كتاب : فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير
المؤلف : محمد بن علي بن محمد الشوكاني

{ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } وهي الشرك { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } يعني : الكافر { اجتثت مِن فَوْقِ الأرض لَهَا مِن قَرَارٍ } يقول : الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان ، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً . وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم . وأخرج الترمذي ، والنسائي ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن أنس قال : «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقال : { مَثَلُ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } حتى بلغ : { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا } قال : " هي النخلة " { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } حتى بلغ : { ما لها مِن قَرَارٍ } قال : " هي الحنظلة " . وروي موقوفاً على أنس ، قال الترمذي : الموقوف أصح . وأخرج أحمد وابن مردويه . قال السيوطي بسند جيد عن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله : { كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ } قال : " هي التي لا ينقص ورقها قال : هي النخلة " وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : " إن شجرة من الشجر ، لا يطرح ورقها مثل المؤمن " قال : فوقع الناس في شجر البوادي . ووقع في قلبي أنها النخلة ، فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هي النخلة " وفي لفظ للبخاري قال : " أخبروني عن شجرة كالرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها وتؤتي أكلها كل حين " فذكر نحوه . وفي لفظ لابن جرير وابن مردويه من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون ما الشجرة الطيبة؟ " ، " ثم قال : هي النخلة " وروي نحو هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا } قال : كل ساعة بالليل والنهار والشتاء والصيف ، وذلك مثل المؤمن يطيع ربه بالليل والنهار والشتاء والصيف . وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال : يكون أخضر ثم يكون أصفر . وأخرج عنه أيضاً في قوله : { كُلَّ حِينٍ } قال : جذاذ النخل . وأخرج الفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً : { تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } قال : تطعم في كل ستة أشهر . وأخرج أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه أيضاً قال : الحين هنا : سنة .

وأخرج البيهقي عنه أيضاً قال : الحين : قد يكون غدوة وعشية . وقد روي عن جماعة من السلف في هذا أقوال كثيرة .
وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن البراء بن عازب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، فذلك قوله سبحانه : { يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت فِى الحياة الدنيا وَفِى الآخرة } » وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي عن البراء بن عازب في قوله : { يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ } الآية قال : التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا : من ربك؟ فقال : ربي الله ، قال : وما دينك؟ قال : ديني الإسلام . قال : ومن نبيك؟ قال نبيي محمد صلى الله عليه وسلم . فذلك التثبيت في الحياة الدنيا . وأخرج البيهقي عن ابن عباس نحوه . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه عن أبي سعيد في الآية قال : في الآخرة القبر . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : « قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ } الآية . قال : » هذا في القبر « وأخرج البيهقي من حديثها نحوه . وأخرج البزار عنها أيضاً قالت : » قلت : يا رسول الله ، تبتلى هذه الأمة في قبورها ، فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟ قال : { يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ } الآية « وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره ، وفي جوابه عليهم وفي عذاب القبر وفتنته ، وليس هذا موضع بسطها ، وهي معروفة .

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

قوله : { أَلَمْ تَرَ } : هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له ، وهو تعجيب من حال الكفار حيث جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر أي : بدل شكرها الكفر ، بها ، وذلك بتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم ، وأنعم عليهم به ، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنهم كفار مكة وأن الآية نزلت فيهم . وقيل : نزلت في الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر . وقيل : نزلت في بطنين من بطون قريش بني مخزوم ، وبني أمية . وقيل : نزلت في منتصرة العرب . وهم جبلة بن الأيهم وأصحابه ، وفيه نظر ، فإن جبلة وأصحابه لم يسلموا إلاّ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وقيل : إنها عامة في جميع المشركين . وقيل : المراد بتبديل نعمة الله كفراً أنهم لما كفروها سلبهم الله ذلك فصاروا متبدّلين بها الكفر { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } أي : أنزلوا قومهم بسبب ما زينوه لهم من الكفر دار البوار ، وهي جهنم ، والبوار : الهلاك . وقيل : هم قادة قريش أحلوا قومهم يوم بدر دار البوار أي : الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به ، ومنه قول الشاعر :
فلم أرَ مثلهم أبطال حرب ... غداة الحرب إذ خيف البوار
والأوّل أولى لقوله : { جَهَنَّمَ } فإنه عطف بيان لدار البوار ، و { يَصْلَوْنَهَا } في محل نصب على الحال ، أو هو مستأنف لبيان كيفية حلولهم فيها { وَبِئْسَ القرار } أي : بئس القرار قرارهم فيها ، أو بئس المقرّ جهنم ، فالمخصوص بالذمّ محذوف { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } معطوف على { وأحلوا } أي : جعلوا لله شركاء في الربوبية ، أو في التسمية وهي الأصنام . قرأ ابن كثير وأبو عمرو « ليضلوا » بفتح الياء أي : ليضلوا أنفسهم عن سبيل الله ، وتكون اللام للعاقبة ، أي : ليتعقب جهلهم لله أنداداً ضلالهم ، لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه ، وحسن استعمال لام العاقبة هنا؛ لأنها تشبه الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب ، والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز . وقرأ الباقون بضم الياء ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله ، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أنداداً . ثم هدّدهم سبحانه ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ تَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من الشهوات ، وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أي : مردّكم ومرجعكم إليها ليس إلا ، ولما كان هذا حالهم ، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وانهماكهم فيه لا يقلعون عنه ، ولا يقبلون فيه نصح الناصحين ، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي قربانه إيضاحاً لما تكون عليه عاقبتهم ، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلا بدّ لهم من تعاطي الأسباب المقتضية ذلك ، فجملة : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } تعليل للأمر بالتمتع ، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره .

ويجوز أن تكون هذه الجملة جواباً لمحذوف دلّ عليه سياق الكلام ، كأنه قيل : فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار ، والأوّل أولى والنظم القرآني عليه أدلّ . وذلك كما يقال لمن يسعى في مخالفة السلطان : اصنع ما شئت من المخالفة ، فإن مصيرك إلى السيف .
{ قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً } لما أمره بأن يقول للمبدّلين نعمة الله كفراً الجاعلين لله أنداداً ما قاله لهم ، أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم ، وهي طائفة المؤمنين ، هذا القول ، والمقول محذوف دلّ عليه المذكور ، أي : قل لعبادي : أقيموا وأنفقوا ويقيموا وينفقوا ، فجزم { يقيموا } على أنه جواب الأمر المحذوف ، وكذلك { ينفقوا } ، ذكر معنى هذا الفراء . وقال الزجاج : إنّ يقيموا مجزوم بمعنى اللام ، أي : ليقيموا فأسقطت اللام ، ثم ذكر وجهاً آخر للجزم مثل ما ذكره الفراء . وانتصاب { سرّا } ً و { علانية } ، إما على الحال ، أي : مسرين ومعلنين ، أو على المصدر ، أي : إنفاق سرّ وإنفاق علانية ، أو على الظرف ، أي : وقت سرّ ووقت علانية . قال الجمهور : السرّ : ما خفي . والعلانية : ما ظهر . وقيل : السرّ : التطوّع ، والعلانية الفرض ، وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ } [ البقرة : 271 ] .
{ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال } قال أبو عبيدة : البيع ها هنا : الفداء ، والخلال : المخالة ، وهو مصدر . قال الواحدي : هذا قول جميع أهل اللغة ، وقال أبو عليّ الفارسي : يجوز أن يكون جمع خلة مثل برمة وبرام وعلبة وعلاب ، والمعنى : أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدي المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك ، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله ، وينقذه من العذاب ، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله ، ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ، بل لا مال لهم إذ ذاك ، فالجملة ، أعني : { مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال } ، لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله ، ويمكن أن يكون فيها أيضاً تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة؛ وذلك لأن تركها كثيراً ما يكون سبب الاشتغال بالبيع ، ورعاية حقوق الأخلاء ، وقد تقدم في البقرة تفسير البيع والخلال .
{ الله الذى خَلَقَ السموات والأرض } أي : أبدعهما واخترعهما على غير مثال ، وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية ، والاسم الشريف مبتدأ ، وما بعده خبره { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } المراد بالسماء هنا جهة العلو ، فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال : إن ابتداء المطر منه .

ويدخل فيه السحاب عند من قال : إن ابتداء المطر منها ، وتدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح . وتنكير الماء هنا للنوعية أي : نوعاً من أنواع الماء ، وهو ماء المطر { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } أي : أخرج بذلك الماء من الثمرات المتنوعة رزقاً لبني آدم يعيشون به ، و «من» في { من الثمرات } للبيان كقولك : أنفقت من الدراهم ، وقيل : للتبعيض؛ لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم ، ومنها ما ليس برزق لهم ، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به { وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك } فجرت على إرادتكم واستعملتموها في مصالحكم . ولذا قال : { لِتَجْرِىَ فِى البحر } كما تريدون وعلى ما تطلبون { بِأَمْرِهِ } أي : بأمر الله ومشيئته ، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } أي : ذللها لكم بالركوب عليها ، والإجراء لها إلى حيث تريدون .
{ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر } لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما . وانتصاب { دائبين } على الحال ، والدؤوب : مرور الشيء في العمل على عادة جارية ، أي : دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره . وقيل : { دائبين } في السير امتثالاً لأمر الله ، والمعنى : يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما { وسخر لكم الليل والنهار } يتعاقبان ، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم . والليل لتسكنوا كما قال سبحانه : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] { وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } قال الأخفش : أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئاً ، فحذف شيئاً . وقيل : المعنى : وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل ما لم تسألوه ، فحذفت الجملة الأخرى قاله ابن الأنباري . وقيل : " من " زائدة ، أي : آتاكم كل ما سألتموه . وقيل : للتبعيض ، أي : آتاكم بعض كل ما سألتموه . وقرأ ابن عباس ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة " من كل " بتنوين كلّ ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون «ما» نافية ، أي : آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له ، ويجوز أن تكون موصولة أي : آتاكم من كل شيء الذي سألتموه { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } أي وإن تتعرّضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالاً فضلاً عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه ، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال ، وأصل الإحصاء : أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد ، وضع حصاة ليحفظه بها ، ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه ، أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط ، ولا أمكنه أصلاً ، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه ، فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها ، واختلاف أجناسها ، اللهم إنا نشكرك على كلّ نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلاّ أنت ، ومما علمناه شكراً لا يحيط به حصر ، ولا يحصره عد ، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه ، وظاهره شمول كل إنسان ، وقال الزجاج : إن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة كما قال :

{ إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 2 ] . { كَفَّارٌ } أي : شديد كفران نعم الله عليه جاحد لها ، غير شاكر لله سبحانه عليها ، كما ينبغي ويجب عليه .
وقد أخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبخاري ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا } قال : هم كفار أهل مكة . وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا } قال : هما الأفجران من قريش : بنو المغيرة ، وبنو أمية ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، عن عمر نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عن عليّ في الآية نحوه أيضاً .
وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي الطفيل ، أن ابن الكوّاء سأل علياً عن الذين بدلوا نعمة الله كفراً . قال : هم الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر . قال : فمن الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال : منهم أهل حروراء . وقد روي في تفسير هذه الآية عن عليّ من طرق نحو هذا . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال : هم جبلة بن الأيهم ، والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } قال : الهلاك .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا } قال : أشركوا بالله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار } قال : بكل فائدة . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ } قال : دؤوبهما في طاعة الله . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة { وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } قال : من كل شيء رغبتم إليه فيه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : من كل الذي سألتموه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي في الشعب عن سليمان التيمي قال : إن الله أنعم على العباد على قدره ، وكلفهم الشكر على قدرهم .

وأخرجا أيضاً عن بكر بن عبد الله المزني قال : يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك . وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال : من لم يعرف نعمة الله عليه إلاّ في مطعمه ومشربه ، فقد قلّ عمله وحضر عذابه . وأخرج ابن أبي الدنيا ، والبيهقي عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم قال : قال داود عليه السلام : «ربّ أخبرني ما أدنى نعمتك عليّ ، فأوحى إليّ : يا داود تنفس فتنفس ، فقال هذا أدنى نعمتي عليك» . وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قال : اللهم اغفر لي ظلمي وكفري . فقال قائل : يا أمير المؤمنين ، هذا الظلم ، فما بال الكفر؟ قال : { إن الإنسان لظلوم كفار } .

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)

قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ } متعلق بمحذوف ، أي : اذكر وقت قوله ، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم ، وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة . وقيل : إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة . وقيل : لقصد الدعاء إلى التوحيد ، وإنكار عبادة الأصنام { رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا } المراد بالبلد هنا : مكة . دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا ، أي : ذا أمن ، وقدّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده ، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا . وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى : { رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا } [ البقرة : 126 ] والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد ، والمطلوب هنالك البلدية والأمن { واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ، يقال : جنبته كذا ، وأجنبته وجنبته ، أي : باعدته عنه ، والمعنى : باعدني ، وباعد بنيّ عن عبادة الأصنام ، قيل : أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية ، وقيل : أراد من كان موجوداً حال دعوته من بنيه وبني بنيه . وقيل : أراد جميع ذريته ما تناسلوا ، ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنماً ، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه . وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر : { وأجنبني } بقطع الهمزة على أن أصله أجنب .
{ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس } أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل؛ لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم ، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه ، ثم قال : { فَمَن تَبِعَنِى } أي : من تبع ديني من الناس فصار مسلماً موحداً { فَإِنَّهُ مِنّى } أي : من أهل ديني ، جعل أهل ملته كنفسه مبالغة . { وَمَنْ عَصَانِى } فلم يتابعني ويدخل في ملتي { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قادر على أن تغفر له . قيل : قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به . كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك ، كذا قال ابن الأنباري . وقيل : المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك . وقيل : إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك .
ثم قال : { رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى } قال الفراء : من للتبعيض ، أي : بعض ذرّيتي . وقال ابن الأنباري : إنها زائدة ، أي : أسكنت ذرّيتي ، والأوّل أولى؛ لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده { بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } أي : لا زرع فيه ، وهو وادي مكة { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } أي : الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره؛ وقيل : إنه محرّم على الجبابرة . وقيل : محرم من أن تنتهك حرمته ، أو يستخفّ به ، وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة ، ثم قال : { ربنا ليقيموا الصلاة } اللام متعلقة بأسكنت ، أي : أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه ، متوجهين إليه ، متبركين به ، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها ، ولعلّ تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة { فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ } الأفئدة جمع فؤاد ، وهو القلب ، عبر به عن جميع البدن؛ لأنه أشرف عضو فيه .

وقيل : هو جمع وفد والأصل أوفدة ، فقدّمت الفاء ، وقلبت الواو ياء ، فكأنه قال : وجعل وفوداً من الناس تهوي إليهم ، و «من» في { من الناس } للتبعيض . وقيل : زائدة ، ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس؛ لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم ، لا توجيهها إلى الحجّ ، ولو كان هذا مراداً لقال تهوي إليه ، وقيل : من للابتداء كقولك : القلب مني سقيم ، يريد قلبي ، ومعنى { تهوي إليهم } : تنزع إليهم ، يقال : هوى نحوه : إذا مال ، وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية : إذا عدت عدواً شديداً كأنها تهوي في بئر ، ويحتمل أن يكون المعنى : تجيء إليهم أو تسرع إليهم ، والمعنى : متقارب ، { وارزقهم مّنَ الثمرات } أي : أرزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك ، أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه ، أو تجلب إليه { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } نعمك التي أنعمت بها عليهم .
{ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } أي : ما نكتمه وما نظهره ، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان . قيل والمراد هنا بما نخفي ما يقابل ما نعلن ، فالمعنى : ما نظهره وما لا نظهره ، وقدّم ما نخفي على ما نعلن للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه . وظاهر النظم القرآني عموم كل ما لا يظهر وما يظهر من غير تقييد بشيء معين من ذلك . وقيل : المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه ، حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع ، وما يعلنه من ذلك . وقيل : ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء . والمجيء بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط ، بل أراد جميع العباد ، فكأن المعنى : أن الله سبحانه يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه . وأما قوله : { وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الأرض وَلاَ فِى السماء } فقال جمهور المفسرين : هو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه ، فقال سبحانه { وما يخفى على الله شيء } من الأشياء الموجودة كائناً ما كان . وإنما ذكر السموات والأرض لأنها المشاهدة للعباد ، وإلاّ فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم ، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية .

قيل : ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقاً لقوله الأوّل ، وتعميماً بعد التخصيص .
ثم حمد الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال : { الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق } أي : وهب لي على كبر سني وسنّ امرأتي ، قيل : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة ، قيل : و «على» هنا بمعنى " مع " أي : وهو لي مع كبري ويأسي عن الولد { إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء } أي : لمجيب الدعاء ، من قولهم : سمع كلامه : إذا أجابه واعتدّ به وعمل بمقتضاه ، وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول ، والمعنى : إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك ، ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظاً عليها غير مهمل لشيء منها ، ثم قال : { وَمِن ذُرّيَتِى } أي : بعض ذريتي ، أي : اجعلني واجعل بعض ذريتي مقيمين للصلاة ، وإنما خصّ البعض من ذريته؛ لأنه علم أن منهم من لا يقيمها كما ينبغي . قال الزجاج : أي اجعل من ذرّيتي من يقيم الصلاة ، ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم ، ويدخل في ذلك دعاؤه في هذا المقام دخولاً أوّلياً . قيل : والمراد بالدعاء هنا : العبادة ، فيكون المعنى : وتقبل عبادتي التي أعبدك بها ، ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه ، مما يستحق أن يغفره الله وإن لم يكن كبيراً ، لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر . ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر لوالديه ، وقد قيل : إنه دعا لهما بالمغفرة قبل أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه كما في قوله سبحانه : { وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] . وقيل : كانت أمه مسلمة ، وقيل : أراد بوالديه : آدم وحوّاء . وقرأ سعيد بن جبير : " ولوالدي " بالتوحيد على إرادة الأب وحده . وقرأ إبراهيم النخعي : " ولولديّ " يعني : إسماعيل وإسحاق ، وكذا قرأ يحيى بن يعمر ، ثم استغفر للمؤمنين . وظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذرّيته أو لم يكن منهم . وقيل : أراد المؤمنين من ذرّيته فقط . { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي : يوم يثبت حساب المكلفين في المحشر ، استعير له لفظ يقوم الذي هو حقيقته في قيام الرجل للدلالة على أنه في غاية الاستقامة . وقيل : إن المعنى : يوم يقوم الناس للحساب . والأول أولى .
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم } الآية قال : فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده ، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته . واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمناً ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماماً ، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة ، وتقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه .

وأخرج أبو نعيم في الدلائل ، عن عقيل بن أبي طالب : «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه ، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه ، فقرأ من سورة إبراهيم : { وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } إلى آخر السورة ، فرّق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا وأجابوه . وأخرج الواقدي ، وابن عساكر من طريق عامر بن سعد عن أبيه قال : كانت سارّة تحت إبراهيم ، فمكثت تحته دهراً لا ترزق منه ولداً ، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة لها قبطية ، فولدت له إسماعيل ، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها ، وعتبت على هاجر ، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أطراف ، فقال لها إبراهيم : هل لك أن تبرّي يمينك؟ قالت : كيف أصنع؟ قال : اثقبي أذنيها واخفضيها ، والخفض : هو الختان ، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسناً ، فقالت سارّة : أراني إنما زدتها جمالاً ، فلم تقارّه على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً ، فنقلها إلى مكة فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى } قال : أسكن إسماعيل وأمه مكة . وأخرج ابن المنذر عنه قال : إن إبراهيم حين قال : { فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ } لو قال : أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم . وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحكم قال : سألت عكرمة وطاوساً وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية : { فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ } فقالوا : البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه . وفي لفظ قالوا : هواهم إلى مكة أن يحجوا . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { تَهْوِى إِلَيْهِمْ } قال : تنزع إليهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي : أن إبراهيم لما دعا للحرم { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات } نقل الله الطائف من فلسطين . وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال : إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في شعب الإيمان ، قال السيوطي : بسندٍ حسن ، عن ابن عباس قالوا : لو كان إبراهيم عليه السلام قال : فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجّ اليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكنه قال أفئدة من الناس فخصّ به المؤمنين .
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : { مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ } قال : من الحزن . وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله : { رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى } قال : من حبّ إسماعيل وأمه { وَمَا نُعْلِنُ } قال : ما نظهر لسارّة من الجفاء لهما . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق } قال : هذا بعد ذلك بحين . وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : بشر إبراهيم بعد سبع عشرة سنة ومائة سنة .

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)

قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم . وهو تعريض لأمته ، فكأنه قال : ولا تحسب أمتك يا محمد ، ويجوز أن يكون خطاباً لكل من يصلح له من المكلفين ، وإن كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم من غير تعريض لأمته ، فمعناه : التثبيت على ما كان عليه من عدم الحسبان كقوله : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 14 ] ونحوه . وقيل : المراد ولا تحسبنه يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ، ولكن معاملة الرقيب عليهم ، أو يكون المراد بالنهي عن الحسبان الإيذان بأنه عالم بذلك لا تخفى عليه منه خافية ، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإعلام للمشركين بأن تأخير العذاب عنهم ليس للرضا بأفعالهم ، بل سنّة الله سبحانه في إمهال العصاة { إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } أي : يؤخر جزاءهم ، ولا يؤاخذهم بظلمهم . وهذه الجملة تعليل للنهي السابق . وقرأ الحسن والسلمي وهو رواية عن أبي عمرو بالنون في « نؤخرهم » . وقرأ الباقون بالتحتية . واختارها أبو عبيد ، وأبو حاتم لقوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله } ومعنى { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } أي : ترفع فيه أبصار أهل الموقف ، ولا تغمض من هول ما تراه في ذلك اليوم ، هكذا قال الفراء ، يقال : شخص الرجل بصره ، وشخص البصر نفسه إلى السماء من هول ما يرى ، والمراد : أن الأبصار بقيت مفتوحة لا تتحرّك من شدة الحيرة والدهشة .
{ مُهْطِعِينَ } أي : مسرعين من أهطع يهطع إهطاعاً : إذا أسرع . وقيل : المهطع : الذي ينظر في ذلّ وخشوع ، ومنه :
بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع
وقيل : المهطع : الذي يديم النظر . قال أبو عبيدة : قد يكون الوجهان جميعاً ، يعني : الإسراع مع إدامة النظر؛ وقيل : المهطع الذي لا يرفع رأسه . وقال ثعلب : المهطع الذي ينظر في ذلّ وخضوع . وقيل : هو الساكت . قال النحاس : والمعروف في اللغة أهطع : إذا أسرع { مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ } أي : رافعي رؤوسهم ، وإقناع الرأس : رفعه ، وأقنع صوته : إذا رفعه ، والمعنى : أنهم يومئذٍ رافعون رؤوسهم إلى السماء ينظرون إليها نظر فزع وذلّ ، ولا ينظر بعضهم إلى بعض . وقيل : إن إقناع الرأس نكسه؛ وقيل : يقال : أقنع : إذا رفع رأسه ، وأقنع : إذا طأطأ ذلة وخضوعاً ، والآية محتملة للوجهين . قال المبرد : والقول الأوّل أعرف في اللغة . قال الشاعر :
أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنما أبصر شيئاً أطمعا
{ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي : لا ترجع إليهم أبصارهم ، وأصل الطرف : تحريك الأجفان ، وسميت العين طرفاً ، لأنه يكون بها ، ومن إطلاق الطرف على العين قول عنترة :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يُوارِي جارتي مأواها
{ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } الهواء في اللغة : المجوف الخالي الذي لم تشغله الأجرام .

والمعنى : أن قلوبهم خالية عن العقل والفهم ، لما شاهدوا من الفزع والحيرة والدهش ، وجعلها نفس الهوى مبالغة ، ومنه قيل للأحمق والجبان : قلبه هواء ، أي : لا رأي فيه ولا قوّة . وقيل : معنى الآية أنها خرجت قلوبهم عن مواضعها فصارت في الحناجر . وقيل : المعنى : أن أفئدة الكفار في الدنيا خالية عن الخير . وقيل : المعنى : أفئدتهم ذات هواء ، ومما يقارب معنى هذه الآية قوله تعالى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ موسى فَارِغاً } [ القصص : 10 ] ، أي : خالياً من كل شيء إلاّ من همّ موسى .
{ وَأَنذِرِ الناس } هذا رجوع إلى خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمره الله سبحانه بأن ينذر الناس . والمراد : الناس على العموم؛ وقيل : المراد : كفار مكة . وقيل : الكفار على العموم . والأوّل أولى لأن الإنذار كما يكون للكافر يكون أيضاً للمسلم . ومنه قوله تعالى : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } [ ياس : 11 ] . ومعنى { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } يوم القيامة ، أي : خوّفهم هذا اليوم ، وهو يوم إتيان العذاب ، وإنما اقتصر على ذكر إتيان العذاب فيه مع كونه يوم إتيان الثواب؛ لأن المقام مقام تهديد . وقيل : المراد : به : يوم موتهم؛ فإنه أوّل أوقات إتيان العذاب؛ وقيل المراد يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ، وانتصاب يوم على أنه مفعول ثانٍ لأنذر { فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } المراد بالذين ظلموا ها هنا : هم الناس ، أي : فيقولون . والعدول إلى الإظهار مكان الإضمار للإشعار بأن الظلم هو العلة فيما نزل بهم ، هذا إذا كان المراد بالناس : هم الكفار . وعلى تقدير كون المراد بهم : من يعمّ المسلمين ، فالمعنى : فيقول الذين ظلموا منهم وهم الكفار { ربنا أخرنا } أمهلنا { إلى أجل قريب } إلى أمد من الزمان معلوم غير بعيد { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ } أي : دعوتك لعبادك على ألسن أنبيائك إلى توحيدك { وَنَتَّبِعِ الرسل } المرسلين منك إلينا فنعمل بما بلغوه إلينا من شرائعك ، ونتدارك ما فرط منا من الإهمال ، وإنما جمع الرسل؛ لأن دعوتهم إلى التوحيد متفقة؛ فاتباع واحد منهم اتباع لجميعهم ، وهذا منهم سؤال للرجوع إلى الدنيا لما ظهر لهم الحق في الآخرة { وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] .
ثم حكى سبحانه ما يجاب به عنهم عند أن يقولوا هذه المقالة ، فقال : { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مّن زَوَالٍ } أي : فيقال لهم هذا القول توبيخاً وتقريعاً ، أي : أولم تكونوا أقسمتم من قبل هذا اليوم مالكم من زوال من دار الدنيا . وقيل : إنه لا قسم منهم حقيقة . وإنما كان لسان حالهم ذلك لاستغراقهم في الشهوات ، وإخلادهم إلى الحياة الدنيا . وقيل : قسمهم هذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] ، وجواب القسم { مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ } وإنما جاء بلفظ الخطاب في { مالكم من زوال } لمراعاة { أقسمتم } ولولا ذلك لقال : مالنا من زوال .

{ وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } أي : استقررتم ، يقال : سكن الدار وسكن فيها ، وهي بلاد ثمود ونحوهم من الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالله ، والعصيان له { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } قرأ عبد الرحمن السلمي « نبين » بالنون والفعل المضارع ، وقرأ من عداه بالتاء الفوقية والفعل الماضي ، أي : تبين لكم بمشاهدة الآثار كيف فعلنا بهم من العقوبة والعذاب الشديد بما فعلوه من الذنوب ، وفاعل تبين ما دلت عليه الجملة المذكورة بعده ، أي : تبين لكم فعلنا العجيب بهم { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } في كتب الله وعلى ألسن رسله إيضاحاً لكم وتقريراً وتكميلاً للحجة عليكم .
{ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } الجملة في محل نصب على الحال ، أي : فعلنا بهم ما فعلنا ، والحال أنهم قد مكروا في ردّ الحق وإثبات الباطل مكرهم العظيم ، الذي استفرغوا فيه وسعهم { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي : وعند الله جزاء مكرهم ، أو وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم ، أو وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به ، على أن يكون المكر مضافاً إلى المفعول ، قيل : والمراد بهم : قوم محمد صلى الله عليه وسلم مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين هموا بقتله أو نفيه . وقيل : المراد ما وقع من النمروذ حيث حاول الصعود إلى السماء ، فاتخذ لنفسه تابوتاً ، وربط قوائمه بأربعة نسور .
{ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } قرأ عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي « وإن كاد مكرهم » بالدال المهملة مكان النون . وقرأ غيرهم من القراء ( وإن كان ) بالنون . وقرأ ابن محيص ، وابن جريج ، والكسائي « لتزول » بفتح اللام على أنها لام الابتداء ، وقرأ الجمهور بكسرها على أنها لام الجحود . قال ابن جرير : الاختيار هذه القراءة ، يعني : قراءة الجمهور؛ لأنها لو كانت زالت لم تكن ثابتة ، فعلى قراءة الكسائي ومن معه تكون إن هي المخففة من الثقيلة . واللام هي الفارقة ، وزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدّته ، أي : وإن الشأن كان مكرهم معدّاً لذلك . قال الزجاج : وإن كان مكرهم يبلغ في الكيد إلى إزالة الجبال ، فإن الله ينصر دينه . وعلى قراءة الجمهور يحتمل وجهين : أحدهما أن تكون « إن » هي المخففة من الثقيلة ، والمعنى كما مرّ . والثاني : أن تكون نافية ، واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم ، على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها مدى الدهر ، فالجملة على هذا حال من الضمير في { مكروا } لا من قوله : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي : والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن ميمون بن مهران في قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون } قال : هي تعزية للمظلوم ووعيد للظالم .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } قال : شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مُهْطِعِينَ } قال : يعني بالإهطاع النظر من غير أن يطرف { مُقْنِعِى رُؤُوسَهُمْ } قال : الإقناع رفع رؤوسهم { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } قال : شاخصة أبصارهم { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } ليس فيها شيء من الخير ، فهي كالخربة . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { مهطعين } قال : مديمي النظر . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة { مهطعين } قال : مسرعين . وأخرج هؤلاء عن قتادة في قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء } قال : ليس فيها شيء ، خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } يقول : أنذرهم في الدنيا من قبل أن يأتيهم العذاب . وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } هو يوم القيامة . وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ } قال : عما أنتم فيه إلى ما تقولون . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { مَالَكُمْ مّن زَوَالٍ } قال : بعث بعد الموت .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن الحسن في قوله : { وَسَكَنتُمْ فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } قال : عملتم بمثل أعمالهم . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } يقول : ما كان مكرهم { لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ } يقول : شركهم كقوله : { تَكَادُ السموات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } [ مريم : 90 ] . وأخرج عبد بن حميد ، ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري عن عليّ ابن أبي طالب ، أنه قرأ هذه الآية : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } ثم فسرها فقال : إن جباراً من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أنظر إلى ما في السماء ، فأمر بفراخ النسور تعلف اللحم حتى شبت وغلظت ، وأمر بتابوت فنجر يسع رجلين ، ثم جعل في وسطه خشبة ، ثم ربط أرجلهنّ بأوتاد ، ثم جوّعهنّ ، ثم جعل على رأس الخشبة لحماً ، ثم دخل هو وصاحبه في التابوت ، ثم ربطهنّ إلى قوائم التابوت ، ثم خلي عنهنّ يردن اللحم ، فذهبن به ما شاء الله ، ثم قال لصاحبه : افتح فانظر ماذا ترى ، ففتح فقال : انظر إلى الجبال كأنها الذباب ، قال : أغلق فأغلق ، فطرن به ما شاء الله ، ثم قال : افتح ففتح ، فقال : انظر ماذا ترى ، فقال : ما أرى إلاّ السماء ، وما أراها تزداد إلاّ بعداً ، قال : صوّب الخشبة فصوّبها فانقضت تريد اللحم ، فسمع الجبال هدّتها فكادت تزول عن مراتبها . وقد روي نحو هذه القصة لبختنصر وللنمروذ من طرق ذكرها في الدرّ المنثور .

فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)

{ مُخْلِفَ } منتصب على أنه مفعول { تحسبنّ } ، وانتصاب { رسله } على أنه مفعول { وعده } ، قيل : وذلك على الاتساع ، والمعنى : مخلف رسله وعده . قال القتيبي : هو من المقدّم الذي يوضحه التأخير . والمؤخر الذي يوضحه التقديم ، وسواء في ذلك مخلف وعده رسله ، ومخلف رسله وعده ، ومثل ما في الآية قول الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظلّ رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع
وقال الزمخشري : قدّم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً كقوله : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 9 ] . ثم قال { رسله } ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً ، وليس من شأنه إخلاف المواعيد ، فكيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته . والمراد بالوعد هنا : هو ما وعدهم سبحانه بقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] و { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى } [ المجادلة : 21 ] . وقرىء « مخلف وعدهَ رسِله » بجرّ { رسله } ونصب { وعده } . قال الزمخشري : وهذه القراءة في الضعف كمن قرأ : { قتل أولادهم شركائهم } [ الأنعام : 137 ] . { إنَّ الله عَزِيزٌ } غالب لا يغالبه أحد { ذُو انتقام } ينتقم من أعدائه لأوليائه والجملة تعليل للنهي ، وقد مرّ تفسيره في أوّل آل عمران .
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } قال الزجاج : انتصاب { يوم } على البدل من { يوم يأتيهم } ، أو على الظرف للانتقام . انتهى . ويجوز أن ينتصب بمقدّر يدل عليه الكلام ، أي : واذكر ، أو وارتقب ، والتبديل قد يكون في الذات ، كما في : بدّلت الدراهم دنانير ، وقد يكون في الصفات كما في : بدّلت الحلقة خاتماً . والآية تحتمل الأمرين . وقد قيل : المراد : تغير صفاتها . وبه قال الأكثر ، وقيل تغير ذاتها ، ومعنى { *والسموات } أي : وتبدّل السموات غير السموات على الاختلاف الذي مرّ { والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } أي : برز العباد لله ، أو الظالمون كما يفيده السياق ، أي : ظهروا من قبورهم ، أو ظهر من أعمالهم ما كانوا يكتمونه . والتعبير على المستقبل بلفظ الماضي للتنبيه على تحقق وقوعه كما في قوله : { وَنُفِخَ فِى الصور } [ يس : 51 ، الزمر : 68 ، ق : 20 ] و { الواحد القهار } المتفرد بالألوهية الكثير القهر لمن عانده .
{ وَتَرَى المجرمين يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الأصفاد } معطوف على { برزوا } أو على { تبدّل } ، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة ، والمجرمون هم : المشركون ، و { يومئذٍ } يعني : يوم القيامة ، و { مُقْرِنِينَ } أي : مشدودين إما بجعل بعضهم مقروناً مع بعض ، أو قرنوا مع الشياطين ، كما في قوله : { نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . أو جعلت أيديهم مقرونة إلى أرجلهم ، والأصفاد : الأغلال ، والقيود . والجار والمجرور متعلق بمقرّنين ، أو حال من ضميره . يقال : صفدته صفداً ، أي : قيدته ، والاسم : الصفد ، فإذا أردت التكثير ، قلت صَفَّدته . قال عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
وقال حسان بن ثابت :

من بين مأسور يشدّ صفاده ... صقر إذا لاقى الكريهة حامي
ويقال : صفدته وأصفدته : إذا أعطيته . ومنه قول النابغة :
ولم أعرّض أبيت اللعن بالصفد ... { سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ } السرابيل : القُمص ، واحدها سربال . ومنه قول كعب بن مالك :
تلقاكم عصب حول النبيّ لهم ... من نسج داود في الهيجا سرابيل
والقطران : هو قطران الإبل الذي تهنأ ، به أي : قمصانهم من قطران تطلى به جلودهم ، حتى يعود ذلك الطلاء كالسرابيل . وخصّ القطران لسرعة اشتعال النار فيه مع نتن رائحته . وقال جماعة : هو النحاس ، أي : قمصانهم من نحاس . وقرأ عيسى بن عمر " من قطران " بفتح القاف ، وتسكين الطاء . وقرىء بكسر القاف وسكون الطاء . وقرىء بفتح القاف والطاء . رويت هذه القراءة عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ويعقوب وهذه الجملة في محل نصب على الحال { وتغشى وُجُوهَهُمْ النار } أي : تعلو وجوههم وتضر بها؛ وخص الوجوه؛ لأنها أشرف ما في البدن ، وفيها الحواس المدركة ، والجملة في محل نصب على الحال أيضاً ، و { لّيَجْزِىَ الله } متعلق بمحذوف ، أي : يفعل ذلك بهم ليجزي { كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } من المعاصي ، أي : جزاء موافقاً لما كسبت من خير أو شرّ { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } لا يشغله عنه شيء . وقد تقدّم تفسيره .
{ هذا بلاغ } أي : هذا الذي أنزل إليك بلاغ ، أي : تبليغ وكفاية في الموعظة والتذكير . قيل : إن الإشارة إلى ما ذكره سبحانه هنا من قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا } إلى { سَرِيعُ الحساب } أي : هذا فيه كفاية من غير ما انطوت عليه السورة . وقيل : الإشارة إلى جميع السورة . وقيل : إلى القرآن . ومعنى : { لِلنَّاسِ } للكفار ، أو لجميع الناس على ما قيل في قوله : { وَأَنذِرِ الناس } ، { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } معطوف على محذوف ، أي : لينصحوا ولينذروا به ، والمعنى : وليخوفوا به ، وقرىء ( ولينذروا ) بفتح الياء التحتية والذال المعجمة . يقال : نذرت بالشيء أنذر : إذا علمت به فاستعددت له . { وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } أي : ليعلموا بالأدلة التكوينية المذكورة سابقاً وحدانية الله سبحانه ، وأنه لا شريك له { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي : وليتعظ أصحاب العقول . وهذه اللامات متعلقة بمحذوف ، والتقدير : وكذلك أنزلنا ، أو متعلقة بالبلاغ المذكور ، أي : كفاية لهم في أن ينصحوا وينذروا ويعلموا بما أقام الله من الحجج والبراهين وحدانيته سبحانه ، وأنه لا شريك له ، وليتعظ بذلك أصحاب العقول التي تعقل وتدرك .
وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } قال : عزيز والله في أمره ، يملي وكيده متين ، ثم إذا انتقم انتقم بقدرة . وأخرج مسلم وغيره من حديث ثوبان ، قال : «جاء رجل من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين يكون الناس يوم تبدّل الأرض غير الأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في " الظلمة دون الجسر " .

وأخرج مسلم أيضاً وغيره من حديث عائشة ، قالت : أنا أوّل من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } قالت : أين الناس يومئذٍ؟ قال : « على الصراط » وأخرج البزار ، وابن المنذر ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، وابن عساكر عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قول الله { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } قال : « أرض بيضاء ، كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ، ولم يعمل بها خطيئة » وأخرجه عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ في العظمة ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث عنه موقوفاً نحوه ، قال البيهقي : والموقوف أصح .
وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن زيد بن ثابت قال : أتى اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « جاءوني يسألونني وسأخبرهم قبل أن يسألوني { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض } قال : أرض بيضاء كالفضة ، فسألهم فقالوا : أرض بيضاء كالنقيّ » وأخرج ابن مردويه مرفوعاً عن عليّ نحو ما تقدّم عن ابن مسعود . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن أنس موقوفاً نحوه ، وقد روي نحو ذلك عن جماعة من الصحابة ، وثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة نقي » وفيهما أيضاً من حديث أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده . . . » الحديث .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { مُّقَرَّنِينَ فِى الأصفاد } قال : الكبول . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة في { الأصفاد } قال : القيود والأغلال . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : في السلاسل . وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { فِى الأصفاد } يقول : في وثاق .
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي { سَرَابِيلُهُم } قال : قمصهم . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { مّن قَطِرَانٍ } قال : قطران الإبل . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال : هذا القطران يطلى به حتى يشتعل ناراً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو النحاس المذاب . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قرأ { مّن قَطِرَانٍ } فقال : القطر : الصفر ، والآن : الحارّ . وأخرج أبو عبيد ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة نحوه . وأخرج مسلم وغيره عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ، ودرع من جرب » وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { هذا بلاغ لّلنَّاسِ } قال : القرآن ، { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } قال : القرآن .

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

قوله : { الر } قد تقدّم الكلام في محله مستوفي ، والإشارة بقوله : { تِلْكَ } إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والتعريف في { الكتاب } . قيل : هو للجنس ، والمراد جنس الكتب المتقدّمة . وقيل : المراد به القرآن ، ولا يقدح في هذا ذكر القرآن بعد الكتاب ، فقد قيل : إنه جمع له بين الإسمين ، وقيل : المراد بالكتاب : هذه السورة ، وتنكير القرآن للتفخيم ، أي : القرآن الكامل { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } قرأ نافع وعاصم بتخفيف الباء من { ربما } . وقرأ الباقون بتشديدها ، وهما لغتان . قال أبو حاتم : أهل الحجاز يخففون ، ومنه قول الشاعر :
ربما ضربة سيف صقيل ... بين بصرى وطعنة نجلاء
وتميم وربيعة يثقلونها . وقد تزاد التاء الفوقية ، وأصلها أن تستعمل في القليل . وقد تستعمل في الكثير . قال الكوفيون : أي يودّ الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين . ومنه قول الشاعر :
رب رفد هرقته ذلك اليو ... م وأسرى من معشر أقيال
وقيل : هي هنا للتقليل؛ لأنهم ودّوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب . قيل : و « ما » هنا لحقت ربّ لتهيئها للدخول على الفعل . وقيل : هي نكرة بمعنى شيء ، وإنما دخلت « ربّ » هنا على المستقبل مع كونها لا تدخل إلاّ على الماضي؛ لأن المترقب في أخباره سبحانه كالواقع المتحقق ، فكأنه قيل : ربما ودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين ، أي : منقادين لحكمه مذعنين له من جملة أهله . وكانت هذه الودادة منهم عند موتهم أو يوم القيامة . والمراد : أنه لما انكشف لهم الأمر ، واتضح بطلان ما كانوا عليه من الكفر وأن الدين عند الله سبحانه هو الإسلام لا دين غيره ، حصلت منهم هذه الودادة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل هي لمجرد التحسر والتندم ولوم النفس على ما فرّطت في جنب الله . وقيل : كانت هذه الودادة منهم عند معاينة حالهم وحال المسلمين . وقيل : عند خروج عصاة الموحدين من النار ، والظاهر أن هذه الودادة كائنة منهم في كل وقت مستمرة في كل لحظة بعد انكشاف الأمر لهم .
{ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } هذا تهديد لهم أي : دعهم عما أنت بصدده من الأمر لهم والنهي ، فهم لا يرعوون أبداً ولا يخرجون من باطل ولا يدخلون في حق ، بل مرهم بما هم فيه من الاشتغال بالأكل والتمتع بزهرة الدنيا ، فإنهم كالأنعام التي لا تهتم إلاّ بذلك ، ولا تشتغل بغيره ، والمعنى : اتركهم على ما هم عليه من الاشتغال بالأكل ونحوه من متاع الدنيا ومن إلهاء الأمل لهم عن اتباعك فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وسوء صنيعهم . وفي هذا من التهديد والزجر ما لا يقدر قدره ، يقال : ألهاه كذا أي : شغله ، ولهى هو عن الشيء يلهى ، أي : شغلهم الأمل عن اتباع الحق ، وما زالوا في الآمال الفارغة والتمنيات الباطلة حتى أسفر الصبح لذي عينين ، وانكشف الأمر ورأوا العذاب يوم القيامة ، فعند ذلك يذوقون وبال ما صنعوا .

والأفعال الثلاثة مجزومة على أنها جواب الأمر ، وهذه الآية منسوخة بآية السيف .
{ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ } أي : وما أهلكنا قرية من القرى بنوع من أنواع العذاب { إِلاَّ وَلَهَا } أي : لتلك القرية { كِتَابٌ } أي أجل مقدّر لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه { مَّعْلُومٌ } غير مجهول ولا منسيّ ، فلا يتصوّر التخلف عنه بوجه من الوجوه . وجملة { لَهَا كِتَابٌ } في محل نصب على الحال من { قرية } وإن كانت نكرة؛ لأنها قد صارت بما فيها من العموم في حكم الموصوفة ، والواو للفرق بين كون هذه الجملة حالاً ، أو صفة فإنها تعينها للحالية كقولك : حالي رجل على كتفه سيف . وقيل : إن الجملة صفة { لقرية } . والواو لتأكيد اللصوق بين الصفة والموصوف .
{ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا } أي : ما تسبق أمة من الأمم أجلها المضروب لها ، المكتوب في اللوح المحفوظ؛ والمعنى : أنه لا يأتي هلاكها قبل مجيء أجلها { وما يستأخرون } أي : وما يتأخرون عنه ، فيكون مجيء هلاكهم بعد مضي الأجل المضروب له ، وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ، ولرعاية الفواصل ، ولذلك حذف الجار والمجرور ، والجملة مبينة لما قبلها ، فكأنه قيل : إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترّ به العقلاء ، فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدّم ولا يتأخر . وقد تقدم تفسير الأجل في أوّل سورة الأنعام .
ثم لما فرغ من تهديد الكفار شرع في بيان بعض عتوّهم في الكفر ، وتماديهم في الغيّ مع تضمنه لبيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب ، فقال { وَقَالُواْ يأيهالذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } أي قال : كفار مكة مخاطبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتهكمين به حيث أثبتوا له إنزال الذكر عليه مع إنكارهم لذلك في الواقع أشدّ إنكار ، ونفيهم له أبلغ نفي ، أو أرادوا : ب { يأيها الذي نزل عليه الذكر } في زعمه ، وعلى وفق ما يدعيه { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } أي : إنك بسبب هذه الدعوى التي تدّعيها من كونك رسولاً لله مأموراً بتبليغ أحكامه لمجنون ، فإنه لا يدّعي مثل هذه الدعوى العظيمة عندهم من كان عاقلاً ، فقولهم هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم هو كقول فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] .
{ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة } { لو ما } حرف تحضيض مركب من « لو » المفيدة للتمني ، ومن « ما » المزيدة ، فأفاد المجموع الحثّ على الفعل الداخلة هي عليه ، والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } .

قال الفراء : الميم في { لو ما } بدل من اللام في « لولا » . وقال الكسائي : لولا ولو ما سواء في الخبر والاستفهام . قال النحاس : لو ما ولولا وهلا واحد . وقيل : المعنى : لو ما تأتينا بالملائكة فيعاقبونا على تكذيبنا لك .
{ ما ننزل الملائكة إِلاَّ بالحق } قرىء ( ما ننزل ) بالنون مبنياً للفاعل ، وهو الله سبحانه فهو على هذا من التنزيل ، والمعنى على هذه القراءة : قال الله سبحانه مجيباً على الكفار لما طلبوا إتيان الملائكة إليهم : ما ننزل نحن { الملائكة إِلاَّ بالحق } أي : تنزيلاً متلبساً بالحق الذي يحق عنده تنزيلنا لهم فيما تقتضيه الحكمة الإلهية والمشيئة الربانية ، وليس هذا الذي اقترحتموه مما يحق عنده تنزيل الملائكة ، وقرىء « ننزل » مخففاً من الإنزال ، أي : ما ننزل نحن الملائكة إلاّ بالحق ، وقرىء « ما تنزل » بالمثناة من فرق مضارعاً مثقلاً مبنياً للفاعل من التنزيل بحذف إحدى التاءين ، أي : تتنزل ، وقرىء أيضاً بالفوقية مضارعاً مبنياً للمفعول . وقيل : معنى { إلا بالحق } إلا بالقرآن . وقيل : بالرسالة ، وقيل : بالعذاب { وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } في الكلام حذف ، والتقدير : ولو أنزلنا الملائكة لعوجلوا بالعقوبة ، وما كانوا إذا منظرين . فالجملة المذكورة جزاء للجملة الشرطية المحذوفة .
ثم أنكر على الكفار استهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم : { يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } فقال سبحانه { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر } أي : نحن نزلنا ذلك الذكر الذي أنكروه ونسبوك بسببه إلى الجنون { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } عن كل ما لا يليق به من تصحيف وتحريف وزيادة ونقص ونحو ذلك . وفيه وعيد شديد للمكذبين به ، المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : الضمير في { له } لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأول أولى بالمقام .
ثم ذكر سبحانه أنه عادة أمثال هؤلاء الكفار مع أنبيائهم كذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } أي : رسلاً ، وحذف لدلالة الإرسال عليه ، أي : رسلاً كائنة من قبلك { فِى شِيَعِ الأولين } في أممهم وأتباعهم وسائر فرقهم وطوائفهم . قال الفراء : الشيع : الأمة التابعة بعضهم بعضاً فيما يجتمعون عليه ، وأصله من شاعه : إذا تبعه . وإضافته إلى { الأوّلين } من إضافة الصفة إلى الموصوف عند بعض النحاة ، أو من حذف الموصوف عند آخرين منهم .
{ وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : ما يأتي رسول من الرسل شيعته إلاّ كانوا به يستهزءون ، كما يفعله هؤلاء الكفار مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وجملة { إلاّ كانوا به يستهزءون } في محل نصب على الحال ، أو في محل رفع على أنها صفة { رسول } أو في محل جر على أنها صفة له على اللفظ لا على المحل .

{ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ المجرمين } أي : مثل ذلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم { نَسْلُكُهُ } أي : الذكر . { فِى قُلُوبِ المجرمين } ، فالإشارة إلى ما دلّ عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء . والسلك : إدخال الشيء في الشيء ، كالخيط في المخيط ، قاله الزجاج ، قال : والمعنى كما فعل بالمجرمين الذين استهزءوا نسلك الضلال في قلوب المجرمين . وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } في محل نصب على الحال من ضمير { نسلكه } أي : لا يؤمنون بالذكر الذي أنزلناه ، ويجوز أن تكون مستأنفة لبيان ما قبلها فلا محل لها ، وقيل : إن الضمير في { نسلكه } للاستهزاء ، وفي : { لا يؤمنون } به للذكر ، وهو بعيد ، والأولى أن الضميرين للذكر { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } أي مضت طريقتهم التي سنّها الله في إهلاكهم ، حيث فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء . وقال الزجاج : وقد مضت سنّة الله في الأوّلين بأن سلك الكفر والضلال في قلوبهم .
ثم حكى الله سبحانه إصرارهم على الكفر وتصميمهم على التكذيب والاستهزاء ، فقال : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم } أي : على هؤلاء المعاندين لمحمد صلى الله عليه وسلم المكذبين له المستهزئين به { بَاباً مِنَ السماء } أي : من أبوابها المعهودة ، ومكناهم من الصعود إليه { فَظَلُّواْ فِيهِ } أي : في ذلك الباب { يَعْرُجُونَ } يصعدون بآلة ، أو بغير آلة حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب الملكوت التي لا يجحدها جاحد ، ولا يعاند عند مشاهدتها معاند . وقيل : الضمير في { فظلوا } للملائكة ، أي : فظل الملائكة يعرجون في ذلك الباب ، والكفار يشاهدونهم ، وينظرون صعودهم من ذلك الباب { لَقَالُواْ } أي : الكفار لفرط عنادهم وزيادة عتوّهم : { إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا } قرأ ابن كثير « سكرت » بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديد ، وهو من سكر الشراب ، أو من السكر ، وهو سدّها عن الإحساس ، يقال : سكر النهر : إذا سدّه وحبسه عن الجري . ورجح الثاني بقراءة التخفيف ، وقال أبو عمرو بن العلاء : سكرت : غشيت وغطت ، ومنه قول الشاعر :
وطلعت شمس عليها مغفر ... وجعلت عين الجزور تسكر
وبه قال أبو عبيد ، وأبو عبيدة ، وروي عن أبي عمرو أيضاً أنه من سكر الشراب ، أي : غشيهم ما غطى أبصارهم كما غشي السكران ما غطى عقله ، وقيل : معنى سكرت : حبست ، كما تقدم ، ومنه قول أوس بن حجر :
فصرت على ليلة ساهره ... فليست بطلق ولا ساكره
قال النحاس : وهذه الأقوال متقاربة { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } أضربوا عن قولهم { سكرت أبصارنا } ثم ادّعوا أنهم مسحورون ، أي : سحرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا بيان لعنادهم العظيم الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء كائناً ما كان ، فإنهم إذا رأوا آية توجب عليم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر ، أو أن عقولهم قد سحرت ، فصار إدراكهم غير صحيح .

ومن بلغ في التعنت إلى هذا الحدّ فلا تنفع فيه موعظة ، ولا يهتدي بآية .
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { تِلْكَ ءايات الكتاب } قال : التوراة والإنجيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في { تِلْكَ ءايات الكتاب } قال : الكتب التي كانت قبل القرآن و { قرآن مبين } قال : مبين ، والله هداه ورشده وخيره .
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } قال : ودّ المشركون يوم بدر حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار أنهم كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في الآية قال : هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار . وأخرج سعيد بن منصور ، وهناد بن السريّ في الزهد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس قال : ما يزال الله يشفع ويدخل ويشفع ويرحم حتى يقول : من كان مسلماً فليدخل الجنة ، فذلك قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } . وأخرج ابن المبارك في الزهد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في البعث عن ابن عباس وأنس أنهما تذاكرا هذه الآية { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } فقالا : هذا حيث يجمع الله من أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار ، فيقول المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون ، فيغضب الله لهم فيخرجهم بفضله ورحمته . وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه بسند ، قال السيوطي صحيح عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن ناساً من أمتي يعذبون بذنوبهم ، فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ، ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم ، فلا يبقى موحد إلاّ أخرجه الله من النار » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } . وأخرج ابن أبي عاصم في السنّة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً نحوه . وأخرج إسحاق بن راهويه ، وابن حبان ، والطبراني ، وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه أيضاً . وأخرج هناد بن السريّ ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم عن أنس مرفوعاً نحوه أيضاً . وفي الباب أحاديث في تعيين هذا السبب في نزول هذه الآية . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } الآية قال : هؤلاء الكفرة .

وأخرج أيضاً عن أبي مالك في قوله : { ذَرْهُمْ } قال : خلّ عنهم . وأخرج ابن جرير عن الزهري في قوله : { مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأخِرُونَ } قال : نرى أنه إذا حضره أجله ، فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم ، وأما ما لم يحضر أجله ، فإن الله يؤخر ما شاء ويقدّم ما شاء . قلت : وكلام الزهري هذا لا حاصل له ولا مفاد فيه .
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : { يأَيُّهَا الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر } قال : القرآن . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { مَا نُنَزّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق } قال : بالرسالة والعذاب . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : { وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ } قال : وما كانوا لو نزلت الملائكة بمنظرين من أن يعذبوا . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { وَإِنَّا لَهُ لحافظون } قال : عندنا .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { فِى شِيَعِ الأولين } قال : أمم الأوّلين . وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس في قوله : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ المجرمين } قال : الشرك نسلكه في قلوب المشركين . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة مثله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الحسن مثله أيضاً . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } قال : وقائع الله فيمن خلا من الأمم .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : { فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ } قال ابن جريج : قال ابن عباس : فظلت الملائكة تعرج فنظروا إليهم لقالوا : { إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا } قال : قريش تقوله . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في الآية عن ابن عباس أيضاً يقول : ولو فتحنا عليهم باباً من أبواب السماء فظلت الملائكة تعرج فيه يختلفون فيه ذاهبين وجائين لقال أهل الشرك : إنما أخذ أبصارنا ، وشبه علينا ، وإنما سحرنا . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { سكرت أبصارنا } قال : سدّت ، وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه قال : ومن قرأ « سكرت » مخففة ، فإنه يعني : سحرت .

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

لما ذكر سبحانه كفر الكافرين وعجزهم وعجز أصنامهم ، ذكر قدرته الباهرة وخلقه البديع ليستدل بذلك على وحدانيته ، فقال : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا } الجعل إن كان بمعنى الخلق ، ففي السماء متعلق به ، وإن كان بمعنى التصيير ، ففي السماء خبره ، والبروج في اللغة : القصور والمنازل ، والمراد بها هنا : منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة ، وهي : الاثنا عشر المشهورة كما تدل على ذلك التجربة ، والعرب تعدّ المعرفة بمواقع النجوم ومنازلها من أجل العلوم . ويستدلون بها على الطرقات والأوقات والخصب والجدب . وقالوا : الفلك إثنا عشر برجاً ، وأسماء هذه البروج : الحمل ، الثور ، الجوزاء ، السرطان ، الأسد ، السنبلة ، الميزان ، العقرب ، القوس ، الجدي ، الدلو ، الحوت . كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة المشتغلين بهذا العلم ، ويسمون الحمل والأسد والقوس : مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي : مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو : مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت : مثلثة مائية . وأصل البروج : الظهور ، ومنه : تبرج المرأة : بإظهار زينتها . وقال الحسن وقتادة : البروج : النجوم ، وسميت بذلك ، لظهورها وارتفاعها . وقيل : السبعة السيارة منها ، قاله أبو صالح . وقيل : هي قصور وبيوت في السماء فيها حرس . والضمير في { وزيناها } راجع إلى السماء ، أي : وزينا السماء بالشمس والقمر والنجوم والبروج للناظرين إليها ، أو للمتفكرين المعتبرين ، المستدلين إذا كان من النظر ، وهو الاستدلال .
{ وحفظناها } أي : السماء { مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ } قال أبو عبيدة : الرجيم : المرجوم بالنجوم ، كما في قوله : { رُجُوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] والرجم في اللغة : هو الرمي بالحجارة ، ثم قيل : للعن والطرد والإبعاد : رجم . لأن الرامي بالحجارة يوجب هذه المعاني . { إِلاَّ مَنِ استرق السمع } استثناء متصل ، أي : إلاّ ممن استرق السمع ، ويجوز أن يكون منقطعاً ، أي : ولكن من استرق السمع { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } والمعنى : حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلاّ من استرق السمع ، فإنها تتبعه الشهب فتقتله أو تخبله ، ومعنى { فأتبعه } : تبعه ولحقه أو أدركه . والشهاب : الكوكب أو النار المشتعلة الساطعة كما في قوله : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] قال ذو الرمة :
كأنه كوكب في إثر عفريت ... وسمي الكوكب شهاباً ، لبريقه شبه النار ، والمبين : الظاهر للمبصرين يرونه لا يلتبس عليهم .
قال القرطبي : واختلف في الشهاب ، هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس : الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل ، وقال الحسن وطائفة : يقتل ، فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجنّ قولان : أحدهما : أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم ، فلا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء ، ولذلك انقطعت الكهانة . والثاني : أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجنّ . قال ذكره الماوردي ، ثم قال : والقول الأوّل أصح .

قال : واختلف هل كان رمي بالشهب قبل المبعث؟ فقال الأكثرون : نعم ، وقيل : لا ، وإنما ذلك بعد المبعث ، قال الزجاج : والرمي بالشهب من آيات النبي صلى الله عليه وسلم مما حدث بعد مولده؛ لأن الشعراء في القديم لم يذكروه في أشعارهم . قال كثير من أهل العلم : نحن نرى انقضاض الكواكب ، فيجوز أن يكون ذلك كما نرى . ثم يصير ناراً إذا أدرك الشيطان . ويجوز أن يقال : يرمون بشعلة من نار الهواء فيخيل إليناء أنه نجم يسري .
{ والأرض مددناها } أي : بسطناها وفرشناها ، كما في قوله : { والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها } [ النازعات : 30 ] ، وفي قوله : { والأرض فرشناها فَنِعْمَ الماهدون } [ الذاريات : 48 ] وفيه ردّ على من زعم أنها كالكرة . { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي } أي : جبال ثابتة ، لئلا تحرك بأهلها ، وقد تقدم بيان ذلك في سورة الرعد . { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } أي : أنبتنا في الأرض من كل شيء مقدّر معلوم ، فعبر عن ذلك بالوزن؛ لأنه مقدار تعرف به الأشياء ، ومنه قول الشاعر :
قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة ... عندي لكل مخاصم ميزانه
وقيل : معنى { موزون } مقسوم . وقيل : معدود . والمقصود من الإثبات الإنشاء والإيجاد؛ وقيل : الضمير راجع إلى الجبال أي : أنبتنا في الجبال من كل شيء موزون من الذهب والفضة والنحاس والرصاص ونحو ذلك . وقيل : موزون بميزان الحكمة ، ومقدّر بقدر الحاجة . وقيل : الموزون : هو المحكوم بحسنه ، كما يقال : كلام موزون ، أي : حسن : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } تعيشون بها من المطاعم والمشارب جمع معيشة . وقيل : هي الملابس . وقيل : هي التصرف في أسباب الرزق مدّة الحياة . قال الماوردي : وهو الظاهر . قلت : بل القول الأوّل أظهر ، ومنه قول جرير :
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالمرقق والضباب
{ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } معطوف على معايش ، أي : وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين ، وهم المماليك والخدم والأولاد الذين رازقهم في الحقيقة هو الله ، وإن ظنّ بعض العباد أنه الرازق لهم باعتبار استقلاله بالكسب ، ويجوز أن يكون معطوفاً على محل { لكم } أي : جعلنا لكم فيها معايش ، وجعلنا لمن لستم له برازقين فيها معايش ، وهم من تقدّم ذكره ، ويدخل في ذلك الدواب على اختلاف أجناسها ، ولا يجوز العطف على الضمير المجرور في { لكم } لأنه لا يجوز عند الأكثر إلاّ بإعادة الجارّ . وقيل : أراد الوحش . { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } « إن » هي النافية و « من » مزيدة للتأكيد ، وهذا التركيب عام لوقوع النكرة في حيز النفي مع زيادة من ، ومع لفظ { شيء } المتناول لكل الموجودات الصادقة على كل فرد منها . فأفاد ذلك أن جميع الأشياء عند الله خزائنها لا يخرج منها شيء ، والخزائن جمع خزانة : وهي المكان الذي يحفظ فيه نفائس الأمور ، وذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور؛ والمعنى : أن كل الممكنات مقدورة ومملوكة يخرجها من العدم إلى الوجوب بمقدار كيف شاء .

