ، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب؛ لوقعتم في العنت ، وهو التعب والجهد والإثم والهلاك ، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان } أي : جعله أحبّ الأشياء إليكم ، أو محبوباً لديكم ، فلا يقع منكم إلاّ ما يوافقه ، ويقتضيه من الأمور الصالحة ، وترك التسرع في الأخبار ، وعدم التثبت فيها ، قيل : والمراد بهؤلاء : من عدا الأوّلين؛ لبيان براءتهم عن أوصاف الأوّلين ، والظاهر أنه تذكير للكل بما يقتضيه الإيمان ، وتوجبه محبته التي جعلها الله في قلوبهم { وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ } أي : حسنه بتوفيقه حتى جروا على ما يقتضيه في الأقوال والأفعال { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } أي : جعل كل ما هو من جنس الفسوق ، ومن جنس العصيان مكروهاً عندكم ، وأصل الفسق : الخروج عن الطاعة ، والعصيان : جنس ما يعصى الله به ، وقيل : أراد بذلك الكذب خاصة ، والأوّل أولى { أُوْلَئِكَ هُمُ الرشدون } أي : الموصوفون بما ذكرهم الراشدون . والرشد : الاستقامة على طريق الحق مع تصلب ، من الرشادة : وهي الصخرة { فَضْلاً مّنَ الله وَنِعْمَةً } أي : لأجل فضله وإنعامه ، والمعنى : أنه حبّب إليكم ما حبَّب ، وكرّه ما كرّه؛ لأجل فضله وإنعامه ، أو جعلكم راشدين لأجل ذلك ، وقيل : النصب بتقدير فعل ، أي : تبتغون فضلاً ونعمة { والله عَلِيمٌ } بكل معلوم { حَكِيمٌ } في كل ما يقضي به بين عباده ويقدّره لهم .

وقد أخرج البخاري وغيره ، عن عبد الله بن الزبير قال : قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر : ما أردت إلاّ خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } حتى انقضت الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } قال : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه . وأخرج ابن مردويه عن عائشة في الآية قالت : لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم . وأخرج البخاري في تاريخه عنها قالت : كان أناس يتقدّمون بين يدي رمضان بصيام ، يعني : يوماً أو يومين ، فأنزل الله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ } . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنها أيضاً : أن ناساً كانوا يتقدّمون الشهر ، فيصومون قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { يا أيها الذين آمنوا } الآية . وأخرج البزار ، وابن عدي ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي بكر الصديق قال : أنزلت هذه الآية { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلاّ كأخي السرار ، وفي إسناده حصين بن عمر ، وهو ضعيف؛ ولكنه يؤيده ما أخرجه عبد بن حميد ، والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : لما نزلت : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله } قال أبو بكر : والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلاّ كأُخي السرار حتى ألقى الله . وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أنس قال : لما نزلت : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى } إلى قوله : { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حبط عملي ، أنا من أهل النار ، وجلس في بيته حزيناً ، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه ، فقالوا : فقدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما لك؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبيّ ، وأجهر له بالقول ، حبط عملي ، أنا من أهل النار ، فأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه بذلك ، فقال : « لا ، بل هو من أهل الجنة »

؛ فلما كان يوم اليمامة قتل . وفي الباب أحاديث بمعناه . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة في قوله : { أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " منهم ثابت بن قيس بن شماس " وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وأبو القاسم البغوي ، والطبراني ، وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن الأقرع بن حابس ، أنه أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد اخرج إلينا ، فلم يجبه ، فقال : يا محمد إن حمدي زين ، وإن ذمي شين ، فقال : « ذاك الله» ، فأنزل الله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات } ، قال ابن منيع : لا أعلم روى الأقرع مسنداً غير هذا . وأخرج الترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن البراء بن عازب في قوله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات } قال : جاء رجل فقال : يا محمد إن حمدي زين ، وإن ذمي شين ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « ذاك الله» . وأخرج ابن راهويه ، ومسدد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه قال السيوطي : بإسناد حسن عن زيد بن أرقم قال : اجتمع ناس من العرب فقالوا : انطلقوا إلى هذا الرجل فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكاً نعش بجناحه ، فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا ، فجاءوا إلى حجرته ، فجعلوا ينادونه : يا محمد يا محمد فأنزل الله : { إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني ، وجعل يقول : " لقد صدّق الله قولك يا زيد ، لقد صدق الله قولك يا زيد " وفي الباب أحاديث . وأخرج أحمد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن منده ، وابن مردويه ، قال السيوطي : بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله أرجع إلى قومي ، فأدعوهم إلى الإسلام ، وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً لإبان كذا وكذا؛ ليأتيك ما جمعت من الزكاة ، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول ، فلم يأت ، فظنّ الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله ورسوله ، فدعا سروات قومه ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إليّ رسوله؛ ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلاّ من سخطة ، فانطلقوا فنأتي رسول الله ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث؛ ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ فرجع ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الحارث منعني الزكاة ، وأراد قتلي ، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث ، فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقلّ البعث ، وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا : هذا الحارث؟ فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك ، قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة ، فزعم أنك منعته الزكاة ، وأردت قتله ، قال : لا ، والذي بعث محمداً بالحقّ ما رأيته بتة ، ولا أتاني ، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

« منعت الزكاة ، وأردت قتل رسولي » ؟ قال : لا والذي بعثك بالحقّ ما رأيته ، ولا رآني ، وما أقبلت إلاّ حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن تكون كانت سخطة من الله ورسوله ، فنزل : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ } إلى قوله : { حَكِيمٌ } قال ابن كثير : هذا من أحسن ما روي في سبب نزول الآية . وقد رويت روايات كثيرة متفقة على أنه سبب نزول الآية ، وأنه المراد بها وإن اختلفت القصص .

وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

قوله : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } قرأ الجمهور { اقتتلوا } باعتبار كل فرد من أفراد الطائفتين كقوله : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] والضمير في قوله : { بَيْنَهُمَا } عائد إلى الطائفتين باعتبار اللفظ . وقرأ ابن أبي عبلة : ( اقتتلتا ) اعتباراً بلفظ طائفتان ، وقرأ زيد بن عليّ ، وعبيد بن عمير : ( اقتتلا ) وتذكير الفعل في هذه القراءة باعتبار الفريقين ، أو الرهطين . والبغي : التعدّي بغير حق ، والامتناع من الصلح الموافق للصواب ، والفيء : الرجوع . والمعنى : أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين ، فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم ، ويدعوهم إلى حكم الله ، فإن حصل بعد ذلك التعدّي من إحدى الطائفتين على الأخرى ، ولم تقبل الصلح ، ولا دخلت فيه كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وحكمه ، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها ، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه ، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم ، ويتحرّوا الصواب المطابق لحكم الله ، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم ، وتؤدّي ما يجب عليها للأخرى . ثم أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم بعد أمرهم بهذا العدل الخاص بالطائفتين المقتتلتين فقال : { وَأَقْسِطُواْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أي : واعدلوا إن الله يحب العادلين ، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء . قال الحسن ، وقتادة ، والسديّ : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } بالدعاء إلى حكم كتاب الله ، والرضى بما فيه لهما وعليهما { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا } وطلبت ما ليس لها ، ولم ترجع إلى الصلح { فقاتلوا التى تَبْغِى } حتى ترجع إلى طاعة الله ، والصلح الذي أمر الله به ، وجملة : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإصلاح ، والمعنى : أنهم راجعون إلى أصل واحد ، وهو الإيمان . قال الزجاج : الدين يجمعهم ، فهم إخوة إذا كانوا متفقين في دينهم ، فرجعوا بالاتفاق في الدين إلى أصل النسب؛ لأنهم لآدم وحواء { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعني : كل مسلمين تخاصما وتقاتلا ، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريق الأولى . قرأ الجمهور : { بين أخويكم } على التثنية ، وقرأ زيد بن ثابت ، وعبد الله بن مسعود ، والحسن ، وحماد بن سلمة ، وابن سيرين : { إخوانكم } بالجمع ، وروي عن أبي عمرو ، ونصر بن عاصم ، وأبي العالية ، والجحدري ، ويعقوب أنهم قرءوا ( بين إخوتكم ) بالفوقية على الجمع أيضاً . قال أبو عليّ الفارسي في توجيه قراءة الجمهور : أراد بالأخوين : الطائفتين؛ لأن لفظ التثنية قد يرد ، ويراد به الكثرة . وقال أبو عبيدة : أي : أصلحوا بين كل أخوين { واتقوا الله } في كل أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } بسبب التقوى ، والترجي باعتبار المخاطبين ، أي : راجين أن ترحموا ، وفي هذه الآية دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرّر بغيها على الإمام ، أو على أحد من المسلمين ، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز مستدلاً بقوله صلى الله عليه وسلم :

« قتال المسلم كفر » ، فإن المراد بهذا الحديث ، وما ورد في معناه قتال المسلم الذي لم يبغ . قال ابن جرير : لو كان الواجب في كلّ اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه ، ولزوم المنازل لما أقيم حقّ ، ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبباً إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين ، وسبي نسائهم ، وسفك دمائهم بأن يتحزّبوا عليهم ، ولكفّ المسلمين أيديهم عنهم ، وذلك مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم : « خذوا على أيدي سفهائكم » قال ابن العربي : هذه الآية أصل في قتال المسلمين ، وعمدة في حرب المتأوّلين ، وعليها عوّل الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة ، وإياها عنى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله : « تقتل عماراً الفئة الباغية » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في شأن الخوارج : « يخرجون على حين فرقة من الناس تقتلهم أولى الطائفتين بالحقّ » { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } السخرية : الاستهزاء . وحكى أبو زيد : سخرت به ، وضحكت به ، وهزأت به . وقال الأخفش : سخرت منه وسخرت به ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزأت منه وهزأت به ، كل ذلك يقال ، والاسم السخرية والسخرى ، وقرىء بهما في : { لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] ، ومعنى الآية : النهي للمؤمنين عن أن يستهزىء بعضهم ببعض ، وعلل هذا النهي بقوله : { عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ } أي : أن يكون المسخور بهم عند الله خيراً من الساخرين بهم ، ولما كان لفظ قوم مختصاً بالرجال؛ لأنهم القوّم على النساء أفرد النساء بالذكر فقال : { وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء } أي : ولا يسخر نساء من نساء { عسى أَن يَكُنَّ } المسخور بهن { خَيْراً مّنْهُنَّ } يعني : خيراً من الساخرات منهنّ ، وقيل : أفرد النساء بالذكر؛ لأن السخرية منهنّ أكثر { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } اللمز العيب ، وقد مضى تحقيقه في سورة براءة عند قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات } [ التوبة : 58 ] قال ابن جرير : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة ، والهمز لا يكون إلاّ باللسان ، ومعنى : { لا تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } : لا يلمز بعضكم بعضاً ، كما في قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] وقوله : { فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] . قال مجاهد ، وقتادة ، وسعيد بن جبير : لا يطعن بعضكم على بعض . وقال الضحاك : لا يلعن بعضكم بعضاً { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } التنابز : التفاعل من النبز بالتسكين ، وهو المصدر ، والنبز بالتحريك اللقب ، والجمع أنباز ، والألقاب جمع لقب ، وهو اسم غير الذي سمي به الإنسان ، والمراد هنا لقب السوء ، والتنابز بالألقاب أن يلقب بعضهم بعضاً .

قال الواحدي : قال المفسرون : هو أن يقول لأخيه المسلم : يا فاسق يا منافق ، أو يقول لمن أسلم : يا يهودي يا نصراني ، قال عطاء : هو كلّ شيء أخرجت به أخاك من الإسلام ، كقولك : يا كلب يا حمار يا خنزير . قال الحسن ، ومجاهد : كان الرجل يعير بكفره ، فيقال له : يا يهودي يا نصراني فنزلت ، وبه قال قتادة ، وأبو العالية ، وعكرمة { بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الايمان } أي : بئس الاسم الذي يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان ، والاسم هنا بمعنى الذكر . قال ابن زيد : أي : بئس أن يسمى الرجل كافراً أو زانياً بعد إسلامه وتوبته . وقيل المعنى : أن من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبذ ، فهو فاسق . قال القرطبي : إنه يستثنى من هذا من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ، ولم يكن له سبب يجد في نفسه منه عليه ، فجوّزته الأئمة ، واتفق على قوله أهل اللغة . ا . ه . { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } عما نهى الله عنه { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون } لارتكابهم ما نهى الله عنه ، وامتناعهم من التوبة ، فظلموا من لقبوه ، وظلمهم أنفسهم بما لزمها من الإثم . { ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن } الظنّ هنا : هو مجرد التهمة التي لا سبب لها كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ، ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك ، وأمر سبحانه باجتناب الكثير؛ ليفحص المؤمن عن كل ظنّ يظنه حتى يعلم وجهه؛ لأن من الظنّ ما يجب اتباعه ، فإن أكثر الأحكام الشرعية مبنية على الظنّ ، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم؛ ولكن هذا الظنّ الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به ، فارتفع عن الشكّ والتهمة . قال الزجاج : هو أن يظنّ بأهل الخير سوءًا ، فأما أهل السوء والفسوق ، فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر منهم . قال مقاتل بن سليمان ، ومقاتل بن حيان : هو أن يظنّ بأخيه المسلم سوءًا ، ولا بأس به ما لم يتكلم به ، فإن تكلم بذلك الظنّ وأبداه أثم . وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : أن الظنّ القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ، وأنه لا حرج في الظنّ القبيح بمن ظاهره القبيح ، وجملة : { إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } : تعليل لما قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظنّ ، وهذا البعض هو ظنّ السوء بأهل الخير ، والإثم هو : ما يستحقه الظانّ من العقوبة . ومما يدل على تقييد هذا الظنّ المأمور باجتنابه بظنّ السوء قوله تعالى : { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] فلا يدخل في الظنّ المأمور باجتنابه شيء من الظنّ المأمور باتباعه في مسائل الدين ، فإن الله قد تعبد عباده باتباعه ، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم ، ولم ينكر ذلك إلاّ بعض طوائف المبتدعة كياداً للدّين ، وشذوذاً عن جمهور المسلمين ، وقد جاء التعبد بالظنّ في كثير من الشريعة المطهرة بل في أكثرها .

ثم لما أمرهم الله سبحانه باجتناب كثير من الظنّ نهاهم عن التجسس فقال : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } التجسس : البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم ، نهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم . قرأ الجمهور { تجسسوا } بالجيم ، ومعناه ما ذكرنا . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وابن سيرين بالحاء . قال الأخفش : ليس يبعد أحدهما من الآخر؛ لأن التجسس بالجيم : البحث عما يكتم عنك ، والتحسس بالحاء : طلب الأخبار ، والبحث عنها . وقيل : إن التجسس بالجيم هو البحث ، ومنه قيل : رجل جاسوس : إذا كان يبحث عن الأمور ، وبالحاء : ما أدركه الإنسان ببعض حواسه . وقيل : إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه ، وبالجيم أن يكون رسولاً لغيره ، قاله ثعلب { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } أي : لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوءه ، والغيبة : أن تذكر الرجل بما يكرهه ، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أتدرون ما الغيبة؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، فقيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ فقال : إن كان فيه ما تقول ، فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ، فقد بهته » { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } مثل سبحانه الغيبة بأكل الميتة؛ لأن الميت لا يعلم بأكل لحمه ، كما أن الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه ، ذكر معناه الزجاج . وفيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كلحمه ، وأنه كما يحرم أكل لحمه يحرم الاستطالة في عرضه ، وفي هذا من التنفير عن الغيبة ، والتوبيخ لها ، والتوبيخ لفاعلها ، والتشنيع عليه ما لا يخفى ، فإن لحم الإنسان مما تنفر عن أكله الطباع الإنسانية ، وتستكرهه الجبلة البشرية ، فضلاً عن كونه محرّماً شرعاً { فَكَرِهْتُمُوهُ } قال الفراء : تقديره : فقد كرهتموه فلا تفعلوا ، والمعنى : فكما كرهتم هذا ، فاجتنبوا ذكره بالسوء غائباً . قال الرّازي : الفاء في تقدير جواب كلام؛ كأنه قال : لا يحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ، فكرهتموه إذن . وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : عرض عليكم ذلك ، فكرهتموه { واتقوا الله } بترك ما أمركم باجتنابه { إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } لمن اتقاه ، وتاب عما فرط منه من الذنب ومخالفة الأمر .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال : قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أبيّ ، فانطلق إليه وركب حماراً ، وانطلق المسلمون يمشون ، وهي أرض سبخة ، فلما انطلق إليه قال : إليك عني ، فوالله لقد آذاني ريح حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل منهما أصحابه ، فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فنزلت فيهم : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } الآية .

وقد روي نحو هذا من وجوه أخر . وأخرج الحاكم وصححه ، والبيهقي عن ابن عمر قال : ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية ، إني لم أقاتل هذه الفئة الباغية ، كما أمرني الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : إن الله أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمؤمنين إذا اقتتلت طائفة من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله ، وينصف بعضهم من بعض ، فإذا أجابوا حكم فيهم بحكم كتاب الله حتى ينصف المظلوم ، فمن أبى منهم أن يجيب فهو باغ ، وحقّ على إمام المؤمنين والمؤمنين أن يقاتلوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله ، ويقرّوا بحكم الله . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } الآية قال : كان قتال بالنعال والعصيّ ، فأمرهم أن يصلحوا بينهما . وأخرج ابن مردويه ، والبيهقي عن عائشة قالت : ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأمة في هذه الآية : { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } . وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ } قال : نزلت في قوم من بني تميم استهزءوا من بلال ، وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وصهيب ، وابن فهيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة . وأخرج عبد بن حميد ، والبخاريّ في الأدب ، وابن أبي الدنيا في ذم الغيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } قال : لا يطعن بعضكم على بعض . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاريّ في الأدب وأهل السنن الأربع ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والشيرازي في الألقاب ، والطبراني ، وابن السني في عمل يوم وليلة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وليس فينا رجل إلاّ وله اسمان ، أو ثلاثة ، فكان إذا دعا واحداً منهم باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول الله إنه يكرهه ، فنزلت : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب : أن يكون الرجل عمل السيئات ، ثم تاب منها وراجع الحقّ ، فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في الآية قال : إذا كان الرجل يهودياً ، فأسلم ، فيقول : يا يهوديّ ، يا نصرانيّ ، يا مجوسيّ ، ويقول للرجل المسلم : يا فاسق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ اجتنبوا كَثِيراً مّنَ الظن } قال : نهى الله المؤمن أن يظنّ بالمؤمن سوءًا .

وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والظنّ ، فإن الظنّ أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخواناً ، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح ، أو يترك » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } قال : نهى الله المؤمن أن يتتبع عورات المؤمن . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن زيد بن وهب قال : أتى ابن مسعود ، فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمراً ، فقال ابن مسعود : إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذه . وقد وردت أحاديث في النهي عن تتبع عورات المسلمين ، والتجسس عن عيوبهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } الآية . قال : حرم الله أن يغتاب المؤمن بشيء ، كما حرّم الميتة . والأحاديث في تحريم الغيبة كثيرة جداً معروفة في كتب الحديث .

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)

قوله : { يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى } هما آدم وحوّاء ، والمقصود أنهم متساوون؛ لاتصالهم بنسب واحد ، وكونه يجمعهم أب واحد وأمّ واحدة ، وأنه لا موضع للتفاخر بينهم بالأنساب ، وقيل المعنى : أن كل واحد منكم من أب وأمّ ، فالكل سواء { وجعلناكم شُعُوباً وَقَبَائِلَ } الشعوب : جمع شعب بفتح الشين ، وهو الحيّ العظيم ، مثل : مضر ، وربيعة ، والقبائل دونها كبني بكر من ربيعة ، وبني تميم من مضر . قال الواحدي : هذا قول جماعة من المفسرين ، سموا شعباً ، لتشعبهم واجتماعهم كشعب أغصان الشجرة ، والشعب من أسماء الأضداد ، يقال شعبته : إذا جمعته ، وشعبته : إذا فرّقته ، ومنه سميت المنية شعوباً لأنها مفرّقة ، فأما الشعب بالكسر : فهو الطريق في الجبل . قال الجوهري : الشعب ما تشعب من قبائل العرب والعجم ، والجمع الشعوب . وقال مجاهد : الشعوب البعيد من النسب ، والقبائل دون ذلك . وقال قتادة : الشعوب : النسب الأقرب . وقيل : إن الشعوب : عرب اليمن من قحطان ، والقبائل من ربيعة ، ومضر ، وسائر عدنان . وقيل : الشعوب : بطون العجم ، والقبائل : بطون العرب . وحكى أبو عبيد أن الشعب أكثر من القبيلة ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، ثم العشيرة . ومما يؤيد ما قاله الجمهور من أن الشعب أكثر من القبيلة قول الشاعر :
قبائل من شعوب ليس فيهم ... كريم قد يعدّ ولا نجيب
قرأ الجمهور { لتعارفوا } بتخفيف التاء ، وأصله : لتتعارفوا ، فحذفت إحدى التاءين . وقرأ البزّي بتشديدها على الإدغام . وقرأ الأعمش بتاءين واللام متعلقة بخلقناكم ، أي : خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضاً . وقرأ ابن عباس ( لتعرفوا ) مضارع عرف . والفائدة في التعارف أن ينتسب كل واحد منهم إلى نسبه ، ولا يعتري إلى غيره . والمقصود من هذا أن الله سبحانه خلقهم كذلك؛ لهذه الفائدة لا للتفاخر بأنسابهم ، ودعوى أن هذا الشعب أفضل من هذا الشعب ، وهذه القبيلة أكرم من هذه القبيلة ، وهذا البطن أشرف من هذا البطن . ثم علل سبحانه ما يدل عليه الكلام من النهي عن التفاخر ، فقال : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } أي : إن التفاضل بينكم إنما هو بالتقوى ، فمن تلبس بها فهو المستحق؛ لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها ، وأشرف وأفضل ، فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر بالأنساب ، فإن ذلك لا يوجب كرماً ، ولا يثبت شرفاً ، ولا يقتضي فضلاً . قرأ الجمهور { إن أكرمكم } بكسر إن . وقرأ ابن عباس بفتحها ، أي : لأن أكرمكم { إِنَّ الله عَلِيمٌ } بكل معلوم ، ومن ذلك أعمالكم { خَبِيرٌ } بما تسرّون وما تعلنون لا تخفى عليه من ذلك خافية . ولما ذكر سبحانه أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له ، وكان أصل التقوى الإيمان ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان؛ ليثبت لهم الشرف والفضل ، فقال : { قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا } وهم بنو أسد أظهروا الإسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة ، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يردّ عليهم ، فقال : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ } أي : لم تصدقوا تصديقاً صحيحاً عن اعتقاد قلب ، وخلوص نية ، وطمأنينة { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } أي : استسلمنا خوف القتل والسبي ، أو للطمع في الصدقة ، وهذه صفة المنافقين؛ لأنهم أسلموا في ظاهر الأمر ، ولم تؤمن قلوبهم ، ولهذا قال سبحانه : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } أي : لم يكن ما أظهرتموه بألسنتكم عن مواطأة قلوبكم ، بل مجرد قول باللسان من دون اعتقاد صحيح ، ولا نية خالصة ، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها ، أو في محل نصب على الحال ، وفي «لمّا» معنى التوقع .

قال الزجاج : الإسلام : إظهار الخضوع ، وقبول ما أتى به النبيّ ، وبذلك يحقن الدم ، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب ، فذلك الإيمان وصاحبه المؤمن . وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِى قُلُوبِكُمْ } أي : لم تصدّقوا ، وإنما أسلمتم تعوّذاً من القتل { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } طاعة صحيحة صادرة عن نيات خالصة ، وقلوب مصدقة غير منافقة { لاَ يَلِتْكُمْ مّنْ أعمالكم شَيْئاً } يقال لات يلت : إذا نقص ، ولاته يليته ويلوته : إذا نقصه ، والمعنى : لا ينقصكم من أعمالكم شيئًا . قرأ الجمهور : { يلتكم } من لاته يليته كباع يبيعه . وقرأ أبو عمرو ( لا يألتكم ) بالهمز من ألته يألته بالفتح في الماضي ، والكسر في المضارع ، واختار قراءة أبي عمرو ، أبو حاتم لقوله : { وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء } [ الطور : 21 ] وعليها قول الشاعر :
أبلغ بني أسد عني مغلغلة ... جهر الرسالة لا ألتا ولا كذبا
واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور ، وعليها قول رؤبة بن العجاج :
وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت
وهما لغتان فصيحتان { إنَّ الله غَفُورٌ } أي : بليغ المغفرة؛ لمن فرط منه ذنب { رَّحِيمٌ } بليغ الرحمة لهم . ثم لما ذكر سبحانه أن أولئك الذين قالوا آمنا لم يؤمنوا ، ولا دخل الإيمان في قلوبهم ، بيّن المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم الإيمان عليهم ، فقال : { إِنَّمَا المؤمنون الذين ءامَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } يعني : إيماناً صحيحاً خالصاً عن مواطأة القلب واللسان { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أي : لم يدخل قلوبهم شيء من الريب ، ولا خالطهم شكّ من الشكوك { وجاهدوا بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ الله } أي : في طاعته وابتغاء مرضاته ، ويدخل في الجهاد الأعمال الصالحة التي أمر الله بها ، فإنها من جملة ما يجاهد المرء به نفسه حتى يقوم به ويؤدّيه ، كما أمر الله سبحانه ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الجامعين بين الأمور المذكورة ، وهو مبتدأ ، وخبره قوله : { هُمُ الصادقون } أي : الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان ، والدخول في عداد أهله ، لا من عداهم ممن أظهر الإسلام بلسانه ، وادّعى أنه مؤمن ، ولم يطمئن بالإيمان قلبه ، ولا وصل إليه معناه ، ولا عمل بأعمال أهله ، وهم الأعراب الذين تقدّم ذكرهم ، وسائر أهل النفاق .

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولاً آخر لما ادّعوا أنهم مؤمنون ، فقال : { قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } التعليم ها هنا بمعنى الإعلام ، ولهذا دخلت الباء في بدينكم ، أي : أتخبرونه بذلك حيث قلتم آمنا { والله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } فكيف يخفى عليه بطلان ما تدّعونه من الإيمان ، والجملة في محل النصب على الحال من مفعول تعلمون { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } لا تخفى عليه من ذلك خافية ، وقد علم ما تبطنونه من الكفر ، وتظهرونه من الإسلام؛ لخوف الضرّاء ورجاء النفع . ثم أخبر الله سبحانه رسوله بما يقوله لهم عند المنّ عليه منهم بما يدّعونه من الإسلام فقال : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } أي : يعدّون إسلامهم منّة عليك حيث قالوا : جئناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم } أي : لا تعدّوه منّة عليّ ، فإن الإسلام هو المنّة التي لا يطلب موليها ثواباً لمن أنعم بها عليه ، ولهذا قال : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للإيمان } أي : أرشدكم إليه ، وأراكم طريقه سواءً وصلتم إلى المطلوب أم لم تصلوا إليه ، وانتصاب { إسلامكم } إما على أنه مفعول به على تضمين يمنّون معنى يعدّون ، أو بنزع الخافض ، أي : لأن أسلموا ، وهكذا قوله : { أَنْ هَداكُمْ للإيمان } فإنه يحتمل الوجهين { إِن كُنتُمْ صادقين } فيما تدّعونه ، والجواب محذوف يدلّ عليه ما قبله ، أي : إن كنتم صادقين ، فللّه المنّة عليكم . قرأ الجمهور { أن هداكم } بفتح « أن » ، وقرأ عاصم بكسرها . { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والأرض } أي : ما غاب فيهما { والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } لا يخفى عليه من ذلك شيء ، فهو مجازيكم بالخير خيراً ، وبالشرّ شرًّا . قرأ الجمهور : { تعملون } على الخطاب ، وقرأ ابن كثير على الغيبة .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن أبي مليكة قال : لما كان يوم الفتح رقى بلال فأذن على الكعبة ، فقال بعض الناس : أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة . وقال بعضهم : إن يسخط الله هذا يغيره ، فنزلت : { يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى } . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه . وأخرج أبو داود في مراسيله ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن الزهري قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوّجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا : يا رسول الله ، أنزوّج بناتنا موالينا؟ فنزلت هذه الآية .

وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب أن هذه الآية : { يأَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى } هي مكية ، وهي للعرب خاصة الموالي ، أي : قبيلة لهم ، وأي شعاب ، وقوله : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم } فقال : أتقاكم للشرك . وأخرج البخاري ، وابن جرير عن ابن عباس قال : الشعوب : القبائل العظام ، والقبائل : البطون . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : القبائل : الأفخاذ ، والشعوب : الجمهور مثل مضر . وأخرج البخاري ، وغيره عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ الناس أكرم؟ قال : « أكرمهم عند الله أتقاهم » قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : « فأكرم الناس يوسف نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن نبيّ الله ابن خليل الله » قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : « فعن معادن العرب تسألوني » ؟ قالوا : نعم ، قال : « خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا » وقد وردت أحاديث في الصحيح ، وغيره أن التقوى هي التي يتفاضل بها العباد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { قَالَتِ الأعراب ءامَنَّا } قال : أعراب بني أسد ، وخزيمة ، وفي قوله : { ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } مخافة القتل والسبي . وأخرج ابن جرير عن قتادة أنها نزلت في بني أسد . وأخرج ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه قال السيوطي : بسند حسن عن عبد الله بن أبي أوفى : أن ناساً من العرب قالوا : يا رسول الله ، أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، فأنزل الله : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } . وأخرج النسائي ، والبزار ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه ، وذكر أنهم بنو أسد .

ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)

قوله : { ق والقرءان المجيد } الكلام في إعراب هذا كالكلام الذي قدّمنا في قوله : { ص والقرءان ذِى الذكر } [ ص : 1 ] وفي قوله : { حم * والكتاب المبين } [ الدخان : 1 ، 2 ] واختلف في معنى { ق } ، فقال الواحدي : قال المفسرون : هو اسم جبل يحيط بالدنيا من زبرجد ، والسماء مقببة عليه ، وهو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة . قال الفراء : كان يجب على هذا أن يظهر الإعراب في { ق } لأنه اسم ، وليس بهجاء . قال : ولعل القاف وحدها ذكرت من اسمه كقول القائل :
قلت لها قفي ، فقالت : قاف ... أي : أنا واقفة . وحكى الفراء ، والزجاج : أن قوماً قالوا : معنى : { ق } : قضي الأمر ، وقضي ما هو كائن ، كما قيل في { حم} : حمّ الأمر . وقيل : هو اسم من أسماء الله أقسم به . وقال قتادة : هو اسم من أسماء القرآن . وقال الشعبي : فاتحة السورة . وقال أبو بكر الورّاق معناه : قف عند أمرنا ونهينا ولا تعدهما ، وقيل غير ذلك مما هو أضعف منه ، والحق أنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ، كما حققنا ذلك في فاتحة سورة البقرة ، ومعنى { المجيد } : أنه ذو مجد وشرف على سائر الكتب المنزلة . وقال الحسن : الكريم ، وقيل : الرفيع القدر ، وقيل : الكبير القدر ، وجواب القسم قال الكوفيون : هو قوله : { بَلْ عَجِبُواْ } وقال الأخفش : جوابه محذوف كأنه قال : ق والقرآن المجيد لتبعثن ، يدل عليه { أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } وقال ابن كيسان جوابه : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } وقيل : هو { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } بتقدير اللام أي : لقد علمنا ، وقيل : هو محذوف وتقديره أنزلناه إليك لتنذر ، كأنه قيل : ق والقرآن المجيد ، أنزلناه إليك لتنذر به الناس . قرأ الجمهور قاف بالسكون . وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، ونصر بن عاصم بكسر الفاء . وقرأ عيسى الثقفي بفتح الفاء . وقرأ هارون ، ومحمد بن السميفع بالضم . { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ } « بل » للإضراب عن الجواب على اختلاف الأقوال ، و « أن » في موضع نصب على تقدير : لأن جاءهم . والمعنى : بل عجب الكفار؛ لأن جاءهم منذر منهم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكتفوا بمجرّد الشك والردّ ، بل جعلوا ذلك من الأمور العجيبة ، وقيل : هو إضراب عن وصف القرآن بكونه مجيداً ، وقد تقدم تفسير هذا في سورة { ص } . ثم فسّر ما حكاه عنهم من كونهم عجبوا بقوله : { فَقَالَ الكافرون هذا شَىْء عَجِيبٌ } وفيه زيادة تصريح وإيضاح . قال قتادة : عجبهم أن دعوا إلى إله واحد ، وقيل : تعجبهم من البعث ، فيكون لفظ { هذا } إشارة إلى مبهم يفسره ما بعده من قوله : { أَءذَا مِتْنَا } إلخ ، والأوّل أولى . قال الرازي : الظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر .

