كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

وقد أخرج البخاري عن المسور بن مخرمة ، ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء مسلمات ، فأنزل الله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات } حتى بلغ { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } فطلق عمر يومئذٍ امرأتين كانتا له في الشرك . وأخرجه أيضاً من حديثهما بأطول من هذا ، وفيه ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي عانق ، فجاء أهلها يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجعها إليهم حتى أنزل الله في المؤمنات ما أنزل . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فامتحنوهن } قال : كان امتحانهنّ أن يشهدن أن لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فإذا علموا أن ذلك حقاً منهنّ لم يرجعن إلى الكفار ، وأعطى بعلها في الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقها الذي أصدقها ، وأحلهنّ للمؤمنين إذا آتوهنّ أجورهنّ . وأخرج ابن مردويه عنه قال : نزلت سورة الممتحنة بعد ذلك الصلح ، فكان من أسلم من نسائهم ، فسئلت : ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت فراراً من زوجها ، ورغبة عنه ردّت ، وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت ، وردّ على زوجها مثل ما أنفق . وأخرج ابن أبي أسامة ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، وابن مردويه بسندٍ حسن ، كما قال السيوطي عن ابن عباس في قوله : { إِذَا جَاءكُمُ المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } قال : كان إذا جاءت المرأة النبيّ صلى الله عليه وسلم حلفها عمر بن الخطاب بالله ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ، وبالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلاّ حباً لله ورسوله . وأخرج ابن منيع من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : أسلم عمر بن الخطاب ، وتأخرت امرأته في المشركين ، فأنزل الله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، والترمذي ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية { يأَيُّهَا النبى إِذَا جَاءكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } إلى قوله : { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قد بايعتك كلاماً » ، والله ما مسّت يده يد امرأة قط من المبايعات ، ما بايعهنّ إلاّ بقوله : « قد بايعتك على ذلك » وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن سعد ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئًا حتى بلغ : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } فقال :

" فيما استطعتن ، وأطقتن " ، فقلنا : الله ، ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال : " إني لا أصافح النساء ، إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " وفي الباب أحاديث . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا ، وقرأ آية النساء ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله ، فهو إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ } قال : كانت الحرة تولد لها الجارية ، فتجعل مكانها غلاماً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في الآية . قال : لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهم { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ } قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء . وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وحسنه ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أم سلمة الأنصارية قالت : قالت امرأة من النسوة ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال : « لا تنحن» ، قلت : يا رسول الله إن بني فلان أسعدوني على عمي ، لا بدّ لي من قضائهن ، فأبى عليّ فعاودته مراراً ، فأذن لي في قضائهنّ ، فلم أنحِ بعد ، ولم يبق من النسوة امرأة إلاّ وقد ناحت غيري . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أمّ عطية قالت : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقرأ علينا أن لا نشرك بالله شيئًا ، ونهانا عن النياحة ، فقبضت امرأة منا يدها ، فقالت : يا رسول الله إن فلانة أسعدتني وأنا أريد أن أجزيها ، فلم يقل لها شيئًا . فذهبت ، ثم رجعت ، فقالت : ما وفت منا امرأة إلاّ أم سليم ، وأمّ العلاء ، وبنت أبي سبرة امرأة معاذ ، أو بنت أبي سبرة ، وامرأة معاذ . وقد وردت أحاديث كثيرة في النهي عن النوح . وأخرج أبو إسحاق ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : كان عبد الله بن عمرو ، وزيد بن الحارث يودّان رجلاً من اليهود ، فأنزل الله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } الآية . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة } قال : فلا يؤمنون بها ، ولا يرجونها ، كما يئس الكافر إذا مات ، وعاين ثوابه واطلع عليه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : هم الكفار أصحاب القبور الذين يئسوا من الآخرة . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : من مات من الذين كفروا ، فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم ، أو يبعثهم الله .

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

قوله : { سَبَّحَ للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } قد تقدّم الكلام على هذا ، ووجه التعبير في بعض السور بلفظ الماضي كهذه السورة ، وفي بعضها بلفظ المضارع ، وفي بعضها بلفظ الأمر الإرشاد إلى مشروعية التسبيح في كل الأوقات ماضيها ومستقبلها وحالها ، وقد قدّمنا نحو هذا في أوّل سورة الحديد { وَهُوَ العزيز الحكيم } أي : الغالب الذي لا يغالب الحكيم في أفعاله وأقواله . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، أي : لم تقولون من الخير ما لا تفعلونه ، و " لم " مركبة من اللام الجارّة ، وما الاستفهامية ، وحذفت ألفها تخفيفاً لكثرة استعمالها ، كما في نظائرها . ثم ذمهم سبحانه على ذلك فقال : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } أي : عظم ذلك في المقت ، وهو البغض ، والمقت والمقاتة مصدران ، يقال رجل مقيت ، وممقوت : إذا لم يحبه الناس ، قال الكسائي { أَن تَقُولُواْ } في موضع رفع؛ لأن { كبر } فعل بمعنى بئس ، و { مقتاً } منتصب على التمييز ، وعلى هذا فيكون في { كبر } ضمير مبهم مفسر بالنكرة ، وأن { تقولوا } هو المخصوص بالذمّ ، ويجيء فيه الخلاف هل رفعه بالابتداء ، وخبره الجملة المتقدّمة عليه ، أو خبره محذوف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف . وقيل : إنه قصد بقوله : { كَبُرَ } التعجب ، وقد عدّه ابن عصفور من أفعال التعجب . وقيل : إنه ليس من أفعال الذم ، ولا من أفعال التعجب ، بل هو مسند إلى { أن تقولوا } ، و { مقتاً } تمييز محوّل عن الفاعل . { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً } قال المفسرون : إن المؤمنين قالوا : وددنا أن الله يخبرنا بأحبّ الأعمال إليه حتى نعمله ، ولو ذهبت فيه أموالنا وأنفسنا . فأنزل الله : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون } الآية ، وانتصاب { صفاً } على المصدرية ، والمفعول محذوف ، أي : يصفون أنفسهم صفا ، وقيل : هو : مصدر في موضع الحال أي : صافين ، أو مصفوفين . قرأ الجمهور : { يقاتلون } على البناء للفاعل . وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول ، وقرىء ( يقتلون ) بالتشديد ، وجملة : { كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } في محل نصب على الحال من فاعل { يقاتلون } ، أو من الضمير في { صفاً } على تقدير أنه مؤوّل بصافين ، أو مصفوفين ، ومعنى { مَّرْصُوصٌ } : ملتزق بعضه ببعض ، يقال : رصصت البناء أرصه رصاً : إذا ضممت بعضه إلى بعض . قال الفرّاء : مرصوص بالرصاص . قال المبرد : هو مأخوذ من رصصت البناء : إذا لايمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة ، وقيل : هو من الرصيص ، وهو ضمّ الأشياء بعضها إلى بعض ، والتراصّ : التلاصق . { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ } لما ذكر سبحانه أنه يحبّ المقاتلين في سبيله بيّن أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد ، وجاهدا في سبيل الله ، وحلّ العقاب بمن خالفهما ، والظرف متعلق بمحذوف هو اذكر ، أي : اذكر يا محمد لهؤلاء المعرضين وقت قول موسى ، ويجوز أن يكون وجه ذكر قصة موسى وعيسى بعد محبة المجاهدين في سبيل الله التحذير لأمة محمد أن يفعلوا مع نبيهم ما فعله قوم موسى وعيسى معهما { لِقَوْمِهِ ياقوم لِمَ تُؤْذُونَنِى } هذا مقول القول ، أي : لم تؤذونني بمخالفة ما أمركم به من الشرائع التي افترضها الله عليكم ، أو لم تؤذونني بالشتم والانتقاص ، ومن ذلك رميه بالأدرة ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة الأحزاب ، وجملة : { وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } في محلّ نصب على الحال ، «وقد» لتحقق العلم ، أو لتأكيده ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار ، والمعنى : كيف تؤذونني مع علمكم بأني رسول الله ، والرسول يحترم ويعظم ، ولم يبق معكم شك في الرسالة لما قد شاهدتم من المعجزات التي توجب عليكم الاعتراف برسالتي ، وتفيدكم العلم بها علماً يقينياً { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } أي : لما أصرّوا على الزيغ ، واستمرّوا عليه أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ، وصرفها عن قبول الحقّ ، وقيل : فلما زاغوا عن الإيمان أزاغ الله قلوبهم عن الثواب .

قال مقاتل : لما عدلوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه ، يعني : أنهم لما تركوا الحقّ بإيذاء نبيهم أمال الله قلوبهم عن الحق جزاء بما ارتكبوا { والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها . قال الزجاج : لا يهدي من سبق في علمه أنه فاسق ، والمعنى : أنه لا يهدي كل متصف بالفسق ، وهؤلاء من جملتهم . { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } معطوف على { وَإِذْ قَالَ موسى } معمول لعامله ، أو معمول لعامل مقدّر معطوف على عامل الظرف الأوّل { مَرْيَمَ يابنى إسراءيل إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التوراة } أي : إني رسول الله إليكم بالإنجيل مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة ، بل هي مشتملة على التبشير بي ، فكيف تنفرون عني وتخالفونني ، وانتصاب { مصدّقاً } على الحال ، وكذا { مُبَشّرًا } ، والعامل فيهما ما في الرسول من معنى الإرسال ، والمعنى : أني أرسلت إليكم حال كوني مصدّقاً لما بين يدي من التوراة ، ومبشراً بمن يأتي بعدي ، وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير ، فلا مقتضى لتكذيبي ، وأحمد اسم نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهو علم منقول من الصفة ، وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل ، فيكون معناها أنه أكثر حمداً لله من غيره ، أو من المفعول ، فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره . قرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، والسلمي ، وزرّ بن حبيش ، وأبو بكر عن عاصم : ( من بعدي ) بفتح الياء . وقرأ الباقون بإسكانها { فَلَمَّا جَاءهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي : لما جاءهم عيسى بالمعجزات قالوا هذا الذي جاءنا به سحر واضح ظاهر ، وقيل : المراد : محمد صلى الله عليه وسلم ، أي : لما جاءهم بذلك قالوا هذه المقالة ، والأوّل أولى .

قرأ الجمهور : { سحر } وقرأ حمزة ، والكسائي : ( ساحر ) . { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام } أي : لا أحد أكثر ظلماً منه حيث يفتري على الله الكذب ، والحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي هو خير الأديان وأشرفها؛ لأن من كان كذلك ، فحقه أن لا يفتري على غيره الكذب ، فكيف يفتريه على ربه . قرأ الجمهور : { وهو يدعى } من الدعاء مبنياً للمفعول . وقرأ طلحة بن مصرف : ( يدعي ) بفتح الياء وتشديد الدال من الادّعاء مبنياً للفاعل ، وإنما عدّي بإلى لأنه ضمن معنى الانتماء والانتساب { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها . والمعنى : لا يهدي من اتصف بالظلم ، والمذكورون من جملتهم { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بأفواههم } الإطفاء : الإخماد ، وأصله في النار ، واستعير لما يجري مجراها من الظهور . والمراد بنور الله : القرآن ، أي : يريدون إبطاله ، وتكذيبه بالقول ، أو الإسلام ، أو محمد ، أو الحجج والدلائل ، أو جميع ما ذكر ، ومعنى { بأفواههم } : بأقوالهم الخارجة من أفواههم المتضمنة للطعن { والله مُتِمُّ نُورِهِ } بإظهاره في الآفاق وإعلائه على غيره . قرأ ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : { متمّ نوره } بالإضافة ، والباقون بتنوين « متمّ » { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } ذلك ، فإنه كائن لا محالة ، والجملة في محل نصب على الحال . قال ابن عطية : واللام في { ليطفئوا } لام مؤكدة دخلت على المفعول؛ لأن التقدير : يريدون أن يطفئوا ، وأكثر ما تلزم هذه اللام المفعول إذا تقدّم ، كقولك : لزيد ضربت ، ولرؤيتك قصدت ، وقيل : هي لام العلة ، والمفعول محذوف ، أي : يريدون إبطال القرآن ، أو دفع الإسلام ، أو هلاك الرسول؛ ليطفئوا ، وقيل : إنها بمعنى أن الناصبة ، وأنها ناصبة بنفسها . قال الفراء : العرب تجعل لام كي في موضع أن في أراد وأمر ، وإليه ذهب الكسائي ، ومثل هذا قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] . وجملة : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } مستأنفة مقرّرة لما قبلها ، والهدى : القرآن ، أو المعجزات ، ومعنى { دِينَ الحق } : الملة الحقة ، وهي ملة الإسلام؛ ومعنى { لِيُظْهِرَهُ } : ليجعله ظاهراً على جميع الأديان عالياً عليها غالباً لها ، ولو كره المشركون ذلك ، فإنه كائن لا محالة . قال مجاهد : ذلك إذا نزل عيسى لم يكن في الأرض دين إلاّ دين الإسلام ، والدّين مصدر يعبر به عن الأديان المتعدّدة ، وجواب « لو » في الموضعين محذوف ، والتقدير : أتمه وأظهره .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : وددنا لو أن الله أخبرنا بأحبّ الأعمال فنعمل به ، فأخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن أحبّ الأعمال إيمان بالله لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ، ولم يقرّوا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك أناس من المؤمنين ، وشقّ عليهم أمره ، فقال الله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } قال : هذه الآية في القتال وحده ، وهم قوم كانوا يأتون النبيّ ، فيقول الرجل : قاتلت وضربت بسيفي ، ولم يفعلوا ، فنزلت . وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه عنه أيضاً قال : قالوا : لو نعلم أحبّ الأعمال إلى الله لفعلناه ، فأخبرهم الله ، فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يقاتلون فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } فكرهوا ذلك ، فأنزل الله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً { كَأَنَّهُم بنيان مَّرْصُوصٌ } قال : مثبت لا يزول ملصق بعضه على بعض . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا العاقب : والعاقب الذي ليس بعده نبيّ » .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)

قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } جعل العمل المذكور بمنزلة التجارة؛ لأنهم يربحون فيه ، كما يربحون فيها ، وذلك بدخولهم الجنة ، ونجاتهم من النار . قرأ الجمهور { تنجيكم } بالتخفيف من الإنجاء . وقرأ الحسن ، وابن عامر ، وأبو حيوة بالتشديد من التنجية . ثم بيّن سبحانه هذه التجارة التي دلّ عليها فقال : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ } وهو خبر في معنى الأمر للإيذان بوجوب الامتثال ، فكأنه قد وقع ، فأخبر بوقوعه ، وقدّم ذكر الأموال على الأنفس؛ لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد . قرأ الجمهور : { تؤمنون } وقرأ ابن مسعود : ( آمنوا ، وجاهدوا ) على الأمر . قال الأخفش : { تؤمنون } عطف بيان ل { تجارة } ، والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد ، وهو مبتدأ ، وخبره : { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : إن كنتم ممن يعلم ، فإنكم تعلمون أنه خير لكم ، لا إذا كنتم من أهل الجهل ، فإنكم لا تعلمون ذلك . { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر ، ولهذا جزم . قال الزجاج ، والمبرد : قوله : { تُؤْمِنُونَ } في معنى آمنوا ، ولذلك جاء { يغفر لكم } مجزوماً . وقال الفرّاء : { يغفر لكم } جواب الاستفهام ، فجعله مجزوماً لكونه جواب الاستفهام ، وقد غلطه بعض أهل العلم . قال الزجاج : ليسوا إذا دلّهم على ما ينفعهم يغفر لهم إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا . وقال الرازي في توجيه قول الفراء : إن { هَلْ أَدُلُّكُمْ } في معنى الأمر عنده ، يقال : هل أنت ساكت ، أي : اسكت ، وبيانه أن « هل » بمعنى الاستفهام ، ثم يتدرّج إلى أن يصير عرضاً وحثاً ، والحثّ كالإغراء ، والإغراء أمر . وقرأ زيد بن عليّ : ( تؤمنوا ، وتجاهدوا ) على إضمار لام الأمر . وقيل : إن { يغفر لكم } مجزوم بشرط مقدّر ، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم ، وقرأ بعضهم بالإدغام في يغفر لكم ، والأولى ترك الإدغام؛ لأن الراء حرف متكرّر ، فلا يحسن إدغامه في اللام { وَيُدْخِلْكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } قد تقدّم بيان كيفية جري الأنهار من تحت الجنات { ومساكن طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي : في جنات إقامة { ذلك الفوز العظيم } أي : ذلك المذكور من المغفرة ، وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو الفوز الذي لا فوز بعده ، والظفر الذي لا ظفر يماثله . { وأخرى تُحِبُّونَهَا } قال الأخفش ، والفرّاء : { أخرى } معطوفة على { تجارة } فهي في محل خفض ، أي : وهل أدلكم على خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة ، وقيل : هي في محل رفع ، أي : ولكم خصلة أخرى ، وقيل : في محل نصب ، أي : ويعطيكم خصلة أخرى .

ثم بيّن سبحانه هذه الأخرى فقال : { نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي : هي نصر من الله لكم ، وفتح قريب يفتحه عليكم ، وقيل : { نصر } بدل من { أخرى } على تقدير كونها في محلّ رفع ، وقيل : التقدير ولكم نصر وفتح قريب . قال الكلبي : يعني النصر على قريش وفتح مكة . وقال عطاء : يريد فتح فارس والروم { وَبَشّرِ المؤمنين } معطوف على محذوف ، أي : قل يا أيها الذين آمنوا ، وبشر ، أو على { تؤمنون } ؛ لأنه في معنى الأمر ، والمعنى : وبشّر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح ، أو ، وبشّرهم بالنصر في الدنيا والفتح ، وبالجنة في الآخرة ، أو وبشّرهم بالجنة في الآخرة . ثم حضّ سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله } أي : دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين . قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ونافع : ( أنصاراً لله ) بالتنوين ، وترك الإضافة . وقرأ الباقون بالإضافة ، والرسم يحتمل القراءتين معاً ، واختار أبو عبيدة قراءة الإضافة لقوله : { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } بالإضافة { كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أنصارى إِلَى الله } أي : انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى : { مَنْ أَنصَارِى إِلَى الله } فقالوا : { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } والكاف في { كَمَا قَالَ } نعت مصدر محذوف تقديره : كونوا كوناً ، كما قال ، وقيل : الكاف في محل نصب على إضمار الفعل ، وقيل : هو كلام محمول على معناه دون لفظه ، والمعنى : كونوا أنصار الله ، كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله ، وقوله : { إِلَى الله } قيل : إلى بمعنى : مع ، أي : من أنصاري مع الله ، وقيل : التقدير : من أنصاري فيما يقرّب إلى الله ، وقيل التقدير : من أنصاري متوجهاً إلى نصرة الله ، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة آل عمران . والحواريون هم أنصار المسيح وخلص أصحابه ، وأوّل من آمن به ، وقد تقدّم بيانهم { فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة } أي : آمنت طائفة بعيسى وكفرت به طائفة ، وذلك لأنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرّقوا وتقاتلوا { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } أي : قوينا المحقين منهم على المبطلين { فَأَصْبَحُواْ ظاهرين } أي : عالين غالبين ، وقيل المعنى : فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعاً .
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قالوا : لو كنا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ فنزلت { المشركون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } فكرهوا ، فنزلت : { الحكيم يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } إلى قوله : { بنيان مَّرْصُوصٌ } وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُونُواْ أنصار الله } قال : قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلاً ، فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه .

وأخرج ابن إسحاق ، وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة : « أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم ، كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم » وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء : « إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم ، وأنا كفيل قومي » ، قالوا : نعم . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { فأيدنا الذين ءامنوا } قال : فقوينا الذين آمنوا . وأخرج ابن أبي حاتم عنه ، فأيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته على عدوّهم ، فأصبحوا اليوم ظاهرين .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

قوله : { يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } قد تقدم تفسير هذا في أوّل سورة الحديد ، وما بعدها من المسبحات { الملك القدوس العزيز الحكيم } قرأ الجمهور بالجرّ في هذه الصفات الأربع على أنها نعت ل { لله } ، وقيل : على البدل ، والأوّل أولى . وقرأ أبو وائل بن محارب ، وأبو العالية ، ونصر بن عاصم ، ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ . وقرأ الجمهور : { القدوس } بضم القاف ، وقرأ زيد بن علي بفتحها ، وقد تقدم تفسيره . { هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين رَسُولاً مّنْهُمْ } المراد بالأميين : العرب ، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب ، والأميّ في الأصل : الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب ، وكان غالب العرب كذلك ، وقد مضى بيان معنى الأميّ في سورة البقرة ، ومعنى { مِنْهُمْ } : من أنفسهم ، ومن جنسهم ، ومن جملتهم ، وما كان حيّ من أحياء العرب إلاّ ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرابة ، ووجه الامتنان بكونه منهم أن ذلك أقرب إلى الموافقة؛ لأن الجنس أميل إلى جنسه وأقرب إليه { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياته } يعني : القرآن مع كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، ولا تعلم ذلك من أحد ، والجملة صفة ل { رسولاً } ، وكذا قوله : { وَيُزَكّيهِمْ } قال ابن جريج ، ومقاتل : أي : يطهرهم من دنس الكفر والذنوب ، وقال السديّ : يأخذ زكاة أموالهم ، وقيل : يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان { وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة } هذه صفة ثالثة ل { رسولاً } ، والمراد بالكتاب : القرآن ، وبالحكمة : السنة ، كذا قال الحسن . وقيل : الكتاب : الخط بالقلم ، والحكمة : الفقه في الدين ، كذا قال مالك بن أنس { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضلال مُّبِينٍ } أي : وإن كانوا من قبل بعثته فيهم في شرك وذهاب عن الحق . { وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ } معطوف على الأميين أي : بعث في الأميين ، وبعث في آخرين منهم { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } ذلك الوقت ، وسيلحقون بهم من بعد ، أو هو معطوف على المفعول الأوّل في { يعلمهم } ، أي : ويعلم آخرين ، أو على مفعول { يزكيهم } ، أي : يزكيهم ويزكي آخرين منهم ، والمراد بالآخرين : من جاء بعد الصحابة إلى يوم القيامة ، وقيل : المراد بهم من أسلم من غير العرب . وقال عكرمة : هم التابعون . وقال مجاهد : هم الناس كلهم ، وكذا قال ابن زيد ، والسديّ ، وجملة : { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } صفة ل { آخرين } ، والضمير في « منهم » و « لهم » راجع إلى الأميين ، وهذا يؤيد أن المراد بالآخرين هم من يأتي بعد الصحابة من العرب خاصة إلى يوم القيامة ، وهو صلى الله عليه وسلم ، وإن كان مرسلاً إلى جميع الثقلين ، فتخصيص العرب ها هنا لقصد الامتنان عليهم ، وذلك لا ينافي عموم الرسالة ، ويجوز أن يراد بالآخرين : العجم؛ لأنهم وإن لم يكونوا من العرب فقد صاروا بالإسلام منهم ، والمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلفت أجناسهم { وَهُوَ العزيز الحكيم } أي : بليغ العزة والحكمة ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره .

وقال الكلبي : يعني : الإسلام . وقال قتادة : يعني : الوحي والنبوّة . وقيل : إلحاق العجم بالعرب ، وهو مبتدأ ، وخبره { فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } أي : يعطيه من يشاء من عباده { والله ذُو الفضل العظيم } الذي لا يساويه فضل ولا يدانيه . { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } ضرب سبحانه لليهود الذين تركوا العمل بالتوراة مثلاً فقال : { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة } أي : كلفوا القيام بها والعمل بما فيها { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } أي : لم يعملوا بموجبها ، ولا أطاعوا ما أمروا به فيها { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } هي جمع سفر ، وهو الكتاب الكبير؛ لأنه يسفر عن المعنى إذا قرىء . قال ميمون بن مهران : الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبل؟ فهكذا اليهود . وقال الجرجاني : هو يعني : حملوا من الحمالة بمعنى الكفالة أي : ضمنوا أحكام التوراة ، وقوله : { يَحْمِلُ } في محلّ نصب على الحال ، أو صفة للحمار ، إذ ليس المراد به حماراً معيناً ، فهو في حكم النكرة ، كما في قول الشاعر :
ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثم وقلت لا يعنيني
{ بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بئايات الله } أي : بئس مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، على أن التمييز محذوف ، والفاعل المفسر به مضمر ، و { مثل القوم } هو المخصوص بالذم ، أو { مثل القوم } فاعل { بئس } ، والمخصوص بالذمّ الموصول بعده على حذف مضاف ، أي : مثل الذين كذبوا ، ويجوز أن يكون الموصول صفة للقوم ، فيكون في محل جرّ ، والمخصوص بالذمّ محذوف ، والتقدير : بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء { والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين } يعني : على العموم ، فيدخل فيهم اليهود دخولاً أوّلياً . { قُلْ يأيها الذين هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس } المراد : بالذين هادوا الذين تهوّدوا ، وذلك أن اليهود ادّعوا الفضيلة على الناس ، وأنهم أولياء الله من دون الناس ، كما في قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] وقولهم : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] فأمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم لما ادّعوا هذه الدعوى الباطلة { فَتَمَنَّوُاْ الموت } لتصيروا إلى ما تصيرون إليه من الكرامة في زعمكم { إِن كُنتُمْ صادقين } في هذا الزعم ، فإن من علم أنه من أهل الجنة أحبّ الخلوص من هذه الدار . قرأ الجمهور : { فتمنوا } بضم الواو ، وقرأ ابن السميفع بفتحها تخفيفاً ، وحكى الكسائي إبدال الواو همزة ، ثم أخبر الله سبحانه أنهم لا يفعلون ذلك أبداً بسبب ذنوبهم فقال : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } أي : بسبب ما عملوا من الكفر والمعاصي ، والتحريف والتبديل { والله عَلِيمٌ بالظالمين } يعني : على العموم ، وهؤلاء اليهود داخلون فيهم دخولاً أوّلياً .

ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يقول لهم بأن الفرار من الموت لا ينجيهم ، وأنه نازل بهم ، فقال : { قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم } لا محالة ، ونازل بكم بلا شك ، والفاء في قوله : « فَإِنَّهُ » داخلة لتضمن الاسم معنى الشرط ، قال الزجاج : لا يقال : إن زيداً فمنطلق ، وها هنا قال : فإنه ملاقيكم لما في معنى الذي من الشرط والجزاء ، أي : إن فررتم منه ، فإنه ملاقيكم ، ويكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه ، وقيل : إنها مزيدة ، وقيل : إن الكلام قد تمّ عند قوله { تَفِرُّونَ مِنْهُ } ثم ابتدأ فقال { فَإِنَّهُ ملاقيكم ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة } وذلك يوم القيامة { فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } من الأعمال القبيحة ، ويجازيكم عليها .
وقد أخرج ابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن عطاء بن السائب عن ميسرة أن هذه الآية مكتوبة في التوراة بسبعمائة آية : { يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم } أوّل سورة الجمعة . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » وأخرج البخاري ، وغيره عن أبي هريرة قال : كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت سورة الجمعة ، فتلاها ، فلما بلغ { وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قال له رجل : يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي ، وقال : « والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء » وأخرجه أيضاً مسلم من حديثه مرفوعاً بلفظ : « لو كان الإيمان عند الثريا لذهب به رجال من فارس ، - أو قال - : من أبناء فارس » وأخرج سعيد بن منصور ، وابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو كان الإيمان بالثريا لناله ناس من أهل فارس » وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، والضياء عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالاً ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب » ، ثم قرأ { وَءاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم } . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } قال : الدين . وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه { مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } قال : اليهود . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { أَسْفَاراً } قال : كتباً .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة } أي : وقع النداء لها ، والمراد به : الأذان إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه ، وقوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } بيان لإذا وتفسير لها . وقال أبو البقاء : إن « من » بمعنى : في ، كما في قوله : { أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } ( فاطر 40 ) أي : في الأرض . قرأ الجمهور : { الجمعة } بضم الميم . وقرأ عبد الله بن الزبير ، والأعمش بإسكانها تخفيفاً . وهما لغتان ، وجمعها جمع وجمعات . قال الفراء : يقال : الجمعة بسكون الميم وبفتحها وبضمها . وهي صفة لليوم ، أي : يوم يجمع الناس . قال الفراء أيضاً ، وأبو عبيد : والتخفيف أخفّ وأقيس ، نحو غرفة وغرف ، وطرفة وطرف ، وحجرة وحجر . وفتح الميم لغة عقيل . وقيل : إنما سميت جمعة؛ لأن الله جمع فيها خلق آدم ، وقيل : لأن الله فرغ فيها من خلق كلّ شيء ، فاجتمعت فيها جميع المخلوقات ، وقيل : لاجتماع الناس فيها للصلاة { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } قال عطاء : يعني الذهاب والمشي إلى الصلاة . وقال الفراء : المضيّ والسعي والذهاب في معنى واحد ، ويدلّ على ذلك قراءة عمر بن الخطاب ، وابن مسعود : ( فامضوا إلى ذكر الله ) . وقيل : المراد القصد . قال الحسن : والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه قصد بالقلوب والنيات ، وقيل : هو العمل كقوله : { ومَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] وقوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } [ الليل : 4 ] وقوله : { وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى } [ النجم : 39 ] قال القرطبي : وهذا قول الجمهور ، ومنه قول زهير :
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... وقال أيضاً :
سعى ساعياً غيظ بن مرة بعد ما ... تنزل ما بين العشيرة بالدم
أي : فاعملوا على المضيّ إلى ذكر الله ، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والوضوء والتوجه إليه ، ويؤيد هذا القول قول الشاعر :
أسعى على جل بني مالك ... كلّ امرىء في شأنه ساعي
{ وَذَرُواْ البيع } أي : اتركوا المعاملة به ، ويلحق به سائر المعاملات . قال الحسن : إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحلّ الشراء والبيع ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى السعي إلى ذكر الله ، وترك البيع ، وهو مبتدأ ، وخبره { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي : خير لكم من فعل البيع ، وترك السعي لما في الامتثال من الأجر والجزاء . وفي عدمه من عدم ذلك إذا لم يكن موجباً للعقوبة { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : إن كنتم من أهل العلم ، فإنه لا يخفى عليكم أن ذلكم خير لكم { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } أي : إذا فعلتم الصلاة وأدّيتموها وفرغتم منها { فانتشروا فِى الأرض } للتجارة والتصرّف فيما تحتاجون إليه من أمر معاشكم { وابتغوا مِن فَضْلِ الله } أي : من رزقه الذي يتفضل به على عباده بما يحصل لهم من الأرباح في المعاملات والمكاسب ، وقيل : المراد به ابتغاء ما عند الله من الأجر بعمل الطاعات ، واجتناب ما لا يحلّ { واذكروا الله كَثِيراً } أي ذكراً كثيراً بالشكر له على ما هداكم إليه من الخير الأخروي والدنيويّ ، وكذا اذكروه بما يقرّبكم إليه من الأذكار ، كالحمد ، والتسبيح ، والتكبير ، والاستغفار ، ونحو ذلك { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : كي تفوزوا بخير الدارين وتظفروا به .

{ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً } سبب نزول هذه الآية أنه كان بأهل المدينة فاقة وحاجة ، فأقبلت عير من الشام ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلاّ اثنا عشر رجلاً في المسجد . ومعنى { انفضوا إِلَيْهَا } : تفرّقوا خارجين إليها . وقال المبرد : مالوا إليها ، والضمير للتجارة ، وخصت بإرجاع الضمير إليها دون اللهو؛ لأنها كانت أهمّ عندهم ، وقيل التقدير : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها ، أو لهواً انفضوا إليه ، فحذف الثاني لدلالة الأوّل عليه ، كما في قول الشاعر :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف
وقيل : إنه اقتصر على ضمير التجارة؛ لأن الانفضاض إليها إذا كان مذموماً مع الحاجة إليها ، فكيف بالانفضاض إلى اللهو ، وقيل : غير ذلك { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } أي : على المنبر : ثم أمره الله سبحانه أن يخبرهم بأن العمل للآخرة خير من العمل للدنيا ، فقال : { قُلْ مَا عِندَ الله } يعني : من الجزاء العظيم وهو الجنة { خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة } اللذين ذهبتم إليهما ، وتركتم البقاء في المسجد ، وسماع خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأجلها { والله خَيْرُ الرازقين } فمنه اطلبوا الرزق ، وإليه توسلوا بعمل الطاعة ، فإن ذلك من أسباب تحصيل الرزق وأعظم ما يجلبه .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قلت : يا رسول الله لأيّ شيء سمي يوم الجمعة؟ قال : « لأن فيه جمعت طينة أبيكم آدم ، وفيه الصعقة والبعثة ، وفي آخره ثلاث ساعات منها ساعة من دعا الله فيها بدعوة استجاب له » وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتدري ما يوم الجمعة » ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قالها ثلاث مرات ، ثم قال في الثالثة : « هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم أفلا أحدّثكم عن يوم الجمعة » ، الحديث . وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلاّ في يوم الجمعة »

وفي الباب أحاديث مصرحة بأنه خلق فيه آدم .
وورد في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة ، وكذلك في فضل صلاة الجمعة وعظيم أجرها ، وفي الساعة التي فيها ، وأنه يستجاب الدعاء فيها ، وقد أوضحت ذلك في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره . وأخرج أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف عن خرشة بن الحرّ قال : رأى معي عمر بن الخطاب لوحاً مكتوباً فيه { إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فقال : من أملى عليك هذا؟ قلت أبيّ بن كعب ، قال : إن أبياً أقرأنا للمنسوخ اقرأها : ( فامضوا إلى ذكر الله ) وروى هؤلاء ما عدا أبا عبيد عن ابن عمر قال : لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلاّ : ( فامضوا إلى ذكر الله ) وأخرجه عنه أيضاً الشافعي في الأمّ ، وعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم . وأخرجوا كلهم أيضاً عن ابن مسعود أنه كان يقرأ : ( فامضوا إلى ذكر الله ) قال : ولو كان فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي . وأخرج عبد بن حميد عن أبيّ بن كعب أنه قرأ كذلك . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } قال : فامضوا . وأخرج عبد بن حميد عنه أن السعي : العمل . وأخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب : أن رجلين من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كانا يختلفان في تجارتهما إلى الشام ، فربما قدما يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فيدعونه ويقومون ، فنزلت الآية : { وَذَرُواْ البيع } فحرم عليهم ما كان قبل ذلك . وأخرج ابن جرير عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } قال : « ليس لطلب دنيا ، ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله » وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : لم تؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو : عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في الله . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائماً إذ قدمت عير المدينة ، فابتدرها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلاً ، أنا فيهم وأبو بكر وعمر ، فأنزل الله : { وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } إلى آخر السورة . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في الآية قال : جاءت عير عبد الرحمن بن عوف تحمل الطعام ، فخرجوا من الجمعة بعضهم يريد أن يشتري ، وبعضهم يريد أن ينظر إلى دحية ، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر ، وبقي في المسجد اثنا عشر رجلاً وسبع نسوة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً » وفي الباب روايات متضمنة لهذا المعنى عن جماعة من الصحابة وغيرهم .

إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)

قوله : { إِذَا جَاءكَ المنافقون } أي : إذا وصلوا إليك وحضروا مجلسك ، وجواب الشرط : { قالوا } ، وقيل : محذوف ، و { قالوا } : حال ، والتقدير : جاءوك قائلين كيت وكيت ، فلا تقبل منهم ، وقيل : الجواب { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } وهو بعيد { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } أكدوا شهادتهم بإنّ واللام ، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم مع خلوص اعتقادهم ، والمراد بالمنافقين : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، ومعنى { نشهد } : نحلف ، فهو يجري مجرى القسم ، ولذلك يتلقى بما يتلقى به القسم ، ومن هذا قول قيس بن ذَريح :
وأشهد عند الله أني أحبها ... فهذا لها عندي فما عندها ليا
ومثل نشهد نعلم ، فإنه يجري مجرى القسم ، كما في قول الشاعر :
ولقد علمت لتأتينّ منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها
وجملة : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } معترضة مقرّرة لمضمون ما قبلها ، وهو ما أظهروه من الشهادة ، وإن كانت بواطنهم على خلاف ذلك { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لكاذبون } أي : في شهادتهم التي زعموا أنها من صميم القلب وخلوص الاعتقاد؛ لا إلى منطوق كلامهم ، وهو الشهادة بالرسالة ، فإنه حقّ ، والمعنى : والله يشهد إنهم لكاذبون فيما تضمنه كلامهم من التأكيد الدالّ على أن شهادتهم بذلك صادرة عن خلوص اعتقاد وطمأنينة قلب ، وموافقة باطن لظاهر . { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } أي : جعلوا حلفهم الذي حلفوا لكم به إنهم لمنكم ، وإن محمداً لرسول الله وقاية تقيهم منكم ، وسترة يستترون بها من القتل والأسر ، والجملة مستأنفة لبيان كذبهم وحلفهم عليه ، وقد تقدّم قول من قال : إنها جواب الشرط . قرأ الجمهور : { أيمانهم } بفتح الهمزة ، وقرأ الحسن بكسرها ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة المجادلة ، { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي : منعوا الناس عن الإيمان والجهاد ، وأعمال الطاعة بسبب ما يصدر منهم من التشكيك والقدح في النبوّة . هذا معنى الصدّ الذي بمعنى الصرف ، ويجوز أن يكون من الصدود ، أي : أعرضوا عن الدخول في سبيل الله وإقامة أحكامه { إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } من النفاق والصدّ ، وفي ساء معنى التعجب ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره من الكذب ، والصدّ ، وقبح الأعمال ، وهو مبتدأ ، وخبره : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } أي : بسبب أنهم آمنوا في الظاهر نفاقاً { ثُمَّ كَفَرُواْ } في الباطن ، أو أظهروا الإيمان للمؤمنين ، وأظهروا الكفر للكافرين ، وهذا صريح في كفر المنافقين ، وقيل : نزلت الآية في قوم آمنوا ثم ارتدّوا ، والأوّل أولى ، كما يفيده السياق . { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } أي : ختم عليها بسبب كفرهم . قرأ الجمهور : { فطبع } على البناء للمفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور بعده ، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للفاعل ، والفاعل ضمير يعود إلى الله سبحانه ، ويدل على هذا قراءة الأعمش : ( فطبع الله على قلوبهم ) .

{ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ما فيه من صلاحهم ورشادهم ، وهو الإيمان . { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أجسامهم } أي : هيئاتهم ومناظرهم ، يعني : أن لهم أجساماً تعجب من يراها لما فيها من النضارة والرونق { وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } فتحسب أن قولهم حقّ وصدق لفصاحتهم ، وذلاقة ألسنتهم ، وقد كان عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين فصيحاً جسيماً جميلاً ، وكان يحضر مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا قال سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم مقالته . قال الكلبي : المراد عبد الله بن أبيّ ، وجدّ بن قيس ، ومعتب بن قيس كانت لهم أجسام ومنظر وفصاحة ، والخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لكلّ من يصلح له ، ويدلّ عليه قراءة من قرأ : ( يسمع ) على البناء للمفعول ، وجملة : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } مستأنفة لتقرير ما تقدّم من أن أجسامهم تعجب الرائي وتروق الناظر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، شبّهوا في جلوسهم في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستندين بها بالخشب المنصوبة المسندة إلى الحائط التي لا تفهم ولا تعلم ، وهم كذلك لخلوّهم عن الفهم النافع ، والعلم الذي ينتفع به صاحبه ، قال الزجاج : وصفهم بتمام الصور ، ثم أعلم أنهم في ترك الفهم والاستبصار بمنزلة الخشب . قرأ الجمهور : { خشب } بضمتين ، وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وقنبل بإسكان الشين ، وبها قرأ البراء بن عازب ، واختارها أبو عبيد؛ لأن واحدتها خشبة كبدنة وبدن ، واختار القراءة الأولى أبو حاتم . وقرأ سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب بفتحتين ، ومعنى { مُّسَنَّدَةٌ } : أنها أسندت إلى غيرها ، من قولهم : أسندت كذا إلى كذا ، والتشديد للتكثير . ثم عابهم الله سبحانه بالجبن ، فقال : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي : يحسبون كل صيحة يسمعونها واقعة عليهم ، نازلة بهم لفرط جبنهم ورعب قلوبهم ، وفي المفعول الثاني للحسبان وجهان : أحدهما : أنه عليهم ، ويكون قوله : { هُمُ العدو } جملة مستأنفة؛ لبيان أنهم الكاملون في العداوة لكونهم يظهرون غير ما يبطنون ، والوجه الثاني : أن المفعول الثاني للحسبان هو قوله : { هُمُ العدو } ، ويكون قوله : { عَلَيْهِمْ } متعلقاً ب { صيحة } ، وإنما جاء بضمير الجماعة باعتبار الخبر ، وكان حقه أن يقال : هو العدوّ ، والوجه الأوّل أولى . قال مقاتل ، والسديّ : أي إذا نادى منادٍ في العسكر ، أو انفلتت دابة ، أو أنشدت ضالة ظنوا أنهم المرادون لما في قلوبهم من الرعب ، ومن هذا قول الشاعر :
ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالا
وقيل : كان المنافقون على وجل من أن ينزل فيهم ما يهتك أستارهم ، ويبيح دماءهم وأموالهم . ثم أمر الله سبحانه رسوله بأن يأخذ حذره منهم فقال : { فاحذرهم } أن يتمكنوا من فرصة منك ، أو يطلعوا على شيء من أسرارك؛ لأنهم عيون لأعدائك من الكفار .

ثم دعا عليهم بقوله : { قاتلهم الله أنى يُؤْفَكُونَ } أي : لعنهم الله ، وقد تقول العرب هذه الكلمة على طريقة التعجب ، كقولهم : قاتله الله من شاعر ، أو ما أشعره ، وليس بمراد هنا ، بل المراد ذمهم وتوبيخهم ، وهو طلب من الله سبحانه طلبه من ذاته - عزّ وجلّ - أن يلعنهم ويخزيهم ، أو هو تعليم للمؤمنين أن يقولوا ذلك؛ ومعنى { أنى يُؤْفَكُونَ } : كيف يصرفون عن الحق ، ويميلون عنه إلى الكفر . قال قتادة : معناه يعدلون عن الحق . وقال الحسن معناه يصرفون عن الرشد . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } أي : إذا قال لهم القائل من المؤمنين قد نزل فيكم ما نزل من القرآن ، فتوبوا إلى الله ورسوله ، وتعالوا يستغفر لكم رسول الله { لَوَّوْاْ رُءوسَهُمْ } أي : حركوها استهزاء بذلك . قال مقاتل : عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار . قرأ الجمهور : { لوّوا } بالتشديد . وقرأ نافع بالتخفيف ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ } أي : يعرضون عن قول من قال لهم : تعالوا يستغفر لكم رسول الله ، أو يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجملة : { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } في محل نصب على الحال من فاعل الحال الأولى ، وهي يصدّون؛ لأن الرؤية بصرية ، ف { يصدّون } في محل نصب على الحال ، والمعنى : ورأيتهم صادّين مستكبرين { سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } أي : الاستغفار وعدمه سواء لا ينفعهم ذلك لإصرارهم على النفاق ، واستمرارهم على الكفر . قرأ الجمهور : { أستغفرت } بهمزة مفتوحة من غير مدّ ، وحذف همزة الاستفهام ثقة بدلالة « أم » عليها . وقرأ يزيد بن القعقاع بهمزة ثم ألف { لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } أي : ما داموا على النفاق { إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين } أي : الكاملين في الخروج عن الطاعة ، والانهماك في معاصي الله ، ويدخل فيهم المنافقون دخولاً أوّلياً . ثم ذكر سبحانه بعض قبائحهم فقال : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } أي : حتى يتفرّقوا عنه ، يعنون بذلك فقراء المهاجرين ، والجملة مستأنفة جارية مجرى التعليل لفسقهم ، أو لعدم مغفرة الله لهم . قرأ الجمهور : { ينفضوا } من الانفضاض ، وهو التفرّق ، وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي : ( ينفضوا ) من أنفض القوم : إذا فنيت أزوادهم ، يقال : نفض الرجل وعاءه من الزاد فانفضّ . ثم أخبر سبحانه بسعة ملكه فقال : { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السموات والأرض } أي : إنه هو الرزاق لهؤلاء المهاجرين؛ لأن خزائن الرزق له فيعطي من شاء ما شاء ، ويمنع من شاء ما شاء { ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ } ذلك ، ولا يعلمون أن خزائن الأرزاق بيد الله عزّ وجلّ ، وأنه الباسط القابض المعطي المانع . ثم ذكر سبحانه مقالة شنعاء قالوها فقال : { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } القائل لهذه المقالة هو عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين ، وعنى بالأعزّ : نفسه ومن معه ، وبالأذلّ : رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه ، ومراده بالرجوع : رجوعهم من تلك الغزوة ، وإنما أسند القول إلى المنافقين مع كون القائل هو فرد من أفرادهم ، وهو عبد الله بن أبيّ ، لكونه كان رئيسهم وصاحب أمرهم ، وهم راضون بما يقوله سامعون له مطيعون .

ثم ردّ الله سبحانه على قائل تلك المقالة فقال : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } أي : القوّة والغلبة لله وحده ولمن أفاضها عليه من رسله وصالحي عباده لا لغيرهم . اللَّهم كما جعلت العزّة للمؤمنين على المنافقين ، فاجعل العزّة للعادلين من عبادك ، وأنزل الذلة على الجائرين الظالمين { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } بما فيه النفع فيفعلونه ، وبما فيه الضرّ فيجتنبونه ، بل هم كالأنعام لفرط جهلهم ومزيد حيرتهم ، والطبع على قلوبهم .
وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأصاب الناس شدّة ، فقال عبد الله بن أبيّ لأصحابه : { لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } من حوله ، وقال : { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته بذلك ، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ ، فسأله ، فاجتهد يمينه ما فعل ، فقالوا : كذب زيد رسول الله ، فوقع في نفسي مما قالوا شدّة حتى أنزل الله تصديقي في { إِذَا جَاءكَ المنافقون } ، فدعاهم النبيّ صلى الله عليه وسلم ليستغفر لهم ، فلوّوا رءوسهم ، وهو قوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } قال : كانوا رجالاً أجمل شيء . وأخرجه عنه بأطول من هذا ابن سعد ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما سماهم الله منافقين ، لأنهم كتموا الشرك وأظهروا الإيمان . وأخرج ابن المنذر عنه : { اتخذوا أيمانهم جُنَّةً } قال : حلفهم بالله إنهم لمنكم اجتنوا بأيمانهم من القتل والحرب . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } قال : نخل قيام . وأخرج ابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً . قال : نزلت هذه الآية : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } في عسيف لعمر بن الخطاب . وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم ، وابن مسعود أنهما قرآ : ( لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ) . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال : كنا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في غزاة . قال سفيان : يرون أنها غزوة بني المصطلق ، فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار ، فقال المهاجريّ يا للمهاجرين ، وقال الأنصاريّ يا للأنصار ، فسمع ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال :

« ما بال دعوة الجاهلية » ؟ قالوا : رجل من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « دعوها ، فإنها منتنة » ، فسمع ذلك عبد الله بن أبيّ ، فقال : أو قد فعلوها ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منه الأذلّ ، فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : « دعه ، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه » ، زاد الترمذي فقال له ابنه عبد الله : والله لا تنفلت حتى تقر أنك الذليل ، ورسول الله العزيز ، ففعل .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)

لما ذكر سبحانه قبائح المنافقين رجع إلى خطاب المؤمنين مرغباً لهم في ذكره فقال : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله } فحذرهم عن أخلاق المنافقين الذين ألهتهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله ، ومعنى { لاَ تُلْهِكُمْ } : لا تشغلكم ، والمراد بالذكر : فرائض الإسلام ، قاله الحسن . وقال الضحاك : الصلوات الخمس ، وقيل : قراءة القرآن ، وقيل : هو خطاب للمنافقين ، ووصفهم بالإيمان لكونهم آمنوا تظاهراً ، والأوّل أولى . { وَمَن يَفْعَلْ ذلك } أي : يلتهي بالدنيا عن الدين { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } أي : الكاملون في الخسران . { وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم } الظاهر أن المراد الإنفاق في الخير على عمومه ، و « من » للتبعيض ، أي : أنفقوا بعض ما رزقناكم في سبيل الخير ، وقيل : المراد : الزكاة المفروضة { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت } بأن تنزل به أسبابه ، ويشاهد حضور علاماته ، وقدّم المفعول على الفاعل للاهتمام { فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : يقول عند نزول ما نزل به منادياً لربه : هلا أمهلتني وأخرت موتي إلى أجل قريب ، أي : أمد قصير { فَأَصَّدَّقَ } أي : فأتصدّق بمالي { وَأَكُن مّنَ الصالحين } قرأ الجمهور : { فأصدّق } بادغام التاء في الصاد ، وانتصابه على أنه جواب التمني ، وقيل : إن « لا » في { لولا } زائدة ، والأصل : لو أخرتني . وقرأ أبيّ ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير . ( فأتصدّق ) بدون إدغام على الأصل . وقرأ الجمهور : { وأكن } بالجزم على محل ، { فأصدّق } ، كأنه قيل : إن قيل : إن أخرتني أتصدّق وأكن . قال الزجاج : معناه : هلا أخرتني؟ وجزم { أكن } على موضع { فأصدق } ؛ لأنه على معنى : إن أخرتني { فأصدّق } وأكن . وكذا قال أبو عليّ الفارسي ، وابن عطية ، وغيرهم . وقال سيبويه حاكياً عن الخليل : إنه جزم على توهم الشرط الذي يدلّ عليه التمني ، وجعل سيبويه هذا نظير قول زهير :
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ... ولا سابق شيئًا إذا كان جائيا
فخفض ، ولا سابق عطفاً على مدرك الذي هو خبر ليس على توهم زيادة الباء فيه . وقرأ أبو عمرو ، وابن محيصن ، ومجاهد : ( وأكون ) بالنصب عطفاً على { فأصدّق } ، ووجهها واضح . ولكن قال أبو عبيد : رأيت في مصحف عثمان : { وأكن } بغير واو ، وقرأ عبيد بن عمير : ( وأكون ) بالرفع على الاستئناف ، أي : وأنا أكون . قال الضحاك : لا ينزل بأحد الموت لم يحج ولم يؤدّ زكاة إلاّ سأل الرجعة ، وقرأ هذه الآية؛ ثم أجاب الله سبحانه عن هذا المتمني فقال : { وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا } أي : إذا حضر أجلها وانقضى عمرها { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } لا يخفى عليه شيء منه ، فهو مجازيكم بأعمالكم . قرأ الجمهور : { تعملون } بالفوقية على الخطاب ، وقرأ أبو بكر عن عاصم ، والسلمي بالتحتية على الخبر .

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ } الآية قال : « هم عباد من أمتي الصالحون منهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصلوات الخمس المفروضة » وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من كان له مال يبلغه حجّ بيت الله ، أو تجب عليه فيه الزكاة ، فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت » ، فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله ، فإنما يسأل الرجعة الكافر ، فقال : سأتلو عليكم بذلك قرآناً { يأيها الذين آمنوا } إلى آخر السورة . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين } قال : أحج .

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

قوله : { يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض } أي : ينزهه سبحانه جميع مخلوقاته التي في سماواته وأرضه عن كل نقص وعيب { لَهُ الملك وَلَهُ الحمد } يختصان به ليس لغيره منهما شيء ، وما كان لعباده منهما ، فهو من فيضه وراجع إليه { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } لا يعجزه شيء { هُوَ الذى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } أي : فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن . قال الضحاك : فمنكم كافر في السرّ مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السرّ كافر في العلانية كعمار بن ياسر ونحوه ممن أكره على الكفر . وقال عطاء : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب . قال الزجاج : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب مع أن الله خالق الكفر . وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب مع أن الله خالق الإيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه؛ لأن الله تعالى قدّر ذلك عليه وعلمه منه لأن وجود خلاف المقدّر عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل . قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال ، وهو الذي عليه جمهور الأمة ، وقدّم الكافر على المؤمن لأنه الأغلب عند نزول القرآن { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لا تخفى عليه من ذلك خافية ، فهو مجازيكم بأعمالكم . ثم لما ذكر سبحانه خلق العالم الصغير أتبعه بخلق العالم الكبير فقال : { خلق السموات والأرض بالحق } أي : بالحكمة البالغة . وقيل : خلق ذلك خلقاً يقيناً لا ريب فيه ، وقيل : الباء بمعنى اللام ، أي : خلق ذلك لإظهار الحق ، وهو أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . ثم رجع سبحانه إلى خلق العالم الصغير فقال : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } قيل : المراد آدم خلقه بيده كرامة له ، كذا قال مقاتل ، وقيل : المراد جميع الخلائق ، وهو الظاهر ، أي : أنه سبحانه خلقهم في أكمل صورة وأحسن تقويم وأجمل شكل . والتصوير : التخطيط والتشكيل . قرأ الجمهور : { فأحسن صوركم } بضمّ الصاد ، وقرأ زيد بن عليّ ، والأعمش ، وأبو زيد بكسرها { وَإِلَيْهِ المصير } في الدار الآخرة ، لا إلى غيره { يَعْلَمُ مَا فِى السموات والأرض } لا تخفى عليه من ذلك خافية { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي : ما تخفونه وما تظهرونه ، والتصريح به مع اندراجه فيما قبله لمزيد التأكيد في الوعد والوعيد { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } هذه الجملة مقرّرة لما قبلها من شمول علمه لكل معلوم ، وهي تذييلية . { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } وهم كفار الأمم الماضية كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، والخطاب لكفار العرب { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } بسبب كفرهم ، والوبال : الثقل والشدّة ، والمراد : بأمرهم هنا : ما وقع منهم من الكفر والمعاصي ، وبالوبال ما أصيبوا به من عذاب الدنيا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وذلك في الآخرة ، وهو عذاب النار؛ والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من العذاب في الدارين ، وهو مبتدأ ، وخبره { بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي : بسبب أنها كانت تأتيهم الرسل المرسلة إليهم بالمعجزات الظاهرة { فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي : قال كل قوم منهم لرسولهم هذا القول منكرين أن يكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك ، وأراد بالبشر الجنس ، ولهذا قال : { يهدوننا } .

{ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ } أي : كفروا بالرسل وبما جاءوا به ، وأعرضوا عنهم ولم يتدبروا فيما جاءوا به ، وقيل : كفروا بهذا القول الذي قالوه للرسل { واستغنى الله } عن إيمانهم وعبادتهم . وقال مقاتل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات ، وقيل : استغنى بسلطانه عن طاعة عباده { والله غَنِىٌّ حَمِيدٌ } أي : غير محتاج إلى العالم ولا إلى عبادتهم له ، محمود من كل مخلوقاته بلسان المقال والحال .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا مكث المنيّ في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس ، فعرج به إلى الربّ فيقول : يا ربّ أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض ، فيقول : أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق » ، وقرأ أبو ذرّ من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المصير } . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « العبد يولد مؤمناً ، ويعيش مؤمناً ، ويموت مؤمناً ، والعبد يولد كافراً ، ويعيش كافراً ، ويموت كافراً ، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالسعادة ، ثم يدركه ما كتب له فيموت شقياً ، وإن العبد يعمل برهة من دهره بالشقاء ، ثم يدركه ما كتب له فيموت سعيداً » .

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

قوله : { زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ } الزعم : هو القول بالظنّ ، ويطلق على الكذب . قال شريح : لكل شيء كنية ، وكنية الكذب زعموا ، و { أَن لَّن يُبْعَثُواْ } قائم مقام مفعول زعم ، و « أن » هي المخففة من الثقيلة لا المصدرية لئلا يدخل ناصب على ناصب ، والمراد بالكفار : كفار العرب؛ والمعنى : زعم كفار العرب أن الشأن لن يبعثوا أبداً . ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يردّ عليهم ويبطل زعمهم فقال : { قُلْ بلى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ } بل هي التي لإيجاب النفي ، فالمعنى : بلى تبعثون . ثم أقسم على ذلك ، وجواب القسم : { لتبعثنّ } أي : لتخرجنّ من قبوركم ، { لتنبؤن بِمَا عَمِلْتُمْ } أي : لتخبرنّ بذلك إقامة للحجة عليكم ، ثم تجزون به { َذَلِكَ } البعث والجزاء { عَلَى الله يَسِيرٌ } إذ الإعادة أيسر من الابتداء { فآمنوا بالله ورسوله } الفاء هي الفصيحة الدالة على شرط مقدّر أي : إذا كان الأمر هكذا ، فصدّقوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { والنور الذى أَنزَلْنَا } وهو القرآن؛ لأنه نور يهتدى به من ظلمة الضلال { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } لا يخفى عليه شيء من أقوالكم وأفعالكم ، فهو مجازيكم على ذلك { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع } العامل في الظرف : { لتنبؤن } ، قاله النحاس . وقال غيره : العامل فيه خبير ، وقيل : العامل فيه محذوف هو اذكر . وقال أبو البقاء : العامل فيه ما دلّ عليه الكلام ، أي : تتفاوتون يوم يجمعكم . قرأ الجمهور : { يجمعكم } بفتح الياء وضم العين ، وروي عن أبي عمرو إسكانها ، ولا وجه لذلك إلاّ التخفيف ، وإن لم يكن هذا موضعاً له ، كما قرىء في { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] بسكون الراء ، وكقول الشاعر :
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
بإسكان باء أشرب ، وقرأ زيد بن عليّ ، والشعبي ، ويعقوب ، ونصر ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري : ( نجمعكم ) بالنون ، ومعنى { لِيَوْمِ الجمع } : ليوم القيامة ، فإنه يجمع فيه أهل المحشر للجزاء ، ويجمع فيه بين كل عامل وعمله ، وبين كل نبيّ وأمته ، وبين كل مظلوم وظالمه { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } يعني : أن يوم القيامة هو يوم التغابن ، وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضاً ، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل ، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر ، وأهل الطاعة أهل المعصية ، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار ، فنزلوا منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار ، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشرّ ، والجيد بالرديء ، والنعيم بالعذاب ، وأهل الجنة على العكس من ذلك . يقال : غبنت فلاناً إذا بايعته ، أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة ، كذا قال المفسرون ، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا نكْفُر عَنْهُ سيئاته } أي : من وقع منه التصديق مع العمل الصالح استحق تكفير سيئاته ، قرأ الجمهور : ( يكفر ) و ( يدخله ) بالتحتية ، وقرأ نافع ، وابن عامر بالنون فيهما ، وانتصاب { خالدين فِيهَا أَبَداً } على أنها حال مقدّرة ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من التكفير والإدخال ، وهو مبتدأ ، وخبره { الفوز العظيم } أي : الظفر الذي لا يساويه ظفر .

{ والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أُوْلَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير } المراد بالآيات : إما التنزيلية أو ما هو أعم منها . ذكر سبحانه حال السعداء ، وحال الأشقياء هاهنا لبيان ما تقدم من التغابن ، وأنه سيكون بسبب التكفير ، وإدخال الجنة للطائفة الأولى ، وبسبب إدخال الطائفة الثانية النار ، وخلودهم فيها . { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي : ما أصاب كل أحد من مصيبة من المصائب إلاّ بإذن الله ، أي : بقضائه وقدره ، قال الفراء : إلاّ بإذن الله ، أي : بأمر الله ، وقيل : إلاّ بعلم الله . قيل : وسبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقاً لصانهم الله عن المصائب في الدنيا { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } أي : من يصدّق ويعلم أنه لا يصيبه إلاّ ما قدّره الله عليه يهد قلبه للصبر والرضا بالقضاء . قال مقاتل بن حيان : يهد قلبه عند المصيبة ، فيعلم أنها من الله ، فيسلم لقضائه ويسترجع . وقال سعيد بن جبير : يهد قلبه عند المصيبة ، فيقول : { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون } [ البقرة : 156 ] وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر ، وإذا أنعم عليه شكر ، وإذا ظلم غفر . قرأ الجمهور : { يهد } بفتح الياء ، وكسر الدال ، أي : يهده الله ، وقرأ قتادة ، والسلمي ، والضحاك ، وأبو عبد الرحمن بضم الياء ، وفتح الدال على البناء للمفعول ، وقرأ طلحة بن مصرّف ، والأعرج ، وسعيد بن جبير ، وابن هرمز ، والأزرق : ( نهد ) بالنون ، وقرأ مالك بن دينار ، وعمرو بن دينار ، وعكرمة : ( يهدأ ) بهمزة ساكنة ، ورفع قلبه ، أي : يطمئن ويسكن { والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ } أي : بليغ العلم لا تخفى عليه من ذلك خافية . { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } أي : هوّنوا على أنفسكم المصائب ، واشتغلوا بطاعة الله وطاعة رسوله { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي : أعرضتم عن الطاعة { فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } ليس عليه غير ذلك وقد فعل ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير فلا بأس على الرسول ، وجملة : { فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا } تعليل للجواب المحذوف ، ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل فقال : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي : هو المستحق للعبودية دون غيره ، فوحدوه ولا تشركوا به { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي : يفوّضوا أمورهم إليه ، ويعتمدوا عليه لا على غيره .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبيهقي ، وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قيل له : ما سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : في زعموا؟ قال : سمعته يقول :

« بئس مطية الرجل » وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه أنه كره زعموا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يوم التغابن من أسماء يوم القيامة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه في قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } قال : غبن أهل الجنة أهل النار ، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود في قوله : { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ } قال : هي المصيبات تصيب الرجل ، فيعلم أنها من عند الله ، فيسلم لها ويرضى . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { يَهْدِ قَلْبَهُ } قال : يعني يهد قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ } يعني : أنهم يعادونكم ويشغلونكم عن الخير ، ويدخل في ذلك سبب النزول دخولاً أوّلياً ، وهو أن رجالاً من مكة أسلموا ، وأرادوا أن يهاجروا ، فلم يدعهم أزواجهم ولا أولادهم ، فأمر الله سبحانه بأن يحذروهم ، فلا يطيعوهم في شيء مما يريدونه منهم مما فيه مخالفة لما يريده الله ، والضمير في { فاحذروهم } يعود إلى العدوّ ، أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم ، بل إلى المتصفين بالعداوة منهم ، وإنما جاز جمع الضمير على الوجه الأوّل؛ لأن العدوّ يطلق على الواحد ، والاثنين ، والجماعة ، ثم أرشدهم الله إلى التجاوز ، فقال : { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ } أي : تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها ، وتتركوا التثريب عليها وتستروها { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم ، قيل : كان الرجل الذي ثبطه أزواجه وأولاده عن الهجرة إذا رأى الناس قد سبقوه إليها ، وفقهوا في الدين همّ أن يعاقب أزواجه وأولاده ، فأنزل الله { وَأَن تَعْفُواْ } الآية ، والآية تعمّ وإن كان السبب خاصاً ، كما عرفناك غير مرة . قال مجاهد : والله ما عادوهم في الدنيا ، ولكن حملتهم مودتهم على أن اتخذوا لهم الحرام ، فأعطوهم إياه . ثم أخبر الله سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال : { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } أي : بلاء واختبار ومحنة ، يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله ، فلا تطيعوهم في معصية الله { والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } لمن آثر طاعة الله ، وترك معصيته في محبة ماله وولده . ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة فقال : { فاتقوا الله مَا استطعتم } أي : ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم . وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن هذه الآية ناسخة لقوله سبحانه : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } ومنهم قتادة ، والربيع بن أنس ، والسديّ ، وابن زيد ، وقد أوضحنا الكلام في قوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } ومعنى { واسمعوا وَأَطِيعُواْ } أي : اسمعوا ما تؤمرون به ، وأطيعوا الأوامر . قال مقاتل { اسمعوا } أي : اصغوا إلى ما ينزل عليكم ، وأطيعوا لرسوله فيما يأمركم وينهاكم . وقيل : معنى { اسمعوا } : اقبلوا ما تسمعون؛ لأنه لا فائدة في مجرد السماع { وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأنفُسِكُمْ } أي : أنفقوا من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ولا تبخلوا بها ، وقوله : { خَيْراً لاِنفُسِكُمْ } منتصب بفعل مضمر دلّ عليه أنفقوا ، كأنه قال : ائتوا في الإنفاق خيراً لأنفسكم ، أو قدّموا خيراً لها ، كذا قال سيبويه . وقال الكسائي ، والفرّاء : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : إنفاقاً خيراً . وقال أبو عبيدة : هو خبر لكان المقدّرة ، أي : يكن الإنفاق خيراً لكم . وقال الكوفيون : هو منتصب على الحال ، وقيل : هو مفعول به لأنفقوا ، أي : فأنفقوا خيراً .

والظاهر : في الآية الإنفاق مطلقاً من غير تقييد بالزكاة الواجبة ، وقيل : المراد زكاة الفريضة ، وقيل : النافلة ، وقيل : النفقة في الجهاد { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون } أي : ومن يوق شحّ نفسه ، فيفعل ما أمر به من الإنفاق ، ولا يمنعه ذلك منه ، فأولئك هم الظافرون بكل خير الفائزون بكل مطلب ، وقد تقدم تفسير هذه الآية . { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً } فتصرفون أموالكم في وجوه الخير بإخلاص نية وطيب نفس { يضاعفه لَكُمْ } فيجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية ، واختلاف القراء في قراءتها في سورة البقرة ، وسورة الحديد { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي : يضمّ لكم إلى تلك المضاعفة غفران ذنوبكم { والله شَكُورٌ حَلِيمٌ } يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة ، ولا يعاجل من عصاه بالعقوبة . { عالم الغيب والشهادة } أي : ما غاب وما حضر لا تخفى عليه منه خافية ، وهو { العزيز الحكيم } أي : الغالب القاهر ذو الحكمة الباهرة . وقال ابن الأنباري : الحكيم هو المحكم لخلق الأشياء .
وقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } في قوم من أهل مكة أسلموا ، وأرادوا أن يأتوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم ، فنزلت إلى قوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن بريدة قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخطب ، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر ، فحملهما واحداً من ذا الشقّ ، وواحداً من ذا الشقّ ثم صعد المنبر فقال : « صدق الله : { إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ } ، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما » وأخرج ابن جرير ، والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله : استقرضت عبدي فأبى أن يقرضني ، وشتمني عبدي وهو لا يدري ، يقول : وادهراه ، وادهراه ، وأنا الدهر » ، ثم تلا أبو هريرة { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يضاعفه لَكُمْ } .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)

قوله : { يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } نادى النبيّ صلى الله عليه وسلم أوّلاً تشريفاً له ، ثم خاطبه مع أمته ، أو الخطاب له خاصة ، والجمع للتعظيم ، وأمته أسوته في ذلك ، والمعنى : إذا أردتم تطليقهن وعزمتم عليه { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي : مستقبلات لعدتهنّ ، أو في قبل عدتهنّ ، أو لقبل عدتهنّ . وقال الجرجاني : إن اللام في { لعدتهنّ } بمعنى في ، أي : في عدتهنّ . وقال أبو حيان : هو على حذف مضاف أي : لاستقبال عدتهنّ ، واللام للتوقيت نحو لقيته لليلة بقيت من شهر كذا ، والمراد أن يطلقوهنّ في طهر لم يقع فيه جماع ، ثم يتركن حتى تنقضي عدتهنّ ، فإذا طلقوهنّ هكذا ، فقد طلقوهنّ لعدتهنّ ، وسيأتي بيان هذا من السنة في آخر البحث إن شاء الله { وَأَحْصُواْ العدة } أي : احفظوها ، واحفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق حتى تتمّ العدّة ، وهي ثلاثة قروء ، والخطاب للأزواج ، وقيل : للزوجات ، وقيل : للمسلمين على العموم ، والأول أولى؛ لأن الضمائر كلها لهم { واتقوا الله رَبَّكُمْ } فلا تعصوه فيما أمركم ولا تضارّوهن { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أي : التي كنّ فيها عند الطلاق ما دمن في العدّة ، وأضاف البيوت إليهنّ وهي لأزواجهنّ لتأكيد النهي ، وبيان كمال استحقاقهنّ للسكنى في مدّة العدّة ، ومثله قوله : { واذكرن مَا يتلى فِى بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 34 ] وقوله : { وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] ثم لما نهى الأزواج عن إخراجهنّ من البيوت التي وقع الطلاق وهنّ فيها نهى الزوجات عن الخروج أيضاً فقال : { وَلاَ يَخْرُجْنَ } أي : لا يخرجن من تلك البيوت ما دمن في العدّة إلاّ لأمر ضروري ، كما سيأتي بيان ذلك ، وقيل : المراد لا يخرجن من أنفسهن إلاّ إذا أذن لهنّ الأزواج ، فلا بأس ، والأوّل أولى { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } هذا الاستثناء هو من الجملة الأولى ، أي : لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ، لا من الجملة الثانية . قال الواحدي : أكثر المفسرين على أن المراد بالفاحشة هنا : الزنا ، وذلك أن تزني ، فتخرج لإقامة الحدّ عليها . وقال الشافعي وغيره : هي البذاء في اللسان ، والاستطالة بها على من هو ساكن معها في ذلك البيت ، ويؤيد هذا ما قال عكرمة : إن في مصحف أبيّ : ( إلاّ أن يفحشن عليكم ) وقيل المعنى : إلاّ أن يخرجن تعدّياً ، فإن خروجهنّ على هذا الوجه فاحشة ، وهو بعيد . والإشارة بقوله : { وَتِلْكَ } إلى ما ذكر من الأحكام وهو مبتدأ ، وخبره { حُدُودَ الله } والمعنى : أن هذه الأحكام التي بينها لعباده هي حدوده التي حدّها لهم لا يحل لهم أن يتجاوزوها إلى غيرها { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } أي : يتجاوزها إلى غيرها ، أو يخلّ بشيء منها { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } بإيرادها مورد الهلاك ، وأوقعها في مواقع الضرر بعقوبة الله له على مجاوزته لحدوده وتعديه لرسمه ، وجملة : { لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها وتعليله .