وقال جمهور المفسرين : إن المراد بما في هذه الآية هو المطر ، لأنه سبب الأرزاق والمعايش؛ وقيل : الخزائن المفاتيح أي : ما من شيء إلا عندنا في السماء مفاتيحه ، والأولى ما ذكرناه من العموم لكل موجود ، بل قد يصدق الشيء على المعدوم على الخلاف المعروف في ذلك { وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي ما ننزله من السماء إلى الأرض أو نوجده للعباد إلاّ بقدر معلوم . والقدر : المقدار؛ والمعنى : أن الله سبحانه لا يوجد للعباد شيئاً من تلك الأشياء المذكورة إلاّ متلبساً ذلك الإيجاد بمقدار معين حسبما تقتضيه مشيئته على مقدار حاجة العباد إليه كما قال سبحانه : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى الأرض ولكن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء } [ الشورى : 27 ] . وقد فسر الإنزال بالإعطاء ، وفسر بالإنشاء ، وفسر بالإيجاد ، والمعنى متقارب ، وجملة وما { ننزله } معطوفة على مقدّر ، أي : وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه ننزله وما ننزله ، أو في محل نصب على الحال .
{ وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } معطوف على { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش } وما بينهما اعتراض . قرأ حمزة « الريح » بالتوحيد . وقرأ من عداه { الرياح } بالجمع . وعلى قراءة حمزة فتكون اللام في الريح للجنس . قال الأزهري : وجعل الرياح لواقح لأنها تحمل السحاب : أي تقله وتصرفه ، ثم تمرّ به فتنزله . قال الله سبحانه : { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً } [ الأعراف : 57 ] أي : حملت . وناقة لاقح : إذا حملت الجنين في بطنها . وبه قال الفراء وابن قتيبة . وقيل : { لواقح } بمعنى : ملقحة . قال ابن الأنباري : تقول العرب : أبقل النبت فهو باقل أي : مبقل . والمعنى : أنها تلقح الشجر أي : بقوّتها . وقيل : معنى { لواقح } ذوات لقح . قال الزجاج : معناه وذات لقحة ، لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدرّ اللقحة . يقال : رامح أي : ذو رمح ، ولابن أي : ذو لبن ، وتامر أي : ذو تمر . قال أبو عبيدة : لواقح بمعنى ملاقح ، ذهب إلى أنها جمع ملقحة . وفي هذه الآية تشبيه الرياح التي تحمل الماء بالحامل ، ولقاح الشجر بلقاح الحمل .
{ فأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاء } أي : من الحساب وكل ما علاك فأظلك فهو سماء ، وقيل : من جهة السماء ، والمراد بالماء هنا ماء المطر { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي : جعلنا ذلك المطر لسقياكم ولشرب مواشيكم وأرضكم . قال أبو عليّ : يقال سقيته الماء إذا أعطيته قدر ما يروي؛ وأسقيته نهراً أي : جعلته شرباً له ، وعلى هذا { فأسقيناكموه } أبلغ من سقيناكموه . وقيل : سقى وأسقى بمعنى واحد { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين } أي ليست خزائنه عندكم ، بل خزائنه عندنا ، ونحن الخازنون له ، فنفى عنهم سبحانه ما أثبته لنفسه في قوله : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } وقيل المعنى : إن ما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم : أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والغدران والعيون ، بل نحن الحافظون له فيها ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة إليه .

{ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ } أي نوجد الحياة في المخلوقات ونسلبها عنها متى شئنا ، والغرض من ذلك الاستدلال بهذه الأمور على كمال قدرته - عزّ وجلّ - وأنه القادر على البعث والنشور والجزاء لعباده على حسب ما يستحقونه وتقتضيه مشيئته . ولهذا قال : { وَنَحْنُ الوارثون } أي للأرض ومن عليها ، لأنه سحبانه الباقي بعد فناء خلقه ، الحيّ الذي لا يموت ، الدائم الذي لا ينقطع وجوده . { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض } [ آل عمران : 180 ] .
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ } هذه اللام هي الموطئة للقسم ، وهكذا اللام في : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين } ، والمراد : من تقدّم ولادة وموتاً ، ومن تأخر فيهما . وقيل : من تقدّم طاعة ومن تأخر فيها . وقيل : من تقدّم في صف القتال ومن تأخر . وقيل المراد بالمستقدمين : الأموات ، وبالمستأخرين : الأحياء . وقيل المستقدمين : هم الأمم المتقدّمون على أمة محمد ، والمستأخرون : هم أمة محمد . وقيل : المستقدمون : من قتل في الجهاد ، والمستأخرون : من لم يقتل .
{ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } أي هو المتولى لذلك ، القادر عليه دون غيره ، كما يفيده ضمير الفصل من الحصر . وفيه أنه سبحانه يجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، لأنه الأمر المقصود من الحشر { إِنَّهُ حَكِيمٌ } يجري الأمور على ما تقتضيه حكمته البالغة { عَلِيمٌ } أحاط علمه بجميع الأشياء ، لا يخفى عليه شيء منها ، ومن كان كذلك فله القدرة البالغة على كل شيء مما وسعه علمه ، وجرى فيه حكمه سبحانه لا إله إلا هو .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا } قال : كواكب . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة مثله . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : الكواكب العظام . وأخرج أيضاً عن عطية قال : قصوراً في السماء فيها الحرس . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال الرحيم : الملعون . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { إِلاَّ مَنِ استرق السمع } أراد أن يخطف السمع كقوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة } [ الصافات : 10 ] . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : كان ابن عباس يقول : «إن الشهب لا تقتل ، ولكن تحرق وتخبل وتجرح من غير أن تقتل» .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في قوله : { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } قال : معلوم . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ } قال : بقدر . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال : الأشياء التي توزن . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : ما أنبتت الجبال مثل الكحل وشبهه .

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } قال : الدوابّ والأنعام . وأخرج هؤلاء عن منصور ، قال : الوحش .
وأخرج البزار ، وابن مردويه ، وأبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خزائن الله الكلام ، فإذا أراد شيئاً ، قال له : كن فكان " وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في قوله : { إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } قال : المطر خاصة . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «ما نقص المطر منذ أنزله الله ، ولكن تمطر أرض أكثر مما تمطر أخرى . ثم قرأ : { وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : «ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يصرفه حيث يشاء ، ثم قرأ { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } » . وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثم تمطر . وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس نحوه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال : يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قماً ، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفاً ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاماً ، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فتمطر . وأخرج ابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والديلمي بسندٍ ضعيف عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ريح الجنوب من الجنة ، وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه " وأخرج الطيالسي ، وسعيد ابن منصور ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال : «كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن النساء ، فكان بعض القوم يتقدّم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه ، فأنزل الله { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين } » . وهذا الحديث هو من رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس . وقد رواه عبد الرزاق ، وابن المنذر من قول أبي الجوزاء قال الترمذي : وهذا أشبه أن يكون أصح . وقال ابن كثير : في هذا الحديث نكارة شديدة .

وأخرج الحاكم ، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : المستقدمين : الصفوف المقدّمة ، والمستأخرين : الصفوف المؤخرة . وقد وردت أحاديث كثيرة في أن خير صفوف الرجال أولها وشرّها آخرها . وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أوّلها .
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء ومقاتل بن حبان أن الآية في صفوف القتال . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن قال : المستقدمين : في طاعة الله ، والمستأخرين في معصية الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : يعني بالمستقدمين : من مات ، وبالمستأخرين : من هو حيّ لم يمت . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال : المستقدمين : آدم ومن مضى من ذريته ، والمستأخرين : في أصلاب الرجال . وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر عن قتادة نحوه .

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

المراد بالإنسان في قوله : { ولَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } هو : آدم لأنه أصل هذا النوع ، والصلصال ، قال أبو عبيدة : هو الطين المخلوط بالرمل الذي يتصلصل إذا حرّك ، فإذا طبخ في النار فهو الفخار . وهذا قول أكثر المفسرين . وقال الكسائي : هو الطين المنتن ، مأخوذ من قول العرب صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن ، مطبوخاً كان أو نيئاً . قال الحطيئة :
ذاك فتى يبذل ذا قدرة ... لا يفسد اللحم لديه الصلول
والحمأ : الطين الأسود المتغير ، أو الطين الأسود من غير تقييد بالمتغير . قال ابن السكيت : تقول منه . حمأت البئر حمأ بالتسكين : إذا نزعت حمأتها ، وحمئت البئر حمأ بالتحريك : كثرت حمأتها ، وأحميتها إحماء : ألقيت فيها الحمأة . قال أبو عبيدة : الحمأة بسكون الميم مثل الحمأة ، يعني : بالتحريك . والجمع : حمء مثل : تمرة وتمر ، والحمأ المصدر مثل : الهلع والجزع ، ثم سمي به . والمسنون قال الفراء : هو المتغير ، وأصله من سننت الحجر على الحجر : إذا حككته . وما يخرج بين الحجرين يقال له : السنانة والسنين ، ومنه قول عبد الرحمن بن حسان :
ثم حاصرتها إلى القبة الحمراء ... تمشي في مرمر وسنون
أي : محكوك ، ويقال : أسن الماء : إذا تغير . ومنه قوله : { لَمْ يَتَسَنَّهْ } [ البقرة : 259 ] . وقوله : { مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ } [ محمد : 15 ] . وكلا الاشتقاقين يدل على التغير؛ لأن ما يخرج بين الحجرين لا يكون إلاّ منتنا . وقال أبو عبيدة : المسنون : المصوب ، وهو من قول العرب . سننت الماء على الوجه : إذا صببته ، والسنّ الصب . وقال سيبويه : المسنون المصوّر ، مأخوذ من سنة الوجه ، وهي صورته ، ومنه قول ذي الرمة :
تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب
وقال الأخفش : المسنون : المنصوب القائم ، من قولهم : وجه مسنون إذا كان فيه طول . والحاصل على هذه الأقوال أن التراب لما بلّ ، صار طيناً ، فلما أنتن صار حمأً مسنوناً ، فلما يئس صار صلصالاً . فأصل الصلصال : هو الحمأ المسنون ، ولهذا وصف بهما .
{ والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } الجانّ : أبو الجنّ عند جمهور المفسرين . وقال عطاء والحسن وقتادة ومقاتل : هو إبليس . وسمي جاناً ، لتواريه عن الأعين . يقال : جن الشيء إذا ستره . فالجانّ : يستر نفسه عن أعين بني آدم ، ومعنى { من قبل } : من قبل خلق آدم . والسموم : الريح الحادة النافذة في المسامّ ، تكون بالنهار ، وقد تكون بالليل . كذا قال أبو عبيدة ، وذكر خلق الإنسان والجانّ في هذا الموضع للدلالة على كمال القدرة الإلهية ، وبيان أن القادر على النشأة الأولى قادر على النشأة الأخرى .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة } الظرف منصوب بفعل مقدّر ، أي : اذكر . بين سبحانه بعد ذكره لخلق الإنسان ما وقع عند خلقه له ، وقد تقدّم تفسير ذلك في البقرة .

والبشر : مأخوذ من البشرة ، وهي ظاهر الجلد ، وقد تقدّم تفسير الصلصال والحمأ المسنون قريباً مستوفى { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } أي : سويت خلقه ، وعدلت صورته الإنسانية وكملت أجزاءه { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } النفخ : إجراء الريح في تجاويف جسم آخر . فمن قال : إن الروح جسم لطيف كالهواء فمعناه ظاهر ، ومن قال : إنه جوهر مجرد غير متحيز ، ولا حال في متحيز . فمعنى النفخ عنده : تهيئة البدن لتعلق النفس الناطقة به . قال النيسابوري : ولا خلاف في أن الإضافة في روحي للتشريف والتكريم ، مثل « ناقة الله » ، و « بيت الله » . قال القرطبي : والروح : جسم لطيف ، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم . وحقيقته إضافة خلق إلى خالق ، فالروح : خلق من خلقه أضافه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً . قال : ومثله : { وَرُوحٌ مّنْهُ } [ النساء : 171 ] . وقد تقدّم في النساء { فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } الفاء تدلّ على أن سجودهم واجب عليهم عقب التسوية والنفح من غير تراخٍ ، وهو أمر بالوقوع ، من وقع يقع . وفيه دليل على أن المأمور به هو السجود ، لا مجرّد الانحناء كما قيل ، وهذا السجود : هو سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة ، ولله أن يكرم من يشاء من مخلوقاته كيف يشاء بما يشاء؛ وقيل : كان السجود لله تعالى وكان آدم قبلة لهم .
{ فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } أخبر سبحانه بأن الملائكة سجدوا جميعاً عند أمر الله سبحانه لهم بذلك من غير تراخٍ ، قال المبرد : قوله { كلهم } أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجد ، وقوله { أجمعون } توكيد بعد توكيد ، ورجح هذا الزجاج . قال النيسابوري : وذلك لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً ، ولو صح أن يكون حالاً لكان منتصباً ، ثم استثنى إبليس من الملائكة فقال : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } قيل : هذا الاستثناء متصل لكونه كان من جنس الملائكة ولكنه أبى ذلك استكباراً واستعظاماً لنفسه وحسداً لآدم ، فحقت عليه كلمة الله . وقيل : إنه لم يكن من الملائكة ، ولكنه كان معهم ، فغلب اسم الملائكة عليه وأمر بما أمروا به ، فكان الاستثناء بهذا الاعتبار متصلاً . وقيل : إن الاستثناء منفصل بناءً على عدم كونه منهم ، وعدم تغليبهم عليه ، أي : ولكن إبليس أبى أن يكون مع الساجدين وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة البقرة ، وجملة { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } استئناف مبين لكيفية ما فيهم من الاستثناء من عدم السجود؛ لأن عدم السجود قد يكون مع التردّد ، فبين سبحانه أنه كان على وجه الإباء .
وجملة { قَالَ يَا إِبْلِيسَ مالك أَلا تَكُونَ مَعَ الساجدين } مستأنفة أيضاً جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال الله سبحانه لإبليس بعد أن أبى السجود؟ وهذا الخطاب له ليس للتشريف والتكريم ، بل للتقريع والتوبيخ ، والمعنى : أي غرض لك في الامتناع؟ وأيّ سبب حملك عليه على أن لا تكون مع الساجدين لآدم مع الملائكة وهم في الشرف وعلوّ المنزلة والقرب من الله بالمنزلة التي قد علمتها .

وجملة { قَالَ لَمْ أَكُن لاِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صلصال مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } مستأنفة كالتي قبلها ، جعل العلة لترك سجوده كون آدم بشراً مخلوقاً من صلصال من حمأ مسنون زعماً منه أنه مخلوق من عنصر أشرف من عنصر آدم ، وفيه إشارة إجمالية في كونه خيراً منه . وقد صرح بذلك في موضع آخر ، فقال : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ الأعراف : 76 ] . وقال في موضع آخر : { أأسجد لمن خلقت طينا } [ الإسراء : 61 ] . واللام في { لأسجد } لتأكيد النفي ، أي : لا يصح ذلك مني ، فأجاب الله سبحانه عليه بقوله : { قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } والضمير في { منها } ، قيل : عائد إلى الجنة ، وقيل : إلى السماء . وقيل : إلى زمرة الملائكة أي : فأخرج من زمرة الملائكة { فإنك رجيم } أي : مرجوم بالشهب . وقيل : معنى رجيم : ملعون ، أي : مطرود؛ لأن من يطرد يرجم بالحجارة .
{ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين } أي : عليك الطرد والإبعاد من رحمة الله سبحانه مستمراً عليك لازماً لك إلى يوم الجزاء ، وهو يوم القيامة . وجعل يوم الدين غاية للعنة لا يستلزم انقطاعها في ذلك الوقت ، لأن المراد دوامها من غير انقطاع ، وذكر يوم الدين ، للمبالغة كما في قوله تعالى : { مَا دَامَتِ السموات والأرض } [ هود : 107 ] . أو أن المراد أنه في يوم الدين وما بعده يعذب بما هو أشدّ من اللعن من أنواع العذاب ، فكأنه لا يجد له ما كان يجده قبل أن يمسه العذاب .
{ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى } أي : أخرني وأمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون ، أي : آدم وذريته . طلب أن يبقى حياً إلى هذا اليوم لما سمع ذلك علم أن الله قد أخر عذابه إلى الدار الآخرة وكأنه طلب أن لا يموت أبداً ، لأنه إذا أخر موته إلى ذلك اليوم فهو يوم لا موت فيه . وقيل : إنه لم يطلب أن لا يموت ، بل طلب أن يؤخر عذابه إلى يوم القيامة ولا يعذب في الدنيا { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين } لما سأل الإنظار ، أجابه الله سبحانه إلى ما طلبه ، وأخبره بأنه من جملة من أنظره ممن أخر آجالهم من مخلوقاته ، أو من جملة من أخر عقوبتهم بما اقترفوا . ثم بين سبحانه الغاية التي أمهله إليها ، فقال : { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } وهو يوم القيامة ، فإن { يوم الدين } و { يوم يبعثون } و { يوم الوقت المعلوم } كلها عبارات عن يوم القيامة . وقيل : المراد بالوقت المعلوم : هو الوقت القريب من البعث ، فعند ذلك يموت .
{ قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأَزَيّنَنَّ لَهُمْ فِى الأرض } الباء للقسم ، و « ما » مصدرية ، وجواب القسم { لأزينن لهم } أي : أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم في الأرض ، أي : ما داموا في الدنيا .

والتزيين منه إما بتحسين المعاصي لهم وإيقاعهم فيها ، أو يشغلهم بزينة الدنيا عن فعل ما أمرهم الله به فلا يلتفتون إلى غيرها . وإقسامه ها هنا بإغواء الله له لا ينافي إقسامه في موضع آخر بعزة الله التي هي سلطانه وقهره ، لأن الإغراء له هو من جملة ما تصدق عليه العزّة { وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : لأضلنهم عن طريق الهدى وأوقعهم في طريق الغواية ، وأحملهم عليه { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } قرأ أهل المدينة وأهل الكوفة بفتح اللام ، أي : الذين استخلصتهم من العباد . وقرأ الباقون بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا لك العبادة ، فلم يقصدوا بها غيرك .
{ قَالَ هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } أي : حق عليّ أن أراعيه ، وهو ألا يكون لك على عبادي سلطان . قال الكسائي : هذا على الوعيد والتهديد ، كقولك لمن تهدده : طريقك عليّ ومصيرك إليّ . وكقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] . فكأن معنى هذا الكلام : هذا طريق مرجعه إليّ ، فأجازي كلا بعمله ، وقيل : { على } هنا بمعنى إلى . وقيل : المعنى : على أن الصراط المستقيم بالبيان والحجة . وقيل : بالتوفيق والهداية . وقرأ ابن سيرين ، وقتادة ، والحسن ، وقيس بن عباد ، وأبو رجاء ، وحميد ، ويعقوب « هذا صراط علي » على أنه صفة مشبهة ، ومعناه : رفيع .
{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } المراد بالعباد هنا : هم المخلصون ، والمراد أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ، ولا يتوبون منه ، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء ونحوهما ، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة عنه { إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } استثنى سبحانه من عباده هؤلاء . وهم المتبعون لإبليس من الغاوين عن طريق الحقّ الواقعين في الضلال ، وهو موافق لما قاله إبليس اللعين من قوله : { وَلأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } ، ويمكن أن يقال : إن بين الكلامين فرقاً فكلام الله سبحانه فيه نفي سلطان إبليس على جميع عباده إلاّ من اتبعه من الغاوين ، فيدخل في ذلك المخلصون وغيرهم ممن لم يتبع إبليس من الغاوين؛ وكلام إبليس اللعين يتضمن إغواء الجميع إلاّ المخلصين ، فدخل فيهم من لم يكن مخلصاً ولا تابعاً لإبليس غاوياً . والحاصل أن بين المخلصين والغاوين التابعين لإبليس طائفة لم تكن مخلصة ولا غاوية تابعة لإبليس . وقد قيل : إن الغاوين المتبعين لإبليس هم المشركون . ويدلّ على ذلك قوله تعالى : { إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] .
ثم قال الله سبحانه متوعداً لأتباع إبليس : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : موعد المتبعين الغاوين ، و { أجمعين } تأكيد للضمير ، أو حال { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يدخل أهل النار منها ، وإنما كانت سبعة لكثرة أهلها { لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ } أي : من الأتباع الغواة { جُزْء مَّقْسُومٌ } أي : قدر معلوم متميز عن غيره .

وقيل : المراد بالأبواب : الأطباق طبق فوق طبق ، وهي جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية ، فأعلاها للموحدين ، والثانية لليهود ، والثالثة للنصارى ، والرابعة للصابئين ، والخامسة للمجوس ، والسادسة للمشركين ، والسابعة للمنافقين ، فجهنم أعلى الطباق ، ثم ما بعدها تحتها ، ثم كذلك ، كذا قيل .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال : خلق الإنسان من ثلاث : من طين لازب ، وصلصال ، وحمأ مسنون ، فالطين اللازب : اللازم الجيد ، والصلصال : المدقق الذي يصنع منه الفخار ، والحمأ المسنون : الطين الذي فيه الحمأة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال : الصلصال : الماء يقع على الأرض الطيبة ثم يحسر عنها ، فتشقق ثم تصير مثل الخزف الرقاق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الصلصال : هو التراب اليابس الذي يبلّ بعد يبسه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الصلصال : طين خلط برمل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً . قال : الصلصال : الذي إذا ضربته صلصل . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً . قال : الصلصال : الطين تعصر بيدك ، فيخرج الماء من بين أصابعك . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } قال : من طين رطب . وأخرج هؤلاء عنه أيضاً { مّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } قال : من طين منتن . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الجان : مسيخ الجنّ ، كالقردة والخنازير مسيخ الإنس .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : الجان : هو إبليس ، خلق من قبل آدم . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } قال : من أحسن النار . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : نار السموم : الحارة التي تقتل . وأخرج الطيالسي ، والفريابي ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : السموم . التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ، ثم قرأ : { والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم } .
وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعاً . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قال : أراد إبليس لا يذوق الموت فقيل : إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم ، قال : النفخة الأولى يموت فيها إبليس ، وبين النفخة والنفخة أربعون سنة . وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن سيرين { هَذَا صراط عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ } أي : رفيع . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } بعدد أطباق جهنم كما قدّمنا . وأخرج ابن المبارك ، وابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا في صفة النار ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث من طرق عن عليّ قال : أطباق جهنم سبعة ، بعضها فوق بعض ، فيملأ الأوّل ، ثم الثاني ، ثم الثالث حتى . تملأ كلها ، وأخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بجهنم سبعة أبواب ، باب منها لمن سلّ السيف على أمتي " وقد ورد في صفة النار أحاديث وآثار . وأخرج ابن مردويه ، والخطيب في تاريخه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في قوله تعالى : { لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ } قال : «جزء أشركوا بالله ، وجزء شكوا في الله ، وجزء غفلوا عن الله " .

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

قوله : { إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ } أي : المتقين للشرك بالله كما قاله جمهور الصحابة والتابعين . وقيل : هم الذين اتقوا جميع المعاصي { في جنات } وهي البساتين ، { وعيون } وهي الأنهار . قرىء بضم العين من { عيون } على الأصل ، وبالكسر مراعاة للياء . والتركيب يحتمل أن يكون لجميع المتقين جنات وعيون ، أو لكل واحد منهم جنات وعيون ، أو لكل واحد منهم جنة وعين { ادخلوها } قرأ الجمهور بلفظ الأمر على تقدير القول أي قيل لهم : أدخلوها . وقرأ الحسن وأبو العالية ، وروي عن يعقوب بضم الهمزة مقطوعة ، وفتح الخاء على أنه فعل مبني للمفعول أي : أدخلهم الله إياها . وقد قيل : إنهم إذا كانوا في جنات وعيون ، فكيف يقال لهم بعد ذلك ادخلوها على قراءة الجمهور؟ فإن الأمر لهم بالدخول يشعر بأنهم لم يكونوا فيها ، وأجيب بأن المعنى أنهم لما صاروا في الجنات ، فإذا انتلقوا من بعضها إلى بعض يقال لهم عند الوصول إلى التي أرادوا الانتقال إليها : ادخلوها ، ومعنى { بِسَلامٍ ءامِنِينَ } بسلامة من الآفات ، وأمن من المخافات ، أو مسلمين على بعضهم بعضاً ، أو مسلماً عليهم من الملائكة ، أو من الله عزّ وجلّ .
{ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } الغلّ : الحقد والعداوة ، وقد مرّ تفسيره في الأعراف ، وانتصاب { إِخْوَانًا } على الحال ، أي : إخوة في الدين والتعاطف { على سُرُرٍ متقابلين } أي : حال كونهم على سرر ، وعلى صورة مخصوصة وهي التقابل ، ينظر بعضهم إلى وجه بعض ، والسرر جمع سرير . وقيل : هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور ، ومنه قولهم : سرّ الوادي لأفضل موضع منه { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } أي : تعب وإعياء لعدم وجود ما يتسبب عنه ذلك في الجنة؛ لأنها نعيم خالص ، ولذّة محضة تحصل لهم بسهولة ، وتوافيهم مطالبهم بلا كسب ولا جهد ، بل بمجرد خطور شهوة الشيء بقلوبهم يحصل ذلك الشيء عندهم صفوا عفوا { وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } أبداً ، وفي هذا الخلود الدائم وعلمهم به تمام اللذة وكمال النعيم . فإنّ علم من هو في نعمة ولذة بانقطاعها وعدمها بعد حين موجب لتنغص نعيمه وتكدّر لذته .
ثم قال سبحانه بعد أن قصّ علينا ما للمتقين عنده من الجزاء العظيم والأجر الجزيل { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم } أي : أخبرهم يا محمد أني أنا الكثير المغفرة لذنوبهم ، الكثير الرحمة لهم ، كما حكمت به على نفسي : «إن رحمتي سبقت غضبي» ، اللهم اجعلنا من عبادك الذين تفضلت عليهم بالمغفرة ، وأدخلتهم تحت واسع الرحمة . ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة ، أمره بأن يذكر لهم شيئاً مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ، ويتقابل التبشير والتحذير ، ليكونوا راجين خائفين ، فقال : { وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم } أي : الكثير الإيلام .

وعند أن جمع الله لعباده بين هذين الأمرين من التبشير والتحذير ، صاروا في حالة وسط بين اليأس والرجاء ، وخير الأمور أوساطها ، وهي القيام على قدمي الرجاء والخوف ، وبين حالتي الأنس والهيبة .
وجملة { وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } معطوفة على جملة { نبىء عبادي } أي : أخبرهم بما جرى على إبراهيم من الأمر الذي اجتمع فيه له الرجاء والخوف ، والتبشير الذي خالطه نوع من الوجل ليعتبروا بذلك ويعلموا أنها سنّة الله سبحانه في عباده ، وأيضاً لما اشتملت القصة على إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين ، كان في ذلك تقريراً لكونه الغفور الرحيم ، وأن عذابه هو العذاب الأليم ، وقد مرّ تفسير هذه القصة في سورة هود ، وانتصاب { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } بفعل مضمر معطوف على { نَبّىء عِبَادِى } أي : واذكر لهم دخولهم عليه ، أو في محل نصب على الحال . والضيف في الأصل مصدر ، ولذلك وحد وإن كانوا جماعة ، وسمي ضيفاً لإضافته إلى المضيف { فَقَالُواْ سَلامًا } أي : سلمنا سلاماً { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي : فزعون خائفون ، وإنما قال هذا بعد أن قرّب إليهم العجل فرآهم لا يأكلون منه كما تقدم في سورة هود { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } [ هود : 70 ] وقيل : أنكر السلام منهم ، لأنه لم يكن في بلادهم . وقيل : أنكر دخولهم عليه بغير استئذان .
{ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } أي قالت الملائكة : لا تخف . وقرىء « لا تاجل » و « لا توجل » من أوجله أي : أخافه ، وجملة { إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام عَلِيمٍ } مستأنفة لتعليل النهي عن الوجل ، والعليم : كثير العلم . وقيل : هو الحليم كما وقع في موضع آخر من القرآن ، وهذا الغلام : هو إسحاق كما تقدّم في هود ، ولم يسمه هنا ولا ذكر التبشير بيعقوب اكتفاء بما سلف { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى } قرأ الجمهور بألف الاستفهام . وقرأ الأعمش « بشرتموني » بغير الألف { على أَن مَّسَّنِىَ الكبر } في محل نصب على الحال ، أي : مع حالة الكبر والهرم { فَبِمَ تُبَشّرُونَ } استفهام تعجب ، كأنه عجب من حصول الولد له مع ما قد صار إليه من الهرم الذي جرت العادة بأنه لا يولد لمن بلغ إليه ، والمعنى : فبأي شيء تبشرون؟ فإن البشارة بما لا يكون عادة لا تصح . وقرأ نافع « تبشرونِ » بكسر النون والتخفيف وإبقاء الكسرة لتدل على الياء المحذوفة . وقرأ ابن كثير ، وابن محيصن بكسر النون مشدّدة على إدغام النون في النون ، وأصله : تبشرونني . وقرأ الباقون « تبشرون » بفتح النون .
{ قَالُواْ بشرناك بالحق } أي : باليقين الذي لا خلف فيه ، فإن ذلك وعد الله وهو لا يخلف الميعاد ، ولا يستحيل عليه شيء ، فإنه القادر على كل شيء { فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين } هكذا قرأ الجمهور بإثبات الألف .

وقرأ الأعمش ، ويحيى بن وثاب « من القنطين » بغير ألف . وروي ذلك عن أبي عمرو أي : من الآيسين من ذلك الذي بشرناك به { قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون } قرىء بفتح النون من « يقنط » وبكسرها وهما لغتان . وحكي فيه ضم النون ، و { الضالون } المكذبون ، أو المخطئون الذاهبون عن طريق الصواب ، أي : إنما استبعدت الولد لكبر سني ، لا لقنوطي من رحمة ربي . ثم سألهم عما لأجله أرسلهم الله سبحانه فقال : { فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } الخطب : الأمر الخطير والشأن العظيم ، أي : فما أمركم وشأنكم ، وما الذي جئتم به غير ما قد بشرتموني به ، وكأنه قد فهم أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة ، بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } أي : إلى قوم لهم إجرام ، فيدخل تحت ذلك الشرك ، وما هو دونه ، وهؤلاء القوم هم : قوم لوط .
ثم استثنى منهم من ليسوا مجرمين فقال : { إِلا ءالَ لُوطٍ } وهو استثناء متصل؛ لأنه من الضمير في { مجرمين } ولو كان من قوم لكان منقطعاً لكونهم قد وصفوا بكونهم مجرمين ، وليس آل لوط مجرمين . ثم ذكر ما سيختص به آل لوط من الكرامة لعدم دخولهم مع القوم في إجرامهم فقال : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أجمعين } أي : آل لوط ، وهم أتباعه وأهل دينه ، وهذه الجملة مستأنفة على تقدير كون الاستثناء متصلاً كأنه قيل : ماذا يكون حال آل لوط؟ فقال : { إنا لمنجوهم أجمعين } وأنما على تقدير كون الاستثناء منقطعاً فهي خبر ، أي : لكن آل لوط ناجون من عذابنا . وقرأ حمزة والكسائي « لمنجوهم » بالتخفيف من أنجا . وقرأ الباقون بالتشديد من : نجي . واختار هذه القراءة الأخيرة أبو عبيدة وأبو حاتم ، والتنجية والإنجاء : التخليص مما وقع فيه غيرهم . { إِلاَّ امرأته } هذا الاستثناء من الضمير في منجوهم إخراجاً لها من التنجية ، والمعنى : قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنهلكهم إلاّ آل لوط إنا لمنجوهم إلاّ إمرأته فإنها من الهالكين . ومعنى { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } قضينا وحكمنا أنها من الباقين في العذاب مع الكفرة . والغابر : الباقي ، قال الشاعر :
لا تكْسَع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
والإغبار : بقايا اللبن . قال الزجاج : معنى قدّرنا : دبرنا ، وهو قريب من معنى قضينا . وأصل التقدير : جعل الشيء على مقدار الكفاية . وقرأ عاصم من رواية أبي بكر والمفضل « قدرنا » بالتخفيف . وقرأ الباقون بالتشديد . قال الهروي : هما بمعنى ، وإنما أسند التقدير إلى الملائكة من كونه مع فعل الله سبحانه ، لما لهم من القرب عند الله .
{ فَلَمَّا جَآء ءالَ لُوطٍ المرسلون } هذه الجملة مستأنفة لبيان وإهلاك من يستحق الهلاك ، وتنجية من يستحق النجاة { قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي قال لوط مخطاباً لهم : إنكم قوم منكرون ، أي : لا أعرفكم ، بل أنكركم { قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي : بالعذاب الذي كانوا يشكون فيه ، فالإضراب هو عن مجيئهم بما ينكره ، كأنهم قالوا : ما جئناك بما خطر ببالك من المكروه ، بل جئناك بما فيه سرورك ، وهو عذابهم الذي كنت تحذرهم منه وهم يكذبونك .