ثم قالوا : { أَءذَا مِتْنَا } وأيضاً قد وجُد ها هنا بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب ، وهو قولهم : { ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ } فإنه استبعاد وهو كالتعجب ، فلو كان التعجب بقولهم : { هذا شَىْء عَجِيبٌ } عائداً إلى قولهم : { أئذا } لكان كالتكرار ، فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك هذا شيء عجيب أنه يعود إلى مجيء المنذر ، فإن تعجبهم منه علم من قولهم : وعجبوا أن جاءهم ، فقوله : { هذا شَىْء عَجِيبٌ } يكون تكراراً ، فنقول ذلك ليس بتكرار بل هو تقرير؛ لأنه لما قال : { بل عجبوا } بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجباً كقوله : { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 73 ] ويقال في العرف : لا وجه لتعجبك مما ليس بعجب ، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتعجبكم ، فقالوا : { هذا شَىْء عَجِيبٌ } فكيف لا نعجب منه ، ويدلّ على ذلك قوله ها هنا : { فَقَالَ الكافرون } بالفاء ، فإنها تدلّ على أنه مترتب على ما تقدّم ، قرأ الجمهور { أئذا متنا } بالاستفهام . وقرأ ابن عامر في رواية عنه ، وأبو جعفر ، والأعمش ، والأعرج بهمزة واحدة ، فيحتمل الاستفهام كقراءة الجمهور ، وهمزة الاستفهام مقدّرة ، ويحتمل أن معناه الإخبار ، والعامل في الظرف مقدّر ، أي : أيبعثنا ، أو أنرجع إذا متنا لدلالة ما بعده عليه ، هذا على قراءة الجمهور ، وأما على القراءة الثانية ، فجواب « إذا » محذوف أي : رجعنا ، وقيل : ذلك رجع ، والمعنى : استنكارهم للبعث بعد موتهم ومصيرهم تراباً . ثم جزموا باستبعادهم للبعث ، فقالوا : { ذلك } أي : البعث { رَجْع بَعِيدٌ } أي : بعيد عن العقول ، أو الأفهام ، أو العادة ، أو الإمكان ، يقال : رجعته أرجعه رجعاً ، ورجع هو يرجع رجوعاً . ثم ردّ سبحانه ما قالوه ، فقال : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } أي : ما تأكل من أجسادهم ، فلا يضلّ عنا شيء من ذلك ، ومن أحاط علمه بكل شيء حتى انتهى إلى علم ما يذهب من أجساد الموتى في القبور لا يصعب عليه البعث ، ولا يستبعد منه ، وقال السديّ : النقص هنا الموت ، يقول : قد علمنا من يموت منهم ، ومن يبقى؛ لأن من مات دفن ، فكأن الأرض تنقص من الأموات ، وقيل المعنى : من يدخل في الإسلام من المشركين ، والأوّل أولى { وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ } أي : حافظ لعدتّهم وأسمائهم ولكلّ شيء من الأشياء ، وهو اللوح المحفوظ ، وقيل : المراد بالكتاب هنا : العلم والإحصاء ، والأوّل أولى . وقيل : حفيظ بمعنى محفوظ ، أي : محفوظ من الشياطين ، أو محفوظ فيه كل شيء ، ثم أضرب سبحانه عن كلامهم الأول وانتقل إلى ما هو أشنع منه فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق } فإنه تصريح منهم بالتكذيب بعد ما تقدّم عنهم من الاستبعاد ، والمراد بالحق هنا : القرآن . قال الماوردي في قول الجميع ، وقيل : هو الإسلام ، وقيل : محمد ، وقيل : النبوّة الثابتة بالمعجزات { لَمَّا جَاءهُمْ } أي : وقت مجيئه إليهم من غير تدبر ولا تفكر ولا إمعان نظر ، قرأ الجمهور بفتح اللام وتشديد الميم .

وقرأ الجحدري بكسر اللام وتخفيف الميم { فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي : مختلط مضطرب ، يقولون مرة ساحر ، ومرة شاعر ، ومرة كاهن ، قاله الزجاج ، وغيره . وقال قتادة : مختلف . وقال الحسن : ملتبس ، والمعنى متقارب ، وقيل : فاسد ، والمعاني متقاربة ، ومنه قولهم : مرجت أمانات الناس أي : فسدت ، ومرج الدين ، والأمر : اختلط { أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السماء فَوْقَهُمْ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي : كيف غفلوا عن النظر إلى السماء فوقهم { كَيْفَ بنيناها } ، وجعلناها على هذه الصفة مرفوعة بغير عماد تعتمد عليه { وزيناها } بما جعلنا فيها من المصابيح { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } أي : فتوق وشقوق وصدوع ، وهو جمع فرج ، ومنه قول امرىء القيس :
ويسدّ به فرجاً من دبر ... قال الكسائي : ليس فيها تفاوت ، ولا اختلاف ، ولا فتوق { والأرض مددناها } أي : بسطناها { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } أي : جبالاً ثوابت ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الرعد . { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي : من كل صنف حسن ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة الحج . { تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } هما علتان لما تقدّم منتصبان بالفعل الأخير منها ، أو بمقدّر ، أي : فعلنا ما فعلنا للتبصير والتذكير ، قاله الزجاج . وقال أبو حاتم : انتصبا على المصدرية ، أي : جعلنا ذلك تبصرة وذكرى . والمنيب : الراجع إلى الله بالتوبة المتدبر في بديع صنعه ، وعجائب مخلوقاته . وفي سياق هذه الآيات تذكير لمنكري البعث ، وإيقاظ لهم عن سنة الغفلة ، وبيان لإمكان ذلك وعدم امتناعه ، فإن القادر على مثل هذه الأمور يقدر عليه ، وهكذا قوله : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا } أي : نزّلنا من السحاب ماءً كثير البركة؛ لانتفاع الناس به في غالب أمورهم { فَأَنبَتْنَا بِهِ جنات } أي : أنبتنا بذلك الماء بساتين كثيرة { وَحَبَّ الحصيد } أي : ما يقتات ويحصد من الحبوب ، والمعنى : وحبّ الزرع الحصيد ، وخصّ الحبّ لأنه المقصود ، كذا قال البصريون . وقال الكوفيون : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، كمسجد الجامع ، حكاه الفرّاء . قال الضحاك : حبّ الحصيد : البرّ والشعير ، وقيل : كل حبّ يحصد ويدخر ويقتات { والنخل باسقات لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } هو معطوف على { جنات } أي : وأنبتنا به النخل ، وتخصيصها بالذكر مع دخولها في الجنات للدلالة على فضلها على سائر الأشجار ، وانتصاب { باسقات } على الحال ، وهي حال مقدّرة؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن باسقة . قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة : الباسقات : الطوال ، وقال سعيد بن جبير : مستويات . وقال الحسن ، وعكرمة ، والفراء : مواقير حوامل ، يقال للشاة إذا بسقت : ولدت ، والأشهر في لغة العرب الأوّل ، يقال : بسقت النخلة بسوقاً : إذا طالت ، ومنه قول الشاعر :

لنا خمر وليست خمر كرم ... ولكن من نتاج الباسقات
كرام في السماء ذهبن طولا ... وفات ثمارها أيدي الجناة
وجملة : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } في محل نصب على الحال من { النخل } ، الطلع : هو أوّل ما يخرج من ثمر النخل ، يقال : طلع الطلع طلوعاً ، والنضيد : المتراكب الذي نضد بعضه على بعض ، وذلك قبل أن ينفتح فهو نضيد في أكمامه فإذا خرج من أكمامه ، فليس بنضيد { رّزْقاً لّلْعِبَادِ } انتصابه على المصدرية ، أي : رزقناهم رزقاً ، أو على العلة ، أي : أنبتنا هذه الأشياء للرزق { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي : أحيينا بذلك الماء بلدة مجدبة لا ثمار فيها ولا زرع ، وجملة { كذلك الخروج } مستأنفة لبيان أن الخروج من القبور عند البعث كمثل هذا الإحياء الذي أحيا الله به الأرض الميتة ، قرأ الجمهور : { ميتاً } على التخفيف ، وقرأ أبو جعفر ، وخالد بالتثقيل . ثم ذكر سبحانه الأمم المكذبة ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وأصحاب الرس } هم قوم شعيب كما تقدّم بيانه ، وقيل : هم الذين جاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى ، وهم من قوم عيسى ، وقيل : هم أصحاب الأخدود . والرسّ : إما موضع نسبوا إليه ، أو فعل ، وهو حفر البئر ، يقال رسّ : إذا حفر بئراً { وَثَمُودُ وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ } أي : فرعون وقومه { وإخوان لُوطٍ } جعلهم إخوانه لأنهم كانوا أصهاره ، وقيل : هم من قوم إبراهيم ، وكانوا من معارف لوط { وأصحاب الأيكة } تقدّم الكلام على الأيكة ، واختلاف القراء فيها في سورة الشعراء مستوفى ، ونبيهم الذي بعثه الله إليهم شعيب { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } هو تبع الحميري الذي تقدّم ذكره في قوله : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ } [ الدخان : 37 ] واسمه سعد أبو كرب ، وقيل : أسعد . قال قتادة : ذمّ الله قوم تبع ، ولم يذمه { كُلٌّ كَذَّبَ الرسل } التنوين عوض عن المضاف إليه ، أي : كل واحد من هؤلاء كذب رسوله الذي أرسله الله إليه ، وكذب ما جاء به من الشرع ، واللام في { الرسل } تكون للعهد ، ويجوز أن تكون للجنس ، أي : كل طائفة من هذه الطوائف كذبت جميع الرسل ، وإفراد الضمير في { كذب } باعتبار لفظ { كل } ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ كأنه قيل له : لا تحزن ، ولا تكثر غمك لتكذيب هؤلاء لك ، فهذا شأن من تقدّمك من الأنبياء ، فإن قومهم كذبوهم ، ولم يصدّقهم إلاّ القليل منهم { فَحَقَّ وَعِيدِ } أي : وجب عليهم وعيدي ، وحقّت عليهم كلمة العذاب ، وحل بهم ما قدّره الله عليهم من الخسف ، والمسخ ، والإهلاك بالأنواع التي أنزلها الله بهم من عذابه . { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث الذي أنكرته الأمم ، أي : أفعجزنا بالخلق حين خلقناهم أوّلاً ولم يكونوا شيئًا ، فكيف نعجز عن بعثهم ، يقال : عييت بالأمر : إذا عجزت عنه ، ولم أعرف وجهه .

قرأ الجمهور بكسر الياء الأولى بعدها ياء ساكنة . وقرأ ابن أبي عبلة بتشديد الياء من غير إشباع . ثم ذكر أنهم في شكّ من البعث ، فقال : { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي : في شك وحيرة واختلاط من خلق مستأنف ، وهو بعث الأموات ، ومعنى الإضراب : أنهم غير منكرين لقدرة الله على الخلق الأوّل { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ق } قال : هو اسم من أسماء الله . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : خلق الله من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً ، ثم خلق وراء ذلك جبلاً يقال له : قاف السماء الدنيا مرفرفة عليه ، ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضاً مثل تلك الأرض سبع مرات ، ثم خلق من وراء ذلك بحراً محيطاً بها ، ثم خلق وراء ذلك جبلاً يقال له : قاف السماء الثانية مرفوعة عليه ، حتى عدّ سبع أرضين ، وسبعة أبحر ، وسبعة أجبل ، وسبع سموات ، قال : وذلك قوله : { والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } [ لقمان : 27 ] قال ابن كثير : لا يصح سنده عن ابن عباس . وقال أيضاً : وفيه انقطاع . وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عنه أيضاً قال : هو جبل وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض ، فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل ، فحرّك ذلك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها ، فمن ثم يحرك القرية دون القرية . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { والقرءان المجيد } قال : الكريم ، وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : القرآن المجيد ليس شيء أحسن منه ولا أفضل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } قال : أجسادهم وما يذهب منها . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال : ما تأكل من لحومهم وعظامهم وأشعارهم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً قال : المريج : الشيء المتغير . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه عن قطبة قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح : { ق } ، فلما أتى على هذه الآية : { والنخل باسقات } فجعلت أقول : ما بسوقها؟ قال : « طولها » وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله : { والنخل باسقات } قال : الطول . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } قال : متراكم بعضه على بعض . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول } يقول : لم يعيينا الخلق الأوّل ، وفي قوله : { بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } في شكّ من البعث .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)

قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } هذا كلام مبتدأ يتضمن ذكر بعض القدرة الربانية ، والمراد بالإنسان : الجنس ، وقيل : آدم ، والوسوسة هي في الأصل الصوت الخفيّ ، والمراد بها هنا : ما يختلج في سرّه وقلبه وضميره ، أي : نعلم ما يخفي ، ويكنّ في نفسه ، ومن استعمال الوسوسة في الصوت الخفيّ قول الأعشى :
تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت ... فاستعمل لما خفي من حديث النفس { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } هو حبل العاتق ، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه ، وهما وريدان من عن يمين وشمال . وقال الحسن : الوريد : الوتين ، وهو عرق معلق بالقلب ، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان ، أي : نحن أقرب إليه من حبل وريده ، والإضافة بيانية ، أي : حبل هو الوريد . وقيل : الحبل هو نفس الوريد ، فهو من باب مسجد الجامع . ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ، ويحفظان عليه عمله إلزاماً للحجة فقال : { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان } الظرف منتصب بما في { أَقْرَبُ } من معنى الفعل ، ويجوز أن يكون منصوباً بمقدّر هو اذكر ، والمعنى : أنه أقرب إليه من حبل وريده حين يتلقى { المتلقيان } ، وهما الملكان الموكلان به ما يلفظ به ، وما يعمل به ، أي : يأخذان ذلك ويثبتانه ، والتلقي : الأخذ ، أي : نحن أعلم بأحواله غير محتاجين إلى الحفظة الموكلين به ، وإنما جعلنا ذلك إلزاماً للحجة ، وتوكيداً للأمر . قال الحسن ، وقتادة ، ومجاهد : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك . وقال مجاهد أيضاً : وكل الله بالإنسان ملكين بالليل ، وملكين بالنهار يحفظان عمله ، ويكتبان أثره { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } إنما قال { قعيد } ، ولم يقل قعيدان وهما اثنان؛ لأن المراد : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه ، كذا قال سيبويه كقول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف
وقال الفرزدق :
وأتى وكان وكنت غير عذور ... أي : وكان غير عذور ، وكنت غير عذور ، وقال الأخفش ، والفراء : إن لفظ قعيد يصلح للواحد والاثنين والجمع ولا يحتاج إلى تقدير في الأوّل . قال الجوهري ، غيره من أئمة اللغة والنحو : فعيل وفعول مما يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، والقعيد المقاعد كالجليس بمعنى المجالس { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي : ما يتكلم من كلام ، فيلفظه ويرميه من فيه إلاّ لديه أي : لدى ذلك اللافظ رقيب أي : ملك يرقب قوله ويكتبه ، والرقيب : الحافظ المتتبع لأمور الإنسان الذي يكتب ما يقوله من خير وشر ، فكاتب الخير هو ملك اليمين ، وكاتب الشرّ ملك الشمال . والعتيد : الحاضر المهيأ .

قال الجوهري : العتيد الحاضر المهيأ ، يقال : عتده تعتيداً وأعتده اعتداداً أي : أعده ، ومنه { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ متكأ } [ يوسف : 31 ] والمراد هنا : أنه معدّ للكتابة مهيأ لها { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ } لما بيّن سبحانه أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة ذكر بعده ما ينزل بهم من الموت ، والمراد بسكرة الموت : شدّته وغمرته التي تغشى الإنسان ، وتغلب على عقله ، ومعنى { بالحق } : أنه عند الموت يتضح له الحق ، ويظهر له صدق ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والوعد والوعيد ، وقيل : الحق هو الموت ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : وجاءت سكرة الحق بالموت ، وكذا قرأ أبو بكر الصديق ، وابن مسعود . والسكرة : هي الحق ، فأضيفت إلى نفسها لاختلاف اللفظين ، وقيل : الباء للملابسة كالتي في قوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] أي : ملتبسة بالحق ، أي : بحقيقة الحال ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى الموت ، والحيد : الميل ، أي : ذلك الموت الذي كنت تميل عنه ، وتفرّ منه ، يقال : حاد عن الشيء يحيد حيوداً ، وحيدة وحيدودة : مال عنه وعدل ، ومنه قول طرفة :
أبو منذر رمت الوفاء فهبته ... وحدت كما حاد البعير عن الدحض
وقال الحسن : تحيد : تهرب { وَنُفِخَ فِى الصور } عبّر عنه بالماضي؛ لتحقق وقوعه ، وهذه هي النفخة الآخرة للبعث { ذَلِكَ يَوْم الوعيد } أي : ذلك الوقت الذي يكون فيه النفخ في الصور يوم الوعيد الذي أوعد الله به الكفار . قال مقاتل : يعني بالوعيد : العذاب في الآخرة ، وخصّص الوعيد مع كون اليوم هو يوم الوعد والوعيد جميعاً لتهويله . { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } أي : جاءت كل نفس من النفوس معها من يسوقها ، ومن يشهد لها ، أو عليها .
واختلف في السائق والشهيد ، فقال الضحاك : السائق من الملائكة ، والشهيد من أنفسهم ، يعني : الأيدي والأرجل . وقال الحسن ، وقتادة : سائق يسوقها ، وشاهد يشهد عليها بعملها ، وقال ابن مسلم : السائق : قرينها من الشياطين ، سمي سائقاً لأنه يتبعها وإن لم يحثها . وقال مجاهد : السائق والشهيد ملكان . وقيل : السائق : الملك ، والشهيد : العمل ، وقيل : السائق : كاتب السيئات ، والشهيد : كاتب الحسنات ، ومحل الجملة النصب على الحال { لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا } أي : يقال له : لقد كنت في غفلة من هذا ، والجملة في محل نصب على الحال من { نفس } ، أو مستأنفة كأنه قيل : ما يقال له ، قال الضحاك : المراد بهذا : المشركون؛ لأنهم كانوا في غفلة من عواقب أمورهم . وقال ابن زيد : الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أي : لقد كنت يا محمد في غفلة من الرسالة . وقال أكثر المفسرين : المراد به جميع الخلق برّهم ، وفاجرهم ، واختار هذا ابن جرير . قرأ الجمهور بفتح التاء من { كنت } ، وفتح الكاف في { غطاءك } ، و { بصرك } حملاً على ما في لفظ { كل } من التذكير . وقرأ الجحدري ، وطلحة بن مصرف بالكسر في الجميع على أن المراد النفس { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ } الذي كان في الدنيا ، يعني : رفعنا الحجاب الذي كان بينك وبين أمور الآخرة ، ورفعنا ما كنت فيه من الغفلة عن ذلك { فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } أي : نافذ تبصر به ما كان يخفى عليك في الدنيا .

قال السديّ : المراد بالغطاء : أنه كان في بطن أمه فولد ، وقيل : إنه كان في القبر فنشر ، والأوّل أولى . والبصر قيل : هو بصر القلب ، وقيل : بصر العين ، وقال مجاهد : بصرك إلى لسان ميزانك حين توزن حسناتك وسيئاتك ، وبه قال الضحاك . { وَقَالَ قَرِينُهُ هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ } أي قال الملك الموكل به : هذا ما عندي من كتاب عملك عتيد حاضر قد هيأته ، كذا قال الحسن ، وقتادة ، والضحاك . وقال مجاهد : إن الملك يقول للربّ سبحانه : هذا الذي وكلتني به من بني آدم قد أحضرته ، وأحضرت ديوان عمله . وروي عنه أنه قال : إن قرينه من الشياطين يقول ذلك أي : هذا ما قد هيأته لك بإغوائي وإضلالي . وقال ابن زيد : إن المراد هنا قرينه من الإنس ، وعتيد مرفوع على أنه صفة لما إن كانت موصوفة ، وإن كانت موصولة فهو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف { أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } هذا خطاب من الله عزّ وجلّ للسائق والشهيد . قال الزجاج : هذا أمر للملكين الموكلين به وهما السائق ، والشاهد : كل كفار للنعم عنيد مجانب للإيمان { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } لا يبذل خيراً { مُعْتَدٍ } ظالم لا يقرّ بتوحيد الله { مُرِيبٍ } شاكّ في الحق ، من قولهم أراب الرجل : إذا صار ذا ريب . وقيل : هو خطاب للملكين من خزنة النار ، وقيل : هو خطاب لواحد على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل وتكريره . قال الخليل ، والأخفش : هذا كلام العرب الصحيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين يقولون : ارحلاها وازجراها ، وخذاه وأطلقاه للواحد . قال الفراء : العرب تقول للواحد : قوما عنا . وأصل ذلك أن أدنى أعوان الرجل في إبله وغنمه ورفقته في سفره اثنان ، فجرى كلام الرجل للواحد على ذلك ، ومنه قولهم للواحد في الشعر : خليليّ كما قال امرؤ القيس :
خليلي مرّا بي على أم جندب ... نقض لبانات الفؤاد المعذب
وقوله :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقول الآخر :
فإن تزجراني يابن عفان أنزجر ... وإن تدعواني أحم عرضاً ممنعا
قال المازني : قوله : { أَلْقِيَا } يدل على ألق ألق . قال المبرد : هي تثنية على التوكيد ، فناب ألقيا مناب ألق ألق . قال مجاهد ، وعكرمة : العنيد : المعاند للحق ، وقيل : المعرض عن الحق ، يقال : عند يعند بالكسر عنوداً : إذا خالف الحق { الذى جَعَلَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } يجوز أن يكون بدلاً من { كل } ، أو منصوباً على الذم ، أو بدلاً من { كفار } ، أو مرفوعاً بالابتداء ، أو الخبر { فألقياه فِى العذاب الشديد } تأكيد للأمر الأول ، أو بدل منه { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ } هذه الجملة مستأنفة لبيان ما يقوله القرين ، والمراد بالقرين هنا : الشيطان الذي قيض لهذا الكافر ، أنكر أن يكون أطغاه ، ثم قال : { ولكن كَانَ فِى ضلال بَعِيدٍ } أي : عن الحق فدعوته ، فاستجاب لي ، ولو كان من عبادك المخلصين لم أقدر عليه ، وقيل : إن قرينه الملك الذي كان يكتب سيئاته ، وإن الكافر يقول : ربّ إنه أعجلني فيجيبه بهذا ، كذا قال مقاتل ، وسعيد بن جبير ، والأوّل أولى ، وبه قال الجمهور .

{ قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ كأنه قيل : فماذا قال الله؟ فقيل : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } يعني : الكافرين وقرناءهم ، نهاهم سبحانه عن الاختصام في موقف الحساب ، وجملة : { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أن قد قدّمت إليكم بالوعيد بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، والباء في { بالوعيد } مزيدة للتأكيد ، أو على تضمين قدّم معنى تقدّم { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } أي : لا خلف لوعدي ، بل هو كائن لا محالة ، وقد قضيت عليكم بالعذاب ، فلا تبديل له ، وقيل : هذا القول هو قوله : { مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] وقيل : هو قوله : « لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ » [ السجدة : 13 ] وقال الفراء ، وابن قتيبة : معنى الآية : أنه ما يكذب عندي بزيادة في القول ، ولا ينقص منه لعلمي بالغيب ، وهو قول الكلبي . واختاره الواحدي ، لأنه قال : { لَدَىَّ } ولم يقل وما يبدل قولي ، والأوّل أولى . وقيل : إن مفعول { قدّمت إليكم } هو ما { يبدّل } أي : وقد قدّمت إليكم هذا القول ملتبساً بالوعيد ، وهذا بعيد جداً { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } أي : لا أعذبهم ظلماً بغير جرم اجترموه ، ولا ذنب أذنبوه . ولما كان نفي الظلام لا يستلزم نفي مجرّد الظلم قيل : إنه هنا بمعنى : الظالم ، كالثمار بمعنى الثامر . وقيل : إن صيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم . وقيل : صيغة المبالغة لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده ، وظلام لعبيده ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة آل عمران ، وفي سورة الحج . { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } قرأ الجمهور { نقول } بالنون ، وقرأ نافع وأبو بكر بالياء ، وقرأ الحسن : ( أقول ) . وقرأ الأعمش : ( يقال ) ، والعامل في الظرف { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } ، أو محذوف أي : اذكر ، أو أنذرهم ، وهذا الكلام على طريقة التمثيل والتخييل ، ولا سؤال ولا جواب ، كذا قيل ، والأولى أنه على طريقة التحقيق ، ولا يمنع من ذلك عقل ولا شرع .

قال الواحدي : قال المفسرون : أراها الله تصديق قوله : { لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ } [ هود : 119 ] فلما امتلأت قال لها : { هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي : قد امتلأت ولم يبق في موضع لم يمتلىء ، وبهذا قال عطاء ، ومجاهد ، ومقاتل بن سليمان . وقيل : إن هذا الاستفهام بمعنى الاستزادة ، أي : إنها تطلب الزيادة على من قد صار فيها . وقيل : إن المعنى أنها طلبت أن يزاد في سعتها؛ لتضايقها بأهلها ، والمزيد إما مصدر كالمحيد ، أو اسم مفعول كالمنيع ، فالأول بمعنى هل من زيادة؟ والثاني بمعنى هل من شيء تزيدونيه؟ ثم لما فرغ من بيان حال الكافرين شرع في بيان حال المؤمنين ، فقال : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : قربت للمتقين تقريباً غير بعيد ، أو مكان غير بعيد منهم بحيث يشاهدونها في الموقف ، وينظرون ما فيها مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ويجوز أن يكون انتصاب { غَيْرَ بَعِيدٍ } على الحال . وقيل المعنى : أنها زينت قلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب ، فصارت قريبة من قلوبهم ، والأوّل أولى . والإشارة بقوله : { هذا مَا تُوعَدُونَ } إلى الجنة التي أزلفت لهم على معنى : هذا الذي ترونه من فنون نعيمها ما توعدون ، والجملة بتقدير القول ، أي : ويقال لهم : هذا ما توعدون . قرأ الجمهور { توعدون } بالفوقية ، وقرأ ابن كثير بالتحتية { لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } هو بدل من { للمتقين } بإعادة الخافض ، أو متعلق بقول محذوف هو حال ، أي : مقولاً لهم لكل أوّاب ، والأوّاب : الرجاع إلى الله تعالى بالتوبة عن المعصية ، وقيل : هو المسبح ، وقيل : هو الذاكر لله في الخلوة . قال الشعبي ، ومجاهد : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة ، فيستغفر الله منها . وقال عبيد بن عمير : هو الذي لا يجلس مجلساً حتى يستغفر الله فيه ، والحفيظ : هو الحافظ لذنوبه حتى يتوب منها . وقال قتادة : هو الحافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته ، قاله مجاهد . وقيل : هو الحافظ لأمر الله . وقال الضحاك : هو الحافظ لوصية الله له بالقبول . { مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب } الموصول في محل جر بدلاً ، أو بياناً { لكل أوّاب } وقيل : يجوز أن يكون بدلاً بعد بدل من المتقين ، وفيه نظر؛ لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد ، ويجوز أن يكون في محل رفع على الاستئناف ، والخبر { ادخلوها } بتقدير : يقال لهم : ادخلوها ، والخشية بالغيب : أن يخاف الله ولم يكن رآه . وقال الضحاك ، والسديّ : يعني : في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب ، و { بالغيب } متعلق بمحذوف هو حال ، أو صفة لمصدر { خشي } { وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي : راجع إلى الله مخلص لطاعته ، وقيل : المنيب : المقبل على الطاعة ، وقيل : السليم { ادخلوها } هو بتقدير القول ، أي : يقال لهم : ادخلوها ، والجمع باعتبار معنى « من » أي : ادخلوا الجنة { بِسَلامٍ } أي : بسلامة من العذاب .

وقيل : بسلام من الله وملائكته ، وقيل : بسلامة من زوال النعم ، وهو متعلق بمحذوف هو حال ، أي : ملتبسين بسلام ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى زمن ذلك اليوم ، كما قال أبو البقاء ، وخبره { يَوْمُ الخلود } وسماه يوم الخلود لأنه لا انتهاء له ، بل هو دائم أبداً { لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا } أي : في الجنة ما تشتهي أنفسهم ، وتلذ أعينهم من فنون النعم وأنواع الخير { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } من النعم التي لم تخطر لهم على بال ، ولا مرّت لهم في خيال .
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «نزل الله من ابن آدم أربع منازل : هو أقرب إليه من حبل الوريد ، وهو يحول بين المرء وقلبه ، وهو آخذ بناصية كل دابة ، وهو معهم أينما كانوا» . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مِنْ حَبْلِ الوريد } قال : عروق العنق . وأخرج ابن المنذر عنه قال : هو نياط القلب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ، في قوله : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شرّ حتى إنه ليكتب قوله : أكلت ، شربت ، ذهبت ، جئت ، رأيت ، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقرّ منه ما كان من خير أو شرّ وألقى سائره ، فذلك قوله : { يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ } [ الرعد : 39 ] . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : إنما يكتب الخير والشرّ ، لا يكتب يا غلام اسرج الفرس ، يا غلام اسقني الماء . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله غفر لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل ، أو تكلم " وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، والحكيم الترمذي ، وأبو نعيم ، والبيهقي في الشعب عن عمرو بن ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله عند لسان كل قائل ، فليتق الله عبد ، ولينظر ما يقول " وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً مثله . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، وابن عساكر عن عثمان بن عفان أنه قرأ { وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } قال : سائق يسوقها إلى أمر الله ، وشهيد يشهد عليها بما عملت . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة في الآية قال : السائق : الملك ، والشهيد : العمل .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : السائق من الملائكة ، والشهيد شاهد عليه من نفسه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا } قال : هو الكافر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ } قال : الحياة بعد الموت . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً ، و { قَالَ قرِينُهُ } قال : شيطانه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ } قال : إنهم اعتذروا بغير عذر ، فأبطل الله حجتهم ، وردّ عليهم قولهم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً . في قوله : { وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ } قال : ما أنا بمعذّب من لم يجترم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً . في قوله : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } قال : وهل فيّ من مكان يزاد فيّ؟ وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال جهنم يلقى فيها ، وتقول : هل من مزيد حتى يضع ربّ العزّة فيها قدمه ، فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط ، وعزّتك وكرمك ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر ، فيسكنهم في فضول الجنة » وأخرجا أيضاً من حديث أبي هريرة نحوه ، وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله : { لِكُلّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } قال : حفظ ذنوبه حتى رجع عنها . وأخرج البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث والنشور عن أنس ، في قوله : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قال : يتجلى لهم الربّ تبارك وتعالى في كل جمعة . وأخرج البيهقي في الرؤية ، والديلمي عن عليّ في الآية قال : يتجلى لهم الربّ عزّ وجلّ ، وفي الباب أحاديث .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)

خوّف سبحانه أهل مكة بما اتفق للقرون الماضية { قَبْلَهُمْ } أي : قبل قريش ومن وافقهم { مّن قَرْنٍ } أي : من أمة { هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي : قوة ، كعاد وثمود ، وغيرهما { فَنَقَّبُواْ فِى البلاد } أي : ساروا وتقلبوا فيها وطافوا بقاعها وأصله من النقب ، وهو الطريق . قال مجاهد : ضربوا وطافوا . وقال النضر بن شميل : دوّروا ، وقال المؤرج : تباعدوا . والأوّل أولى ، ومنه قول امرىء القيس :
وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب
ومنه قول الحارث بن حلزة :
نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال
وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وأبو العالية ، وأبو عمرو في رواية : ( نقبوا ) بفتح القاف مخففة ، والنقب هو : الخرق والطريق في الجبل ، وكذا المنقب والمنقبة ، كذا قال ابن السكيت ، وجمع النقب نقوب . وقرأ السلمي ، ويحيى بن يعمر بكسر القاف مشدّدة على الأمر للتهديد ، أي : طوّفوا فيها وسيروا في جوانبها . وقرأ الباقون بفتح القاف مشدّدة على الماضي { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي : هل لهم من مهرب يهربون إليه ، أو مخلص يتخلصون به من العذاب؟ قال الزجاج : لم يروا محيصاً من الموت ، والمحيص : مصدر حاص عنه يحيص حيصاً وحيوصاً ومحيصاً ومحاصاً وحيصاناً ، أي : عدل وحاد ، والجملة مستأنفة لبيان أنه لا مهرب لهم ، وفي هذا إنذار لأهل مكة أنهم مثل من قبلهم من القرون لا يجدون من الموت والعذاب مفرًّا { إِنَّ فِى ذَلِكَ لذكرى } أي : فيما ذكر من قصتهم تذكرة وموعظة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي : عقل . قال الفراء : وهذا جائز في العربية ، تقول : ما لك قلب وما قلبك معك ، أي : ما لك عقل وما عقلك معك ، وقيل : المراد : القلب نفسه؛ لأنه إذا كان سليماً أدرك الحقائق وتفكر كما ينبغي . وقيل : لمن كان له حياة ونفس مميزة فعبر عن ذلك بالقلب؛ لأنه وطنها ومعدن حياتها ، ومنه قول امرىء القيس :
أغرّك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري النفس تفعل
{ أَوْ أَلْقَى السمع } أي : استمع ما يقال له ، يقال : ألق سمعك إليّ ، أي : استمع مني ، والمعنى : أنه ألقى السمع إلى ما يتلى عليه من الوحي الحاكي لما جرى على تلك الأمم . قرأ الجمهور { ألقى } مبنياً للفاعل . وقرأ السلمي ، وطلحة ، والسديّ على البناء للمفعول ، ورفع « السمع » { وَهُوَ شَهِيدٌ } أي : حاضر الفهم ، أو حاضر القلب؛ لأن من لا يفهم في حكم الغائب وإن حضر بجسمه ، فهو لم يحضر بفهمه . قال الزجاج : أي : وقلبه حاضر فيما يسمع . قال سفيان : أي : لا يكون حاضراً وقلبه غائب . قال مجاهد ، وقتادة : هذه الآية في أهل الكتاب ، وكذا قال الحسن .