قال القرطبي : قال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة؛ والمعنى : التحريض على طلاق الواحدة ، والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضرّ بنفسه عند الندم على الفراق ، والرغبة في الارتجاع ، فلا يجد إلى المراجعة سبيلاً . وقال مقاتل { بعد ذلك } أي : بعد طلقة أو طلقتين { أمراً } بالمراجعة . قال الواحدي : الأمر الذي يحدث أن يوقع في قلب الرجل المحبة لرجعتها بعد الطلقة والطلقتين . قال الزجاج : وإذا طلقها ثلاثاً في وقت واحد ، فلا معنى لقوله : { لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } . { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي : قاربن انقضاء أجل العدة ، وشارفن آخرها { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : راجعوهنّ بحسن معاشرة ، ورغبة فيهنّ من غير قصد إلى مضارّة لهنّ { أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أي : اتركوهنّ حتى تنقضي عدتهنّ ، فيملكن نفوسهن مع إيفائهنّ بما هو لهنّ عليكم من الحقوق ، وترك المضارة لهنّ { وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } على الرجعة ، وقيل : على الطلاق ، وقيل : عليهما قطعاً للتنازع ، وحسماً لمادة الخصومة ، والأمر للندب ، كما في قوله : { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] وقيل : إنه للوجوب ، وإليه ذهب الشافعي قال : الإشهاد واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل . وفي قول للشافعي : إن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وروي نحو هذا عن أبي حنيفة وأحمد { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } هذا أمر للشهود بأن يأتوا بما شاهدوا به تقرباً إلى الله ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة البقرة ، وقيل : الأمر للأزواج بأن يقيموا الشهادة ، أي : الشهود عند الرجعة ، فيكون قوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } أمراً بنفس الإشهاد ، ويكون قوله : { وَأَقِيمُواْ الشهادة } أمراً بأن تكون خالصة لله ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى ما تقدّم من الأمر بالإشهاد ، وإقامة الشهادة لله ، وهو مبتدأ ، وخبره { يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الاخر } وخص المؤمن بالله واليوم الآخر؛ لأنه المنتفع بذلك دون غيره { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } أي : من يتق عذاب الله بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والوقوف على حدوده التي حدّها لعباده ، وعدم مجاوزتها يجعل له مخرجاً مما وقع فيه من الشدائد والمحن . { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي : من وجه لا يخطر بباله ، ولا يكون في حسابه . قال الشعبي ، والضحاك : هذا في الطلاق خاصة ، أي : من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدّة ، وأنه يكون كأحد الخطاب بعد العدّة . وقال الكلبي : ومن يتق الله بالصبر عند المصيبة يجعل له مخرجاً من النار إلى الجنة . وقال الحسن : مخرجاً مما نهى الله عنه .

وقال أبو العالية : مخرجاً من كل شيء ضاق على الناس . وقال الحسين بن الفضل : ومن يتق الله في أداء الفرائض يجعل له مخرجاً من العقوبة ، ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب ، أي : يبارك له فيما آتاه . وقال سهل بن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة أهل البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب ، وقيل : غير ذلك . وظاهر الآية العموم ، ولا وجه للتخصيص بنوع خاص ، ويدخل ما فيه السياق دخولاً أولياً { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } أي : ومن وثق بالله فيما نابه كفاه ما أهمه { إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ } قرأ الجمهور بتنوين بالغ ، ونصب أمره ، وقرأ حفص بالإضافة ، وقرأ ابن أبي عبلة ، وداود بن أبي هند ، وأبو عمرو في رواية عنه بتنوين بالغ ، ورفع أمره على أنه فاعل بالغ ، أو على أن أمره مبتدأ مؤخر ، وبالغ خبر مقدم . قال الفراء في توجيه هذه القراءة ، أي : أمره بالغ؛ والمعنى على القراءة الأولى ، والثانية : أن الله سبحانه بالغ ما يريده من الأمر لا يفوته شيء ، ولا يعجزه مطلوب ، وعلى القراءة الثالثة : أن الله نافذ أمره لا يرده شيء . وقرأ المفضل : ( بالغا ) بالنصب على الحال ، ويكون خبر إن قوله : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً } أي : تقديراً وتوقيتاً أو مقداراً . فقد جعل سبحانه للشدة أجلاً تنتهي إليه ، وللرخاء أجلاً ينتهي إليه . وقال السدي : هو قدر الحيض والعدة . { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نّسَائِكُمْ } وهن الكبار اللاتي قد انقطع حيضهن وأيسن منه { إِنِ ارتبتم } أي : شككتم وجهلتم كيف عدتهن { فَعِدَّتُهُنَّ ثلاثة أَشْهُرٍ واللائى لَمْ يَحِضْنَ } لصغرهن ، وعدم بلوغهن سن المحيض ، أي : فعدتهن ثلاثة أشهر ، وحذف هذا لدلالة ما قبله عليه { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي : انتهاء عدتهن وضع الحمل ، وظاهر الآية أن عدة الحوامل بالوضع سواء كن مطلقات أو متوفى عنهن ، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة البقرة مستوفى ، وحققنا البحث في هذه الآية وفي الآية الأخرى { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [ البقرة : 234 ] وقيل : معنى { إِنِ ارتبتم } إن تيقنتم ، ورجح ابن جرير أنه بمعنى الشك ، وهو الظاهر . قال الزجاج : إن ارتبتم في حيضها ، وقد انقطع عنها الحيض ، وكانت ممن يحيض مثلها . وقال مجاهد : إن ارتبتم : يعني لم تعلموا عدّة الآيسة والتي لم تحض فالعدّة هذه . وقيل المعنى : إن ارتبتم في الدم الذي يظهر منها هل هو حيض أم لا؟ بل استحاضة ، فالعدّة ثلاثة أشهر { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } أي : من يتقه في امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه يسهل عليه أمره في الدنيا والآخرة . وقال الضحاك : من يتق الله ، فليطلق للسنة يجعل له من أمره يسراً في الرجعة .

وقال مقاتل : من يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسراً في توفيقه للطاعة ، والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما ذكر من الأحكام ، أي : ذلك المذكور من الأحكام { أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } أي : حكمه الذي حكم به بين عباده ، وشرعه الذي شرعه لهم ، ومعنى { أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } أنزله في كتابه على رسوله ، وبينه لكم وفصل أحكامه ، وأوضح حلاله وحرامه { وَمَن يَتَّقِ الله } بترك ما لا يرضاه { يُكَفّرْ عَنْهُ سيئاته } التي اقترفها؛ لأن التقوى من أسباب المغفرة للذنوب { وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي : يعطه من الأجر في الآخرة أجراً عظيماً ، وهو الجنة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ، فأتت أهلها ، فأنزل الله { يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فقيل له : راجعها ، فإنها صوّامة قوّامة ، وهي من أزواجك في الجنة . وأخرجه ابن جرير عن قتادة مرسلاً . وأخرح الحاكم عن ابن عباس قال : طلق عبد يزيد أبو ركانة أمّ ركانة ، ثم نكح امرأة من مزينة ، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ما يغني عني إلاّ ما تغني عني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ، فأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم حمية عند ذلك ، فدعا رسول الله ركانة وإخوته ، ثم قال لجلسائه : أترون كذا من كذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد : « طلقها » ، ففعل ، فقال لأبي ركانة « ارتجعها » ، فقال : يا رسول الله إني طلقتها ، قال : « قد علمت ذلك ، فارتجعها » ، فنزلت : { يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } . قال الذهبي : إسناده واه ، والخبر خطأ ، فإن عبد يزيد لم يدرك الإسلام . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عمر : أنه طلق امرأته ، وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : « ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، وتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها ، فتلك العدّة التي أمر الله أن يطلق لها النساء » ، وقرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها النبيّ إذا طلقتم النساء فطلقوهنّ في قبل عدتهنّ ) . وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، وابن المنذر ، والحاكم ، وابن مردويه عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : ( فطلقوهنّ في قبل عدتهنّ ) . وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر أنه قرأ : ( فطلقوهنّ لقبل عدتهنّ ) . وأخرج ابن الأنباري ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن مجاهد أنه قرأ كذلك . وأخرج عبد الرزاق ، وأبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس أنه قرأ كذلك .

وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : من أراد أن يطلق للسنة ، كما أمره الله ، فليطلقها طاهراً في غير جماع . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال : طاهراً من غير جماع ، وفي الباب أحاديث . وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود : { وَأَحْصُواْ العدة } قال : الطلاق طاهراً في غير جماع . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عمر في قوله : { وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ } قال : خروجها قبل انقضاء العدّة من بيتها هي الفاحشة المبينة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ } قال : الزنا . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي من طرق عن ابن عباس قال : الفاحشة المبينة أن تبذو المرأة على أهل الرجل ، فإذا بذت عليهم بلسانها ، فقد حلّ لهم إخراجها . وأخرج ابن أبي حاتم عن فاطمة بنت قيس في قوله : { لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } قالت : هي الرّجعة . وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حصين أن رجلاً طلق ، ولم يشهد ، قال : بئس ما صنع ، طلق في بدعة وارتجع في غير سنة ، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته ، ويستغفر الله . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } قال : مخرجه أن يعلم أنه من قبل الله ، وأن الله هو الذي يعطيه وهو يمنعه ، وهو يبتليه وهو يعافيه وهو يدفع عنه ، وفي قوله : { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } قال : من حيث لا يدري . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } قال : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة . وأخرج الحاكم وصححه ، وضعفه الذهبي من طريق سالم بن أبي الجعد عن جابر قال : نزلت هذه الآية : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } في رجل من أشجع كان فقيراً خفيف ذات اليد كثير العيال ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « اتق الله واصبر » ، فلم يلبث إلاّ يسيراً حتى جاء ابن له بغنم كان العدوّ أصابوه ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله عنها ، وأخبره خبرها ، فقال : كلها ، فنزلت : { وَمَن يَتَّقِ الله } الآية .

وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إن ابني أسره العدوّ ، وجزعت أمه ، فما تأمرني؟ قال : « آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوّة إلاّ بالله » ، فقالت المرأة : نعم ما أمرك ، فجعلا يكثران منها ، فتغفل عنه العدوّ ، فاستاق غنمهم ، فجاء بها إلى أبيه ، فنزلت : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } الآية . وفي الباب روايات تشهد لهذا . وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة في الآية قالت : يكفيه همّ الدنيا وغمها . وأخرج أحمد وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في المعرفة ، والبيهقي عن أبي ذرّ قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآية : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } فجعل يردّدها حتى نعست ، ثم قال : « يا أبا ذرّ لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم » وفي الباب أحاديث . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } قال : ليس المتوكل الذي يقول تقضي حاجتي ، وليس كل من يتوكل على الله كفاه ما أهمه ، ودفع عنه ما يكره ، وقضى حاجته ، ولكن الله جعل فضل من توكل على من لم يتوكل أن يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً ، وفي قوله : { إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ } قال : يقول قاضي أمره على من توكل ، وعلى من لم يتوكل ، ولكن المتوكل يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً ، وفي قوله : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَىْء قَدْراً } قال : يعني : أجلاً ومنتهى ينتهي إليه . وأخرج ابن المبارك ، والطيالسي ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأبو يعلى ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أنكم توكلتم على الله حقّ توكله لرزقتم كما ترزق الطير ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً » وأخرج إسحاق بن راهويه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن أبيّ بن كعب أن ناساً من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية في البقرة في عدّة النساء قالوا : لقد بقي من عدّة النساء عدد لم يذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع حيضهنّ ، وذوات الحمل ، فأنزل الله : { واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض } الآية . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وأبو يعلى ، والضياء في المختارة ، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال : قلت للنبيّ صلى الله عليه وسلم : { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أهي المطلقة ثلاثاً ، أو المتوفى عنها؟ قال : « هي المطلقة ثلاثاً ، والمتوفى عنها »

وأخرج نحوه عنه مرفوعاً ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والدارقطني من وجه آخر . وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه من طرق عن ابن مسعود أنه بلغه أن علياً قال : تعتدّ آخر الأجلين ، فقال : من شاء لاعنته إن الآية التي في سورة النساء القصرى نزلت بعد سورة البقرة { وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } بكذا وكذا أشهراً ، وكل مطلقة ، أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها . وروي نحو هذا عنه من طرق ، وبعضها في صحيح البخاري . وقد ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث أم سلمة : أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حبلى ، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي الباب أحاديث .

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

قوله : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان ما يجب للنساء من السكنى ، ومن للتبعيض ، أي : بعض مكان سكناكم ، وقيل : زائدة { مّن وُجْدِكُمْ } أي : من سعتكم وطاقتكم ، والوجد القدرة . قال الفرّاء : يقول على ما يجد ، فإن كان موسعاً عليه ، وسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيراً فعلى قدر ذلك . قال قتادة : إن لم تجد إلاّ ناحية بيتك فأسكنها فيه .
وقد اختلف أهل العلم في المطلقة ثلاثاً ، هل لها سكنى ونفقة أم لا؟ فذهب مالك ، والشافعي أن لها السكنى ولا نفقة لها . وذهب أبو حنيفة وأصحابه أن لها السكنى والنفقة . وذهب أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور أنه لا نفقة لها ولا سكنى ، وهذا هو الحق ، وقد قررته في شرحي للمنتقى بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره . { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ } نهى سبحانه عن مضارتهنّ بالتضييق عليهنّ في المسكن والنفقة . وقال مجاهد : في المسكن . وقال مقاتل : في النفقة . وقال أبو الضحى : هو أن يطلقها ، فإذا بقي يومان من عدّتها راجعها ، ثم طلقها { وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } أي : إلى غاية هي وضعهنّ للحمل . ولا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة؛ فأما الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال عليّ ، وابن عمر ، وابن مسعود ، وشريح ، والنخعي ، والشعبي ، وحماد ، وابن أبي ليلى ، وسفيان وأصحابه : ينفق عليها من جميع المال حتى تضع . وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وجابر بن عبد الله ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وأصحابه : لا ينفق عليها إلاّ من نصيبها ، وهذا هو الحق للأدلة الواردة في ذلك من السنة { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أولادكم بعد ذلك { فآتوهن اجورهنّ } أي : أجور إرضاعهنّ والمعنى : أن المطلقات إذا أرضعن أولاد الأزواج المطلقين لهنّ منهنّ ، فلهنّ أجورهنّ على ذلك { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } هو خطاب للأزواج والزوجات ، أي : تشاورا بينكم بما هو معروف غير منكر ، وليقبل بعضكم من بعض من المعروف والجميل ، وأصل معناه ليأمر بعضكم بعضاً بما هو متعارف بين الناس غير منكر عندهم . قال مقاتل : المعنى : ليتراض الأب والأم على أجر مسمى ، قيل : والمعروف الجميل من الزوج أن يوفر لها الأجر ، والمعروف الجميل منها : أن لا تطلب ما يتعاسره الزوج من الأجر { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ } أي : في أجر الرضاع ، فأبى الزوج أن يعطي الأمّ الأجر ، وأبت الأمّ أن ترضعه إلاّ بما تريد من الأجر { فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } أي : يستأجر مرضعة أخرى ترضع ولده ، ولا يجب عليه أن يسلم ما تطلبه الزوجة ، ولا يجوز له أن يكرهها على الإرضاع بما يريد من الأجر . قال الضحاك : إن أبت الأمّ أن ترضع استأجر لولده أخرى ، فإن لم تقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر .

{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ } فيه الأمر لأهل السعة بأن يوسعوا على المرضعات من نسائهم على قدر سعتهم { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أي : كان رزقه بمقدار القوت ، أو مضيق ليس بموسع { فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله } أي : مما أعطاه من الرزق ليس عليه غير ذلك { لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا } أي : ما أعطاها من الرزق ، فلا يكلف الفقير بأن ينفق ما ليس في وسعه ، بل عليه ما يقدر عليه وتبلغ إليه طاقته مما أعطاه الله من الرزق { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } أي : بعد ضيق وشدّة سعة وغنى .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { مّن وُجْدِكُمْ } قال : من سعتكم { وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيّقُواْ عَلَيْهِنَّ } قال في المسكن . وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : { وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ } الآية ، قال : فهذه في المرأة يطلقها زوجها ، وهي حامل ، فأمره الله أن يسكنها وينفق عليها حتى تضع ، وإن أرضعت حتى تفطم ، فإن أبان طلاقها وليس بها حمل ، فلها السكنى حتى تنقضي عدّتها ولا نفقة لها . وأخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال : سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة ، فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ماذا يصنع بها إذا أخذها؟ فما لبث أن لبس ألين الثياب ، وأكل أطيب الطعام ، فجاء الرسول ، فأخبره ، فقال : رحمه الله تأوّل هذه الآية { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله } .

وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)

لما ذكر سبحانه ما تقدّم من الأحكام ، حذّر من مخالفتها ، وذكر عتوّ قوم خالفوا أوامره ، فحلّ بهم عذابه ، فقال : { وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ } يعني : عصت ، والمراد : أهلها ، والمعنى : وكم من أهل قرية عصوا أمر الله ورسله ، أو أعرضوا عن أمر الله ورسله على تضمين { عتت } معنى أعرضت ، وقد قدّمنا الكلام في { كأين } في سورة آل عمران وغيرها { فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً } أي : شددنا على أهلها في الحساب بما عملوا . قال مقاتل : حاسبها الله بعملها في الدنيا فجازها بالعذاب ، وهو معنى قوله : { وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً } أي : عذبنا أهلها عذاباً عظيماً منكراً في الآخرة ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : عذبنا أهلها عذاباً نكراً في الدنيا بالجوع والقحط ، والسيف والخسف والمسخ ، وحاسبناهم في الآخرة حساباً شديداً . والنكر : المنكر { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي : عاقبة كفرها { وَكَانَ عاقبة أَمْرِهَا خُسْراً } أي : هلاكاً في الدنيا وعذاباً في الآخرة . { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } في الآخرة ، وهو عذاب النار ، والتكرير للتأكيد { فاتقوا الله ياأولى الألباب } أي : يا أولي العقول الراجحة ، وقوله : { الذين آمنوا } في محل نصب بتقدير أعني بياناً للمنادى بقوله : { يأُوْلِي الألباب } أو عطف بيان له أو نعت { قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً } قال الزجاج : إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل ، أي : أنزل إليكم قرآناً ، وأرسل إليكم رسولاً ، وقال أبو عليّ الفارسي : إن رسولاً منصوب بالمصدر ، وهو ذكراً؛ لأن المصدر المنوّن يعمل . والمعنى : أنزل إليكم ذكر الرسول . وقيل : إن { رسولاً } بدل من { ذكراً } ؛ وكأنه جعل الرسول نفس الذكر مبالغة ، وقيل : إنه بدل منه على حذف مضاف من الأوّل تقديره : أنزل ذا ذكر رسولاً ، أو صاحب ذكر رسولاً . وقيل : إن رسولاً نعت على حذف مضاف أي : ذكراً ذا رسول ، فذا رسول نعت للذكر . وقيل : إن رسولاً بمعنى رسالة ، فيكون رسولاً بدلاً صريحاً من غير تأويل ، أو بياناً . وقيل : إن { رسولاً } منتصب على الإغراء ، كأنه قال : الزموا رسولاً ، وقيل : إن الذكر ها هنا بمعنى الشرف كقوله : { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] وقوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] . ثم بيّن هذا الشرف فقال : { رَسُولاً } وقد ذهب الأكثر إلى أن المراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم . وقال الكلبي : هو جبريل ، والمراد بالذكر القرآن ، ويختلف المعنى باختلاف وجوه الإعراب السابقة ، كما لا يخفى . ثم نعت سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم المذكور بقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيات الله مبينات } أي : حال كونها مبينات ، قرأ الجمهور : { مبينات } على صيغة اسم المفعول ، أي : بيّنها الله وأوضحها ، وقرأ ابن عامر ، وحفص ، وحمزة ، والكسائي على صيغة اسم الفاعل أي : الآيات تبيّن للناس ما يحتاجون إليه من الأحكام .

ورجّح القراءة الأولى أبو حاتم ، وأبو عبيد لقوله : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات } [ آل عمران : 118 ] { لّيُخْرِجَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور } اللام متعلقة ب { يتلو } أي : ليخرج الرسول الذي يتلو الآيات الذين آمنوا وعملوا الصالحات من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية ، ويجوز أن تتعلق اللام بأنزل ، فيكون المخرج هو الله سبحانه { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا } أي : يجمع بين التصديق والعمل بما فرضه الله عليه مع اجتناب ما نهاه عنه { ندخله جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } قرأ الجمهور : { يدخله } بالتحتية ، وقرأ نافع ، وابن عامر بالنون ، وجمع الضمير في { خالدين فِيهَا أَبَداً } باعتبار معنى من ، ووحّده في { يدخله } باعتبار لفظها ، وجملة : { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } في محل نصب على الحال من الضمير في خالدين على التداخل ، أو من مفعول يدخله على الترادف؛ ومعنى { قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } أي : وسع له رزقه في الجنة . { الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات } الاسم الشريف مبتدأ ، وخبره الموصول مع صلته { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } أي : وخلق من الأرض مثلهنّ يعني : سبعاً .
واختلف في كيفية طبقات الأرض . قال القرطبي في تفسيره : واختلف فيهنّ على قولين : أحدهما ، وهو قول الجمهور : أنها سبع أرضين طباقاً بعضها فوق بعض ، بين كل أرض وأرض مسافة ، كما بين السماء والأرض ، وفي كل أرض سكان من خلق الله . وقال الضحاك : إنها مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات . والأوّل أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه في الترمذي ، والنسائي ، وغيرهما ، وقد مضى ذلك مبيناً في البقرة قال : وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد قال : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : « من أخذ شبراً من الأرض ظلماً فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين » إلى آخر كلامه ، وسيأتي في آخر البحث ما يقوّي قول الجمهور . قرأ الجمهور : { مثلهنّ } بالنصب عطفاً على { سَبْعَ سموات } أو على تقدير فعل ، أي : وخلق من الأرض مثلهنّ . وقرأ عاصم في رواية عنه بالرفع على الابتداء ، والجار والمجرور قبله خبره { يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } الجملة مستأنفة ، ويجوز أن تكون صفة لما قبلها ، والأمر : الوحي . قال مجاهد : يتنزل الأمر من السموات السبع إلى السبع الأرضين . وقال الحسن : بين كل سماء وبين الأرض . وقال قتادة : في كل أرض من أرضه ، وسماء من سمائه خلق من خلقه وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه ، وقيل : بينهنّ إشارة إلى ما بين الأرض السفلى التي هي أدناها ، وبين السماء السابعة التي هي أعلاها ، وقيل : هو ما يدبر فيهنّ من عجيب تدبيره ، فينزل المطر ويخرج النبات ، ويأتي بالليل والنهار ، والصيف والشتاء ، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها ، فينقلهم من حال إلى حال .

قال ابن كيسان : وهذا هو مجال اللغة واتساعها ، كما يقال للموت : أمر الله وللريح والسحاب ، ونحوها . قرأ الجمهور : { يتنزل الأمر } من التنزل ، ورفع الأمر على الفاعلية ، وقرأ أبو عمرو في رواية عنه : ( ينزل ) من الإنزال ، ونصب الأمر على المفعولية ، والفاعل الله سبحانه ، واللام في { لّتَعْلَمُواْ أَنَّ الله على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } متعلق ب { خلق } ، أو ب { يتنزل } ، أو بمقدّر ، أي : فعل ذلك؛ لتعلموا كمال قدرته ، وإحاطته بالأشياء ، وهو معنى { وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا } فلا يخرج عن علمه شيء منها كائناً ما كان ، وانتصاب علماً على المصدرية؛ لأن أحاط بمعنى علم ، أو هو صفة لمصدر محذوف أي : أحاط إحاطة علماً ، ويجوز أن يكون تمييزاً .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً } يقول : لم ترحم { وعذبناها عَذَاباً نُّكْراً } يقول : عظيماً منكراً . وأخرج ابن مردويه عنه : { قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً . رَسُولاً } قال : محمداً صلى الله عليه وسلم . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال له رجل : { الله الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات *وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } إلى آخر السورة ، فقال ابن عباس : ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر؟ وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب من طريق أبي الضحى عن ابن عباس في قوله : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } قال : سبع أرضين في كلّ أرض نبيّ كنبيكم ، وآدم كآدم ، ونوح كنوح ، وإبراهيم كإبراهيم ، وعيسى كعيسى ، قال البيهقي : هذا إسناده صحيح ، وهو شاذّ بمرّة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعاً . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء ، والحوت على صخرة ، والصخرة بيد ملك . والثانية مسجن الريح ، فلما أراد الله أن يهلك عاداً أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحاً يهلك عاداً ، فقال : يا ربّ أرسل عليهم من الريح قدر منخر الثور؟ فقال له الجبار : إذن تكفأ الأرض ومن عليها ، ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه : { مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } [ الذاريات : 42 ] والثالثة فيها حجارة جهنم ، والرابعة فيها كبريت جهنم ، فقالوا : يا رسول الله للنار كبريت؟ قال : نعم ، والذي نفسي بيده؛ إن فيها لأودية من كبريت لو أرسل فيها الجبال الرواسي لماعت » إلى آخر الحديث . قال الذهبي متعقباً للحاكم : هو حديث منكر . وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي عن ابن عباس قال : سيد السموات السماء التي فيها العرش ، وسيد الأرضين الأرض التي نحن فيها .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)

قوله : { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } اختلف في سبب نزول الآية على أقوال : الأوّل قول أكثر المفسرين . قال الواحدي : قال المفسرون : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة ، فزارت أباها ، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت ، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها : لا تخبري عائشة ، ولك عليّ أن لا أقربها أبداً ، فأخبرت حفصة عائشة ، وكانتا متصافيتين ، فغضبت عائشة ، ولم تزل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية . فأنزل الله هذه السورة . قال القرطبي : أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة ، وذكر القصة . وقيل : السبب أنه كان صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنت جحش ، فتواطأت عائشة وحفصة أن تقولا له إذا دخل عليهما إنا نجد منك ريح مغافير . وقيل : السبب المرأة التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم . وسيأتي دليل هذه الأقوال آخر البحث إن شاء الله ، وستعرف كيفية الجمع بينهما ، وجملة { تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أزواجك } مستأنفة ، أو مفسرة لقوله : { تُحَرّمُ } ، أو في محل نصب على الحال من فاعل { تحرّم } أي : مبتغياً به مرضاة أزواجك ، و { مرضاة } اسم مصدر ، وهو الرضى ، وأصله مرضوة ، وهو مضاف إلى المفعول ، أي : أن ترضي أزواجك ، أو إلى الفاعل ، أي : أن يرضين هنّ { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : بليغ المغفرة والرحمة لما فرط منك من تحريم ما أحلّ الله لك ، قيل : وكان لك ذنباً من الصغائر ، فلذا عاتبه الله عليه ، وقيل : إنها معاتبة على ترك الأولى . { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } أي : شرع لكم تحليل أيمانكم ، وبيّن لكم ذلك ، وتحلة أصلها : تحللة ، فأدغمت . وهي من مصادر التفعيل كالتوصية والتسمية ، فكأن اليمين عقد ، والكفارة حلّ؛ لأنها تحلّ للحالف ما حرّمه على نفسه . قال مقاتل : المعنى قد بيّن الله كفارة أيمانكم في سورة المائدة . أمر الله نبيه أن يُكَفر يمينه ، ويراجع وليدته ، فأعتق رقبة . قال الزجاج : وليس لأحد أن يحرّم ما أحلّ الله .
قلت : وهذا هو الحقّ أن تحريم ما أحلّ الله لا ينعقد ولا يلزم صاحبه . فالتحليل والتحريم هو إلى الله سبحانه لا إلى غيره ، ومعاتبته لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أبلغ دليل على ذلك ، والبحث طويل ، والمذاهب فيه كثيرة ، والمقالات فيه طويلة ، وقد حققناه في مؤلفاتنا بما يشفي .
واختلف العلماء هل مجرّد التحريم يمين يوجب الكفارة أم لا؟ وفي ذلك خلاف ، وليس في الآية ما يدلّ على أنه يمين؛ لأن الله سبحانه عاتبه على تحريم ما أحله له ، ثم قال : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } وقد ورد في القصة التي ذهب أكثر المفسرين إلى أنها هي سبب نزول الآية أنه حرّم أوّلاً ، ثم حلف ثانياً ، كما قدّمنا { والله مولاكم } أي : وليكم وناصركم ، والمتولي لأموركم { وَهُوَ العليم } بما فيه صلاحكم وفلاحكم { الحكيم } في أفعاله وأقواله .

{ وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً } قال أكثر المفسرين : هي حفصة كما سبق ، والحديث ، هو تحريم مارية ، أو العسل ، أو تحريم التي وهبت نفسها له ، والعامل في الظرف فعل مقدّر ، أي : واذكر إذ أسرّ . وقال الكلبي : أسرّ إليها أن أباك وأبا عائشة يكونان خليفتي على أمتي من بعدي { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أي : أخبرت به غيرها { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } أي : أطلع الله نبيه على ذلك الواقع منها من الإخبار لغيرها { عَرَّفَ بَعْضَهُ } أي : عرّف حفصة بعض ما أخبرت به . قرأ الجمهور : { عرّف } مشدّداً من التعريف ، وقرأ عليّ ، وطلحة بن مصرف ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة ، والكسائي بالتخفيف . واختار أبو عبيد ، وأبو حاتم القراءة الأولى لقوله : { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } أي : لم يعرّفها إياه ، ولو كان مخففاً لقال في ضدّه : وأنكر بعضاً { وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } أي : وأعرض عن تعريف بعض ذلك كراهة أن ينتشر في الناس ، وقيل : الذي أعرض عنه هو حديث مارية . وللمفسرين ها هنا خبط وخلط ، وكلّ جماعة منهم ذهبوا إلى تفسير التعريف والإعراض بما يطابق بعض ما ورد في سبب النزول ، وسنوضح لك ذلك إن شاء الله { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } أي : أخبرها بما أفشت من الحديث { قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هذا } أي : من أخبرك به { قَالَ نَبَّأَنِىَ العليم الخبير } أي : أخبرني الذي لا يخفى عليه خافية . { إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } الخطاب لعائشة وحفصة ، أي : إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة ، ومعنى { صَغَتْ } : عدلت ومالت عن الحقّ ، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو إفشاء الحديث . وقيل المعنى : إن تتوبا إلى الله ، فقد مالت قلوبكما إلى التوبة ، وقال : { قلوبكما } ، ولم يقل « قلباكما »؛ لأن العرب تستكره الجمع بين تثنيتين في لفظ واحد { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } أي : تتظاهرا ، قرأ الجمهور ( تظاهرا ) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً . وقرأ عكرمة : ( تتظاهرا ) على الأصل . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، ونافع ، وعاصم في رواية عنهما : ( تظهر ) بتشديد الظاء والهاء بدون ألف ، والمراد بالتظاهر التعاضد والتعاون ، والمعنى : وإن تعاضدا وتعاونا في الغيرة عليه منكما وإفشاء سرّه { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مولاه وَجِبْرِيلُ وصالح الْمُؤْمِنِينَ } أي : فإن الله يتولى نصره وكذلك جبريل ، ومن صلح من عباده المؤمنين ، فلن يعدم ناصراً ينصره { وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك } أي : بعد نصر الله له ، ونصر جبريل ، وصالح المؤمنين { ظَهِير } أي : أعوان يظاهرونه ، والملائكة مبتدأ ، وخبره ظهير .