{ واتيناك بالحق } أي : باليقين الذي لا مرية فيه ولا تردّد ، وهو العذاب النازل بهم لا محالة { وِإِنَّا لصادقون } في ذلك الخبر الذي أخبرناك . وقد تقدّم تفسير قوله : { فأسر بأهلك بقطع من الليل } في سورة هود { واتبع أدبارهم } أي : كن ورائهم تذودهم لئلا يختلف منهم أحد فيناله العذاب { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي : لا تلتفت أنت ولا يلفتت أحد منهم فيرى ما نزل بهم من العذاب ، فيشتغل بالنظر في ذلك ، ويتباطأ عن سرعة السير والبعد عن ديار الظالمين . وقيل : معنى لا يلتفت : لا يتخلف { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } أي : إلى الجهة التي أمركم الله سبحانه بالمضيّ إليها ، وهي جهة الشام . وقيل : مصر . وقيل : قرية من قرى لوط . وقيل : أرض الخليل .
{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ } أي : أوحينا إلى لوط { ذَلِكَ الأمر } وهو إهلاك قومه ، ثم فسره بقوله : { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } قال الزجاج : موضع « أن » نصب ، وهو بدل من { ذلك الأمر } ، والدابر : هو الآخر ، أي : أن آخر من يبقى منهم يهلك وقت الصبح . وانتصاب { مُّصْبِحِينَ } على الحال ، أي : حال كونهم داخلين في وقت الصبح ، ومثله { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ } [ الأنعام : 45 ] .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { ءامِنِينَ } قال : آمنوا الموت ، فلا يموتون ، ولا يكبرون ، ولا يسقمون ، ولا يعرون ، ولا يجوعون . وأخرج ابن جرير عن عليّ { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } قال : العداوة . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن الحسن البصري قال : قال عليّ بن أبي طالب : فينا والله أهل بدر نزلت : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين } . وأخرج ابن عساكر ، وابن مردويه عنه في الآية ، قال : نزلت في ثلاثة أحياء من العرب ، في بني هاشم ، وبني تميم ، وبني عديّ ، فيّ وفي أبي بكر وعمر . وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن كثير النواء ، قال : قلت لأبي جعفر إن فلاناً حدثني عن عليّ بن الحسين أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعليّ { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } قال : والله إنها لفيهم أنزلت؛ وفيمن تنزل إلاّ فيهم؟ قلت : وأي غلّ هو؟ قال : غلّ الجاهلية ، إن بني تميم وبني عديّ وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية ، فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا ، فأخذت أبا بكر الخاصرة ، فجعل عليّ يسخن يده ، فيكمد بها خاصرة أبي بكر ، فنزلت هذه الآية .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه عن عليّ من طرق أنه قال لابن طلحة : إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله فيهم : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم } الآية ، فقال رجل من همدان : الله أعدل من ذلك ، فصاح عليّ عليه صيحة تداعى لها القصر ، وقال : فيمن إذن إن لم نكن نحن أولئك . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والطبراني ، وابن مردويه عن عليّ قال : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان والزبير وطلحة فيمن قال الله : { وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ } . وأخرج ابن مردويه ، وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : نزلت في عشرة : أبي بكر وعمر ، وعثمان وعلي ، وطلحة والزبير ، وسعد وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود . وأخرجه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي صالح موقوفاً عليه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { على سُرُرٍ متقابلين } قال : لا يرى بعضهم قفا بعض . وأخرجه ابن المنذر ، وابن مردويه عن مجاهد ، عن ابن عباس . وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو القاسم البغوي ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية : " { إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين } قال : المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض " وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } قال : المشقة والأذى . وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال : " ألا أراكم تضحكون "؟ ثم أدبر ، حتى إذا كان عند الحجر رجع القهقري ، فقال : إني لما خرجت جاء جبريل فقال : يا محمد ، إن الله - عزّ وجلّ - يقول : لمَ تقنط عبادي؟ { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ العذاب الأليم } » . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مصعب بن ثابت قال : «مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال : اذكروا الجنة ، واذكروا النار» ، فنزلت : { نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم } . وأخرج الطبراني ، والبزار ، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه .

وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة ، فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة ، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة ، فلو يعلم الكافر كل الذي عند الله من رحمته ، لم ييأس من الرحمة ، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب ، لم يأمن من النار » وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } لا تخف . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ { مّنَ القانطين } قال : الآيسين . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة { إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } يعني : الباقين في عذاب الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } قال : أنكرهم لوط ، وفي قوله : { بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } قال : بعذاب قوم لوط . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة { بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } قال : يشكون .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : { واتبع أدبارهم } قال : أمر أن يكون خلف أهله يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا . وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قال : أخرجهم الله إلى الشام .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن زيد { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } قال : أوحيناه إليه . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ } يعني : استئصالهم وهلاكهم .

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

ذكر سبحانه ما كان من قوم لوط عند وصول الملائكة إلى قريتهم فقال : { وَجَآء أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ } أي : أهل مدينة قوم لوط ، وهي سلام كما سبق ، وجملة { يستبشرون } في محل نصب على الحال ، أي : مستبشرون بأضياف لوط طمعاً في ارتكاب الفاحشة منهم فقال لهم لوط { إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى } وحد الضيف؛ لأنه مصدر كما تقدّم ، والمراد : أضيافي ، وسماهم ضيفاً؛ لأنه رآهم على هيئة الأضياف ، وقومه رأوهم مردا حسان الوجوه ، فلذلك طمعوا فيهم { فَلاَ تَفْضَحُونِ } يقال : فضحه يفضحه فضيحة وفضحاً : إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار بإظهاره . والمعنى : لا تفضحون عندهم بتعرضكم لهم بالفاحشة فيعلمون أني عاجز عن حماية من نزل بي ، أو لا تفضحون بفضيحة ضيفي ، فإن من فعل ما يفضح الضيف فقد فعل ما يفضخ المضيف { واتقوا الله } في أمرهم { وَلاَ تُخْزُونِ } يجوز أن تكون من الخزي : وهو الذلّ والهوان ، ويجوز أن يكون من الخزاية وهي الحياء والخجل . وقد تقدّم تفسير ذلك في هود .
{ قَالُواْ } أي : قوم لوط ، مجيبين له : { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } الاستفهام للإنكار ، والواو للعطف على مقدّر ، أي : ألم نتقدّم إليك وننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وقيل : نهوه عن ضيافة الناس ، ويجوز حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من هذين الأمرين . { قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى } فتزوّجوهنّ { إِن كُنتُمْ فاعلين } ما عزمتم عليه من فعل الفاحشة بضيفي فهؤلاء بناتي تزوّجوهنّ حلالاً ولا تركبوا الحرام . وقيل : أراد ببناته نساء قومه ، لكون النبيّ بمنزلة الأب لقومه ، وقد تقدّم تفسير هذا في هود { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } العمر والعمر بالفتح والضم واحد ، لكنهم خصوا القسم بالمفتوح ، لإيثار الأخف فإنه كثير الدور على ألسنتهم . ذكر ذلك الزجاج .
قال القاضي عياض : اتفق أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله ، جلّ جلاله ، بمدة حياة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا حكى إجماع المفسرين على هذا المعنى أبو بكر بن العربي ، فقال : قال المفسرون بأجمعهم : أقسم الله تعالى ها هنا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفاً له . قال أبو الجوزاء : ما أقسم الله سبحانه بحياة أحد غير محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم البرية عنده . قال ابن العربي : ما الذي يمتنع أن يقسم الله سبحانه بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكل ما يعطيه الله تعالى للوط من فضل يؤتى ضعفه من شرف لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه أكرم على الله منه ، أو لا تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم ، وأعطى ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ فإذا أقسم الله سبحانه بحياة لوط فحياة محمد أرفع .

قال القرطبي : ما قاله حسن ، فإنه يكون قسمه سبحانه بحياة محمد صلى الله عليه وسلم كلاماً معترضاً في قصة لوط . فإن قيل : قد أقسم الله سبحانه بالتين والزيتون وطور سينين ، ونحو ذلك فما فيهما من فضل؟ وأجيب بأنه ما من شيء أقسم الله به إلاّ وفي ذلك دلالة على فضله على جنسه ، وذكر صاحب الكشاف وأتباعه : أن هذا القسم هو من الملائكة على إرادة القول أي : قالت الملائكة للوط : لعمرك ، ثم قال : وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له . انتهى .
وقد كره كثير من العلماء القسم بغير الله سبحانه ، وجاءت بذلك الأحاديث الصحيحة في النهي عن القسم بغير الله ، فليس لعباده أن يقسموا بغيره . وهو سبحانه يقسم بما شاء من مخلوقاته { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] . وقيل : الإقسام منه سبحانه بالتين والزيتون ، وطور سينين ، والنجم ، والضحى ، والشمس ، والليل ، ونحو ذلك هو على حذف مضاف هو المقسم به ، أي : وخالق التين ، وكذلك ما بعده . وفي قوله : { لَعَمْرُكَ } أي : وخالق عمرك .
ومعنى { إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } : لفي غوايتهم يتحيرون ، جعل الغواية ، لكونها تذهب بعقل صاحبها كما تذهب به الخمر سكرة ، والضمير لقريش . على أن القسم بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أو القوم لوط على أن القسم للرسول عليه السلام { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } العظيمة ، أو صيحة جبريل حال كونهم { مُشْرِقِينَ } أي : داخلين في وقت الشروق ، يقال : أشرقت الشمس أي : أضاءت . وشرقت : إذا طلعت ، وقيل : هما لغتان بمعنى واحد . وأشرق القوم : إذا دخلوا في وقت شروق الشمس . وقيل : أراد شروق الفجر . وقيل : أوّل العذاب كان عند شروق الفجر وامتدّ إلى طلوع الشمس . والصيحة : العذاب { فَجَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا } أي : عالي المدينة سافلها { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ } من طين متحجر .
وقد تقدّم الكلام مستوفى على هذا في سورة هود .
{ إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : في المذكور من قصتهم ، وبيان ما أصابهم { لآيَاتٍ } لعلامات يستدلّ بها { لِلْمُتَوَسّمِينَ } : للمتفكرين الناظرين في الأمر ومنه قول زهير :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر ... أنيق لعين الناظر المتوسم
وقال الآخر :
أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسم
وقال أبو عبيدة : للمتبصرين . وقال ثعلب : الواسم : الناظر إليك من قرنك إلى قدمك . والمعنى متقارب ، وأصل التوسم : التثبت والتفكر ، مأخوذ من الوسم ، وهو التأثير بحديدة في جلد البعير { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } يعني : قرى قوم لوط أو معدينتهم على طريق ثابت ، وهي الطريق من المدينة إلى الشام ، فإن السالك في هذه الطريق يمرّ بتلك القرى { إِنَّ فِى ذَلِكَ } المذكور من المدينة أو القرى { لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } يعتبرون بها ، فإن المؤمنين من العباد هم الذين يعتبرون بما يشاهدونه من الآثار .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَجَآء أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ } قال : استبشروا بأضياف نبيّ الله لوط حين نزلوا به لما أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } قال : يقولون : أولم ننهك أن تضيف أحداً ، أو تؤويه؟ { قَالَ هؤلاءآء بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فاعلين } أمرهم لوط بتزويج النساء ، وأراد أن يبقي أضيافه ببناته .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبو نعيم عن ابن عباس قال : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } يقول : وحياتك يا محمد ، وعمرك وبقائك في الدنيا . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { لَعَمْرُكَ } قال : لعيشك . وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال : ما حلف الله بحياة أحد إلاّ بحياة محمد قال : { لَعَمْرُكَ } الآية . وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : كانوا يكرهون أن يقول الرجل لعمري يرونه كقوله وحياتي . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة { إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي : في ضلالهم يلعبون . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الأعمش في الآية : لفي غفلتهم يتردّدون .
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج { فأخذتهم الصيحة } مثل الصاعقة ، وكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة . وأخرج ابن جرير عنه { مُشْرِقِينَ } قال : حين أشرقت الشمس . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً } قال : علامة ، أما ترى الرجل يرسل خاتمه إلى أهله ، فيقول : هاتوا كذا وكذا ، فإذا رأوه ، عرفوا أنه حق . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه { لِلْمُتَوَسّمِينَ } قال : للناظرين . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة قال : للمعتبرين . وأخرج ابن جريج ، وابن المنذر عن مجاهد قال : للمتفرّسين ، وأخرج البخاري ، في التاريخ ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن السني ، وأبو نعيم ، وابن مردويه ، والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ، ثم قرأ : { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ } » وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } يقول : لبهلاك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لبطريق مقيم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : لبطريق واضح .

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)

قوله : { وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة } « إن » هي المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن المحذوف ، أي : وإن الشأن كان أصحاب الأيكة . والأيكة : الغيضة ، وهي جماع الشجر . والجمع : الأيك . ويروى أن شجرهم كان دوماً ، وهو المقل ، فالمعنى : وإن كان أصحاب الشجر المجتمع . وقيل : الأيكة : اسم القرية التي كانوا فيها . قال أبو عبيدة : الأيكة ، وليكة : مدينتهم كمكة وبكة ، وأصحاب الأيكة : هم قوم شعيب ، وقد تقدّم خبرهم ، واقتصر الله سبحانه هنا على وصفهم بالظلم ، وقد فصل ذلك الظلم فيما سبق ، والضمير في { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } يرجع إلى مدينة قوم لوط ، ومكان أصحاب الأيكة ، أي : وإن المكانين لبطريق واضح . والإمام : اسم لما يؤتمّ به ، ومن جملة ذلك الطريق التي تسلك . قال الفراء والزجاج : سمي الطريق إماماً ، لأنه يؤتمّ ويتبع . وقال ابن قتيبة : لأن المسافر يأتمّ به حتى يصل إلى الموضع الذي يريده . وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، لأن شعيباً كان ينسب إليهما .
ثم إن الله سبحانه ختم القصص بقصة ثمود فقال : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أصحاب الحجر المرسلين } الحجر : اسم لديار ثمود ، قاله الأزهري . وهي ما بين مكة وتبوك . وقال ابن جرير : هي أرض بين الحجاز والشام . وقال : { المرسلين } ، ولم يرسل إليهم إلاّ صالح؛ لأن من كذب واحداً من الرسل فقد كذب الباقين لكونهم متفقين في الدعوة إلى الله . وقيل : كذبوا صالحاً ومن تقدّمه من الأنبياء . وقيل : كذبوا صالحاً ، ومن معه من المؤمنين { وءاتيناهم ءاياتنا } أي الآيات المنزلة على نبيهم ، ومن جملتها : الناقة . فإن فيها آيات جمة ، كخروجها من الصخرة ، ودنوّ نتاجها عند خروجها وعظمها وكثرة لبنها { فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي : غير معتبرين ، ولهذا عقروا الناقة وخالفوا ما أمرهم به نبيهم .
{ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتًا } النحت في كلام العرب : البري والنجر ، نحته ينحته بالكسر نحتاً أي : براه ، وفي التنزيل : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [ الصافات : 95 ] أي : تنجرون . وكانوا يتخذون لأنفسهم من الجبال بيوتاً ، أي : يخرقونها في الجبال . وانتصاب { ءامِنِينَ } على الحال . قال الفراء : آمنين من أن ينقع عليهم ، وقيل : آمنين من الموت . وقيل : من العذاب ركوناً منهم على قوّتها ووثاقتها . { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ } أي : داخلين في وقت الصبح . وقد تقدم ذكر الصيحة في الأعراف ، وفي هود ، وتقدم أيضاً قريباً .
{ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي : لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله ما كانوا يكسبون من الأموال والحصون في الجبال .
{ وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بالحق } أي : متلبسة بالحق ، وهو ما فيهما من الفوائد والمصالح ، وقيل : المراد بالحق مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته كما في قوله سبحانه :

{ وَللَّهِ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض * لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } [ النجم : 31 ] . وقيل : المراد بالحق : الزوال؛ لأنها مخلوقة وكل مخلوق زائل { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } وعند إتيانها ينتقم الله ممن يستحق العذاب ، ويحسن إلى من يستحق الإحسان ، وفيه وعيد للعصاة وتهديد ، ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يصفح عن قومه ، فقال : { فاصفح الصفح الجميل } أي : تجاوز عنهم واعف عفواً حسناً . وقيل : فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً ولا تعجل عليهم ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم . قيل : وهذا منسوخ بآية السيف { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم } أي : الخالق للخلق جميعاً ، العليم بأحوالهم وبالصالح والطالح منهم .
وقد أخرج ابن مردويه ، وابن عساكر عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيباً " وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : أصحاب الأيكة : هم قوم شعيب ، والأيكة . ذات آجام وشجر كانوا فيها . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الأيكة : الغيضة . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : أصحاب الأيكة : أهل مدين ، والأيكة : الملتفة من الشجر . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الأيكة : مجمع الشيء . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال في قوله : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } طريق ظاهر .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في أصحاب الحجر قال : أصحاب الوادي . وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كان أصحاب الحجر ثمود وقوم صالح . وأخرج البخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحجر : " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلاّ أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " وأخرج ابن مردويه عنه قال : «نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك بالحجر عند بيوت ثمود ، فاستقى الناس من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، وعجنوا منها ، ونصبوا القدور باللحم ، فأمرهم بإهراق القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا ، فقال : " إني أخشى أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم " . وأخرج ابن مردويه ، عن سبرة بن معبد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بالحجر لأصحابه : " من عمل من هذا الماء شيئاً فليلقه " قال : ومنهم من عجن العجين ، ومنهم من حاس الحيس .
وأخرج ابن مردويه ، وابن النجار عن عليّ في قوله : { فاصفح الصفح الجميل } قال : الرضا بغير عتاب . وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد قال : هذه الآية قبل القتال . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة مثله .

وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

اختلف أهل العلم في السبع المثاني ماذا هي؟ فقال جمهور المفسرين : إنها الفاتحة . قال الواحدي : وأكثر المفسرين على أنها فاتحة الكتاب ، وهو قول عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والربيع ، والكلبي . وزاد القرطبي : أبا هريرة وأبا العالية ، وزاد النيسابوري : الضحاك وسعيد بن جبير . وقد روي ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بيانه ، فتعين المصير إليه .
وقيل : هي السبع الطوال : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والسابعة الأنفال والتوبة؛ لأنها كسورة واحدة إذ ليس بينهما تسمية . روي هذا القول عن ابن عباس .
وقيل : المراد بالمثاني : السبعة الأحزاب ، فإنها سبع صحائف . والمثاني : جمع مثناة من التثنية ، أو جمع مثنية . وقال الزجاج : تثنى بما يقرأ بعدها معها ، فعلى القول الأوّل يكون وجه تسمية الفاتحة مثاني : أنها تثنى ، أي : تكرّر في كل صلاة ، وعلى القول بأنها السبع الطوال فوجه التسمية : أن العبر والأحكام والحدود كررت فيها ، وعلى القول بأنها السبعة الأحزاب يكون وجه التسمية : هو تكرير ما في القرآن من القصص ونحوها ، وقد ذهب إلى أن المراد بالسبع المثاني : القرآن كله الضحاك ، وطاوس ، وأبو مالك ، وهو رواية عن ابن عباس واستدلوا بقوله تعالى : { كتابا متشابها مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] .
وقيل : المراد بالسبع المثاني : أقسام القرآن ، وهي : الأمر ، والنهي ، والتبشير ، والإنذار ، وضرب الأمثال ، وتعريف النعم ، وأنباء قرون ماضية .
قال زياد بن أبي مريم ، ولا يخفى عليك أن تسمية الفاتحة مثاني لا تستلزم نفي تسمية غيرها بهذا الاسم ، وقد تقرّر أنها المرادة بهذه الآية ، فلا يقدح في ذلك صدق وصف المثاني على غيرها .
{ والقرآن العظيم } معطوف على { سبعا من المثاني } ، ويكون من عطف العام على الخاص ، لأن الفاتحة بعض من القرآن . وكذلك إن أريد بالسبع المثاني السبع الطوال؛ لأنها بعض من القرآن . وأما إذا أريد بها السبعة الأحزاب أو جميع القرآن أو أقسامه ، فيكون من باب عطف أحد الوصفين على الآخر ، كما قيل في قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... ومما يقوي كون السبع المثاني هي الفاتحة : أن هذه السورة مكية ، وأكثر السبع الطوال مدنية ، وكذلك أكثر القرآن وأكثر أقسامه ، وظاهر قوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني } أنه قد تقدّم إيتاء السبع على نزول هذه الآية ، و «من» في المثاني للتبعيض أو البيان على اختلاف الأقوال . ذكر معنى ذلك الزجاج فقال : هي للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطوال ، وللبيان إذا أردت الإشباع .
ثم لما بين لرسوله الله صلى الله عليه وسلم ما أنعم به عليه من هذه النعمة الدينية نفره عن اللذات العاجلة الزائلة فقال : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ } أي : لا تطمح ببصرك إلى زخارف الدنيا طموح رغبة فيها وتمنّ لها ، والأزواج : الأصناف ، قاله ابن قتيبة .

وقال الجوهري : الأزواج : القرناء . قال الواحدي : إنما يكون ماداً عينيه إلى الشيء : إذا أدام النظر نحوه . وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه . وقال بعضهم : معنى الآية لا تحسدنّ أحداً على ما أوتي من الدنيا ، وردّ بأن الحسد منهي عنه مطلقاً ، وإنما قال في هذه السورة لا تمدنّ بغير واو ، لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه ، ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم فقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } حيث لم يؤمنوا ، وصمموا على الكفر والعناد . وقيل : المعنى لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا ، فلك الآخرة . والأول أولى . ثم لما نهاه عن أن يمد عينيه إلى أموال الكفار ولا يحزن عليهم ، وكان ذلك يستلزم التهاون بهم وبما معهم ، أمره أن يتواضع للمؤمنين ، فقال : { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } وخفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب ، ومنه قوله سبحانه : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل } [ الإسراء : 24 ] ، وقول الكميت :
خفضت لهم مني جناحي مودة ... إلى كنف عطفاه أهل ومرحب
وأصله أن الطائر إذا ضم فرخه إلى نفسه ، بسط جناحه ، ثم قبضه على الفرخ ، فجعل ذلك وصفاً لتواضع الإنسان لأتباعه . ويقال : فلان خافض الجناح ، أي : وقور ساكن ، والجناحان من ابن آدم جانباه ، ومنه : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } [ طه : 22 ] ومنه قول الشاعر :
وحسبك فتنة لزعيم قوم ... يمدّ على أخي سُقم جناحا
{ وَقُلْ إِنّى أَنَا النذير المبين } أي : المنذر المظهر لقومه ما يصيبهم من عذاب الله { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } قيل : المفعول محذوف ، أي : مفعول { أنزلنا } والتقدير : كما أنزلنا على المقتسمين عذاباً ، فيكون المعنى : إني أنا النذير المبين لكم من عذاب مثل عذاب المقتسمين الذي أنزلناه عليهم ، كقوله تعالى : { أَنذَرْتُكُمْ صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 13 ] .
وقيل : إن الكاف زائدة ، والتقدير : إني أنا النذير المبين أنذرتكم ما أنزلنا على المقتسمين من العذاب . وقيل : هو متعلق بقوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك } أي : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون ، والأولى أن يتعلق بقوله : { إِنّى أَنَا النذير المبين } لأنه في قوّة الأمر بالإنذار .
وقد اختلف في المقتسمين من هم؟ فقال الفراء : هم ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ، فاقتسموا أنقاب مكة وفجاجها يقولون لمن دخلها : لا تغتروا بهذا الخارج فينا فإنه مجنون ، وربما قالوا : ساحر ، وربما قالوا : شاعر ، وربما قالوا : كاهن ، فقيل لهم : مقتسمين؛ لأنهم اقتسموا هذه الطرق . وقيل : إنهم قوم من قريش اقتسموا كتاب الله ، فجعلوا بعضه شعراً ، وبعضه سحراً ، وبعضه كهانة ، وبعضه أساطير الأوّلين . قاله قتادة . وقيل : هم أهل الكتاب ، وسموا مقتسمين لأنهم كانوا يقتسمون القرآن استهزاء ، فيقول بعضهم : هذه السورة لي وهذه لك ، روي هذا عن ابن عباس .

وقيل : إنهم قسموا كتابهم وفرّقوه وبدّدوه وحرّفوه . وقيل : المراد قوم صالح تقاسموا على قتله فسموا مقتسمين ، كما قال تعالى : { تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ النمل : 49 ] . وقيل : تقاسموا أيماناً تحالفوا عليها ، قاله الأخفش . وقيل : إنّهم العاص بن وائل ، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والنضر بن الحارث وأمية بن خلف ، ومنبه بن الحجاج . ذكره الماوردي .
{ الذين جَعَلُواْ القرءان عِضِينَ } جمع عضة ، وأصلها : عضوة ، فعلة من عضى الشاة : إذا جعلها أجزاء ، فيكون المعنى على هذا : الذين جعلوا القرآن أجزاء متفرقة ، بعضه شعر ، وبعضه سحر ، وبعضه كهانة ، ونحو ذلك . وقيل : هو مأخوذ من عضته : إذا بهته ، فالمحذوف منه الهاء لا الواو ، وجمعت العضة على المعنيين جمع العقلاء لما لحقها من الحذف ، فجعلوا ذلك عوضاً عما لحقها من الحذف؛ وقيل : معنى { عضين } إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض ، ومما يؤيد ، أن معنى عضين التفريق ، قول رؤبة :
وليس دين الله بالعضين ... أي : بالمفرق . وقيل : العضة والعضين في لغة قريش : السحر ، وهم يقولون : للساحر : عاضه ، وللساحرة : عاضهة ، ومنه قول الشاعر :
أعوذ بربي من النافثات ... في عقد العاضهة والعضه
وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة ، وفسر بالساحرة والمستسحرة ، والمعنى : أنهم أكثروا البهت على القرآن ، وسموه : سحراً وكذباً وأساطير الأوّلين ، ونظير عضة في النقصان شفة ، والأصل شفهة ، وكذلك سنّة ، والأصل : سنهة . قال الكسائي : العضة : الكذب والبهتان ، وجمعها عضون . وقال الفراء : إنه مأخوذ من العضاه . وهي شجر يؤذي ويجرح كالشوك . ويجوز أن يراد بالقرآن : التوراة والإنجيل لكونهما مما يقرأ ، ويراد بالمقتسمين : هم اليهود والنصارى ، أي : جعلوهما أجزاء متفرّقة ، وهو أحد الأقوال المتقدّمة .
{ فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أي : لنسألنّ هؤلاء الكفرة أجمعين يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها ويسألون عنها؛ وقيل : إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد ، والعموم في { عما كانوا يعملون } ، يفيد ما هو أوسع من ذلك . وقيل : إن المسؤولين ها هنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار . ويدلّ عليه قوله : { ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } [ التكاثر : 8 ] ، وقوله : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ، وقوله : { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 25 - 26 ] . ويمكن أن يقال : إن قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق وصرف العموم إليهم لا ينافي سؤال غيرهم .
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } قال الزجاج : يقول أظهر ما تؤمر به . أخذ من الصديع وهو الصبح انتهى . وأصل الصدع : الفرق والشق ، يقال : صدعته فانصدع ، أي : انشق ، وتصدّع القوم ، أي : تفرّقوا ، ومنه { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] أي : يتفرقون . قال الفراء : أراد فاصدع بالأمر أي : أظهر دينك فما مع الفعل على هذا بمنزلة المصدر ، وقال ابن الأعرابي : معنى اصدع بما تؤمر أي : اقصد؛ وقيل : فاصدع بما تؤمر أي : فرق جمعهم وكلمتهم بأن تدعوهم إلى التوحيد فإنهم يتفرّقون ، والأولى أن الصدع الإظهار ، كما قاله الزجاج والفراء وغيرهم .

قال النحويون : المعنى بما تؤمر به من الشرائع ، وجوّزوا أن تكون مصدرية أي : بأمرك وشأنك . قال الواحدي : قال الفسرون : أي اجهر بالأمر أي : بأمرك بعد إظهار الدعوة ، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية ، ثم أمره سبحانه بعد أمره بالصدع بالإعراض وعدم الالتفات إلى المشركين ، فقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } أي : لا تبال بهم ولا تلتفت إليهم إذا لاموك على إظهار الدعوة .
ثم أكد هذا الأمر ، وثبت قلب رسوله بقوله : { إِنَّا كفيناك المستهزءين } مع كونهم كانوا من أكابر الكفار ، وأهل الشوكة فيهم فإذا كفاه الله أمرهم بقمعهم وتدميرهم كفاه أمر من هو دونهم بالأولى ، وهؤلاء المستهزئون كانوا خمسة من رؤساء أهل مكة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب بن الحارث بن زمعة ، والأسود بن عبد يغوث ، والحارث بن الطُّلاطِلَة ، كذا قال القرطبي ووافقه غيره من المفسرين . وقد أهلكهم الله جميعاً وكفاهم أمرهم في يوم واحد ، ثم وصف هؤلاء المستهزئين بالشرك فقال : { الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها ءاخَرَ } فلم يكن ذنبهم مجرّد الاستهزاء ، بل لهم ذنب آخر وهو الشرك بالله سبحانه ، ثم توعدهم فقال : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } كيف عاقبتهم في الآخرة وما يصيبهم من عقوبة الله سبحانه .
ثم ذكر تسلية أخرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد التسلية الأولى بكفايته شرهم ودفعه لمكرهم ، فقال : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } من الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والكهانة والكذب . وقد كان يحصل ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني ، ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال : { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ } أي : متلبساً بحمده ، أي : افعل التسبيح المتلبس بالحمد { وَكُنْ مّنَ الساجدين } أي : المصلين ، فإنك إذا فعلت ذلك ، كشف الله همك ، وأذهب غمك ، وشرح صدرك . ثم أمره بعبادة ربه ، أي : بالدوام عليها إلى غاية هي قوله { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي : الموت . قال الواحدي : قال جماعة المفسرين : يعني الموت لأنه موقن به . قال الزجاج : المعنى : اعبد ربك أبداً ، لأنه لو قيل : اعبد ربك بغير توقيت ، لجاز إذا عبد الإنسان مرّة أن يكون مطيعاً . فإذا قال : حتى يأتيك اليقين ، فقد أمره بالإقامة على العبادة أبداً ما دام حياً .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عمر في قوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني } قال : السبع المثاني : فاتحة الكتاب .

وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني وابن مردويه ، والبيهقي من طرق عن عليّ بمثله . وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود مثله ، وزاد : والقرآن العظيم } سائر القرآن . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس في الآية قال : فاتحة الكتاب استثناها الله لأمة محمد ، فرفعها في أمّ الكتاب فادخرها لهم حتى أخرجها ولم يعطها أحد قبل . قيل : فأين الآية السابعة؟ قال : بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم . وروي عنه نحو هذا من طرق . وأخرج ابن الضريس ، وأبو الشيخ ، وابن مروديه عن أبي هريرة قال : السبع المثاني : فاتحة الكتاب . وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال : السبع المثاني : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } . وروي نحو قول هؤلاء الصحابة عن جماعة من التابعين .
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد بن المعلى أنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا أعلمك أفضل سورة قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرت ، فقال : { الحمد للَّهِ رَبّ العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم » وأخرج البخاري أيضاً من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمّ القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم » ، فوجب بهذا المصير إلى القول بأنها فاتحة الكتاب ، ولكن تسميتها بذلك لا ينافي تسمية غيرها به كما قدّمنا .
وأخرج ابن مردويه عن عمر ، قال في الآية : هي السبع الطوال . وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثله . وأخرج الفريابي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس قال في الآية : هي السبع الطوال . وأخرج الدارمي ، وابن مردويه عن أبيّ بن كعب مثله . وروي نحو ذلك عن جماعة من التابعين . وأخرج ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : هي فاتحة الكتاب والسبع الطوال . وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : ماثنى من القرآن ، ألم تسمع لقول الله : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كتابا متشابها مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] . وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : المثاني : القرآن ، يذكر الله القصة الواحدة مراراً . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن زياد بن أبي مريم في الآية قال : أعطيتك سبعة أجزاء : مر ، وأنه ، وبشر وأنذر ، واضرب الأمثال ، واعدد النعم ، واتل نبأ القرآن .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } قال : نهى الرجل أن يتمنى مال صاحبه ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أزواجا مّنْهُمْ } قال : الأغنياء الأمثال والأشباه .

وأخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة قال : من أعطي القرآن فمدّ عينه إلى شيء مما صغر القرآن فقد خالف القرآن ، ألم يسمع إلى قوله : { وَلَقَدْ ءاتيناك سَبْعًا مّنَ المثاني } ، وإلى قوله : { وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وأبقى } [ طه : 131 ] وقد فسر ابن عيينة أيضاً الحديث الصحيح : « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » فقال : إن المعنى : يستغنى به . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { واخفض جَنَاحَكَ } قال : اخضع .
وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في قوله : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } الآية قال : هم أهل الكتاب ، جزءوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه . وأخرج ابن جرير من طريق عليّ بن أبي طلحة عنه قال : عضين : فرقاً . وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من قريش ، كانوا يصدّون الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة . وأخرج الترمذي ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أنس عن النبي في قوله : { فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } قال : « عن قول لا إله إلاّ الله » . وأخرجه ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر من وجه آخر عن أنس موقوفاً . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عمر مثله .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فامضه ، وفي عليّ بن أبي طلحة مقال معروف . وأخرج ابن جرير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال : ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزل { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فخرج هو وأصحابه . وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : هذا أمر من الله لنبيه بتبليغ رسالته قومه ، وجميع من أرسل إليه . وأخرج ابن المنذر عنه { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } قال : أعلن بما تؤمر . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } قال : نسخه قوله تعالى : { فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] .
وأخرج الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه ، وأبو نعيم ، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله : { إِنَّا كفيناك المستهزئين } قال : المستهزئون : الوليد بن المغيرة ، والأسود بن يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحارث بن عيطل السهمي ، والعاص بن وائل ، وذكر قصة هلاكهم . وقد روي هذا عن جماعة من الصحابة مع زيادة في عددهم ، ونقص على طول في ذلك .
وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والحاكم في التاريخ ، وابن مردويه ، والديلمي عن أبي مسلم الخولاني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« ما أوحي إليّ أن أجمع المال ، وأكن من التاجرين ، ولكن أوحي إليّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين . { وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين } » وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً مثله . وأخرج ابن مردويه ، والديلمي عن أبي الدرداء مرفوعاً نحوه . وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق من طريق عبيد الله بن أبان بن عثمان بن حذيفة ابن أوس الطائفي قال : حدثني أبان بن عثمان عن أبيه ، عن جدّه يرفعه مثل حديث أبي مسلم الخولاني . وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله بن عمر { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } قال : الموت . وأخرج ابن المبارك عن الحسن مثله . وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله .

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

قوله : { أتى أَمْرُ الله } أي : عقابه للمشركين . وقال جماعة من المفسرين : القيامة . قال الزجاج : هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم ، وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه . وقيل : إن المراد بأمر الله : حكمه بذلك ، وقد وقع وأتى ، فأما المحكوم به فإنه لم يقع ، لأنه سبحانه حكم بوقوعه في وقت معين ، فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود . وقيل : إن المراد بإتيانه : إتيان مباديه ومقدّماته { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } نهاهم عن استعجاله ، أي : فلا تطلبوا حضوره قبل ذلك الوقت ، وقد كان المشركون يستعجلون عذاب الله كما قال النضر بن الحارث { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] ، الآية . والمعنى : قرب أمر الله فلا تستعجلوه ، وقد كان استعجالهم له على طريقة الاستهزاء من دون استعجال على الحقيقة ، وفي نهيهم عن الاستعجال تهكم بهم . { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزه وترفع عن إشراكهم ، أو عن أن يكون له شريك ، وشركهم هاهنا هو ما وقع منهم من استعجال العذاب ، أو قيام الساعة استهزاء وتكذيباً ، فإنه يتضمن وصفهم له سبحانه بأنه لا يقدر على ذلك ، وأنه عاجز عنه والعجز وعدم القدرة من صفات المخلوق ، لا من صفات الخالق ، فكان ذلك شركاً .
{ يُنَزّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ } قرأ المفضل عن عاصم " تنزل الملائكة " ، والأصل : تتنزل ، فالفعل مسند إلى الملائكة . وقرأ الأعمش " تنزل " على البناء للمفعول ، وقرأ الجعفي عن أبي بكر عن عاصم " ننزل " بالنون ، والفاعل هو الله سبحانه . وقرأ الباقون { ينزل الملائكة } بالياء التحتية إلاّ أن ابن كثير ، وأبا عمرو يسكنان النون ، والفاعل هو الله سبحانه؛ ووجه اتصال هذه الجملة بما قبلها أنه صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم عن الله أنه قد قرب أمره ، ونهاهم عن الاستعجال ، تردّدوا في الطريق التي علم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأخبر أنه علم بها بالوحي على ألسن رسل الله سبحانه من ملائكته ، والروح : الوحي ، ومثله : { يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] . وسمي الوحي روحاً لأنه يحيي قلوب المؤمنين ، فإن من جملة الوحي : القرآن ، وهو نازل من الدين منزلة الروح من الجسد . وقيل : المراد أرواح الخلائق . وقيل : الروح الرحمة . وقيل : الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح . قال الزجاج : الروح ما كان فيه من الله حياة بالإرشاد إلى أمره . وقال أبو عبيد : الروح هنا جبريل ، وتكون الباء على هذا بمعنى مع ، «ومن» في { مِنْ أَمْرِهِ } بيانية ، أي : بأشياء أو مبتدئاً من أمره ، أو صفة للروح ، أو متعلق ب { ينزل } ، ومعنى { على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } على من اختصه بذلك ، وهم الأنبياء { أَنْ أَنْذِرُواْ } .

قال الزجاج : { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدل من الروح ، أي : ينزلهم بأن أنذروا ، و « أن » إما مفسرة لأن تنزل الوحي فيه معنى القول ، وإما مخففة من الثقيلة ، وضمير الشأن مقدّر ، أي : بأن الشأن أقول لكم أنذروا ، أي : أعلموا الناس { أَنَّهُ لا إله إِلا أَنَاْ } أي : مروهم بتوحيدي ، وأعلموهم ذلك مع تخويفهم ، لأن في الإنذار تخويفاً وتهديداً . والضمير في أنه للشأن . { فاتقون } الخطاب للمستعجلين على طريق لالتفات ، وهو تحذير لهم من الشرك بالله ، ثم إن الله سبحانه لما أرشدهم إلى توحيده ، ذكر دلائل التوحيد فقال : { خُلِقَ السموات والأرض بالحق } أي : أوجدهما على هذه الصفة التي هما عليهما بالحق ، أي : للدلالة على قدرته ووحدانيته . وقيل : المراد بالحق هنا : الفناء والزوال { تَعَالَى } الله { عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : ترفع وتقدّس عن إشراكهم ، أو عن شركة الذي يجعلونه شريكاً له .
ثم لما كان نوع الإنسان أشرف أنواع المخلوقات السفلية ، قدّمه وخصه بالذكر ، فقال : { خَلَقَ الإنسان } وهو اسم لجنس هذا النوع { مِن نُّطْفَةٍ } من جماد يخرج من حيوان ، وهو المنيّ فنقله أطواراً إلى أن كملت صورته ، ونفخ فيه الروح ، وأخرجه من بطن أمه إلى هذه الدار فعاش فيها { فَإِذَا هُوَ } بعد خلقه على هذه الصفة { خَصِيمٌ } أي : كثير الخصومة والمجادلة ، والمعنى : أنه كالمخاصم لله سبحانه في قدرته ، ومعنى { مُّبِينٌ } ظاهر الخصومة وأضحها ، وقيل : يبين عن نفسه ما يخاصم به من الباطل ، والمبين هو المفصح عما في ضميره بمنطقه ومثله قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ } [ ياس : 77 ] .
ثم عقب ذكر خلق الإنسان بخلق الأنعام لما فيها من النفع لهذا النوع ، فالامتنان بها أكمل من الامتنان بغيرها ، فقال : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ } وهي : الإبل ، والبقر ، والغنم ، وأكثر ما يقال : نعم وأنعام للإبل ، ويقال للمجموع ، ولا يقال للغنم مفردة ، ومنه قول حسان :
وكانت لا يزال بها أنيس ... خلال مروجها نعم وشاء
فعطف الشاء على النعم ، وهي هنا الإبل خاصة . قال الجوهري : والنعم : واحد الأنعام ، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل . ثم لما أخبر سبحانه بأنه خلقها لبني آدم بين المنفعة التي فيها لهم فقال : { فِيهَا دِفْء } الدفء : السخانة ، وهو ما استدفىء به من أصوافها وأوبارها وأشعارها . والجملة في محلّ النصب على الحال { ومنافع } معطوف على { دفء } وهي : درّها وركوبها ونتاجها ، والحراثة بها ونحو ذلك . وقد قيل : إن الدفء : النتاج واللبن . قال في الصحاح : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ، ثم قال : والدفء أيضاً : السخونة ، وعلى هذا فإن أريد بالدفء المعنى الأوّل فلا بدّ من حمل المنافع على ما عداه مما ينتفع به منها ، وإن حمل على المعنى الثاني كان تفسير المنافع بما ذكرناه واضحاً .

وقيل : المراد بالمنافع النتاج خاصة؛ وقيل : الركوب { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي : من لحومها وشحومها . وخصّ هذه المنفعة بالذكر مع دخولها تحت المنافع لأنها أعظمها . وقيل : خصها لأن الانتفاع بلحمها وشحمها تعدم عنده عينها بخلاف غيره من المنافع التي فيها ، وتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص للإشارة إلى أن الأكل منها هو الأصل ، وغيره نادر .
{ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } أي : لكم فيها مع ما تقدّم ذكره جمال ، والجمال : ما يتجمل به ويتزين ، والجمال : الحسن ، والمعنى هنا : لكم فيها تجمل وتزين عند الناظرين إليها { حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي : في هذين الوقتين ، وهما وقت ردّها من مراعيها ، ووقت تسريحها إليها ، فالرواح رجوعها بالعشيّ من المراعي . والسراح : مسيرها إلى مراعيها بالغداة . يقال : سرحت الإبل أسرحها سرحاً وسروحاً : إذا غدوت بها إلى المرعى ، وقدّم الإراحة على التسريح لأن منظرها عند الإراحة أجمل ، وذواتها أحسن لكونها في تلك الحالة قد نالت حاجتها من الأكل والشرب ، فعظمت بطونها وانتفخت ضروعها ، وخصّ هذين الوقتين لأنهما وقت نظر الناظرين إليها ، لأنها عند استقرارها في الحظائر لا يراها أحد ، وعند كونها في مراعيها هي متفرّقة غير مجتمعة كل واحد منها يرعى في جانب .
{ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } الأثقال : جمع ثقل ، وهو متاع المسافر من طعام وغيره ، وسمي ثقلاً لأنه يثقل الإنسان حمله ، وقيل : المراد أبدانهم { إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس } أي : لم تكونوا واصلين إليه لو لم يكن معكم إبل تحمل أثقالكم إلاّ بشق الأنفس لبعده عنكم ، وعدم وجود ما يحمل ما لا بدّ لكم منه في السفر ، وظاهره يتناول كل بلد بعيدة من غير تعيين؛ وقيل : المراد بالبلد مكة ، وقيل : اليمن ومصر والشام لأنها متاجر العرب ، { وشق الأنفس } : مشقتها . قرأ الجمهور بكسر الشين ، وقرأ أبو جعفر بفتحها . قال الجوهري : والشق المشقة ، ومنه قوله : { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس } وحكى أبو عبيدة بفتح الشين ، وهما بمعنى ، ويجوز أن يكون المفتوح مصدراً من شققت عليه أشق شقاً . والمكسور بمعنى النصف . يقال : أخذت شق الشاة ، وشقة الشاة ، ويكون المعنى على هذا في الآية : لم تكونوا بالغيه إلاّ بذهاب نصف الأنفس من التعب ، وقد امتنّ الله سبحانه على عباده بخلق الأنعام على العموم ، ثم خصّ الإبل بالذكر لما فيها من نعمة حمل الأثقال دون البقر والغنم ، والاستثناء من أعمّ العام ، أي : لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلاّ بشقّ الأنفس .
{ والخيل والبغال والحمير } بالنصب عطفاً على الأنعام ، أي : وخلق لكم هذه الثلاثة الأصناف . وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع فيها كلها . وسميت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها ، وواحد الخيل خائل .

كضائن واحد الضأن . وقيل : لا واحد له . ثم علل سبحانه خلق هذه الثلاثة الأنواع بقوله : { لِتَرْكَبُوهَا } وهذه العلة هي باعتبار معظم منافعها ، لأن الانتفاع بها في غير الركوب معلوم كالتحميل عليها وعطف { زِينَةُ } على محل { لتركبوها } لأنه في محل نصب على أنه علة لخلقها . ولم يقل : لتتزينوا بها ، حتى يطابق { لتركبوها } لأن الركوب فعل المخاطبين ، والزينة : فعل الزائن وهو الخالق . والتحقيق فيه : أن الركوب هو المعتبر في المقصود ، بخلاف الزينة ، فإنه لا يلتفت إليه أهل الهمم العالية ، لأنه يورث العجب ، فكأنه سبحانه قال : خلقها لتركبوها ، فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة . وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ، ولكنه غير مقصود بالذات .
وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بتحريم لحوم الخيل ، قائلين بأن التعليل بالركوب يدلّ على أنها مخلوقة لهذه المصلحة دون غيرها . قالوا : ويؤيد ذلك إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر ، وإخراجها عن الأنعام ، فيفيد ذلك اتحاد حكمها في تحريم الأكل . قالوا : ولو كان أكل الخيل جائزاً لكان ذكره ، والامتنان به أولى من ذكر الركوب ، لأنه أعظم فائدة منه ، وقد ذهب إلى هذا مالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابهما ، والأوزاعي ، ومجاهد وأبو عبيدة وغيرهم . وذهب الجمهور من الفقهاء والمحدّثين وغيرهم إلى حلّ لحوم الخيل . ولا حجة لأهل القول الأوّل في التعليل بقوله : { لِتَرْكَبُوهَا } لأن ذكر ما هو الأغلب من منافعها لا ينافي غيره ، ولا نسلم أن الأكل أكثر فائدة من الركوب حتى يذكر ، ويكون ذكره أقدم من ذكر الركوب . وأيضاً لو كانت هذه الآية تدلّ على تحريم الخيل ، لدلت على تحريم الحمر الأهلية ، وحينئذٍ لا يكون ثم حاجة لتحديد التحريم لها عام خيبر ، وقد قدّمنا أن هذه السورة مكية .
والحاصل : أن الأدلة الصحيحة قد دلت على حلّ أكل لحوم الخيل . فلو سلمنا أن في هذه الآية متمسكاً للقائلين بالتحريم ، لكانت السنة المطهرة الثابتة رافعة لهذا الاحتمال ، ودافعة لهذا الاستدلال . وقد أوضحنا هذه المسألة في مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره .
{ وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي : يخلق ما لا يحيط علمكم به من المخلوقات غير ما قد عدّده ها هنا . وقيل : المراد : من أنواع الحشرات والهوامّ في أسافل الأرض ، وفي البحر مما لم يره البشر ولم يسمعوا به . وقيل : هو ما أعدّ الله لعباده في الجنة وفي النار مما لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولا خطر على قلب بشر . وقيل : هو خلق السوس في النبات ، والدود في الفواكه؛ وقيل : عين تحت العرش؛ وقيل نهر من النور . وقيل : أرض بيضاء ، ولا وجه للاقتصار في تفسير هذه الآية على نوع من هذه الأنواع ، بل المراد أنه سبحانه يخلق ما لا يعلم به العباد ، فيشمل كل شيء لا يحيط علمهم به ، والتعبير هنا بلفظ المستقبل لاستحضار الصورة ، لأنه سبحانه قد خلق ما لا يعلم به العباد .

{ وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } القصد : مصدر بمعنى الفاعل ، فالمعنى : وعلى الله قاصد السبيل ، أي : هداية قاصد الطريق المستقيم بموجب وعده المحتوم وتفضله الواسع؛ وقيل : هو على حذف مضاف ، والتقدير : وعلى الله بيان قصد السبيل ، والسبيل : الإسلام ، وبيانه بإرسال الرسل وإقامة الحجج والبراهين . والقصد في السبيل هو كونه موصلاً إلى المطلوب ، فالمعنى : وعلى الله بيان الطريق الموصل إلى المطلوب { وَمِنْهَا جَائِرٌ } الضمير في { منها } راجع إلى السبيل بمعنى : الطريق ، لأنها تذكر وتؤنث . وقيل : راجع إليها بتقدير مضاف أي : ومن جنس السبيل جائر مائل عن الحق عادل عنه ، فلا يهتدي به ، ومنه قول امرىء القيس :
ومن الطريقة جائر وهدى ... قصد السبيل ومنه ذو دخل
وقيل : إن الطريق كناية عن صاحبها ، والمعنى : ومنهم جائر عن سبيل الحق : أي عادل عنه ، فلا يهتدي إليه ، قيل : وهم أهل الأهواء المختلفة ، وقيل : أهل الملل الكفرية ، وفي مصحف عبد الله " ومنكم جائر " ، وكذا قرأ عليّ ، { وَلَوْ شَآء لَهَدَاكُمْ أجمعين } أي : ولو شاء أن يهديكم جميعاً إلى الطريق الصحيح ، والمنهج الحق لفعل ذلك ، ولكنه لم يشأ ، بل اقتضت مشيئته سبحانه إراءة الطريق ، والدلالة عليها { وَشَفَتَيْنِ وهديناه النجدين } [ البلد : 10 ] . وأما الإيصال إليها بالفعل ، فذلك يستلزم أن لا يوجد في العباد كافر ، ولا من يستحق النار من المسلمين ، وقد اقتضت المشيئة الربانية أنه يكون البعض مؤمناً ، والبعض كافراً كما نطق بذلك القرآن في غير موضع .
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، قال : لما نزل { أتى أَمْرُ الله } ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } فسكنوا . وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال : لما نزلت { أتى أَمْرُ الله } قاموا ، فنزلت { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } . وأخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس { أتى أَمْرُ الله } قال : خروج محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج قال : «لما نزلت هذه الآية { أتى أَمْرُ الله } قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض : إن هذا يزعم أن أمر الله أتى ، فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى تنظروا ما هو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نراه نزل شيء ، فنزلت { اقترب لِلنَّاسِ حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] فقالوا : إن هذا يزعم مثلها أيضاً ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء قالوا : ما نراه نزل شيء ، فنزلت { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } [ هود : 8 ] . الآية . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : { أتى أَمْرُ الله } قال : الأحكام والحدود والفرائض .

وأخرج هؤلاء عن ابن عباس في قوله : { يُنَزّلُ الملائكة بالروح } قال : بالوحي . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والبيهقي عنه قال : الروح أمر من أمر الله ، وخلق من خلق الله ، وصورهم على صورة بني آدم . وما ينزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح . ثم تلا { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن { يُنَزّلُ الملائكة بالروح } قال : القرآن .
وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْء } قال : الثياب { ومنافع } قال : ما تنتفعون به من الأطعمة والأشربة . وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ، قال : نسل كل دابة . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ } يعني : مكة { لَّمْ تَكُونُواْ بالغيه إِلاَّ بِشِقّ الأنفس } قال : لو تكلفتموه ، لم تطيقوه إلاّ بجهد شديد .
وقد ورد في حلّ أكل لحوم الخيل أحاديث منها في الصحيحين وغيرهما ، من حديث أسماء ، قالت : نحرنا فرساً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه . وأخرج أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن جابر قال : أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل ، ونهانا عن لحوم الحمر الأهلية . وأخرج أبو داود نحوه من حديثه أيضاً .
وهما على شرط مسلم . وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث جابر ، قال : " نهى رسول الله عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في الخيل " وأما ما أخرجه أبو عبيد ، وأبو داود ، والنسائي من حديث خالد بن الوليد قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وعن لحوم الخيل والبغال والحمير " ، ففي إسناده صالح بن يحيى بن أبي المقدام ، وفيه مقال . ولو فرضنا أن الحديث صحيح ، لم يقو على معارضة أحاديث الحلّ ، على أنه يكون أن هذا الحديث المصرّح بالتحريم متقدّم على يوم خيبر ، فيكون منسوخاً .
وأخرج الخطيب وابن عساكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال : «البراذين» . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مما خلق الله أرضاً من لؤلؤة بيضاء " ثم ساق من أوصافها ما يدلّ على أن الحديث موضوع ، ثم قال في آخره : «فذلك قوله { ويخلق ما لا تعلمون } » . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } يقول : على الله أن يبين الهدى والضلالة . { وَمِنْهَا جَائِرٌ } قال : السبل المتفرّقة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَعَلَى الله قَصْدُ السبيل } قال : على الله بيان حلاله ، وحرامه ، وطاعته ، ومعصيته { وَمِنْهَا جَائِرٌ } قال : من السبل ناكب عن الحق . قال : وفي قراءة ابن مسعود " ومنكم جائر " . وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف عن عليّ أنه كان يقرأ هذه الآية " ومنكم جائر " .

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)

لما استدل سبحانه على وجوده وكمال قدرته وبديع صنعته بعجائب أحوال الحيوانات ، أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال : { هُوَ الذى أَنْزَلَ مِنَ السماء } أي : من جهة السماء ، وهي السحاب { مَاء } أي : نوعاً من أنواع الماء ، وهو المطر { لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } يجوز أن يتعلق { لكم } ب { أنزل } أو هو خبر مقدّم ، وشراب مبتدأ مؤخر ، والجملة صفة لماء ، { وَمِنْهُ } في محل نصب على الحال ، والشراب : اسم لما يشرب كالطعام لما يطعم ، والمعنى : أن الماء النازل من السماء قسمان : قسم يشربه الناس ، ومن جملته ماء الآبار والعيون ، فإنه من المطر لقوله : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى الأرض } [ الزمر : 21 ] وقسم يحصل منه شجر ترعاه المواشي . قال الزجاج : كل ما ينبت من الأرض فهو شجر ، لأن التركيب يدل على الاختلاط ، ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق . وقال ابن قتيبة : المراد من الشجر في الآية الكلأ ، وقيل : الشجر : كل ماله ساق كقوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] . والعطف يقتضي التغاير ، فلما كان النجم ما لا ساق له ، وجب أن يكون الشجر ماله ساق ، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي : في الشجر ترعون مواشيكم ، يقال : سامت السائمة تسوم سوماً رعت فهي سائمة ، وأسمتها ، أي : أخرجتها إلى الرعي فأنا مسيم وهي مسامة وسائمة ، وأصل السوم : الإبعاد في المرعى . قال الزجاج : أخذ من السومة ، وهي العلامة ، لأنها تؤثر في الأرض علامات برعيها . { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب } قرأ أبو بكر عن عاصم « ننبت » بالنون ، وقرأ الباقون بالياء التحتية ، أي : ينبت الله لكم بذلك الماء الذي أنزله من السماء ، وقدّم الزرع لأنه أصل الأغذية التي يعيش بها الناس ، وأتبعه بالزيتون لكونه فاكهة من وجه وإداما من وجه لكثرة ما فيه من الدّهن ، وهو جمع زيتونة . ويقال للشجرة نفسها : زيتونة . ثم ذكر النخيل لكونه غذاء وفاكهة وهو مع العنب أشرف الفواكه ، وجمع الأعناب لاشتمالها على الأصناف المختلفة ، ثم أشار إلى سائر الثمرات فقال : { وَمِن كُلّ الثمرات } كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها فيما سبق بقوله : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقرأ أبيّ بن كعب « ينبت لكم به الزرع » يرفع الزرع وما بعده { إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : الإنزال والإنبات { لآيَةً } عظيمة دالة على كمال القدرة والتفرّد بالربوبية { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } في مخلوقات الله ولا يهملون النظر في مصنوعاته .
{ وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار } معنى تسخيرهما للناس : تصييرهما نافعين لهم بحسب ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه حاجاتهم ، يتعاقبان دائماً ، كالعبد الطائع لسيده لا يخالف ما يأمره به ولا يخرج عن إرادته ولا يهمل السعي في نفعه .

وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم ، فإنها تجري على نمط متحد يستدل بها العباد على مقادير الأوقات ، ويهتدون بها ويعرفون أجزاء الزمان . ومعنى مسخرات : مذللات . وقرأ ابن عامر وأهل الشام : « والشمس والقمر والنجوم مسخرات » بالرفع على الابتداء والخبر . وقرأ الباقون بالنصب عطفاً على { الليل والنهار } ، وقرأ حفص عن عاصم برفع { النجوم } على أنه مبتدأ وخبره { مسخرات بِأَمْرِهِ } وعلى قراءة النصب في مسخرات يكون حالاً مؤكدة ، لأن التسخير قد فهم من قوله : { وَسَخَّرَ } ؛ وقرأ حفص في رواية برفع مسخرات مع نصب ما قبله على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي مسخرات ، { إِنَّ فِى ذَلِكَ } التسخير { لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي : يعملون عقولهم في هذه الآثار الدالة على وجود الصانع وتفرّده ، وعدم وجود شريك له . وذكر الآيات لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة ، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة . وجمعها ليطابق قوله { مسخرات } ؛ وقيل : إن وجه الجمع هو أن كلا من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها ، بخلاف ما تقدّم من الإنبات ، فإنه آية واحدة ، ولا يخلو كل هذا عن تكلف ، والأولى أن يقال : إن هذه المواضع الثلاثة التي أفرد الآية في بعضها وجمعها في بعضها كل واحد منها يصلح للجمع باعتبار ، وللإفراد باعتبار ، فلم يجرها على طريقة واحدة افتناناً وتنبيهاً على جواز الأمرين وحسن كل واحد منهما .
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض } أي : خلق يقال : ذرأ الله الخلق يذرؤهم ذرءاً : خلقهم ، فهو ذارىء ، ومنه الذرّية ، وهي : نسل الثقلين ، وقد تقدّم تحقيق هذا ، وهو معطوف على النجوم رفعاً ونصباً ، أي : وسخر لكم ما ذرأ في الأرض . فالمعنى : أنه سبحانه سخر لهم تلك المخلوقات السماوية والمخلوقات الأرضية . وانتصاب { مختلفاً ألوانه } على الحال ، و { ألوانه } : هيئاته ومناظره ، فإن ذرء هذه الأشياء على اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكلّ في الطبيعة الجسمية آية عظيمة دالة على وجود الصانع سبحانه وتفرّده { إِنَّ فِى ذَلِكَ } التسخير لهذه الأمور { لآيَةً } واضحة { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } فإن من تذكر اعتبر ، ومن اعتبر ، استدلّ على المطلوب ، قيل : وإنما خصّ المقام الأوّل بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة . وخصّ المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة ، وإراحة العلة ، فمن لم يعترف بعدها بالوحداينة فلا عقل له . وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة . فمن شك بعد ذلك ، فلا حسّ له . وفي هذا من التكلف ما لا يخفى . والأولى : أن يقال هنا كما قلنا فيما تقدّم في إفراد الآية في البعض ، وجمعها في البعض الآخر . وبيانه أن كلا من هذه المواضع الثلاثة يصلح لذكر التفكر ، ولذكر التعقل ، ولذكر التذكر ، لاعتبارات ظاهرة غير خفية .

فكان في التعبير في كل موضع بواحد منها افتنان حسن لا يوجد في التعبير بواحد منها في جميع المواضع الثلاثة .
{ وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر } امتنّ الله سبحانه بتسخير البحر بإمكان الركوب عليه واستخراج ما فيه من صيد وجواهر ، لكونه من جملة النعم التي أنعم الله بها على عباده مع ما فيه من الدلالة على وحدانية الربّ سبحانه وكمال قدرته ، وقد جمع الله سبحانه لعباده في هذا المقام بين التذكير لهم بآياته الأرضية والسماوية والبحرية ، فأرشدهم إلى النظر والاستدلال بالآيات المتنوّعة المختلفة الأمكنة إتماماً للحجة ، وتكميلاً للإنذار ، وتوضيحاً لمنازع الاستدلال ، ومناطات البرهان ، ومواضع النظر والاعتبار ، ثم ذكر العلة في تسخير البحر فقال : { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } المراد به : السمك ، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته ، والإرشاد إلى المسارعة بأكله لكونه مما يفسد بسرعة { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } أي : لؤلؤاً ومرجاناً كما في قوله سبحانه : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] وظاهر قوله : { تَلْبَسُونَهَا } أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي : يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء ، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله : { تَلْبَسُونَهَا } بقوله تلبسه نساؤهم ، لأنهنّ من جملتهم ، أو لكونهنّ يلبسنها لأجلهم ، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلاّ النساء خاصة ، فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهاً بهنّ ، وقد ورد الشرع بمعنه لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان .
{ وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ } أي : ترى السفن شواق للماء تدفعه بصدرها . ومخر السفينة : شقها الماء بصدرها . قال الجوهري : مخر السابح : إذا شقّ الماء بصدره ، ومخر الأرض : شقها للزراعة ، وقيل : مواخر جواري ، وقيل : معترضة . وقيل : تذهب وتجيء ، وقيل : ملججة . قال ابن جرير : المخر في اللغة : صوت هبوب الريح ، ولم يقيد بكونه في ماء { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } معطوف على { تستخرجوا } ، وما بينهما اعتراض ، أو على علة محذوفة تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ، أو على تقدير فعل ذلك لتبتغوا أي : لتتجروا فيه ، فيحصل لكم الربح من فضل الله سبحانه : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : إذا وجدتم فضله عليكم وإحسانه إليكم ، اعترفتم بنعمته عليكم فشكرتم ذلك باللسان والأركان . قيل : ولعلّ وجه تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث أن فيها قطعاً لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة من غير مزاولة أسباب السفر ، بل من غير حركة أصلاً مع أنها في تضاعيف المهالك ، ويمكن أن يضم إلى ما ذكر من قطع المسافة على الصفة المذكورة ما اشتمل عليه البحر من كون فيه أطيب مأكول وأنفس ملبوس وكثرة النعم مع نفاستها وحسن موقعها من أعظم الأسباب المستدعية للشكر الموجبة له .