وقال محمد بن كعب ، وأبو صالح : إنها في أهل القرآن خاصة . { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ } قد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف ، وغيرها . { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } اللغوب : التعب والإعياء ، تقول : لغب يلغب بالضم لغوباً . قال الواحدي : قال جماعة المفسرين : إن اليهود قالوا : خلق الله السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، أوّلها الأحد وآخرها الجمعة ، واستراح يوم السبت ، فأكذبهم الله تعالى بقوله : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } . { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } هذه تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأمر لهم بالصبر على ما يقوله المشركون ، أي : هوّن عليك ، ولا تحزن لقولهم ، وتلقّ ما يرد عليك منه بالصبر { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } أي : نزّه الله عما لا يليق بجنابه العالي ملتبساً بحمده وقت الفجر ووقت العصر ، وقيل : المراد : صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقيل : الصلوات الخمس ، وقيل : صلّ ركعتين قبل طلوع الشمس ، وركعتين قبل غروبها ، والأوّل أولى . { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ } « من » للتبعيض ، أي : سبّحه بعض الليل ، وقيل : هي صلاة الليل ، وقيل : ركعتا الفجر ، وقيل : صلاة العشاء ، والأوّل أولى { وأدبار السجود } أي : وسبّحه أعقاب الصلوات . قرأ الجمهور أدبار بفتح الهمزة جمع دبر . وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحمزة بكسرها على المصدر ، من أدبر الشيء إدباراً : إذا ولى ، وقال جماعة من الصحابة والتابعين : إدبار السجود : الركعتان بعد المغرب ، وإدبار النجوم : الركعتان قبل الفجر ، وقد اتفق القراء السبعة في { إدبار النجوم } [ الطور : 49 ] أنه بكسر الهمزة ، كما سيأتي . { واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي : استمع ما يوحى إليك من أحوال القيامة : يوم ينادي المناد ، وهو إسرافيل ، أو جبريل ، وقيل : استمع النداء ، أو الصوت ، أو الصيحة ، وهي صيحة القيامة ، أعني : النفخة الثانية في الصور من إسرافيل ، وقيل : إسرافيل ينفخ ، وجبريل ينادي أهل المحشر ، ويقول : هلموا للحساب ، فالنداء على هذا في المحشر ، قال مقاتل : هو إسرافيل ينادي بالحشر فيقول : يا أيها الناس هلموا للحساب { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } بحيث يصل النداء إلى كل فرد من أفراد أهل المحشر . قال قتادة : كنا نحدّث أنه ينادي من صخرة بيت المقدس . قال الكلبي : وهي أقرب الأرض إلى السماء باثني عشر ميلاً ، وقال كعب : بثمانية عشر ميلاً { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق } هو بدل من { يوم يناد } يعني : صيحة البعث ، و { بالحق } متعلق بالصيحة { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } أي : يوم الخروج من القبور . قال الكلبي : معنى { بالحق } بالبعث . وقال مقاتل : يعني : أنها كائنة حقاً . { إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ } أي : نحيي في الآخرة ، ونميت في الدنيا لا يشاركنا في ذلك مشارك ، والجملة مستأنفة لتقرير أمر البعث { وَإِلَيْنَا المصير } ، فنجازي كل عامل بعمله { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ } قرأ الجمهور بإدغام التاء في الشين ، وقرأ الكوفيون بتخفيف الشين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً .

وقرأ زيد بن علي : ( تتشقق ) بإثبات التاءين على الأصل ، وقرىء على البناء للمفعول ، وانتصاب { سِرَاعاً } على أنه حال من الضمير في عنهم ، والعامل في الحال تشقق ، وقيل : العامل في الحال هو العامل في { يوم } أي : مسرعين إلى المنادي الذي ناداهم { ذَلِكَ حَشْرٌ } أي : بعث وجمع { عَلَيْنَا يَسِيرٌ } هين . ثم عزّى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } يعني : من تكذيبك فيما جئت به ، ومن إنكار البعث والتوحيد { وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي : بمسلط يجبرهم ويقهرهم على الإيمان ، والآية منسوخة بآية السيف { فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ } أي : من يخاف وعيدي لعصاتي بالعذاب ، وأما من عداهم فلا تشتغل بهم ، ثم أمره الله سبحانه بعد ذلك بالقتال .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } قال : من نصب . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن عساكر عن جرير بن عبد الله ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } : «صلاة الصبح » { وَقَبْلَ الغروب } « صلاة العصر» . وأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة ، فقال : " يا ابن عباس ركعتان قبل صلاة الفجر إدبار النجوم ، وركعتان بعد المغرب إدبار السجود " وأخرج مسدّد في مسنده ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عليّ بن أبي طالب قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إدبار النجوم ، وإدبار السجود ، فقال : " إدبار السجود : ركعتان بعد المغرب ، وإدبار النجوم : الركعتان قبل الغداة " وأخرج محمد بن نصر في الصلاة ، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب : إدبار السجود : ركعتان بعد المغرب ، وإدبار النجوم : ركعتان قبل الفجر . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن نصر ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن عليّ بن أبي طالب مثله . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن نصر ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن أبي هريرة مثله . وأخرج البخاري ، وغيره عن مجاهد قال : قال ابن عباس : أمره أن يسبح في أدبار الصلوات كلها . وأخرج ابن جرير عنه { واستمع يَوْمَ يُنَادِ المناد } قال : هي الصيحة . وأخرج الواسطي عنه أيضاً { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } قال : من صخرة بيت المقدس . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر عنه أيضاً { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } قال : يوم يخرجون إلى البعث من القبور . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : قالوا : يا رسول الله لو خوّفتنا ، فنزلت : { فَذَكّرْ بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ } .

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

قوله : { والذريات ذَرْواً } يقال : ذرت الريح التراب تذروه ذرواً ، وأذرته تذريه ذرياً ، أقسم سبحانه بالرّياح التي تذري التراب ، وانتصاب { ذرواً } على المصدرية ، والعامل فيها اسم الفاعل ، والمفعول محذوف . قرأ أبو عمرو ، وحمزة بإدغام تاء الذاريات في ذال ذرواً . وقرأ الباقون بدون إدغام . وقيل : المقسم به مقدّر وهو ربّ الذاريات وما بعدها ، والأوّل أولى { فالحاملات وِقْراً } هي السحاب تحمل الماء ، كما تحمل ذوات الأربع الوقر ، وانتصاب { وقراً } على أنه مفعول به ، كما يقال : حمل فلان عدلاً ثقيلاً . قرأ الجمهور : { وقراً } بكسر الواو اسم ما يوقر أي : يحمل ، وقرىء بفتحها على أنه مصدر ، والعامل فيه اسم الفاعل ، أو على تسمية المحمول بالمصدر مبالغة { فالجاريات يُسْراً } هي السفن الجارية في البحر بالرّياح جرياً سهلاً ، وانتصاب { يسراً } على المصدرية ، أو صفة لمصدر محذوف ، أو على الحال ، أي : جرياً ذا يسر ، وقيل : هي الرّياح ، وقيل : السحاب ، والأوّل أولى . واليسر : السهل في كل شيء { فالمقسمات أَمْراً } هي الملائكة التي تقسم الأمور . قال الفرّاء : تأتي بأمر مختلف : جبريل بالغلظة ، وميكائيل صاحب الرحمة ، وملك الموت يأتي بالموت ، وقيل : تأتي بأمر مختلف من الجدب ، والخصب ، والمطر ، والموت ، والحوادث . وقيل : هي السحب التي يقسم الله بها أمر العباد ، وقيل : إن المراد بالذاريات والحاملات والجاريات والمقسمات : الرياح ، فإنها توصف بجميع ذلك؛ لأنها تذرو التراب ، وتحمل السحاب ، وتجري في الهواء ، وتقسم الأمطار ، وهو ضعيف جدًّا . وانتصاب { أمراً } على المفعول به ، وقيل : على الحال ، أي : مأمورة ، والأوّل أولى { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لصادق } هذا جواب القسم ، أي : إنما توعدون من الثواب والعقاب ، لكائن لا محالة . و « مَا » يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية . ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها كونها أموراً بديعة مخالفة لمقتضى العادة ، فمن قدر عليها ، فهو قادر على البعث الموعود به . { والسماء ذَاتِ الحبك } قرأ الجمهور { الحبك } بضم الحاء والباء ، وقرىء بضم الحاء وسكون الباء ، وبكسر الحاء وفتح الباء ، وبكسر الحاء وضم الباء . قال ابن عطية : هي لغات ، والمراد بالسماء هنا : هي المعروفة ، وقيل : المراد بها السحاب ، والأوّل أولى .
واختلف المفسرون في تفسير الحبك؛ فقال مجاهد ، وقتادة ، والربيع ، وغيرهم : المعنى ذات الخلق المستوي الحسن . قال ابن الأعرابي : كل شيء أحكمته وأحسنت عمله ، فقد حبكته واحتبكته . وقال الحسن ، وسعيد بن جبير : ذات الزينة . وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : ذات النجوم . وقال الضحاك : ذات الطرائق ، وبه قال الفرّاء ، يقال لما تراه من الماء والرّمل إذا أصابته الريح : حبك . قال الفراء : الحبك بكسر : كل شيء كالرمل إذا مرّت به الريح الساكنة ، والماء إذا مرّت به الرّيح ، ويقال لدرع الحديد : حبك ، ومنه قول الشاعر :

كأنما جللها الحواك ... طنفسة في وشيها حباك
أي : طرق ، وقيل : الحبك : الشدّة ، والمعنى : والسماء ذات الشدّة ، والمحبوك : الشديد الخلق من فرس أو غيره ، ومنه قول الشاعر :
قد غدا يحملني في أنفه ... لاحق الأطلين محبوك ممرّ
وقول الآخر :
مرج الدين فأعددت له ... مشرف الحارك محبوك الكتد
قال الواحدي بعد حكاية القول الأوّل : هذا قول الأكثرين { إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } هذا جواب القسم بالسماء ذات الحبك أي : إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف متناقض في محمد صلى الله عليه وسلم . بعضكم يقول : إنه شاعر . وبعضكم يقول : إنه ساحر ، وبعضكم يقول : إنه مجنون . ووجه تخصيص القسم بالسماء المتصفة بتلك الصفة تشبيه أقوالهم في اختلافها باختلاف طرائق السماء ، واستعمال الحبك في الطرائق هو الذي عليه أهل اللغة ، وإن كان الأكثر من المفسرين على خلافه . على أنه يمكن أن ترجع تلك الأقوال في تفسير الحبك إلى هذا ، وذلك بأن يقال : إن ما في السماء من الطرائق يصح أن يكون سبباً لمزيد حسنها ، واستواء خلقها ، وحصول الزينة فيها ، ومزيد القوّة لها . وقيل : إن المراد بكونهم في قول مختلف أن بعضهم ينفي الحشر ، وبعضهم يشكّ فيه ، وقيل : كونهم يقرّون أن الله خالقهم ، ويعبدون الأصنام { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي : يصرف عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء به ، أو عن الحقّ ، وهو البعث والتوحيد من صرف . وقيل : يصرف عن ذلك الاختلاف من صرفه الله عنه بالعصمة والتوفيق ، يقال : أفكه يأفكه إفكاً أي : قلبه عن الشيء وصرفه عنه ، ومنه قوله تعالى : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } [ الأحقاف : 22 ] وقال مجاهد : يؤفن عنه من أفن ، والأفن : فساد العقل ، وقيل : يحرمه من حرم . وقال قطرب : يجدع عنه من جدع . وقال اليزيدي : يدفع عنه من دفع . { قُتِلَ الخراصون } هذا دعاء عليهم . وحكى الواحدي عن المفسرين جميعاً أن المعنى : لعن الكذابون . قال ابن الأنباري : والقتل إذا أخبر به عن الله كان بمعنى اللعن؛ لأن من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك . قال الفرّاء : معنى { قتل } : لعن . والخرّاصون : الكذابون الذين يتخرّصون فيما لا يعلمون ، فيقولون : إن محمداً مجنون كذاب شاعر ساحر . قال الزجاج : الخرّاصون : هم الكذابون ، والخرص : حزر ما على النخل من الرّطب تمراً ، والخرّاص : الذي يخرصها ، وليس هو المراد هنا ، ثم قال : { الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ ساهون } أي : في غفلة وعمى جهالة عن أمور الآخرة ، ومعنى ساهون : لاهون غافلون ، والسهو : الغفلة عن الشيء وذهابه عن القلب ، وأصل الغمرة : ما ستر الشيء وغطاه ، ومنها غمرات الموت { يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين } أي : يقولون متى يوم الجزاء تكذيباً منهم واستهزاءً ، ثم أخبر سبحانه عن ذلك اليوم ، فقال : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } أي : يحرقون ويعذبون ، يقال : فتنت الذهب : إذا أحرقته لتختبره ، وأصل الفتنة : الاختبار .

قال عكرمة : ألم تر أن الذهب إذا أدخل النار قيل : فتن . وانتصاب { يوم } بمضمر ، أي : الجزاء يوم هم على النار ، ويجوز أن يكون بدلاً من { يوم الدين } ، والفتح للبناء لكونه مضافاً إلى الجملة ، وقيل : هو منصوب بتقدير أعني . وقرأ ابن أبي عبلة برفع : { يوم } على البدل من يوم الدين ، وجملة : { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } هي بتقدير القول ، أي : يقال لهم : ذوقوا عذابكم ، قاله ابن زيد . وقال مجاهد : حريقكم ، ورجح الأوّل الفرّاء ، وجملة : { هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } من جملة ما هو محكيّ بالقول ، أي : هذا ما كنتم تطلبون تعجيله استهزاءً منكم ، وقيل : هي بدل من فتنتكم . { إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } لما ذكر سبحانه حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة ، أي : هم في بستانين فيها عيون جارية لا يبلغ وصفها الواصفون { ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } أي : قابلين ما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة . وجملة : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } تعليل لما قبلها ، أي : لأنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة من فعل ما أمروا به ، وترك ما نهوا عنه . ثم بين إحسانهم الذي وصفهم به ، فقال : { كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } الهجوع : النوم بالليل دون النهار ، والمعنى : كانوا قليلاً ما ينامون من الليل ، و « ما » زائدة ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أو موصولة أي : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ، أو ما يهجعون فيه ، ومن ذلك قول أبي قيس بن الأسلت :
قد حصت البيضة رأسي ... فما أطعم نوماً غير تهجاع
والتهجاع : القليل من النوم ، ومن ذلك قول عمرو بن معدي كرب .
أمن ريحانة الداعي السميع ... يهيجني وأصحابي هجوع
وقيل : « ما » نافية ، أي : ما كانوا ينامون قليلاً من الليل ، فكيف بالكثير منه ، وهذا ضعيف جدًّا . وهذا قول من قال : إن المعنى كان عددهم قليلاً . ثم ابتدأ فقال : { مَا يَهْجَعُونَ } وبه قال ابن الأنباري ، وهو أضعف مما قبله . وقال قتادة في تفسير هذه الآية : كانوا يصلون بين العشاءين ، وبه قال أبو العالية ، وابن وهب . { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي : يطلبون في أوقات السحر من الله سبحانه أن يغفر ذنوبهم . قال الحسن : مدّوا الصلاة إلى الأسحار . ثم أخذوا بالأسحار الاستغفار . وقال الكلبي ، ومقاتل ، ومجاهد : هم بالأسحار يصلون ، وذلك أن صلاتهم طلب منهم للمغفرة . وقال الضحاك : هي صلاة الفجر . ثم ذكر سبحانه صدقاتهم فقال : { وفي أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم } أي : يجعلون في أموالهم على أنفسهم حقاً للسائل والمحروم تقرّباً إلى الله عزّ وجلّ . وقال محمد بن سيرين ، وقتادة : الحق هنا : الزكاة المفروضة ، والأوّل أولى ، فيحمل على صدقة النفل ، وصلة الرحم ، وقري الضيف؛ لأن السورة مكية ، والزكاة لم تفرض إلاّ بالمدينة ، وسيأتي في سورة { سأل سائل } :

{ والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ لَّلسَّائِلِ والمحروم } [ المعارج : 24 ، 25 ] بزيادة معلوم ، والسائل هو : الذي يسأل الناس لفاقته .
واختلف في تفسير المحروم ، فقيل : هو الذي يتعفف عن السؤال حتى يحسبه الناس غنياً ، فلا يتصدّقون عليه ، وبه قال قتادة ، والزهري . وقال الحسن ، ومحمد ابن الحنفية : هو الذي لا سهم له في الغنيمة ، ولا يجري عليه من الفيء شيء . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أصيب ثمره ، أو زرعه ، أو ماشيته . قال القرطبي : هو الذي أصابته الجائحة . وقيل : الذي لا يكتسب . وقيل : هو الذي لا يجد غنى يغنيه ، وقيل : هو الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه . وقيل : هو المملوك . وقيل : الكلب . وقيل غير ذلك . قال الشعبي : لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم ، فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ ، والذي ينبغي التعويل عليه ما يدلّ عليه المعنى اللغوي ، والمحروم في اللغة : الممنوع ، من الحرمان وهو المنع ، فيدخل تحته من حرم الرزق من الأصل ، ومن أصيب ماله بجائحة أذهبته ، ومن حرم العطاء ، ومن حرم الصدقة لتعففه . ثم ذكر سبحانه ما نصبه من الدلائل الدالة على توحيده ، وصدق وعده ووعيده ، فقال : { وَفِى الأرض ءايات لّلْمُوقِنِينَ } أي : دلائل واضحة ، وعلامات ظاهرة من الجبال والبرّ والبحر والأشجار والأنهار والثمار ، وفيها آثار الهلاك للأمم الكافرة المكذّبة لما جاءت به رسل الله ودعتهم إليه ، وخص الموقنين بالله لأنهم الذين يعترفون بذلك ويتدبرون فيه ، فينتفعون به { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أي : وفي أنفسكم آيات تدلّ على توحيد الله وصدق ما جاءت به الرّسل ، فإنه خلقهم نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ثم عظماً ، إلى أن ينفخ فيه الروح . ثم تختلف بعد ذلك صورهم ، وألوانهم ، وطبائعهم ، وألسنتهم ، ثم نفس خلقهم على هذه الصفة العجيبة الشأن من لحم ودم ، وعظم وأعضاء ، وحواسّ ومجاري ومنافس . ومعنى { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } : أفلا تنظرون بعين البصيرة ، فتستدلون بذلك على الخالق الرّازق المتفرّد بالألوهية ، وأنه لا شريك له ولا ضدّ ولا ندّ ، وأن وعده الحقّ ، وقوله الحقّ ، وأن ما جاءت إليكم به رسله هو الحقّ الذي لا شك فيه ، ولا شبهة تعتريه . وقيل : المراد بالأنفس : الأرواح ، أي : وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات { وَفِى السماء رِزْقُكُمْ } أي : سبب رزقكم ، وهو المطر ، فإنه سبب الأرزاق . قال سعيد بن جبير ، والضحاك : الرزق هنا : ما ينزل من السماء من مطر وثلج . وقيل : المراد بالسماء : السحاب ، أي : وفي السحاب رزقكم ، وقيل : المراد بالسماء : المطر ، وسماه سماء؛ لأنه ينزل من جهتها ، ومنه قول الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
وقال ابن كيسان : يعني : وعلى رب السماء رزقكم ، قال : ونظيره :

{ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] وهو بعيد . وقال سفيان الثوري : أي : عند الله في السماء رزقكم . وقيل المعنى : وفي السماء تقدير رزقكم . قرأ الجمهور { رزقكم } بالإفراد ، وقرأ يعقوب ، وابن محيصن ، ومجاهد ( أرزاقكم ) بالجمع { وَمَا تُوعَدُونَ } من الجنة والنار ، قاله مجاهد . قال عطاء : من الثواب والعقاب ، وقال الكلبي : من الخير والشرّ ، قال ابن سيرين : ما توعدون من أمر الساعة ، وبه قال الربيع . والأولى الحمل على ما هو أعمّ من هذه الأقوال ، فإن جزاء الأعمال مكتوب في السماء ، والقضاء والقدر ينزل منها ، والجنة والنار فيها . ثم أقسم سبحانه بنفسه ، فقال : { فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } أي : ما أخبركم به في هذه الآيات . قال الزجاج : هو ما ذكر من أمر الرزق والآيات . قال الكلبي : يعني : ما قصّ في الكتاب . وقال مقاتل : يعني : من أمر الساعة . وقيل : إن " مَا " في قوله : { وَمَا تُوعَدُونَ } مبتدأ ، وخبره : { فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ } ، فيكون الضمير لما . ثم قال سبحانه : { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } قرأ الجمهور بنصب { مثل } على تقدير : كمثل نطقكم و " ما " زائدة ، كذا قال بعض الكوفيون : إنه منصوب بنزع الخافض . وقال الزجاج ، والفراء : يجوز أن ينتصب على التوكيد ، أي : لحق حقاً مثل نطقكم . وقال المازني : إن «مثل» مع «ما» بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح . وقال سيبويه : هو مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو بكر ، والأعمش : ( مثل ) بالرفع على أنه صفة لحقّ لأن مثل نكرة وإن أضيفت ، فهي لا تتعرّف بالإضافة كغير . ورجح قول المازني أبو عليّ الفارسي قال : ومثله قول حميد :
وويحاً لمن لم يدر ما هنّ ويحما ... فبني ويح مع ما ولم يلحقه التنوين ، ومعنى الآية تشبيه : تحقيق ما أخبر الله عنه بتحقيق نطق الآدمي ووجوده ، وهذا كما تقول : إنه لحق كما أنك ها هنا ، وإنه لحق كما أنك تتكلم ، والمعنى : أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، والدارقطني في الأفراد ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله : { والذريات ذَرْواً } قال : الرياح { فالحاملات وِقْراً } قال : السحاب { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن { فالمقسمات أَمْراً } قال : الملائكة . وأخرج البزار ، والدارقطني في الإفراد ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب مثله ، ورفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي إسناده أبو بكر بن سبرة ، وهو لين الحديث ، وسعيد بن سلام ، وليس من أصحاب الحديث ، كذا قال البزار .

قال ابن كثير : فهذا الحديث ضعيف رفعه ، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر . وأخرج الفريابي ، وابن مردويه عن ابن عباس مثل قول عليّ . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس { والسماء ذَاتِ الحبك } قال : حسنها واستواؤها . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عنه في الآية قال : ذات البهاء والجمال ، وإن بنيانها كالبرد المسلسل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : ذات الخلق الحسن . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن ابن عمر مثله . وأخرج ابن منيع عن عليّ قال : هي السماء السابعة . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } قال : يضلّ عنه من ضلّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { قُتِلَ الخرصون } قال : لعن المرتابون . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : هم الكهنة { الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ ساهون } قال : في غفلة لاهون . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الغمرة : الكفر والشك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : في ضلالتهم يتمادون ، وفي قوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } قال : يعذبون . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً في قوله : { ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } قال : الفرائض { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } قال : قبل أن تنزل الفرائض يعملون . وأخرج هؤلاء أيضاً ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً { كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ } قال : ما تأتي عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلاّ يصلون فيها . وأخرج ابن نصر ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً في الآية يقول : قليلاً ما كانوا ينامون . وأخرج أبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أنس في الآية قال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء . وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عمر { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال : يصلون . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { فِى أموالهم حَقٌّ } قال : سوى الزكاة يصل بها رحماً ، أو يقري بها ضيفاً ، أو يعين بها محروماً . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : السائل الذي يسأل الناس ، والمحروم الذي ليس له سهم من فيء المسلمين . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : المحروم هو المحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ، ولا يسأل الناس ، فأمر الله المؤمنين برفده . وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت : هو المحارف الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه . وأخرج الترمذي ، والبيهقي في سننه عن فاطمة بنت قيس ، أنها سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية قال : « إن في المال حقاً سوى الزكاة » ، وتلا هذه الآية { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ } إلى قوله : { وَفِي الرقاب وَأَقَامَ الصلاة وَءاتَى الزكواة } [ البقرة : 177 ] . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الزبير في قوله : { وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } قال : سبيل الغائط والبول .

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)

قوله : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم المكرمين } ذكر سبحانه قصة إبراهيم؛ ليبين أنه أهلك بسبب التكذيب من أهلك . وفي الاستفهام تنبيه على أن هذا الحديث ليس مما قد علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه إنما علمه بطريق الوحي . وقيل : إن « هل » بمعنى « قد » ، كما في قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر } [ الإنسان : 1 ] والضيف مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة ، وقد تقدم الكلام على قصة ضيف إبراهيم في سورة هود ، وسورة الحجر ، والمراد بكونهم مكرمين : أنهم مكرمون عند الله سبحانه؛ لأنهم ملائكة جاءوا إليه في صورة بني آدم ، كما قال تعالى في وصفهم في آية أخرى : « بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ » [ الأنبياء : 26 ] وقيل : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل . وقال مقاتل ، ومجاهد : أكرمهم إبراهيم وأحسن إليهم وقام على رؤوسهم ، وكان لا يقوم على رؤوس الضيف ، وأمر امرأته أن تخدمهم . وقال الكلبي : أكرمهم بالعجل { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } العامل في الظرف { حديث } أي : هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه ، أو العامل فيه : { ضيف } لأنه مصدر ، أو العامل فيه : { المكرمين } ، أو العامل فيه : فعل مضمر أي : اذكر { فَقَالُواْ سَلامًا } أي : نسلم عليك سلاماً { قَالَ سلام } أي : قال إبراهيم سلام . قرأ الجمهور بنصب { سلاماً } الأول ، ورفع الثاني ، فنصب الأوّل على المصدرية بتقدير الفعل كما ذكرنا ، والمراد به : التحية ، ويحتمل أن يكون المعنى : فقالوا كلاماً حسناً؛ لأنه كلام سلم به المتكلم من أن يلغو ، فيكون على هذا مفعولاً به . وأما الثاني : فرفعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، أي : عليكم سلام ، وعدل به إلى الرفع لقصد إفادة الجملة الاسمية للدوام والثبات ، بخلاف الفعلية فإنها لمجرد التجدّد والحدوث ، ولهذا قال أهل المعاني : إن سلام إبراهيم أبلغ من سلام الملائكة ، وقرىء بالرفع في الموضعين ، وقرىء بالنصب فيهما . وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بكسر السين ، وقرىء ( سلم ) فيهما ، { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ارتفاع قوم على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : أنتم قوم منكرون . قيل : إنه قال هذا في نفسه ولم يخاطبهم به؛ لأن ذلك يخالف الإكرام . قيل : إنه أنكرهم لكونهم ابتدءوا بالسلام ، ولم يكن ذلك معهوداً عند قومه ، وقيل : لأنه رأى فيهم ما يخالف بعض الصور البشرية ، وقيل : لأنه رآهم على غير صورة الملائكة الذين يعرفهم ، وقيل غير ذلك . { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ } قال الزجاج : أي : عدل إلى أهله ، وقيل : ذهب إليهم في خفية من ضيوفه ، والمعنى متقارب ، وقد تقدم تفسيره في سورة الصافات . يقال : راغ وارتاغ بمعنى طلب ، وماذا يريغ أي : يريد ويطلب ، وأراغ إلى كذا : مال إليه سرًّا وحاد { فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي : فجاء ضيفه بعجل قد شواه لهم ، كما في سورة هود :

{ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [ هود : 69 ] وفي الكلام حذف تدل عليه الفاء الفصيحة ، أي : فذبح عجلاً فحنذه فجاء به { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أي : قرّب العجل إليهم ووضعه بين أيديهم فقَال : { أَلاَ تَأْكُلُونَ } الاستفهام للإنكار ، وذلك أنه لما قربه إليهم لم يأكلوا منه . قال في الصحاح : العجل : ولد البقر والعجول مثله ، والجمع العجاجيل ، والأنثى عجلة ، وقيل : العجل في بعض اللغات الشاة { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } أي : أحسّ في نفسه خوفاً منهم لما لم يأكلوا مما قرّبه إليهم . وقيل : معنى أوجس : أضمر ، وإنما وقع له ذلك لما لم يتحرموا بطعامه . ومن أخلاق الناس أن من أكل من طعام إنسان صار آمناً منه ، فظن إبراهيم أنهم جاءوا للشرّ ، ولم يأتوا للخير . وقيل : إنه وقع في قلبه أنهم ملائكة ، فلما رأوا ما ظهر عليه من أمارات الخوف قالوا : { لاَ تَخَفْ } وأعلموه أنهم ملائكة مرسلون إليه من جهة الله سبحانه { وَبَشَّرُوهُ بغلام عَلَيمٍ } أي : بشروه بغلام يولد له كثير العلم عند أن يبلغ مبالغ الرجال ، والمبشر به عند الجمهور هو إسحاق . وقال مجاهد وحده : إنه إسماعيل ، وهو مردود بقوله : { وبشرناه بإسحاق } [ الصافات : 112 ] وقد قدّمنا تحقيق هذا المقام بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره . { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ } لم يكن هذا الإقبال من مكان إلى مكان ، وإنما هو كقولك : أقبل يشتمني ، أي : أخذ في شتمي ، كذا قال الفراء ، وغيره . والصرّة : الصيحة والضجة ، وقيل : الجماعة من الناس . قال الجوهري : الصرّة : الضجة والصيحة ، والصرّة : الجماعة ، والصرّة : الشدّة من كرب أو غيره ، والمعنى : أنها أقبلت في صيحة ، أو في ضجة ، أو في جماعة من الناس يستمعون كلام الملائكة ، ومن هذا قول امرىء القيس :
فألحقه بالهاديات ودونه ... جراجرها في صرّة لم تزيل
وقوله : { فِى صَرَّةٍ } في محل نصب على الحال { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } أي : ضربت بيدها على وجهها ، كما جرت بذلك عادة النساء عند التعجب . قال مقاتل ، والكلبي : جمعت أصابعها ، فضربت جبينها تعجباً . ومعنى الصكّ : ضرب الشيء بالشيء العريض ، يقال : صكه أي : ضربه { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي : كيف ألد وأنا عجوز عقيم؟ استبعدت ذلك لكبر سنها؛ ولكونها عقيماً لا تلد { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } أي : كما قلنا لك وأخبرناك قال ربك ، فلا تشكي في ذلك ولا تعجبي منه ، فإن ما أراده الله كائن لا محالة ، ولم نقل ذلك من جهة أنفسنا ، وقد كانت إذ ذاك بنت تسع وتسعين سنة ، وإبراهيم ابن مائة سنة ، وقد سبق بيان هذا مستوفى ، وجملة : { إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم } تعليل لما قبلها أي : حكيم في أفعاله وأقواله ، عليم بكل شيء . وجملة : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } مستأنفة جواباً عن سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال إبراهيم بعد هذا القول من الملائكة؟ والخطب : الشأن والقصة ، والمعنى : فما شأنكم وما قصتكم أيها المرسلون من جهة الله ، وما ذاك الأمر الذي لأجله أرسلكم سوى هذه البشارة؟ { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } يريدون : قوم لوط .

{ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ } أي : لنرجمهم بحجارة من طين متحجر ، وانتصاب { مُّسَوَّمَةً } على الصفة لحجارة ، أو على الحال في الضمير المستكنّ في الجار والمجرور ، أو من الحجارة؛ لكونها قد وصفت بالجار والمجرور ، ومعنى { مُّسَوَّمَةً } : معلمة بعلامات تعرف بها ، قيل : كانت مخططة بسواد وبياض ، وقيل : بسواد وحمرة ، وقيل : معروفة بأنها حجارة العذاب ، وقيل : مكتوب على كل حجر من يهلك بها ، وقوله : { عِندَ رَبّكَ } ظرف لمسوّمة ، أي : معلمة عنده { لِلْمُسْرِفِينَ } المتمادين في الضلالة المجاوزين الحدّ في الفجور . وقال مقاتل : للمشركين ، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها . { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين } هذا كلام من جهة الله سبحانه ، أي : لما أردنا إهلاك قوم لوط أخرجنا من كان في قرى قوم لوط من قومه المؤمنين به { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } أي : غير أهل بيت . يقال : بيت شريف ويراد به أهله ، قيل : وهم أهل بيت لوط ، والإسلام : الانقياد والاستسلام لأمر الله سبحانه ، فكل مؤمن مسلم ، ومن ذلك قوله : { قَالَتِ الأعراب ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } [ الحجرات : 14 ] وقد أوضح الفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الإسلام والإيمان في الحديث في الصحيحين ، وغيرهما الثابت من طرق أنه سئل عن الإسلام ، فقال : « أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان » ، وسئل عن الإيمان ، فقال : « أن تؤمن بالله ، وملائكته وكتبه ورسله ، والقدر خيره وشرّه » ، فالمرجع في الفرق بينهما هو هذا الذي قاله الصادق المصدوق ، ولا التفات إلى غيره مما قاله أهل العلم في رسم كل واحد منهما برسوم مضطربة مختلفة مختلة متناقضة ، وأما ما في الكتاب العزيز من اختلاف مواضع استعمال الإسلام والإيمان ، فذلك باعتبار المعاني اللغوية والاستعمالات العربية ، والواجب تقديم الحقيقة الشرعية على اللغوية ، والحقيقة الشرعية هي هذه التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأجاب سؤال السائل له عن ذلك بها { وَتَرَكْنَا فِيهَا ءايَةً لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم } أي : وتركنا في تلك القرى علامة ، ودلالة تدل على ما أصابهم من العذاب ، كلّ من يخاف عذاب الله ، ويخشاه من أهل ذلك الزمان ومن بعدهم ، وهذه الآية هي آثار العذاب في تلك القرى ، فإنها ظاهرة بينة ، وقيل : هي الحجارة التي رجموا بها ، وإنما خصّ الذين يخافون العذاب الأليم؛ لأنهم الذين يتعظون بالمواعظ ، ويتفكرون في الآيات دون غيرهم ممن لا يخاف ذلك وهم المشركون المكذبون بالبعث ، والوعد والوعيد .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فِى صَرَّةٍ } قال : في صيحة { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } قال : لطمت . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين } قال : لوط وابنتيه . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : كانوا ثلاثة عشر .

وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

قوله : { وَفِى موسى } معطوف على قوله : { فيها } بإعادة الخافض ، والتقدير : وتركنا في قصة موسى آية ، أو معطوف على { وَفِى الأرض } والتقدير : وفي الأرض ، وفي موسى آيات ، قاله الفراء ، وابن عطية ، والزمخشري . قال أبو حيان : وهو بعيد جداً ينزّه القرآن عن مثله ، ويجوز أن يكون متعلقاً بجعلنا مقدّراً لدلالة وتركنا عليه قيل : ويجوز أن يعطف على { وَتَرَكْنَا } على طريقة قول القائل :
علفتها تبناً وماء بارداً ... والتقدير : وتركنا فيها آية ، وجعلنا في موسى آية . قال أبو حيان : ولا حاجة إلى إضمار ، وجعلنا لأنه قد أمكن أن يكون العامل في المجرور وتركنا . والوجه الأوّل هو الأولى ، وما عداه متكلف متعسف لم تلجىء إليه حاجة ، ولا دعت إليه ضرورة { إِذْ أرسلناه إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ } الظرف متعلق بمحذوف هو نعت لآية ، أي : كائنة وقت أرسلناه ، أو بآية نفسها ، والأوّل أولى . والسلطان المبين : الحجة الظاهرة الواضحة ، وهي العصا ، وما معها من الآيات { فتولى بِرُكْنِهِ } التولي : الإعراض ، والركن : الجانب ، قاله الأخفش . والمعنى : أعرض بجانبه ، كما في قوله : { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } [ الإسراء : 83 ] قال الجوهري : ركن الشيء : جانبه الأقوى ، وهو يأوي إلى ركن شديد ، أي : عزّ ومنعة . وقال ابن زيد ، ومجاهد ، وغيرهما : الركن : جمعه وجنوده الذين كان يتقوّى بهم ، ومنه قوله تعالى : { أَوْ آوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود : 80 ] أي : عشيرة ومنعة ، وقيل : الركن : نفس القوّة ، وبه قال قتادة وغيره ، ومنه قول عنترة :
فما أوهى مراس الحرب ركني ... ولكن ما تقادم من زماني
{ وَقَالَ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ } أي : قال فرعون في حقّ موسى : هو ساحر ، أو مجنون ، فردّد فيما رآه من أحوال موسى بين كونه ساحراً ، أو مجنوناً ، وهذا من اللعين مغالطة وإيهام لقومه ، فإنه يعلم أن ما رآه من الخوارق لا يتيسر على يد ساحر ، ولا يفعله من به جنون . وقيل : إن « أو » بمعنى الواو؛ لأنه قد قال ذلك جميعاً ولم يتردّد ، قاله المؤرج ، والفرّاء ، كقوله : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] . { فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم } أي : طرحناهم في البحر ، وجملة : { وَهُوَ مُلِيمٌ } في محل نصب على الحال ، أي : آت بما يلام عليه حين ادّعى الربوبية ، وكفر بالله وطغى في عصيانه { وَفِى عَادٍ } أي : وتركنا في قصة عاد آية { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } وهي التي لا خير فيها ولا بركة ، لا تلقح شجراً ولا تحمل مطراً ، إنما هي ريح الإهلاك والعذاب . ثم وصف سبحانه هذه الريح فقال : { مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } أي : ما تذر من شيء مرّت عليه من أنفسهم ، وأنعامهم ، وأموالهم إلاّ جعلته كالشيء الهالك البالي .

قال الشاعر :
تركتني حين كفّ الدهر من بصري ... وإذ بقيت كعظم الرّمة البالي
وقال قتادة : إنه الذي ديس من يابس النبات ، وقال السديّ ، وأبو العالية : إنه التراب المدقوق ، وقال قطرب : إنه الرماد ، وأصل الكلمة من رمّ العظم : إذا بلي فهو رميم ، والرّمة : العظام البالية . { وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } أي : وتركنا في قصة ثمود آية وقت قلنا لهم : عيشوا متمتعين بالدنيا إلى حين وقت الهلاك ، وهو ثلاثة أيام ، كما في قوله : { تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] . { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ } أي : تكبروا عن امتثال أمر الله { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } وهي كل عذاب مهلك . قرأ الجمهور { الصاعقة } وقرأ عمر بن الخطاب ، وحميد ، وابن محيصن ، ومجاهد ، والكسائي ( الصعقة ) ، وقد مرّ الكلام على الصاعقة في البقرة ، وفي مواضع { وَهُمْ يَنظُرُونَ } أي : يرونها عياناً ، والجملة في محل نصب على الحال ، وقيل : إن المعنى : ينتظرون ما وعدوه من العذاب ، والأوّل أولى { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } أي : لم يقدروا على القيام . قال قتادة : من نهوض ، يعني : لم ينهضوا من تلك الصرعة ، والمعنى : أنهم عجزوا عن القيام فضلاً عن الهرب . ومثله قوله : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين } [ الأعراف : 78 ] { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } أي : ممتنعين من عذاب الله بغيرهم { وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ } أي : من قبل هؤلاء المهلكين ، فإن زمانهم متقدّم على زمن فرعون ، وعاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين } أي : خارجين عن طاعة الله . قرأ حمزة ، والكسائي ، وأبو عمرو بخفض ( قوم ) أي : وفي قوم نوح آية . وقرأ الباقون بالنصب . أي : وأهلكنا قوم نوح ، أو هو معطوف على مفعول أخذتهم الصاعقة ، أو على مفعول نبذناهم أي : نبذناهم ، ونبذنا قوم نوح ، أو يكون العامل فيه اذكر . { والسماء بنيناها بِأَيْدٍ } أي : بقوّة وقدرة ، قرأ الجمهور بنصب { السماء } على الاشتغال ، والتقدير : وبنينا السماء بنيناها . وقرأ أبو السماك ، وابن مقسم برفعها على الابتداء { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } الموسع ذو الوسع : والسعة ، والمعنى : إنا لذو سعة بخلقها ، وخلق غيرها لا نعجز عن ذلك ، وقيل : لقادرون ، من الوسع بمعنى : الطاقة والقدرة ، وقيل : إنا لموسعون الرزق بالمطر . قال الجوهري : وأوسع الرجل : صار ذا سعة وغنى { والأرض فرشناها } قرأ الجمهور بنصب { الأرض } على الاشتغال . وقرأ أبو السماك ، وابن مقسم برفعها ، كما تقدّم في قوله : { والسماء بنيناها } ومعنى { فرشناها } : بسطناها كالفراش { فَنِعْمَ الماهدون } أي : نحن ، يقال مهدت الفراش : بسطته ووطأته ، وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها { وَمِن كُلّ شَىْء خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أي : صنفين ، ونوعين من ذكر وأنثى ، وبرّ وبحر ، وشمس وقمر ، وحلو ومرّ ، وسماء وأرض ، وليل ونهار ، ونور وظلمة ، وجنّ وإنس ، وخير وشرّ { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : خلقنا ذلك هكذا لتتذكروا ، فتعرفوا أنه خالق كل شيء ، وتستدلوا بذلك على توحيده ، وصدق وعده ووعيده .

{ فَفِرُّواْ إِلَى الله إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي : قل لهم يا محمد : ففرّوا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم عن الكفر والمعاصي ، وجملة : { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } تعليل للأمر بالفرار ، وقيل : معنى { فَفِرُّواْ إِلَى الله } اخرجوا من مكة . وقال الحسين بن الفضل : احترزوا من كل شيء غير الله ، فمن فرّ إلى غيره لم يمتنع منه . وقيل : فرّوا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن ، وقيل : فرّوا من الجهل إلى العلم ، ومعنى : { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ } أي : من جهته منذر بين الإنذار { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } نهاهم عن الشرك بالله بعد أمرهم بالفرار إلى الله ، وجملة { إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } : تعليل للنهي . { كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ } في هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان أن هذا شأن الأمم المتقدمة وأن ما وقع من العرب من التكذيب لرسول الله ، ووصفه بالسحر ، والجنون قد كان ممن قبلهم لرسلهم ، و { كذلك } في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر كذلك . ثم فسر ما أجمله بقوله : { مَا أَتَى } إلخ ، أو في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف ، أي : أنذركم إنذاراً كإنذار من تقدّمني من الرسل الذين أنذروا قومهم ، والأوّل أولى { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والتعجيب من حالهم ، أي : هل أوصى أوّلهم آخرهم بالتكذيب ، وتواطئوا عليه؟ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون } إضراب عن التواصي إلى ما جمعهم من الطغيان أي : لم يتواصوا بذلك ، بل جمعهم الطغيان ، وهو مجاوزة الحدّ في الكفر . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم ، فقال : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : أعرض عنهم ، وكفّ عن جدالهم ، ودعائهم إلى الحق ، فقد فعلت ما أمرك الله به وبلغت رسالته { فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } عند الله بعد هذا؛ لأنك قد أدّيت ما عليك ، وهذا منسوخ بآية السيف . ثم لما أمره بالإعراض عنهم أمره بأن لا يترك التذكير ، والموعظة بالتي هي أحسن فقال : { وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } قال الكلبي : المعنى : عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم . وقال مقاتل : عظ كفار مكة فإن الذكرى تنفع من كان في علم الله أنه يؤمن . وقيل : ذكرهم بالعقوبة وأيام الله ، وخصّ المؤمنين بالتذكير لأنهم المنتفعون به . وجملة { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } : مستأنفة مقرّرة لما قبلها . أن كون خلقهم؛ لمجرّد العبادة مما ينشط رسول الله للتذكير ، وينشطهم للإجابة . قيل : هذا خاصّ في من سبق في علم الله سبحانه أنه يعبده ، فهو عموم مراد به الخصوص .

قال الواحدي : قال المفسرون : هذا خاصّ لأهل طاعته ، يعني : من أُهِّل من الفريقين . قال : وهذا قول الكلبي ، والضحاك ، واختيار الفراء ، وابن قتيبة . قال القشيري : والآية دخلها التخصيص بالقطع؛ لأن المجانين لم يؤمروا بالعبادة ، ولا أرادها منهم ، وقد قال : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس } [ الأعراف : 179 ] ومن خلق لجهنم لا يكون ممن خلق للعبادة . فالآية محمولة على المؤمنين منهم ، ويدل عليه قراءة ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب : ( وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين إلاّ ليعبدون ) . وقال مجاهد : إن المعنى : إلاّ ليعرفوني . قال الثعلبي : وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لما عرف وجوده وتوحيده . وروي عن مجاهد أنه قال : المعنى : إلاّ لآمرهم وأنهاهم ، ويدل عليه قوله : { وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ التوبة : 31 ] واختار هذا الزجاج . وقال زيد بن أسلم : هو ما جبلوا عليه من السعادة والشقاوة ، فخلق السعداء من الجن والإنس للعبادة ، وخلق الأشقياء للمعصية . وقال الكلبي : المعنى : إلاّ ليوحدون ، فأما المؤمن ، فيوحده في الشدّة والرخاء ، وأما الكافر ، فيوحده في الشدّة دون النعمة ، كما في قوله : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ لقمان : 32 ] وقال جماعة : إلاّ ليخضعوا لي ويتذللوا ، ومعنى العبادة في اللغة : الذل والخضوع والانقياد ، وكل مخلوق من الإنس والجنّ خاضع لقضاء الله متذلل لمشيئته منقاد لما قدّره عليه . خلقهم على ما أراد ، ورزقهم كما قضى ، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعاً ، ولا ضرًّا . ووجه تقديم الجن على الإنس ها هنا تقدم وجودهم . { مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } هذه الجملة فيها بيان استغنائه سبحانه عن عباده ، وأنه لا يريد منهم منفعة ، كما تريده السادة من عبيدهم ، بل هو الغنيّ المطلق الرازق المعطي . وقيل المعنى : ما أريد منهم أن يرزقوا أحداً من خلقي ، ولا أن يرزقوا أنفسهم ، ولا يطعموا أحداً من خلقي ، ولا يطعموا أنفسهم ، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عيال الله ، فمن أطعم عيال الله ، فهو كمن أطعمه . وهذا كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم : «يقول الله : عبدي استطعمتك فلم تطعمني» ، أي : لم تطعم عبادي ، و " من " في قوله : { مِن رّزْقِ } زائدة لتأكيد العموم . ثم بيّن سبحانه أنه هو الرزاق لا غيره ، فقال : { إِنَّ الله هُوَ الرزاق } لا رزاق سواه ، ولا معطي غيره ، فهو الذي يرزق مخلوقاته ، ويقوم بما يصلحهم فلا يشتغلوا بغير ما خلقوا له من العبادة { ذُو القوة المتين } ارتفاع المتين على أنه وصف للرزاق ، أو لذو ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر بعد خبر . قرأ الجمهور : { الرزاق } وقرأ ابن محيصن : ( الرازق ) وقرأ الجمهور { المتين } بالرفع ، وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش بالجرّ صفة للقوّة ، والتذكير لكون تأنيثها غير حقيقي .

قال الفراء : كان حقه المتينة فذكرها؛ لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرم المحكم الفتل ، يقال : حبل متين ، أي : محكم الفتل ، ومعنى المتين : الشديد القوّة هنا { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم } أي : ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي ، فإن لهم ذنوباً ، أي : نصيباً من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السابقة . قال ابن الأعرابي : يقال : يوم ذنوب ، أي : طويل الشرّ لا ينقضي ، وأصل الذنوب في اللغة : الدلو العظيمة ، ومن استعمال الذنوب في النصيب من الشيء قول الشاعر :
لعمرك والمنايا طارقات ... لكلّ بني أب منها ذنوب
وما في الآية مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالدلو الكبير ، فهو تمثيل جعل الذنوب مكان الحظ والنصيب ، قاله ابن قتيبة { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أي : لا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب ، كما في قولهم : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الأعراف : 70 ] { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ } قيل : هو يوم القيامة ، وقيل : يوم بدر ، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر في قوله : { فتولى بِرُكْنِهِ } عن ابن عباس قال : بقومه . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عنه في قوله : { الريح العقيم } قال : الشديدة التي لا تلقح شيئًا . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : لا تلقح الشجر ولا تثير السحاب ، وفي قوله : { إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } قال : كالشيء الهالك . وأخرج الفريابي ، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب قال : الريح العقيم : النكباء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : { والسماء بنيناها بِأَيْدٍ } قال : بقوّة . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر عنه في قوله : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ } قال : أمره الله أن يتولى عنهم ليعذبهم ، وعذر محمداً صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : { وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } ، فنسختها . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } قال : ليقرّوا بالعبودية طوعاً أو كرهاً . وأخرج ابن المنذر عنه في الآية قال : على ما خلقتهم عليه من طاعتي ومعصيتي ، وشقوتي وسعادتي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه أيضاً في قوله : { المتين } يقول : الشديد . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { ذَنُوباً } قال : دلواً .

وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)

قوله : { والطور } قال الجوهري : هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى . قال مجاهد ، والسديّ : الطور بالسريانية الجبل ، والمراد به طور سيناء . قال مقاتل بن حيان : هما طوران ، يقال لأحدهما : طور سيناء ، وللآخر : طور زيتا؛ لأنهما ينبتان التين والزيتون . وقيل : هو جبل مدين ، وقيل : إن الطور كل جبل ينبت ، وما لا ينبت فليس بطور ، أقسم الله سبحانه بهذا الجبل تشريفاً له وتكريماً . { وكتاب مُّسْطُورٍ } المسطور : المكتوب ، والمراد بالكتاب : القرآن ، وقيل : هو اللوح المحفوظ ، وقيل : جميع الكتب المنزلة ، وقيل : ألواح موسى ، وقيل : ما تكتبه الحفظة ، قاله الفراء ، وغيره ، ومثله : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَابًا يلقاه مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] وقوله : { وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ } [ التكوير : 10 ] { فِى رَقّ مَّنْشُورٍ } متعلق بمسطور ، أي : مكتوب في رقّ . قرأ الجمهور { في رق } بفتح الراء ، وقرأ أبو السماك بكسرها . قال الجوهري : الرقّ بالفتح ما يكتب فيه ، وهو جلد رقيق ، ومنه قوله تعالى : { فِى رَقّ مَّنْشُورٍ } قال المبرد : الرقّ ما رقّ من الجلد ليكتب فيه ، والمنشور : المبسوط . قال أبو عبيدة : وجمعه رقوق ، ومن هذا قول المتلمس :
فكأنما هي من تقادم عهدها ... رقّ أتيح كتابها مسطور
وأما الرقّ بالكسر ، فهو المملوك ، يقال : عبد رقّ ، وعبد مرقوق . { والبيت المعمور } في السماء السابعة . وقيل : في سماء الدنيا ، وقيل : هو الكعبة ، فعلى القولين الأوّلين يكون وصفه بالعمارة باعتبار من يدخل إليه من الملائكة ، ويعبد الله فيه . وعلى القول الثالث ، يكون وصفه بالعمارة حقيقة أو مجازاً باعتبار كثرة من يتعبد فيه من بني آدم { والسقف المرفوع } يعني : السماء ، سماها سقفاً لكونها كالسقف للأرض ، ومنه قوله : { وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } [ الأنبياء : 32 ] وقيل : هو العرش { والبحر المسجور } أي : الموقد ، من السجر : وهو إيقاد النار في التنور ، ومنه قوله : { وَإِذَا البحار سُجّرَتْ } [ التكوير : 6 ] وقد روي أن البحار تسجر يوم القيامة فتكون ناراً ، وقيل : المسجور : المملوء ، قيل : إنه من أسماء الأضداد ، يقال : بحر مسجور أي : مملوء ، وبحر مسجور ، أي : فارغ ، وقيل : المسجور : الممسوك ، ومنه ساجور الكلب لأنه يمسكه . وقال أبو العالية : المسجور : الذي ذهب ماؤه ، وقيل : المسجور : المفجور ، ومنه : { وَإِذَا البحار فُجّرَتْ } [ الإنفطار : 3 ] وقال الربيع بن أنس : هو الذي يختلط فيه العذب بالمالح . والأوّل أولى ، وبه قال مجاهد ، والضحاك ، ومحمد بن كعب ، والأخفش ، وغيرهم . { إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ لَوَاقِعٌ } هذا جواب القسم ، أي : كائن لا محالة لمن يستحقه { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } يدفعه ويرده عن أهل النار ، وهذه الجملة خبر ثان لإن ، أو صفة لواقع ، و « من » مزيدة للتأكيد . ووجه تخصيص هذه الأمور بالإقسام بها أنها عظيمة دالة على كمال القدرة الربانية .

{ يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً } العامل في الظرف { لواقع } ، أي : إنه لواقع في هذا اليوم ، ويجوز أن يكون العامل فيه { دافع } . والمور : الاضطراب والحركة . قال أهل اللغة : مار الشيء يمور موراً : إذا تحرك وجاء وذهب ، قاله الأخفش ، وأبو عبيدة : وأنشدا بيت الأعشى :
كأن مشيها من بيت جارتها ... مشي السحابة لا ريث ولا عجل
وليس في البيت ما يدلّ على ما قالاه إلاّ إذا كانت هذه المشية المذكورة في البيت يطلق المور عليها لغة . وقال الضحاك : يموج بعضها في بعض ، وقال مجاهد : تدور دوراً ، وقيل : تجرى جرياً ، ومنه قول الشاعر :
وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
ويطلق المور على الموج ، ومنه : ناقة موارة اليد ، أي : سريعة تموج في مشيها موجاً ، ومعنى الآية : أن العذاب يقع بالعصاة ، ولا يدفعه عنهم دافع في هذا اليوم الذي تكون فيه السماء هكذا ، وهو يوم القيامة . وقيل : إن السماء ها هنا الفلك ، وموره : اضطراب نظمه واختلاف سيره . { وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } أي : تزول عن أماكنها ، وتسير عن مواضعها كسير السحاب ، وتكون هباءً منبثاً ، قيل : ووجه تأكيد الفعلين بالمصدر الدالة على غرابتها ، وخروجهما عن المعهود ، وقد تقدّم تفسير مثل هذا في سورة الكهف . { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ } ويل : كلمة تقال للهالك ، واسم واد في جهنم ، وإنما دخلت الفاء لأن في الكلام معنى المجازاة ، أي : إذا وقع ما ذكر من مور السماء ، وسير الجبال فويل لهم . ثم وصف المكذبين بقوله : { الذين هُمْ فِى خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي : في تردّد في الباطل ، واندفاع فيه يلهون لا يذكرون حساباً ، ولا يخافون عقاباً . والمعنى : أنهم يخوضون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والاستهزاء ، وقيل : يخوضون في أسباب الدنيا ، ويعرضون عن الآخرة . { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } الدعّ : الدفع بعنف وجفوة ، يقال : دععته أدعه دعًّا ، أي : دفعته ، والمعنى : أنهم يدفعون إلى النار دفعاً عنيفاً شديداً . قال مقاتل : تغلّ أيديهم إلى أعناقهم ، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ، ثم يدفعون إلى جهنم دفعاً على وجوههم . قرأ الجمهور بفتح الدال وتشديد العين . وقرأ عليّ والسلمي ، وأبو رجاء ، وزيد بن عليّ ، وابن السميفع بسكون الدال وتخفيف العين مفتوحة أي : يدعون إلى النار من الدعاء . ويوم إما بدل من { يوم تمور } ، أو متعلق بالقول المقدر في الجملة التي بعد هذه ، وهي { هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } أي : يقال لهم ذلك يوم يدعون إلى نار جهنم دعًّا ، أي : هذه النار التي تشاهدونها هي النار التي كنتم تكذبون بها في الدنيا ، والقائل لهم بهذه المقالة هم خزنة النار ، ثم وبخهم سبحانه ، أو أمر ملائكته بتوبيخهم ، فقال : { أَفَسِحْرٌ هذا } الذي ترون وتشاهدون ، كما كنتم تقولون لرسل الله المرسلة ، ولكتبه المنزلة ، وقدّم الخبر هنا على المبتدأ لأنه الذي وقع الاستفهام عنه ، وتوجه التوبيخ إليه { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } أي : أم أنتم عمي عن هذا ، كما كنتم عمياً عن الحقّ في الدنيا { اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } أي : إذا لم يمكنكم إنكارها ، وتحققتم أن ذلك ليس بسحر ، ولم يكن في أبصاركم خلل ، فالآن ادخلوها وقاسوا شدّتها ، فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا ، وافعلوا ما شئتم ، فالأمران { سَوَاء عَلَيْكُمْ } في عدم النفع ، وقيل : أيضاً تقول لهم الملائكة هذا القول ، { وَسَوَآء } خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمران سواء ، ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف ، أي : سواء عليكم الصبر وعدمه ، وجملة : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تعليل للاستواء ، فإن الجزاء بالعمل إذا كان واقعاً حتماً كان الصبر ، وعدمه سواء .

{ إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَعِيمٍ } لما فرغ سبحانه من ذكر حال المجرمين ذكر حال المتقين ، وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة ، ويجوز أن تكون من جملة ما يقال للكفار زيادة في غمهم وحسرتهم ، والتنوين في { جنات وَنَعِيمٍ } للتفخيم { فاكهين بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ } يقال : رجل فاكه ، أي : ذو فاكهة ، كما قيل : لابن وتامر . والمعنى : أنهم ذوو فاكهة من فواكه الجنة ، وقيل : ذوو نعمة وتلذّذ بما صاروا فيه مما أعطاهم الله عزّ وجلّ مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، وقد تقدّم بيان معنى هذا . قرأ الجمهور : { فاكهين } بالألف والنصب على الحال . وقرأ خالد : ( فاكهون ) بالرفع على أنه خبر بعد خبر . وقرأ ابن عباس ( فكهين ) بغير ألف ، والفكه : طيب النفس ، كما تقدم في الدخان ، ويقال : للأشر والبطر ، ولا يناسب التفسير به هنا { ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم } معطوف على آتاهم ، أو على خبر إنّ ، أو الجملة في محل نصب على الحال بإضمار قد . { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أي : يقال لهم ذلك ، والهنيء : ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر . قال الزجاج : أي : ليهنئكم ما صرتم إليه هناء ، والمعنى : كلوا طعاماً هنيئًا ، واشربوا شراباً هنيئًا ، وقد تقدم تفسير هنيئًا في سورة النساء ، وقيل : معنى { هنيئاً } : أنكم لا تموتون . { مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } انتصابه على الحال من فاعل كلوا ، أو من مفعول آتاهم ، أو من مفعول وقاهم ، أو من الضمير المستكنّ في الظرف ، أو من الضمير في { فاكهين } . قرأ الجمهور : { على سرر } بضم الراء الأولى . وقرأ أبو السماك بفتحها ، والسرر : جمع سرير . والمصفوفة المتصل بعضها ببعض حتى تصير صفاً { وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ } أي : قرناهم بها . قال يونس بن حبيب : تقول العرب : زوّجته امرأة ، وتزوّجت بامرأة ، وليس من كلام العرب زوّجته بامرأة . قال : وقول الله تعالى : { وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ } أي : قرناهم بهنّ .

وقال الفرّاء : زوّجته بامرأة ، لغة أزدشنوءة ، وقد تقدم تفسير الحور العين في سورة الدخان . قرأ الجمهور : { بحور عين } من غير إضافة . وقرأ عكرمة بإضافة الحور إلى العين .
وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس : { والطور } قال : جبل . وأخرج ابن مردويه عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف ، عن أبيه ، عن جدّه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الطور جبل من جبال الجنة » وكثير ضعيف جدًّا . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { فِى رَقّ مَّنْشُورٍ } قال : في الكتاب . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البيت المعمور في السماء السابعة ، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة » ، وفي الصحيحين وغيرهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته إلى السماء السابعة : « ثم رفع إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه » وأخرج عبد الّرزّاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف عن أبي الطفيل أن ابن الكوّاء سأل علياً عن البيت المعمور فقال : ذلك الضراح ، بيت فوق سبع سموات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه أبداً إلى يوم القيامة . وأخرج ابن جرير نحوه عن ابن عباس . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر ورفعه ، قال : إن البيت المعمور ، لجيال الكعبة لو سقط منه شيء لسقط عليها ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً ، ثم لا يعودون إليه . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه ، وضعف إسناده السيوطي . وأخرج ابن راهويه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { والسقف المرفوع } قال : السماء . وأخرج عبد الرّزّاق ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { والبحر المسجور } قال : بحر في السماء تحت العرش . وأخرج ابن جرير عن ابن عمر مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : المسجور : المحبوس . وأخرج ابن المنذر عنه قال : المسجور : المرسل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { يَوْمَ تَمُورُ السماء مَوْراً } قال : تحرك ، وفي قوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ } قال : يدفعون . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { يوم يدعون إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } قال : يدفع في أعناقهم حتى يردوا النار . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً } أي : لا تموتون فيها ، فعندها قالوا : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الصافات : 58 ، 59 ] .

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)

لما فرغ سبحانه من ذكر أهل الجنة على العموم ذكر حال طائفة منهم على الخصوص ، فقال : { والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } والموصول مبتدأ ، وخبره { أَلْحَقْنَا بِهِمْ } ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدّر ، أي : وأكرمنا الذين آمنوا ، ويكون ألحقنا مفسراً لهذا الفعل المقدّر . قرأ الجمهور : { واتبعتهم } بإسناد الفعل إلى الذرّية . وقرأ أبو عمرو ( أتبعناهم ) بإسناد الفعل إلى المتكلم ، كقوله : { ألحقنا } . وقرأ الجمهور : ( ذرّيتهم ) بالإفراد . وقرأ ابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب بالجمع ، إلاّ أن أبا عمرو قرأ بالنصب على المفعولية لكونه قرأ ( وأتبعناهم ) ، ورويت قراءة الجمع هذه عن نافع ، والمشهور عنه كقراءة الجمهور . وقرأ الجمهور : { ألحقنا بهم ذرّيتهم } بالإفراد . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، ويعقوب على الجمع ، وجملة : { واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } معطوف على { آمنوا } أو معترضة ، و { بإيمان } متعلق بالاتباع ، ومعنى هذه الآية : أن الله سبحانه يرفع ذرّية المؤمن إليه ، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقر عينه ، وتطيب نفسه بشرط أن يكونوا مؤمنين ، فيختصّ ذلك بمن يتصف بالإيمان من الذرّية وهم البالغون دون الصغار ، فإنهم وإن كانوا لاحقين بآبائهم ، فبدليل آخر غير هذه الآية . وقيل : إن الذرّية تطلق على الكبار والصغار ، كما هو المعنى اللغوي ، فيلحق بالآباء المؤمنين صغار ذرّيتهم وكبارهم ، ويكون قوله : { بإيمان } في محل نصب على الحال ، أي : بإيمان من الآباء . وقيل : إن الضمير في { بِهِمُ } راجع إلى الذرّية المذكورة أوّلاً ، أي : ألحقنا بالذرّية المتبعة لآبائهم بإيمان ذرّيتهم . وقيل : المراد بالذين آمنوا : المهاجرون والأنصار فقط ، وظاهر الآية العموم ، ولا يوجب تخصيصها بالمهاجرين والأنصار كونهم السبب في نزولها إن صحّ ذلك ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب { وَمَا ألتناهم مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء } قرأ الجمهور بفتح اللام من : « ألتنا » وقرأ ابن كثير بكسرها ، أي : وما نقصنا الآباء بإلحاق ذرّيتهم بهم من ثواب أعمالهم شيئًا ، فضمير المفعول عائد إلى الذين آمنوا . وقيل : المعنى : وما نقصنا الذرية من أعمالهم شيئًا لقصر أعمارهم ، والأول أولى ، وقد قدمنا تحقيق معنى لاته ، وألاته في سورة الحجرات . وقرأ ابن هرمز ( آلتناهم ) بالمدّ ، وهو لغة . قال في الصحاح : يقال : ما آلته من عمله شيئًا ، أي : ما نقصه { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } رهين بمعنى مرهون ، والظاهر أنه عامّ ، وأن كل إنسان مرتهن بعمله ، فإن قام به على الوجه الذي أمره الله به فكه ، وإلاّ أهلكه . وقيل : هو بمعنى راهن ، والمعنى : كلّ امرىء بما كسب دائم ثابت . وقيل : هذا خاصّ بالكفار لقوله : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أصحاب اليمين } [ المدثر : 38 ، 39 ] . ثم ذكر سبحانه ما أمدّهم به من الخير ، فقال : { وأمددناهم بفاكهة وَلَحْمٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ } أي : زدناهم على ما كان لهم من النعيم بفاكهة متنوّعة ، ولحم من أنواع اللحمان مما تشتهيه أنفسهم ، ويستطيبونه { يتنازعون فِيهَا كَأْساً } أي : يتعاطون ويتناولون كأساً ، والكأس : إناء الخمر ، ويطلق على كل إناء مملوء من خمر ، أو غيره ، فإذا فرغ لم يسم كأساً { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } قال الزجاج : لا يجري بينهم ما يلغي ، ولا ما فيه إثم ، كما يجري بين من يشرب الخمر في الدنيا ، والتأثيم تفعيل من الإثم ، والضمير في : { فِيهَا } راجع إلى الكأس ، وقيل : لا لغو فيها ، أي : في الجنة ، ولا يجري فيها ما فيه إثم ، والأوّل أولى .