قال أبو عليّ الفارسي : قد جاء فعيل للكثرة كقوله : { وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] قال الواحدي : وهذا من الواحد الذي يؤدّي عن الجمع كقوله : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] وقد تقرّر في علم النحو أن مثل جريح وصبور وظهير يوصف به الواحد والمثنى والجمع . وقيل : كان التظاهر بين عائشة وحفصة في التحكم على النبيّ صلى الله عليه وسلم في النفقة . { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ } أي : يعطيه بدلكنّ أزواجاً أفضل منكنّ ، وقد علم الله سبحانه أنه لا يطلقهنّ؛ ولكن أخبر عن قدرته على أنه إن وقع منه الطلاق أبدله خيراً منهن تخويفاً لهنّ . وهو كقوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] فإنه إخبار عن القدرة وتخويف لهم . ثم نعت سبحانه الأزواج بقوله : { مسلمات مؤمنات } أي : قائمات بفرائض الإسلام مصدّقات بالله وملائكته ، وكتبه ورسله ، والقدر خيره وشرّه . وقال سعيد بن جبير : مسلمات أي : مخلصات وقيل معناه : مسلمات لأمر الله ورسوله { قانتات } مطيعات لله ، والقنوت : الطاعة ، وقيل : مصليات { تائبات } يعني : من الذنوب { عابدات } لله متذللات له . قال الحسن ، وسعيد بن جبير : كثيرات العبادة { سائحات } أي : صائمات . وقال زيد بن أسلم : مهاجرات ، وليس في أمة محمد صلى الله عليه وسلم سياحة إلاّ الهجرة . قال ابن قتيبة ، والفراء ، وغيرهما : وسمي الصيام سياحة لأن السائح لا زاد معه ، وقيل المعنى : ذاهبات في طاعة الله ، من ساح الماء : إذا ذهب ، وأصل السياحة : الجولان في الأرض ، وقد مضى الكلام على السياحة في سورة براءة { ثيبات وَأَبْكَاراً } وسط بينهما العاطف لتنافيهما ، والثيبات : جمع ثيب ، وهي المرأة التي قد تزوّجت ، ثم ثابت عن زوجها فعادت ، كما كانت غير ذات زوج . والأبكار : جمع بكر ، وهي العذراء ، سميت بذلك؛ لأنها على أوّل حالها التي خلقت عليه .
وقد أخرج البخاري وغيره عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ، ويشرب عندها لبناً ، أو عسلاً ، فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلتقل إني أجد منك ريح مغافير ، فدخل على إحداهما ، فقالت ذلك له ، فقال : " لا بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ، ولن أعود " ، فنزلت : { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } إلى قوله : { إِن تَتُوبَا إِلَى الله } لعائشة وحفصة { وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً } لقوله : «بل شربت عسلاً» . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، قال السيوطي بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل ، فدخل على عائشة فقالت : إني أجد منك ريحاً ، فدخل على حفصة ، فقالت : إني أجد منك ريحاً ، فقال :

« أراه من شراب شربته عند سودة ، والله لا أشربه أبداً » ، فأنزل الله : { عِلْمَا ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ } الآية . وأخرج ابن سعد عن عبد الله بن رافع قال : سألت أمّ سلمة عن هذه الآية { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ } قالت : كانت عندي عكة من عسل أبيض ، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يلعق منها ، وكان يحبه . فقالت له عائشة : نحلها تجرس عرفطاً فحرّمها ، فنزلت الآية . وأخرج النسائي ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراماً ، فأنزل الله هذه الآية { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ } وأخرج البزار ، والطبراني ، قال السيوطي : بسندٍ صحيح عن ابن عباس قال : قلت لعمر بن الخطاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال : عائشة وحفصة ، وكان بدوّ الحديث في شأن مارية القبطية أمّ إبراهيم أصابها النبيّ صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في يومها ، فوجدت حفصة ، فقالت : يا رسول الله لقد جئت إليّ بشيء ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري على فراشي ، قال : « ألا ترضين أن أحرمها ، فلا أقربها أبداً؟ » قالت : بلى فحرّمها وقال : « لا تذكري ذلك لأحد » ، فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ } . الآيات كلها ، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كَفّر عن يمينه وأصاب مارية . وأخرجه ابن سعد ، وابن مردويه عنه بأطول من هذا ، وأخرجه ابن مردويه أيضاً من وجه آخر عنه بأخصر منه ، وأخرجه ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه عنه مختصراً بلفظ قال : حرّم سريته ، وجعل ذلك سبب النزول في جميع ما روي عنه من هذه الطرق ، وأخرج الهيثم بن كليب في مسنده ، والضياء المقدسي في المختارة من طريق نافع عن ابن عمر قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لحفصة : « لا تحدّثي أحداً ، وإن أمّ إبراهيم عليّ حرام » ، فقالت : أتحرّم ما أحلّ الله لك؟ قال : « فوالله لا أقربها » ، فلم يقربها حتى أخبرت عائشة ، فأنزل الله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن أبي هريرة أن سبب نزول الآية تحريم مارية كما سلف ، وسنده ضعيف . فهذان سببان صحيحان لنزول الآية ، والجمع ممكن بوقوع القصتين : قصة العسل ، وقصة مارية ، وأن القرآن نزل فيهما جميعاً ، وفي كل واحد منهما أنه أسرّ الحديث إلى بعض أزواجه .

وأما ما قيل : من أن السبب هو تحريم المرأة التي وهبت نفسها ، فليس في ذلك إلاّ ما روى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } في المرأة التي وهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم . قال السيوطي : وسنده ضعيف . ويردّ هذا أيضاً أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقبل تلك الواهبة لنفسها ، فكيف يصحّ أن يقال : إنه نزل في شأنها { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } ؟ فإن من ردّ ما وهب له لم يصحّ أن يقال : إنه حرّمه على نفسه ، وأيضاً لا ينطبق على هذا السبب قوله : { وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً } إلى آخر ما حكاه الله . وأما ما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن ابن عباس سأل عمر بن الخطاب عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره أنهما عائشة وحفصة ، ثم ذكر قصة الإيلاء ، كما في الحديث الطويل ، فليس في هذا نفي لكون السبب هو ما قدّمنا من قصة العسل ، وقصة السرية؛ لأنه إنما أخبره بالمتظاهرتين ، وذكر فيه أن أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم يراجعنه ، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل ، وأن ذلك سبب الاعتزال لا سبب نزول : { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } . ويؤيد هذا ما قدّمنا عن ابن عباس أنه قال لعمر : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ فأخبره بأنهما حفصة وعائشة ، وبيّن له أن السبب قصة مارية . هذا ما تيسر من تلخيص سبب نزول الآية ، ودفع الاختلاف في شأنه ، فاشدد عليه يديك؛ لتنجو به من الخبط والخلط الذي وقع للمفسرين . وأخرج عبد الرزاق ، والبخاري ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : في الحرام يكفر ، وقال : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] . وأخرج ابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه عنه أنه جاءه رجل ، فقال : إني جعلت امرأتي عليّ حراماً ، فقال : كذبت ليست عليك بحرام ، ثم تلا { لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } قال : عليك أغلظ الكفارات عتق رقبة . وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن عائشة قالت : لما حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح ، فأنزل الله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم } فأحلّ يمينه وأنفق عليه . وأخرج ابن عديّ ، وابن عساكر عن عائشة في قوله : { وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً } قالت : أسرّ إليها أن أبا بكر خليفتي من بعدي . وأخرج ابن عديّ ، وأبو نعيم في الصحابة ، والعشاري في فضائل الصدّيق ، وابن مردويه ، وابن عساكر من طرق عن عليّ ، وابن عباس قال : والله إن إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب : { وَإِذَ أَسَرَّ النبى إلى بَعْضِ أزواجه حَدِيثاً } قال لحفصة : أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي ، فإياك أن تخبري أحداً بهذا .

قلت : وهذا ليس فيه أنه سبب نزول قوله : { ياأيها النبى لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ الله لَكَ } بل فيه أن الحديث الذي أسرّه صلى الله عليه وسلم هو هذا ، فعلى فرض أن له إسناداً يصلح للاعتبار هو معارض بما سبق من تلك الروايات الصحيحة ، وهي مقدّمة عليه ومرجحة بالنسبة إليه . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } قال : زاغت وأثمت . وأخرج ابن المنذر عنه قال : مالت . وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه في قوله : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } قال : أبو بكر وعمر . وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود مثله . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في فضائل الصحابة من وجه آخر عنه مثله . وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر ، وابن عباس مثله . وأخرج الحاكم عن أبي أمامة مرفوعاً مثله . وأخرج ابن أبي حاتم . قال السيوطي بسندٍ ضعيف عن عليّ مرفوعاً قال : هو عليّ بن أبي طالب . وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } عليّ بن أبي طالب » وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن ابن عباس في قوله : { وصالح الْمُؤْمِنِينَ } قال : هو عليّ بن أبي طالب . وأخرج الطبراني ، وابن مردويه عن بريدة في قوله : { ثيبات وَأَبْكَاراً } قال : وعد الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه أن يزوّجه بالثيب آسية امرأة فرعون ، وبالبكر مريم بنت عمران .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)

قوله : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ } بفعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه { وَأَهْلِيكُمْ } بأمرهم بطاعة الله ، ونهيهم عن معاصيه { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } أي ناراً عظيمة تتوقد بالناس وبالحجارة كما يتوقد غيرها بالحطب ، وقد تقدّم بيان هذا في سورة البقرة . قال مقاتل بن سليمان : المعنى : قوا أنفسكم وأهليكم بالأدب الصالح النار في الآخرة . وقال قتادة ، ومجاهد : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم . قال ابن جرير : فعلينا أن نعلم أولادنا الدين والخير ، وما لا يستغنى عنه من الأدب ، ومن هذا قوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] وقوله : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 224 ] . { عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } أي : على النار خزنة من الملائكة يلون أمرها وتعذيب أهلها ، غلاظ على أهل النار شداد عليهم لا يرحمونهم إذا استرحموهم؛ لأن الله سبحانه خلقهم من غضبه ، وحبب إليهم تعذيب خلقه ، وقيل : المراد غلاظ القلوب : شداد الأبدان ، وقيل : غلاظ الأقوال شداد الأفعال ، وقيل : الغلاظ : ضخام الأجسام ، والشداد : الأقوياء { لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ } أي : لا يخافونه في أمره ، و«ما» في { مَا أَمَرَهُمْ } يجوز أن تكون موصولة ، والعائد محذوف ، أي : لا يعصون الله الذي أمرهم به ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي : لا يعصون الله أمره على أن يكون ما أمرهم بدل اشتمال من الاسم الشريف ، أو على تقدير نزع الخافض ، أي : لا يعصون الله في أمره { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي : يؤدّونه في وقته من غير تراخ لا يؤخرونه عنه ولا يقدّمونه . { يأَيُّهَا الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم } أي : يقال لهم هذا القول عند إدخالهم النار تأييساً لهم وقطعاً لأطماعهم { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } من الأعمال في الدنيا ، ومثل هذا قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [ الروم : 57 ] . { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } أي : تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب عنه ، وصفت بذلك على الإسناد المجازي ، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم بالعزم على الترك للذنب ، وترك المعاودة له .
والتوبة فرض على الأعيان . قال قتادة : التوبة النصوح الصادقة ، وقيل : الخالصة . وقال الحسن : التوبة النصوح أن يبغض الذنب الذي أحبه ويستغفر منه إذا ذكره . وقال الكلبي : التوبة النصوح : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع بالبدن ، والاطمئنان على أن لا يعود . وقال سعيد بن جبير : هي التوبة المقبولة . قرأ الجمهور : { نصوحاً } بفتح النون على الوصف للتوبة ، أي : توبة بالغة في النصح ، وقرأ الحسن ، وخارجة ، وأبو بكر عن عاصم بضمها ، أي : توبة نصح لأنفسكم ، ويجوز أن يكون جمع ناصح ، وأن يكون مصدراً يقال : نصح نصاحة ونصوحاً .

قال المبرّد : أراد توبة ذات نصح { عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } بسبب تلك التوبة ، وعسى وإن كان أصلها للإطماع ، فهي من الله واجبة؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ويدخلكم معطوف على يكفر منصوب بناصبه ، وبالنصب قرأ الجمهور ، وقرىء بالجزم عطفاً على محل عسى ، كأنه قال : توبوا يوجب تكفير سيئاتكم ، ويدخلكم { يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى الله النبى } الظرف متعلق ب { يدخلكم } ، أي : يدخلكم يوم لا يخزي الله النبي { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } والموصول معطوف على النبي ، وقيل : الموصول مبتدأ ، وخبره : { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } والأوّل أولى ، وتكون جملة { نُورُهُمْ يسعى } في محل نصب على الحال ، أو مستأنفة لبيان حالهم ، وقد تقدّم في سورة الحديد أن النور يكون معهم حال مشيهم على الصراط ، وجملة { يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } في محل نصب على الحال أيضاً ، وعلى الوجه الآخر تكون خبراً أخر ، وهذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين ، كما تقدّم بيانه وتفصيله .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } قال : علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في الآية قال : اعملوا بطاعة الله ، واتقوا معاصي الله ، وأمروا أهلكم بالذكر ينجكم الله من النار . وأخرج عبد بن حميد عنه في الآية قال : أدّبوا أهليكم . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال : بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكب أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب ، يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحناً من لدن قرنه إلى قدمه . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب سئل عن التوبة النصوح ، قال : أن يتوب الرجل من العمل السيء ، ثم لا يعود إليه أبداً . وأخرج أحمد ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « التوبة من الذنب أن يتوب منه ، ثم لا يعود إليه أبداً » ، وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري ، وهو ضعيف ، والصحيح الموقوف ، كما أخرجه موقوفاً عنه ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي . وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : التوبة النصوح تكفر كلّ سيئة ، وهو القرآن ، ثم قرأ هذه الآية . وأخرج الحاكم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى } الآية قال : ليس أحد من الموحدين إلاّ يعطى نوراً يوم القيامة ، فأما المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق ، فهو يقول : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } .

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)

قوله : { ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين } أي : بالسيف والحجة ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية في سورة براءة { واغلظ عَلَيْهِمْ } أي : شدّد عليهم في الدعوة ، واستعمل الخشونة في أمرهم بالشرائع . قال الحسن : أي : جاهدهم بإقامة الحدود عليهم ، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : مصيرهم إليها ، يعني : الكفار والمنافقين { وَبِئْسَ المصير } أي : المرجع الذي يرجعون إليه . { ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } قد تقدّم غير مرّة أن المثل قد يراد به إيراد حالة غريبة يعرف بها حالة أخرى مماثلة لها في الغرابة ، أي : جعل الله مثلاً لحال هؤلاء الكفرة ، وأنه لا يغني أحد عن أحد { امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ } هذا هو المفعول الأوّل ، و { مثلاً } المفعول الثاني حسبما قدّمنا تحقيقه ، وإنما أخر ليتصل به ما هو تفسير له ، وإيضاح لمعناه { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين } وهما نوح ولوط ، أي : كانتا في عصمة نكاحهما { فَخَانَتَاهُمَا } أي : فوقعت منهما الخيانة لهما . قال عكرمة ، والضحاك : بالكفر ، وقيل : كانت امرأة نوح تقول للناس إنه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر قومه بأضيافه ، وقد وقع الإجماع على أنه ما زنت امرأة نبيّ قطّ . وقيل : كانت خيانتهما النفاق ، وقيل : خانتاهما بالنميمة { فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً } أي : فلم ينفعهما نوح ولوط بسبب كونهما زوجتين لهما شيئًا من النفع ، ولا دفعا عنهما من عذاب الله مع كرامتهما على الله شيئًا من الدفع { وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الدخلين } أي : وقيل لهما في الآخرة ، أو عند موتهما : ادخلا النار مع الداخلين لها من أهل الكفر والمعاصي . وقال يحيى بن سلام : ضرب الله مثلاً للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين تظاهرتا عليه . وما أحسن من قال : فإن ذكر امرأتي النبيين بعد ذكر قصتهما ومظاهرتهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يرشد أتمّ إرشاد ، ويلوّح أبلغ تلويح إلى أن المراد تخويفهما مع سائر أمهات المؤمنين ، وبيان أنهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله ، فإن ذلك لا يغني عنهما من الله شيئًا ، وقد عصمهما الله عن ذنب تلك المظاهرة بما وقع منهما من التوبة الصحيحة الخالصة . { وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ } الكلام في هذا كالكلام في المثل الذي قبله أي : جعل الله حال امرأة فرعون مثلاً لحال المؤمنين ترغيباً لهم في الثبات على الطاعة والتمسك بالدين ، والصبر في الشدّة ، وأن صولة الكفر لا تضرّهم ، كما لم تضر امرأة فرعون ، وقد كانت تحت أكفر الكافرين ، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم { إِذْ قَالَتْ رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة } الظرف متعلق بضرب ، أو بمثلاً ، أي : ابن لي بيتاً قريباً من رحمتك ، أو في أعلى درجات المقربين منك ، أو في مكان لا يتصرّف فيه إلاّ بإذنك ، وهو الجنة { وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي : من ذاته وما يصدر عنه من أعمال الشرّ { وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين } قال الكلبي : هم أهل مصر .

وقال مقاتل : هم القبط . قال الحسن ، وابن كيسان : نجاها الله أكرم نجاة ، ورفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب . { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } معطوف على امرأة فرعون ، أي : وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم ابنة عمران ، أي : حالها وصفتها ، وقيل : إن الناصب لمريم فعل مقدّر أي : واذكر مريم ، والمقصود من ذكرها : أن الله سبحانه جمع لها بين كرامة الدنيا والآخرة ، واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين { التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي : عن الفواحش ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النساء . قال المفسرون : المراد بالفرج هنا الجيب لقوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها فحبلت بعيسى { وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا } يعني : شرائعه التي شرعها لعباده ، وقيل : المراد بالكلمات هنا هو قول جبريل لها : { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ } الآية [ مريم : 19 ] . وقال مقاتل : يعني بالكلمات : عيسى . قرأ الجمهور : { وصدّقت } بالتشديد ، وقرأ حمزة الأموي ، ويعقوب ، وقتادة ، وأبو مجلز ، وعاصم في رواية عنه بالتخفيف . وقرأ الجمهور : { بكلمات } بالجمع ، وقرأ الحسن ، ومجاهد ، والجحدري : ( بكلمة ) بالإفراد . وقرأ الجمهور : ( وكتابه ) بالإفراد ، وقرأ أهل البصرة ، وحفص : { كتبه } بالجمع ، والمراد على قراءة الجمهور : الجنس ، فيكون في معنى الجمع ، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } قال قتادة : من القوم المطيعين لربهم . وقال عطاء : من المصلين ، كانت تصلي بين المغرب والعشاء ، ويجوز أن يراد بالقانتين : رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم ، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة ، وقال : { من القانتين } ، ولم يقل « من القانتات »؛ لتغليب الذكور على الإناث .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : { فَخَانَتَاهُمَا } قال : ما زنتا : أما خيانة امرأة نوح ، فكانت تقول للناس : إنه مجنون؛ وأما خيانة امرأة لوط : فكانت تدل على الضيف ، فتلك خيانتهما . وأخرج ابن المنذر عنه : قال : ما بغت امرأة نبيّ قط ، وقد رواه ابن عساكر مرفوعاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذب بالشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة .

وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة : أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد ، وأضجعها على ظهرها ، وجعل على صدرها رحى ، واستقبل بها عين الشمس ، فرفعت رأسها إلى السماء ، فقَالَت { رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة } إلى قوله : { مِنَ الظالمين } ففرج الله لها عن بيتها في الجنة فرأته . وأخرج أحمد ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرها في القرآن قالت : { رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً } » الآية . وفي الصحيحين ، وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » وأخرج وكيع في الغرر عن ابن عباس في قوله : { وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } قال : من جماعته .

تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)

قوله : { تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك } تبارك تفاعل من البركة ، والبركة النماء والزيادة . وقيل : تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين . وقيل : دام فهو الدائم الذي لا أوّل لوجوده ، ولا آخر لدوامه . وقال الحسن : تبارك : تقدّس ، وصيغة التفاعل للمبالغة ، واليد مجاز عن القدرة والاستيلاء ، والملك هو ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة ، فهو يعزّ من يشاء ويذل من يشاء ، ويرفع من يشاء ويضع من يشاء ، وقيل : المراد بالملك ملك النبوّة ، والأوّل أولى؛ لأن الحمل على العموم أكثر مدحاً وأبلغ ثناء ، ولا وجه للتخصيص { وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } أي : بليغ القدرة لا يعجزه شيء من الأشياء يتصرّف في ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام ، ورفع ووضع ، وإعطاء ومنع .
{ الذى خَلَقَ الموت والحياة } الموت : انقطاع تعلق الرّوح بالبدن ومفارقته له ، والحياة تعلق الرّوح بالبدن واتصاله به . وقيل : هي ما يصح بوجوده الإحساس . وقيل : ما يوجب كون الشيء حياً . وقيل : المراد الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة . وقدّم الموت على الحياة؛ لأن أصل الأشياء عدم الحياة ، والحياة عارضة لها . وقيل : لأن الموت أقرب إلى القهر . وقال مقاتل : خلق الموت يعني : النطفة ، والمضغة والعلقة ، والحياة يعني : خلقه إنساناً ، وخلق الروح فيه ، وقيل : خلق الموت على صورة كبش لا يمرّ على شيء إلاّ مات ، وخلق الحياة على صورة فرس لا تمرّ بشيء إلاّ حيي ، قاله مقاتل والكلبي . وقد ورد في التنزيل : { قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذى وُكّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] ، وقوله : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة } [ الأنفال : 50 ] ، وقوله : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام : 61 ] ، وقوله : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا } [ الزمر : 42 ] وغير ذلك من الآيات { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } اللام متعلقة بخلق أي : خلق الموت والحياة؛ ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملاً ، فيجازيكم على ذلك . وقيل المعنى : ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكراً وأشدّ منه خوفاً ، وقيل : أيكم أسرع إلى طاعة الله ، وأورع عن محارم الله . وقال الزجاج : اللام متعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت . وقال الزجاج أيضاً ، والفراء : إن قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } لم يقع على أيّ ، لأن فيما بين البلوى وأيّ إضمار فعل ، كما تقول : بلوتكم لأنظر أيكم أطوع ، ومثله قوله : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ } [ القلم : 40 ] أي : سلهم ثم انظر أيهم ، فأيكم في الآية مبتدأ ، وخبره أحسن؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله ، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لجميع أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح لا إلى الحسن والأحسن فقط؛ للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين { وَهُوَ العزيز } أي : الغالب الذي لا يغالب { الغفور } لمن تاب وأناب . { الذى خَلَقَ سَبْعَ سموات طِبَاقاً } الموصول يجوز أن يكون تابعاً للعزيز ، الغفور نعتاً ، أو بياناً ، أو بدلاً ، وأن يكون منقطعاً عنه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب على المدح ، و { طباقاً } صفة لسبع سموات أي : بعضها فوق بعض ، وهو جمع طبق نحو جبل وجبال ، أو جمع طبقة نحو رحبة ورحاب ، أو مصدر طابق ، يقال : طابق مطابقة وطباقاً ، ويكون على هذا الوجه الوصف بالمصدر للمبالغة ، أو على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، ويجوز أن يكون منتصباً على المصدرية بفعل محذوف ، أي : طوبقت طباقاً { مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت } هذه الجملة صفة ثانية لسبع سموات ، أو مستأنفة لتقرير ما قبلها ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصلح له ، و«من» مزيدة لتأكيد النفي .

قرأ الجمهور : { من تفاوت } . وقرأ ابن مسعود وأصحابه ، وحمزة ، والكسائي : « تفوّت » مشدّداً بدون ألف ، وهما لغتان . كالتعاهد والتعهد ، والتحامل والتحمل؛ والمعنى على القراءتين . ما ترى في خلق الرحمن من تناقض ولا تباين ، ولا اعوجاج ولا تخالف ، بل هي مستوية مستقيمة دالة على خالقها ، وإن اختلفت صورها وصفاتها ، فقد اتفقت من هذه الحيثية { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } الفطور : الشقوق والصدوع والخروق أي : اردد طرفك حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة . أخبر أوّلاً بأنه لا تفاوت في خلقه ، ثم أمر ثانياً بترديد البصر في ذلك لزيادة التأكيد وحصول الطمأنينة . قال مجاهد ، والضحاك : الفطور : الشقوق جمع فطر وهو الشق . وقال قتادة : هل ترى من خلل؟ . وقال السديّ : هل ترى من خروق ، وأصله من التفطر والانفطار ، وهو التشقق والانشقاق ، ومنه قول الشاعر :
بنى لكم بلا عمد سماء ... وزينها فما فيها فطور
وقول الآخر :
شققت القلب ثم رددت فيه ... هواك فليم فالتام الفطور
{ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } أي : رجعتين مرّة بعد مرّة ، وانتصابه على المصدر ، والمراد بالتثنية : التكثير ، كما في لبيك وسعديك ، أي : رجعة بعد رجعة وإن كثرت . ووجه الأمر بتكرير النظر على هذه الصفة ، أنه قد لا يرى ما يظنه من العيب في النظرة الأولى ولا في الثانية ، ولهذا قال أوّلاً : { مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت } ثم قال ثانياً : { فارجع البصر } ثم قال ثالثاً : { ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } فيكون ذلك أبلغ في إقامة الحجة ، وأقطع للمعذرة { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا } أي : يرجع إليك البصر ذليلاً صاغراً عن أن يرى شيئًا من ذلك ، وقيل : معنى خاسئاً : مبعداً مطروداً عن أن يبصر ما التمسه من العيب ، يقال : خسأت الكلب أي : أبعدته وطردته . قرأ الجمهور { ينقلب } بالجزم جواباً للأمر . وقرأ الكسائي في رواية بالرفع على الاستئناف { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : كليل منقطع . قال الزجاج : أي : وقد أعيا من قبل أن يرى في السماء خللاً ، وهو فعيل بمعنى فاعل من الحسور ، وهو الإعياء ، يقال : حسر بصره يحسر حسوراً أي : كلّ وانقطع ، ومنه قول الشاعر :

نظرت إليها بالمحصب من منى ... فعاد إليّ الطرف وهو حسير
{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح } بيّن سبحانه بعد خلق السموات ، وخلوّها من العيب والخلل أنه زينها بهذه الزينة ، فصارت في أحسن خلق وأكمل صورة وأبهج شكل ، والمجيء بالقسم لإبراز كمال العناية ، والمصابيح جمع مصباح ، وهو السراج ، وسميت الكواكب مصابيح؛ لأنها تضيء كإضاءة السراج وبعض الكواكب ، وإن كان في غير سماء الدنيا من السموات التي فوقها ، فهي تتراءى كأنها كلها في سماء الدنيا؛ لأن أجرام السموات لا تمنع من رؤية ما فوقها مما له إضاءة لكونها أجراماً صقيلة شفافة { وجعلناها رُجُوماً للشياطين } أي : وجعلنا المصابيح رجوماً يرجم بها الشياطين . وهذه فائدة أخرى غير الفائدة الأولى ، وهي كونها زينة للسماء الدنيا؛ والمعنى أنها يرجم بها الشياطين الذين يسترقون السمع ، والرجوم جمع رجم بالفتح ، وهو في الأصل مصدر أطلق على المرجوم به ، كما في قولهم : الدرهم ضرب الأمير أي : مضروبة ، ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته ، ويقدر مضاف محذوف أي : ذات رجم ، وجمع المصدر باعتبار أنواعه . وقيل : إن الضمير في قوله : { وجعلناها } راجع إلى المصابيح على حذف مضاف أي : شهبها ، وهي نارها المقتبسة منها لا هي أنفسها : لقوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] ووجه هذا : أن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا لا تزول ولا يرجم بها ، كذا قال أبو عليّ الفارسي جواباً لمن سأله : كيف تكون المصابيح زينة وهي رجوم؟ قال القشيري : وأمثل من قوله هذا أن تقول : هي زينة قبل أن يرجم بها الشياطين . قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر ، فمن تكلم فيها بغير ذلك ، فقد تكلم فيما لا يعلم ، وتعدّى وظلم . وقيل : معنى الآية : وجعلناها ظنوناً لشياطين الإنس ، وهم المنجمون { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } أي : وأعتدنا للشياطين في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب عذاب السعير أي : عذاب النار ، والسعير : أشدّ الحريق ، يقال : سعرت النار ، فهي مسعورة .
{ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ } من كفار بني آدم ، أو من كفار الفريقين : { عَذَابَ جَهَنَّمَ } قرأ الجمهور برفع { عذاب } على أنه مبتدأ ، وخبره : { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } . وقرأ الحسن ، والضحاك ، والأعرج بنصبه عطفاً على { عَذَابِ السعير } ، { وَبِئْسَ المصير } ما يصيرون إليه ، وهو جهنم . { إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا } أي : طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار { سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا } أي : صوتاً كصوت الحمير عند أوّل نهيقها ، وهو أقبح الأصوات ، وقوله : { لها } في محل نصب على الحال أي : كائناً لها ، لأنه في الأصل صفة ، فلما قدّمت صارت حالاً .

وقال عطاء : الشهيق هو من الكفار عند إلقائهم في النار ، وجملة : { وَهِىَ تَفُورُ } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل ، ومنه قول حسان :
تركتم قدركم لا شيء فيه ... وقدر الغير حامية تفور
{ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } أي : تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض من تغيظها عليهم . قال ابن قتيبة : تكاد تنشقّ غيظاً على الكفار . قرأ الجمهور { تميز } بتاء واحدة مخففة ، والأصل : تتميز بتاءين . وقرأ طلحة بتاءين على الأصل . وقرأ البزي عن ابن كثير بتشديدها بإدغام إحدى التاءين في الأخرى . وقرأ الضحاك « تمايز » بالألف وتاء واحدة ، والأصل تتمايز ، وقرأ زيد بن عليّ : « تميز » من ماز يميز ، والجملة في محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها خبر آخر لمبتدأ ، وجملة : { كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا } مستأنفة لبيان حال أهلها ، أو في محل نصب على الحال من فاعل { تميز } والفوج : الجماعة من الناس أي : كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألهم خزنتها من الملائكة سؤال توبيخ وتقريع : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } في الدنيا { نَّذِيرٍ } ينذركم هذا اليوم ، ويحذركم منه . وجملة : { قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ } مستأنفة جواب سؤال مقدّر كأنه قيل : فماذا قالوا بعد هذا السؤال ، فقال : قالوا : بلى قد جاءنا نذير ، فأنذرنا وخوّفنا وأخبرنا بهذا اليوم { فَكَذَّبْنَا } ذلك النذير { وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَىْء } من الأشياء على ألسنتكم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ } أي في ذهاب عن الحق وبعد عن الصواب ، والمعنى : أنه قال : كلّ فوج من تلك الأفواج حاكياً لخزنة جهنم ما قاله لمن أرسل إليه : ما أنتم أيها الرسل فيم تدّعون أن الله نزل عليكم آيات تنذرونا بها إلاّ في ذهاب عن الحق ، وبعد عن الصواب كبير لا يقادر قدره .
ثم حكى عنهم مقالة أخرى قالوها بعد تلك المقالة فقال : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أصحاب السعير } أيّ : لو كنا نسمع ما خاطبنا به الرسل ، أو نعقل شيئًا من ذلك ما كنا في عداد أهل النار ، ومن جملة من يعذب بالسعير ، وهم الشياطين ، كما سلف . قال الزجاج : لو كنا نسمع سمع من يعي ، أو نعقل عقل من يميز وينظر ما كنا من أهل النار ، فلما اعترفوا هذا الاعتراف قال الله سبحانه : { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ } الذي استحقوا به عذاب النار ، وهو الكفر وتكذيب الأنبياء { فَسُحْقًا لأصحاب السعير } أي : فبعداً لهم من الله ومن رحمته . وقال سعيد بن جبير ، وأبو صالح : هو وادٍ في جهنم يقال له : السحق . قرأ الجمهور : { فسحقاً } بإسكان الحاء .

وقرأ الكسائي ، وأبو جعفر بضمها ، وهما لغتان مثل السحت والرعب . قال الزجاج ، وأبو عليّ الفارسي : فسحقاً منصوب على المصدر أي : أسحقهم الله سحقاً . قال أبو عليّ الفارسي : وكان القياس إسحاقاً ، فجاء المصدر على الحذف ، واللام في { لأصحاب السعير } للبيان ، كما في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] .
وقد أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله : { سَبْعَ سموات طِبَاقاً } قال : بعضها فوق بعض . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت } قال : ما تفوت بعضه بعضاً تفاوتاً مفرقاً . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { مِن تفاوت } قال : من تشقق ، وفي قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } قال : شقوق ، وفي قوله : { خَاسِئًا } قال : ذليلاً { وَهُوَ حَسِيرٌ } كليل . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً . قال : الفطور : الوهي . وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً { مِن فُطُورٍ } قال : من تشقق أو خلل ، وفي قوله : { يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ } قال : يرجع إليك { خَاسِئًا } قال : صاغراً { وَهُوَ حَسِيرٌ } قال : معييَّ ، ولا يرى شيئًا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً خاسئاً قال : ذليلاً { وَهُوَ حَسِيرٌ } قال : عييّ مرتجع . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { تَكَادُ تَمَيَّزُ } قال : تتفرّق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { تَكَادُ تَمَيَّزُ } قال : يفارق بعضها بعضاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { فَسُحْقًا } قال : بعداً .

إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)

قوله : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنة ، وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول ، أي : غائبين عنه ، أو غائباً عنهم ، والمعنى : أنهم يخشون عذابه ، ولم يروه ، فيؤمنون به خوفاً من عذابه ، ويجوز أن يكون المعنى : يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس ، وذلك في خلواتهم ، أو المراد بالغيب كون العذاب غائباً عنهم لأنهم في الدنيا ، وهو إنما يكون يوم القيامة ، فتكون الباء على هذا سببية { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو الجنة ، ومثل هذه الآية قوله : { مَّنْ خَشِىَ الرحمن بالغيب } [ ق : 33 ] . ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ } هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه ، والمعنى : إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله ، فكلّ ذلك يعلمه الله لا تخفى عليه منه خافية ، وجملة { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليل للاستواء المذكور ، وذات الصدور هي مضمرات القلوب . والاستفهام في قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } للإنكار ، والمعنى : ألا يعلم السرّ ، ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده ، فالموصول عبارة عن الخالق ، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق ، وفي يعلم ضمير يعود إلى الله ، أي : ألا يعلم الله المخلوق الذي هو من جملة خلقه ، فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه ، وجملة : { وَهُوَ اللطيف الخبير } في محل نصب على الحال من فاعل يعلم ، أي : الذي لطف علمه بما في القلوب ، الخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور ، لا تخفى عليه من ذلك خافية .
ثم امتنّ سبحانه على عباده ، فقال : { هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } أي : سهلة لينة تستقرّون عليها ، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها ، والذلول في الأصل هو المنقاد الذي يذلّ لك ، ولا يستصعب عليك ، والمصدر الذلّ ، والفاء في قوله : { فامشوا فِى مَنَاكِبِهَا } لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور ، والأمر للإباحة . قال مجاهد ، والكلبي ، ومقاتل : مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها . وقال قتادة ، وشهر بن حوشب : مناكبها جبالها ، وأصل المنكب الجانب ، ومنه منكب الرجل ، ومنه الريح النكباء لأنها تأتي من جانب دون جانب { وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ } أي : مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض { وَإِلَيْهِ النشور } أي : وإليه البعث من قبوركم لا إلى غيره ، وفي هذا وعيد شديد .
ثم خوّف سبحانه الكفار فقال : { ءامَنْتُمْ مَّن فِى السماء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض } قال الواحدي : قال المفسرون : يعني : عقوبة من في السماء ، وقيل : من في السماء قدرته ، وسلطانه ، وعرشه ، وملائكته ، وقيل : من في السماء من الملائكة ، وقيل : المراد جبريل ، ومعنى { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الارض } يقلعها ملتبسة بكم ، كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها ، وقوله : { أَن يَخْسِفَ } بدل اشتمال من الموصول أي : ءأمنتم خسفه ، أو على حذف من أي : من أن يخسف { فَإِذَا هِىَ تَمُورُ } أي : تضطرب ، وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون .

قرأ الجمهور . { ءأمنتم } بهمزتين . وقرأ البصريون ، والكوفيون بالتخفيف . وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واواً . ثم كرّر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر ، فقال : { أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى السماء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا } أي : حجارة من السماء ، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل ، وقيل : سحاب فيها حجارة ، وقيل : ريح فيها حجارة { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي : إنذاري إذا عاينتم العذاب ، ولا ينفعكم هذا العلم ، وقيل : النذير هنا محمد ، قاله عطاء ، والضحاك . والمعنى : ستعلمون رسولي وصدقه ، والأوّل أولى . والكلام في : { أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا } كالكلام في : { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض } فهو : إما بدل اشتمال ، أو بتقدير من { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية . كقوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأصحاب الأيكة ، وأصحاب الرس ، وقوم فرعون { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي : فكيف كان إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع .
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صافات } الهمزة للاستفهام ، والواو للعطف على مقدّر ، أي : أغفلوا ولم ينظروا ، ومعنى : { صافات } أنها صافة لأجنحتها في الهواء ، وتبسيطها عند طيرانها { وَيَقْبِضْنَ } أي : يضممن أجنحتهنّ . قال النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحه : صافّ ، وإذا ضمها : قابض كأنه يقبضها ، وهذا معنى الطيران ، وهو بسط الجناح ، وقبضه بعد البسط ، ومنه قول أبي خراش :
يبادر جنح الليل فهو مزايل ... تحت الجناح بالتبسط والقبض
وإنما قال : { وَيَقْبِضْنَ } ولم يقل « قابضات » ، كما قال صافات؛ لأن القبض يتجدد تارة فتارة ، وأما البسط فهو الأصل ، كذا قيل . وقيل : إن معنى { وَيَقْبِضْنَ } : قبضهنّ لأجنحتهنّ عند الوقوف من الطيران ، لا قبضها في حال الطيران ، وجملة { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن } في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن ، أو مستأنفة؛ لبيان كمال قدرة الله سبحانه . والمعنى : أنه ما يمسكهنّ في الهواء عند الطيران إلاّ الرحمن القادر على كلّ شيء { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ } لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان .
{ أَمَّنْ هذا الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن } الاستفهام للتقريع والتوبيخ . والمعنى : أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله ، والجند الحزب والمنعة . قرأ الجمهور : { أمّن } هذا بتشديد الميم على إدغام ميم أم في ميم من ، وأم بمعنى بل ، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها ، كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة؛ لأن بعدها هنا « من » الاستفهامية ، فأغنت عن ذلك التقدير ، ومن الاستفهامية مبتدأ ، واسم الإشارة خبره ، والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة ، وينصركم صفة لجند ، ومن دون الرحمن في محل نصب على الحال من فاعل ينصركم ، والمعنى : بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزاً نصر الرحمن .

وقرأ طلحة بن مصرف بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية ، وجملة : { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِى غُرُورٍ } معترضة مقرّرة لما قبلها ناعية عليهم ما هم فيه من الضلال ، والمعنى : ما الكافرون إلاّ في غرور عظيم من جهة الشيطان يغرّهم به .
{ أَمَّنْ هذا الذى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله قراءة وإعراباً ، أي : من الذي يدرّ عليكم الأرزاق من المطر وغيره ، إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم { بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ } أي : لم يتأثروا لذلك بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحقّ ونفور عنه ، ولم يعتبروا ولا تفكروا ، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي : إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره ، والعتوّ العناد ، والطغيان ، والنفور الشرود .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } قال : أبو بكر ، وعمر ، وعليّ ، وأبو عبيدة بن الجراح . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : { فِى مَنَاكِبِهَا } قال : جبالها . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال : أطرافها . وأخرج الطبراني ، وابن عديّ ، والبيهقي في الشعب ، والحكيم الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول الله : « إن الله يحبّ العبد المؤمن المحترف » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ } قال : في ضلال .

أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)

ضرب سبحانه مثلاً للمشرك والموحد لإيضاح حالهما وبيان مآلهما ، فقال : { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى } والمكبّ والمنكبّ : الساقط على وجهه ، يقال : كببته فأكبّ وانكبّ . وقيل : هو الذي يكب رأسه ، فلا ينظر يميناً ولا شمالاً ولا أماماً ، فهو لا يأمن العثور والانكباب على وجهه . وقيل : أراد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق ، فلا يزال مشيه ينكسه على وجهه . قال قتادة : هو الكافر يكبّ على معاصي الله في الدنيا فيحشره الله يوم القيامة على وجهه . والهمزة للاستفهام الإنكاري أي : هل هذا الذي يمشي على وجهه أهدى إلى المقصد الذي يريده؟ { أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً } معتدلاً ناظراً إلى ما بين يديه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } أي : على طريق مستوي لا اعوجاج به ولا انحراف فيه ، وخبر «من» محذوف لدلالة خبر «من» الأولى ، وهو أهدى عليه ، وقيل : لا حاجة إلى ذلك؛ لأن «من» الثانية معطوفة على «من» الأولى عطف المفرد على المفرد ، كقولك : أزيد قائم أم عمرو؟ وقيل : أراد بمن يمشي مكباً على وجهه من يحشر على وجهه إلى النار ، ومن يمشي سوياً من يحشر على قدميه إلى الجنة ، وهو كقول قتادة الذي ذكرناه ، ومثله قوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } [ الإسراء : 97 ] . { قُلْ هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ } أمر سبحانه رسوله أن يخبرهم بأن الله هو الذي أنشأهم النشأة الأولى { وَجَعَلَ } لهم { السمع } ليسمعوا به { والأبصار } ليبصروا بها ، ووجه إفراد السمع مع جمع الأبصار أنه مصدر يطلق على القليل والكثير ، وقد قدّمنا بيان هذا في مواضع مع زيادة في البيان { والأفئدة } القلوب التي يتفكرون بها في مخلوقات الله ، فذكر سبحانه ها هنا أنه قد جعل لهم ما يدركون به المسموعات والمبصرات والمعقولات إيضاحاً للحجة وقطعاً للمعذرة ، وذماً لهم على عدم شكر نعم الله ، ولهذا قال : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } وانتصاب قليلاً على أنه نعت مصدر محذوف ، و«ما» مزيدة للتأكيد أي : شكراً قليلاً أو زماناً قليلاً ، وقيل : أراد بقلة الشكر عدم وجوده منهم . قال مقاتل : يعني أنكم لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه { قُلْ هُوَ الذى ذَرَأَكُمْ فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أن الله هو الذي خلقهم في الأرض ونشرهم فيها وفرقهم على ظهرها ، وأن حشرهم للجزاء إليه لا إلى غيره .
ثم ذكر سبحانه أنهم يستعجلون العذاب فقال : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين } أي : متى هذا الوعد الذي تذكرونه لنا من الحشر والقيامة ، والنار والعذاب إن كنتم صادقين في ذلك؟ والخطاب منهم للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين ، وجواب الشرط محذوف ، والتقدير إن كنتم صادقين فأخبرونا به أو فبينوه لنا ، وهذا منهم استهزاء وسخرية .

ثم لما قالوا هذا القول أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا العلم عِندَ الله } أي : إن وقت قيام الساعة علمه عند الله لا يعلمه غيره ، ومثله قوله : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } [ الأعراف : 187 ] ثم أخبرهم أنه مبعوث للإنذار لا للإخبار بالغيب ، فقال : { وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أنذركم وأخوّفكم عاقبة كفركم ، وأبين لكم ما أمرني الله ببيانه .
ثم ذكر الله سبحانه حالهم عند معاينة العذاب فقال : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً } يعني : رأوا العذاب قريباً ، وزلفة مصدر بمعنى الفاعل ، أي : مزدلفاً ، أو حال من مفعول رأوا بتقدير مضاف ، أي : ذا زلفة وقرب ، أو ظرف ، أي : رأوه في مكان ذي زلفة . قال مجاهد : أي : قريباً . وقال الحسن : عياناً . قال أكثر المفسرين : المراد عذاب يوم القيامة ، وقال مجاهد : المراد عذاب بدر ، وقيل : رأوا ما وعدوا به من الحشر قريباً منهم ، كما يدلّ عليه قوله : { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } وقيل : لما رأوا عملهم السيء قريباً { سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } أي : اسودّت وعلتها الكآبة وغشيتها الذلة ، يقال : ساء الشيء يسوء ، فهو سيء إذا قبح . قال الزجاج : المعنى تبين فيها السوء أي : ساءهم ذلك العذاب ، فظهر عليهم بسببه في وجوههم ما يدلّ على كفرهم كقوله : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] . قرأ الجمهور بكسر السين بدون إشمام ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وابن محيصن بالإشمام { وَقِيلَ هذا الذى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } أي : قيل لهم توبيخاً وتقريعاً : هذا المشاهد الحاضر من العذاب ، هو العذاب الذي كنتم به تدّعون في الدنيا أي : تطلبونه وتستعجلون به استهزاءً ، على أن معنى { تدّعون } الدعاء . قال الفراء : تدّعون تفتعلون من الدعاء ، أي : تتمنون وتسألون ، وبهذا قال الأكثر من المفسرين . وقال الزجاج : هذا الذي كنتم به تدّعون الأباطيل والأحاديث . وقيل : معنى { تَدْعُونَ } : تكذبون ، وهذا على قراءة الجمهور : { تدّعون } بالتشديد ، فهو إما من الدعاء كما قال الأكثر ، أو من الدعوى كما قال الزجاج ومن وافقه ، والمعنى : أنهم كانوا يدّعون أنه لا بعث ولا حشر ولا جنة ولا نار . وقرأ قتادة ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب ، والضحاك : « تدعون » مخففاً ، ومعناها ظاهر . قال قتادة : هو قولهم : { رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] . وقال الضحاك : هو قولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] الآية . قال النحاس : تدّعون وتدعون بمعنى واحد ، كما تقول قدر واقتدر ، وغدا واغتدى ، إلاّ أنّ أفعل معناه مضى شيئًا بعد شيء ، وفعل يقع على القليل والكثير .
{ قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله وَمَن مَّعِىَ } أي : أخبروني إن أهلكني الله بموت أو قتل ومن معي من المؤمنين { أَوْ رَحِمَنَا } بتأخير ذلك إلى أجل .

وقيل المعنى : إن أهلكني الله ومن معي بالعذاب ، أو رحمنا فلم يعذبنا { فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي : فمن يمنعهم ويؤمنهم من العذاب . والمعنى : أنه لا ينجيهم من ذلك أحد سواء أهلك الله رسوله والمؤمنين معه ، كما كان الكفار يتمنونه أو أمهلهم . وقيل : المعنى إنا مع إيماننا بين الخوف والرجاء ، فمن يجيركم مع كفركم من العذاب ، ووضع الظاهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر ، وبيان أنه السبب في عدم نجاتهم . { قُلْ هُوَ الرحمن ءامَنَّا بِهِ } وحده لا نشرك به شيئًا { وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } لا على غيره ، والتوكل : تفويض الأمور إليه - عزّ وجلّ - { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضلال مُّبِينٍ } منا ومنكم ، وفي هذا تهديد شديد مع إخراج الكلام مخرج الإنصاف . قرأ الجمهور : { ستعلمون } بالفوقية على الخطاب . وقرأ الكسائي بالتحتية على الخبر .
ثم احتجّ سبحانه عليهم ببعض نعمه ، وخوّفهم بسلب تلك النعمة عنهم فقال : { قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } أي : أخبروني إن صار ماؤكم غائراً في الأرض بحيث لا يبقى له وجود فيها أصلاً ، أو صار ذاهباً في الأرض إلى مكان بعيد بحيث لا تناله الدلاء . يقال : غار الماء غوراً ، أي : نضب ، والغور الغائر ، وصف بالمصدر للمبالغة ، كما يقال : رجل عدل ، وقد تقدم مثل هذا في سورة الكهف { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } أي : ظاهر تراه العيون وتناله الدلاء ، وقيل : هو من معن الماء ، أي : كثر . وقال قتادة ، والضحاك : أي : جار ، وقد تقدّم معنى المعين في سورة المؤمن . وقرأ ابن عباس « فمن يأتيكم بماء عذب » .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً } قال : في الضلالة { أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً } قال : مهتدياً . وأخرج الخطيب في تاريخه ، وابن النجار عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه ، وليقرأ هذه الآية : { هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } » وأخرج الدارقطني في الأفراد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اشتكى ضرسه فليضع أصبعه عليه ، وليقرأ هاتين الآيتين سبع مرات : { وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } إلى { يَفْقَهُونَ } [ الأنعام : 98 ] و { هُوَ الذى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } فإنه يبرأ بإذن الله » وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } قال : داخلاً في الأرض { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ } قال : الجاري . وأخرج ابن المنذر عنه : { إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً } قال : يرجع في الأرض . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { بِمَاء مَّعِينٍ } قال : ظاهر . وأخرج عبد بن حميد عنه أيضاً : { بِمَاء مَّعِينٍ } قال : عذب .

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

قوله : { ن } قرأ أبو بكر ، وورش ، وابن عامر ، والكسائي ، وابن محيصن ، وابن هبيرة بإدغام النون الثانية من هجائها في الواو ، وقرأ الباقون بالإظهار ، وقرأ أبو عمرو ، وعيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعل . وقرأ ابن عامر ، ونصر ، وابن إسحاق بكسرها على إضمار القسم ، أو لأجل التقاء الساكنين ، وقرأ محمد بن السميفع وهارون بضمها على البناء . قال مجاهد ، ومقاتل ، والسديّ : هو الحوت الذي يحمل الأرض ، وبه قال مرّة الهمذاني ، وعطاء الخراساني ، والكلبي . وقيل : إن نون آخر حرف من حروف الرحمن . وقال ابن زيد : هو قسم أقسم الله به . وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة . وقال عطاء ، وأبو العالية : هي النون من نصر وناصر . قال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصره المؤمنين ، وقيل : هو حرف من حروف الهجاء ، كالفواتح الواقعة في أوائل السور المفتتحة بذلك ، وقد عرّفناك ما هو الحق في مثل هذه الفواتح في أوّل سورة البقرة ، والواو في قوله : { والقلم } واو القسم ، أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان ، وهو واقع على كل قلم يكتب به . وقال جماعة من المفسرين : المراد به : القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ ، أقسم الله به تعظيماً له . قال قتادة : القلم من نعمة الله على عباده { وَمَا يَسْطُرُونَ } " ما " موصولة أي : والذي يسطرون ، والضمير عائد إلى أصحاب القلم المدلول عليهم بذكره؛ لأن ذكر آلة الكتابة تدلّ على الكاتب . والمعنى : والذي يسطرون أي : يكتبون كل ما يكتب ، أو الحفظة على ما تقدّم . ويجوز أن تكون «ما» مصدرية ، أي : وسطرهم . وقيل : الضمير راجع إلى القلم خاصة من باب إسناد الفعل إلى الآلة ، وإجرائها مجرى العقلاء ، وجواب القسم قوله : { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ } " ما " نافية ، وأنت اسمها ، وبمجنون خبرها . قال الزجاج : أنت هو اسم ما ، وبمجنون خبرها ، وقوله : { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } كلام وقع في الوسط أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل ، قيل : الباء متعلقة بمضمر هو حال ، كأنه قيل : أنت بريء من الجنون ملتبساً بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة . وقيل : الباء للقسم أي : وما أنت ونعمة ربك بمجنون . وقيل : النعمة هنا الرحمة ، والآية رد على الكفار حيث قالوا : { يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] . { وَإِنَّ لَكَ لأجْراً } أي : ثواباً على ما تحملت من أثقال النبوّة ، وقاسيت من أنواع الشدائد غَيْرُ مَمْنُونٍ أي : غير مقطوع ، يقال : مننت الحبل إذا قطعته . وقال مجاهد : غَيْرُ مَمْنُونٍ غير محسوب ، وقال الحسن : غَيْرُ مَمْنُونٍ } غير مكدّر بالمنّ . وقال الضحاك : أجراً بغير عمل . وقيل : غير مقدّر وقيل : غير ممنون به عليك من جهة الناس .

{ وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قيل : هو الإسلام والدين ، حكى هذا الواحدي عن الأكثرين . وقيل : هو القرآن ، روي هذا عن الحسن والعوفي . وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله . قال الزجاج : المعنى إنك على الخلق الذي أمرك الله به في القرآن ، وقيل : هو رفقه بأمته وإكرامه إياهم ، وقيل المعنى : إنك على طبع كريم . قال الماوردي : وهذا هو الظاهر ، وحقيقة الخلق في اللغة ما يأخذ الإنسان نفسه به من الأدب . وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أنها سئلت عن خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، وهذه الجملة ، والتي قبلها معطوفتان على جملة جواب القسم { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } أي : ستبصر يا محمد ويبصر الكفار إذا تبين الحقّ وانكشف الغطاء ، وذلك يوم القيامة { بِأَيّكُمُ المفتون } الباء زائدة للتأكيد أي : المفتون بالجنون ، كذا قال الأخفش ، وأبو عبيدة ، وغيرهما ، ومثله قول الشاعر :
نحن بنو جعدة أصحاب العلج ... نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقيل : ليست الباء زائدة ، والمفتون مصدر جاء على مفعول كالمعقول والميسور ، والتقدير : بأيكم الفتون أو الفتنة ، ومنه قول الشاعر الراعي :
حتى إذا لم يتركوا لعظامه ... لحماً ولا لفؤاده معقولا
أي : عقلا . وقال الفراء : إن الباء بمعنى ، في أي في أيكم المفتون ، أفي الفريق الذي أنت فيه أم في الفريق الآخر؟ ويؤيد هذا قراءة ابن أبي عبلة في أيكم المفتون . وقيل : الكلام على حذف مضاف ، أي : بأيكم فتن المفتون ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وروي هذا عن الأخفش أيضاً . وقيل : المفتون المعذب ، من قول العرب فتنت الذهب بالنار إذا أحميته ، ومنه قوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] ، وقيل : المفتون هو الشيطان ، لأنه مفتون في دينه ، والمعنى : بأيكم الشيطان . وقال قتادة : هذا وعيد لهم بعذاب يوم بدر ، والمعنى : سترى ويرى أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر بأيكم المفتون ، وجملة : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } تعليل للجملة التي قبلها ، فإنها تتضمن الحكم عليهم بالجنون لمخالفتهم لما فيه نفعهم في العاجل والآجل ، واختيارهم ما فيه ضرهم فيهما ، والمعنى : هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله الموصل إلى سعادة الدارين { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } إلى سبيله الموصل إلى تلك السعادة الآجلة والعاجلة ، فهو مجاز كل عامل بعمله ، إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر .
{ فَلاَ تُطِعِ المكذبين } نهاه سبحانه عن ممايلة المشركين ، وهم رؤساء كفار مكة؛ لأنهم كانوا يدعونه إلى دين آبائه ، فنهاه الله عن طاعتهم ، أو هو تعريض بغيره عن أن يطيع الكفار ، أو المراد بالطاعة : مجرد المداراة بإظهار خلاف ما في الضمير ، فنهاه الله عن ذلك ، كما يدلّ عليه قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } فإن الإدهان هو الملاينة والمسامحة والمداراة .

قال الفرّاء : المعنى لو تلين فيلينوا لك ، وكذا قال الكلبي . وقال الضحاك ، والسديّ : ودّوا لو تكفر فيتمادوا على الكفر . وقال الربيع بن أنس : ودّوا لو تكذب فيكذبون . وقال قتادة : ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر ، فيذهبون معك . وقال الحسن : ودّوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك . وقال مجاهد : ودّوا لو تركن إليهم وتترك ما أنت عليه من الحق فيمايلونك . قال ابن قتيبة : كانوا أرادوه على أن يعبد آلاهتهم مدّة ، ويعبدوا الله مدّة ، وقوله : { فَيُدْهِنُونَ } عطف على تدهن داخل في حيز لو ، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي : فهم يدهنون . قال سيبويه : وزعم قالون أنها في بعض المصاحف « ودّوا لو تدهن فيدهنوا » بدون نون ، والنصب على جواب التمني المفهوم من ودّوا ، والظاهر من اللغة في معنى الإدهان ، هو ما ذكرناه أوّلاً .
{ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ } أي : كثير الحلف بالباطل { مُّهِينٌ } فعيل من المهانة ، وهي القلة في الرأي والتمييز . وقال مجاهد : هو الكذاب . وقال قتادة : المكثار في الشرّ ، وكذا قال الحسن . وقيل : هو الفاجر العاجز . وقيل : هو الحقير عند الله . وقيل : هو الذليل . وقيل : هو الوضيع { هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } الهماز . المغتاب للناس . قال ابن زيد : هو الذي يهمز بأخيه . وقيل : الهماز الذي يذكر الناس في وجوههم ، واللماز الذي يذكرهم في مغيبهم ، كذا قال أبو العالية ، والحسن ، وعطاء بن أبي رباح ، وقال مقاتل عكس هذا . والمشاء بنميم : الذي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، يقال : نمّ ينمّ : إذا سعى بالفساد بين الناس ، ومنه قول الشاعر :
ومولى كبيت النمل لا خير عنده ... لمولاه إلاّ سعيه بنميم
وقيل : النميم جمع نميمة { مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ } أي : بخيل بالمال لا ينفقه في وجهه . وقيل : هو الذي يمنع أهله وعشيرته عن الإسلام . قال الحسن : يقول لهم من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبداً { مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي : متجاوز الحدّ في الظلم كثير الإثم { عُتُلٍ } قال الواحدي : المفسرون يقولون : هو الشديد الخلق الفاحش الخلق . وقال الفراء : هو الشديد الخصومة في الباطل . وقال الزجاج : هو الغليظ الجافي . وقال الليث : هو الأكول المنوع ، يقال : عتلت الرجل أعتله إذا جذبته جذباً عنيفاً ، ومنه قول الشاعر :
نقرعه قرعاً ولسنا نعتله ... { بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أي : هو بعد ما عدّ من معايبه زنيم ، والزنيم هو الدعيّ الملصق بالقوم وليس هو منهم؛ مأخوذ من الزنمة المتدلية في حلق الشاة أو الماعز ، ومنه قول حسان :
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
وقال سعيد بن جبير : الزنيم المعروف بالشرّ . وقيل : هو رجل من قريش كان له زنمة كزنمة الشاة .

وقيل : هو الظلوم { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } متعلق بقوله : { لا تطع } أي : لا تطع من هذه مثالبه لكونه ذا مال وبنين . قال الفراء ، والزجاج : أي لأن كان ، والمعنى لا تطعه لماله وبنيه . قرأ ابن عامر ، وأبو جعفر ، والمغيرة ، وأبو حيوة { أن كان } بهمزة واحدة ممدودة على الاستفهام . وقرأ حمزة ، وأبو بكر ، والمفضل « أأن كان » بهمزتين مخففتين ، وقرأ الباقون بهمزة واحدة على الخبر ، وعلى قراءة الاستفهام يكون المراد به : التوبيخ والتقريع حيث جعل مجازاة النعم التي خوّله الله من المال والبنين أن كفر به وبرسوله . وقرأ نافع في رواية عنه بكسر الهمزة على الشرط ، وجملة { إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا قَالَ أساطير الأولين } مستأنفة جارية مجرى التعليل للنهي ، وقد تقدّم معنى أساطير الأوّلين في غير موضع { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } أي : سنسمه بالكيّ على خرطومه . قال أبو عبيدة ، وأبو زيد ، والمبرد : الخرطوم الأنف . قال مقاتل : سنسمه بالسواد على الأنف ، وذلك أنه يسود وجهه قبل دخول النار . قال الفراء : والخرطوم وإن كان قد خصّ بالسمة ، فإنه في مذهب الوجه؛ لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض . قال الزجاج : سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل النار من اسوداد وجوههم . وقال قتادة : سنلحق به شيئًا لا يفارقه ، واختار هذا ابن قتيبة ، قال : والعرب تقول : قد وسمه ميسم سوء يريدون ألصق به عاراً لا يفارقه ، فالمعنى : أن الله ألحق به عاراً لا يفارقه كالوسم على الخرطوم ، وقيل : معنى { سَنَسِمُهُ } : سنحطمه بالسيف . وقال النضر بن شميل : المعنى سنحدّه على شرب الخمر ، وقد يسمى الخمر بالخرطوم ، ومنه قول الشاعر :
تظل يومك في لهو وفي طرب ... وأنت بالليل شرّاب الخراطيم
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، والخطيب في تاريخه ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : إن أوّل شيء خلقه الله القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : يا ربّ ، وما أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى من ذلك اليوم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم طوى الكتاب ورفع القلم ، وكان عرشه على الماء فارتفع بخار الماء ، ففتقت منه السموات ثم خلق النون ، فبسطت الأرض عليه ، والأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض ، فأثبتت الجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض إلى يوم القيامة ، ثم قرأ ابن عباس : { ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ } . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي وصححه ، وابن مردويه عن عبادة ابن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن أوّل ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، فجرى بما هو كائن إلى الأبد »

وأخرج ابن جرير من حديث معاوية بن قرّة عن أبيه مرفوعاً نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون ، وهي الدواة : وخلق القلم ، فقال : اكتب ، قال : وما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه . وأخرج عبد ابن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : { ن } الدواة . وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النون : السمكة التي عليها قرار الأرضين ، والقلم الذي خطّ به ربنا عزّ وجلّ القدر خيره وشرّه ، وضرّه ونفعه " { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال : " الكرام الكاتبون " وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال : ما يكتبون .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال : وما يعلمون .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، وابن المنذر ، والحاكم ، وابن مردويه عن سعد بن هشام قال : أتيت عائشة فقلت : يا أمّ المؤمنين أخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : كان خلقه القرآن ، أما تقرأ القرآن : { وإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . وأخرج ابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والواحدي عنها «قالت : ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحد من أصحابه ، ولا من أهل بيته إلاّ قال : «لبيك» ، فلذلك أنزل الله { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } » . وأخرج ابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن أبي الدرداء قال : سئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، يرضى لرضاه ، ويسخط لسخطه . وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي وصححه ، وابن مردويه عن أبي عبد الله الجدلي قال : قلت لعائشة : كيف كان خلق رسول الله؟ قالت : لم يكن فاحشاً ولا متفاحشاً ، ولا صخاباً في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح .
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } قال : تعلم ويعلمون يوم القيامة { بِأَيّكُمُ المفتون } قال : الشيطان ، كانوا يقولون : إنه شيطان ، وإنه مجنون . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : بأيكم المجنون . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } يقول : لو ترخص لهم فيرخصون . وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } الآية قال : يعني : الأسود بن عبد يغوث . وأخرج ابن مردويه عن أبي عثمان النهدي قال : قال مروان لما بايع الناس ليزيد : سنة أبي بكر وعمر ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : إنها ليست بسنة أبي بكر وعمر ، ولكنها سنة هرقل ، فقال مروان : هذا الذي أنزل فيه :

{ والذى قَالَ لوالديه أُفّ لَّكُمَا } [ الأحقاف : 17 ] الآية ، قال : فسمعت ذلك عائشة فقالت : إنها لم تنزل في عبد الرحمن ، ولكن نزل في أبيك : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } » . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : « نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ } فلم نعرف حتى نزل عليه بعد ذلك زنيم ، فعرفناه له زنمة كزنمة الشاة» . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : العتلّ هو الدعيّ ، والزنيم هو المريب الذي يعرف بالشرّ . وأخرج عبد بن حميد ، وابن عساكر عنه قال : الزنيم : هو الدعيّ . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه عنه أيضاً قال : الزنيم الذي يعرف بالشرّ كما تعرف الشاة بزنمتها . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : هو الرجل يمرّ على القوم ، فيقولون رجل سوء . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { زَنِيمٍ } قال : ظلوم . وقد قيل : إن هذه الآيات نزلت في الأخنس بن شريق . وقيل : في الوليد بن المغيرة .

إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)

قوله : { إِنَّا بلوناهم } يعني : كفار مكة ، فإن الله ابتلاهم بالجوع والقحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، والابتلاء الاختبار ، والمعنى : أعطيناهم الأموال ليشكروا لا ليبطروا ، فلما بطروا ابتليناهم بالجوع والقحط { كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة } المعروف خبرهم عندهم ، وذلك أنها كانت بأرض اليمن على فرسخين من صنعاء لرجل يؤدّي حق الله منها ، فمات ، وصارت إلى أولاده ، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحقّ الله فيها . قال الواحدي : هم قوم من ثقيف كانوا باليمن مسلمين ورثوا من أبيهم ضيعة فيها جنات وزرع ونخيل ، وكان أبوهم يجعل مما فيها من كل شيء حظاً للمساكين عند الحصاد والصرام ، فقالت بنوه : المال قليل والعيال كثير ، ولا يسعنا أن نفعل كما كان يفعل أبونا ، وعزموا على حرمان المساكين ، فصارت عاقبتهم إلى ما قصّ الله في كتابه . قال الكلبي : كان بينهم وبين صنعاء فرسخان ابتلاهم الله بأن حرق جنتهم . وقيل : هي جنة كانت بصوران ، وصوران على فراسخ من صنعاء ، وكان أصحاب هذه الجنة بعد رفع عيسى بيسير { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي : حلفوا ليقطعنها داخلين في وقت الصباح ، والصرم القطع للثمر والزرع ، وانتصاب { مُّصْبِحِينَ } على الحال من فاعل ليصرمنها ، والكاف في : { كَمَا بَلَوْنَا } نعت مصدر محذوف أي : بلوناهم ابتلاء كما بلونا ، وما مصدرية ، أو بمعنى الذي ، وإذ ظرف لبلونا منتصب به ، وليصرمنها جواب القسم { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } يعني : ولا يقولون إن شاء الله ، وهذه الجملة مستأنفة لبيان ما وقع منهم أو حال . وقيل المعنى : ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إليهم ، قاله عكرمة .
{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } أي : طاف على تلك الجنة طائف من جهة الله سبحانه ، والطائف قيل : هو نار أحرقتها حتى صارت سوداء ، كذا قال مقاتل . وقيل : الطائف جبريل اقتلعها ، وجملة { وَهُمْ نَائِمُونَ } في محل نصب على الحال { فَأَصْبَحَتْ كالصريم } أي : كالشيء الذي صرمت ثماره أي : قطعت ، فعيل بمعنى مفعول ، وقال الفرّاء : كالصريم كالليل المظلم ، ومنه قول الشاعر :
تطاول ليلك الجون الصريم ... فما ينجاب عن صبح بهيم
والمعنى : أنها حرقت فصارت كالليل الأسود ، قال : والصريم الرماد الأسود بلغة خزيمة . وقال الأخفش : أي كالصبح انصرم من الليل ، يعني : أنها يبست وابيضت . وقال المبرد : الصريم الليل ، والصريم النهار أي : ينصرم هذا عن هذا ، وذاك عن هذا ، وقيل : سمي الليل صريماً لأنه يقطع بظلمته عن التصرّف ، وقال المؤرج : الصريم الرملة؛ لأنها لا يثبت عليها شيء ينتفع به ، وقال الحسن : صرم منها الخير أي : قطع { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } أي : نادى بعضهم بعضاً داخلين في الصباح .