ثم أردف هذه النعم الموجبة للتوحيد ، المفيدة للاستدلال على المطلوب بنعمة أخرى وآية كبرى ، فقال : { وألقى فِى الأرض رَوَاسِىَ } أي : جبالاً ثابتة ، يقال : رسا يرسو : إذا ثبت وأقام ، قال الشاعر :
فصبرت عارفة لذلك حرة ... ترسو إذا نفس الجبان تطلع
{ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي : كراهة أن تميد بكم على ما قاله البصريون ، أو لئلا تميد بكم على ما قاله الكوفيون ، والميد : الاضطراب يميناً وشمالاً ، ماد الشيء يميد ميداً تحرّك ، ومادت الأغصان تمايلت ، وماد الرجل تبختر { وأنهارا } أي : وجعل فيها أنهاراً ، لأن الإلقاء ، ها هنا بمعنى الجعل والخلق كقوله : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } [ طه : 39 ] . { وَسُبُلاً } أي : وجعل فيها سبلاً وأظهرها وبينها لأجل تهتدون بها في أسفاركم إلى مقاصدكم . والسبل : الطرق { وعلامات } أي : وجعل فيها علامات ، وهي معالم الطرق ، والمعنى : أنه سبحانه جعل للطرق علامات يهتدون بها { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } المراد بالنجم : الجنس ، أي : يهتدون به في سفرهم ليلاً . وقرأ ابن وثاب " وبالنجم " بضم النون والجيم ، ومراده : النجوم فقصره ، أو هو جمع نحو كسقف وسقف . وقيل : المراد بالنجم هنا : الجدي والفرقدان قاله الفراء؛ وقيل : الثريا ، وقيل : العلامات الجبال ، وقيل : هي النجوم ، لأن من النجوم ما يهتدى به ، ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها . وذهب الجمهور إلى أن المراد في الآية الاهتداء في الأسفار؛ وقيل : هو الاهتداء إلى القبلة ، ولا مانع من حمل ما في الآية على ما هو أعمّ من ذلك . قال الأخفش : ثمّ الكلام عند قوله { وعلامات } ، وقوله : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } كلام منفصل عن الأول؛ ثم لما عدّد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته وكمال قدرته أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال : { أَفَمَن يَخْلُقُ } هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هذه الأفاعيل العجيبة { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } شيئاً منها ولا يقدر على إيجاد واحد منها ، وهو هذه الأصنام التي تعبدونها وتجعلونها شركاء لله سبحانه . وأطلق عليها لفظ «من» إجراء لها مجرى أولى العلم جرياً على زعمهم بأنها آلهة ، أو مشاكلة لقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ } لوقوعها في صحبته ، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ للكفار ما لا يخفى ، وما أحقهم بذلك ، فإنهم جعلوا بعض المخلوقات شريكاً لخالقه تعالى الله عما يشركون . { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } مخلوقات الله الدالة على وجوده وتفرّده بالربوبية وبديع صنعته فتستدلون بها على ذلك ، فإنها لوضوحها يكفي في الاستدلال بها مجرّد التذكر لها .
ثم لما فرغ من تعديد الآيات ، التي هي بالنسبة إلى المكلفين نعم ، قال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } وقد مرّ تفسير هذا في سورة إبراهيم .
قال العقلاء : إن كل جزء من أجزاء الإنسان لو ظهر فيه أدنى خلل وأيسر نقص لنغص النعم على الإنسان ، وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل ، فهو سبحانه يدير بدن هذا الإنسان على الوجه الملائم له ، مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك فكيف يطيق حصر بعض نعم الله عليه أو يقدر على إحصائها ، أو يتمكن من شكر أدناها؟ .

يا ربنا هذه نواصينا بيدك خاضعة لعظيم نعمك معترفة بالعجز عن بادية الشكر لشيء منها ، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، ولا نطيق التعبير بالشكر لك ، فتجاوز عنا واغفر لنا وأسبل ذيول سترك على عوارتنا فإنك إن لا تفعل ذلك نهلك بمجرّد التقصير في شكر نعمك ، فكيف بما قد فرط منا من التساهل في الائتمار بأوامرك والانتهاء عن مناهيك ، وما أحسن ما قال من قال :
العفو يرجى من بني آدم ... فكيف لا يرجى من الربّ
فقلت مذيلاً لهذا البيت الذي هو قصر مشيد :
فإنه أرأف بي منهم ... حسبي به حسبي به حسبي
وما أحسن ما ختم به هذا الامتنان الذي لا يلتبس على إنسان مشيراً إلى عظيم غفرانه وسعة رحمته فقال : { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي : كثير المغفرة والرحمة لا يؤاخذكم بالغفلة عن شكر نعمه ، والقصور عن إحصائها ، والعجز عن القيام بأدناها ، ومن رحمته إدامتها عليكم وإدرارها في كل لحظة وعند كل نفس تتنفسونه وحركة تتحركون بها . اللهم إني أشكرك عدد ما شكرك الشاكرون بكلّ لسان في كل زمان ، وعدد ما سيشكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان ، فقد خصصتني بنعم لم أرها على كثير من خلقك ، وإن رأيت منها شيئاً على بعض خلقك لم أرَ عليه بقيتها ، فأني أطيق شكرك وكيف أستطيع بادية أدنى شكر أدناها فكيف أستطيع أعلاها؟ فكيف أستطيع شكر نوع من أنواعها؟
ثم بين لعباده بأنه عالم بجميع ما يصدر منهم ، لا تخفى عليه منه خافية فقال : { والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } أي : تضمرونه من الأمور { وَمَا تُعْلِنُونَ } أي : تظهرونه منها . وفيه وعيد وتعريض وتوبيخ ، وتنبيه على أنّ الإله يجب أن يكون عالماً بالسرّ والعلانية ، لا كالأصنام التي يعبدونها ، فإنها جمادات لا شعور لها بشيء من الظواهر فضلاً عن السرائر فكيف يعبدونها؟ .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأرض } قال : ما خلق لكم في الأرض مختلفاً من الدواب ، والشجر والثمار ، نعم من الله متظاهرة ، فاشكروها لله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : { لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } يعني : حيتان البحر { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } قال : هذا اللؤلؤ . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { وَهُوَ الذى سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } قال : هو السمك وما فيه من الدواب .

وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي جعفر ، قال : ليس في الحلى زكاة ، ثم قرأ { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } . أقول : وفي هذا الاستدلال نظر ، والذي ينبغي التعويل عليه أن الأصل البراءة من الزكاة حتى يرد الدليل بوجوبها في شيء من أنواع المال فتلزم ، وقد ورد في الذهب والفضة ما هو معروف ، ولم يرد في الجواهر على اختلاف أصنافها ما يدلّ على وجوب الزكاة فيها .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { مَوَاخِرَ } قال : جواري . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة { مَوَاخِرَ } قال : تشقّ الماء بصدرها . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك { مَوَاخِرَ } قال : السفينتان تجريان بريح واحدة مقبلة ومدبرة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } قال : هي التجارة .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { رَوَاسِىَ } قال : الجبال ، { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } قال : حتى لا تميد بكم ، كانوا على الأرض تمور بهم لا تستقرّ ، فأصبحوا صبحاً وقد جعل الله الجبال ، وهي الرواسي أوتاداً في الأرض . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { وَسُبُلاً } قال : السبل هي الطرق بين الجبال . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والخطيب عن قتادة { وَسُبُلاً } قال : طرقاً { وعلامات } قال : هي النجوم . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية قال : علامات النهار الجبال . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الكلبي { وعلامات } قال : الجبال : وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس { وعلامات } يعني : معالم الطرق بالنهار { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } يعني بالليل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } قال : الله هو الخالق الرازق ، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تُخلق شيئاً ، ولا تملك لأهلها ضرّاً ولا نفعاً .

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)

شرع سبحانه في تحقيق كون الأصنام التي أشار إليها بقوله : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } عاجزة على أن يصدر منها خلق شيء فلا تستحق عبادة فقال : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي : الآلهة الذين يدعوهم الكفار من دون الله سبحانه صفتهم هذه الصفات المذكورة ، وهي أنهم { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا } من المخلوقات أصلاً ، لا كبيراً ولا صغيراً ، ولا جليلاً ولا حقيراً .
{ وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : وصفتهم أنهم يخلقون ، فكيف يتمكن المخلوق من أن يخلق غيره؟ ففي هذه الآية زيادة بيان ، لأنه أثبت لهم صفة النقصان بعد أن سلب عنهم صفة الكمال ، بخلاف قوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } فإنه اقتصر على مجرد سلب صفة الكمال . وقراءة الجمهور « والذين تدعون » بالمثناة الفوقية على الخطاب مطابقة لما قبله . وروى أبو بكر عن عاصم ، وروى هبيرة عن حفص { يدعون } بالتحتية ، وهي قراءة يعقوب .
ثم ذكر صفة أخرى من صفاتهم فقال : { أموات غَيْرُ أَحْيَاء } يعني : أن هذه الأصنام أجسادها ميتة ، لا حياة بها أصلاً ، فزيادة { غير أحياء } لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها ، بل لا حياة لهذه أصلاً ، فكيف يعبدونها وهم أفضل منها؟ لأنهم أحياء { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } الضمير في { يشعرون } للآلهة ، وفي يبعثون للكفار الذين يعبدون الأصنام ، والمعنى : ما تشعر هذه الجمادات من الأصنام أيان يبعث عبدتهم من الكفار ، ويكون هذا على طريقة التهكم بهم ، لأن شعور الجماد مستحيل بما هو من الأمور الظاهرة فضلاً عن الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه ، وقيل : يجوز أن يكون الضمير في { يبعثون } للآلهة ، أي : وما تشعر هذه لأصنام أيان تبعث ، ويؤيد ذلك ما روي أن الله يبعث الأصنام ويخلق لها أرواحاً معها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار ، ويدل على هذا قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] . وقيل : قد تمّ الكلام عند قوله : { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ثم ابتدأ فوصف المشركين بأنهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ، فيكون الضميران على هذا للكفار ، وعلى القول بأن الضميرين أو أحدهما للأصنام يكون التعبير عنها مع كونها لا تعقل بما هو للعقلاء جرياً على اعتقاد من يعبدها بأنها تعقل . وقرأ السلمي « إيان » بكسر الهمزة ، وهما لغتان ، وهو في محل نصب بالفعل الذي قبله .
{ إلهكم إله واحد } لما زيف سبحانه طريقة عبدة الأوثان ، صرح بما هو الحق في نفس الأمر ، وهو وحدانيته سبحانه ، ثم ذكر ما لأجله أصرّ الكفار على شركهم فقال : { فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } للوحدانية ، لا يؤثر فيها وعظ ، ولا ينجع فيها تذكير { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } عن قبول الحق ، متعظمون عن الإذعان للصواب ، مستمرون على الجحد { لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } قال الخليل : { لا جرم } كلمة تحقيق ، ولا تكون إلاّ جواباً ، أي : حقاً أن الله يعلم ما يسرّون من أقوالهم وأفعالهم وما يعلنون من ذلك ، وقد مرّ تحقيق الكلام في { لا جرم } { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } أي : لا يحبّ هؤلاء الذين يستكبرون عن توحيد الله والاستجابة لأنبيائه ، والجملة تعليل لما تضمنه الكلام المتقدّم .

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } أي : وإذا قال لهؤلاء الكفار المنكرين المستكبرين قائل : ماذا أنزل ربكم؟ أي : أيّ شيء أنزل ربكم؟ أو ماذا الذي أنزل؟ قيل : القائل النضر بن الحارث والآية نزلت فيه؛ فيكون هذا القول منه على طريق التهكم؛ وقيل : القائل هو من يفد عليه؛ وقيل : القائل المسلمون ، فأجاب المشركون المنكرون المستكبرون فقالوا { أساطير الأولين } بالرفع أي : ما تدّعون أيها المسلمون نزوله أساطير الأوّلين ، أو أن المشركين أرادوا السخرية بالمسلمين فقالوا : المنزل عليكم أساطير الأوّلين . وعلى هذا فلا يرد ما قيل من أن هذا لا يصلح أن يكون جواباً من المشركين ، وإلاّ لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرّون بالإنزال ، ووجه عدم وروده هو ما ذكرناه؛ وقيل : هو كلام مستأنف ، أي : ليس ما تدّعون إنزاله أيها المسلمون منزلاً بل هو أساطير الأوّلين؛ وقد جوّز على مقتضى علم النحو نصب « أساطير » وإن لم تقع القراءة به ، ولا بدّ في النصب من التأويل الذي ذكرنا ، أي : أنزل على دعواكم أساطير الأوّلين ، أو يقولون ذلك من أنفسهم على طريق السخرية . والأساطير : الأباطيل والترّهات التي يتحدّث الناس بها عن القرون الأولى . وليس من كلام الله في شيء ، ولا مما أنزله الله أصلاً في زعمهم .
{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً } أي قالوا : هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم كاملة . لم يكفر منها شيء لعدم إسلامهم الذي هو سبب لتكفير الذنوب . وقيل : إن اللام هي لام العاقبة ، لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لأجل يحملون الأوزار ، ولكن لما كان عاقبتهم ذلك حسن التعليل به كقوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] . وقيل : هي لام الأمر { وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ } أي : ويحملون بعض أوزار الذين أضلوهم ، لأن من سنّ سنّة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها . وقيل : « من » للجنس ، لا للتبعيض أي : يحملون كل أوزار الذين يضلونهم ، ومحلّ { بِغَيْرِ عِلْمٍ } النصب على الحال من فاعل { يضلونهم } أي : يضلون الناس جاهلين غير عالمين بما يدعونهم إليه . ولا عارفين بما يلزمهم من الآثام . وقيل : إنه حال من المفعول أي : يضلون من لا علم له ، ومثل هذه الآية : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ }

[ العنكبوت : 13 ] . وقد تقدّم في الأنعام الكلام على قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] { أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } أي : بئس شيئاً يزرونه ذلك .
ثم حكى سبحانه حال أضرابهم من المتقدّمين فقال : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان حيث بنى بناءً عظيماً ببابل ، ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها ، فأهبّ الله الريح ، فخرّ ذلك البناء عليه وعلى قومه فهلكوا ، والأولى أن الآية عامة في جميع المبطلين من المتقدّمين الذين يحاولون إلحاق الضرّ بالمحقين . ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق ، وفي هذا وعيد للكفار المعاصرين له صلى الله عليه وسلم بأن مكرهم سيعود عليهم كما عاد مكر من قبلهم على أنفسهم { فَأَتَى الله بنيانهم } أي : أتى أمر الله ، وهو الريح التي أخربت بنيانهم . قال المفسرون : أرسل الله ريحاً ، فألقت رأس الصرح في البحر ، وخرّ عليهم الباقي { مّنَ القواعد } قال الزجاج : من الأساطين ، والمعنى : أنه أتاها أمر الله من جهة قواعدها فزعزعها { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فوقهم } قرأ ابن أبي هريرة ، وابن محيصن « السقف » بضم السين والقاف جميعاً . وقرأ مجاهد بضم السين وسكون القاف ، وقرأ الباقون { السقف } بفتح السين وسكون القاف ، والمعنى : أنه سقط عليهم السقف ، لأنه بعد سقوط قواعد البناء يسقط جميع ما هو معتمد عليها . قال ابن الأعرابي ، وإنما قال { من فوقهم } ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته ، والعرب تقول خرّ علينا سقف ، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه ، فجاء بقوله : { مّن فَوْقِهِمْ } ليخرج هذا الشك الذي في كلام العرب ، فقال : { مّن فَوْقِهِمْ } أي : عليهم وقع ، وكانوا تحته فهلكوا ، وما أفلتوا . وقيل : إن المراد بالسقف : السماء ، أي : أتاهم العذاب من السماء التي فوقهم . وقيل : إن هذه الآية تمثيل لهلاكهم؛ والمعنى : أهلكهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه عليه .
وقد اختلف في هؤلاء الذين خرّ عليهم السقف ، فقيل : هو نمروذ كما تقدّم ، وقيل : إنه بختنصر وأصحابه ، وقيل هم المُقسمون الذين تقدّم ذكرهم في سورة الحجر { وأتاهم العذاب } أي : الهلاك { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } به ، بل من حيث أنهم في أمان .
ثم بين سبحانه أن عذابهم غير مقصور على عذاب الدنيا . فقال : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ } بإدخالهم النار ، ويفضحهم بذلك ويهينهم ، وهو معطوف على مقدّر ، أي هذا عذابهم في الدنيا ، { ثم يوم القيامة يخزيهموَيَقُولُ } لهم مع ذلك توبيخاً وتقريعاً { أَيْنَ شُرَكَائِىَ } كما تزعمون وتدّعون ، قرأ ابن كثير من رواية البزي « شركاي » من دون همز ، وقرأ الباقون بالهمز ، ثم وصف هؤلاء الشركاء بقوله : { الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ } قرأ نافع بكسر النون على الإضافة ، وقرأ الباقون بفتحها ، أي : تخاصمون الأنبياء والمؤمنين فيهم ، وعلى قراءة نافع تخاصمونني فيهم وتعادونني ، ادعوهم فليدفعوا عنكم هذا العذاب النازل بكم .

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله : { لاَ جَرَمَ } يقول : بلى . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك { لاَ جَرَمَ } قال : يعني الحق . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال : لا كذب . وأخرج مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان » ، فقال رجل : يا رسول الله ، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً ، فقال : « إن الله جميل يحبّ الجمال ، الكبر بطر الحق وغمص الناس » وفي ذمّ الكبر ، ومدح التواضع أحاديث كثيرة ، وكذلك في إخراج محبة حسن الثوب وحسن النعل ، ونحو ذلك من الكبر أحاديث كثيرة . والحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن ماهية الكبر أنه بطر الحق وغمص الناس ، فهذا هو الكبر المذموم . وقد ساق صاحب الدرّ المنثور عند تفسيره لهذه الآية : أعني قوله سبحانه : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } أحاديث كثيرة ليس هذا مقام إيرادها ، بل المقام مقام ذكر ماله علاقة بتفسير الكتاب العزيز .
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { قَالُواْ أساطير الأولين } أن ناساً من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا مرّوا سألوهم فأخبروهم بما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنما هو أساطير الأوّلين . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } الآية يقول يحملون مع ذنوبهم ذنوب الذين يضلونهم بغير علم . وذلك مثل قوله سبحانه : { وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه ، وزاد : ولا يخفف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئاً .
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : نمروذ بن كنعان حين بنى الصرح . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن زيد بن أسلم أنه النمروذ أيضاً . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد } قال : أتاها أمر الله من أصلها { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } والسقف : أعالي البيوت فائتكفت بهم بيوتهم ، فأهلكم الله ودمرهم { وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس { تشاقون فِيهِمْ } قال : تخالفوني .

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

قوله : { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } قيل : هم العلماء ، قالوه لأممهم الذين كانوا يعظونهم ، ولا يلتفتون إلى وعظهم ، وكان هذا القول منهم على طريق الشماتة . وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : الملائكة ، والظاهر : الأوّل ، لأن ذكرهم بوصف العلم يفيد ذلك وإن كان الأنبياء والملائكة هم من أهل العلم ، بل هم أعرق فيه لكن لهم وصف يذكرون به هو أشرف من هذا الوصف ، وهو كونهم أنبياء أو كونهم ملائكة ، ولا يقدح في هذا جواز الإطلاق ، لأن المراد الاستدلال على الظهور فقط { إِنَّ الخزى اليوم } أي : الذلّ والهوان والفضيحة يوم القيامة { والسوء } أي : العذاب { عَلَى الكافرين } مختص بهم .
{ الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } قد تقدّم تفسيره . والموصول في محل الجر على أنه نعت للكافرين ، أو بدل منه ، أو في محل نصب على الاختصاص ، أو في محل رفع على تقدير مبتدأ ، أي : هم الذين تتوفاهم . وانتصاب { ظالمي أنفسهم } على الحال { فَأَلْقَوُاْ السلم } معطوف على { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ } وما بينهما اعتراض أي : أقرّوا بالربوبية ، وانقادوا عند الموت ، ومعناه الاستسلام قاله قطرب ، وقيل : معناه المسالمة ، أي : سالموا وتركوا المشاقة قاله الأخفش؛ وقيل : معناه الإسلام ، أي : أقرّوا بالإسلام وتركوا ما كانوا فيه من الكفر ، وجملة { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء } يجوز أن تكون تفسيراً للسلم على أن يكون المراد بالسلم الكلام الدال عليه ، ويجوز أن يكون المراد بالسوء هنا الشرك ، ويكون هذا القول منهم على وجه الجحود والكذب ، ومن لم يجوّز الكذب على أهل القيامة حمله على أنهم أرادوا أنهم لم يعملوا سوءاً في اعتقادهم وعلى حسب ظنونهم ، ومثله قولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فلما قالوا هذا ، أجاب عليهم أهل العلم بقولهم : { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بلى كنتم تعملون السوء . إن الله عليم بالذي كنتم تعملونه ، فمجازيكم عليه ، ولا ينفعكم هذا الكذب شيئاً .
{ فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ } أي : يقال لهم ذلك عند الموت . وقد تقدّم ذكر أبواب جهنم ، وأن جهنم درجات بعضها فوق بعض ، و { خالدين فِيهَا } حال مقدرة ، لأن خلودهم مستقبل { فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } المخصوص بالذم محذوف ، والتقدير ، لبئس مثوى المتكبرين جهنم ، والمراد بتكبرهم هنا : هو تكبرهم عن الإيمان والعبادة كما في قوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] .
ثم أتبع أوصاف الأشقياء بأوصاف السعداء ، فقال : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا } وهم المؤمنون { مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا } أي : أنزل خيراً . قال الثعلبي : فإن قيل : لم ارتفع الجواب في قوله : { أساطير الأوّلين } وانتصب في قوله : { خيراً } ؟ فالجواب أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل ، فكأنهم قالوا : الذي يقوله محمد هو أساطير الأوّلين ، والمؤمنون آمنوا بالنزول .

فقال : أنزل خيراً { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذه الدنيا حَسَنَةٌ } قيل : هذا من كلام الله عزّ وجلّ ، وقيل : هو حكاية لكلام الذين اتقوا ، فيكون على هذا بدلاً من { خيراً } ، وعلى الأوّل يكون كلاماً مستأنفاً مسوقاً للمدح للمتقين ، والمعنى : للذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا حسنة أي : مثوبة حسنة { وَلَدَارُ الآخرة } أي : مثوبتها { خَيْرٌ } مما أوتوا في الدنيا { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } دار الآخرة ، فحذف المخصوص بالمدح لدلالة ما قبله عليه .
وارتفاع { جنات عَدْنٍ } على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وقيل : يجوز أن تكون هي المخصوص بالمدح { يَدْخُلُونَهَا } هو إما خبر المبتدأ ، أو خبر بعد خبر ، وعلى تقدير تنكير { عدن } تكون صفة لجنات ، وكذلك { تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } وقيل : يجوز أن تكون الجملتان في محل نصب على الحال على تقدير أن لفظ { عدن } علم ، وقد تقدّم معنى جري الأنهار من تحت الجنات { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ } أي : لهم في الجنات ما تقع عليه مشيئتهم صفوا عفوا يحصل لهم بمجرّد ذلك { كَذَلِكَ يَجْزِى الله المتقين } أي : مثل ذلك الجزاء يجزيهم ، والمراد بالمتقين . كل من يتقي الشرك وما يوجب النار من المعاصي .
والموصول في قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ } في محل نصب نعت للمتقين المذكور قبله ، قرأ الأعمش وحمزة { تتوفاهم } في هذا الموضع ، وفي الموضع الأوّل بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية . واختار القراءة الأولى أبو عبيد مستدلاً بما روي عن ابن مسعود أنه قال : إن قريشاً زعموا أن الملائكة إناث فذكروهم أنتم . و { طيبين } فيه أقوال : طاهرين من الشرك ، أو الصالحين ، أو زاكية أفعالهم وأقوالهم ، أو طيبي الأنفس ثقة بما يلقونه من ثواب الله ، أو طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله ، أو طيبين الوفاة ، أي : هي عليهم سهلة ، لا صعوبة فيها ، وجملة { يَقُولُونَ سلام عَلَيْكُمُ } في محل نصب على الحال من الملائكة أي : قائلين سلام عليكم . ومعناه يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون السلام إنذاراً لهم بالوفاة . الثاني أن يكون تبشيراً لهم بالجنة لأن السلام أمان . وقيل : إن الملائكة يقولون : السلام عليك وليّ الله إن الله يقرأ عليك السلام { ادخلوا الجنة بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بسبب عملكم . قيل : يحتمل هذا وجهين : الأوّل أن يكون تبشيراً بدخول الجنة عند الموت . الثاني : أن يقولوا ذلك لهم في الآخرة . ولا ينافي هذا دخول الجنة بالتفضل كما في الحديث الصحيح : « سدّدوا وقاربوا ، واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله » قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : « ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمته » وقد قدّمنا البحث عن هذا .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا } قال : هؤلاء المؤمنون ، يقال لهم : { مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ } فيقولون : { خَيْرًا } { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي : آمنوا بالله وكتبه ، وأمروا بطاعته ، وحثوا عباد الله على الخير ، ودعوهم إليه . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { الذين تتوفاهم الملائكة طَيّبِينَ } قال : أحياء وأمواتاً قدّر الله لهم ذلك .

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ } الآية هذا جواب شبهة أخرى لمنكري النبوّة ، فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال : { هل ينظرون } في تصديق نبوّتك { إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } شاهدين بذلك . ويحتمل أن يقال : إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأوّلين أو عدهم الله بقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } لقبض أرواحهم { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } أي : عذابه في الدنيا المستأصل لهم ، أو المراد بأمر الله القيامة . وقرأ الأعمش ، وابن وثاب ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف « إلا أن يأتيهم الملائكة » بالياء التحتية وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية . والمراد بكونهم { ينظرون } أي : ينتظرون إتيان الملائكة أو إتيان أمر الله على التفسير الآخر أنهم قد فعلوا فعل من وجب عليه العذاب ، وصار منتظراً له ، وليس المراد أنهم ينتظرون ذلك حقيقة ، فإنهم لا يؤمنون بذلك ولا يصدّقونه { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي : مثل فعل هؤلاء من الإصرار على الكفر والتكذيب والاستهزاء فعل الذين خلوا من قبلهم من طوائف الكفار ، فأتاهم أمر الله فهلكوا { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } بتدميرهم بالعذاب ، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم { ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بما ارتكبوه من القبائح . وفيه أن ظلمهم مقصور عليهم باعتبار ما إليه يئول .
وجملة { فَأَصَابَهُمْ سَيّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } معطوفة على { فعل الذين من قبلهم } ، وما بينهما اعتراض . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : كذلك فعل الذين من قبلهم فأصابهم سيئات ما عملوا وما ظلمهم الله ، والمعنى : فأصابهم جزاء سيئات أعمالهم ، أو جزاء أعمالهم السيئة { وَحَاقَ بِهِم } أي : نزل بهم على وجه الإحاطة { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } أي : العذاب الذي كانوا به يستهزئون ، أو عقاب استهزائهم .
{ وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ } هذا نوع آخر من كفرهم الذي حكاه الله عنهم . والمراد بالذين أشركوا هنا . أهل مكة { لَوْ شَآء الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْء } أي : لو شاء عدم عبادتنا لشيء غيره ما عبدنا ذلك { نَّحْنُ وَلا ءابَاؤُنَا } الذين كانوا على ما نحن عليه الآن من دين الكفر والشرك بالله . قال الزجاج : إنهم قالوا هذا على جهة الاستهزاء ، ولو قالوه عن اعتقاد لكانوا مؤمنين . وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة الأنعام { وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْء } من السوائب والبحائر ونحوهما ، ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة : الطعن في الرسالة ، أي : لو كان ما قاله الرسول حقاً من المنع من عبادة غير الله ، والمنع من تحريم ما لم يحرّمه الله حاكياً ذلك عن الله لم يقع منا ما يخالف ما أراده منا فإنه قد شاء ذلك ، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن ، فلما وقع منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلاً على أن ذلك هو المطابق لمراده والموافق لمشيئته ، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك ولا يقرّون به لكنهم قصدوا ما ذكرنا من الطعن على الرسل { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } من طوائف الكفر ، فإنهم أشركوا بالله وحرّموا ما لم يحرّمه ، وجادلوا رسله بالباطل واستهزءوا بهم ، ثم قال : { فَهَلْ عَلَى الرسل } الذين يرسلهم الله إلى عباده بما شرعه لهم من شرائعه التي رأسها توحيده ، وترك الشرك به { إِلاَّ البلاغ } إلى من أرسلوا إليهم بما أمروا بتبليغه بلاغاً واضحاً يفهمه المرسل إليهم ولا يلتبس عليهم .

ثم إنه سبحانه أكد هذا ، وزاده إيضاحاً فقال : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } كما بعثنا في هؤلاء لإقامة الحجة عليهم { وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] و «أن» في قوله : { أَنِ اعبدوا الله } إما مصدرية أي : بعثنا بأن اعبدوا الله ، أو مفسرة؛ لأن في البعث معنى القول : { واجتنبوا الطاغوت } أي : اتركوا كل معبود دون الله كالشيطان ، والكاهن ، والصنم ، وكل من دعا إلى الضلال . { فَمِنْهُمْ } أي : من هذه الأمم التي بعث الله إليها رسله { مَّنْ هَدَى الله } أي : أرشده إلى دينه وتوحيده وعبادته واجتناب الطاغوت { وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } أي : وجبت وثبتت ، لإصراره على الكفر والعناد . قال الزجاج : أعلم الله أنه بعث الرسل بالأمر بالعبادة ، وهو من وراء الإضلال والهداية . ومثل هذه الآية قوله تعالى : { فَرِيقًا هدى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } [ الأعراف : 30 ] . وفي هذه الآية التصريح بأن الله أمر جميع عباده بعبادته ، واجتناب الشيطان ، وكل ما يدعو إلى الضلال ، وأنهم بعد ذلك فريقان : فمنهم من هدى ، ومنهم من حقت عليه الضلالة ، فكان في ذلك دليل على أن أمر الله سبحانه لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ، ولا يريد الهداية إلاّ للبعض ، إذ لو أرادها للكل لم يكفر أحد ، وهذا معنى ما حكيناه عن الزجاج هنا . { فَسِيرُواْ فِى الأرض } سير معتبرين { فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين } من الأمم السابقة عند مشاهدتكم لآثارهم كعاد وثمود ، أي : كيف صار آخر أمرهم إلى خراب الديار بعد هلاك الأبدان .
بالعذاب ثم خصص الخطاب برسوله صلى الله عليه وسلم مؤكداً لما تقدّم فقال : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } أي : تطلب بجهدك ذلك { فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } قرأ ابن مسعود وأهل الكوفة : { لا يهدي } بفتح حرف المضارعة على أنه فعل مستقبل مسند إلى الله سبحانه ، أي : فإن الله لا يرشد من أضله ، و { من } في موضع نصب على المفعولية .