قال ابن قتيبة : لا تذهب بعقولهم فيلغوا ، كما يكون من خمر الدنيا ، ولا يكون منهم ما يؤثمهم . وقال الضحاك : لا تأثيم أي : لا كذب . قرأ الجمهور : { لا لغو فيها ولا تأثيم } بالرفع ، والتنوين فيهما . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن بفتحهما من غير تنوين . قال قتادة : اللغو : الباطل . وقال مقاتل بن حيان : لا فضول فيها . وقال سعيد بن المسيب : لا رفث فيها . وقال ابن زيد : لا سباب ولا تخاصم فيها . والجملة في محل نصب على الحال صفة ل { كأساً } { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } أي : يطوف عليهم بالكأس ، والفواكه ، والطعام ، وغير ذلك مماليك لهم ، وقيل : أولادهم { كَأَنَّهُمْ } في الحسن والبهاء { لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } أي : مستور مصون في الصدف لم تمسه الأيدي . قال الكسائي : كننت الشيء : سترته وصنته من الشمس ، وأكننته : جعلته في الكنّ ، ومنه كننت الجارية ، وأكننتها فهي مكنونة . { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ } أي : يسأل بعضهم بعضاً في الجنة عن حاله ، وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة ، فيحمدون الله الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهمّ ، وما كانوا فيه من الكد ، والنكد بطلب المعاش ، وتحصيل ما لا بدّ منه من الرّزق . وقيل : يقول بعضهم لبعض : بم صرتم في هذه المنزلة الرفيعة؟ وقيل : إن التساؤل بينهم عند البعث من القبور . والأوّل أولى ، لدلالة السياق على أنهم قد صاروا في الجنة ، وجملة { قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا قال بعضهم لبعض عند التساؤل؟ فقيل : قالوا : إنا كنا قبل ، أي : قبل الآخرة ، وذلك في الدنيا في أهلنا خائفين وجلين من عذاب الله ، أو كنا خائفين من عصيان الله . { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا } بالمغفرة والرحمة ، أو بالتوفيق لطاعته { ووقانا عَذَابَ السموم } يعني : عذاب جهنم ، والسموم من أسماء جهنم ، كذا قال الحسن ، ومقاتل . وقال الكلبي ، وأبو عبيدة : هو عذاب النار . وقال الزجاج : سموم جهنم : ما يوجد من حرّها . قال أبو عبيدة : السموم بالنهار ، وقد يكون بالليل ، والحرور بالليل ، وقد يكون بالنهار ، وقد يستعمل السموم في لفح البرد ، وفي لفح الشمس ، والحرّ أكثر ، ومنه قول الشاعر :

اليوم يوم بارد سمومه ... من جزع اليوم فلا ألومه
وقيل : سميت الريح سموماً؛ لأنها تدخل المسام : { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أي : نوحد الله ونعبده ، أو نسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرّحمة { إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم } قرأ الجمهور بكسر الهمزة على الاستئناف ، وقرأ نافع ، والكسائي بفتحها ، أي : لأنه . والبرّ : كثير الإحسان ، وقيل : اللطيف ، والرحيم : كثير الرحمة لعباده { فَذَكّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبّكَ بكاهن وَلاَ مَجْنُونٍ } أي : اثبت على ما أنت عليه من الوعظ والتذكير ، والباء متعلقة بمحذوف هو حال ، أي : ما أنت متلبساً بنعمة ربك التي أنعم بها عليك من رجاحة العقل والنبوّة بكاهن ، ولا مجنون ، وقيل : متعلقة بمحذوف يدل عليه الكلام ، أي : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ، وقيل : الباء سببية متعلقة بمضمون الجملة المنفية ، والمعنى : انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك ، كما تقول : ما أنا بمعسر بحمد الله . وقيل : الباء للقسم متوسطة بين اسم « ما » وخبرها ، والتقدير : ما أنت - ونعمة الله - بكاهن ولا مجنون ، والكاهن : هو الذي يوهم أنه يعلم الغيب من دون وحي ، أي : ليس ما تقوله كهانة ، فإنك إنما تنطق بالوحي الذي أمرك الله بإبلاغه . والمقصود من الآية ردّ ما كان يقوله المشركون : إنه كاهن ، أو مجنون . { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } « أم » هي المنقطعة ، وقد تقدّم الخلاف هل هيّ مقدّرة ببل والهمزة ، أو ببل وحدها؟ قال الخليل : هي هنا للاستفهام . قال سيبويه : خوطب العباد بما جرى في كلامهم . قال النحاس : يريد سيبويه أن « أم » في كلام العرب للخروج من حديث إلى حديث ، ونتربص في محل رفع صفة لشاعر ، وريب المنون : صروف الدهر ، والمعنى : ننتظر به حوادث الأيام فيموت كما مات غيره ، أو يهلك كما هلك من قبله ، والمنون يكون بمعنى الدهر ، ويكون بمعنى المنيّة . قال الأخفش : المعنى نتربص إلى ريب المنون ، فحذف حرف الجرّ ، كما تقول : قصدت زيداً ، وقصدت إلى زيد ، ومن هذا قول الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوماً أو يموت خليلها
وقول أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال الأصمعي : المنون واحد لا جمع له . قال الفرّاء : يكون واحداً وجمعاً . وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له . ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم ، فقال : { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين } أي : انتظروا موتي ، أو هلاكي ، فإني معكم من المتربصين لموتكم ، أو هلاككم . قرأ الجمهور { نتربص } بإسناد الفعل إلى جماعة المتكلمين . وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول .

{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم بهذا } أي : بل أتأمرهم عقولهم بهذا الكلام المتناقض ، فإن الكاهن : هو المفرط في الفطنة والذكاء ، والمجنون : هو ذاهب العقل فضلاً عن أن يكون له فطنة وذكاء . قال الواحدي : قال المفسرون : كانت عظماء قريش توصف بالأحلام والعقول ، فأزرأ الله بحلومهم حين لم تثمر لهم معرفة الحقّ من الباطل { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي : بل أطغوا وجاوزوا الحدّ في العناد ، فقالوا ما قالوا ، وهذه الإضرابات من شيء إلى شيء مع الاستفهام ، كما هو مدلول « أم » المنقطعة ، تدل على أن ما تعقبها أشنع مما تقدّمها ، وأكثر جرأة وعناداً { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي : اختلق القرآن من جهة نفسه وافتعله ، والتقوّل لا يستعمل إلاّ في الكذب في الغالب ، وإن كان أصله تكلف القول ، ومنه اقتال عليه ، ويقال : اقتال عليه بمعنى : تحكم عليه ، ومنه قول الشاعر :
ومنزلة في دار صدق وغبطة ... وما اقتال في حكم عليّ طبيب
ثم أضرب سبحانه عن قولهم : { تَقَوَّلَهُ } وانتقل إلى ما هو أشدّ شناعة عليهم فقال : { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } أي : سبب صدور هذه الأقوال المناقضة عنهم كونهم كفاراً لا يؤمنون بالله ، ولا يصدقون ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم . ثم تحدّاهم سبحانه ، وألزمهم الحجة فقال : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ } أي : مثل القرآن في نظمه ، وحسن بيانه ، وبديع أسلوبه { إِن كَانُواْ صادقين } فيما زعموا من قولهم : إن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوّله ، وجاء به من جهة نفسه مع أنه كلام عربيّ ، وهم رؤوس العرب وفصحاؤهم ، والممارسون لجميع الأوضاع العربية من نظم ونثر .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وهناد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : إن الله ليرفع ذرّية المؤمن معه في درجته في الجنة ، وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقرّ به عينه . ثم قرأ : { والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } الآية . وأخرجه البزار ، وابن مردويه عنه مرفوعاً . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه ، وزوجته ، وولده ، فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : يا ربّ قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به » ، وقرأ ابن عباس { والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم } الآية . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذين ءامَنُواْ } الآية وإسناده هكذا . قال عبد الله بن أحمد : حدّثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدّثنا محمد بن فضيل ، عن محمد بن عثمان ، عن زاذان ، عن عليّ بن أبي طالب قال : سألت خديجة النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« هما في النار » ، فلما رأى الكراهة في وجهها قال : « لو رأيت مكانهما لأبغضتهما » ، قالت : يا رسول الله فولديّ منك . قال : « في الجنة » ، قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن المؤمنين وأولادهم في الجنة ، وإن المشركين وأولادهم في النار » ، ثم قرأ : { والذين ءامَنُواْ } الآية . وقال الإمام أحمد في المسند : حدّثنا يزيد ، حدّثنا حماد بن سلمة ، عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة ، فيقول : يا ربّ من أين لي هذا؟ فيقول : باستغفار ولدك لك » وإسناده صحيح . وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، والحاكم عن ابن عباس : { وَمَا ألتناهم } قال : ما نقصناهم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } يقول : باطل { وَلاَ تَأْثِيمٌ } يقول : كذب . وأخرج البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان ، فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا ، فيتحدّثان ، فيتكىء ذا ، ويتكىء ذا ، فيتحدّثان بما كانوا في الدنيا ، فيقول أحدهما : يا فلان تدري أيّ يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا ، فدعونا الله فغفر لنا » وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت : لو فتح الله على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّهُ هُوَ البر } قال : اللطيف . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عنه أن قريشاً لما اجتمعوا إلى دار الندوة في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم قال قائل منهم : احبسوه في وثاق ، وتربصوا به المنون حتى يهلك ، كما هلك من قبله من الشعراء : زهير والنابغة ، إنما هو كأحدهم ، فأنزل الله في ذلك : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { رَيْبَ المنون } قال : الموت .

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)

قوله : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء } « أم » هذه هي المنقطعة ، كما تقدّم فيما قبلها ، وكما سيأتي فيما بعدها ، أي : بل أخلقوا على هذه الكيفية البديعة ، والصنعة العجيبة من غير خالق لهم؟ قال الزجاج : أي : أخلقوا باطلاً لغير شيء لا يحاسبون ، ولا يؤمرون ، ولا ينهون؟ وجعل « مِنْ » بمعنى اللام . قال ابن كيسان : أم خلقوا عبثاً ، وتركوا سدًى لا يؤمرون ، ولا ينهون؟ وقيل المعنى : أم خلقوا من غير أب ولا أمّ ، فهم كالجماد لا يفهمون ، ولا تقوم عليهم حجة؟ { أَمْ هُمُ الخالقون } أي : بل أيقولون هم الخالقون لأنفسهم ، فلا يؤمرون ولا ينهون مع أنهم يقرّون أن الله خالقهم؟ وإذا أقرّوا لزمتهم الحجة { أَمْ خَلَقُواْ السموات والارض } وهم لا يدّعون ذلك ، فلزمتهم الحجة ، ولهذا أضرب عن هذا ، وقال { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } أي : ليسوا على يقين من الأمر ، بل يخبطون في ظلمات الشك في وعد الله ووعيده { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ } أي : خزائن أرزاق العباد ، وقيل : مفاتيح الرحمة . قال مقاتل : يقول : أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة ، فيضعونها حيث شاءوا؟ وكذا قال عكرمة : وقال الكلبي : خزائن المطر والرزق { أَمْ هُمُ المصيطرون } أي : المسلطون الجبارون ، قال في الصحاح : المسيطر : المسلط على الشيء ، ليشرف عليه ، ويتعهد أحواله ، ويكتب عمله ، وأصله من السطر؛ لأن الكتاب يسطر . وقال أبو عبيدة : سطرت عليّ : اتخذتني خولاً لك . قرأ الجمهور : { المصيطرون } بالصاد الخالصة ، وقرأ ابن محيصن ، وحميد ، ومجاهد ، وقنبل ، وهشام بالسين الخالصة ، ورويت هذه القراءة عن حفص ، وقرأ خلاد بصاد مشمة زاياً . { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } أي : بل أيقولون : إن لهم سلماً منصوباً إلى السماء يصعدون به ، ويستمعون فيه كلام الملائكة ، وما يوحى إليهم ، ويصلون به إلى علم الغيب ، كما يصل إليه محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي ، وقوله : { فِيهِ } صفة لسلم ، وهي للظرفية على بابها ، وقيل : هي بمعنى على ، أي : يستمعون عليه كقوله : { وَلأصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] قاله الأخفش . وقال أبو عبيدة : يستمعون به . وقال الزجاج : المعنى : أنهم كجبريل الذي يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بالوحي ، وقيل : هي في محلّ نصب على الحال ، أي : صاعدين فيه { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم } إن ادّعى ذلك { بسلطان مُّبِينٍ } أي : بحجة واضحة ظاهرة { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } أي : بل أتقولون لله البنات ولكم البنون ، سفه سبحانه أحلامهم ، وضلل عقولهم ووبخهم ، أي : أيضيفون إلى الله البنات وهي أضعف الصنفين ، ويجعلون لأنفسهم البنين ، وهم أعلاهما ، وفيه إشعار بأن من كان هذا رأيه ، فهو بمحلّ سافل في الفهم والعقل ، فلا يستبعد منه إنكار البعث وجحد التوحيد .

ثم رجع سبحانه إلى خطاب رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } أي : بل أتسألهم أجراً يدفعونه إليك على تبليغ الرسالة { فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي : من التزام غرامة تطلبها منهم مثقلون ، أي : مجهودون بحملهم ذلك المغرم الثقيل . قال قتادة : يقول : هل سألت هؤلاء القوم أجراً فجهدهم ، فلا يستطيعون الإسلام؟ { أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي : بل أيدّعون أن عندهم علم الغيب؟ وهو ما في اللوح المحفوظ فهم يكتبون للناس ما أرادوا من علم الغيب . قال قتادة : هذا جواب لقولهم : { نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } يقول الله : أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمداً يموت قبلهم ، فهم يكتبون؟ قال ابن قتيبة : معنى يكتبون : يحكمون بما يقولون { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً } أي : مكراً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهلكونه بذلك المكر { فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون } أي : الممكور بهم المجزيون بكيدهم ، فضرر كيدهم يعود عليهم { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } [ فاطر : 43 ] وقد قتلهم الله في يوم بدر ، وأذلهم في غير موطن ، ومكر سبحانه بهم { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } [ آل عمران : 54 ] { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله } أي : بل أيدّعون أن لهم إلها غير الله يحفظهم ويرزقهم وينصرهم؟! ثم نزّه سبحانه نفسه عن هذه المقالة الشنعاء فقال : { سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : عن شركهم به ، أو عن الذين يجعلونهم شركاء له . ثم ذكر سبحانه بعض جهالاتهم ، فقال : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مّنَ السماء ساقطا يَقُولُواْ سحاب مَّرْكُومٌ } الكسف جمع كسفة : وهي القطعة من الشيء ، وانتصاب ساقطاً على الحال ، أو على أنه المفعول الثاني ، والمركوم : المجعول بعضه على بعض . والمعنى : أنهم إن يروا كسفاً من السماء { ساقطاً } عليهم لعذابهم ، لم ينتهوا عن كفرهم بل يقولون : هو سحاب متراكم بعضه على بعض ، وقد تقدّم اختلاف القرّاء في { كسفاً } ، قال الأخفش : من قرأ { كسفاً } ، يعني : بكسر الكاف وسكون السين جعله واحداً ، ومن قرأ « كسفاً » ، يعني : بكسر الكاف وفتح السين جعله جمعاً . ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتركهم ، فقال : { فَذَرْهُمْ حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ } أي : اتركهم وخلّ عنهم حتى يلاقوا يوم موتهم ، أو يوم قتلهم ببدر ، أو يوم القيامة . قرأ الجمهور : { يلاقوا } وقرأ أبو حيوة ( يلقوا ) وقرأ الجمهور : « يصعقون » على البناء للفاعل ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم على البناء للمفعول ، والصعقة : الهلاك على ما تقدّم بيانه { يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } هو بدل من يومهم ، أي : لا ينفعهم في ذلك اليوم كيدهم الذي كادوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي : ولا يمنع عنهم العذاب النازل بهم مانع ، بل هو واقع بهم لا محالة { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } أي : لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذاباً في الدنيا دون عذاب يوم القيامة ، أي : قبله ، وهو قتلهم يوم بدر .

وقال ابن زيد : هو مصائب الدنيا من الأوجاع ، والأسقام ، والبلايا ، وذهاب الأموال والأولاد . وقال مجاهد : هو الجوع ، والجهد سبع سنين ، وقيل : عذاب القبر ، وقيل : المراد بالعذاب : هو القحط ، وبالعذاب الذي يأتي بعده : هو قتلهم يوم بدر { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ما يصيرون إليه من عذاب الله ، وما أعدّه لهم في الدنيا والآخرة . { واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } إلى أن يقع لهم العذاب الذي وعدناهم به { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي : بمرأى ومنظر منا ، وفي حفظنا وحمايتنا ، فلا تبال بهم . قال الزجاج : إنك بحيث نراك ونحفظك ، ونرعاك فلا يصلون إليك { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ } أي : نزّه ربك عما لا يليق به متلبساً بحمد ربك على إنعامه عليك حين تقوم من مجلسك . قال عطاء ، وسعيد بن جبير ، وسفيان الثوري ، وأبو الأحوص : يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول : سبحان الله وبحمده ، أو سبحانك اللَّهمّ وبحمدك ، عند قيامه من كل مجلس يجلسه . وقال محمد بن كعب ، والضحاك ، والربيع بن أنس : حين تقوم إلى الصلاة . قال الضحاك : يقول : الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً ، وفيه نظر؛ لأن التكبير يكون بعد القيام لا حال القيام ، ويكون التسبيح بعد التكبير ، وهذا غير معنى الآية ، فالأوّل أولى . وقيل المعنى : صلّ لله حين تقوم من منامك ، وبه قال أبو الجوزاء ، وحسان بن عطية . وقال الكلبي : واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة ، وهي صلاة الفجر . { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ } أمره الله سبحانه أن يسبّحه في بعض الليل . قال مقاتل : أي : صلّ المغرب والعشاء ، وقيل : ركعتي الفجر { وإدبار النجوم } أي : وقت إدبارها من آخر الليل ، وقيل : صلاة الفجر ، واختاره ابن جرير ، وقيل : هو التسبيح في إدبار الصلوات ، قرأ الجمهور { إدبار } بكسر الهمزة على أنه مصدر ، وقرأ سالم بن أبي الجعد ، ومحمد بن السميفع ، ويعقوب ، والمنهال بن عمر بفتحها على الجمع ، أي : أعقاب النجوم وأدبارها : إذا غربت ، ودبر الأمر : آخره ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة «قا» .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَمْ هُمُ المصيطرون } قال : المسلطون ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : أم هم المنزلون . وأخرجا عنه أيضاً { عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } قال : عذاب القبر قبل يوم القيامة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، والحاكم ، وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بآخرة إذا قام من المجلس يقول :

« سبحانك اللَّهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك » فقال رجل : يا رسول الله إنك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى ، قال : « كفارة لما يكون في المجلس » وأخرجه النسائي ، والحاكم من حديث الربيع بن أنس عن أبي العالية ، عن رافع بن خديج ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم . وأخرج الترمذي ، وابن جرير عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من جلس في مجلس ، فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللَّهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، إلاّ غفر له ما كان في مجلسه ذلك » قال الترمذي : حسن صحيح . وفي الباب أحاديث مسندة ومرسلة . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ } قال : حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ } قال : « الركعتان قبل صلاة الصبح » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وإدبار النجوم } قال : ركعتي الفجر .

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)

قوله : { والنجم إِذَا هوى } التعريف للجنس ، والمراد به : جنس النجوم ، وبه قال جماعة من المفسرين ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
أحسن النجم في السماء الثريا ... والثريا في الأرض زين النساء
وقيل : المراد به : الثريا ، وهو اسم غلب فيها ، تقول العرب : النجم ، وتريد به الثريا ، وبه قال مجاهد ، وغيره ، وقال السديّ ، النجم هنا : هو الزهرة؛ لأن قوماً من العرب كانوا يعبدونها ، وقيل : النجم هنا : النبت الذي لا ساق له ، كما في قوله : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] قاله الأخفش . وقيل : النجم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : النجم القرآن؛ وسمي نجماً لكونه نزل منجماً مفرّقاً ، والعرب تسمي التفريق تنجيماً ، والمفرّق : المنجم ، وبه قال مجاهد ، والفراء ، وغيرهما ، والأوّل أولى . قال الحسن : المراد بالنجم : النجوم إذا سقطت يوم القيامة . وقيل المراد بها : النجوم التي ترجم بها الشياطين ، ومعنى هويه : سقوطه من علو ، يقال : هوى النجم يهوي هوياً : إذا سقط من علو إلى سفل ، وقيل : غروبه ، وقيل : طلوعه ، والأوّل أولى ، وبه قال الأصمعي وغيره ، ومنه قول زهير :
تسيح بها الأباعر وهي تهوى ... هويّ الَّدلْوِ أسْلَمَها الرشَاءُ
ويقال : هوى في السير : إذا مضى؛ ومنه قول الشاعر :
بينما نَحْنُ بالبِلاكثِ فالقا ... عِ سِراعاً والعِيسُ تَهْوِى هُويا
خَطَرتْ خَطْرة على القلب من ذك ... رَاكِ وَهناً فما استطعت مُضيا
ومعنى الهوَي على قول من فسر النجم بالقرآن : أنه نزل من أعلا إلى أسفل ، وأما على قول من قال إنه الشجر الذي لا ساق له ، أو أنه محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يظهر للهويّ معنى صحيح ، والعامل في الظرف فعل القسم المقدّر ، وجواب القسم قوله : { مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى } أي : ما ضلّ محمد صلى الله عليه وسلم عن الحق والهدى ، ولا عدل عنه ، والغيّ : ضدّ الرشد ، أي : ما صار غاوياً ولا تكلم بالباطل ، وقيل : ما خاب فيما طلب ، والغَيّ : الخيبة ، ومنه قول الشاعر :
فمن يْلَق خيراً يحمِد النَّاسُ أَمْرَهُ ... وَمْن يَغْوَ لا يعدم على الغيِّ لائماً
وفي قوله : { صاحبكم } إشارة بأنهم المطلعون على حقيقة حاله ، والخطاب لقريش { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } أي : ما يصدر نطقه عن الهوى لا بالقرآن ولا بغيره ، فعن على بابها . وقال أبو عبيدة : إنّ عن بمعنى الباء أي : بالهوى . قال قتادة : أي : ما ينطق بالقراءة عن هواه { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى } أي : ما هو الذي ينطق به إلاّ وحي من الله يوحيه إليه . وقوله : { يُوحَى } صفة لوحي تفيد الاستمرار التجددي ، وتفيد نفي المجاز ، أي : هو وحي حقيقة لا لمجرد التسمية { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى } القوى جمع قوّة ، والمعنى : أنه علمه جبريل الذي هو شديد قواه ، هكذا قال أكثر المفسرين : إن المراد : جبريل .

وقال الحسن : هو الله عزّ وجلّ ، والأوّل أولى ، وهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف { ذُو مِرَّةٍ فاستوى } المرّة : القوّة والشدّة في الخلق ، وقيل : ذو صحة جسم وسلامة من الآفات ، ومنه قول النبيّ : « لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مرّة سوي » وقيل : ذو حصانة عقل ، ومتانة رأي . قال قطرب : العرب تقول لكلّ من هو جزل الرأي ، حصيف العقل ذو مرّة ، ومنه قول الشاعر :
قد كنت قبلَ لِقائكُمُ ذا مِرّةٍ ... عندي لِكلُّ مخاصِمٍ مِيزانُهُ
والتفسير للمرّة بهذا أولى؛ لأن القوّة والشدّة قد أفادها قوله : { شَدِيدُ القوى } قال الجوهري : المرّة إحدى الطبائع الأربع ، والمرّة : القوّة وشدّة العقل ، والفاء في قوله : { فاستوى } للعطف على علَّمه ، يعني جبريل ، أي : ارتفع وعاد إلى مكانه في السماء بعد أن علم محمداً صلى الله عليه وسلم ، قاله سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وقيل : معنى استوى : قام في صورته التي خلقه الله عليها؛ لأنه كان يأتي النبي في صورة الآدميين ، وقيل المعنى : فاستوى القرآن في صدره صلى الله عليه وسلم . وقال الحسن : - فاستوى يعني : الله عزّ وجلّ - على العرش { وَهُوَ بالأفق الأعلى } هذه الجملة في محل نصب على الحال أي : فاستوى جبريل حال كونه بالأفق الأعلى ، والمراد بالأفق الأعلى : جانب المشرق ، وهو فوق جانب المغرب ، وقيل المعنى : فاستوى عالياً ، والأفق : ناحية السماء ، وجمعه آفاق ، قال قتادة ، ومجاهد : هو الموضع الذي تطلع منه الشمس ، وقيل : هو يعني جبريل ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى ليلة المعراج ، ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة . { ثُمَّ دَنَا فتدلى } أي : دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى ، أي : قرب من الأرض فتدلى ، فنزل على النبيّ بالوحي ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : ثم تدلى فدنى ، قاله ابن الأنباري ، وغيره . قال الزجاج : معنى { دَنَا فتدلى } واحد ، أي : قرب وزاد في القرب؛ كما تقول : فدنا مني فلان وقرب ، ولو قلت : قرب مني ودنا جاز . قال الفراء : الفاء في فتدلى بمعنى الواو ، والتقدير : ثم تدلى جبريل ودنا ، ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحداً أن تقدّم أيهما شئت . قال الجمهور : والذي دنا فتدلى هو جبريل ، وقيل : هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : دنا منه أمره وحكمه ، والأوّل أولى . قيل : ومن قال : إن الذي استوى هو جبريل ومحمد ، فالمعنى عنده : ثم دنا محمد من ربه دنوّ كرامة ، فتدلى ، أي : هوى للسجود ، وبه قال الضحاك { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } أي : فكان مقدار ما بين جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم ، أو ما بين محمد وربه قاب قوسين ، أي : قدر قوسين عربيين .

والقاب والقيب ، والقاد والقيد : المقدار ، ذكر معناه في الصحاح . قال الزجاج : أي : فيما تقدّرون أنتم ، والله سبحانه عالم بمقادير الأشياء ، ولكنه يخاطبنا على ما جرت به عادة المخاطبة فيما بيننا . وقيل : « أو » بمعنى الواو ، أي : وأدنى ، وقيل : بمعنى بل ، أي : بل أدنى . وقال سعيد بن جبير ، وعطاء ، وأبو إسحاق الهمداني ، وأبو وائل شقيق بن سلمة { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } : قدر ذراعين ، والقوس : الذّراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض الحجازيين ، وقيل : هي لغة أزد شنوءة . وقال الكسائي : فكان قاب قوسين أراد قوساً واحدة . { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى } أي : فأوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى ، وفيه تفخيم للوحي الذي أوحي إليه ، والوحي : إلقاء الشيء بسرعة ، ومنه الوحا وهو السرعة ، والضمير في { عبده } يرجع إلى الله ، كما في قوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] وقيل المعنى : فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى ، وبالأوّل قال الربيع ، والحسن ، وابن زيد ، وقتادة . وقيل : فأوحى الله إلى عبده محمد . قيل : وقد أبهم الله سبحانه ما أوحاه جبريل إلى محمد ، أو ما أوحاه الله إلى عبده جبريل ، أو إلى محمد ولم يبينه لنا ، فليس لنا أن نتعرّض لتفسيره . وقال سعيد بن جبير : الذي أوحى إليه هو { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح : 1 ] إلخ ، و { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } [ الضحى : 6 ] إلخ . وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك . وقيل : إن « ما » للعموم لا للإبهام ، والمراد : كل ما أوحى به إليه ، والحمل على الإبهام أولى لما فيه من التعظيم . { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } أي : ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه بصره ليلة المعراج ، يقال : كذبه : إذا قال له الكذب ، ولم يصدقه . قال المبرد : معنى الآية : أنه رأى شيئًا فصدق فيه ، قرأ الجمهور : ( ما كذب ) مخففاً ، وقرأ هشام ، وأبو جعفر بالتشديد « وَمَا » في : { مَا رأى } موصولة أو مصدرية في محل نص { بكذب } مخففاً ومشدّداً { أفتمارونه على مَا يرى } . قرأ الجمهور : { أفتمارونه } بالألف من المماراة ، وهي المجادلة والملاحاة ، وقرأ حمزة ، والكسائي : ( أفتمرونه ) بفتح التاء وسكون الميم ، أي : أفتجدونه ، واختار أبو عبيد القراءة الثانية . قال : لأنهم لم يماروه ، وإنما جحدوه ، يقال : مراه حقه ، أي : جحده ، ومريته أنا : جحدته ، قال : ومنه قول الشاعر :
لأن هَجَوْتَ أَخَا صِدْق وَمْكرُمَة ... لَقَدْ مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْريكا
أي : جحدته . قال المبرد : يقال : أمرأه عن حقه ، وعلى حقه : إذا منعه منه ودفعه . وقيل : على بمعنى عن ، وقرأ ابن مسعود ، والشعبي ، ومجاهد ، والأعرج : ( أفتمرونه ) بضم التاء من أمريت ، أي : أتريبونه وتشكون فيه ، قال جماعة من المفسرين : المعنى على قراءة الجمهور : أفتجادلونه ، وذلك أنهم جادلوه حين أسري به ، فقالوا : صف لنا مسجد بيت المقدس ، أي : أفتجادلونه جدالاً ترومون به دفعه عما شاهده وعلمه ، واللام في قوله : { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى } هي الموطئة للقسم ، أي : والله لقد رآه نزلة أخرى ، والنزلة : المرة من النزول ، فانتصابها على الظرفية ، أو منتصبة على المصدر الواقع موقع الحال ، أي : رأى جبريل نازلاً نزلة أخرى ، أو على أنه صفة مصدر مؤكد محذوف ، أي : رآه رؤية أخرى .

قال جمهور المفسرين : المعنى أنه رأى محمد جبريل مرّة أخرى ، وقيل : رأى محمد ربه مرّة أخرى بفؤاده { عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } الظرف منتصب ب { رآه } ، والسدر : هو شجر النبق ، وهذه السدرة هي في السماء السادسة ، كما في الصحيح ، وروي أنها في السماء السابعة ، والمنتهى : مكان الانتهاء ، أو هو مصدر ميمي ، والمراد به : الانتهاء نفسه ، قيل : إليها ينتهي علم الخلائق ، ولا يعلم أحد منهم ما وراءها ، وقيل : ينتهي إليها ما يعرج به في الأرض ، وقيل : تنتهي إليها أرواح الشهداء ، وقيل غير ذلك . وإضافة الشجرة إلى المنتهى من إضافة الشيء إلى مكانه { عِندَهَا جَنَّةُ المأوى } أي : عند تلك السدرة جنة تعرف بجنة المأوى ، وسميت جنة المأوى لأنه أوى إليها آدم ، وقيل : إن أرواح المؤمنين تأوي إليها . قرأ الجمهور { جنة } برفع جنة على أنها مبتدأ ، وخبرها الظرف المتقدّم . وقرأ عليّ ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وابن الزبير ، وأنس ، وزر بن حبيش ، ومحمد بن كعب ، ومجاهد ، وأبو سبرة الجهني : ( جنه ) فعلاً ماضياً من جنّ يجن ، أي : ضمه المبيت ، أو سترة إيواء الله له ، قال الأخفش : أدركه ، كما تقول : جنه الليل أي : ستره وأدركه ، والجملة في محل نصب على الحال { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } العامل في الظرف { رآه } أيضاً ، وهو ظرف زمان ، والذي قبله ظرف مكان ، والغشيان بمعنى : التغطية والستر ، وبمعنى الإتيان ، يقال : فلان يغشاني كل حين أي : يأتيني ، وفي الإبهام في قوله : { مَا يغشى } من التفخيم ما لا يخفى ، وقيل : يغشاها جراد من ذهب ، وقيل : طوائف من الملائكة . وقال مجاهد : رفرف أخضر ، وقيل : رفرف من طيور خضر ، وقيل : غشيها أمر الله ، والمجيء بالمضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً للصورة البديعة ، أو للدلالة على الاستمرار التجددي . { مَا زَاغَ البصر } أي : ما مال بصر النبي صلى الله عليه وسلم عما رآه { وَمَا طغى } أي : ما جاوز ما رأى ، وفي هذا وصف أدب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المقام ، حيث لم يلتفت ، ولم يمل بصره ، ولم يمده إلى غير ما رأى ، وقيل : ما جاوز ما أمر به { لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى } أي : والله لقد رأى تلك الليلة من آيات ربه العظام ما لا يحيط به الوصف ، قيل : رأى رفرفاً سدّ الأفق ، وقيل : رأى جبريل في حلة خضراء قد ملأ ما بين السماء والأرض له ستمائة جناح ، كذا في صحيح مسلم ، وغيره ، وقال الضحاك : رأى سدرة المنتهى ، وقيل : هو كل ما رآه تلك الليلة في مسراه وعوده ، و « من » للتبعيض ، ومفعول رأى : الكبرى ، ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً ، أي : رأى شيئًا عظيماً من آيات ربه ، ويجوز أن تكون « من » زائدة .

{ أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } لما قصّ الله سبحانه هذه الأقاصيص قال للمشركين ، موبخاً لهم ومقرّعاً { أَفَرَءيْتُمُ } أي : أخبروني عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله هل لها قدرة توصف بها؟ وهل أوحت إليكم شيئًا ، كما أوحى الله إلى محمد ، أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع؟ ثم ذكر هذه الأصنام الثلاثة التي اشتهرت في العرب ، وعظم اعتقادهم فيها . قال الواحدي وغيره : وكانوا يشتقون لها أسماء من أسماء الله تعالى ، فقالوا : من الله اللات ، ومن العزيز العزّى ، وهي تأنيث الأعزّ بمعنى العزيزة ، ومناة من منى الله الشيء : إذا قدّره . قرأ الجمهور { اللات } بتخفيف التاء ، فقيل : هو مأخوذ من اسم الله سبحانه كما تقدّم ، وقيل : أصله : لات يليت ، فالتاء أصلية ، وقيل : هي زائدة ، وأصله لوى يلوي؛ لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها ، أو يلتون عليها ، ويطوفون بها . واختلف القراء هل يوقف عليها بالتاء ، أو بالهاء؟ فوقف عليها الجمهور بالتاء ، ووقف عليها الكسائي بالهاء ، واختار الزجاج ، والفراء الوقف بالتاء؛ لاتباع رسم المصحف ، فإنها تكتب بالتاء ، وقرأ ابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، ومنصور بن المعتمر ، وأبو الجوزاء ، وأبو صالح ، وحميد : ( اللات ) بتشديد التاء ، ورويت هذه القراءة عن ابن كثير ، فقيل : هو اسم رجل كان يلتّ السويق ، ويطعمه الحاج ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه ، فهو اسم فاعل في الأصل غلب على هذا الرجل . قال مجاهد : كان رجلاً في رأس جبل يتخذ من لبنها وسمنها حيساً ، ويطعم الحاج ، وكان ببطن نخلة فلما مات عبدوه . وقال الكلبي : كان رجلاً من ثقيف له صرمة غنم ، وقيل : إنه عامر بن الظرب العدواني ، وكان هذا الصنم لثقيف ، وفيه يقول الشاعر :
لا تنْصُروا اللاتَ إنَّ اللهَ مُهْلِكُها ... وَكَيْفَ يَنْصُرُكُمْ مَنْ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
قال في الصحاح : و { اللات } اسم صنم لثقيف ، وكان بالطائف ، وبعض العرب يقف عليها بالتاء ، وبعضهم بالهاء { والعزى } : صنم قريش ، وبني كنانة . قال مجاهد : هي شجرة كانت بغطفان ، وكانوا يعبدونها ، فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، فقطعها ، وقيل : كانت شيطانة تأتي ثلاث سمرات ببطن نخلة . وقال سعيد بن جبير : العزى : حجر أبيض كانوا يعبدونه . وقال قتادة : هي بيت كان ببطن نخلة { ومناة } : صنم بني هلال .