قال مقاتل : لما أصبحوا قال بعضهم لبعض { أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ } و «أن» في قوله : { أَنِ اغدوا } هي المفسرة لأنّ في التنادي معنى القول ، أو هي المصدرية أي : بأن اغدوا ، والمراد اخرجوا غدوة ، والمراد بالحرث : الثمار والزرع { إِن كُنتُمْ صارمين } أي : قاصدين للصرم ، والغدوّ يتعدّى بإلى وعلى ، فلا حاجة إلى تضمينه معنى الإقبال كما قيل ، وجواب الشرط محذوف أي : إن كنتم صارمين فاغدوا ، وقيل : معنى صارمين ماضين في العزم ، من قولك سيف صارم { فانطلقوا وَهُمْ يتخافتون } أي : ذهبوا إلى جنتهم وهم يسرّون الكلام بينهم؛ لئلا يعلم أحد بهم ، يقال : خفت يخفت ، إذا سكن ولم ينبس ، ومنه قول دريد بن الصمة :
وإني لم أهلك ملالا ولم أمت ... خفاتا وكلا ظنه بي عويمر
وقيل المعنى : يخفون أنفسهم من الناس حتى لا يروهم ، فيقصدوهم ، كما كانوا يقصدون أباهم وقت الحصاد ، والأوّل أولى لقوله : { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مّسْكِينٌ } فإنّ «أن» هي المفسرة للتخافت المذكور لما فيه من معنى القول ، والمعنى : يسرّ بعضهم إلى بعض هذا القول ، وهو لا يدخل هذه الجنة اليوم عليكم مسكين ، فيطلب منكم أن تعطوه منها ما كان يعطيه أبوكم . { وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قادرين } الحرد يكون بمعنى المنع والقصد . قال قتادة ، ومقاتل ، والكلبي ، والحسن ، ومجاهد : الحرد هنا بمعنى القصد؛ لأن القاصد إلى الشيء حارد . يقال : حرد يحرد إذا قصد ، تقول : حردت حردك أي : قصدت قصدك ، ومنه قول الراجز :
أقبل سيل جاء من عند الله ... يحرد حرد الجنة المغلة
وقال أبو عبيدة ، والمبرد ، والقتيبي : على حرد على منع ، من قولهم : حردت الإبل حرداً : إذا قلت ألبانها ، والحرود من النوق هي القليلة اللبن . وقال السديّ ، وسفيان ، والشعبي { على حَرْدٍ } : على غضب ، ومنه قول الشاعر :
إذا جياد الخيل جاءت تردى ... مملوءة من غضب وحرد
وقول الآخر :
تساقوا على حرد دماء الأساود ... ومنه قيل : أسد حارد ، وروي عن قتادة ، ومجاهد أيضاً أنهما قالا : على حرد أي : على حسد . وقال الحسن أيضاً : على حاجة وفاقة . وقيل : على حرد : على انفراد ، يقال : حرد يحرد حرداً أو حروداً : إذا تنحى عن قومه ، ونزل منفرداً عنهم ولم يخالطهم ، وبه قال الأصمعي ، وغيره . وقال الأزهري : حرد اسم قريتهم ، وقال السديّ : اسم جنتهم . قرأ الجمهور : { حرد } بسكون الراء . وقرأ أبو العالية ، وابن السميفع بفتحها ، وانتصاب { قادرين } على الحال . قال الفراء : ومعنى { قادرين } : قد قدروا أمرهم وبنوا عليه ، وقال قتادة : قادرين على جنتهم عند أنفسهم . وقال الشعبي : يعني قادرين على المساكين { فَلَمَّا رَأَوْهَا } أي : لما رأوا جنتهم ، وشاهدوا ما قد حلّ بها من الآفة التي أذهبت ما فيها { قَالُواْ إِنَّا لَضَالُّونَ } أي : قال بعضهم لبعض : قد ضللنا طريق جنتنا ، وليست هذه .

ثم لما تأملوا وعلموا أنها جنتهم ، وأن الله سبحانه قد عاقبهم بإذهاب ما فيها من الثمر والزرع ، قالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : حرمنا جنتنا بسبب ما وقع منا من العزم على منع المساكين من خيرها ، فأضربوا عن قولهم الأوّل إلى هذا القول ، وقيل : معنى قولهم : { إِنَّا لَضَالُّونَ } أنهم ضلوا عن الصواب بما وقع منهم .
{ قَالَ أَوْسَطُهُمْ } أي : أمثلهم وأعقلهم وخيرهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبّحُونَ } أي : هلا تسبحون يعني : تستثنون ، وسمي الاستثناء تسبيحاً؛ لأنه تعظيم لله وإقرار به ، وهذا يدلّ على أن أوسطهم كان أمرهم بالاستثناء فلم يطيعوه ، وقال مجاهد ، وأبو صالح ، وغيرهما : كان استثناؤهم تسبيحاً . قال النحاس : أصل التسبيح التنزيه لله عزّ وجلّ ، فجعل التسبيح في موضع إن شاء الله ، وقيل المعنى : هلا تستغفرون الله من فعلكم ، وتتوبون إليه من هذه النية التي عزمتم عليها ، وكان أوسطهم قد قال لهم ذلك ، فلما قال لهم ذلك بعد مشاهدتهم للجنة على تلك الصفة قالوا : { سبحان رَبّنَا إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي : تنزيهاً له عن أن يكون ظالماً فيما صنع بجنتنا ، فإن ذلك بسبب ذنبنا الذي فعلناه . وقيل : معنى تسبيحهم الاستغفار أي : نستغفر ربنا من ذنبنا إنا كنا ظالمين لأنفسنا في منعنا للمساكين .
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يتلاومون } أي : يلوم بعضهم بعضاً في منعهم للمساكين وعزمهم على ذلك ، ثم نادوا على أنفسهم بالويل حيث قالوا : { ياويلنا إِنَّا كُنَّا طاغين } أي : عاصين متجاوزين حدود الله بمنع الفقراء وترك الاستثناء . قال ابن كيسان : أي : طغينا نعم الله ، فلم نشكرها كما شكرها أبونا من قبل ، ثم رجعوا إلى الله وسألوه أن يعوّضهم بخير منها ، فقالوا : { عسى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مّنْهَا } لما اعترفوا بالخطيئة رجوا من الله عزّ وجلّ أن يبدلهم جنة خيراً من جنتهم ، قيل : إنهم تعاقدوا فيما بينهم ، وقالوا : إن أبدلنا الله خيراً منها لنصنعنّ كما صنع أبونا ، فدعوا الله وتضرّعوا ، فأبدلهم من ليلتهم ما هو خير منها . قرأ الجمهور : { يبدلنا } بالتخفيف ، وقرأ أبو عمرو ، وأهل المدينة بالتشديد ، وهما لغتان ، والتبديل تغيير ذات الشيء ، أو تغيير صفته ، والإبدال رفع الشيء جملة ، ووضع آخر مكانه ، كما مضى في سورة سبأ { إِنَّا إلى رَبّنَا راغبون } أي : طالبون منه الخير راجون لعفوه راجعون إليه ، وعدي بإلى ، وهو إنما يتعدى بعن أو في لتضمينه معنى الرجوع { كَذَلِكَ العذاب } أي : مثل ذلك العذاب الذي بلوناهم به ، وبلونا أهل مكة عذاب الدنيا ، والعذاب مبتدأ مؤخر ، و { كذلك } خبره { وَلَعَذَابُ الأخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : أشد وأعظم لو كان المشركون يعلمون أنه كذلك ، ولكنهم لا يعلمون .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة } قال : هم ناس من الحبشة كان لأبيهم جنة ، وكان يطعم منها المساكين ، فمات أبوهم ، فقال بنوه : أن كان أبونا لأحمق كان يطعم المساكين ف { أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } وأن لا يطعموا مسكيناً .

وأخرج ابن جرير عنه { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ } قال : أمر من الله . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والمعصية ، فإن العبد ليذنب الذنب الواحد ، فينسّى به الباب من العلم ، وإن العبد ليذنب ، فيحرم به قيام الليل ، وإن العبد ليذنب الذنب ، فيحرم به رزقاً قد كان هيىء له . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَطَافَ عَلَيْهِا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كالصريم } قد حرموا خير جنتهم بذنبهم » وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { كالصريم } قال : مثل الليل الأسود . وأخرج ابن المنذر عنه : { وَهُمْ يتخافتون } قال : الإسرار والكلام الخفيّ . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً { على حَرْدٍ قادرين } يقول : ذو قدرة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { إِنَّا لَضَالُّونَ } قال : أضللنا مكان جنتنا . وأخرجا عنه أيضاً { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } قال : أعدلهم .

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)

لما فرغ سبحانه من ذكر حال الكفار ، وتشبيه ابتلائهم بابتلاء أصحاب الجنة المذكورة ، ذكر حال المتقين وما أعدّه لهم من الخير ، فقال : { إِنَّ لّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبّهِمْ جنات النعيم } أي : المتقين ما يوجب سخطه من الكفر والمعاصي عنده عزّ وجلّ في الدار الآخرة جنات النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ، ولا ينغصه خوف زوال { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } الاستفهام للإنكار ، وكان صناديد كفار قريش يرون وفور حظهم في الدنيا وقلة حظوظ المسلمين فيها ، فلما سمعوا بذكر الآخرة ، وما يعطي الله المسلمين فيها قالوا : إن صح ما يزعمه محمد لم يكن حالنا وحالهم إلاّ مثل ما هي في الدنيا ، فقال الله مكذباً لهم رادّاً عليهم : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين } الآية ، والفاء للعطف على مقدر كنظائره . ثم وبخهم الله ، فقال : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } هذا الحكم الأعوج كأن أمر الجزاء مفوّض إليكم تحكمون فيه بما شئتم { أَمْ لَكُمْ كتاب فِيهِ تَدْرُسُونَ } أي : تقرءون فيه ، فتجدون المطيع كالعاصي ، ومثل هذا قوله تعالى : { أَمْ لَكُمْ سلطان مُّبِينٌ * فَأْتُواْ بكتابكم } [ الصافات : 56 57 ] ثم قال سبحانه : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } قرأ الجمهور بكسر إن على أنها معمولة لتدرسون أي : تدرسون في الكتاب { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } فلما دخلت اللام كسرت الهمزة كقوله : علمت إنك لعاقل بالكسر ، أو على الحكاية للمدروس ، كما في قوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الأخرين * سلام على نُوحٍ فِى العالمين } [ الصافات : 78 ، 79 ] . وقيل : قد تمّ الكلام عند قوله : { تَدْرُسُونَ } ثم ابتدأ فقال : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } أي : ليس لكم ذلك ، وقرأ طلحة بن مصرف ، والضحاك « أن لكم » بفتح الهمزة على أن العامل فيه تدرسون مع زيادة لام التأكيد ، ومعنى { تَخَيَّرُونَ } : تختارون وتشتهون .
ثم زاد سبحانه في التوبيخ فقال : { أَمْ لَكُمْ أيمان عَلَيْنَا بالغة } أي : عهود مؤكدة موثقة متناهية ، والمعنى أم لكم أيمان على الله استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة ، وقوله : { إلى يَوْمِ القيامة } متعلق بالمقدر في لكم أي : ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا تخرج عن عهدتها حتى يحكمكم يومئذٍ ، وجواب القسم قوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } لأن معنى : { أَمْ لَكُمْ أيمان } أي : أم أقسمنا لكم . قال الرازي : والمعنى أم ضمنا لكم ، وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد . وقيل : قد تمّ الكلام عند قوله : { إلى يَوْمِ القيامة } ثم ابتدأ ، فقال : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي : ليس الأمر كذلك . قرأ الجمهور : { بالغة } بالرفع على النعت لأيمان ، وقرأ الحسن ، وزيد بن عليّ بنصبها على الحال من أيمان؛ لأنها قد تخصصت بالوصف ، أو من الضمير في لكم؛ أو من الضمير في علينا { سَلْهُمْ أَيُّهُم بذلك زَعِيمٌ } أي : سل يا محمد الكفار موبخاً لهم ومقرّعاً ، أيهم بذلك الحكم الخارج عن الصواب كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين فيها .

وقال ابن كيسان : الزعيم هنا القائم بالحجة والدعوى . وقال الحسن : الزعيم الرسول .
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء } يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم فيه { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُواْ صادقين } فيما يقولون ، وهو أمر تعجيز ، وجواب الشرط محذوف ، وقيل : المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة .
{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يوم ظرف لقوله : { فَلْيَأْتُواْ } أي : فليأتوا بها يوم يكشف عن ساق ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل مقدّر أي : اذكر يوم يكشف . قال الواحدي : قال المفسرون في قوله : { عَن سَاقٍ } عن شدّة من الأمر . قال ابن قتيبة : أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجدّ فيه شمر عن ساقه ، فيستعار الكشف عن الساق في موضع الشدّة ، وأنشد لدريد بن الصمة :
كميش الإزار خارج نصف ساقه ... صبور على الجلاء طلاع أنجد
وقال : وتأويل الآية يوم يشتدّ الأمر كما يشتدّ ما يحتاج فيه إلى أن يكشف عن ساق . قال أبو عبيدة : إذا اشتدّ الحرب ، والأمر قيل : كشف الأمر عن ساقه ، والأصل فيه من وقع في شيء يحتاج فيه إلى الجدّ شمر عن ساقه ، فاستعير الساق والكشف عن موضع الشدّة ، وهكذا قال غيره من أهل اللغة ، وقد استعملت ذلك العرب في أشعارها ، ومن ذلك قول الشاعر :
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقول آخر :
والخيل تعدو عند وقت الإشراق ... وقامت الحرب بنا على ساق
وقول آخر أيضاً :
قد كشفت عن ساقها فشدّوا ... وجدّت الحرب بكم فجدّوا
وقول آخر أيضاً في سنة :
قد كشفت عن ساقها حمرا ... ء تبرى اللحم عن عراقها
وقيل : ساق الشيء : أصله وقوامه كساق الشجرة ، وساق الإنسان أي : يوم يكشف عن ساق الأمر فتظهر حقائقه ، وقيل : يكشف عن ساق جهنم ، وقيل : عن ساق العرش ، وقيل : عبارة عن القرب ، وقيل : يكشف الربّ سبحانه عن نوره ، وسيأتي في آخر البحث ما هو الحق ، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل . قرأ الجمهور : { يكشف } بالتحية مبنياً للمفعول ، وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن أبي عبلة « تكشف » بالفوقية مبنياً للفاعل أي : الشدّة أو الساعة ، وقرىء بالفوقية مبنياً للمفعول ، وقرىء بالنون ، وقرىء بالفوقية المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر أي : دخل في الكشف { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } قال الواحدي : قال المفسرون : يسجد الخلق كلهم لله سجدة واحدة ، ويبقى الكفار والمنافقون يريدون أن يسجدوا فلا يستطيعون؛ لأن أصلابهم تيبست فلا تلين للسجود .

قال الربيع بن أنس : يكشف عن الغطاء فيقع من كان آمن بالله في الدنيا ، فيسجدون له ، ويدعى الآخرون إلى السجود فلا يستطيعون؛ لأنهم لم يكونوا آمنوا بالله في الدنيا ، وانتصاب { خاشعة أبصارهم } على الحال من ضمير يدعون ، وأبصارهم مرتفع به على الفاعلية ، ونسبة الخشوع إلى الأبصار ، وهو الخضوع والذلة لظهور أثره فيها { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : تغشاهم ذلة شديدة وحسرة وندامة { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود } أي في الدنيا { وَهُمْ سالمون } أي معافون عن العلل متمكنون من الفعل . قال إبراهيم التيمي : يدعون بالأذان والإقامة فيأبون . وقال سعيد بن جبير : يسمعون حيّ على الفلاح ، فلا يجيبون . قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هده الآية إلاّ في الذين يتخلفون عن الجماعات . وقيل : يدعون بالتكليف المتوجه عليهم بالشرع فلا يجيبون ، وجملة : { وَهُمْ سالمون } في محل نصب على الحال من ضمير يدعون .
{ فَذَرْنِى وَمَن يُكَذّبُ بهذا الحديث } أي : خل بيني وبينه ، وكل أمره إليّ فأنا أكفيكه . قال الزجاج : معناه لا يشتغل به قلبك ، كله إليّ فأنا أكفيك أمره . والفاء لترتيب ما بعدها من الأمر على ما قبلها ، و«من» منصوب بالعطف على ضمير المتكلم ، أو على أنه مفعول معه ، والمراد بهذا الحديث القرآن ، قاله السديّ . وقيل : يوم القيامة ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجملة { سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } مستأنفة لبيان كيفية التعذيب لهم المستفاد من قوله : { ذَرْنِى وَمَنْ يُكَذّبُ بهذا الحديث } ، والضمير عائد إلى من باعتبار معناها ، والمعنى : سنأخذهم بالعذاب على غفلة ، ونسوقهم إليه درجة فدرجة حتى نوقعهم فيه من حيث لا يعلمون أن ذلك استدراج؛ لأنهم يظنونه إنعاماً ، ولا يفكرون في عاقبته وما سيلقون في نهايته . قال سفيان الثوري : يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر . وقال الحسن : كم من مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه . والاستدراج ترك المعاجلة ، وأصله النقل من حال إلى حال ، ويقال : استدرج فلان فلاناً أي : استخرج ما عنده قليلاً قليلاً ، ويقال : درّجه إلى كذا واستدرجه يعني : أدناه إلى التدريج ، فتدرج هو .
ثم ذكر سبحانه أنه يمهل الظالمين ، فقال : { وَأُمْلِى لَهُمْ } أي : أمهلهم ليزدادوا إثماً ، وقد مضى تفسير هذا في سورة الأعراف والطور ، وأصل الملاوة المدّة من الدهر ، يقال : أملى الله له أي : أطال له المدّة ، والملا : مقصور الأرض الواسعة ، سميت به ، لامتدادها { إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ } أي : قويّ شديد ، فلا يفوتني شيء ، وسمى سبحانه إحسانه كيداً ، كما سماه استدراجاً لكونه في صورة الكيد باعتبار عاقبته ، ووصفه بالمتانة لقوّة أثره في التسبب للهلاك { أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً } أعاد سبحانه الكلام إلى ما تقدّم من قوله : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء } أي أم تلتمس منهم ثواباً على ما تدعوهم إليه من الإيمان بالله { فَهُم مّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } المغرم : الغرامة أي : فهم من غرامة ذلك الأجر ، ومثقلون أي : يثقل عليهم حمله لشحهم ببذل المال ، فأعرضوا عن إجابتك بهذا السبب ، والاستفهام للتوبيخ والتقريع لهم ، والمعنى : أنك لم تسألهم ذلك ولم تطلبه منهم { أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي : اللوح المحفوظ ، أو كلّ ما غاب عنهم ، فهم من ذلك الغيب يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدلّ على قولهم ، ويخاصمونك بما يكتبونه من ذلك ، ويحكمون لأنفسهم بما يريدون ، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك والامتثال لما تقوله .

{ فاصبر لِحُكْمِ رَبّكَ } أي : لقضائه الذي قد قضاه في سابق علمه ، قيل : والحكم هنا هو إمهالهم وتأخير نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ، وقيل : هو ما حكم به عليه من تبليغ الرسالة ، قيل : وهذا منسوخ بآية السيف { وَلاَ تَكُن كصاحب الحوت } يعني : يونس عليه السلام ، أي : لا تكن مثله في الغضب والضجر والعجلة ، والظرف في قوله : { إِذْ نادى } منصوب بمضاف محذوف أي : لا تكن حالك كحاله وقت ندائه ، وجملة { وَهُوَ مَكْظُومٌ } في محل نصب على الحال من فاعل نادى ، والمكظوم : المملوء غيظاً وكرباً . قال قتادة : إن الله يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم ، ويأمره بالصبر ، ولا يعجل كما عجل صاحب الحوت ، وقد تقدّم بيان قصته في سورة الأنبياء ويونس والصافات ، وكان النداء منه بقوله : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] وقيل : إن المكظوم : المأخوذ بكظمه ، وهو مجرى النفس . قاله المبرّد ، وقيل : هو المحبوس ، والأوّل أولى ، ومنه قول ذى الرّمة :
وأنت من حبّ ميّ مضمر حزنا ... عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم
{ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مّن رَّبّهِ } أي لولا أن تدارك صاحب الحوت نعمة من الله ، وهي توفيقه للتوبة ، فتاب الله عليه { لَنُبِذَ بالعراء } أي : لألقي من بطن الحوت على وجه الأرض الخالية من النبات { وَهُوَ مَذْمُومٌ } أي : يذمّ ويلام بالذنب الذي أذنبه ، ويطرد من الرحمة ، والجملة في محل نصب على الحال من ضمير نبذ . قال الضحاك : النعمة هنا النبوّة . وقال سعيد بن جبير : عبادته التي سلفت . وقال ابن زيد : هي نداؤه بقوله : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] وقيل : مذموم مبعد . وقيل : مذنب . قرأ الجمهور : { تداركه } على صيغة الماضي ، وقرأ الحسن ، وابن هرمز ، والأعمش بتشديد الدال ، والأصل : تتداركه بتاءين مضارعاً فأدغم ، وتكون هذه القراءة على حكاية الحال الماضية ، وقرأ أبيّ ، وابن مسعود ، وابن عباس « تداركته » بتاء التأنيث . { فاجتباه رَبُّهُ } أي : استخلصه واصطفاه ، واختاره للنبوّة { فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } أي : الكاملين في الصلاح ، وعصمه من الذنب .

وقيل : ردّ إليه النبوّة وشفعه في نفسه وفي قومه ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، كما تقدّم .
{ وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم } «إن» هي المخففة من الثقيلة . قرأ الجمهور : { ليزلقونك } بضم الياء من أزلقه أي : أزلّ رجله ، يقال : أزلقه عن موضعه إذا نحاه ، وقرأ نافع ، وأهل المدينة بفتحها من زلق عن موضعه : إذا تنحى . قال الهروي : أي : فيغتالونك بعيونهم ، فيزلقونك عن مقامك الذي أقامك الله فيه عداوة لك ، وقرأ ابن عباس ، وابن مسعود ، والأعمش ، ومجاهد ، وأبو وائل " ليرهقونك " أي : يهلكونك . وقال الكلبي : { يزلقونك } أي : يصرفونك عما أنت عليه من تبليغ الرسالة ، وكذا قال السديّ ، وسعيد بن جبير . وقال النضر بن شميل ، والأخفش : يفتنونك . وقال الحسن ، وابن كيسان : ليقتلونك . قال الزجاج : في الآية مذهب أهل اللغة ، والتأويل أنهم من شدّة إبغاضهم وعداوتهم يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك ، وهذا مستعمل في الكلام ، يقول القائل : نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ، ونظراً يكاد يأكلني . قال ابن قتيبة : ليس يريد الله أنهم يصيبونك بأعينهم ، كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه ، وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن نظراً شديداً بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك ، كما قال الشاعر :
يتعارضون إذا التقوا في مجلس ... نظراً يزيل مواطىء الأقدام
{ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } أي وقت سماعهم للقرآن ، لكراهتهم لذلك أشدّ كراهة ، ولما ظرفية منصوبة بيزلقونك ، وقيل : هي حرف ، وجوابها محذوف لدلالة ما قبله عليه أي : لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ مَّجْنُونٍ } أي ينسبونه إلى الجنون إذا سمعوه يقرأ القرآن ، فردّ الله عليهم بقوله : { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ } والجملة مستأنفة ، أو في محل نصب على الحال من فاعل يقولون : أي : والحال أنه تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه ، أو شرف لهم ، كما قال سبحانه : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] .
وقيل : الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنه مذكر للعالمين ، أو شرف لهم .
وقد أخرج البخاري ، وغيره عن أبي سعيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يكشف ربنا عن ساقه ، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً " وهذا الحديث ثابت من طرق في الصحيحين وغيرهما ، وله ألفاظ في بعضها طول ، وهو حديث مشهور معروف . وأخرج ابن منده عن أبي هريرة في الآية قال : يكشف الله عزّ وجلّ عن ساقه . وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن منده عن ابن مسعود في الآية قال : يكشف عن ساقه تبارك وتعالى . وأخرج أبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء ، والصفات ، وضعفه ، وابن عساكر عن أبي موسى عن النبيّ في الآية قال :

« عن نور عظيم ، فيخرّون له سجداً » وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن منده ، والبيهقي عن إبراهيم النخعي عن ابن عباس في الآية قال : يكشف عن أمر عظيم ، ثم قال : قد قامت الحرب على ساق . قال : وقال ابن مسعود : يكشف عن ساقه فيسجد كلّ مؤمن ، ويقسو ظهر الكافر فيصير عظماً واحداً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب ، أما سمعتم قول الشاعر :
وقامت الحرب بنا على ساق ... قال ابن عباس : هذا يوم كرب شديد . روي عنه نحو هذا من طرق أخرى ، وقد أغنانا الله سبحانه في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله ، كما عرفت ، وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً ، فليس كمثله شيء .
دعوا كل قول عند قول محمد ... فما آمن في دينه كمخاطر
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السجود وَهُمْ سالمون } قال : هم الكفار يدعون في الدنيا وهم آمنون ، فاليوم يدعون وهم خائفون . وأخرج البيهقي في الشعب عنه في الآية قال : الرجل يسمع الأذان فلا يجيب الصلاة . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه أيضاً في قوله : { لَيُزْلِقُونَكَ بأبصارهم } قال : ينفذونك بأبصارهم .

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)

قوله : { الحاقة } هي : القيامة؛ لأن الأمر يحق فيها ، وهي تحق في نفسها من غير شك . قال الأزهري : يقال : حاققته ، فحققته أحقه : غالبته فغلبته أغلبه . فالقيامة حاقة؛ لأنها تحاق كل محاق في دين الله بالباطل ، وتخصم كل مخاصم . وقال في الصحاح : حاقه أي : خاصمه في صغار الأشياء ، ويقال : ماله فيها حقّ ولا حقاق ولا خصومة ، والتحاقّ : التخاصم ، والحاقة والحقة والحقّ ثلاث لغات بمعنى . قال الواحدي : هي القيامة في قول كل المفسرين ، وسميت بذلك لأنها ذات الحواقّ من الأمور ، وهي الصادقة الواجبة الصدق ، وجميع أحكام القيامة صادقة واجبة الوقوع والوجود . قال الكسائي ، والمؤرج : الحاقة يوم الحق ، وقيل : سميت بذلك لأن كل إنسان فيها حقيق بأن يجزى بعمله ، وقيل : سميت بذلك لأنها أحقت لقوم النار ، وأحقت لقوم الجنة ، وهي مبتدأ ، وخبرها قوله : { مَا الحاقة } على أن ما الاستفهامية مبتدأ ثان ، وخبره الحاقة ، والجملة خبر للمبتدأ الأول ، والمعنى : أيّ شيء هي في حالها أو صفاتها ، وقيل : إن ما الاستفهامية خبر لما بعدها ، وهذه الجملة ، وإن كان لفظها لفظ الاستفهام ، فمعناها التعظيم والتفخيم لشأنها ، كما تقول : زيد ما زيد ، وقد قدّمنا تحقيق هذا المعنى في سورة الواقعة .
ثم زاد سبحانه في تفخيم أمرها وتفظيع شأنها وتهويل حالها ، فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحاقة } أي : أيّ شيء أعلمك ما هي؟ أي : كأنك لست تعلمها إذا لم تعاينها وتشاهد ما فيها من الأهوال ، فكأنها خارجة عن دائرة علم المخلوقين . قال يحيى بن سلام : بلغني أن كل شيء في القرآن وما أدراك ، فقد أدراه إياه وعلمه ، وكلّ شيء قال فيه : وما يدريك ، فإنه أخبره به . وما مبتدأ ، وخبره أدراك ، و { ما الحاقة } جملة من مبتدأ ، وخبر محلها النصب بإسقاط الخافض؛ لأن أدري يتعدّى إلى المفعول الثاني بالباء ، كما في قوله : { وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ } [ يونس : 16 ] فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني ، وبدون الهمزة يتعدى إلى مفعول واحد بالباء نحو دريت بكذا ، وإن كان بمعنى العلم تعدى إلى مفعولين ، وجملة ، وما أدراك معطوفة على جملة : { ما الحاقة } . { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة } أي : بالقيامة ، وسميت بذلك لأنها تقرع الناس بأهوالها . وقال المبرّد : عنى بالقارعة القرآن الذي نزل في الدنيا على أنبيائهم ، وكانوا يخوّفونهم بذلك فيكذبونهم . وقيل : القارعة مأخوذة من القرعة؛ لأنها ترفع أقواماً وتحط آخرين ، والأوّل أولى ، ويكون وضع القارعة موضع ضمير الحاقة للدلالة على عظيم هولها وفظاعة حالها ، والجملة مستأنفة لبيان بعض أحوال الحاقة .
{ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } ثمود : هم قوم صالح ، وقد تقدّم بيان هذا في غير موضع ، وبيان منازلهم ، وأين كانت ، والطاغية الصيحة التي جاوزت الحدّ ، وقيل : بطغيانهم وكفرهم ، واصل الطغيان مجاوزة الحدّ .

{ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } عاد : هم قوم هود ، وقد تقدّم بيان هذا ، وذكر منازلهم ، وأين كانت في غير موضع ، والريح الصرصر هي الشديدة البرد ، مأخوذ من الصرّ ، وهو البرد . وقيل : هي الشديدة الصوت . وقال مجاهد : الشديدة السموم ، والعاتية التي عتت عن الطاعة ، فكأنها عتت على خزانها ، فلم تطعهم ولم يقدروا على ردّها لشدّة هبوبها ، أو عتت على عاد ، فلم يقدروا على ردّها بل أهلكتهم . { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ } هذه الجملة مستأنفة لبيان كيفية إهلاكهم ، ومعنى { سَخَّرَهَا } سلطها ، كذا قال مقاتل ، وقيل : أرسلها . وقال الزجاج : أقامها عليهم كما شاء ، والتسخير : استعمال الشيء بالاقتدار ، ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة لريح ، وأن تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة ، أو من الضمير في عاتية { وثمانية أَيَّامٍ } معطوف على { سَبْعَ لَيَالٍ } ، وانتصاب { حُسُوماً } على الحال أي : ذات حسوم ، أو على المصدر بفعل مقدّر أي : تحسمهم حسوماً ، أو على أنه مفعول به ، والحسوم التتابع ، فإذا تتابع الشيء ولم ينقطع أوّله عن آخره قيل له الحسوم . قال الزجاج : الذي توجبه اللغة في معنى قوله { حُسُوماً } أي : تحسمهم حسوماً تفنيهم وتذهبهم . قال النضر بن شميل : حسمتهم قطعتهم وأهلكتهم . وقال الفراء : الحسوم الاتباع من حسم الداء ، وهو الكيّ؛ لأن صاحبه يكوى بالمكواة ثم يتابع ذلك عليه ، ومنه قول أبي دؤاد :
يفرق بينهم زمن طويل ... تتابع فيه أعواماً حسوماً
وقال المبرّد : هو من قولك حسمت الشيء : إذا قطعته وفصلته عن غيره . وقيل : الحسم الاستئصال ، ويقال للسيف : حسام ، لأنه يحسم العدو عما يريده من بلوغ عداوته ، والمعنى : أنها حسمتهم ، أو قطعتهم وأذهبتهم ، ومنه قول الشاعر :
فأرسلت ريحاً دبوراً عقيما ... فدارت عليهم فكانت حسوما
قال ابن زيد : أي : حسمتهم فلم تبق منهم أحداً . وروي عنه أنه قال : حسمت الأيام والليالي حتى استوفتها؛ لأنها بدأت بطلوع الشمس من أوّل يوم ، وانقطعت بغروب الشمس من آخر يوم . وقال الليث : الحسوم هي الشؤم أي : تحسم الخير عن أهلها ، كقوله : { فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] .
واختلف في أوّلها . فقيل : غداة الأحد . وقيل : غداة الجمعة . وقيل : غداة الأربعاء . قال وهب : وهذه الأيام هي التي تسميها العرب أيام العجوز ، كان فيها برد شديد وريح شديدة ، وكان أوّلها يوم الأربعاء ، وآخرها يوم الأربعاء { فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى } الخطاب لكلّ من يصلح له على تقدير أنه لو كان حاضراً حينئذٍ لرأى ذلك ، والضمير في : { فيها } يعود إلى الليالي والأيام . وقيل : إلى مهاب الريح ، والأوّل أولى . وصرعى جمع صريع يعني : موتى { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } أي : أصول نخل ساقطة أو بالية . وقيل : خالية لا جوف فيها ، والنخل يذكر ويؤنث ، ومثله قوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ }

[ القمر : 20 ] وقد تقدّم تفسيره ، وهو إخبار عن عظم أجسامهم . قال يحيى بن سلام : إنما قال خاوية؛ لأن أبدانهم خلت من أرواحهم مثل النخل الخاوية { فَهَلْ ترى لَهُم مّن بَاقِيَةٍ } أي : من فرقة باقية ، أو من نفس باقية ، أو من بقية على أن باقية مصدر كالعاقبة والعافية . قال ابن جريج : أقاموا سبع ليالٍ وثمانية أيام أحياء في عذاب الريح ، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا ، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر .
{ وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } أي : من الأمم الكافرة . قرأ الجمهور : { قبله } بفتح القاف وسكون الباء أي : ومن تقدّمه من القرون الماضية والأمم الخالية ، وقرأ أبو عمرو ، والكسائي بكسر القاف وفتح الباء أي : ومن هو في جهته من أتباعه ، واختار أبو حاتم ، وأبو عبيد القراءة الثانية لقراءة ابن مسعود وأبيّ ومن معه ، ولقراءة أبي موسى ومن يلقاه { والمؤتفكات } قرأ الجمهور : { المؤتفكات } بالجمع ، وهي قرى قوم لوط ، وقرأ الحسن ، والجحدري : « المؤتفكة » بالإفراد ، واللام للجنس ، فهي في معنى الجمع ، والمعنى : وجاءت المؤتفكات { بِالْخَاطِئَةِ } أي : بالفعلة الخاطئة ، أو الخطأ على أنها مصدر . والمراد : أنها جاءت بالشرك والمعاصي . قال مجاهد : بالخطايا ، وقال الجرجاني : بالخطأ العظيم : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبّهِمْ } أي : فعصت كلّ أمة رسولها المرسل إليها . قال الكلبي : هو موسى ، وقيل : لوط لأنه أقرب ، قيل : ورسول هنا بمعنى رسالة ، ومنه قول الشاعر :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول
أي : برسالة { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } أي : أخذهم الله أخذة نامية زائدة على أخذات الأمم ، والمعنى : أنها بالغة في الشدّة إلى الغاية ، يقال : ربى الشيء يربو : إذا زاد وتضاعف . قال الزجاج : تزيد على الأخذات . قال مجاهد : شديدة : { إِنَّا لَمَّا طغى الماء } أي : تجاوز حدّه في الارتفاع والعلوّ ، وذلك في زمن نوح لما أصرّ قومه على الكفر وكذبوه . وقيل : طغى على خزانه من الملائكة غضباً لربه ، فلم يقدروا على حبسه . قال قتادة : زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً { حملناكم فِى الجارية } أي : في أصلاب آبائكم ، أو حملناهم وحملناكم في أصلابهم تغليباً للمخاطبين على الغائبين . والجارية سفينة نوح ، وسميت جارية لأنها تجري في الماء ، ومحل { في الجارية } النصب على الحال أي : رفعناكم فوق الماء حال كونكم في السفينة ، ولما كان المقصود من ذكر قصص هذه الأمم ، وذكر ما حلّ بهم من العذاب زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول قال : { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } أي : لنجعل هذه الأمور المذكورة لكم يا أمة محمد عبرة وموعظة تستدلون بها على عظيم قدرة الله وبديع صنعه ، أو لنجعل هذه الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لكم تذكرة { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعية } أي : تحفظها بعد سماعها أذن حافظة لما سمعت .