وقرأ الباقون « لا يهدي » بضم حرف المضارعة على أنه مبني للمجهول ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وأبو حاتم على معنى أنه لا يهديه هادٍ كائناً من كان . و { من } في موضع رفع على أنها نائب الفاعل المحذوف ، فتكون هذه الآية على هذه القراءة كقوله في الآية الأخرى { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] . والعائد على القراءتين محذوف ، أي : من يضله . وروى أبو عبيد عن الفراء على القراءة الأولى أن معنى { لاَّ يَهِدِّى } لا يهتدي كقوله تعالى : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّى إِلاَّ أَن يهدى } [ يونس : 35 ] . بمعنى يهتدي . قال أبو عبيد : ولا نعلم أحداً روى هذا غير الفراء ، وليس بمتهم فيما يحكيه . قال النحاس : حكي عن محمد بن يزيد المبرد ، كأن معنى { لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } من علم ذلك منه ، وسبق له عنده { وَمَا لَهُم مّن ناصرين } ينصرونهم على الهداية لمن أضله الله ، أو ينصرونهم بدفع العذاب عنهم .
ثم ذكر عناد قريش وإنكارهم للبعث فقال : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم } مصدر في موضع الحال أي : جاهدين { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } من عباده ، زعموا أن الله سبحانه عاجز عن بعث الأموات ، فردّ الله عليهم ذلك بقوله : { بلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا } هذا إثبات لما بعد النفي ، أي : بلى يبعثهم ، و { وعدا } مصدر مؤكد لما دلّ عليه « بلى » وهو يبعثهم لأن البعث وعد من الله وعد عباده به . والتقدير : وعد البعث وعداً عليه حقاً لا خلف فيه ، و { حقاً } صفة ل { وعد } ، وكذا { عليه } فإنه صفة ل { وعدا } أي : كائناً عليه ، أو نصب حقاً على المصدرية : أي حق حقاً { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلك يسير عليه سبحانه غير عسير .
وقوله { لِيُبَيّنَ لَهُمُ } أي : ليظهر لهم ، وهو غاية لما دلّ عليه « بلى » من البعث ، والضمير في { لَهُمْ } راجع إلى من يموت ، والموصول في قوله : { الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } في محل نصب على أنه مفعول ليبين ، أي : الأمر الذي وقع الخلاف بينهم فيه ، وبيانه إذ ذاك يكون بما جاءتهم به الرسل ، ونزلت عليهم فيه كتب الله . وقيل : إن { ليبين } متعلق بقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا } أي : بعثنا في كل أمة رسولاً ليبين وهو بعيد { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ } بالله سبحانه ، وأنكروا البعث { أَنَّهُمْ كَانُواْ كاذبين } في جدالهم وإنكارهم البعث بقولهم : { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } .
وجملة { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } مستأنفة لبيان كيفية الإبداء والإعادة بعد بيان سهولة البعث عليه سبحانه . قال الزجاج : أعلمهم بسهولة خلق الأشياء عليه فأخبر أنه متى أراد الشيء كان ، وهذا كقوله : { وَإِذَا قضى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }

[ البقرة : 117 ] . وقرأ ابن عامر ، والكسائي { فيكون } بالنصب عطفاً على { أن نقول } . قال الزجاج : يجوز أن يكون نصباً غلى جواب { كن } . وقرأ الباقون بالرفع على معنى : فهو يكون . قال ابن الأنباري : أوقع لفظ الشيء على المعلوم عند الله تعالى قبل الخلق ، لأنه بمنزلة ما قد وجد وشوهد . وقال الزجاج : إن معنى «لشيء» لأجل شيء فجعل اللام سببية . وقيل : هي لام التبليع ، كما في قولك : قلت له قم فقام ، و { إِنَّمَا قَوْلُنَا } مبتدأ و { َأَنْ نَّقُولَ لَهُ كُنْ } خبره ، وهذا الكلام من باب التمثيل على معنى : أنه لا يمتنع عليه شيء ، وأن وجوده عند إرادته كوجود المأمورية عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع ، وليس هناك قول ولا مقول له ، ولا أمر ، ولا مأمور حتى يقال : إنه يلزم منه أحد محالين ، إما خطاب المعدوم ، أو تحصيل لحاصل . وقد مضى تفسير ذلك في سورة البقرة مستوفى .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة } قال : بالموت ، وقال في آية أخرى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة } [ الأنفال : 50 ] ، وهو ملك الموت ، وله رسل { أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ } وذاكم يوم القيامة . وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : { فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ } قال : من يضله الله لا يهديه أحد .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلم به : والذي أرجوه بعد الموت إنه لكذا وكذا ، فقال له المشرك : إنك لتزعم أنك تبعث من بعد الموت ، فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت ، فأنزل الله { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } الآية . وأخرج ابن العقيلي ، وابن مردويه عن عليّ في قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } قال : نزلت فيّ . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن أبي هريرة ، قال : «قال الله تعالى : سبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له أن يسبني ، وكذبني ولم يكن ينبغي له أن يكذبني ، أما تكذيبه إياي ، فقال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } ، وقلت : { بلى وعداً عليه حقاً } وأما سبه إياي ، فقال : { إن الله ثالث ثلاثة } [ المائدة : 73 ] ، وقلت : { [ قل ] هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } [ سورة الإخلاص 1 - 4 ] ، هكذا ذكره أبو هريرة موقوفاً وهو في الصحيحين مرفوعاً بلفظ آخر . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { لِيُبَيّنَ لَهُمُ الذى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } يقول : للناس عامة .

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)

قد تقدّم تحقيق معنى الهجرة في سورة النساء ، وهي ترك الأهل والأوطان ، ومعنى { هاجروا فِى الله } في شأن الله سبحانه وفي رضاه . وقيل : { فِى الله } في دين الله . وقيل : في بمعنى اللام أي : لله { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } أي : عذبوا وأهينوا ، فإن أهل مكة عذبوا جماعة من المسلمين حتى قالوا ما أرادوا منهم ، فلما تركوهم هاجروا .
وقد اختلف في سبب نزول الآية ، فقيل : نزلت في صهيب وبلال وخباب وعمار . واعترض بأن السورة مكية ، وذلك يخالف قوله : { والذين هاجروا } . وأجيب بأنه يمكن أن تكون هذه الآية من جملة الآيات المدنية في هذه السورة كما قدّمنا في عنوانها ، وقيل : نزلت في أبي جندل بن سهيل ، وقيل : نزلت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة .
{ لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة } اختلف في معنى هذا على أقوال . فقيل : المراد : نزولهم المدينة ، قاله ابن عباس ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة . وقيل : المراد : الرزق الحسن ، قاله مجاهد . وقيل : النصر على عدّوهم قاله الضحاك . وقيل : ما استولوا عليه من فتوح البلاد ، وصار لهم فيها من الولايات . وقيل : ما بقي لهم فيها من الثناء ، وصار لأولادهم من الشرف . ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه الأمور . ومعنى { لَنُبَوّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَة } لنبوئنهم مباءة حسنة ، أو تبوئة حسنة ، فحسنة صفة مصدر محذوف { وَلأَجْرُ الآخرة } أي : جزاء أعمالهم في الآخرة { أَكْبَرَ } من أن يعلمه أحد من خلق الله قبل أن يشاهده ، ومنه قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } [ الإنسان : 20 ] . { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي : لو كان هؤلاء الظلمة يعلمون ذلك . وقيل : إن الضمير في { يعلمون } راجع إلى المؤمنين ، أي : لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا .
{ الذين صَبَرُواْ } الموصول في محل نصب على المدح ، أو الرفع على تقدير مبتدأ ، أو هو بدل من الموصول الأوّل ، أو من الضمير في { لنبؤئنهم } ، { وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : على ربهم خاصة يتوكلون في جميع أمورهم معرضين عما سواه ، والجملة معطوفة على الصلة أو في محل نصب على الحال .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } . قرأ حفص عن عاصم { نوحي } بالنون ، وقرأ الباقون « يوحي » بالياء التحتية ، وهذه الآية ردّ على قريش حيث زعموا أن الله سبحانه أجلّ من أن يرسل رسولاً من البشر ، فردّ الله عليهم بأن هذه عادته وسنّته أن لا يرسل إلاّ رجالاً من البشر يوحي إليهم . وزعم أبو عليّ الجبائي أن معنى الآية أن الله سبحانه لم يرسل إلى الأنبياء بوحيه إلاّ من هو على صورة الرجال من الملائكة .

ويردّ عليه بأن جبريل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على صور مختلفة . ولما كان كفار مكة مقرّين بأن اليهود والنصارى هم أهل لعلم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ، صرف الخطاب إليهم ، وأمرهم أن يرجعوا إلى أهل الكتاب ، فقال : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } أي : فاسألوا أيها المشركون مؤمن أهل الكتاب إن كنتم لا تعلمون ، فإنهم سيخبرونكم أن جميع الأنبياء كانوا بشراً ، أو اسألوا أهل الكتاب من غير تقييد بمؤمنيهم كما يفيده الظاهر ، فإنهم كانوا يعترفون بذلك ولا يكتمونه . وقيل : المعنى : فاسألوا أهل القرآن .
و { بالبينات والزبر } يتعلق ب { أرسلنا } ، فيكون داخلاً في حكم الاستثناء مع { رجالاً } ، وأنكر الفراء ذلك ، وقال : إن صفة ما قبل « إلاّ » لا تتأخر إلا ما بعدها ، لأن المستثنى عنه هو مجموع ما قبل : « إلاّ » مع صلته ، كما لو قيل [ ما ] أرسلنا إلاّ رجالاً بالبينات ، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه ، امتنع إدخال الاستثناء عليه . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلاّ رجالاً . وقيل : يتعلق بمحذوف دلّ عليه المذكور ، أي : أرسلناهم بالبينات والزبر ، ويكون جواباً عن سؤال مقدّر كأنه قيل : لماذا أرسلهم؟ فقال : أرسلناهم بالبينات والزبر . وقيل : متعلق ب { تعلمون } على أنه مفعوله . والباء زائدة ، أي : إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر؛ وقيل : متعلق ب { رجالاً } أي : رجالاً متلبسين بالبينات والزبر . وقيل : ب { نوحى } أي : نوحي إليهم بالبينات والزبر . وقيل : منصوب بتقدير أعني ، والباء زائدة ، وأهل الذكر هم أهل الكتاب كما تقدّم . وقال الزجاج : اسألوا كل من يذكر بعلم ، والبينات : الحجج والبراهين ، والزبر : الكتب . وقد تقدّم الكلام على هذا في « آل عمران » { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } أي القرآن . ثم بين الغاية المطلوبة من الإنزال ، فقال : { لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ } جميعاً { مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } في هذا الذكر من الأحكام الشرعية ، والوعد والوعيد { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : إرادة أن يتأملوا ويعملوا أفكارهم فيتعظوا .
{ أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } يحتمل أن تكون { السيئات } صفة مصدر محذوف أي : مكروا المكرات السيئات ، وأن تكون مفعولة للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل ، أي : عملوا السيئات ، أو صفة لمفعول مقدّر ، أي : أفأمن الماكرون العقوبات السيئات . أو على حذف حرف الجرّ ، أي : مكروا بالسيئات { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض } هو مفعول « أمن » ، أو بدل من مفعوله على القول بأن مفعوله محذوف ، وأن السيئات صفة للمحذوف ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ . ومكر السيئات وسعيهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على وجه الخفية ، واحتيالهم في إبطال الإسلام ، وكيد أهله { أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ } كما خسف بقارون .

يقال : خسف المكان يخسف خسوفاً ، ذهب في الأرض ، وخسف الله به الأرض خسوفاً أي : غاب به فيها ، ومنه قوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] وخسف هو في الأرض ، وخسف به { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } به في حال غفلتهم عنه كما فعل بقوم لوط وغيرهم . وقيل : يريد يوم بدر ، فإنهم أهلكوا ذلك اليوم ، ولم يكن في حسبانهم .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ } .
ذكر المفسرون فيه وجوهاً ، فقيل : المراد : في أسفارهم ومتاجرهم ، فإنه سبحانه قادر على أن يهلكهم في السفر كما يهلكهم في الحضر ، وهم لا يفوتونه بسبب ضربهم في الأرض ، وبعدهم عن الأوطان . وقيل : المراد : في حال تقلبهم في قضاء أوطارهم بوجود الحيل . فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم . وقيل : في حال تقلبهم في الليل على فرشهم . وقيل : في حال إقبالهم وإدبارهم ، وذهابهم ومجيئهم بالليل والنهار . والقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد } [ آل عمران : 196 ] . وبالمعنى الثاني مأخوذ من قوله : { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } [ التوبة : 48 ] . { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } أي : بفائتين ولا ممتنعين .
{ أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } أي : حال تخوّف وتوقع للبلايا بأن يكونوا متوقعين للعذاب ، حذرين منه غير غافلين عنه ، فهو خلاف ما تقدم من قوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } ، وقيل : معنى { على تَخَوُّفٍ } على تنقص . قال ابن الأعرابي : أي على تنقص من الأموال والأنفس والثمرات حتى أهلكهم . قال الواحدي : قال عامة المفسرين : { على تخوّف } قال : تنقص ، إما بقتل أو بموت ، يعني : بنقص من أطرافهم ونواحيهم يأخذهم الأول فالأوّل حتى يأتي الأخذ على جميعهم . قال : والتخوّف : التنقص ، يقال : هو يتخوف المال ، أي : يتنقصه ، ويأخذ من أطرافه ، انتهى . يقال : تخوّفه الدهر وتخونه بالفاء والنون : تنقصه ، قال ذو الرّمة :
لا بل هو الشوق من دار تخوّفها ... مرا سحاب ومرا بارح ترب
وقال لبيد :
تخوّفها نزولي وارتحالي ... أي : تنقص لحمها وشحمها
قال الهيثم بن عديّ : التخوّف بالفاء : التنقص . لغة لأزد شنودة . وأنشد :
تخوف عدوهم مالي وأهدي ... سلاسل في الحلوق لها صليل
وقيل : { على تخوّف } على عجل ، قاله الليث بن سعد ، وقيل : على تقريع بما قدّموه من ذنوبهم ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقيل : { على تخوّف } أن يعاقب ويتجاوز ، قاله قتادة : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } لا يعاجل ، بل يمهل رأفة بكم ورحمة لكم مع استحقاقهم للعقوبة .
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } لما خوّف سبحانه الماكرين بما خوّف ، أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي ومكانهما ، والاستفهام في { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } للإنكار ، و « ما » مبهمة مفسرة بقوله : { من شيء } ، قرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش « تروا » بالمثناة الفوقية ، على أنه خطاب لجميع الناس ، وقرأ الباقون بالتحتية بإرجاع الضمير إلى { الذين مكروا السيئات } ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب ( تتفيؤا ظلاله ) بالمثناة الفوقية .

وقرأ الباقون بالتحتية ، واختارها أبو عبيد ، أي يميل من جانب إلى جانب ، ويكون أوّل النهار على حال ويتقلص ، ثم يعود في آخر النهار على حالة أخرى . قال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار ، فالتفيؤ لا يكون إلاّ بالعشيّ ، وما انصرف عنه الشمس والقمر ، والذي يكون بالغداة هو الظلّ . وقال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء ، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظلّ . ومعنى { مِن شَىْء } من شيء له ظلّ ، وهي الأجسام ، فهو عام أريد به الخاص . و { ظلاله } جمع ظلّ ، وهو مضاف إلى مفرد لأنه واحد يراد به الكثرة .
{ عَنِ اليمين والشمآئل } أي : عن جهة أيمانها وشمائلها ، أي : عن جانبي كل واحد منها . قال الفراء : وحد اليمين؛ لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائل؛ لأنه أراد كلها ، لأن ما خلق الله لفظه مفرد ومعناه جمع . وقال الواحدي : وحد اليمين والمراد به الجميع إيجازاً في اللفظ كقوله : { وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] ، ودلت الشمائل على أن المراد به الجمع . وقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع ، عبرت عن أحدهما بلفظ الواحد كقوله : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] ، و { خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] ، وقيل : المراد باليمين : النقطة التي هي مشرق الشمس ، وأنها واحدة . والشمائل : عبارة عن الانحراف في فلك الإظلال بعد وقوعها على الأرض ، وهي كثيرة . وإنما عبر عن المشرق باليمين؛ لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ، ومنه تظهر الحركة القوية .
{ سُجَّدًا لِلَّهِ } منتصب على الحال ، أي : حال كون الظلال سجداً لله . قال الزجاج : يعني : أن هذه الأشياء مجبولة على الطاعة ، وقال أيضاً : سجود الجسم : انقياده وما يرى من أثر الصنعة { وَهُمْ داخرون } في محل نصب على الحال ، أي : خاضعون صاغرون ، والدخور : الصغار والذلّ ، يقال : دخر الرجل ، فهو داخر ، وأدخره الله . قال الشاعر :
فلم يبق إلا داخر في مخيس ... ومنجحر في غير أرضك في حجر
ومخيس : اسم سجن كان بالعراق { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الأرض مَن دَابَّةٍ } أي : له وحده يخضع وينقاد ، لا لغيره ما في السموات جميعاً ، { وما في الأرض من دابة } تدبّ على الأرض . والمراد به كل دابة . قال الأخفش : هو كقولك ما أتاني من رجل مثله ، وما أتاني من الرجال مثله . وقد دخل في عموم ما في السموات وما في الأرض جميع الأشياء الموجودة فيهما ، وإنما خصّ الدابة بالذكر ، لأنه قد علم من قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء } انقياد الجمادات ، وعطف الملائكة على ما قبلهم ، تشريفاً لهم ، وتعظيماً لدخولهم في المعطوف عليه { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي : والحال أنهم لا يستكبرون عن عبادة ربهم ، والمراد : الملائكة .

ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة . وفي هذا رد على قريش حيث زعموا أن الملائكة بنات الله . ويجوز أن تكون حالاً من فاعل { يسجد } ، و « ما » عطف عليه ، أي : يسجد لله ما في السموات وما في الأرض ، والملائكة ، وهم جميعاً لا يستكبرون عن السجود .
{ يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ } هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : حال كونهم يخافون ربهم من فوقهم . أو جملة مستأنفة لبيان نفي استكبارهم ، ومن آثار الخوف عدم الاستكبار ، و { من فوقهم } متعلق ب { يخافون } على حذف مضاف ، أي : يخافون عذاب ربهم من فوقهم ، أو يكون حالاً من الربّ ، أي : يخافون ربهم حال كونه من فوقهم . وقيل : معنى { يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ } يخافون الملائكة ، فيكون على حذف المضاف ، أي يخافون ملائكة ربهم كائنين من فوقهم . وهو تكلف لا حاجة إليه ، وإنما اقتضى مثل هذه التأويلات البعيدة المحاماة على مذاهب قد رسخت في الأذهان ، وتقرّرت في القلوب . قيل : وهذه المخافة هي مخافة الإجلال ، واختاره الزجاج فقال : { يخافون رَبَّهُمْ } خوف مجلين . ويدلّ على صحة هذا المعنى قوله : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] . وقوله إخباراً عن فرعون { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون } [ الأعراف : 127 ] . { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي : ما يؤمرون به من طاعة الله يعني : الملائكة ، أو جميع من تقدّم ذكره ، وحمل هذه الجمل على الملائكة أولى؛ لأن في مخلوقات الله من يستكبر عن عبادته ، ولا يخافه ولا يفعل ما يؤمر به ، كالكفار والعصاة الذين لا يتصفون بهذه الصفات وإبليس وجنوده .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { والذين هاجروا فِى الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال : هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن عساكر عن داود بن أبي هند قال : نزلت هذه الآية في أبي جندل بن سهيل . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والذين هاجروا فِى الله } الآية قال : هؤلاء أصحاب محمد ، ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك ، فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين { وَلأَجْرُ الأخرة أَكْبَرُ } قال : أي والله لما يصيبهم الله من جنته ونعمته أكبر { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن الشعبي في قوله : { فِى الدنيا حَسَنَةً } قال : المدينة . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : لنرزقنهم في الدنيا رزقاً حسناً .

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : «لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك ، فأنزل الله { مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ } » . وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه في قوله : { فاسألوا أَهْلَ الذكر } الآية ، يعني : مشركي قريش ، أن محمداً رسول الله في التوراة والإنجيل . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : نزلت في عبد الله بن سلام ونفر من أهل التوراة .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { بالبينات } قال : الآيات . { والزبر } قال : الكتب . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } قال : نمروذ بن كنعان وقومه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : أي الشرك . وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك ، قال : تكذيبهم الرسل ، وإعمالهم بالمعاصي .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ } قال : في اختلافهم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه { فِى تَقَلُّبِهِمْ } قال : إن شئت أخذته في سفره { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } يقول : على أثر موت صاحبه . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً { على تَخَوُّفٍ } قال : تنقص من أعمالهم . وأخرج ابن جرير عن عمر أنه سألهم عن هذه الآية { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } فقالوا : ما نرى إلاّ أنه عند تنقص ما يردّده من الآيات . فقال : عمر ما أرى إلا أنه على ما ينقصون من معاصي الله ، فخرج رجل ممن كان عند عمر فلقي أعرابياً ، فقال يا فلان : ما فعل ربك؟ قال : قد تخيفته ، يعني انتقصته ، فرجع إلى عمر فأخبره ، فقال : قد رأيته ذلك . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } قال : يأخذهم بنقص بعضهم بعضاً .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { يتفيؤ } قال : يتميل . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : { وَهُمْ داخرون } قال : صاغرون . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد مثله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ } الآية قال : لم يدع شيئاً من خلقه إلاّ عبده له طائعاً أو كارهاً . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية ، قال : يسجد من في السموات طوعاً ، ومن في الأرض طوعاً وكرهاً .

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)

لما بين سبحانه أن مخلوقاته السماوية والأرضية منقادة له ، خاضعة لجلاله ، أتبع ذلك بالنهي عن الشرك بقوله : { وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } فنهى سبحانه عن اتخاذ إلهين ، ثم أثبت أن الإلهية منحصرة في إله واحد وهو الله سبحانه . وقد قيل : إن التثنية في إلهين قد دلت على الاثنينية ، والإفراد في إله قد دلّ على الوحدة ، فما وجه وصف إلهين باثنين ، ووصف إله واحد؟ فقيل في الجواب : إن في الكلام تقديماً وتأخيراً ، والتقدير : لا تتخذوا اثنين إلهين إنما هو واحد إله ، وقيل : إن التكرير لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك . وقيل : إن فائدة زيادة اثنين هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدّد لا إلى الجنسية ، وفائدة زيادة واحد دفع توهم أن المراد إثبات الإلهية دون الواحدية ، مع أن الإلهية له سبحانه مسلمة في نفسها ، وإنما خلاف المشركين في الواحدية . ثم نقل الكلام سبحانه من الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات لزيادة الترهيب ، فقال : { فإياي فارهبون } أي : إن كنتم راهبين شيئاً ، فإياي فارهبون لا غيري . وقد مرّ مثل هذا في أول البقرة .
ثم لما قرّر سبحانه وحدانيته ، وأنه الذي يجب أن يخصّ بالرهبة منه والرغبة إليه ، ذكر أن الكلّ في ملكه وتحت تصرّفه فقال : { وَلَهُ مَا فِى السموات والأرض } وهذه الجملة مقررة لمن تقدّم في قوله : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى * السموات وَمَا فِي الارض } إلى آخره ، وتقديم الخبر لإفادة الاختصاص { وَلَهُ الدين وَاصِبًا } أي : ثابتاً واجباً دائماً لا يزول ، والدين هو الطاعة والإخلاص . قال الفراء { وَاصِبًا } معناه دائماً ، ومنه قول الدؤلي :
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... بذمّ يكون الدهر أجمع واصبا
أي : دائماً . وروي عن الفراء أيضاً أنه قال : الواصب : الخالص ، والأوّل أولى ، ومنه قوله سبحانه : { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } [ الصافات : 9 ] أي دائم . وقال الزجاج : أي طاعته واجبة أبداً . ففسر الواصب بالواجب . وقال ابن قتيبة في تفسير الواصب : أي ليس أحد يطاع إلاّ انقطع ذلك بزوال أو بهلكة غير الله تعالى ، فإن الطاعة تدوم له . ففسر الواصب بالدائم . وإذا دام الشيء دواماً لا ينقطع فقد وجب وثبت .
يقال : وصب الشيء يصب وصوباً ، فهو واصب : إذا دام ، ووصب الرجل على الأمر : إذا واظب عليه . وقيل : الوصب التعب والإعياء ، أي : يجب طاعة الله سبحانه وإن تعب العبد فيها وهو غير مناسب لما في الآية ، والاستفهام في قوله : { أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ } للتقريع والتوبيخ ، وهو معطوف على مقدّر ، كما في نظائره . والمعنى : إذا كان الدين : أي الطاعة واجباً له دائماً لا ينقطع كان المناسب لذلك تخصيص التقوى به وعدم إيقاعها لغيره .

ثم امتنّ سبحانه عليهم بأن جميع ما هم متقلبون فيه من النعم هو منه لا من غيره ، فقال : { وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ } أي : ما يلابسكم من النعم على اختلاف أنواعها فمن الله ، أي : فهي منه ، فتكون ما شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة متضمنة معنى الشرط ، و { بكم } صلتها ، و { من نعمة } حال من الضمير في الجار والمجرور ، أو بيان ل « ما » . وقوله : { فَمِنَ الله } الخبر ، وعلى كون « ما » شرطية يكون فعل الشرط محذوفاً ، أي : ما يكن ، والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ، ومعرفة الخير لأجل العمل به . وإما دنيوية نفسانية ، أو بدنية ، أو خارجية ، كالسعادات المالية وغيرها ، وكل واحدة من هذه جنس تحته أنواع لا حصر لها ، والكل من الله سبحانه ، فعلى العاقل أن لا يشكر إلاّ إياه ، ثم بين تلوّن الإنسان بعد استغراقه في بحر النعم فقال : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ } أي : إذا مسكم الضرّ أيّ مس ، فإلى الله سبحانه لا إلى غيره تتضرّعون في كشفه ، فلا كاشف له إلاّ هو . يقال : جأر يجأر في لسان العرب جؤاراً : إذا رفع صوته في تضرع . قال الأعشى يصف بقرة :
فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة ... وكان النكير أن تطيف وتجأرا
والضرّ : المرض والبلاء والحاجة والقحط وكل ما يتضرر به الإنسان .
{ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْكُم بِرَبّهِمْ يُشْرِكُونَ } أي : إذا رفع عنكم ما نزل بكم من الضرّ { إذا فريق } أي : جماعة منكم بربهم الذي رفع الضر عنهم يشركون ، فيجعلون معه إلهاً آخر من صنم أو نحوه ، والآية مسوقة للتعجيب من فعل هؤلاء ، حيث يضعون الإشراك بالله الذي أنعم عليهم بكشف ما نزل بهم من الضرّ مكان الشكر له ، وهذا المعنى قد تقدّم في الأنعام ويونس ، ويأتي في سبحان . قال الزجاج : هذا خاص بمكر من كفر ، وقابل كشف الضرّ عنه بالجحود والكفر ، وعلى هذا فتكون « من » في { منكم } للتبعيض ، حيث كان الخطاب للناس جميعاً . والفريق هم الكفرة وإن كان الخطاب موجهاً إلى الكفار ، ف « من » للبيان ، واللام في { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتيناهم } لام كي ، أي : لكي يكفروا بما آتيناهم من نعمة كشف الضرّ ، حتى كأن هذا الكفر منهم الواقع في موضع الشكر الواجب عليهم غرض لهم ومقصد من مقاصدهم . وهذا غاية في العتوّ والعناد ليس وراءها غاية . وقيل : اللام للعاقبة ، يعني : ما كانت عاقبة تلك التضرعات إلاّ هذا الكفر . ثم قال سبحانه على سبيل التهديد والترهيب ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب { فَتَمَتَّعُواْ } بما أنتم فيه من ذلك { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } عاقبة أمركم ، وما يحل بكم في هذه الدار ، وما تصيرون إليه في الدار الآخرة .

ثم حكى سبحانه نوعاً آخر من قبائح أعمالهم فقال : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مّمّا رزقناهم } أي : يقع منهم هذا الجعل بعد ما وقع منهم الجؤار إلى الله سبحانه في كشف الضر عنهم ، وما يعقب كشفه عنهم من الكفر منهم بالله والإشراك به ، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات والشياطين نصيباً مما رزقناهم من أموالهم يتقربون به إليه . وقيل : المعنى أنهم ، أي الكفار يجعلون للأصنام ، وهم لا يعلمون شيئاً لكونهم جمادات ، ففاعل { يعلمون } على هذا هي الأصنام وأجراها مجرى العقلاء في جمعها بالواو والنون ، جرياً على اعتقاد الكفار فيها ، وحاصل المعنى : ويجعل هؤلاء الكفار للأصنام . التي لا تعقل شيئاً نصيباً من أموالهم التي رزقهم الله إياها { تالله لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب . وهذا السؤال سؤال تقريع وتوبيخ { عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } تختلقونه من الكذب على الله سبحانه في الدنيا .
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } هذا نوع آخر من فضائحهم وقبائحهم ، وقد كانت خزاعة وكنانة تقول : الملائكة بنات الله { سبحانه } نزّه سبحانه نفسه عما نسبه إليه هؤلاء الجفاة الذين لا عقول لهم صحيحة ولا أفهام مستقيمة . { إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ } [ الفرقان : 44 ] وفي هذا التنزيه تعجيب من حالهم { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } أي : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهوونه من البنين على أن «ما» في محل نصب بالفعل المقدّر ، ويجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء . وأنكر النصب الزجاج . قال : لأن العرب لا يقولون : جعل له كذا ، وهو يعني نفسه ، وإنما يقولون : جعل لنفسه كذا ، فلو كان منصوباً ، لقال : ولأنفسهم ما يشتهون . وقد أجاز النصب الفراء .
ثم ذكر سبحانه كراهتهم للإناث التي جعلوها لله سبحانه فقال : { وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى } أي : إذا أخبر أحدهم بولادة بنت له { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } أي : متغيراً ، وليس المراد السواد الذي هو ضدّ البياض ، بل المراد الكناية بالسواد عن الانكسار والتغير بما يحصل من الغمّ ، والعرب تقول لكل من لقي مكروهاً : قد اسود وجهه غماً وحزناً . قاله الزجاج . وقال المارودي : بل المراد سواد اللون حقيقة ، قال : وهو قول الجمهور ، والأوّل أولى ، فإن المعلوم بالوجدان أن من غضب وحزن واغتمّ لا يحصل في لونه إلاّ مجرد التغير وظهور الكآبة والانكسار لا السواد الحقيقي . وجملة { وَهُوَ كَظِيمٌ } في محل نصب على الحال ، أي : ممتلىء من الغمّ غيظاً وحنقاً . قال الأخفش : هو الذي يكظم غيظه ولا يظهره . وقيل : إنه المغموم الذي يطبق فاه من الغمّ . مأخوذ من الكظامة ، وهو سدّ فم البئر قاله عليّ بن عيسى ، وقد تقدّم في سورة يوسف .
{ يتوارى مِنَ القوم } أي : يتغيب ويختفي { مِن سُوء مَا بُشّرَ بِهِ } أي : من سوء الحزن والعار والحياء الذي يلحقه بسبب حدوث البنت له { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ } أي : لا يزال متردّداً بين الأمرين ، وهو إمساك البنت التي بشر بها ، أو دفنها في التراب { على هُونٍ } أي : هوان .