وقال ابن هشام : صنم هذيل وخزاعة . وقال قتادة : كانت للأنصار . قرأ الجمهور { مناة } بألف من دون همزة ، وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن ، وحميد ، ومجاهد ، والسلمي بالمدّ والهمز . فأما قراءة الجمهور ، فاشتقاقها من منى يمنى ، أي : صبّ؛ لأن دماء النسائك كانت تصب عندها يتقرّبون بذلك إليها . وأما على القراءة الثانية ، فاشتقاقها من النوء ، وهو المطر؛ لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء ، وقيل : هما لغتان للعرب ، ومما جاء على القراءة الأولى قول جرير :
أزيد مناة توعد يابن تيم ... تأمل أين تاه بك الوعيد
ومما جاء على القراءة الأخرى قول الحارثي :
ألا هَلْ أتى التَّيْم بن عبد مناءة ... على السر فيما بيننا ابنُ تَمِيمِ
وقف جمهور القراء عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف ، ووقف ابن كثير ، وابن محيصن عليها بالهاء . قال في الصحاح : ومناة اسم صنم كان بين مكة والمدينة ، والهاء للتأنيث ، ويسكت عليها بالتاء ، وهي لغة . قوله : { الثالثة الأخرى } هذا وصف لمناة ، وصفها بأنها ثالثة ، وبأنها أخرى ، والثالثة لا تكون إلاّ أخرى . قال أبو البقاء : فالوصف بالأخرى للتأكيد ، وقد استشكل وصف الثالثة بالأخرى ، والعرب إنما تصف به الثانية ، فقال الخليل : إنما قال ذلك لوفاق رؤوس الآي كقوله : { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : أفرأيتم اللات والعزّى الأخرى ومناة الثالثة . وقيل : إن وصفها بالأخرى لقصد التعظيم؛ لأنها كانت عند المشركين عظيمة ، وقيل : إن ذلك للتحقير والذم ، وإن المراد المتأخرة الوضيعة ، كما في قوله : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهم } [ الأعراف : 38 ] أي : وضعاؤهم لرؤسائهم . ثم كرّر سبحانه توبيخهم وتقريعهم بمقالة شنعاء قالوها ، فقال : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى } أي : كيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث ، وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور ، قيل : وذلك قولهم : إن الملائكة بنات الله ، وقيل : المراد : كيف تجعلون اللات ، والعزّى ومناة ، وهي إناث في زعمكم ، شركاء لله ، ومن شأنهم أن يحتقروا الإناث . ثم ذكر سبحانه أن هذه التسمية ، والقسمة المفهومة من الاستفهام قسمة جائرة ، فقال : { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } قرأ الجمهور { ضيزى } بياء ساكنة بغير همزة ، وقرأ ابن كثير بهمزة ساكنة ، والمعنى : أنها قسمة خارجة عن الصواب ، جائرة عن العدل ، مائلة عن الحق . قال الأخفش : يقال : ضاز في الحكم ، أي : جار ، وضازه حقه يضيزه ضيزاً ، أي : نقصه وبخسه ، قال : وقد يهمز ، وأنشد :
فإن تَنْأء عَنَّا نَنْتِقصْك وإِن تَغِبْ ... فحقك مضئؤوز وَأنفُكَ رَاغِمُ
وقال الكسائي : ضاز يضيز ضيزاً ، ء وضاز يضوز ضوزاً : إذا تعدى وظلم وبخس وانتقص ، ومنه قول الشاعر :
ضازَتْ بنو أَسدٍ بِحُكمِهِم ... إِذْ يَجْعَلُون الرأسَ كالذَّنَبِ
قال الفراء : وبعض العرب يقول : « ضئزى » بالهمز ، وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه سمع العرب تهمز ضيزى ، قال البغوي : ليس في كلام العرب فعلى بكسر الفاء في النعوت إنما تكون في الأسماء مثل ذكرى ، قال المؤرج : كرهوا ضم الضاد في ضيزى ، وخافوا انقلاب الياء واواً وهي من بنات الواو ، فكسروا الضاد لهذه العلة ، كما قالوا في جمع أبيض : بيض ، وكذا قال الزجاج : وقيل : هي مصدر كذكرى ، فيكون المعنى : قسمة ذات جور وظلم .

ثم ردّ سبحانه عليهم بقوله : { إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءآبَاؤُكُم } أي : ما الأوثان ، أو الأصنام باعتبار ما تدعونه من كونها آلهة إلاّ أسماء محضة ، ليس فيها شيء من معنى الألوهية التي تدعونها؛ لأنها لا تبصر ولا تسمع ، ولا تعقل ولا تفهم ، ولا تضر ولا تنفع ، فليست إلاّ مجرّد أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ، قلد الآخر فيها الأول . وتبع في ذلك الأبناء الآباء ، وفي هذا من التحقير لشأنها ما لا يخفى ، كما تقول في تحقير رجل : ما هو إلاّ اسم إذا لم يكن مشتملاً على صفة معتبرة ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا } [ يوسف : 40 ] يقال : سميته زيداً وسميته بزيد ، فقوله : { سميتموها } صفة لأصنام ، والضمير يرجع إلى الأسماء لا إلى الأصنام ، أي : جعلتموها أسماء لا جعلتم لها أسماء . وقيل : إن قوله : { هِىَ } راجع إلى الأسماء الثلاثة المذكورة ، والأوّل أولى { مَّا أَنزَلَ الله بِهَا مِن سلطان } أي : ما أنزل بها من حجة ولا برهان . قال مقاتل : لم ينزل لنا كتاباً لكم فيه حجة ، كما تقولون : إنها آلهة ، ثم أخبر عنهم بقوله : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } أي : ما يتبعون فيما ذكر من التسمية ، والعمل بموجبها إلاَّ الظنّ الذي لا يغني من الحق شيئًا ، والتفت من الخطاب إلى الغيبة إعراضاً عنهم وتحقيراً لشأنهم ، فقال : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } أي : تميل إليه ، وتشتهيه من غير التفات إلى ما هو الحق الذي يجب الاتباع له . قرأ الجمهور { يتبعون } بالتحتية على الغيبة ، وقرأ عيسى بن عمر ، وأيوب ، وابن السميفع بالفوقية على الخطاب ، ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وطلحة ، وابن وثاب { وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ الهدى } أي : البيان الواضح الظاهر بأنها ليست بآلهة ، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يتبعون ، ويجوز أن يكون اعتراضاً ، والأوّل أولى . والمعنى : كيف يتبعون ذلك ، والحال أن قد جاءهم ما فيه هدًى لهم من عند الله على لسان رسوله الذي بعثه الله بين ظهرانيهم ، وجعله من أنفسهم . { أَمْ للإنسان مَا تمنى } « أم » هي المنقطعة المقدرة ببل ، والهمزة التي للإنكار ، فأضرب عن اتباعهم الظنّ الذي هو مجرّد التوهم ، وعن اتباعهم هوى الأنفس ، وما تميل إليه ، وانتقل إلى إنكار أن يكون لهم ما يتمنون من كون الأصنام تنفعهم ، وتشفع لهم .

ثم علل انتفاء أن يكون للإنسان ما تمنى بقوله : { فَلِلَّهِ الآخرة والأولى } أي : أن أمور الآخرة والدنيا بأسرها لله عزّ وجلّ ، فليس لهم معه أمر من الأمور ، ومن جملة ذلك أمنياتهم الباطلة ، وأطماعهم الفارغة ، ثم أكد ذلك ، وزاد في إبطال ما يتمنونه ، فقال : { وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى السموات لاَ تُغْنِى شفاعتهم شَيْئاً } وكم هنا هي الخبرية المفيدة للتكثير ، ومحلها الرفع على الابتداء ، والجملة بعدها خبرها ، ولما في { كم } من معنى التكثير ، جمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك ، والمعنى : التوبيخ لهم بما يتمنون ، ويطمعون فيه من شفاعة الأصنام مع كون الملائكة مع كثرة عبادتها ، وكرامتها على الله لا تشفع إلاّ لمن أذن أن يشفع له ، فكيف بهذه الجمادات الفاقدة للعقل والفهم ، وهو معنى قوله : { إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله } لهم بالشفاعة { لِمَن يَشَاء } أن يشفعوا له { ويرضى } بالشفاعة له لكونه من أهل التوحيد ، وليس للمشركين في ذلك حظّ ، ولا يأذن الله بالشفاعة لهم ولا يرضاها؛ لكونهم ليسوا من المستحقين لها .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { والنجم إِذَا هوى } قال : إذا انصبّ . وأخرج ابن المنذر عنه قال : هو الثريا إذا تدلت . وأخرج عنه أيضاً قال : أقسم الله أن ما ضلّ محمد ، ولا غوى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { ذُو مِرَّةٍ } قال : ذو خلق حسن . وأخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلاّ مرّتين ، أما واحدة : فإنه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته ، فسدّ الأفق ، وأما الثانية : فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك قوله : { وَهُوَ بالافق الأعلى } . { لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبّهِ الكبرى } قال : خلق جبريل . وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « رأيت جبريل عند سدرة المنتهى له ستمائة جناح » ، وأخرجه أحمد عنه أيضاً . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { وَهُوَ بالافق الاعلى } قال : مطلع الشمس . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود في قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } قال : رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عنه في قوله : { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه حلة رفرف أخضر قد ملأ ما بين السماء والأرض . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ دَنَا فتدلى } قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم دنا فتدلى إلى ربه .

وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عنه قال : دنا ربه فتدلى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } قال : دنا جبريل منه حتى كان قدر ذراع أو ذراعين . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : القاب : القيد ، والقوسين : الذراعين . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : لما أسري بالنبيّ صلى الله عليه وسلم اقترب من ربه ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، ألم ترى إلى القوس ما أقربها من الوتر . وأخرج النسائي ، وابن المنذر ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى } قال : عبده محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج مسلم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه في قوله : { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } . { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى } قال : رأى محمد ربه بقلبه مرّتين . وأخرج نحوه عنه عبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه . وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : رأى محمد ربه . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه قال : رأى محمد ربه مرّتين مرّة ببصره ، ومرّة بفؤاده . وأخرج الترمذي وحسنه ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي عنه أيضاً قال : لقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه عزّ وجلّ . وأخرج النسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد؟ وقد روي نحو هذا عنه من طرق . وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن مردويه عن أبي ذرّ قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال : « نور أنى أراه؟ » وأخرج مسلم ، وابن مردويه عنه : أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال : « رأيت نوراً » وأخرج عبد بن حميد ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه ، ولم يره ببصره . وأخرج مسلم عن أبي هريرة في قوله : { وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أخرى } قال : جبريل . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السادسة ينتهي ما يعرج من الأرواح ، فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها ، فيقبض منها { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } قال : فراش من ذهب . وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن مسعود قال : الجنة في السماء السابعة العليا ، والنار في الأرض السابعة السفلى . وأخرج البخاري ، وغيره عن ابن عباس قال : كان اللات رجلاً يلتّ السويق للحاجّ . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عنه أن العزى كانت ببطن نخلة ، وأن اللات كانت بالطائف ، وأن مناة كانت بقديد . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { ضيزى } قال : جائرة لا حقّ لها .

إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)

قوله : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الآنثى } أي : أن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث ، وما بعده من الدار الآخرة ، وهم الكفار يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء ، وجهالةً جهلاء ، وهي أنهم يسمون الملائكة المنزهين عن كل نقص تسمية الأنثى ، وذلك أنهم زعموا أنها بنات الله ، فجعلوهم إناثاً ، وسموهم بنات { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : يسمونهم هذه التسمية ، والحال أنهم غير عالمين بما يقولون ، فإنهم لم يعرفوهم ، ولا شاهدوهم ، ولا بلِّغ إليهم ذلك من طريق من الطرق التي يخبر المخبرون عنها ، بل قالوا ذلك جهلاً وضلالةً وجرأة . وقرىء ( ما لهم بها ) أي : بالملائكة ، أو التسمية { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } أي : ما يتبعون في هذه المقالة إلاّ مجرّد الظنّ ، والتوهم . ثم أخبر سبحانه عن الظنّ وحكمه ، فقال : { وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً } أي : إن جنس الظنّ لا يغني من الحق شيئًا من الإغناء ، والحقّ : هنا العلم . وفيه دليل على أن مجرّد الظن لا يقوم مقام العلم ، وأن الظانّ غير عالم . وهذا في الأمور التي يحتاج فيها إلى العلم ، وهي المسائل العلمية؛ لا فيما يكتفي فيه بالظنّ ، وهي المسائل العملية ، وقد قدّمنا تحقيق هذا . ولا بدّ من هذا التخصيص ، فإن دلالة العموم والقياس وخبر الواحد ، ونحو ذلك ظنية ، فالعمل بها عمل بالظن ، وقد وجب علينا العمل به في مثل هذه الأمور ، فكانت أدلة وجوبه العمل به فيها مخصصة لهذا العموم ، وما ورد في معناه من الذمّ؛ لمن عمل بالظن؛ والنهي عن اتباعه . { فَأَعْرَضَ عمن تولى عَن ذِكْرِنَا } أي : أعرض عن ذكرنا ، والمراد بالذكر هنا : القرآن ، أو ذكر الآخرة ، أو ذكر الله على العموم ، وقيل : المراد بالذكر هنا : الإيمان ، والمعنى : اترك مجادلتهم ، فقد بلغت إليهم ما أمرت به ، وليس عليك إلاّ البلاغ ، وهذا منسوخ بآية السيف { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا } أي : لم يرد سواها ، ولا طلب غيرها بل قصر نظره عليها ، فإنه غير متأهل للخير ، ولا مستحقّ للاعتناء بشأنه . ثم صغر سبحانه شأنهم وحقر أمرهم ، فقال : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم } أي : إن ذلك التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا هو مبلغهم من العلم ليس لهم غيره ، ولا يلتفتون إلى سواه من أمر الدين . قال الفرّاء : أي : ذلك قدر عقولهم ، ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة ، وقيل : الإشارة بقوله : { ذلك } إلى جعلهم للملائكة بنات الله ، وتسميتهم لهم تسمية الأنثى ، والأوّل أولى . والمراد بالعلم هنا : مطلق الإدراك الذي يندرج تحته الظنّ الفاسد ، والجملة مستأنفة لتقرير جهلهم ، واتباعهم مجرّد الظن ، وقيل : معترضة بين المعلل والعلة وهي قوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى } ، فإن هذا تعليل للأمر بالإعراض ، والمعنى : أنه سبحانه أعلم بمن حاد عن الحق ، وأعرض عنه ، ولم يهتد إليه ، وأعلم بمن اهتدى ، فقبل الحق ، وأقبل إليه ، وعمل به ، فهو مجاز كل عامل بعمله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ .

وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له بأن لا يتعب نفسه في دعوة من أصرّ على الضلالة ، وسبقت له الشقاوة ، فإن الله قد علم حال هذا الفريق الضال ، كما علم حال الفريق الراشد . ثم أخبر سبحانه عن سعة قدرته ، وعظيم ملكه ، فقال : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } أي : هو المالك لذلك ، والمتصرّف فيه لا يشاركه فيه أحد ، واللام في : { لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ } متعلقة بما دلّ عليه الكلام ، كأنه قال : هو مالك ذلك يضلّ من يشاء ، ويهدي من يشاء ليجزي المسيء بإساءته ، والمحسن بإحسانه . وقيل : إن قوله : { وَللَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } معترضة ، والمعنى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بمن اهتدى ليجزي ، وقيل : هي لام العاقبة ، أي : وعاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء أن يجزي الله كلاً منهما بعمله . وقال مكي : إن اللام متعلقة بقوله : { لاَ تُغْنِى شفاعتهم } وهو بعيد من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى . قرأ الجمهور : { ليجزي } بالتحتية . وقرأ زيد بن عليّ بالنون ، ومعنى { بالحسنى } أي : بالمثوبة الحسنى ، وهي الجنة ، أو بسبب أعمالهم الحسنى . ثم وصف هؤلاء المحسنين ، فقال : { الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش } فهذا الموصول في محل نصب على أنه نعت للموصول الأوّل في قوله : { الذين أَحْسَنُواْ } وقيل : بدل منه ، وقيل : بيان له ، وقيل : منصوب على المدح بإضمار أعني ، أو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين يجتنبون كبائر الإثم . قرأ الجمهور { كبائر } على الجمع . وقرأ حمزة ، والكسائي ، والأعمش ، ويحيى بن وثاب : { كبير } على الإفراد ، والكبائر : كل ذنب توعد الله عليه بالنار ، أو ذمّ فاعله ذماً شديداً ، ولأهل العلم في تحقيق الكبائر كلام طويل . وكما اختلفوا في تحقيق معناها وماهيتها اختلفوا في عددها ، والفواحش جمع فاحشة : وهي ما فحش من كبائر الذنوب كالزنا ، ونحوه . وقال مقاتل : كبائر الإثم كل ذنب ختم بالنار ، والفواحش : كل ذنب فيه الحد ، وقيل : الكبائر : الشرك ، والفواحش : الزنا ، وقد قدّمنا في سورة النساء ما هو أبسط من هذا ، وأكثر فائدة ، والاستثناء بقوله : { إِلاَّ اللمم } منقطع ، وأصل اللمم في اللغة : ما قلّ وصغر ، ومنه ألمّ بالمكان : قلّ لبثه فيه ، وألمّ بالطعام : قل أكله منه . قال المبرد : أصل اللمم أن تلمّ بالشيء من غير أن تركبه يقال : ألم بكذا : إذا قاربه ولم يخالطه .

قال الأزهري : العرب تستعمل الإلمام في معنى الدنوّ والقرب ، ومنه قول جرير :
بنفسي من تجنبه عزيز ... عليّ ومن زيارته لمام
وقول الآخر :
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً
قال الزجاج : أصل اللمم والإلمام : ما يعمله الإنسان المرّة بعد المرّة ، ولا يتعمق فيه ، ولا يقيم عليه ، يقال : ألممت به : إذا زرته ، وانصرفت عنه ، ويقال : ما فعلته إلاّ لماماً وإلماماً ، أي : الحين بعد الحين ، ومنه إلمام الخيال . قال الأعشى :
ألمّ خيال من قبيلة بعد ما ... وهَى حبلها من حبلنا فتصرّما
قال في الصحاح : ألمّ الرجل من ألمم وهو صغائر الذنوب ، ويقال : هو مقاربة المعصية من غير مواقعة ، وأنشد غيره :
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ... وقلّ أن تملينا فما ملك القلب
وقد اختلفت أقوال أهل العلم في تفسير هذا اللمم المذكور في الآية ، فالجمهور على أنه صغائر الذنوب ، وقيل : هو ما كان دون الزنا من القبلة ، والغمزة ، والنظرة ، وقيل : هو الرجل يلم بذنب ، ثم يتوب ، وبه قال مجاهد ، والحسن ، والزهري ، وغيرهم ، ومنه :
إن تغفر اللَّهم تغفر جمّا ... وأيّ عبد لك إلاّ ألمّا
اختار هذا القول الزجاج ، والنحاس ، وقيل : هو ذنوب الجاهلية ، فإن الله لا يؤاخذ بها في الإسلام ، وقال نفطويه : هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة . قال : والعرب تقول : ما تأتينا إلاّ إلماماً ، أي : في الحين بعد الحين ، قال : ولا يكون أن يلمّ ولا يفعل؛ لأن العرب لا تقول : ألمّ بنا إلاّ إذا فعل ، لا إذا همّ ولم يفعل ، والراجح الأول ، وجملة : { إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة } تعليل لما تضمنه الاستثناء ، أي : إن ذلك وإن خرج عن حكم المؤاخذة ، فليس يخلو عن كونه ذنباً يفتقر إلى مغفرة الله ، ويحتاج إلى رحمته ، وقيل : إنه سبحانه يغفر لمن تاب عن ذنبه . ثم ذكر سبحانه إحاطة علمه بأحوال عباده ، فقال : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } أي : خلقكم منها في ضمن خلق أبيكم آدم . وقيل : المراد آدم ، فإنه خلقه من طين { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } أي : هو أعلم بأحوالكم وقت كونكم أجنة ، والأجنة جمع جنين وهو الولد ما دام في البطن سمي بذلك لاجتنانه ، أي : استتاره ، ولهذا قال : { فِى بُطُونِ أمهاتكم } فلا يسمى من خرج عن البطن جنيناً ، والجملة مستأنفة؛ لتقرير ما قبلها { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } أي : لا تمدحوها ولا تبرئوها عن الآثام ولا تثنوا عليها ، فإن ترك تزكية النفس أبعد من الرياء ، وأقرب إلى الخشوع ، وجملة { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } : مستأنفة مقررة للنهي ، أي : هو أعلم بمن اتقى عقوبة الله ، وأخلص العمل له .

قال الحسن : وقد علم سبحانه من كل نفس ما هي عاملة ، وما هي صانعة ، وإلى ما هي صائرة . ثم لما بيّن سبحانه جهالة المشركين على العموم خصّ بالذمّ بعضهم فقال : { أَفَرَأَيْتَ الذى تولى } أي : تولى عن الخير ، وأعرض عن اتباع الحق { وأعطى قَلِيلاً وأكدى } أي : أعطى عطاءً قليلاً ، أو أعطى شيئًا قليلاً ، وقطع ذلك وأمسك عنه ، وأصل أكدى من الكدية وهي الصلابة ، يقال لمن حفر بئراً ثم بلغ فيها إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر : قد أكدى ، ثم استعملته العرب لمن أعطى فلم يتمّ ، ولمن طلب شيئًا فلم يبلغ آخره ، ومنه قول الحطيئة :
فأَعطى قليلاً ثم أكْدَى عطاؤه ... ومن يَبْذُلِ المعروف في الناس يحمد
قال الكسائي ، وأبو زيد ، ويقال : كديت أصابعه : إذا محلت من الحفر ، وكدت يده : إذا كلت ، فلم تعمل شيئًا ، وكدت الأرض : إذا قل نباتها ، وأكديت الرجل عن الشيء رددته ، وأكدى الرجل : إذا قلّ خيره . قال الفراء : معنى الآية : أمسك من العطية وقطع . وقال المبرد : منع منعاً شديداً . قال مجاهد ، وابن زيد ، ومقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه ، فعيره بعض المشركين ، فترك ورجع إلى شركه . قال مقاتل : كان الوليد مدح القرآن ، ثم أمسك عنه ، فأعطى قليلاً من لسانه من الخير ثم قطعه . وقال الضحاك : نزلت في النضر بن الحارث . وقال محمد بن كعب القرظي : نزلت في أبي جهل { أعنده عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى } الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : أعند هذا المكدي علم ما غاب عنه من أمر العذاب ، فهو يعلم ذلك { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِى صُحُفِ موسى * وإبراهيم الذى وفى } أي : ألم يخبر ، ولم يحدّث بما في صحف موسى ، يعني : أسفاره ، وهي التوراة ، وبما في صحف إبراهيم ، الذي وفى أي : تمم وأكمل ما أمر به . قال المفسرون : أي : بلغ قومه ما أمر به وأدّاه إليهم ، وقيل : بالغ في الوفاء بما عاهد الله عليه ، ثم بيّن سبحانه ما في صحفهما ، فقال : { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } أي : لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى ، ومعناه : لا تؤخذ نفس بذنب غيرها ، وأن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن مقدّر ، وخبرها الجملة بعدها ، ومحل الجملة الجرّ على أنها بدل من صحف موسى ، وصحف إبراهيم ، أو الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، وقد مضى تفسير هذه الآية في سورة الأنعام { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } عطف على قوله : { أَلاَّ تَزِرُ } وهذا أيضاً مما في صحف موسى ، والمعنى : ليس له إلاّ أجر سعيه ، وجزاء عمله ، ولا ينفع أحداً عمل أحد ، وهذا العموم مخصوص بمثل قوله سبحانه :

{ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] ، وبمثل ما ورد في شفاعة الأنبياء ، والملائكة للعباد ، ومشروعية دعاء الأحياء للأموات ، ونحو ذلك ، ولم يصب من قال : إن هذه الآية منسوخة بمثل هذه الأمور ، فإن الخاصّ لا ينسخ العام بل يخصصه ، فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه ، كان مخصصاً لما في هذه الآية من العموم : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } أي : يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة { ثُمَّ يُجْزَاهُ } أي : يجزى الإنسان سعيه ، يقال : جزاه الله بعمله ، وجزاء على عمله ، فالضمير المرفوع عائد إلى الإنسان ، والمنصوب إلى سعيه . وقيل : إن الضمير المنصوب راجع إلى الجزاء المتأخر وهو قوله : { الجزاء الأوفى } فيكون الضمير راجعاً إلى متأخر عنه هو مفسر له ، ويجوز أن يكون الضمير المنصوب راجعاً إلى الجزاء الذي هو مصدر يجزاه ، ويجعل الجزاء الأوفى تفسيراً للجزاء المدلول عليه بالفعل ، كما في قوله : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ } [ المائدة : 8 ] قال الأخفش : يقال : جزيته الجزاء ، وجزيته بالجزاء سواءً لا فرق بينهما . { وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى } أي : المرجع والمصير إليه سبحانه لا إلى غيره ، فيجازيهم بأعمالهم .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش } قال : الكبائر : ما سمى الله فيه النار ، والفواحش : ما كان فيه حدّ الدنيا . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدّق ذلك ، أو يكذبه » وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله : { إِلاَّ اللمم } قال : زنا العينين : النظر ، وزنا الشفتين : التقبيل ، وزنا اليدين : البطش ، وزنا الرجلين : المشي ، ويصدّق ذلك الفرج ، أو يكذبه ، فإن تقدم بفرجه كان زانياً ، وإلاّ فهو اللمم . وأخرج مسدد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه سئل عن قوله : { إِلاَّ اللمم } قال : هي : النظرة ، والغمزة ، والقبلة ، والمباشرة ، فإذا مسّ الختان الختان ، فقد وجب الغسل ، وهو الزنا . وأخرج سعيد بن منصور ، والترمذي وصححه ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال في قوله : { إِلاَّ اللمم } هو : الرجل يلم بالفاحشة ، ثم يتوب منها . قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن تغفر اللَّهم تغفر جما ... وأيّ عبد لك لا ألما
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { اللمم } يقول : إلاّ ما قد سلف .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة في قوله : { إِلاَّ اللمم } قال : اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود ، فذلك الإلمام . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس قال : اللمم كل شيء بين الحدّين حدّ الدنيا وحدّ الآخرة يكفره الصلاة ، وهو دون كلّ موجب ، فأما حدّ الدنيا ، فكلّ حدّ فرض الله عقوبته في الدنيا؛ وأما حدّ الآخرة ، فكلّ شيء ختمه الله بالنار ، وأخر عقوبته إلى الآخرة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبيّ صغير قالوا : هو صدّيق ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : « كذبت يهود ما من نسمة يخلقها في بطن أمها إلاّ أنه شقيّ ، و سعيد » ، فأنزل الله عند ذلك { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض } الآية كلها . وأخرج أحمد ، ومسلم ، وأبو داود عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البرّ منكم ، سموها زينب » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وأعطى قَلِيلاً وأكدى } قال : قطع ، نزلت في العاص بن وائل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : أطاع قليلاً ثم انقطع . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والشيرازي في الألقاب ، والديلمي قال السيوطي : بسند ضعيف عن أبي أمامة عن النبيّ قال : « أتدرون ما قوله : { وإبراهيم الذى وفى } ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « وفّى عمل يومه بأربع ركعات كان يصليهنّ ، وزعم أنها صلاة الضحى » ، وفي إسناده جعفر بن الزبير ، وهو ضعيف . وأخرج الحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : سهام الإسلام ثلاثون سهماً لم يتممها أحد قبل إبراهيم عليه السلام قال الله : { وإبراهيم الذى وفى } . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : يقول إبراهيم الذي استكمل الطاعة فيما فعل بابنه حين رأى الرؤيا ، والذي في صحف موسى ، { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } إلى آخر الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } إلى آخر الآية [ الروم : 17 ] » ، وفي إسناده ابن لهيعة . وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس . قال : لما نزلت : { والنجم } فبلغ : { وإبراهيم الذى وفى } قال : وفّى { أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى } إلى قوله : { مّنَ النذر الأولى } .

وأخرج أبو داود ، والنحاس كلاهما في الناسخ ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه قال : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } فأنزل الله بعد ذلك : { والذين ءامَنُواْ واتبعتهم ذُرّيَّتُهُم بإيمان أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ } [ الطور : 21 ] ، فأدخل الله الأبناء الجنة بصلاح الآباء . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزاء الأوفى } استرجع واستكان . وأخرج الدارقطني في الأفراد ، والبغوي في تفسيره عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى } قال : « لا فكرة في الرب » .

وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)

قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } أي : هو الخالق لذلك والقاضي بسببه . قال الحسن ، والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة ، وأبكى أهل النار في النار . وقال الضحاك : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر ، وقيل : أضحك من شاء في الدنيا بأن سرّه ، وأبكى من شاء بأن غمه . وقال سهل بن عبد الله : أضحك المطيعين بالرحمة ، وأبكى العاصين بالسخط { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أي : قضى أسباب الموت والحياة ، ولا يقدر على ذلك غيره ، وقيل : خلق نفس الموت والحياة ، كما في قوله : { خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] وقيل : أمات الآباء ، وأحيا الأبناء ، وقيل : أمات في الدنيا وأحيا للبعث ، وقيل : المراد بهما : النوم واليقظة . وقال عطاء : أمات بعدله وأحيا بفضله ، وقيل : أمات الكافر وأحيا المؤمن ، كما في قوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] . { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } المراد : بالزوجين : الذكر والأنثى من كل حيوان ، ولا يدخل في ذلك آدم وحوّاء ، فإنهما لم يخلقا من النطفة ، والنطفة : الماء القليل ، ومعنى { إِذَا تمنى } : إذ تصبّ في الرحم وتدفق فيه ، كذا قال الكلبي ، والضحاك ، وعطاء بن أبي رباح ، وغيرهم ، يقال : مني الرجل وأمنى ، أي : صب المنيّ . وقال أبو عبيدة { إِذَا تمنى } إذا تقدّر ، يقال : منيت الشيء : إذا قدّرته ومني له ، أي : قدر له ، ومنه قول الشاعر :
حَتَّى تلاقي ما يمْني لَكَ الماني ... والمعنى : أنه يقدّر منها الولد . { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى } أي : إعادة الأرواح إلى الأجسام عند البعث وفاء بوعده . قرأ الجمهور : { النشأة } بالقصر بوزن الضربة ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالمدّ بوزن الكفالة ، وهما على القراءتين مصدران . { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } أي : أغنى من شاء وأفقر من شاء ، ومثله قوله : { يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] وقوله : « يَقْبِضُ ويبسط » [ البقرة : 245 ] قاله ابن زيد ، واختاره ابن جرير . وقال مجاهد ، وقتادة ، والحسن : أغنى : موّل ، وأقنى : أخدم ، وقيل : معنى أقنى : أعطى القنية ، وهي ما يتأثل من الأموال . وقيل : معنى أقنى : أرضى بما أعطى ، أي : أغناه ثم رضاه بما أعطاه . قال الجوهري : قنّى الرجل قنًى ، مثل غنّى غنًى ، أي : أعطاه ما يقتني ، وأقناه : أرضاه ، والقنى : الرضى . قال أبو زيد : تقول العرب : من أعطى مائة من البقر فقد أعطى القنى ، ومن أعطى مائة من الضأن فقد أعطى الغنى ، ومن أعطى مائة من الإبل فقد أعطى المنى . قال الأخفش ، وابن كيسان : أقنى : أفقر ، وهو يؤيد القول الأوّل . { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } هي كوكب خلف الجوزاء كانت خزاعة تعبدها ، والمراد بها : الشعرى التي يقال لها : العبور ، وهي أشدّ ضياء من الشعرى التي يقال لها : الغميصاء ، وإنما ذكر سبحانه أنه ربّ الشعرى مع كونه رباً لكلّ الأشياء للردّ على من كان يعبدها ، وأوّل من عبدها أبو كبشة ، وكان من أشراف العرب ، وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن أبي كبشة تشبيهاً له به لمخالفته دينهم ، كما خالفهم أبو كبشة ، ومن ذلك قول أبي سفيان يوم الفتح : لقد أمر أمْر ابن أبي كبشة .

{ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } وصف عاداً بالأولى لكونهم كانوا من قبل ثمود . قال ابن زيد : قيل لها : عاداً الأولى ، لأنهم أوّل أمة أهلكت بعد نوح . وقال ابن إسحاق : هما عادان ، فالأولى أهلكت بالصرصر ، والأخرى أهلكت بالصيحة . وقيل : عاد الأولى قوم هود ، وعاد الأخرى : إرم . قرأ الجمهور : { عاداً الأولى } بالتنوين والهمز ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن محيصن بنقل حركة الهمزة على اللام ، وإدغام التنوين فيها . { وَثَمُودَ فَمَا أبقى } أي : أهلك ثموداً كما أهلك عاداً ، فما أبقى أحداً من الفريقين ، وثمود هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة ، وقد تقدّم الكلام على عاد ، وثمود في غير موضع . { وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ } أي : وأهلك قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى } أي : أظلم من عاد وثمود وأطغى منهم ، أو أظلم وأطغى من جميع الفرق الكفرية ، أو أظلم وأطغى من مشركي العرب ، وإنما كانوا كذلك ، لأنهم عتوا على الله بالمعاصي مع طول مدة دعوة نوح لهم ، كما في قوله : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } [ العنكبوت : 14 ] { والمؤتفكة أهوى } الائتفاك : الانقلاب ، والمؤتفكة : مدائن قوم لوط ، وسميت المؤتفكة لأنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها ، تقول : أفكته : إذا قلبته ، ومعنى أهوى : أسقط ، أي : أهواها جبريل بعد أن رفعها . قال المبرد : جعلها تهوي . { فغشاها مَا غشى } أي : ألبسها ما ألبسها من الحجارة التي وقعت عليها ، كما في قوله : { فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } [ الحجر : 74 ] وفي هذه العبارة تهويل للأمر الذي غشاها به ، وتعظيم له ، وقيل : إن الضمير راجع إلى جميع الأمم المذكورة ، أي : فغشاها من العذاب ما غشّى على اختلاف أنواعه . { فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى } هذا خطاب للإنسان المكذب ، أي : فبأي نعم ربك أيها الإنسان المكذب تشكك وتمتري ، وقيل : الخطاب لرسول الله تعريضاً لغيره ، وقيل : لكلّ من يصلح له ، وإسناد فعل التماري إلى الواحد باعتبار تعدّده بحسب تعدد متعلقه ، وسمى هذه الأمور المذكورة آلاء ، أي : نعماً مع كون بعضها نقماً لا نعماً؛ لأنها مشتملة على العبر والمواعظ ، ولكون فيها انتقام من العصاة ، وفي ذلك نصرة للأنبياء والصالحين . قرأ الجمهور { تتمارى } من غير إدغام ، وقرأ يعقوب ، وابن محيصن بإدغام إحدى التاءين في الأخرى . { هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الاولى } أي : هذا محمد رسول إليكم من الرسل المتقدّمين قبله ، فإنه أنذركم ، كما أنذروا قومهم ، كذا قال ابن جريج ، ومحمد بن كعب ، وغيرهما .

وقال قتادة : يريد القرآن ، وأنه أنذر بما أنذرت به الكتب الأولى ، وقيل : هذا الذي أخبرنا به عن أخبار الأمم تخويف لهذه الأمة من أن ينزل بهم ما نزل بأولئك ، كذا قال أبو مالك . وقال أبو صالح : إن الإشارة بقوله : { هذا } إلى ما في صحف موسى ، وإبراهيم ، والأوّل أولى . { أَزِفَتِ الازفة } أي : قربت الساعة ودنت ، سماها آزفة لقرب قيامها ، وقيل : لدنوّها من الناس ، كما في قوله : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] أخبرهم بذلك ليستعدّوا لها . قال في الصحاح : أزفت الآزفة : يعني : القيامة ، وأزف الرجل : عجل ، ومنه قول الشاعر :
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد
{ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } أي : ليس لها نفس قادرة على كشفها عند وقوعها إلاّ الله سبحانه ، وقيل : كاشفة بمعنى انكشاف ، والهاء فيها كالهاء في العاقبة والداهية ، وقيل : كاشفة بمعنى كاشف ، والهاء للمبالغة كرواية ، والأوّل أولى . وكاشفة صفة لموصوف محذوف ، كما ذكرنا ، والمعنى : أنه لا يقدر على كشفها إذا غشت الخلق بشدائدها ، وأهوالها أحد غير الله ، كذا قال عطاء ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم . ثم وبّخهم سبحانه ، فقال : { أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ } المراد بالحديث : القرآن ، أي : كيف تعجبون منه تكذيباً { وَتَضْحَكُونَ } منه استهزاءً مع كونه غير محلّ للتكذيب ، ولا موضع للاستهزاء { وَلاَ تَبْكُونَ } خوفاً وانزجاراً لما فيه من الوعيد الشديد ، وجملة : { وَأَنتُمْ سامدون } في محل نصب على الحال ، ويجوز أن تكون مستأنفة لتقرير ما فيها ، والسمود : الغفلة والسهو عن الشيء ، وقال في الصحاح : سمد سموداً . رفع رأسه تكبراً ، فهو سامد ، قال الشاعر :
سوامد الليل خفاف الأزواد ... وقال ابن الأعرابي : السمود : اللهو ، والسامد : اللاهي ، يقال للقينة : أسمدينا ، أي : ألهينا بالغناء ، وقال المبرد : سامدون ، خامدون . قال الشاعر :
رمى الحدثان نسوة آل عمرو ... بمقدار سمدن له سمودا
فردّ شعورهنّ السود بيضا ... وردّ وجوههنّ البيض سودا
{ فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } لما وبّخ سبحانه المشركين على الاستهزاء بالقرآن ، والضحك منه ، والسخرية به ، وعدم الانتفاع بمواعظه وزواجره ، أمر عباده المؤمنين بالسجود لله ، والعبادة له ، والفاء جواب شرط محذوف ، أي : إذا كان الأمر من الكفار كذلك ، فاسجدوا لله واعبدوا ، فإنه المستحق لذلك منكم ، وقد تقدم في فاتحة السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد عند تلاوة هذه الآية ، وسجد معه الكفار ، فيكون المراد بها سجود التلاوة ، وقيل : سجود الفرض .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } قال : أعطى وأرضى . وأخرج ابن جرير عنه { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } قال : هو الكوكب الذي يدعى الشعرى . وأخرج الفاكهي عنه أيضاً قال : نزلت هذه الآية في خزاعة ، وكانوا يعبدون الشعرى ، وهو الكوكب الذي يتبع الجوزاء .

وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الأولى } قال : محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : الآزفة من أسماء القيامة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن صالح أبي الخليل قال : لما نزلت هذه الآية : { أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } فما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلاّ أن يتبسم . ولفظ عبد بن حميد : فما رؤي النبيّ صلى الله عليه وسلم ضاحكاً ، ولا متبسماً حتى ذهب من الدنيا . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { سامدون } قال : لاهون معرضون عنه . وأخرج الفريابي ، وأبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه : { وَأَنتُمْ سامدون } قال : الغناء باليمانية ، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا ولعبوا . وأخرج الفريابي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { سامدون } قال : كانوا يمرّون على النبيّ صلى الله عليه وسلم شامخين ، ألم تر إلى البعير كيف يخطر شامخاً . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن أبي خالد الوالبي قال : خرج عليّ بن أبي طالب علينا ، وقد أقيمت الصلاة ، ونحن قيام ننتظره ليتقدّم ، فقال : ما لكم سامدون ، لا أنتم في صلاة ولا أنتم في جلوس تنتظرون؟

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)

قوله : { اقتربت الساعة وانشق القمر } أي : قربت ، ولا شك أنها قد صارت باعتبار نسبة ما بقي بعد قيام النبوّة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة . ويمكن أن يقال : إنها لما كانت متحققة الوقوع لا محالة كانت قريبة ، فكلّ آت قريب { وانشق القمر } أي : وقد انشقّ القمر ، وكذا قرأ حذيفة بزيادة « قد » ، والمراد الانشقاق الواقع في أيام النبوّة معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف . قال الواحدي : وجماعة المفسرين على هذا إلاّ ما روى عثمان بن عطاء عن أبيه أنه قال : المعنى : سينشقّ القمر ، والعلماء كلهم على خلافه . قال : وإنما ذكر اقتراب الساعة مع انشقاق القمر؛ لأن انشقاقه من علامات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ونبوّته وزمانه من أشراط اقتراب الساعة . قال ابن كيسان : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : انشقّ القمر ، واقتربت الساعة . وحكى القرطبي عن الحسن مثل قول عطاء أنه الانشقاق الكائن يوم القيامة . وقيل : معنى { وانشقّ القمر } : وضح الأمر وظهر ، والعرب تضرب بالقمر المثل فيما وضح ، وقيل : انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه ، وطلوعه في أثنائها ، كما يسمى الصبح فلقاً لانفلاق الظلمة عنه . قال ابن كثير : قد كان الانشقاق في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما ثبت ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة . قال : وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات . قال الزجاج : زعم قوم عندوا عن القصد وما عليه أهل العلم أن تأويله أن القمر ينشقّ يوم القيامة ، والأمر بين في اللفظ ، وإجماع أهل العلم ، لأن قوله : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } يدلّ على أن هذا كان في الدنيا لا في القيامة . انتهى ، ولم يأت من خالف الجمهور ، وقال إن الانشقاق سيكون يوم القيامة إلاّ بمجرد استبعاد ، فقال : لأنه لو انشق في زمن النبوّة لم يبق أحد إلاّ رآه؛ لأنه آية والناس في الآيات سواء . ويجاب عنه بأنه لا يلزم أن يراه كل أحد لا عقلاً ، ولا شرعاً ، ولا عادة ، ومع هذا ، فقد نقل إلينا بطريق التواتر ، وهذا بمجرده يدفع الاستبعاد ، ويضرب به في وجه قائله .
والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله ، فقد أخبرنا بأنه انشقّ ، ولم يخبرنا بأنه سينشق ، وإن نظرنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ثبت في الصحيح ، وغيره من طرق متواترة أنه قد كان ذلك في أيام النبوّة ، وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم ، فقد اتفقوا على هذا ، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذّ ، واستبعاد من استبعد ، وسيأتي ذكر بعض ما ورد في ذلك إن شاء الله .

{ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } قال الواحدي : قال المفسرون : لما انشقّ القمر قال المشركون : سحرنا محمد ، فقال الله : { وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً } يعني : انشقاق القمر يعرضوا عن التصديق والإيمان بها ، ويقولوا : سحر قويّ شديد يعلو كل سحر ، من قولهم استمرّ الشيء : إذا قوي واستحكم ، وقد قال بأن معنى { مستمرّ } : قوي شديد جماعة من أهل العلم . قال الأخفش : هو مأخوذ من إمرار الحبل ، وهو شدّة فتله ، وبه قال أبو العالية ، والضحاك ، واختاره النحاس ، ومنه قول لقيط :
حتَّى استمرّت على شَر لا يزنه ... صِدْقُ العزيمة لا رثا ولا ضَرَعا
وقال الفراء ، والكسائي ، وأبو عبيدة : { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } أي : ذاهب ، من قولهم مرّ الشيء ، واستمرّ إذا ذهب ، وبه قال قتادة ، ومجاهد ، وغيرهما ، واختاره النحاس . وقيل : معنى مستمرّ : دائم مطرد ، ومنه قول الشاعر :
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ... وليس على شيء قديم بمستمر
أي : بدائم باق ، وقيل : { مستمرّ } : باطل ، روي هذا عن أبي عبيدة أيضاً . وقيل : يشبه بعضه بعضاً ، وقيل : قد مرّ من الأرض إلى السماء ، وقيل : هو من المرارة ، يقال : مرّ الشيء صار مرًّا ، أي : مستبشع عندهم . وفي هذه الآية أعظم دليل على أن الانشقاق قد كان ، كما قررناه سابقاً . ثم ذكر سبحانه تكذيبهم ، فقال : { وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَاءهُمْ } أي : وكذبوا رسول الله ، وما عاينوا من قدرة الله ، واتبعوا أهواءهم ، وما زيّنه لهم الشيطان الرجيم ، وجملة : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } مستأنفة لتقرير بطلان ما قالوه من التكذيب ، واتباع الأهواء ، أي : وكل أمر من الأمور منته إلى غاية ، فالخير يستقرّ بأهل الخير ، والشرّ يستقر بأهل الشرّ . قال الفراء : يقول يستقرّ قرار تكذيبهم ، وقرار قول المصدّقين حتى يعرفوا حقيقته بالثواب والعقاب . قال الكلبي : المعنى لكل أمر حقيقة ما كان منه في الدنيا فسيظهر ، وما كان منه في الآخرة فسيعرف . قرأ الجمهور { مستقرّ } بكسر القاف ، وهو مرتفع على أنه خبر المبتدأ وهو « كل » . وقرأ أبو جعفر ، وزيد بن علي بجر ( مستقرّ ) على أنه صفة ل { أمر } ، وقرأ شيبة بفتح القاف ، ورويت هذه القراءة عن نافع . قال أبو حاتم : ولا وجه لها ، وقيل : لها وجه بتقدير مضاف محذوف ، أي : وكل أمر ذو استقرار ، أو زمان استقرار ، أو مكان استقرار ، على أنه مصدر ، أو ظرف زمان ، أو ظرف مكان { وَلَقَدْ جَاءهُم مّنَ الأنباء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي : ولقد جاء كفار مكة ، أو الكفار على العموم من الأنباء ، ومن أخبار الأمم المكذبة المقصوصة علينا في القرآن { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي : ازدجار على أنه مصدر ميميّ ، يقال : زجرته : إذا نهيته عن السوء ووعظته ، ويجوز أن يكون اسم مكان ، والمعنى : جاءهم ما فيه موضع ازدجار ، أي : أنه في نفسه موضع لذلك ، وأصله : مزتجر ، « وتاء » الافتعال تقلب دالاً مع الزاي والدال والذال ، كما تقرّر في موضعه ، وقرأ زيد بن عليّ : ( مزجّر ) بقلب تاء الافتعال زاياً وإدغام الزاي في الزاي ، و « من » في قوله : { مّنَ الأنباء } للتبعيض ، وهي وما دخلت عليه في محل نصب على الحال ، وارتفاع { حِكْمَةٌ بالغة } على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من « ما » بدل كل من كل ، أو بدل اشتمال ، والمعنى : أن القرآن حكمة قد بلغت الغاية ليس فيها نقص ولا خلل ، وقرىء بالنصب على أنها حال من ما أي : حال كون ما فيه مزدجر حكمة بالغة { فَمَا تُغْنِى النذر } « ما » يجوز أن تكون استفهامية ، وأن تكون نافية ، أي : أيّ شيء تغني النذر ، أو لم تغن النذر شيئًا ، والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة ، والنذر جمع نذير بمعنى : المنذر ، أو بمعنى الإنذار على أنه مصدر .

ثم أمره الله سبحانه بالإعراض عنهم ، فقال : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي : أعرض عنهم حيث لم يؤثر فيهم الإنذار ، وهي منسوخة بآية السيف { يَوْمَ يَدْعُو الداع إلى شَىْء نُّكُرٍ } انتصاب الظرف إما بفعل مقدّر ، أي : اذكر ، وإما ب { يخرجون } المذكور بعده ، وإما بقوله : { فَمَا تُغْنِى } ، ويكون قوله : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } اعتراض ، أو بقوله : { يَقُولُ الكافرون } أو بقوله : { خُشَّعاً } وسقطت الواو من { يدع } اتباعاً للفظ ، وقد وقعت في الرسم هكذا ، وحذفت الياء من الداع للتخفيف ، واكتفاء بالكسرة ، والداع : هو إسرافيل ، والشيء النكر : الأمر الفظيع الذي ينكرونه استعظاماً له لعدم تقدّم العهد لهم بمثله . قرأ الجمهور بضم الكاف . وقرأ ابن كثير بسكونها تخفيفاً . وقرأ مجاهد ، وقتادة بكسر الكاف ، وفتح الراء على صيغة الفعل المجهول { خُشَّعاً أبصارهم } قرأ الجمهور : { خشعاً } جمع خاشع . وقرأ حمزة ، والكسائي وأبو عمرو : { خاشعاً } على الإفراد ، ومنه قول الشاعر :
وَشَبَاب حَسَن أَوْجُهُهُم من ... إياد بن نِزارِ بن مَعد
وقرأ ابن مسعود ( خاشعة ) قال الفراء : الصفة إذا تقدّمت على الجماعة جاز فيها التذكير والتأنيث والجمع ، يعني : جمع التكسير لا جمع السلامة؛ لأنه يكون من الجمع بين فاعلين ، ومثل قراءة الجمهور قول امرىء القيس :
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وانتصاب { خشعاً } على الحال من فاعل يخرجون ، أو من الضمير في { عنهم } ، والخشوع في البصر : الخضوع والذلة ، وأضاف الخشوع إلى الأبصار؛ لأن العزّ والذلّ يتبين فيها { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي : يخرجون من القبور ، وواحد الأجداث : جدث ، وهو القبر ، كأنهم لكثرتهم واختلاط بعضهم ببعض جراد منتشر ، أي : منبث في الأقطار مختلط بعضه ببعض .

{ مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } الإهطاع : الإسراع ، أي : قال كونهم مسرعين إلى الداعي ، وهو إسرافيل ، ومنه قول الشاعر :
بِدجْلةَ دَارهُم ولقد أرَاهُمْ ... بِدجْلَةََ مُهْطِْعين إلى السَّماعِ
أي : مسرعين إليه ، وقال الضحاك : مقبلين ، وقال قتادة : عامدين . وقال عكرمة : فاتحين آذانهم إلى الصوت ، والأوّل أولى ، وبه قال أبو عبيدة ، وغيره ، وجملة : { يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } في محل نصب على الحال من ضمير { مهطعين } ، والرابط مقدر ، أو مستأنفة جواب سؤال مقدّر؛ كأنه قيل : فماذا يكون حينئذ ، والعسر : الصعب الشديد ، وفي إسناد هذا القول إلى الكفار دليل على أن اليوم ليس بشديد على المؤمنين . ثم ذكر سبحانه تفصيل بعض ما تقدّم من الأنباء المجملة فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } أي : كذبوا نبيهم ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } تفسير لما قبله من التكذيب المبهم ، وفيه مزيد تقرير وتأكيد ، أي : فكذبوا عبدنا نوحاً ، وقيل المعنى : كذبت قوم نوح الرسل ، فكذبوا عبدنا نوحاً بتكذيبهم للرسل فإنه منهم . ثم بيّن سبحانه أنهم لم يقتصروا على مجرّد التكذيب ، فقال : { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ } أي : نسبوا نوحاً إلى الجنون ، وقوله : { وازدجر } معطوف على قالوا ، أي : وزجر عن دعوى النبوّة ، وعن تبليغ ما أرسل به بأنواع الزجر ، والدال بدل من تاء الافتعال ، كما تقدّم قريباً ، وقيل : إنه معطوف على { مجنون } أي : وقالوا إنه ازدجر . أي : ازدجرته الجنّ ، وذهبت بلبه ، والأوّل أولى . قال مجاهد : هو من كلام الله سبحانه أخبر عنه بأنه انتهر وزجر بالسبّ وأنواع الأذى . قال الرازي : وهذا أصح؛ لأن المقصود تقوية قلب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذكر من تقدّمه . { فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فانتصر } أي : دعا نوح ربه على قومه بأني مغلوب من جهة قومي ، لتمرّدهم عن الطاعة ، وزجرهم لي عن تبليغ الرسالة ، فانتصر لي ، أي : انتقم لي منهم . طلب من ربه سبحانه النصرة عليهم لما أيس من إجابتهم ، وعلم تمرّدهم وعتوّهم ، وإصرارهم على ضلالتهم . قرأ الجمهور : { أني } بفتح الهمزة ، أي : بأني . وقرأ ابن أبي إسحاق ، والأعمش بكسر الهمزة ، ورويت هذه القراءة عن عاصم على تقدير إضمار القول ، أي : فقال . ثم ذكر سبحانه ما عاقبهم به فقال : { فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } أي منصبّ انصباباً شديداً ، والهمر : الصبّ بكثرة ، يقال : همر الماء والدمع يهمر همراً ، وهموراً : إذا كثر ، ومنه قول الشاعر :
أعينيّ جُودا بالدَّموعِ الهَوَامرِ ... على خيرِ بَادٍ من مَعَدٍّ وحَاضِرِ
ومنه قول امرىء القيس يصف عيناً :
رَاحَ تمرّ به الصَّبَا ثم انْتَحَى ... فيه بشُؤْبوُب جَنُوبٍ مُنْهَمرِ
قرأ الجمهور { فتحنا } مخففاً . وقرأ ابن عامر ، ويعقوب بالتشديد { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } أي : جعلنا الأرض كلها عيوناً متفجرة ، والأصل : فجرنا عيون الأرض .

قرأ الجمهور { فجرنا } بالتشديد . وقرأ ابن مسعود ، وأبو حيوة ، وعاصم في رواية عنه بالتخفيف . قال عبيد بن عمير : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها ، فتفجرت بالعيون . { فَالْتَقَى الماء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي : التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قضي عليهم ، أي : كائناً على حال قدّرها الله وقضى بها . وحكى ابن قتيبة أن المعنى على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ، بل كان ماء السماء وماء الأرض على سواء . قال قتادة : قدّر لهم إذا كفروا أن يغرقوا . وقرأ الجحدري ( فالتقى الماءان ) وقرأ الحسن ( فالتقى الماوان ) ورويت هذه القراءة عن عليّ بن أبي طالب ، ومحمد بن كعب : { وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ } أي : وحملنا نوحاً على سفينة ذات ألواح ، وهي الأخشاب العريضة { وَدُسُرٍ } قال الزجاج : هي المسامير التي تشدّ بها الألواح واحدها : دسار ، وكل شيء أدخل في شيء يشدّه فهو الدسر ، وكذا قال قتادة ، ومحمد بن كعب ، وابن زيد ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم . وقال الحسن ، وشهر بن حوشب ، وعكرمة : الدسر : ظهر السفينة التي يضربها الموج ، سميت بذلك لأنها تدسر الماء ، أي : تدفعه ، والدسر : الدفع . وقال الليث : الدسار : خيط تشدّ به ألواح السفينة . قال في الصحاح : الدسار واحد الدسر : وهي خيوط تشدّ بها ألواح السفينة ، ويقال : هي المسامير { تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا } أي : بمنظر ومرأى منا وحفظ لها ، كما في قوله : { واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا } [ هود : 37 ] وقيل : بأمرنا ، وقيل : بوحينا ، وقيل : بالأعين النابعة من الأرض ، وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها { جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ } قال الفراء : فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثواباً لمن كفر به وجحد أمره ، وهو نوح عليه السلام ، فإنه كان لهم نعمة كفروها ، فانتصاب { جزاء } على العلة ، وقيل : على المصدرية بفعل مقدّر ، أي : جازيناهم جزاء . قرأ الجمهور ( كفر ) مبنياً للمفعول ، والمراد به نوح . وقيل : هو الله سبحانه ، فإنهم كفروا به ، وجحدوا نعمته . وقرأ يزيد بن رومان ، وقتادة ، ومجاهد ، وحميد ، وعيسى كفر بفتح الكاف ، والفاء مبنياً للفاعل ، أي : جزاء وعقاباً لمن كفر بالله . { وَلَقَدْ تركناها ءايَةً } أي : السفينة تركها الله عبرة للمعتبرين ، وقيل المعنى : ولقد تركنا هذه الفعلة التي فعلناها بهم عبرة ، وموعظة . { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أصله : مذتكر ، فأبدلت التاء دالاً مهملة ، ثم أبدلت المعجمة مهملة لتقاربهما ، وأدغمت الدال في الذال ، والمعنى : هل من متعظ ومعتبر يتعظ بهذه الآية ، ويعتبر بها . { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } أي : إنذاري . قال الفراء : الإنذار والنذر مصدران ، والاستفهام للتهويل والتعجيب ، أي : كانا على كيفية هائلة عجيبة لا يحيط بها الوصف ، وقيل : نذر جمع نذير ، ونذير بمعنى الإنذار كنكير : بمعنى الإنكار { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ } أي : سهلناه للحفظ ، وأعنا عليه من أراد حفظه ، وقيل : هيأناه للتذكر والاتعاظ { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي : متعظ بمواعظه ومعتبر بعبره .

وفي الآية الحث على درس القرآن ، والاستكثار من تلاوته ، والمسارعة في تعلمه ، ومدكر أصله : مذتكر ، كما تقدّم قريباً .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس : أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما . وروي عنه من طريق أخرى عند مسلم ، والترمذي ، وغيرهم وقال : فنزلت : { اقتربت الساعة وانشق القمر } وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اشهدوا » وأخرج عبد بن حميد ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عنه قال : رأيت القمر منشقاً شقتين مرّتين : مرّة بمكة قبل أن يخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم : شقة على أبي قبيس ، وشقة على السويداء . وذكر أن هذا سبب نزول الآية . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم عنه أيضاً قال : رأيت القمر وقد انشقّ ، وأبصرت الجبل بين فرجتي القمر . وله طرق عنه . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس قال : انشقّ القمر في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم . وله طرق عنه . وأخرج مسلم ، والترمذي ، وغيرهما عن ابن عمر في قوله : { اقتربت الساعة وانشق القمر } قال : كان ذلك على عهد رسول الله انشقّ فرقتين : فرقة من دون الجبل ، وفرقة خلفه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « اللَّهم اشهد » وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن جبير بن مطعم عن أبيه في قوله : { وانشق القمر } قال : انشقّ القمر ونحن بمكة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقال الناس : سحرنا محمد ، فقال رجل : إن كان سحركم ، فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن مردويه ، وأبو نعيم عن عبد الرحمن السلمي قال : خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشقّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، اليوم المضمار وغداً السباق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مُهْطِعِينَ } قال : ناظرين . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } قال كثير : لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ، ولا بعده إلاّ من السحاب ، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم ، فالتقى الماءان .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أيضاً { على ذَاتِ ألواح وَدُسُرٍ } قال : الألواح : ألواح السفينة ، والدسر : معاريضها التي تشد بها السفينة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { وَدُسُرٍ } قال : المسامير . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : الدسر كلكل السفينة . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عنه أيضاً في قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ } قال : لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلموا بكلام الله . وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعاً مثله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } قال : هل من متذكر .

كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

قوله : { كَذَّبَتْ عَادٌ } هم : قوم عاد { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } أي : فاسمعوا كيف كان عذابي لهم وإنذاري إياهم ، ونذر مصدر بمعنى إنذار ، كما تقدّم تحقيقه ، والاستفهام للتهويل والتعظيم { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } هذه الجملة مبينة لما أجمله سابقاً من العذاب ، والصرصر : شدّة البرد ، أي : ريح شديدة البرد ، وقيل : الصرصر : شدّة الصوت ، وقد تقدّم بيانه في سورة حمالسجدة { فِى يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرّ } أي : دائم الشؤم استمرّ عليهم بنحوسه ، وقد كانوا يتشاءمون بذلك اليوم . قال الزجاج : قيل : في يوم الأربعاء في آخر الشهر . قرأ الجمهور : { في يوم نحس } بإضافة { يوم } إلى { نحس } مع سكون الحاء ، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، أو على تقدير مضاف أي في يوم عذاب نحس . وقرأ الحسن بتنوين « يوم » على أن { نحس } صفة له . وقرأ هارون بكسر الحاء . قال الضحاك : كان ذلك اليوم مرّاً عليهم . وكذا حكى الكسائي عن قوم أنهم قالوا : هو من المرارة ، وقيل : هو من المرّة بمعنى : القوّة ، أي : في يوم قويّ الشؤم مستحكمه ، كالشيء المحكم الفتل الذي لا يطاق نقضه ، والظاهر أنه من الاستمرار ، لا من المرارة ، ولا من المرّة ، أي : دام عليهم العذاب فيه حتى أهلكهم ، وشمل بهلاكه كبيرهم وصغيرهم . وجملة : { تَنزِعُ الناس } : في محل نصب على أنها صفة ل { ريحاً } ، أو حال منها ، ويجوز أن يكون استئنافاً ، أي : تقلعهم من الأرض من تحت أقدامهم اقتلاع النخلة من أصلها . قال مجاهد : كانت تقلعهم من الأرض ، فترمي بهم على رؤوسهم فتدقّ أعناقهم ، وتبين رؤوسهم من أجسادهم ، وقيل : تنزع الناس من البيوت ، وقيل : من قبورهم؛ لأنهم حفروا حفائر ودخلوها { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } الأعجاز : جمع عجز ، وهو مؤخر الشيء ، والمنقعر : المنقطع المنقلع من أصله ، يقال : قعرت النخلة : إذا قلعتها من أصلها حتى تسقط . شبههم في طول قاماتهم حين صرعتهم الريح ، وطرحتهم على وجوههم بالنخل الساقط على الأرض التي ليست لها رؤوس ، وذلك أن الرّيح قلعت رؤوسهم أولاً ، ثم كتّبتهم على وجوههم ، وتذكير منقعر مع كونه صفة لأعجاز نخل ، وهي مؤنثة اعتباراً باللفظ ، ويجوز تأنيثه اعتباراً بالمعنى ، كما قال : { أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] قال المبرد : كل ما ورد عليك من هذا الباب إن شئت رددته إلى اللفظ تذكيراً ، أو إلى المعنى تأنيثاً . وقيل : إن النخل والنخيل يذكر ويؤنث { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } قد تقدّم تفسيره قريباً ، وكذلك قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } . ثم لما ذكر سبحانه تكذيب عاد أتبعه بتكذيب ثمود ، فقال : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بالنذر } يجوز أن يكون جمع نذير ، أي : كذبت بالرّسل المرسلين إليهم ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار ، أي : كذبت بالإنذار الذي أنذروا به ، وإنما كان تكذيبهم لرسولهم وهو صالح تكذيباً للرسل؛ لأن من كذب واحداً من الأنبياء فقد كذب سائرهم؛ لاتفاقهم في الدعوة إلى كليات الشرائع { فَقَالُواْ أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ } الاستفهام للإنكار ، أي : كيف نتبع بشراً كائناً من جنسنا منفرداً وحده لا متابع له على ما يدعو إليه .

قرأ الجمهور : بنصب { بشراً } على الاشتغال ، أي : أنتبع بشراً واحداً . وقرأ أبو السماك ، والداني ، وأبو الأشهب ، وابن السميفع بالرفع على الابتداء ، و { واحداً } صفته ، و { نتبعه } خبره . وروي عن أبي السماك أنه قرأ برفع ( بشراً ) ونصب ( واحداً ) على الحال { إِنَّا إِذاً لَّفِى ضلال } أي : إنا إذا اتبعناه لفي خطأ ، وذهاب عن الحق { وَسُعُرٍ } أي : عذاب وعناء وشدّة كذا قال الفراء ، وغيره . وقال أبو عبيدة : هو جمع سعير ، وهو لهب النار ، والسعر : الجنون يذهب كذا وكذا لما يلتهب به من الحدّة . وقال مجاهد : { وسعر } وبُعد عن الحقّ . وقال السديّ : في احتراق ، وقيل المراد به هنا : الجنون ، من قولهم : ناقة مسعورة أي : كأنها من شدّة نشاطها مجنونة ، ومنه قول الشاعر يصف ناقة :
تَخالُ بها سُعْراً إِذَا السَّعْرُ هَزَّهَا ... ذَمِيلٌ وإِيقاعٌ من السَّيْرِ مُتْعِبُ
ثم كرّروا الإنكار والاستبعاد فقالوا : { أألقي الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } أي : كيف خصّ من بيننا بالوحي والنبوّة ، وفينا من هو أحقّ بذلك منه؟ ثم أضربوا عن الاستنكار ، وانتقلوا إلى الجزم بكونه كذاباً أشراً فقالوا : { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } والأشر : المرح والنشاط ، أو البطر والتكبر ، وتفسيره بالبطر والتكبر أنسب بالمقام ، ومنه قول الشاعر :
أشِرتُمْ بِلْبس الخَزَّ لما لَبِستُمُ ... ومن قبلُ لا تْدرون مَنْ فَتَحَ القُرى
قرأ الجمهور { أشر } كفرح . وقرأ أبو قلابة ، وأبو جعفر بفتح الشين وتشديد الرّاء على أنه أفعل تفضيل ، ونقل الكسائي عن مجاهد أنه قرأ بضم الشين مع فتح الهمزة . ثم أجاب سبحانه عليهم بقوله : { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر } والمراد بقوله { غداً } : وقت نزول العذاب بهم في الدنيا ، أو في يوم القيامة جرياً على عادة الناس في التعبير بالغد عن المستقبل من الأمر وإن بعد ، كما في قولهم : إن مع اليوم غداً ، وكما في قول الحطيئة :
للموت فيها سِهامٌ غَيْرُ مُخْطِئَةٍ ... مَنْ لم يكن مَيَّتاً في اليوم ماتَ غَدَا
ومنه قول أبي الطماح :
ألا عَللاِني قَبْل نوح النَّوائحِ ... وَقَبْلَ اضْطرَابِ النَّفسِ بَين الجَوَانِحِ
وقبلَ غَدٍ يا لَهْف نَفْسي على غَد ... إذَا رَاحَ أصْحابِي ولستُ برائحِ
قرأ الجمهور { سيعلمون } بالتحتية إخبار من الله سبحانه لصالح عن وقوع العذاب عليهم بعد مدة . وقرأ أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة بالفوقية على أنه خطاب من صالح لقومه ، وجملة : { إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة } مستأنفة لبيان ما تقدّم إجماله من الوعيد ، أي : إنا مخرجوها من الصخرة على حسب ما اقترحوه { فِتْنَةً لَّهُمْ } أي : ابتلاء وامتحاناً ، وانتصاب { فتنة } على العلة { فارتقبهم } أي : انتظر ما يصنعون { واصطبر } على ما يصيبك من الأذى منهم { وَنَبّئْهُمْ أَنَّ الماء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي : بين ثمود وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، كما في قوله :

{ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] وقال : { نبئهم } بضمير العقلاء تغليباً . { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } الشرب بكسر الشين : الحظ من الماء . ومعنى { محتضر } : أنه يحضره من هو له ، فالناقة تحضره يوماً ، وهم يحضرونه يوماً . قال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم نوبتهم فيشربون ، ويحضرون يوم نوبتها فيحتلبون . قرأ الجمهور . { قسمة } بكسر القاف بمعنى : مقسوم ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها { فَنَادَوْاْ صاحبهم } أي : نادى ثمود صاحبهم وهو قدار بن سالف عاقر الناقة يحضونه على عقرها { فتعاطى فَعَقَرَ } أي : تناول الناقة بالعقر فعقرها ، أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر . قال محمد بن إسحاق : كمن لها في أصل شجرة على طريقها ، فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها ، ثم شدّ عليها بالسيف ، فكسر عرقوبها ، ثم نحرها ، والتعاطي : تناول الشيء بتكلف { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِى وَنُذُرِ } قد تقدّم تفسيره في هذه السورة . ثم بيّن ما أجمله من العذاب فقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحدة } قال عطاء : يريد صيحة جبريل ، وقد مضى بيان هذا في سورة هود ، وفي الأعراف { فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } قرأ الجمهور بكسر الظاء ، والهشيم : حطام الشجر ويابسه ، والمحتظر : صاحب الحظيرة ، وهو الذي يتخذ لغنمه حظيرة تمنعها عن برد الرّيح ، يقال : احتظر على غنمه : إذا جمع الشجر ووضع بعضه فوق بعض . قال في الصحاح : والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة . وقرأ الحسن ، وقتادة ، وأبو العالية بفتح الظاء أي : كهشيم الحظيرة ، فمن قرأ بالكسر أراد الفاعل للاحتظار ، ومن قرأ بالفتح أراد الحظيرة ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة ومعنى الآية : أنهم صاروا كالشجر إذا يبس في الحظيرة ، وداسته الغنم بعد سقوطه ، ومنه قول الشاعر :
أثرن عجاجه كدخان نار ... تشب بغرقد بال هشيم
وقال قتادة : هو العظام النخرة المحترقة . وقال سعيد بن جبير : هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح . وقال سفيان الثوري : هو ما يتناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصي . قال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطباً فيبس هشيماً ، ومنه قول الشاعر :
ترى جيف المطيّ بجانبيه ... كأن عظامها خشب الهشيم
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } قد تقدم تفسير هذا في هذه السورة . ثم أخبر سبحانه عن قوم لوط بأنهم كذبوا رسل الله ، كما كذبهم غيرهم ، فقال : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بالنذر } وقد تقدّم تفسير النذر قريباً .