قال الزجاج : يقال : أوعيت كذا أي : حفظته في نفسي أعيه وعياً ، ووعيت العلم ، ووعيت ما قلته كله بمعنى ، وأوعيت المتاع في الوعاء ، ويقال لكل ما وعيته في غير نفسك : أوعيته بالألف ، ولما حفظته في نفسك وعيته بغير ألف . قال قتادة في تفسير الآية : أذن سمعت وعقلت ما سمعت . قال الفراء : المعنى : لتحفظها كل أذن عظة لمن يأتي بعد . قرأ الجمهور : { تعيها } بكسر العين . وقرأ طلحة بن مصرّف ، وحميد الأعرج ، وأبو عمرو في رواية عنه بإسكان العين تشبيهاً لهذه الكلمة برحم وشهد وإن لم تكن من ذلك . قال الرازي : وروي عن ابن كثير إسكان العين ، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة كلمة واحدة ، فخفف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف . انتهى . والأولى أن يكون هذا من باب إجراء الوصل مجرى الوقف ، كما في قراءة من قرأ : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] بسكون الراء . قال القرطبي : واختلفت القراءة فيها عن عاصم ، وابن كثير : يعني : تعيها .
{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصور نَفْخَةٌ واحدة } هذا شروع في بيان الحاقة ، وكيف وقوعها بعد بيان شأنها بإهلاك المكذبين . قال عطاء : يريد النفخة الأولى . وقال الكلبي ، ومقاتل يريد النفخة الأخيرة . قرأ الجمهور : { نفخة واحدة } بالرفع فيهما على أن نفخة مرتفعة على النيابة ، وواحدة تأكيد لها ، وحسن تذكير الفعل لوقوع الفصل . وقرأ أبو السماك بنصبهما على أن النائب هو الجار والمجرور . قال الزجاج : قوله : { فِى الصور } يقوم مقام ما لم يسمّ فاعله { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال } أي : رفعت من أماكنها وقلعت عن مقارّها بالقدرة الإلهية . قرأ الجمهور : { حملت } بتخفيف الميم . وقرأ الأعمش ، وابن أبي عبلة ، وابن مقسم ، وابن عامر في رواية عنه بتشديدها للتكثير أو للتعدية { فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } أي : فكسرتا كسرة واحدة لا زيادة عليها ، أو ضربتا ضربة واحدة بعضهما ببعض حتى صارتا كثيباً مهيلاً وهباءً منبثاً . قال الفراء : ولم يقل فدككن لأنه جعل الجبال كلها كالجملة الواحدة ، ومثله قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ أَنَّ السموات والأرض كَانَتَا رَتْقاً ففتقناهما } [ الأنبياء : 30 ] . وقيل : دكتا بسطتا بسطة واحدة ، ومنه اندك سنام البعير : إذا انفرش على ظهره . { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة } أي : قامت القيامة . { وانشقت السماء فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } أي : انشقت بنزول ما فيها من الملائكة فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية . قال الزجاج : يقال لكل ما ضعف جدّاً : قد وهي فهو واهٍ ، وقال الفرّاء : وهيها تشققها .
{ والملك على أَرْجَائِهَا } أي : جنس الملك على أطرافها وجوانبها ، وهي جمع رجى مقصور ، وتثنيته رجوان مثل قفا وقفوان ، والمعنى : أنها لما تشققت السماء ، وهي مساكنهم لجئوا إلى أطرافها . قال الضحاك : إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت ، وتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الربّ ، فينزلون إلى الأرض ويحيطون بالأرض ومن عليها .

وقال سعيد بن جبير : المعنى ، والملك على حافات الدنيا أي : ينزلون إلى الأرض ، وقيل : إذا صارت السماء قطعاً يقف الملائكة على تلك القطع التي ليست متشققة في أنفسها { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية } أي : يحمله فوق رءوسهم يوم القيامة ثمانية أملاك . وقيل : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلاّ الله عزّ وجلّ . وقيل : ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة ، قاله الكلبي وغيره . { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } أي : تعرض العباد على الله لحسابهم ، ومثله { وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا } [ الكهف : 48 ] وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالماً به وإنما عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال ، وجملة : { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } في محل نصب على الحال من ضمير تعرضون ، أي : تعرضون حال كونه لا يخفى على الله سبحانه من ذواتكم أو أقوالكم وأفعالكم خافية كائنة ما كانت ، والتقدير : أيّ نفس خافية أو فعلة خافية .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : { الحاقة } من أسماء القيامة . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عنه قال : ما أرسل الله شيئًا من ريح إلاّ بمكيال ، ولا قطرة من ماء إلاّ بمكيال إلاّ يوم نوح ويوم عاد . فأما يوم نوح فإن الماء طغى على خزانه ، فلم يكن لهم عليه سبيل ، ثم قرأ : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء } وأما يوم عاد فإن الريح عتت على خزانها فلم يكن لهم عليها سبيل ، ثم قرأ : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } . وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب نحوه . وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر مرفوعاً : « قال ما أمر الخزّان على عاد إلاّ مثل موضع الخاتم من الريح ، فعتت على الخزّان ، فخرجت من نواحي الأبواب » ، فذلك قوله : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } قال : « عتوّها عتت على الخزّان » . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } قال : الغالبة .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود في قوله : { حُسُوماً } قال : متتابعات . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير من طرق عن ابن عباس في قوله : { حُسُوماً } قال : تباعاً ، وفي لفظ : متتابعات . وأخرج ابن المنذر عنه : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } قال : هي أصولها ، وفي قوله : { خَاوِيَةٍ } قال : خربة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عنه أيضاً في قوله : { إِنَّا لَمَّا طغى الماء } قال : طغى على خزانه فنزل ، ولم ينزل من السماء ماء إلاّ بمكيال ، أو ميزان إلاّ زمن نوح ، فإنه طغى على خزانه فنزل بغير كيل ولا وزن .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية من طريق مكحول عن عليّ بن أبي طالب في قوله : { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعية } قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ » فقال عليّ : ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فنسيته . قال ابن كثير : وهو حديث مرسل . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والواحدي ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وابن النجار عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعليّ : « إن الله أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلمك ، وأن تعي ، وحقّ لك أن تعي ، فنزلت هذه الآية { وَتَعِيَهَا أُذُنٌ واعية } فأنت أذن واعيةً ، يا عليّ » قال ابن كثير : ولا يصح . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عمر في قوله : { أُذُنٌ واعية } قال : أذن عقلت عن الله .
وأخرج الحاكم ، والبيهقي في البعث عن أبي بن كعب في قوله : { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة } قال : تصيران غبرة على وجوه الكفار لا على وجوه المؤمنين ، وذلك قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } [ عبس : 40 41 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } قال : متخرقة . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { والملك على أَرْجَائِهَا } قال : على حافاتها على ما لم يهيء منها . وأخرج عبد بن حميد ، وعثمان بن سعيد الدارمي في الردّ على الجهمية ، وأبو يعلى ، وابن المنذر ، وابن خزيمة ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والخطيب في ( تالي التلخيص ) عنه أيضاً في قوله : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثمانية } قال : ثمانية أملاك على صورة الأوعال . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً من طرق في الآية قال : يقال : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم إلاّ الله ، ويقال : ثمانية أملاك رءوسهم عند العرش في السماء السابعة ، وأقدامهم في الأرض السفلى ، ولهم قرون كقرون الوعلة ، ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمائة عام . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن أبي موسى قال : قال رسول الله : « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله » وأخرج ابن جرير ، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود نحوه .

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

لما ذكر سبحانه العرض ذكر ما يكون فيه ، فقال : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِيَمِينِهِ } أي : أعطي كتابه الذي كتبته الحفظة عليه من أعماله { فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقرؤا كتابيه } يقول ذلك سروراً وابتهاجاً . قال ابن السكيت ، والكسائي : العرب تقول : ها يا رجل ، وللاثنين هاؤما يا رجلان ، وللجمع هاؤم يا رجال . قيل : والأصل هاؤكم ، فأبدلت الهمزة من الكاف ، قال ابن زيد : ومعنى { هاؤم } : تعالوا . وقال مقاتل : هلم . وقيل : خذوا؛ والذي صرح به النحاة أنها بمعنى خذ ، يقول : ها بمعنى خذ ، وهاؤما بمعنى خذا ، وهاؤم بمعنى خذوا ، فهي اسم فعل ، وقد يكون فعلاً صريحاً لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها ، وفيها ثلاث لغات ، كما هو معروف في علم الإعراب ، وقوله : { كتابيه } معمول لقوله : { اقرءوا } لأنه أقرب الفعلين ، ومعمول { هَاؤُمُ } محذوف يدل عليه معمول { اقرءوا } والتقدير : هاؤم كتابيه اقرءوا كتابيه ، والهاء في كتابيه وحسابيه وسلطانيه وماليه ، هي هاء السكت . قرأ الجمهور في هذه بإثبات الهاء وقفاً ووصلاً مطابقة لرسم المصحف ، ولولا ذلك لحذفت في الوصل ، كما هو شأن هاء السكت ، واختار أبو عبيد أن يتعمد الوقف عليها ليوافق اللغة في إلحاق الهاء في السكت ، ويوافق الخط ، يعني : خط المصحف . قرأ ابن محيصن ، وابن أبي إسحاق ، وحميد ، ومجاهد ، والأعمش ، ويعقوب بحذفها وصلاً ، وإثباتها وقفاً في جميع هذه الألفاظ . ورويت هذه القراءة عن حمزة ، واختار أبو حاتم هذه القراءة اتباعاً للغة . وروي عن ابن محيصن أنه قرأ بحذفها وصلاً ووقفاً .
{ إِنّى ظَنَنتُ أَنّى ملاق حِسَابِيَهْ } أي : علمت وأيقنت في الدنيا أني أحاسب في الآخرة . وقيل المعنى : إني ظننت أن يأخذني الله بسيئاتي ، فقد تفضل عليّ بعفوه ولم يؤاخذني . قال الضحاك : كل ظنّ في القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شك . قال مجاهد : ظن الآخرة يقين وظنّ الدنيا شك . قال الحسن في هذه الآية : إن المؤمن أحسن الظنّ بربه فأحسن العمل للآخرة ، وإن الكافر أساء الظنّ بربه فأساء العمل . قيل : والتعبير بالظنّ هنا للإشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا تنفك عنها العلوم النظرية غالباً { فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي : في عيشة مرضية لا مكروهة ، أو ذات رضى أي : يرضى بها صاحبها . قال أبو عبيدة ، والفراء : راضية أي : مرضية كقوله : { مَّاء دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مدفوق ، فقد أسند إلى العيشة ما هو لصاحبها ، فكان ذلك من المجاز في الإسناد { فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي : مرتفعة المكان لأنها في السماء ، أو مرتفعة المنازل ، أو عظيمة في النفوس . { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } القطوف : جمع قطف بكسر القاف ، ما يقطف من الثمار ، والقطف بالفتح المصدر ، والقطاف بالفتح والكسر وقت القطف ، والمعنى : أن ثمارها قريبة ممن يتناولها من قائم أو قاعد أو مضطجع .

{ كُلُواْ واشربوا } أي : يقال لهم : كلوا واشربوا في الجنة { هَنِيئَاً } أي : أكلاً وشرباً هنيئاً لا تكدير فيه ولا تنغيص { بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأيام الخالية } أي : بسبب ما قدمتم من الأعمال الصالحة في الدنيا . وقال مجاهد : هي أيام الصيام .
{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كتابه بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ } حزناً وكرباً لما رأى فيه من سيئاته { فَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُوتَ كتابيه } أي : لم أعط كتابيه { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } أي : لم أدر أيّ شيء حسابي . لأن كله عليه . { ياليتها كَانَتِ القاضية } أي : ليت الموتة التي متّها كانت القاضية ، ولم أحي بعدها ، ومعنى القاضية : القاطعة للحياة ، والمعنى : أنه تمنى دوام الموت ، وعدم البعث لما شاهد من سوء عمله وما يصير إليه من العذاب ، فالضمير في ليتها يعود إلى الموتة التي قد كان ماتها ، وإن لم تكن مذكورة؛ لأنها لظهورها كانت كالمذكورة . قال قتادة : تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء عنده أكره منه ، وشرّ من الموت ما يطلب منه الموت . وقيل : الضمير يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب ، والمعنى : يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت عليّ . { مَا أغنى عَنّى مَالِيَهْ } أي : لم يدفع عني من عذاب الله شيئًا على أن ما نافية ، أو استفهامية ، والمعنى : أيّ شيء أغنى عني مالي . { هَلَكَ عَنّى سلطانيه } أي : هلكت عني حجتي وضلت عني ، كذا قال مجاهد ، وعكرمة ، والسديّ ، والضحاك . وقال ابن زيد : يعني : سلطاني الذي في الدنيا ، وهو الملك ، وقيل : تسلطي على جوارحي . قال مقاتل : يعني : حين شهدت عليه الجوارح بالشرك ، وحينئذٍ يقول الله عزّ وجلّ : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } أي : اجمعوا يده إلى عنقه بالأغلال . { ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } أي : أدخلوه الجحيم ، والمعنى : لا تصلوه إلاّ الجحيم ، وهي النار العظيمة { ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ } السلسلة حلق منتظمة ، وذرعها طولها . قال الحسن : الله أعلم بأيّ ذراع هو . قال نوف الشامي : كل ذراع سبعون باعاً كل باع أبعد مما بينك وبين مكة ، وكان نوف في رحبة الكوفة . قال مقاتل : لو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص ، ومعنى { فَاْسْلُكُوهُ } : فاجعلوه فيها ، يقال : سلكته الطريق إذا أدخلته فيه . قال سفيان : بلغنا أنها تدخل في دبره حتى تخرج من فيه . قال الكلبي : تسلك سلك الخيط في اللؤلؤ . وقال سويد بن أبي نجيح : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، وتقديم السلسلة للدلالة على الاختصاص كتقديم الجحيم ، وجملة : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم } تعليل لما قبلها . { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } أي : لا يحث على إطعام المسكين من ماله ، أو لا يحث الغير على إطعامه ، ووضع الطعام موضع الإطعام ، كما يوضع العطاء موضع الإعطاء ، كما قال الشاعر :

أكفراً بعد ردّ موتي عني ... وبعد عطائك المال الرعابا
أي : بعد إعطائك ، ويجوز أن يكون الطعام على معناه غير موضوع موضع المصدر ، والمعنى : أنه لا يحث نفسه أو غيره على بذل نفس طعام المسكين ، وفي جعل هذا قريناً لترك الإيمان بالله من الترغيب في التصدّق على المساكين وسدّ فاقتهم ، وحثّ النفس والناس على ذلك ما يدلّ أبلغ دلالة ، ويفيد أكمل فائدة على أن منعهم من أعظم الجرائم وأشدّ المآثم . { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هاهنا حَمِيمٍ } أي : ليس له يوم القيامة في الآخرة قريب ينفعه أو يشفع له؛ لأنه يوم يفرّ فيه القريب من قريبه ، ويهرب عنده الحبيب من حبيبه . { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } أي : وليس له طعام يأكله إلاّ من صديد أهل النار ، وما ينغسل من أبدانهم من القيح والصديد ، وغسلين فعلين من الغسل . وقال الضحاك ، والربيع بن أنس : هو شجر يأكله أهل النار . وقال قتادة : هو شرّ الطعام . وقال ابن زيد : لا يعلم ما هو ولا ما الزقوم إلاّ الله تعالى . وقال سبحانه في موضع آخر { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] ، فيجوز أن يكون الضريع هو الغسلين . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى فليس له اليوم ها هنا حميم إلاّ من غسلين على أن الحميم هو الماء الحار . { وَلاَ طَعَامٌ } أي : ليس لهم طعام يأكلونه ، ولا ملجىء لهذا التقديم والتأخير ، وجملة : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } صفة لغسلين ، والمراد أصحاب الخطايا وأرباب الذنوب . قال الكلبي : المراد الشرك . قرأ الجمهور : { الخاطئون } مهموزاً ، وهو اسم فاعل من خطىء إذا فعل غير الصواب متعمداً ، والمخطىء من يفعله غير متعمد . وقرأ الزهري ، وطلحة بن مصرف ، والحسن : " الخاطيون " بياء مضمومة بدل الهمزة . وقرأ نافع في رواية عنه بضم الطاء بدون همزة .
{ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } هذا ردّ لكلام المشركين كأنه قال : ليس الأمر كما تقولون ، ولا زائدة ، والتقدير : فأقسم بما تشاهدونه وما لا تشاهدونه . قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر ، فيدخل في هذا جميع المخلوقات . وقيل : إن «لا» ليست زائدة ، بل هي لنفي القسم ، أي : لا أحتاج إلى قسم لوضوح الحقّ في ذلك ، والأوّل أولى . { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي : إن القرآن لتلاوة رسول كريم ، على أن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، أو إنه لقول يبلغه رسول كريم . قال الحسن ، والكلبي ، ومقاتل : يريد به جبريل ، دليله قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ }

[ التكوير : 19 20 ] وعلى كل حال ، فالقرآن ليس من قول محمد ، ولا من قول جبريل عليه السلام ، بل هو قول الله ، فلا بدّ من تقدير التلاوة أو التبليغ . { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } كما تزعمون؛ لأنه ليس من أصناف الشعر ولا مشابه لها { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } أي : إيماناً قليلاً تؤمنون ، وتصديقاً يسيراً تصدقون ، و « ما » زائدة { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ } كما تزعمون ، فإن الكهانة أمر آخر لا جامع بينها وبين هذا { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أي : تذكراً قليلاً ، أو زماناً قليلاً تتذكرون ، وما زائدة ، والقلة في الموضعين بمعنى النفي أي : لا تؤمنون ولا تتذكرون أصلاً { تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين } قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو تنزيل . وقرأ أبو السماك بالنصب على المصدرية بإضمار فعل أي : نزل تنزيلاً ، والمعنى : إنه لقول رسول كريم ، وهو تنزيل من ربّ العالمين على لسانه .
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل } أي : ولو تقوّل ذلك الرسول ، وهو محمد أو جبريل على ما تقدّم ، والتقوّل تكلف القول ، والمعنى : أو تكلف ذلك وجاء به من جهة نفسه ، وسمي الافتراء تقوّلاً لأنه قول متكلف ، وكلّ كاذب يتكلف ما يكذب به . قرأ الجمهور : { تقوّل } مبنياً للفاعل . وقرىء مبنياً للمفعول مع رفع بعض . وقرأ ابن ذكوان « ولو يقول » على صيغة المضارع ، والأقاويل جمع أقوال ، والأقوال جمع قول . { لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } أي : بيده اليمين . قال ابن جرير : إن هذا الكلام خرج مخرج الإذلال على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب . وقال الفراء ، والمبرد ، والزجاج ، وابن قتيبة : { لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } أي : بالقوّة والقدرة . قال ابن قتيبة : وإنما أقام اليمين مقام القوّة؛ لأن قوّة كل شيء في ميامنه ، ومن هذا قول الشاعر :
إذا ما راية نصبت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وقول الآخر :
ولما رأيت الشمس أشرق نورها ... تناولت منها حاجتي بيميني
{ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } الوتين عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب ، وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه . قال الواحدي : والمفسرون يقولون : إنه نياط القلب . انتهى . ومن هذا قول الشاعر :
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
{ فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين } أي : ليس منكم أحد يحجزنا عنه ويدفعنا منه ، فكيف يتكلف الكذب على الله لأجلكم ، مع علمه أنه لو تكلف ذلك لعاقبناه ، ولا تقدرون على الدفع منه ، والحجز : المنع { وحاجزين } صفة لأحد ، أو خبر لما الحجازية . { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } أي : إن القرآن لتذكرة لأهل التقوى لأنهم المنتفعون به . { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذّبِينَ } أي : أن بعضكم يكذب بالقرآن ، فنحن نجازيهم على ذلك ، وفي هذا وعيد شديد { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين } أي : وإن القرآن لحسرة وندامة على الكافرين يوم القيامة عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين ، وقيل : هي حسرتهم في الدنيا حين لم يقدروا على معارضته عند تحدّيهم بأن يأتوا بسورة من مثله .

{ وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين } أي : وإن القرآن لكونه من عند الله حقّ ، فلا يحول حوله ريب ولا يتطرّق إليه شك . { فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم } أي : نزهه عما لا يليق به . وقيل : فصلّ لربك ، والأوّل أولى .
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إِنّى ظَنَنتُ } قال : أيقنت . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } قال : قريبة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن البراء في الآية قال : يتناول الرجل من فواكهها وهو قائم . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله : { فَاْسْلُكُوهُ } قال : السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه ، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ، ثم يشوى . وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن أبي الدرداء قال : إن لله سلسلة لم تزل تغلي منها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تلقى في أعناق الناس ، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم ، فحضي على طعام المسكين يا أمّ الدرداء . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : الغسلين الدّم والماء والصديد الذي يسيل من لحومهم . وأخرج الحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري : عن النبيّ قال : « لو أن دلواً من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا » وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : الغسلين اسم طعام من أطعمة أهل النار . وأخرج ابن جرير عنه { فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } يقول : بما ترون وما لا ترون .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } قال : بقدرة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه قال : { الوتين } عرق القلب . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضاً قال : { الوتين } نياط القلب . وأخرج ابن المنذر ، والحاكم ، وصححه عنه أيضاً قال : هو حبل القلب الذي في الظهر .

سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)

قوله : { سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قرأ الجمهور : { سأل } بالهمزة ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، بغير همزة ، فمن همز ، فهو من السؤال وهي اللغة الفاشية ، وهو إما مضمن معنى الدعاء ، فلذلك عدّي بالباء ، كما تقول دعوت كذا ، والمعنى : دعا داع على نفسه بعذاب واقع ، ويجوز أن يكون على أصله ، والباء بمعنى عن كقوله : { فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] ومن لم يهمز ، فهو إما من باب التخفيف بقلب الهمزة ألفاً ، فيكون معناها معنى قراءة من همز ، أو يكون من السيلان ، والمعنى : سال وادٍ في جهنم ، يقال له : سائل ، كما قال زيد بن ثابت . ويؤيده قراءة ابن عباس ( سال سيل ) وقيل : إن سال بمعنى التمس ، والمعنى : التمس ملتمس عذاباً للكفار ، فتكون الباء زائدة كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنون : 20 ] والوجه الأوّل هو الظاهر . وقال الأخفش : يقال : خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . قال أبو عليّ الفارسي : وإذا كان من السؤال ، فأصله أن يتعدّى إلى مفعولين ، ويجوز الاقتصار على أحدهما ويتعدى إليه بحرف الجر ، وهذا السائل هو النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] وهو ممن قتل يوم بدر صبراً . وقيل : هو أبو جهل ، وقيل : هو الحارث بن النعمان الفهري ، والأوّل أولى لما سيأتي . وقرأ أبيّ ، وابن مسعود « سال سال » مثل مال مال على أن الأصل سائل ، فحذفت العين تخفيفاً ، كما قيل : شاك في شائك السلاح . وقيل : السائل هو نوح عليه السلام ، سأل العذاب للكافرين ، وقيل : هو رسول الله دعا بالعقاب عليهم ، وقوله : { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } يعني : إما في الدنيا كيوم بدر ، أو في الآخرة .
وقوله : { للكافرين } صفة أخرى لعذاب أي : كائن للكافرين ، أو متعلق بواقع ، واللام للعلة ، أو يسأل على تضمينه معنى دعا ، أو في محل رفع على تقدير : هو للكافرين ، أو تكون اللام بمعنى على ، ويؤيده قراءة أبيّ : « بعذاب واقع على الكافرين » . قال الفرّاء : التقدير بعذاب للكافرين واقع بهم ، فالواقع من نعت العذاب ، وجملة : { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } صفة أخرى لعذاب ، أو حال منه ، أو مستأنفة ، والمعنى : أنه لا يدفع ذلك العذاب الواقع به أحد ، وقوله : { مِنَ الله } متعلق بواقع أي : واقع من جهته سبحانه ، أو بدافع ، أي : ليس له دافع من جهته تعالى { ذِي المعارج } أي : ذي الدرجات التي تصعد فيها الملائكة ، وقال الكلبي : هي السموات ، وسماها معارج لأن الملائكة تعرج فيها . وقيل : المعارج مراتب نعم الله سبحانه على الخلق . وقيل : المعارج العظمة . وقيل : هي الغرف . وقرأ ابن مسعود « ذي المعاريج » بزيادة الياء ، يقال : معارج ومعاريج مثل مفاتح ومفاتيح .

{ تَعْرُجُ الملئكة والروح إِلَيْهِ } أي : تصعد في تلك المعارج التي جعلها الله لهم ، وقرأ الجمهور : { تعرج } بالفوقية . وقرأ ابن مسعود ، وأصحابه ، والكسائي ، والسلمي بالتحتية ، والروح جبريل ، أفرد بالذكر بعد الملائكة لشرفه ، ويؤيد هذا قوله : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] ، وقيل : الروح هنا ملك آخر عظيم غير جبريل . وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله سبحانه كهيئة الناس ، وليسوا من الناس . وقال قبيصة بن ذؤيب : إنه روح الميت حين تقبض ، والأوّل أولى . ومعنى { إِلَيْهِ } : أي : إلى المكان الذي ينتهون إليه . وقيل : إلى عرشه . وقيل : هو كقول إبراهيم : { إِنّى ذَاهِبٌ إلى رَبّى } [ الصافات : 99 ] أي : إلى حيث أمرني ربي { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال ابن إسحاق ، والكلبي ، ووهب بن منبه : أي عرج الملائكة إلى المكان الذي هو محلها في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة ، وبه قال مجاهد . وقال عكرمة : وروي عن مجاهد أن مدة عمر الدنيا هذا المقدار لا يدري أحدٌ كم مضى ، ولا كم بقي ، ولا يعلم ذلك إلاّ الله . وقال قتادة ، والكلبي ، ومحمد بن كعب : إن المراد يوم القيامة ، يعني : أن مقدار الأمر فيه لو تولاه غيره سبحانه خمسون ألف سنة ، وهو سبحانه يفرغ منه في ساعة ، وقيل : إن مدّة موقف العباد للحساب ، هي هذا المقدار ، ثم يستقرّ بعد ذلك أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار . وقيل : إن مقدار يوم القيامة على الكافرين خمسون ألف سنة ، وعلى المؤمنين مقدار ما بين الظهر والعصر ، وقيل : ذكر هذا المقدار لمجرد التمثيل والتخييل لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها ، أو لطول يوم القيامة باعتبار ما فيه من الشدائد والمكاره ، كما تصف العرب أيام الشدّة بالطول وأيام الفرح بالقصر ، ويشبهون اليوم القصير بإبهام القطاة والطويل بظل الرمح ، ومنه قول الشاعر :
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاف المزاهر
وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي : ليس له دافع من الله ذي المعارج في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة تعرج الملائكة والروح إليه ، وقد قدّمنا الجمع بين هذه الآية وبين قوله في سورة السجدة { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5 ] فارجع إليه . وقد قيل في الجمع : إن من أسفل العالم إلى العرش خمسين ألف سنة ، ومن أعلى سماء الدنيا إلى الأرض ألف سنة؛ لأن غلظ كل سماء خمسمائة عام ، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة عام ، فالمعنى : أن الملائكة إذا عرجت من أسفل العالم إلى العرش كان مسافة ذلك خمسين ألف سنة ، وإن عرجوا من هذه الأرض التي نحن فيها إلى باطن هذه السماء التي هي سماء الدنيا كان مسافة ذلك ألف سنة ، وسيأتي في آخر البحث ما يؤيد هذا عن ابن عباس .

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال : { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } ، أي : اصبر يا محمد على تكذيبهم لك وكفرهم بما جئت به صبراً جميلاً لا جزع فيه ولا شكوى إلى غير الله ، وهذا معنى الصبر الجميل . وقيل : هو أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري بأنه مصاب . قال ابن زيد ، وغيره : هي منسوخة بآية السيف { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } أي : يرون العذاب الواقع بهم ، أو يرون يوم القيامة بعيداً أي : غير كائن لأنهم لا يؤمنون به ، فمعنى { بَعِيداً } أي : مستبعداً محالاً ، وليس المراد أنهم يرونه بعيداً غير قريب . قال الأعمش : يرون البعث بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به كأنهم يستبعدونه على جهة الاستحالة ، كما تقول لمن تناظره هذا بعيد ، أي : لا يكون { وَنَرَاهُ قَرِيباً } أي : نعلمه كائناً قريباً؛ لأن ما هو آت قريب . وقيل المعنى : ونراه هيناً في قدرتنا غير متعسر ولا متعذر ، والجملة تعليل للأمر بالصبر .
ثم أخبر سبحانه متى يقع بهم العذاب فقال : { يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل } والظرف متعلق بمضمر دلّ عليه واقع ، أو بدل من قوله : { فِى يَوْمٍ } على تقدير تعلقه بواقع ، أو متعلق بقريباً ، أو مقدّر بعده ، أي : يوم تكون إلخ ، كان كيت وكيت ، أو بدل من الضمير في نراه ، والأوّل أولى . والتقدير يقع بهم العذاب { يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل } والمهل : ما أذيب من النحاس والرصاص والفضة . وقال مجاهد : هو القيح من الصديد والدم . وقال عكرمة ، وغيره : هو درديّ الزيت ، وقد تقدّم تفسيره في سورة الكهف والدخان . { وَتَكُونُ الجبال كالعهن } أي : كالصوف المصبوغ ، ولا يقال للصوف عهن إلاّ إذا كان مصبوغاً . قال الحسن : تكون الجبال كالعهن ، وهو الصوف الأحمر ، وهو أضعف الصوف . وقيل : العهن الصوف ذو الألوان ، فشبّه الجبال به في تكوّنها ألواناً ، كما في قوله : { جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ . . . وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ فاطر : 27 ] فإذا بست وطيرت في الهواء أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح .
{ وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } أي : لا يسأل قريب قريبه عن شأنه في ذلك اليوم لما نزل بهم من شدّة الأهوال التي أذهلت القريب عن قريبه ، والخليل عن خليله ، كما قال سبحانه : { لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] . وقيل المعنى : لا يسأل حميم عن حميم ، فحذف الحرف ووصل الفعل . قرأ الجمهور : { لا يسأل } مبنياً للفاعل . قيل : والمفعول الثاني محذوف ، والتقدير : لا يسأله نصره ولا شفاعته ، وقرأ أبو جعفر ، وأبو حيوة ، وشيبة ، وابن كثير في رواية عنه على البناء للمفعول . وروى هذه القراءة البزّي عن عاصم . والمعنى : لا يسأل حميم إحضار حميمه . وقيل : هذه القراءة على إسقاط حرف الجرّ ، أي : لا يسأل حميم عن حميم ، بل كلّ إنسان يسأل عن نفسه وعن عمله ، وجملة : { يُبَصَّرُونَهُمْ } مستأنفة ، أو صفة لقوله : { حَمِيماً } أي : يبصر كلّ حميم حميمه ، لا يخفى منهم أحد عن أحد .