ثم بيّن سبحانه ما عذبهم به ، فقال : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حاصبا } أي : ريحاً ترميهم بالحصباء ، وهي الحصى . قال أبو عبيدة ، والنضر بن شميل : الحاصب : الحجارة في الريح . قال في الصحاح : الحاصب : الريح الشديدة التي تثير الحصباء ، ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام يضربها ... بحاصب كنديف القطن منثور
{ إِلاَّ الَ لُوطٍ نجيناهم بِسَحَرٍ } يعني : لوطاً ومن تبعه ، والسحر : آخر الليل ، وقيل : هو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض أوّل النهار ، وانصرف { سحر } لأنه نكرة لم يقصد به سحر ليلة معينة ، ولو قصد معيناً لامتنع . كذا قال : الزجاج ، والأخفش ، وغيرهما . وانتصاب { نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا } على العلة ، أو على المصدرية ، أي : إنعاماً منا على لوط ، ومن تبعه . { كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ } أي : مثل ذلك الجزاء نجزي من شكر نعمتنا ، ولم يكفرها { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } أي : أنذر لوط قومه بطشة الله بهم ، وهي عذابه الشديد ، وعقوبته البالغة { فَتَمَارَوْاْ بالنذر } أي : شكوا في الإنذار ولم يصدّقوه ، وهو تفاعلوا من المرية ، وهي الشك { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } أي : أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة ليفجروا بهم ، كما هو دأبهم ، يقال راودته عن كذا مراودة ورواداً ، أي : أردته ، وراد الكلام يروده روداً ، أي : طلبه ، وقد تقدّم تفسير المراودة مستوفى في سورة يوسف { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } أي : صيرنا أعينهم ممسوحة لا يرى لها شقّ ، كما تطمس الريح الأعلام بما تسفي عليها من التراب . وقيل : أذهب الله نور أبصارهم مع بقاء الأعين على صورتها . قال الضحاك : طمس الله على أبصارهم ، فلم يروا الرسل ، فرجعوا { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ } قد تقدّم تفسيره في هذه السورة { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } أي : أتاهم صباحاً عذاب مستقرّ بهم نازل عليهم لا يفارقهم ولا ينفك عنهم . قال مقاتل : استقرّ بهم العذاب بكرة ، وانصراف { بكرة } لكونه لم يرد بها وقتاً بعينه ، كما سبق في { بسحر } : { فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } قد تقدّم تفسير هذا في هذه السورة ، ولعل وجه تكرير تيسير القرآن للذكر في هذه السورة الإِشعار بأنه منة عظيمة لا ينبغي لأحد أن يغفل عن شكرها .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } قال : باردة { فِى يَوْمِ نَحْسٍ } قال : أيام شداد . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يوم الأربعاء يوم نحس مستمر » ، وأخرجه عنه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعاً . وأخرجه ابن مردويه عن عليّ مرفوعاً . وأخرجه ابن مردويه أيضاً عن أنس مرفوعاً ، وفيه قيل : وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال :

« أغرق الله فيه فرعون وقومه ، وأهلك فيه عاداً ، وثمود » وأخرج ابن مردويه ، والخطيب بسند . قال السيوطي : ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر » وأخرج ابن المنذر عنه { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } قال : أصول النخل { مُّنقَعِرٍ } قال : منقلع . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : أعجاز سواد النخل . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً { وَسُعُرٍ } قال : شقاء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً قال : { كَهَشِيمِ المحتظر } قال : كحظائر من الشجر محترقة . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في الآية قال : كالعظام المحترقة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه قال : كالحشيش تأكله الغنم .

وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

{ النذر } يجوز أن يكون جمع نذير ، ويجوز أن يكون مصدر بمعنى : الإنذار كما تقدّم ، وهي الآيات التي أنذرهم بها موسى ، وهذا أولى لقوله : { كَذَّبُواْ بئاياتنا كُلَّهَا } فإنه بيان لذلك ، والمراد بها : الآيات التسع التي تقدّم ذكرها { فأخذناهم أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } أي : أخذناهم بالعذاب أخذ غالب في انتقامه قادر على إهلاكهم لا يعجزه شيء ، ثم خوّف سبحانه كفار مكة فقال : { أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } والاستفهام للإنكار ، والمعنى النفي ، أي : ليس كفاركم يا أهل مكة ، أو يا معشر العرب خير من كفار من تقدّمكم من الأمم الذين أهلكوا بسبب كفرهم ، فكيف تطمعون في السلامة من العذاب ، وأنتم شرّ منهم . ثم أضرب سبحانه عن ذلك ، وانتقل إلى تبكيتهم بوجه آخر هو أشد من التبكيت بالوجه الأوّل ، فقال : { أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِى الزبر } والزبر هي الكتب المنزلة على الأنبياء ، والمعنى : إنكار أن تكون لهم براءة من عذاب الله في شيء من كتب الأنبياء . ثم أضرب عن هذا التبكيت ، وانتقل إلى التبكيت لهم بوجه آخر ، فقال : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } أي : جماعة لا تطاق لكثرة عددنا وقوّتنا ، أو أمرنا مجتمع لا نغلب ، وأفرد منتصراً اعتباراً بلفظ جميع . قال الكلبي : المعنى نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { سَيُهْزَمُ الجمع } أي : جمع كفار مكة ، أو كفار العرب على العموم . قرأ الجمهور { سيهزم } بالتحتية مبنياً للمفعول . وقرأ ورش عن يعقوب : { سنهزم } بالنون وكسر الزاي ونصب الجمع . وقرأ أبو حيوة ، وابن أبي عبلة بالتحتية مبنياً للفاعل ، وقرىء بالفوقية مبنياً للفاعل { وَيُوَلُّونَ الدبر } قرأ الجمهور { يولون } بالتحتية ، وقرأ عيسى ، وابن أبي إسحاق ، وورش عن يعقوب بالفوقية على الخطاب ، والمراد بالدبر : الجنس ، وهو في معنى الإدبار ، وقد هزمهم الله يوم بدر ، وولوا الأدبار ، وقتل رؤساء الشرك ، وأساطين الكفر ، فلله الحمد . { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ } أي : موعد عذابهم الأخرويّ ، وليس هذا العذاب الكائن في الدنيا بالقتل والأسر والقهر ، وهو تمام ما وعدوا به من العذاب ، وإنما هو مقدّمة من مقدّماته وطليعة من طلائعه ، ولهذا قال : { والساعة أدهى وَأَمَرُّ } أي : وعذاب الساعة أعظم في الضرّ وأفظع ، مأخوذ من الدهاء ، وهو النكر والفظاعة ، ومعنى أمرّ : أشد مرارة من عذاب الدنيا ، يقال : دهاه أمر كذا ، أي : أصابه دهواً ودهياً . { إِنَّ المجرمين فِى ضلال وَسُعُرٍ } أي : في ذهاب عن الحقّ وبعد عنه ، وقد تقدّم في هذه السورة تفسير { وَسُعُرٍ } ، فلا نعيده { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } والظرف منتصب بما قبله ، أي : كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون ، أو بقول مقدّر بعده ، أي : يوم يسحبون يقال لهم : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } أي : قاسوا حرّها وشدّة عذابها ، وسقر : علم لجهنم .

وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بإدغام سين { مسّ } في سين { سقر } { إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ } قرأ الجمهور بنصب " كل " على الاشتغال . وقرأ أبو السماك بالرفع ، والمعنى : أن كل شيء من الأشياء خلقه الله سبحانه ملتبساً بقدر قدّره ، وقضاء قضاه سبق في علمه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل وقوعه ، والقدر : التقدير ، وقد قدّمنا الكلام على تفسير هذه الآية مستوفى . { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة كَلَمْحٍ بالبصر } أي : إلا مرة واحدة ، أو كلمة واحدة كلمح بالبصر في سرعته ، واللمح : النظر على العجلة والسرعة . وفي الصحاح لمحه وألمحه : إذا أبصره بنظر خفيف ، والاسم اللمحة . قال الكلبي : وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلاّ كطرف البصر . { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم } أي : أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم ، وقيل : أتباعكم وأعوانكم { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } يتذكر ويتّعظ بالمواعظ ، ويعلم أن ذلك حق ، فيخاف العقوبة ، وأن يحل به ما حلّ بالأمم السالفة { وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ فِى الزبر } أي : جميع ما فعلته الأمم من خير أو شرّ مكتوب في اللوح المحفوظ ، وقيل : في كتب الحفظة { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } أي : كل شيء من أعمال الخلق وأقوالهم وأفعالهم مسطور في اللوح المحفوظ صغيره وكبيره ، وجليله وحقيره ، يقال : سطر يسطر سطراً كتب ، وأسطر مثله . ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال الأشقياء ذكر حال السعداء فقال : { إِنَّ المتقين فِى جنات وَنَهَرٍ } أي : في بساتين مختلفة ، وجنان متنوعة ، وأنهار متدفقة . قرأ الجمهور : { ونهر } بفتح الهاء على الإفراد ، وهو جنس يشمل أنهار الجنة ، وقرأ مجاهد ، والأعرج ، وأبو السماك بسكون الهاء وهما لغتان ، وقرأ أبو مجلز ، وأبو نهشل ، والأعرج ، وطلحة بن مصرف ، وقتادة ( نهر ) بضم النون ، والهاء على الجمع { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي : في مجلس حقّ لا لغو فيه ولا تأثيم ، وهو الجنة { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } أي قادر على ما يشاء لا يعجزه شيء ، و { عند } هنا كناية عن الكرامة ، وشرف المنزلة ، وقرأ عثمان البستي : ( في مقاعد صدق ) .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس { أكفاركم خَيْرٌ مّنْ أُوْلَئِكُمْ } يقول : ليس كفاركم خير من قوم نوح ، وقوم لوط . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن منيع ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه في قوله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } قال : كان ذلك يوم بدر قالوا : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } فنزلت هذه الآية . وفي البخاري ، وغيره عنه أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر : " أنشدك عهدك ووعدك ، اللَّهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبداً " ، فأخذ أبو بكر بيده ، وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك ، فخرج ، وهو يثب في الدرع ، ويقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر * بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ } . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ } . وأخرج مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كل شيء بقدر حتى العجز ، والكيس» . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ } قال : مسطور في الكتاب .

الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)

قوله : { الرحمن * عَلَّمَ القرءان } ارتفاع الرحمن على أنه مبتدأ ، وما بعده من الأفعال أخبار له ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : الله الرحمن . قال الزجاج : معنى : { عَلَّمَ القرءان } يسّره . قال الكلبي : علم القرآن محمداً ، وعلمه محمد أمته ، وقيل : جعله علامة لما يعبد الناس به ، قيل : نزلت هذه الآية جواباً لأهل مكة حين قالوا : { إنما يعلمه بشر } [ النحل : 103 ] ، وقيل : جواباً لقولهم : وما الرحمن؟ ولما كانت هذه السورة لتعداد نعمه التي أنعم بها على عباده قدم النعمة التي هي أجلها قدراً ، وأكثرها نفعاً ، وأتمها فائدة ، وأعظمها عائدة ، وهي نعمة تعليم القرآن ، فإنها مدار سعادة الدارين ، وقطب رحى الخيرين ، وعماد الأمرين . ثم امتنّ بعد هذه النعمة بنعمة الخلق التي هي مناط كل الأمور ، ومرجع جميع الأشياء ، فقال : { خَلَقَ الإنسان } ثم امتنّ ثالثاً بتعليمه البيان الذي يكون به التفاهم ، ويدور عليه التخاطب ، وتتوقف عليه مصالح المعاش والمعاد؛ لأنه لا يمكن إبراز ما في الضمائر ، ولا إظهار ما يدور في الخلد إلاّ به قال قتادة ، والحسن : المراد بالإنسان آدم ، والمراد بالبيان : أسماء كلّ شيء ، وقيل : المراد به : اللغات . وقال ابن كيسان : المراد بالإنسان ها هنا : محمد صلى الله عليه وسلم ، وبالبيان : بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلال ، وهو بعيد . وقال الضحاك : البيان : الخير والشرّ . وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه مما يضرّه ، وقيل : البيان : الكتابة بالقلم . والأولى حمل الإنسان على الجنس ، وحمل البيان على تعليم كلّ قوم لسانهم الذي يتكلمون به . { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } أي : يجريان بحساب ، ومنازل لا يعدوانها ، ويدلان بذلك على عدد الشهور والسنين . قال قتادة ، وأبو مالك : يجريان بحسبان في منازل لا يعدوانها ، ولا يحيدان عنها . وقال ابن زيد ، وابن كيسان : يعني : أن بهما تحسب الأوقات ، والآجال والأعمار ، ولولا الليل والنهار ، والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب؛ لأن الدهر يكون كله ليلاً أو نهاراً . وقال الضحاك : معنى { بحسبان } : بقدر . وقال مجاهد : بحسبان كحسبان الرحى ، يعني قطبهما الذي يدوران عليه . قال الأخفش : الحسبان جماعة الحساب ، مثل شهب وشهبان . وأما الحسبان بالضمّ فهو العذاب ، كما مضى في سورة الكهف . { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } النجم : ما لا ساق له من النبات ، والشجر ما له ساق . قال الشاعر :
لقد أنجم القاع الكثير عضاهه ... وتمّ به حيا تميم ووائل
وقال زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح الجنوب لضاحي ما به حبك
والمراد : بسجودهما : انقيادهما لله تعالى انقياد الساجدين من المكلفين . وقال الفراء : سجودهما : أنهما يستقبلان الشمس إذا طلعت ، ثم يميلان معها حين ينكسر الفيء . وقال الزجاج : سجودهما دوران الظل معهما ، كما في قوله :

{ يَتَفَيَّأُ ظلاله } [ النحل : 48 ] وقال الحسن ، ومجاهد : المراد بالنجم : نجم السماء ، وسجوده : طلوعه ، ورجّح هذا ابن جرير . وقيل : سجوده : أفوله ، وسجود الشجر : تمكينها من الاجتناء لثمارها . قال النحاس : أصل السجود الاستسلام والانقياد لله ، وهذه الجملة والتي قبلها خبران آخران للرحمن ، وترك الرابط فيهما لظهوره كأنه قيل : الشمس والقمر بحسبانه ، والنجم والشجر يسجدان له { والسماء رَفَعَهَا } قرأ الجمهور بنصب السماء على الاشتغال . وقرأ أبو السماك بالرفع على الابتداء ، والمعنى : أنه جعل السماء مرفوعة فوق الأرض { وَوَضَعَ الميزان } المراد بالميزان : العدل ، أي : وضع في الأرض العدل الذي أمر به ، كذا قال مجاهد ، وقتادة ، والسديّ ، وغيرهم . قال الزجاج : المعنى : أنه أمرنا بالعدل ، ويدل عليه قوله : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان } أي : لا تجاوزوا العدل . وقال الحسن ، والضحاك : المراد به : آلة الوزن ليتوصل بها إلى الإنصاف والانتصاف . وقيل : الميزان : القرآن لأن فيه بيان ما يحتاج إليه ، وبه قال الحسين بن الفضل ، والأوّل أولى . ثم أمر سبحانه بإقامة العدل بعد إخباره للعباد بأنه وضعه لهم ، فقال : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط } أي : قوّموا وزنكم بالعدل . وقيل المعنى : أقيموا لسان الميزان بالعدل ، وقيل المعنى : أنه وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال ، و «أن» في قوله : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } مصدرية ، أي : لئلا تطغوا ، و " لا " نافية ، أي : وضع الميزان لئلا تطغوا ، وقيل : هي مفسرة؛ لأن في الوضع معنى القول ، والطغيان مجاوزة الحد ، فمن قال : الميزان : العدل ، قال : طغيانه الجور ، ومن قال : الميزان : الآلة التي يوزن بها ، قال : طغيانه : البخس { وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } أي : لا تنقصوه ، أمر سبحانه أوّلاً بالتسوية ، ثم نهى عن الطغيان الذي هو المجاوزة للحد بالزيادة ، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس . قرأ الجمهور : { تخسروا } بضم التاء ، وكسر السين من أخسر ، وقرأ بلال بن أبي برزة ، وأبان بن عثمان ، وزيد بن علي بفتح التاء ، والسين من خسر ، وهما لغتان ، يقال : أخسرت الميزان وخسرته . ثم لما ذكر سبحانه أنه رفع السماء ذكر أنه وضع الأرض ، فقال : { والأرض وَضَعَهَا لِلأنَامِ } أي : بسطها على الماء لجميع الخلق مما له روح وحياة ، ولا وجه لتخصيص الأنام بالإنس والجنّ . قرأ الجمهور بنصب { الأرض } على الاشتغال ، وقرأ أبو السماك بالرفع على الابتداء وجملة { فِيهَا فاكهة } : في محل نصب على أنها حال من الأرض مقدّرة ، وقيل : مستأنفة لتقرير مضمون الجملة التي قبلها ، والمراد بها : كل ما يتفكه به من أنواع الثمار . ثم أفرد سبحانه النخل بالذكر لشرفه ، ومزيد فائدته على سائر الفواكه فقال : { والنخل ذَاتُ الأكمام } الأكمام جمع كم بالكسر ، وهو وعاء التمر . قال الجوهري : والكم بالكسر ، والكمامة : وعاء الطلع ، وغطاء التنور ، والجمع كمام وأكمة وأكمام . قال الحسن : { ذات الأكمام } أي : ذات الليف ، فإن النخلة تكم بالليف ، وكمامها ليفها ، وقال ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتق .

وقال عكرمة : ذات الأحمال { والحب ذُو العصف والريحان } الحبّ : هو جميع ما يقتات من الحبوب والعصف . قال السديّ ، والفراء : هو بقل الزرع ، وهو أوّل ما ينبت به . قال ابن كيسان : يبدو أولاً ورقاً ، وهو العصف ، ثم يبدو له ساق ، ثم يحدث الله فيه أكماماً ، ثم يحدث في الأكمام الحبّ . قال الفراء : والعرب تقول : خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك ، وكذا قال الصحاح . وقال الحسن : العَصْفُ : التبن ، وقال مجاهد : هو ورق الشجر والزرع . وقيل : هو ورق الزرع الأخضر إذا قطع رأسه ويبس ، ومنه قوله : { كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ } [ الفيل : 5 ] ، وقيل : هو الزرع الكثير ، يقال : قد أعصف الزرع ، ومكان معصف ، أي : كثير الزرع ، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت :
إذا جمادى منعت قطرها ... إن جناني عطن معصف
والريحان : الورق في قول الأكثر . وقال الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد : إنه الريحان الذي يشم . وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق . وقال الكلبي : إن العصف : هو الورق الذي لا يؤكل ، والريحان : هو الحب المأكول . وقال الفراء أيضاً : العصف : المأكول من الزرع ، والريحان : ما لا يؤكل ، وقيل : الريحان : كل بقلة طيبة الريح . قال ابن الأعرابي : يقال : شيء ريحاني وروحاني ، أي : له روح . وقال في الصحاح : الريحان : نبت معروف ، والريحان : الرزق ، تقول : خرجت أبتغي ريحان الله . قال النمر بن تولب :
سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء درر
وقيل : العصف : رزق البهائم ، والريحان : رزق الناس . قرأ الجمهور { والحبّ ذو العصف والريحان } برفع الثلاثة عطفاً على فاكهة . وقرأ ابن عامر ، وأبو حيوة ، والمغيرة بنصبهما عطفاً على الأرض ، أو على فعل ، أي : وخلق الحبّ ذا العصف والريحان . وقرأ حمزة ، والكسائي ، والريحان بالجرّ عطفاً على العصف : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } الخطاب للجنّ والإنس؛ لأن لفظ الأنام يعمهما وغيرهما ، ثم خصّص بهذا الخطاب من يعقل . وبهذا قال : الجمهور من المفسرين ، ويدلّ عليه قوله فيما سيأتي : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } ويدلّ على هذا ما قدّمنا في فاتحة هذه السورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على الجنّ والإنس ، وقيل : الخطاب للإنس ، وثناه على قاعدة العرب في خطاب الواحد بلفظ التثنية ، كما قدّمنا في قوله : { أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] والآلاء : النعم . قال القرطبي : وهو قول جميع المفسرين ، واحدها : « إلى » مثل معى وعصى . وقال ابن زيد : إنها القدرة ، أي : فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وبه قال الكلبي . وكرّر سبحانه هذه الآية في هذه السورة تقريراً للنعمة ، وتأكيداً للتذكير بها على عادة العرب في الاتساع . قال القتيبي : إن الله عدّد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كل خلة وضعها بهذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ، لينبّههم على النعم ويقرّرهم بها ، كما تقول لمن تتابع له إحسانك ، وهو يكفره : ألم تكن فقيراً فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك؟ أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا ، ومنه قول الشاعر :

لا تقتلي رجلاً إن كنت مسلمة ... إياك من دمه إياك إياك
قال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة { خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار } لما ذكر سبحانه خلق العالم الكبير ، وهو السماء والأرض وما فيهما ، ذكر خلق العالم الصغير ، والمراد بالإنسان هنا : آدم . قال القرطبي : باتفاق من أهل التأويل ، ولا يبعد أن يراد الجنس؛ لأن بني آدم مخلوقون في ضمن خلق أبيهم آدم ، والصلصال : الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة ، وقيل : هو طين خلط برمل ، وقيل : هو الطين المنتن ، يقال : صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن ، وقد تقدّم بيانه في سورة الحجر ، والفخار : الخزف الذي طبخ بالنار ، والمعنى : أنه خلق الإنسان من طين يشبه في يبسه الخزف . { وَخَلَقَ الجان مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ } يعني : خلق أبا الجنّ ، أو جنس الجنّ من مارج من نار ، والمارج : اللهب الصافي من النار ، وقيل : الخالص منها ، وقيل : لسانها الذي يكون في طرفها إذا التهبت ، وقال الليث : المارج الشعلة الصادعة ذات اللهب الشديد . قال المبرد : المارج : النار المرسلة التي لا تمنع ، وقال أبو عبيدة : المارج : خلط النار ، من مرج إذا اختلط واضطرب . قال الجوهري : مارج من نار : نار لا دخان لها خلق منها الجانّ { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإنه أنعم عليكما في تضاعيف خلقكما من ذلك بنعم لا تحصى { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } قرأ الجمهور { ربّ } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أيّ : هو ربّ المشرقين والمغربين ، وقيل : مبتدأ ، وخبره : { مَرَجَ البحرين } وما بينهما اعتراض ، والأوّل أولى ، والمراد بالمشرقين : مشرقا الشتاء والصيف ، وبالمغربين : مغرباهما { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن في ذلك من النعم ما لا يحصى ، ولا يتيسر لمن أنصف من نفسه تكذيب فرد من أفراده . { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ } المرج : التخلية والإرسال ، يقال : مرجت الدابة : إذا أرسلتها ، وأصله الإهمال ، كما تمرج الدابة في المرعى ، والمعنى : أنه أرسل كل واحد منهما ، يلتقيان أي : يتجاوران لا فصل بينهما في مرأى العين ، ومع ذلك فلم يختلطا ، ولهذا قال : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } أي حاجز يحجز بينهما { لاَّ يَبْغِيَانِ } أي : لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يدخل فيه ويختلط به . قال الحسن ، وقتادة : هما بحر فارس والروم . وقال ابن جريج : هما البحر المالح والأنهار العذبة ، وقيل : بحر المشرق والمغرب ، وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان ، وقيل : بحر السماء وبحر الأرض . قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام ، وقيل : يلتقي طرفاهما .

وقوله : { يَلْتَقِيَانِ } في محلّ نصب على الحال من البحرين ، وجملة : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالاً { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن هذه الآية وأمثالها لا يتيسر تكذيبها بحال { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } . قرأ الجمهور { يخرج } بفتح الياء ، وضم الراء مبنياً للفاعل ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو بضم الياء ، وفتح الراء مبنياً للمفعول ، واللؤلؤ : الدرّ ، والمرجان : الخرز الأحمر المعروف . وقال الفرّاء : اللؤلؤ : العظام ، والمرجان : ما صغر . قال الواحدي وهو : قول جميع أهل اللغة . وقال مقاتل ، والسديّ ، ومجاهد : اللؤلؤ : صغاره ، والمرجان : كباره ، وقال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا } وإنما يخرج ذلك من المالح لا من العذب؛ لأنه إذا خرج من أحدهما ، فقد خرج منهما ، كذا قال الزجاج ، وغيره . وقال أبو علي الفارسي : هو من باب حذف المضاف ، أي : من أحدهما كقوله : { على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] وقال الأخفش : زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ من العذب ، وقيل : هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المرجان ، وقيل : هما بحر السماء وبحر الأرض ، فإذا وقع ماء السماء في صدف البحر انعقد لؤلؤاً ، فصار خارجاً منهما : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن في ذلك من الآيات ما لا يستطيع أحد تكذيبه ، ولا يقدر على إنكاره { وَلَهُ الجوار المنشآت فِى البحر كالأعلام } المراد بالجوار : السفن الجارية في البحر ، والمنشآت : المرفوعات التي رفع بعض خشبها على بعض وركب حتى ارتفعت ، وطالت حتى صارت في البحر كالأعلام وهي الجبال ، والعلم : الجبل الطويل . وقال قتادة : المنشآت المخلوقات للجري . وقال الأخفش : المنشآت : المجريات ، وقد مضى بيان الكلام في هذا في سورة الشورى . قرأ الجمهور { الجوار } بكسر الراء وحذف الياء لالتقاء الساكنين ، وقرأ ابن مسعود ، والحسن ، وأبو عمرو في رواية عنه برفع الراء تناسياً للحذف ، وقرأ يعقوب بإثبات الياء ، وقرأ الجمهور { المنشآت } بفتح الشين ، وقرأ حمزة ، وأبو بكر في رواية عنه بكسر الشين { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن ذلك من الوضوح والظهور بحيث لا يمكن تكذيبه ، ولا إنكاره .
وقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } قال : بحساب ومنازل يرسلان . وأخرج الفريابي ، وابن أبي حاتم عنه { والأرض وَضَعَهَا لِلأنَامِ } قال : للناس . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : للخلق . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : كل شيء فيه روح . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { والنخل ذَاتُ الأكمام } قال : أوعية الطلع . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { والحب ذُو العصف } قال : التبن { والريحان } قال : خضرة الزرع . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : { العصف } ورق الزرع إذا يبس { والريحان } ما أنبتت الأرض من الريحان الذي يشمّ .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : { العصف } الزرع أوّل ما يخرج بقلاً { والريحان } حين يستوي على سوقه ، ولم يسنبل . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : كلّ ريحان في القرآن فهو رزق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } قال : يعني : بأيّ نعمة الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : يعني الجنّ والإنس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { مِن مَّارِجٍ مّن نَّارٍ } قال : من لهب النار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : خالص النار . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } قال : للشمس مطلع في الشتاء ومغرب في الشتاء ، ومطلع في الصيف ومغرب في الصيف ، غير مطلعها في الشتاء وغير مغربها في الشتاء . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : مشرق الفجر ومشرق الشفق ، ومغرب الشمس ومغرب الشفق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ } قال : أرسل البحرين { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ } قال : حاجز { لاَّ يَبْغِيَانِ } لا يختلطان . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : بحر السماء وبحر الأرض . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } قال : بينهما من البعد ما لا يبغي كل واحد منهما على صاحبه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } قال : إذا مطرت السماء فتحت الأصداف في البحر أفواهها ، فما وقع فيها من قطر السماء فهو اللؤلؤ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عليّ بن أبي طالب قال : المرجان : عظام اللؤلؤ . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : اللؤلؤ : ما عظم منه ، والمرجان : اللؤلؤ الصغار . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني عن ابن مسعود قال : المرجان : الخرز الأحمر .

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)

قوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } أي : كل من على الأرض من الحيوانات هالك ، وغلب العقلاء على غيرهم ، فعبر عن الجميع بلفظ من ، وقيل : أراد من عليها من الجنّ والإنس { ويبقى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الجلال والإكرام } الوجه عبارة عن ذاته سبحانه ووجوده ، وقد تقدّم في سورة البقرة بيان معنى هذا ، وقيل : معنى { ويبقى وَجْهُ رَبّكَ } تبقى حجته التي يتقرّب بها إليه ، والجلال : العظمة والكبرياء ، واستحقاق صفات المدح ، يقال : جلّ الشيء ، أي : عظم ، وأجللته ، أي : أعظمته ، وهو اسم من جلّ . ومعنى ذو الإكرام : أنه يكرم عن كل شيء لا يليق به ، وقيل : إنه ذو الإكرام لأوليائه ، والخطاب في قوله : { ربك } للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له ، قرأ الجمهور : { ذو الجلال } على أنه صفة لوجه ، وقرأ أبيّ ، وابن مسعود : ( ذي الجلال ) على أنه صفة لربّ . { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } وجه النعمة في فناء الخلق أن الموت سبب النقلة إلى دار الجزاء والثواب . وقال مقاتل : وجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت ، ومع الموت تستوي الأقدام . { يَسْأَلُهُ مَن فِى السموات والأرض } أي : يسألونه جميعاً؛ لأنهم محتاجون إليه لا يستغني عنه أحد منهم . قال أبو صالح : يسأله أهل السموات المغفرة ، ولا يسألونه الرزق ، وأهل الأرض يسألونه الأمرين جميعاً . وقال مقاتل : يسأله أهل الأرض الرزق والمغفرة ، وتسأل لهم الملائكة أيضاً الرزق والمغفرة ، وكذا قال ابن جريج . وقيل : يسألونه الرحمة . قال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماء ، ولا أهل الأرض . والحاصل أنه يسأله كل مخلوق من مخلوقاته بلسان المقال ، أو لسان الحال ما يطلبونه من خيري الدارين ، أو من خيري إحداهما { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ } انتصاب كل بالاستقرار الذي تضمنه الخبر ، والتقدير : استقر سبحانه في شأن كل وقت من الأوقات ، واليوم عبارة عن الوقت ، والشأن هو الأمر ، ومن جملة شؤونه سبحانه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبونه منه على اختلاف حاجاتهم ، وتباين أغراضهم . قال المفسرون : من شأنه أنه يحيي ويميت . ويرزق ويفقر . ويعزّ ويذلّ ، ويمرض ويشفي ، ويعطي ويمنع . ويغفر ويعاقب ، إلى غير ذلك مما لا يحصى . وقيل : المراد باليوم المذكور : هو يوم الدنيا ويوم الآخرة ، قال ابن بحر : الدّهر كله يومان : أحدهما مدّة أيام الدنيا ، والآخر يوم القيامة ، وقيل : المراد : كل يوم من أيام الدنيا { فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } فإن اختلاف شؤونه سبحانه في تدبير عباده نعمة لا يمكن جحدها ، ولا يتيسر لمكذّب تكذيبها { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان } هذا وعيد شديد من الله سبحانه للجنّ والإنس . قال الزجاج ، والكسائي ، وابن الأعرابي ، وأبو علي الفارسي : إن الفراغ ها هنا ليس هو الفراغ من شغل ، ولكن تأويله القصد ، أي : سنقصد لحسابكم .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34