وليس في القيامة مخلوق وإلاّ وهو نصب عين صاحبه ، ولا يتساءلون ولا يكلم بعضهم بعضاً لاشتغال كل أحد منهم بنفسه ، وقال ابن زيد : يبصر الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدنيا ، وهم الرؤساء المتبوعون . وقيل : إن قوله : { يُبَصَّرُونَهُمْ } يرجع إلى الملائكة أي : يعرفون أحوال الناس لا يخفون عليهم ، وإنما جمع الضمير في يبصرونهم ، وهما للحميمين حملاً على معنى العموم؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي ، قرأ الجمهور : { يبصرونهم } بالتشديد ، وقرأ قتادة بالتخفيف .
ثم ابتدأ سبحانه الكلام فقال : { يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ } المراد بالمجرم : الكافر ، أو كلّ مذنب ذنباً يستحق به النار لو يفتدي من عذاب يوم القيامة الذي نزل به . { بِبَنِيهِ وصاحبته وَأَخِيهِ } فإن هؤلاء أعزّ الناس عليه وأكرمهم لديه ، فلو قبل منه الفداء لفدى بهم نفسه ، وخلص مما نزل به من العذاب ، والجملة مستأنفة لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حدّ يودّ الافتداء من العذاب بمن ذكر . قرأ الجمهور : { من عذاب يومئذٍ } بإضافة عذاب إلى يومئذٍ . وقرأ أبو حيوة بتنوين " عذاب " وقطع الإضافة . وقرأ الجمهور : " يومئذ " بكسر الميم . وقرأ نافع ، والكسائي ، والأعرج ، وأبو حيوة بفتحها { وَفَصِيلَتِهِ التى تُوِيهِ } أي : عشيرته الأقربين الذين يضمونه في النسب ، أو عند الشدائد ، ويأوي إليهم . قال أبو عبيد : الفصيلة دون القبيلة . وقال ثعلب : هم آباؤهم الأدنون . قال المبرّد : الفصيلة القطعة من أعضاء الجسد . وسميت عشيرة الرجل فصيلة تشبيهاً لها بالبعض منه . وقال مالك : إن الفصيلة هي التي تربيه { وَمَن فِى الأرض جَمِيعاً } أي : ويودّ المجرم لو افتدى بمن في الأرض جميعاً من الثقلين وغيرهما من الخلائق . وقوله : { ثُمَّ يُنجِيهِ } معطوف على يفتدي ، أي : يودّ لو يفتدي ، ثم ينجيه الافتداء ، وكان العطف بثم لدلالتها على استبعاد النجاة . وقيل : إن يودّ تقتضي جواباً ، كما في قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] والجواب . { ثم ينجيه } ، والأوّل أولى .
وقوله : { كَلاَّ } ردع للمجرم عن تلك الودادة ، وبيان امتناع ما ودّه من الافتداء ، و «كلا» يأتي بمعنى حقاً ، وبمعنى لا مع تضمنها لمعنى الزجر والردع ، والضمير في قوله : { إِنَّهَا لظى } عائد إلى النار المدلول عليها بذكر العذاب ، أو هو ضمير مبهم يفسره ما بعده ، ولظى علم لجهنم ، واشتقاقها من التلظي في النار ، وهو التلهب . وقيل : أصله لظظ بمعنى دوام العذاب ، فقلبت إحدى الظاءين ألفاً . وقيل لظى : هي الدركة الثانية من طباق جهنم { نَزَّاعَةً للشوى } قرأ الجمهور : { نزاعة } بالرفع على أنه خبر ثانٍ لإنّ ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أو تكون لظى بدلاً من الضمير المنصوب ، ونزاعة خبر إنّ ، أو على أن نزاعة صفة للظى على تقدير عدم كونها علماً ، أو يكون الضمير في إنها للقصة ، ويكون لظى مبتدأ ، ونزاعة خبره ، والجملة خبر إنّ ، وقرأ حفص عن عاصم ، وأبو عمر ، وفي رواية عنه ، وأبو حيوة ، والزعفراني ، والترمذي ، وابن مقسم ( نزاعة ) بالنصب على الحال .

وقال أبو علي الفارسي : حمله على الحال بعيد؛ لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال . وقيل : العامل فيها ما دلّ عليه الكلام من معنى التلظي ، أو النصب على الاختصاص ، والشوى : الأطراف ، أو جمع شواة ، وهي جلدة الرأس ، ومنه قول الأعشى :
قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيباً شواته
وقال الحسن ، وثابت البناني : { نَزَّاعَةً للشوى } : أي : لمكارم الوجه وحسنه ، وكذا قال أبو العالية ، وقتادة . وقال قتادة : تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك فيه شيئًا . وقال الكسائي : هي المفاصل . وقال أبو صالح : هي أطراف اليدين والرجلين { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ } أي : تدعو لظى من أدبر عن الحقّ في الدنيا { وتولى } أي : أعرض عنه { وَجَمَعَ فَأَوْعَى } أي : جمع المال فجعله في وعائه . وقيل : إنها تقول : إليّ يا مشرك ، إلي يا منافق ، وقيل : معنى تدعو تهلك ، تقول العرب : دعاك الله أي : أهلكك ، وقيل : ليس هو الدعاء باللسان ، ولكن دعاؤها إياهم تمكنها من عذابهم . وقيل : المراد أن خزنة جهنم تدعو الكافرين والمنافقين ، فأسند الدعاء إلى النار ، من باب إسناد ما هو للحال إلى المحلّ . وقيل : هو تمثيل وتخييل ، ولا دعاء في الحقيقة ، والمعنى : أن مصيرهم إليها ، كما قال الشاعر :
ولقد هبطنا الواد بين قوادنا ... ندعو الأنيس به الغصيص الأبكم
والغصيص الأبكم : الذباب ، وهي لا تدعو ، وفي هذا ذمّ لمن جمع المال فأوعاه ، وكنزه ولم ينفقه في سبل الخير ، أو لم يؤدّ زكاته .
وقد أخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { سَأَلَ سَائِلٌ } قال : هو النضر بن الحارث قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء } [ الأنفال : 32 ] . وفي قوله : { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } قال : كائن { للكافرين لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ الله ذِي المعارج } قال : ذي الدرجات . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه في قوله : { سَأَلَ سَائِلٌ } قال : سال : وادٍ في جهنم . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { ذِي المعارج } قال : ذي العلوّ والفواضل . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق سبع سماوات مقدار خمسين ألف سنة ، ويَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ قال : يعني بذلك ، ينزل الأمر من السماء إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد ، فذلك مقدار ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام .

وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : غلظ كل أرض خمسمائة عام ، وغلظ كل سماء خمسمائة عام ، وبين كل أرض إلى أرض خمسمائة عام ، ومن السماء إلى السماء خمسمائة عام ، فذلك أربعة عشر ألف عام ، وبين السماء السابعة وبين العرش مسيرة ستة وثلاثين ألف عام ، فذلك قوله : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عنه أيضاً في قوله : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } قال : هذا في الدنيا تعرج الملائكة في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدّون ، وفي قوله : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فهذا يوم القيامة جعله الله على الكافر مقدار خمسين ألف سنة . وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه أيضاً في قوله : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ السجدة : 5 ] قال : لو قدّرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم . قال : يعني يوم القيامة . وقد قدّمنا عن ابن عباس الوقف في الجمع بين الآيتين في سورة السجدة .
وأخرج أحمد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله يَوْمٍ كَانَ يَوْمٍ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ما أطول هذا اليوم؟ فقال : « والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا » وفي إسناده دراج عن أبي الهيثم ، وهما ضعيفان . وأخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في البعث عن أبي هريرة مرفوعاً قال : ما قدر طول يوم القيامة على المؤمنين إلاّ كقدر ما بين الظهر إلى العصر . وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله : { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } قال : لا تشكو إلى أحد غيري . وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والخطيب في المتفق والمفترق ، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ تَكُونُ السماء كالمهل } قال : كدرديّ الزيت . وأخرج ابن جرير عنه قال : { يُبَصَّرُونَهُمْ } يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون ، ثم يفرّ بعضهم من بعض . وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله : { نَزَّاعَةً للشوى } قال : تنزع أمّ الرأس .

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)

قوله : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } قال في الصحاح : الهلع في اللغة : أشدّ الحرص ، وأسوأ الجزع وأفحشه . يقال : هلع بالكسر ، فهو هلع وهلوع على التكثير . وقال عكرمة : هو الضجور . قال : الواحدي ، والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } أي : إذا أصابه الفقر والحاجة ، أو المرض ، أو نحو ذلك ، فهو جزوع ، أي : كثير الجزع ، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ، ونحو ذلك ، فهو كثير المنع والإمساك . وقال أبو عبيدة : الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر ، وإذا مسه الشرّ لم يصبر . قال ثعلب : قد فسّر الله الهلوع : هو الذي إذا أصابه الشرّ أظهر شدّة الجزع ، وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس ، والعرب تقول : ناقة هلوع ، وهلواع : إذا كانت سريعة السير خفيفته ، ومنه قول الشاعر :
شكاء ذعلبة إذا استدبرتها ... جرح إذا استقبلتها هلواع
والذعلبة : الناقة السريعة ، وانتصاب هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً على أنها أحوال مقدّرة ، أو محققة؛ لكونها طبائع جبل الإنسان عليها ، والظرفان معمولان لجزوعاً ومنوعاً . { إِلاَّ المصلين } أي : المقيمين للصلاة وقيل : المراد بهم أهل التوحيد يعني : أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع؛ وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضية؛ لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات ، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير .
ثم بيّنهم سبحانه فقال : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } أي : لا يشغلهم عنها شاغل ، ولا يصرفهم عنها صارف ، وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبداً . قال الزجاج : هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة ، وقال الحسن ، وابن جريج : هو التطوع منها . قال النخعي : المراد بالمصلين الذين يؤدّون الصلاة المكتوبة . وقيل : الذين يصلونها لوقتها ، والمراد بالآية جميع المؤمنين ، وقيل : الصحابة خاصة ، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين . { والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ } قال قتادة ، ومحمد بن سيرين : المراد الزكاة المفروضة . وقال مجاهد : سوى الزكاة . وقيل : صلة الرحم ، والظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوماً ، ولجعله قريناً للصلاة ، وقد تقدّم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات مستوفى . { والذين يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ الدين } أي : بيوم الجزاء ، وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه . وقيل : يصدّقونه بأعمالهم ، فيتعبون أنفسهم في الطاعات { والذين هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ } أي : خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقاراً لأعمالهم ، واعترافاً بما يجب لله سبحانه عليهم . وجملة : { إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } مقرّرة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد ، وأن حق كل أحد أن يخافه .

{ والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافظون } إلى قوله : { فَأُوْلَئِكَ هُمُ العادون } قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى .
{ والذين هُمْ لاماناتهم وَعَهْدِهِمْ راعون } أي : لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها ، ولا ينقضون شيئًا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم . قرأ الجمهور : { لأماناتهم } بالجمع ، وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن « لأمانتهم » بالإفراد ، والمراد : الجنس : { وَالَّذِينَ هُمْ بشهاداتهم قَائِمُونَ } أي : يقيمونها على من كانت عليه من قريب أو بعيد ، أو رفيع أو وضيع ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها ، وقد تقدّم القول في الشهادة في سورة البقرة ، قرأ الجمهور : « بشهادتهم » بالإفراد . وقرأ حفص ، ويعقوب وهي رواية عن ابن كثير بالجمع . قال الواحدي : والإفراد أولى لأنه مصدر ، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات . قال الفرّاء : ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } [ الطلاق : 2 ] . { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي : على أذكارها وأركانها وشرائطها ، لا يخلون بشيء من ذلك . قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها . وقال ابن جريج : المراد التطوّع ، وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أوّلاً ، وما وصفهم به ثانياً ، فإن معنى الدوام : هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل ، كما سلف؛ ومعنى المحافظة : أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها وقيل : المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها ، وكرّر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحقّ أن يستقلّ بموصوف منفرد ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى الموصوفين بتلك الصفات { فِى جنات مُّكْرَمُونَ } أي : مستقرّون فيها ، مكرمون بأنواع الكرامات ، وخبر المبتدأ قوله : { فِي جنات } ، وقوله : { مُّكْرَمُونَ } خبر آخر ، ويجوز أن يكون الخبر مكرمون ، وفي جنات متعلق به . { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي : أيّ شيء لهم حواليك مسرعين ، قال الأخفش : مهطعين مسرعين ، ومنه قول الشاعر :
بمكة أهلها ولقد أراهم ... إليهم مهطعين إلى السماع
وقيل : المعنى : ما بالهم يسرعون إليك يجلسون حواليك ، ولا يعملون بما تأمرهم؟ وقيل : ما بالهم مسرعين إلى التكذيب . وقيل : ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك ، فيكذبونك ويستهزئون بك . وقال الكلبي : إن معنى { مُهْطِعِينَ } : ناظرين إليك . وقال قتادة : عامدين . وقيل : مسرعين إليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك . { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } أي : عن يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن شماله جماعات متفرقة ، وعزين جمع عزة ، وهي العصبة من الناس ، ومنه قول الشاعر :
ترانا عنده والليل داج ... على أبوابه حلقاً عزينا
وقال الراعي :
أخليفة الرحمن إن عشيرتي ... أمسى سراتهم إليك عزينا
وقال عنترة :
وقرن قد تركت لدي ولي ... عليه الطير كالعصب العزينا

وقيل : أصلها عزوة من العزو؛ كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى . قال في الصحاح : والعزة : الفرقة من الناس ، والهاء عوض من التاء ، والجمع عزى وعزون ، وقوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } متعلق بعزين ، أو بمهطعين . { أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } قال المفسرون : كان المشركون يقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنّ قبلهم ، فنزلت الآية . قرأ الجمهور : { أن يدخل } مبنياً للمفعول ، وقرأ الحسن ، وزيد بن عليّ ، وطلحة بن مصرف ، والأعرج ، ويحيى بن يعمر ، وأبو رجاء ، وعاصم في رواية عنه على البناء للفاعل . ثم ردّ الله سبحانه عليهم فقال : { كَلاَّ إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ } أي : من القذر الذين يعلمون به ، فلا ينبغي لهم هذا التكبر . وقيل المعنى : إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون ، وهو امتثال الأمر والنهي ، وتعريضهم للثواب والعقاب ، كما في قوله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 59 ] ، ومنه قول الأعشى :
وأزمعت من آل ليلى ابتكارا ... وشطت على ذي هوى أن يزارا
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن الهلوع ، فقال : هو كما قال الله : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } . وأخرج ابن المنذر عنه : { هَلُوعاً } قال : الشره . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } قال : على مواقيتها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن عمران بن حصين : { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } قال : الذي لا يلتفت في صلاته . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن عقبة بن عامر { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } قال : هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا . وأخرج ابن المنذر من طريق أخرى عنه نحوه .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } قال : ينظرون { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } قال : العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به . وأخرج مسلم ، وغيره عن جابر قال : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ، ونحن حلق متفرقون فقال : « ما لي أراكم عزين » وأخرج أحمد ، وابن ماجه ، وابن سعد ، وابن أبي عاصم ، والباوردي ، وابن قانع ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب ، والضياء عن بشر بن جحاش قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } إلى قوله : { كَلاَّ إِنَّا خلقناهم مّمَّا يَعْلَمُونَ } ، ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفه ، ووضع عليها أصبعه ، وقال : « يقول الله : ابن آدم ، أنى تعجزني ، وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين ، وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أو أتى أوان الصدقة » .

فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)

قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } «لا» زائدة كما تقدّم قريباً ، والمعنى : فأقسم { بِرَبّ المشارق والمغارب } يعني : مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه . قرأ الجمهور : { المشارق والمغارب } بالجمع ، وقرأ أبو حيوة ، وابن محيصن ، وحميد بالإفراد . { إِنَّا لقادرون * على أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ } أي : على أن نخلق أمثل منهم ، وأطوع لله حين عصوه ونهلك هؤلاء . { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر؛ ولكن مشيئتنا وسابق علمنا اقتضيا تأخير عقوبة هؤلاء ، وعدم تبديلهم بخلق آخر . { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي : اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم ، واشتغل بما أمرت به ولا يعظمنّ عليك ما هم فيه ، فليس عليك إلاّ البلاغ { حتى يلاقوا يَوْمَهُمُ الذى يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة ، وهذه الآية منسوخة بآية السيف . قرأ الجمهور : { يلاقوا } . وقرأ أبو جعفر ، وابن محيصن ، وحميد ، ومجاهد : " حتى يلقوا " { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً } يوم بدل من يومهم ، وسراعاً منتصب على الحال من ضمير يخرجون ، قرأ الجمهور { يخرجون } على البناء للفاعل . وقرأ السلمي ، والأعمش ، والمغيرة ، وعاصم في رواية على البناء للمفعول ، والأجداث جمع جدث ، وهو القبر { كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } قرأ الجمهور : { نصب } بفتح النون وسكون الصاد . وقرأ ابن عامر ، وحفص بضم النون والصاد ، وقرأ عمرو بن ميمون ، وأبو رجاء بضم النون وإسكان الصاد . قال في الصحاح : والنصب ما نصب فعبد من دون الله ، وكذا النصب بالضم ، وقد يحرّك . قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
والجمع الأنصاب . وقال الأخفش ، والفراء : النصب جمع النصب ، مثل رهن ورهن ، والأنصاب جمع النصب فهو جمع الجمع . وقيل : النصب جمع نصاب ، وهو حجر أو صنم يذبح عليه ، ومنه قوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] . وقال النحاس : نصب ونصب بمعنى واحد . وقيل : معنى { إلى نُصُبٍ } : إلى غاية ، وهي التي تنصب إليها بصرك ، وقال الكلبي : إلى شيء منصوب علم أو راية أي : كأنهم إلى علم يدعون إليه ، أو راية تنصب لهم يوفضون ، قال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوّلهم على آخرهم . وقال أبو عمرو : النصب شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته . ومعنى يوفضون : يسرعون ، والإيفاض الإسراع . يقال : أوفض إيفاضاً ، أي : أسرع إسراعاً ، ومنه قول الشاعر :
فوارس ذبيان تحت الحديد ... كالجنّ يوفض من عبقر
وعبقر : قرية من قرى الجن ، كما تزعم العرب ، ومنه قول لبيد :
كهول وشبان كجنة عبقر ... وانتصاب { خاشعة أبصارهم } على الحال من ضمير يوفضون ، وأبصارهم مرتفعة به ، والخشوع الذلة والخضوع ، أي : لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي : تغشاهم ذلة شديدة .

قال قتادة هي : سواد الوجوه ، ومنه غلام مراهق : إذا غشيه الاحتلام ، يقال : رهقه بالكسر يرهقه رهقاً ، أي : غشيه ، ومثل هذا قوله : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [ يونس : 26 ] والإشارة بقوله : { ذلك } إلى ما تقدّم ذكره . وهو مبتدأ وخبره : { اليوم الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ } أي : الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق بهم وحضر ، ووقع بهم من عذابه ما وعدهم الله به ، وإن كان مستقبلاً ، فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه .
وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ المشارق والمغارب } قال : للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه ، ومغرب تغرب فيه غير مطلعها بالأمس وغير مغربها بالأمس . وأخرج ابن جرير عنه : { إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } قال : إلى علم يستبقون .

إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)

قوله : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ } قد تقدّم أن نوحاً أوّل رسول أرسله الله ، وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ بن قينان بن شيث بن آدم ، وقد تقدّم مدّة لبثه في قومه ، وبيان جميع عمره ، وبيان السنّ التي أرسل وهو فيها في سورة العنكبوت . { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } أي : بأن أنذر على أنها مصدرية . ويجوز أن تكون هي المفسرة؛ لأن في الإرسال معنى القول . وقرأ ابن مسعود { أنذر } بدون أن ، وذلك على تقدير القول ، أي فقلنا له : أنذر { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : عذاب شديد الألم ، وهو عذاب النار . وقال الكلبي : هو ما نزل بهم من الطوفان . وجملة : { قَالَ يَا قَوْمٌ إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } مستأنفة استئنافاً بيانياً على تقدير سؤال ، كأنه قيل : فماذا قال نوح؟ فقال : قال لهم إلخ . والمعنى : إني لكم منذر من عقاب الله ومخوّف لكم ، ومبين لما فيه نجاتكم . { أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ } «أن» هي التفسيرية لنذير ، أو هي المصدرية أي : بأن اعبدوا الله ولا تشركوا به غيره ، { واتقوه } أي : اجتنبوا ما يوقعكم في عذابه ، { وأطيعون } فيما آمركم به فإني رسول إليكم من عند الله .
{ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } هذا جواب الأمر ، و«من» للتبعيض ، أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما سلف منها قبل طاعة الرسول وإجابة دعوته . وقال السديّ : المعنى يغفر لكم ذنوبكم ، فتكون «من» على هذا زائدة . وقيل : المراد بالبعض : ما لا يتعلق بحقوق العباد . وقيل : هي لبيان الجنس . وقيل : يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها { وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي : يؤخر موتكم إلى الأمد الأقصى الذي قدّره الله لكم بشرط الإيمان والطاعة فوق ما قدّره لكم ، على تقدير بقائكم على الكفر والعصيان . وقيل : التأخير بمعنى البركة في أعمارهم أن آمنوا ، وعدم البركة فيها إن لم يؤمنوا . قال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى آجالكم . وقال الزجاج : أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير ميتة المستأصلين بالعذاب . وقال الفراء : المعنى لا يميتكم غرقاً ولا حرقاً ولا قتلاً { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ } أي : ما قدّره لكم على تقدير بقائكم على الكفر من العذاب إذا جاء ، وأنتم باقون على الكفر لا يؤخر بل يقع لا محالة ، فبادروا إلى الإيمان والطاعة . وقيل المعنى : إن أجل الله ، وهو الموت إذا جاء لا يمكنكم الإيمان . وقيل المعنى : إذا جاء الموت لا يؤخر سواء كان بعذاب أو بغير عذاب { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : شيئًا من العلم لسارعتم إلى ما أمرتكم به ، أو لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر .

{ قَالَ رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً } أي : قال نوح منادياً لربه ، وحاكياً له ما جرى بينه وبين قومه ، وهو أعلم به منه إني دعوت قومي إلى ما أمرتني بأن أدعوهم إليه من الإيمان دعاء دائماً في الليل والنهار من غير تقصير . { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً } عما دعوتهم إليه وبعداً عنه . قال مقاتل : يعني تباعداً من الإيمان ، وإسناد الزيادة إلى الدعاء؛ لكونه سببها ، كما في قوله : { زَادَتْهُمْ إيمانا } [ الأنفال : 2 ] . قرأ الجمهور : « دعائي » بفتح الياء ، وقرأ الكوفيون ، ويعقوب ، والدوري عن أبي عمرو بإسكانها ، والاستثناء مفرّغ . { وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ } أي : كلما دعوتهم إلى سبب المغفرة ، وهو الإيمان بك ، والطاعة لك { جَعَلُواْ أصابعهم فِى ءاذانهم } لئلا يسمعوا صوتي { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } أي : غطوا بها وجوههم لئلا يروني . وقيل : جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامي ، فيكون استغشاء الثياب على هذا زيادة في سدّ الآذان . وقيل : هو كناية عن العداوة . يقال : لبس فلان ثياب العداوة . وقيل : استغشوا ثيابهم لئلا يعرفهم فيدعوهم { وَأَصَرُّواْ } أي : استمروا على الكفر ، ولم يقلعوا عنه ولا تابوا منه { واستكبروا } عن قبول الحق ، وعن امتثال ما أمرهم به { استكبارا } شديداً .
{ ثُمَّ إِنّى دَعَوْتُهُمْ جهارا } أي : مظهراً لهم الدعوة مجاهراً لهم بها . { ثُمَّ إِنّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ } أي : دعوتهم معلناً لهم بالدعاء { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } أي : وأسررت لهم الدعوة إسراراً كثيراً . قيل المعنى : أن يدعو الرجل بعد الرجل يكلمه سراً فيما بينه وبينه ، والمقصود أنه دعاهم على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة ، فلم ينجع ذلك فيهم . قال مجاهد : معنى أعلنت صحت . وقيل : معنى { أسررت } : أتيتهم في منازلهم فدعوتهم فيها . وانتصاب { جهاراً } على المصدرية؛ لأن الدعاء يكون جهاراً ويكون غير جهار ، فالجهار نوع من الدعاء كقولهم : قعد القرفصاء ، ويجوز أن يكون نعت مصدر محذوف ، أي : دعاء جهاراً ، وأن يكون مصدراً في موضع الحال أي : مجاهراً ، ومعنى « ثم » : الدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهار أغلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين أغلظ من أحدهما . قرأ الجمهور : { إني } بسكون الياء ، وقرأ أبو عمرو والحرميون بفتحها . { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } أي : سلوه المغفرة من ذنوبكم السابقة بإخلاص النية { إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } أي : كثير المغفرة للمذنبين . وقيل : معنى { استغفروا } : توبوا عن الكفر إنه كان غفاراً للتائبين { يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً } أي : يرسل ماء السماء عليكم ، ففيه إضمار . وقيل : المراد بالسماء المطر ، كما في قول الشاعر :
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
والمدرار : الدرور ، وهو التحلب بالمطر ، وانتصابه إما على الحال من السماء ، ولم يؤنث ، لأن مفعالاً لا يؤنث؛ تقول امرأة مئناث ومذكار ، أو على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : إرسالاً مدراراً ، وقد تقدّم الكلام عليه في سورة الأنعام ، وجزم يرسل لكونه جواب الأمر .

وفي هذه الآية دليل على أن الاستغفار من أعظم أسباب المطر وحصول أنواع الأرزاق ، ولهذا قال : { وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جنات } يعني : بساتين { وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } جارية . قال عطاء : المعنى يكثر أموالكم وأولادكم . أعلمهم نوح عليه السلام أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } أي : أيّ عذر لكم في ترك الرجاء ، والرجاء هنا بمعنى الخوف ، أي : ما لكم لا تخافون الله ، والوقار العظمة من التوقير ، وهو التعظيم ، والمعنى لا تخافون حقّ عظمته ، فتوحدونه وتطيعونه ، و { لاَ تَرْجُونَ } في محل نصب على الحال من ضمير المخاطبين ، والعامل فيه معنى الاستقرار في لكم ، ومن إطلاق الرجاء على الخوف قول الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وقال سعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثواباً ، ولا تخافون منه عقاباً . وقال مجاهد ، والضحاك : ما لكم لا تبالون لله عظمة . قال قطرب : هذه لغة حجازية . وهذيل ، وخزاعة ، ومضر يقولون : لم أرج : لم أبل . وقال قتادة : ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان . وقال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً . وقال ابن زيد : ما لكم لا تؤدّون لله طاعة . وقال الحسن : ما لكم لا تعرفون لله حقاً ، ولا تشكرون له نعمة ، وجملة : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } في محل نصب على الحال ، أي : والحال أنه سبحانه قد خلقكم على أطوار مختلفة : نطفة ، ثم مضغة ، ثم علقة إلى تمام الخلق ، كما تقدّم بيانه في سورة المؤمنين ، والطور في اللغة المرّة ، وقال ابن الأنباري : الطور الحال ، وجمعه أطوار . وقيل : أطواراً صبياناً ، ثم شباناً ، ثم شيوخاً . وقيل : الأطوار اختلافهم في الأفعال والأقوال والأخلاق ، والمعنى : كيف تقصرون في توقير من خلقكم على هذه الأطوار البديعة؟ { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سموات طِبَاقاً } الخطاب لمن يصلح له ، والمراد : الاستدلال بخلق السموات على كمال قدرته وبديع صنعه ، وأنه الحقيق بالعبادة ، والطباق المتطابقة بعضها فوق بعض كل سماء مطبقة على الأخرى كالقباب قال الحسن : خلق الله سبع سموات على سبع أرضين بين كل سماء وسماء ، وأرض وأرض خلق وأمر ، وقد تقدّم تحقيق هذا في قوله : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] وانتصاب { طباقاً } على المصدرية ، تقول : طابقه مطابقة ، وطباقاً ، أو حال بمعنى ذات طباق ، فحذف ذات وأقام طباقاً مقامه ، وأجاز الفراء في غير القرآن جرّ { طباقاً } على النعت { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } أي : منوّراً لوجه الأرض ، وجعل القمر في السموات مع كونها في سماء الدنيا؛ لأنها إذا كانت في إحداهنّ فهي فيهنّ ، كذا قال ابن كيسان .

قال الأخفش : كما تقول : أتاني بنو تميم ، والمراد بعضهم . وقال قطرب : فيهنّ بمعنى معهنّ ، أي : خلق القمر والشمس مع خلق السموات والأرض ، كما في قول امرىء القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ... ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال
أي : مع ثلاثة أحوال { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } أي : كالمصباح لأهل الأرض؛ ليتوصلوا بذلك إلى التصرّف فيما يحتاجون إليه من المعاش . { والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً } يعني : آدم خلقه الله من أديم الأرض ، والمعنى : أنشأكم منها إنشاء ، فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكوين ، و { نباتاً } إما مصدر لأنبت على حذف الزوائد ، أو مصدر لفعل محذوف ، أي : أنبتكم من الأرض ، فنبتم نباتاً . وقال الخليل ، والزجاج : هو مصدر محمول على المعنى؛ لأن معنى { أنبتكم } : جعلكم تنبتون نباتاً . وقيل المعنى : والله أنبت لكم من الأرض النبات ، فنباتاً على هذا مفعول به . قال ابن بحر : أنبتهم في الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر . { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } أي : في الأرض { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } يعني : يخرجكم منها بالبعث يوم القيامة . { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً } أي : فرشها وبسطها لكم تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم . { لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أي : طرقاً واسعة ، والفجاج جمع فج ، وهو الطريق الواسع ، كذا قال الفراء ، وغيره . وقيل الفج : المسلك بين الجبلين ، وقد مضى تحقيق هذا في سورة الأنبياء وفي سورة الحج مستوفى .
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله : { َجعلوا أصابعهم في آذانهم } قال : لئلا يسمعوا ما يقول { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } قال : ليتنكروا ، فلا يعرفهم { واستكبروا استكبارا } قال : تركوا التوبة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر عنه { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } قال : غطوا وجوههم لئلا يروا نوحاً ولا يسمعوا كلامه . وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والبيهقي في الشعب عنه أيضاً في قوله : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } قال : لا تعلمون لله عظمة . وأخرج ابن جرير ، والبيهقي عنه أيضاً : { وَقَاراً } قال : عظمة . وفي قوله : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } قال : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : لا تخافون لله عظمة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : لا تخشون له عقاباً ولا ترجون له ثواباً . وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن عليّ بن أبي طالب : «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى ناساً يغتسلون عراة ليس عليهم أزر ، فوقف ، فنادى بأعلى صوته { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } » .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمرو قال : الشمس والقمر ، وجوههما قبل السماء وأقفيتهما قبل الأرض ، وأنا أقرأ بذلك عليكم أنه من كتاب الله : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة عن عبد الله بن عمر قال : تضيء لأهل السموات ، كما تضيء لأهل الأرض . وأخرج عبد بن حميد عن شهر بن حوشب قال : اجتمع عبد الله بن عمرو بن العاص وكعب الأحبار وقد كان بينهما بعض العتب ، فتعاتبا فذهب ذلك ، فقال عبد الله بن عمرو لكعب : سلني عما شئت ، فلا تسألني عن شيء إلاّ أخبرتك بتصديق قولي من القرآن ، فقال له : أرأيت ضوء الشمس والقمر أهو في السموات السبع ، كما هو في الأرض؟ قال : نعم ألم تروا إلى قول الله { خَلَقَ سَبْعَ سموات طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } . وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه عن ابن عباس : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } قال : وجهه في السماء إلى العرش وقفاه إلى الأرض . وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } قال : خلق فيهنّ حين خلقهنّ ضياء لأهل الأرض ، وليس في السماء من ضوئه شيء ، وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً : { سُبُلاً فِجَاجاً } قال : طرقاً مختلفة .

قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)

قوله : { قَالَ نُوحٌ رَّبّ إِنَّهُمْ عصونى } أي : استمرّوا على عصياني ولم يجيبوا دعوتي ، شكاهم إلى الله عزّ وجلّ ، وأخبره بأنهم عصوه ولم يتبعوه ، وهو أعلم بذلك { واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } أي : اتبع الأصاغر رؤساءهم؛ وأهل الثروة منهم الذين لم يزدهم كثرة المال والولد إلاّ ضلالاً في الدنيا وعقوبة في الآخرة . قرأ أهل المدينة ، والشام ، وعاصم ، وولده بفتح الواو واللام . وقرأ الباقون بسكون اللام ، وهي لغة في الولد ، ويجوز أن يكون جمعاً ، وقد تقدّم تحقيقه ، ومعنى { واتبعوا } : أنهم استمرّوا على اتباعهم لا أنهم أحدثوا الاتباع { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي : مكراً كبيراً عظيماً ، يقال : كبير وكبار ، وكبار مثل عجيب وعجاب وعجاب ، وجميل وجمال وجمال . قال المبرد : كباراً بالتشديد للمبالغة ، ومثل { كباراً } قرّاء لكثير القراءة ، وأنشد ابن السكيت :
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القرّاء
قرأ الجمهور : { كباراً } بالتشديد . وقرأ ابن محيصن ، وحميد ، ومجاهد بالتخفيف . قال أبو بكر : هو جمع كبير كأنه جعل مكراً مكان ذنوب أو أفاعيل ، فلذلك وصفه بالجمع . وقال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية .
واختلف في مكرهم هذا ما هو؟ فقيل : هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح ، وقيل : هو تغريرهم على الناس بما أوتوا من المال والولد حتى قال الضعفة : لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النعم . وقال الكلبي : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد . وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم لا تذرنّ إلهتكم وقيل : مكرهم كفرهم . { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ } أي : لا تتركوا عبادة إلهتكم ، وهي الأصنام والصور التي كانت لهم ، ثم عبدتها العرب من بعدهم ، وبهذا قال الجمهور . { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } أي : لا تتركوا عبادة هذه . قال محمد بن كعب : هذه أسماء قوم صالحين كانوا بين آدم ونوح ، فنشأ بعدهم قوم يقتدون بهم في العبادة ، فقال لهم إبليس : لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم وأسوق إلى العبادة ، ففعلوا ، ثم نشأ قوم من بعدهم ، فقال لهم إبليس : إن الذين من قبلكم كانوا يعبدونهم فاعبدوهم ، فابتداء عبادة الأوثان كان من ذلك الوقت ، وسميت هذه الصور بهذه الأسماء ، لأنهم صوّروها على صورة أولئك القوم . وقال عروة بن الزبير وغيره : إن هذه كانت أسماء لأولاد آدم ، وكان ودّ أكبرهم . قال الماوردي : فأما ودّ ، فهو أوّل صنم معبود ، سمي ودّاً لودّهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل في قول ابن عباس ، وعطاء ، ومقاتل ، وفيه يقول شاعرهم :
حياك ودّ فإنا لا يحل لنا ... لهو النساء وإن الدين قد غربا
وأما سواع فكان لهذيل بساحل البحر ، وأما يغوث فكان لغطيف من مراد بالجرف من سبأ في قول قتادة .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34