وكذا قرأ عيسى الثقفي . قال اليزيدي : والهون : الهوان بلغة قريش . وكذا حكاه أبو عبيد عن الكسائي ، وحكي عن الكسائي أنه البلاء والمشقة ، قالت الخنساء :
نهين النفوس وهون النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
وقال الفراء : الهون : القليل بلغة تميم . وحكى النحاس عن الأعمش أنه قرأ « أيمسكه على سوء » { أم يدسه في التراب } أي : يخفيه في التراب بالوأد كما كانت تفعله العرب ، فلا يزال الذي بشر بحدوث الأنثى متردّداً بين هذين الأمرين . والتذكير في { يمسكه } و { يدسه } مع كونه عبارة عن الأنثى لرعاية اللفظ . وقرأ الجحدري « أم يدسها في التراب » ويلزمه أن يقرأ « أيمسكها » ، وقيل : دسها : إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس لإخفائه عن الأبصار { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } حيث أضافوا البنات التي يكرهونها إلى الله سبحانه وأضافوا البنين المحبوبين عندهم إلى أنفسهم . ومثل هذا قوله تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21 22 ] .
{ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء } أي : لهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بهذه القبائح الفظيعة { مثل السوء } أي : صفة السوء من الجهل والكفر بالله . وقيل : هو وصفهم لله سبحانه بالصاحبة والولد . وقيل : هو حاجتهم إلى الولد ليقوم مقامهم . ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق . وقيل : العذاب والنار { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } وهو أضداد صفة المخلوقين من الغنى الكامل ، والجود الشامل ، والعلم الواسع ، أو التوحيد وإخلاص العبادة ، أو أنه خالق رازق قادر مجاز؛ وقيل : شهادة أن لا إله إلاّ الله وقيل { الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ } [ النور : 35 ] . { وَهُوَ العزيز } الذي لا يغالب ، فلا يضرّه نسبتهم إليه ما لا يليق به { الحكيم } في أفعاله وأقواله .
ثم لما حكى سبحانه عن القوم عظيم كفرهم ، بيّن سعة كرمه وحلمه حيث لم يعاجلهم بالعقوبة ، ولم يؤاخذهم بظلمهم ، فقال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ } والمراد بالناس هنا : الكفار ، أو جميع العصاة { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } أي : على الأرض ، وإن لم يذكر فقد دلّ عليها ذكر الناس وذكر الدابة . فإن الجميع مستقرّون على الأرض ، والمراد بالدابة الكافر ، وقيل : كل ما دبّ . وقد قيل على هذا : كيف يعمّ بالهلاك مع أن فيهم من لا ذنب له؟ وأجيب بإهلاك الظالم انتقاماً منه ، وإهلاك غيره إن كان من أهل التكليف فلأجل توفير أجره ، وإن كان من غيرهم ، فبشؤم ظلم الظالمين ، ولله الحكمة البالغة { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، ومثل هذا قوله :

{ واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } [ الأنفال : 25 ] . وفي معنى هذا أحاديث منها ما عند مسلم وغيره من حديث ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا أراد الله بقوم عذاباً ، أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على نياتهم » وكذلك حديث الجيش الذين يخسف بهم في البيداء ، وفي آخره : أنهم يبعثون على نياتهم وقد قدّمنا عند تفسير قوله سبحانه : { واتقوا فِتْنَةً } [ الأنفال : 25 ] الآية تحقيقاً حقيقاً بالمراجعة له { ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى } معلوم عنده ، وهو منتهى حياتهم وانقضاء أعمارهم ، أو أجل عذابهم . وفي هذا التأخير حكمة بالغة منها الإعذار إليهم وإرخاء العنان معهم ، ومنها حصول من سبق في علمه من أولادهم { فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ } الذي سماه لهم ، حقت عليهم كلمة الله سبحانه في ذلك الوقت من دون تقدّم عليه ولا تأخر عنه ، والساعة المدة القليلة ، وقد تقدّم تفسيرها هذا وتحقيقه .
ثم ذكر نوعاً آخر من جهلهم وحمقهم فقال : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } أي : ينسبون إليه سبحانه ما يكرهون نسبته إلى أنفسهم من البنات ، وهو تكرير لما قد تقدّم لقصد التأكيد والتقرير ، ولزيادة التوبيخ والتقريع { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } هذا من النوع الآخر الذي ذكره سبحانه من قبائحهم ، وهو ، أي : هذا الذي تصفه ألسنتهم من الكذب ، هو قولهم : { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } أي : الخصلة الحسنى ، أو العاقبة الحسنى . قال الزجاج : يصفون أن لهم مع قبح قولهم من الله الجزاء الحسن . قال الزجاج أيضاً والفراء : أبدل من قوله { وتصف ألسنتهم الكذب } قوله { أن لهم الحسنى } ، و { الكذب } منصوب على أنه مفعول { تصف } . وقرأ ابن عباس ، وأبو العالية ، ومجاهد ، وابن محيصن « الكذب » برفع الكاف والذال والباء على أنه صفة للألسن . وهو جمع كذب ، فيكون المفعول على هذا هو { أن لهم الحسنى } .
ثم ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار } أي : حقاً أن لهم مكان ما جعلوه لأنفسهم من الحسنى النار ، وقد تقدّم تحقيق هذا { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قال ابن الأعرابي وأبو عبيدة : أي متروكون منسيون في النار . وبه قال الكسائي والفراء ، فيكون مشتقاً من أفرطت فلاناً خلفي : إذا خلفته ونسيته . وقال قتادة والحسن : معجلون إليها ، مقدّمون في دخولها ، من أفرطته ، أي : قدّمته في طلب الماء ، والفارط : هو الذي يتقدّم إلى الماء . والفراط : المتقدّمون في طلب الماء ، والورّاد : المتأخرون ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « أنا فرطكم على الحوض » ، أي : متقدّمكم ، قال القطامي :
فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فرّاط لورّاد
وقرأ نافع في رواية ورش « مفرطون » بكسر الراء وتخفيفها . وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس . ومعناه : مسرفون في الذنوب والمعاصي . يقال : أفرط فلان على فلان : إذا أربى عليه ، وقال له أكثر مما قال من الشرّ .

وقرأ أبو جعفر القاري « مفرطون » بكسر الراء وتشديدها ، أي : مضيعون أمر الله ، فهو من التفريط في الواجب . وقرأ الباقون « مفرطون » بفتح الراء مخففاً . ومعناه : مقدمون إلى النار .
وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَلَهُ الدين وَاصِبًا } قال : { الدين } الإخلاص ، و { واصباً } دائماً . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح { وَلَهُ الدين وَاصِبًا } قال : لا إله إلاّ الله . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وَاصِبًا } قال : دائماً . وأخرج الفريابي ، وابن جرير عنه : قال واجباً .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد { تَجْئَرُونَ } قال : تتضرعون دعاء . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : تصيحون بالدعاء . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } قال : وعيد . وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } الآية ، قال : يعلمون أن الله خلقهم ويضرّهم وينفعهم ، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم { نَصِيبًا مّمّا رزقناهم } . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية ، قال : هم مشركو العرب ، جعلوا لأوثانهم وشياطينهم مما رزقهم الله ، وجزءوا من أموالهم جزءاً فجعلوه لأوثانهم وشياطينهم . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في الآية ، قال : هو قولهم { هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } [ الأنعام : 136 ] .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } الآية ، يقول : يجعلون لي البنات يرتضونهنّ لي ، ولا يرتضونهنّ لأنفسهم . وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هوان أو دسها في التراب وهي حية . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } قال : يعني به : البنين . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج { أَمْ يَدُسُّهُ فِى التراب } قال : يئد ابنته . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { أَلاَ سَآء مَا يَحْكُمُونَ } قال : بئس ما حكموا ، يقول : شيء لا يرضونه لأنفسهم ، فكيف يرضونه لي .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس { وَلِلَّهِ المثل الاعلى } قال : يقول ليس كمثله شيء . وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } قال : ما سقاهم المطر . وأخرج أيضاً عن السدّي نحوه .
وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في الآية ، قال : قد فعل ذلك في زمن نوح ، أهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلاّ ما حمل في سفينته .

وأخرج أحمد في الزهد عن ابن مسعود قال : ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ، ثم قال : أي والله زمن غرق قوم نوح . وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه قال : كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم . ثم قرأ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا عن أنس نحوه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة ، أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضرّ إلاّ نفسه . قال أبو هريرة : بلى ، والله إن الحبارى لتموت هزالاً في وكرها من ظلم الظالم .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } قال : يجعلون لي البنات ، ويكرهون ذلك لأنفسهم . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى } قال : قول كفار قريش : لنا البنون ، وله البنات . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة نحوه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قال : منسبون . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه . وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة قال : معجلون . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه .

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

بيّن سبحانه أن مثل صنيع قريش قد وقع من سائر الأمم ، فقال : مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم { تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ } أي : رسلاً { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطن أَعْمَالَهُمْ } الخبيثة { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } يحتمل أن يكون ليوم عبارة عن زمان الدنيا ، فيكون المعنى : فهو قرينهم في الدنيا ، ويحتمل أن يكون اليوم عبارة عن يوم القيامة وما بعده ، فيكون للحال الآتية ، ويكون الوليّ بمعنى الناصر . والمراد : نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه ، لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلاً في الدار الآخرة ، وإذا كان الناصر منحصراً فيه ، لزم أن لا نصرة من غيره . ويحتمل أن يراد باليوم بعض زمان الدنيا ، وهو على وجهين : الأوّل : أن يراد البعض الذي قد مضى ، وهو الذي وقع فيه التزيين من الشيطان للأمم الماضية ، فيكون على طريق الحكاية للحال الماضية . الثاني : أن يراد البعض الحاضر ، وهو وقت نزول الآية . والمراد : تزيين الشيطان لكفار قريش ، فيكون الضمير في { وليهم } لكفار قريش : أي فهو وليّ هؤلاء اليوم . أو على حذف مضاف ، أي : فهو وليّ أمثال أولئك الأمم اليوم { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة ، وهو عذاب النار .
ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلاّ بعد إقامة الحجة عليهم وإزاحة العلة منهم ، فقال : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيّنَ لَهُمُ الذى اختلفوا فِيهِ } وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمراد بالكتاب : القرآن ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال أي : ما أنزلناه عليك لحال من الأحوال ، ولا لعلة من العلل إلاّ لعلة التبيين لهم ، أي : للناس الذي اختلفوا فيه من التوحيد ، وأحوال البعث ، وسائر الأحكام الشرعية ، وانتصاب { هُدًى وَرَحْمَةً } على أنهما مفعول لهما معطوفان على محل لتبين . ولا حاجة إلى اللام ، لأنهما فعلاً فاعل الفعل المعلل ، بخلاف التبيين ، فإنه فعل المخاطب ، لا فعل المنزل { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالله سبحانه ، ويصدّقون ما جاءت به الرسل ونزلت به الكتب .
ثم عاد سبحانه إلى تقرير وجوده وتفرّده بالإلهية بذكر آياته العظام فقال : { والله أَنزَلَ مِنَ السماء مَآء } أي : من السحاب ، أو من جهة العلو كما مرّ ، أي : نوعاً من أنواع الماء { فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : أحياها بالنبات بعد أن كانت يابسة لا حياة بها { إِنَّ فِى ذَلِكَ } الإنزال والإحياء { لآيَةً } أي : علامة دالة على وحدانيته ، وعلى بعثه للخلق ومجازاتهم { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } كلام الله ويفهمون ما يتضمنه من العبر ، ويتفكرون في خلق السموات والأرض .
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الأنعام لَعِبْرَةً } الأنعام هي : الإبل والبقر والغنم ويدخل في الغنم المعز .

والعبرة أصلها : تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة . ومنه { فاعتبروا ياأولى الأبصار } [ الحشر : 2 ] . وقال أبو بكر الوارق : العبرة في الأنعام : تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم ، والظاهر أن العبرة هي قوله : { نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ } فتكون الجملة مستأنفة لبيان العبرة . قرأ أهل المدينة ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر « نسقيكم » بفتح النون ، من سقى يسقي . وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بضم النون من أسقى يسقي ، قيل : هما لغتان . قال لبيد :
سقى قومي بني مجد وأسقى ... نميراً والقبائل من هلال
وقرىء بالتاء الفوقية ، على أن الضمير راجع إلى الأنعام . وقرىء بالتحتية على إرجاع الضمير إلى الله سبحانه ، وهما ضعيفتان . وجميع القراء على القراءتين الأوليين ، والفتح لغة قريش ، والضم لغة حمير . وقيل : إن بين سقى وأسقى فرقاً ، فإذا كان الشراب من يد الساقي إلى فم المسقى فيقال : سقيته ، وإن كان بمجرّد عرضه عليه وتهيئته له ، قيل : أسقاه . والضمير في قوله : { مّمَّا فِى بُطُونِهِ } راجع إلى الأنعام . قال سيبويه : العرب تخبر عن الأنعام بخبر الواحد . وقال الزجاج : لما كان لفظ الجمع يذكر ويؤنث ، فيقال : هو الأنعام ، وهي الأنعام جاز عود الضمير بالتذكير . وقال الكسائي : معناه : مما في بطون ما ذكرنا ، فهو على هذا عائد إلى المذكور . قال الفراء : وهو صواب . وقال المبرد : هذا فاش في القرآن كثير ، مثل قوله للشمس { هذا رَبّى } [ الأنعام : 78 ] يعني : هذا الشيء الطالع . وكذلك : { وَإِنّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } [ النمل : 35 ] ، ثم قال : { فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ } [ النمل : 36 ] ، ولم يقل : جاءت؛ لأن المعنى جاء الشيء الذي ذكرنا . انتهى ، ومن ذلك قوله : { كَلاَّ إِنَّه تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ } [ المدثر : 54 ، 55 ] ومثله قول الشاعر :
مثل الفراخ نتفت حواصله ... ولم يقل : حواصلها . وقول الآخر :
وطاب ألبان اللقاح وبرد ... ولم يقل : وبردت . وحكي عن الكسائي أن المعنى مما في بطون بعضه وهي الإناث؛ لأن الذكور لا ألبان لها ، وبه قال أبو عبيدة : وحكي عن الفراء أنه قال : النعم والأنعام واحد ، يذكر ويؤنث ، ولهذا تقول العرب : هذه نعم وارد ، فرجع الضمير إلى لفظ النعم الذي هو بمعنى الأنعام . وهو كقول الزجاج . ورجحه ابن العربي فقال : إنما يرجع التذكير إلى معنى الجمع ، والتأنيث إلى معنى الجماعة . فذكره هنا باعتبار لفظ الجمع ، وأنثه في سورة المؤمنين باعتبار لفظ الجماعة { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } الفرث : الزبل الذي ينزل إلى الكرش ، فإذا خرج منه لم يسم فرثاً . يقال : أفرثت الكرش إذا أخرجت ما فيها . والمعنى : أن الشيء الذي تأكله يكون منه ما في الكرش ، وهو الفرث ، ويكون منه الدم ، فيكون أسفله فرثاً ، وأعلاه دماً وأوسطه لبنا فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضروع ، ويبقى الفرث كما هو { خَالِصًا } يعني : من حمرة الدم ، وقذارة الفرث بعد أن جمعهما وعاء واحد { سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ } أي : لذيذاً هنيئاً ، لا يغصّ به من شربه : يقال : ساغ الشراب ، يسوغ سوغاً ، أي : سهل مدخله في الحلق .

{ وَمِن ثمرات النخيل والأعناب } قال ابن جرير : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون ، فحذف « ما » ودلّ على حذفه قوله : { منه } . وقيل : هو معطوف على الأنعام ، والتقدير : وإن لكم من ثمرات النخيل والأعناب لعبرة . ويجوز أن يكون معطوفاً على { مما في بطونه } أي : نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل . ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلّ عليه ما قبله ، تقديره : ونسقيكم من ثمرات النخيل ، ويكون على هذا { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا } بياناً للإسقاء وكشفاً عن حقيقته ، ويجوز أن يتعلق ب { تتخذون } ، تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكراً ، ويكون تكرير الظرف ، وهو قوله منه للتأكيد كقولك زيد في الدار فيها ، وإنما ذكر الضمير في { منه } لأنه يعود إلى المذكور ، أو إلى المضاف المحذوف ، وهو العصير ، كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ، والسكر : ما يسكر من الخمر ، والرزق الحسن : جميع ما يؤكل من هاتين الشجرتين كالثمر والدبس والزبيب والخل . وكان نزول هذه الآية قبل تحريم الخمر . وقيل : إن السكر الخلّ بلغة الحبشة ، والرزق الحسن الطعام من الشجرتين . وقيل : السكر : العصير الحلو الحلال ، وسمي سكراً؛ لأنه قد يصير مسكراً إذا بقي ، فإذا بلغ الإسكار حرم . والقول الأوّل أولى وعليه الجمهور ، وقد صرّح أهل اللغة بأن السكر اسم للخمر ، ولم يخالف في ذلك إلاّ أبو عبيدة ، فإنه قال : السكر : الطعم ، ومما يدل على ما قاله جمهور أهل اللغة قول الشاعر :
بئس الصحاب وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم الهذي والسكر
ومما يدل على ما قاله أبو عبيدة ما أنشده :
جعلت عيب الأكرمين سكرا ... أي : جعلت ذمهم طعماً ، ورجح هذا ابن جرير فقال : إن السكر ما يطعم من الطعام ويحل شربه من ثمار النخيل والأعناب ، وهو الرزق الحسن ، فاللفظ مختلف . والمعنى واحد ، مثل { إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى الله } [ يوسف : 86 ] . قال الزجاج : قول أبي عبيدة هذا لا يعرف ، وأهل التفسير على خلافه . ولا حجة في البيت الذي أنشده لأن معناه عند غيره أنه يصف أنها تتخمر بعيوب الناس ، وقد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ . قالوا : وإنما يمتنّ الله على عباده بما أحله لهم ، لا بما حرّمه عليهم ، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر . ا ه . { إِنَّ فِى ذلك لآيَةً لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي لدلالة لمن يستعمل العقل ، ويعمل بما يقتضيه عند النظر في الآيات التكوينية .
{ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } قد تقدّم الكلام في الوحي ، وأنه يكون بمعنى الإلهام ، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ، ومنه قوله سبحانه :

{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 - 8 ] . ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها ، وقرأ يحيى بن وثاب " إلى النحل " بفتح الحاء . قال الزجاج : وسمي نحلاً ، لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه . قال الجوهري : والنحل والنحلة : الدبر ، يقع على الذكر والأنثى { أَنِ اتخذى مِنَ الجبال بُيُوتًا } أي : بأن اتخذي على أن «أن» هي المصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية؛ لأن في الإيحاء معنى القول ، وأنث الضمير في اتخذي لكونه أحد الجائزين كما تقدّم ، أو للحمل على المعنى ، أو لكون النحل جمعاً . وأهل الحجاز يؤنثون النحل «ومن» في { من الجبال بيوتاً } وكذا في { مّنَ الشجر } وكذا في { مّمَّا يَعْرِشُونَ } للتبعيض ، أي : مساكن توافقها وتليق بها في كوى الجبال ، وتجويف الشجر ، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجناح والحيطان وغيرها . وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب ، يقال : عرش يعرش بكسر الراء وضمها . وبالضم قرأ ابن عامر وشعبة ، وقرأ الباقون بالكسر . وقرىء أيضاً " بيوتاً " بكسر الباء وضمها .
{ ثُمَّ كُلِى مِن كُلّ الثمرات } " من " للتبغيض ، لأنها تأكل النور من الأشجار ، فإذا أكلتها { فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ } أي : الطرق التي فهمك الله وعلمك ، وأضافها إلى الربّ لأنه خالقها وملهم النحل أن تسلكها ، أي : ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر ، أو اسلكي ما أكلت في سبل ربك ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور عسلاً ، أو إذا أكلت الثمار في الأمكنة البعيدة ، فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك ، لا تضلين فيها ، وا نتصاب { ذُلُلاً } على الحال من السبل ، وهي جمع ذلول ، أي : مذللة ، غير متوعرة ، واختار هذا : الزجاج وابن جرير . وقيل : حال من النحل ، يعني : مطيعة للتسخير ، وإخراج العسل من بطونها ، واختار هذا ابن قتيبة .
وجملة { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } مستأنفة عدل به عن خطاب النحل ، تعديداً للنعم ، وتعجيباً لكل سامع ، وتنبيهاً على الغير ، وإرشاداً إلى الآيات العظيمة الحاصلة من هذا الحيوان الشبيه بالذباب . والمراد : بالشراب هو العسل ، ومعنى { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } أن بعضه أبيض ، وبعضه أحمر ، وبعضه أزرق ، وبعضه أصفر باختلاف ذوات النحل وألونها ومأكولاتها . وجمهور المفسرين على أن العسل يخرج من أفواه النحل . وقيل : من أسفلها . وقيل : لا يدري من أين يخرج منها ، والضمير في قوله : { فِيهِ شِفَآء لِلنَّاسِ } راجع إلى الشراب الخارج من بطون النحل ، وهو العسل ، وإلى هذا ذهب الجمهور . وقال الفراء ، وابن كيسان ، وجماعة من السلف : إن الضمير راجع إلى القرآن ، ويكون التقدير : فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ومخالفة المرجع الواضح والسياق البين .

وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء ، أو خاص ببعض الأمراض؟ فقالت طائفة : هو على العموم ، وقالت طائفة : إن ذلك خاص ببعض الأمراض . ويدل على هذا أن العسل نكرة في سياق الإثبات فلا يكون عاماً ، وتنكيره إن أريد به التعظيم لا يدل إلاّ على أن فيه شفاءً عظيماً لمرض أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم ، والظاهر المستفاد من التجربة ومن قوانين علم الطب ، أنه إذا استعمل منفرداً ، كان دواء لأمراض خاصة وإن خلط مع غيره كالمعاجين ونحوها ، كان مع ما خلط به دواء لكثير من الأمراض . وبالجملة فهو من أعظم الأغذية وأنفع الأدوية ، وقليلاً ما يجتمع هذان الأمران في غيره { إِنَّ فِى ذَلِكَ } المذكور من أمر النحل { لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي : يعملون أفكارهم عند النظر في صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته . فإن أمر النحل من أعجبها وأغربها وأدقها وأحكمها .
وقد أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه ، وابن مردويه عن ابن عباس أنه سئل عن قوله : { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } قال : السكر ما حرم من ثمرتهما ، والرزق الحسن ما حلّ . وأخرج الفريابي ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه قال : السكر : الحرام ، والرزق الحسن : زبيبه وخله وعنبه ومنافعه . وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : السكر : النبيذ ، والرزق الحسن : الزبيب . فنسختها هذه الآية { إِنَّمَا الخمر والميسر } [ المائدة : 90 ] . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه أيضاً في الآية قال : فحرّم الله بعد ذلك السكر منع تحريم الخمر لأنه منه ، ثم قال : { وَرِزْقًا حَسَنًا } فهو الحلال من الخلّ والزبيب والنبيذ وأشباه ذلك ، فأقرّه الله وجعله حلالاً للمسلمين . وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه سئل عن السكر ، فقال : الخمر بعينها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن مسعود قال : السكر : خمر .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } قال : ألهمها . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد في قوله { فاسلكى سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً } قال : طرقاً لا يتوعر عليها مكان سلكته . وأخرج عبد الرازق ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، عن قتادة { ذللاً } قال : مطيعة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : ذليلة .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } قال : العسل . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : هو العسل فيه الشفاء ، وفي القرآن .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن ابن مسعود قال : إن العسل شفاء من كل داء . والقرآن شفاء لما في الصدور . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن مسعود قال : عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن . وأخرج ابن ماجه ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، وابن السني ، وأبو نعيم ، والخطيب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن "
وقد وردت أحاديث في كون العسل شفاء : منها ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنا أنهي أمتي عن الكيّ " وأخرج البخاري ، ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد : «أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إن أخي استطلق بطنه ، فقال : " اسقه عسلاً " فسقاه عسلاً ، ثم جاء فقال : سقيته عسلاً ، فما زاده إلاّ استطلاقاً ، قال " إذهب فاسقه عسلاً " فذهب فسقاه ، ثم جاء فقال : ما زاده إلاّ استطلاقاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلاً " ، فذهب فسقاه عسلاً فبرأ .

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)

لما ذكر سبحانه بعض أحوال الحيوان ، وما فيها من عجائب الصنعة الباهرة ، وخصائص القدرة القاهرة ، أتبعه بعجائب خلق الإنسان ، وما فيه من العبر فقال : { والله خَلَقَكُمْ } ولم تكونوا شيئاً { ثُمَّ يتوفاكم } عند انقضاء آجالكم { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } يقال : رذل يرذل رذالة ، والأرذل والرذالة : أردأ الشيء وأوضعه . قال النيسابوري : واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أولاها سنّ النشوّ ، وثانيها : سنّ الوقوف ، وهو سنّ الشباب ، وثالثها : سنّ الانحطاط اليسير ، وهو سنّ الكهولة ، ورابعها : سنّ الانحطاط الظاهر ، وهو سنّ الشيخوخة . قيل : وأرذل العمر هو عند أن يصير الإنسان إلى الخرف ، وهو أن يصير بمنزلة الصبيّ الذي لا عقل له؛ وقيل : خمس وسبعون سنة ، وقيل : تسعون سنة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } [ التين : 4 - 5 ] ثم علل سبحانه ردّ من يرده إلى أرذل العمر بقوله : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ } كان قد حصل له { شَيْئاً } من العلم ، لا كثيراً ولا قليلاً ، أو شيئاً من المعلومات إذا كان العلم هنا بمعنى المعلوم . وقيل : المراد : بالعلم هنا العقل ، وقيل : المراد لئلا يعلم زيادة على علمه الذي قد حصل له قبل ذلك .
ثم لما بين سبحانه خلق الإنسان وتقلبه في أطوار العمر ، ذكر طرفاً من أحواله ، لعله يتذكر عند ذلك ، فقال : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق } فجعلكم متفاوتين فيه ، فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم ، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلاّ بسؤال الناس والتكفف لهم ، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها ، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال ، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم وقوّة البدن وضعفه ، والحسن والقبح ، والصحة والسقم ، وغير ذلك من الأحوال ، وقيل : معنى الآية : أن الله سبحانه أعطى الموالي أفضل مما أعطى مماليكهم ، بدليل قوله : { فَمَا الذين فُضّلُواْ بِرَآدّى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أيمانهم } أي : فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادّي رزقهم الذي رزقهم الله إياه على ما ملكت أيمانهم من المماليك { فَهُمُ } أي : المالكون والمماليك { فِيهِ } أي : في الرزق { سَوَآء } أي : لا يردّونه عليهم بحيث يساوونهم ، فالفاء على هذا للدلالة على أن التساوي مترتب على الترادّ ، أي : لا يردّونه عليهم رداً مستتبعاً للتساوي ، وإنما يردّون عليهم منه شيئاً يسيراً ، وهذا مثل ضربه الله سبحانه بعبدة الأصنام ، أي : إذا لم يكونوا عبيدكم معكم سواء ، ولا ترضون بذلك ، فكيف تجعلون عبيدي معي سواء .

والحال أن عبيدكم مساوون لكم في البشرية والمخلوقية ، فلما لم تجعلوا عبيدكم مشاركين لكم في أموالكم ، فكيف تجعلون بعض عباد الله سبحانه شركاء له فتعبدونهم معه؟ أو كيف تجعلون بعض مخلوقاته كالأصنام شركاء له في العبادة؟ ذكر معنى هذا ابن جرير ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مّن مَّا مَلَكَتْ أيمانكم مّن شُرَكَاء فِيمَا رزقناكم } [ الروم : 28 ] وقيل : إن الفاء في { فهم فيه سواء } بمعنى حتى { أَفَبِنِعْمَةِ الله تجحدون } حيث تفعلون ما تفعلون من الشرك ، والنعمة هي كونه سبحانه جعل المالكين مفضلين على المماليك . وقد قرىء { يجحدون } بالتحتية والفوقية . قال أبو عبيدة ، وأبو حاتم : وقراءة الغيبة أولى ، لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطاباً ، لكان ظاهره للمسلمين ، والاستفهام للإنكار ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : يشركون به ، فيجحدون نعمته ، ويكون المعنى على قراءة الخطاب أن المالكين ليسوا برادّي رزقهم على مماليكم ، بل أنا الذي أرزقهم وإياهم ، فلا يظنوا أنهم يعطونهم شيئاً ، وإنما هو رزقي أجريه على أيديهم ، وهم جميعاً في ذلك سواء ، لا مزية لهم على مماليكهم ، فيكون المعطوف عليه المقدّر فعلاً يناسب هذا المعنى ، كأن يقال : لا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله . ثم ذكر سبحانه الحالة الأخرى من أحوال الإنسان فقال : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } قال المفسرون : يعني النساء فإنه خلق حوّاء من ضلع آدم . أو المعنى : خلق لكم من جنسكم أزواجاً لتستأنسوا بها ، لأن الجنس يأنس إلى جنسه ، ويستوحش من غير جنسه ، وبسبب هذه الأنسة يقع بين الرجال والنساء ما هو سبب للنسل الذي هو المقصود بالزواج ، ولهذا قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنْ أزواجكم بَنِينَ وَحَفَدَةً } الحفدة : جمع حافد ، يقال : حفد يحفد حفداً وحفوداً : إذا أسرع ، فكل من أسرع في الخدمة ، فهو حافد ، قال أبو عبيد : الحفد : العمل والخدمة . قال الخليل بن أحمد : الحفدة عند العرب : الخدم ، ومن ذلك قول الشاعر ، وهو الأعشى :
كلفت مجهولنا نوقا يمانية ... إذ الحداة على أكتافها حفدوا
أي : الخدم والأعوان . وقال الأزهري : قيل : الحفدة أولاد الأولاد . وروي عن ابن عباس ، وقيل : الأختان . قاله ابن مسعود ، وعلقمة ، وأبو الضحى ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النخعي ، ومنه قول الشاعر :
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما تعدّ كثير
ولكنها نفس عليّ أبية ... عيوف لأصهار اللئام قذور
وقيل : الحفدة الأصهار . قال الأصمعي : الختن : من كان من قبل المرأة ، كابنها ، وأخيها وما أشبههما . والأصهار منهما جميعاً . يقال : أصهر فلان إلى بني فلان وصاهر . وقيل : هم أولاد امرأة الرجل من غيره . وقيل : الأولاد الذين يخدمونه . وقيل : البنات الخادمات لأبيهنّ . ورجح كثير من العلماء أنهم أولاد الأولاد ، لأنه سبحانه امتنّ على عباده بأن جعل لهم من الأزواج بنين وحفدة .

فالحفدة في الظاهر معطوفون على البنين ، وإن كان يجوز أن يكون المعنى : جعل لكم من أزواجكم بنين ، وجعل لكم حفدة . ولكن لا يمتنع على هذا المعنى الظاهر أن يراد بالبنين من لا يخدم ، وبالحفدة من يخدم الأب منهم ، أو يراد بالحفدة البنات فقط . ولا يفيد أنهم أولاد الأولاد إلاّ إذا كان تقدير الآية : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة .
{ وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات } التي تستطيبونها وتستلذونها ، و « من » للتعبيض؛ لأن الطيبات لا تكون مجتمعة إلاّ في الجنة ، ثم ختم سبحانه الآية بقوله : { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } والاستفهام للإنكار التوبيخي ، والفاء للعطف على مقدّر ، أي : يكفرون بالله ، فيؤمنون بالباطل ، وفي تقدّم { بالباطل } على الفعل دلالة على أنه ليس لهم إيمان إلا به . والباطل : هو اعتقادهم في أصنامهم أنها تضر وتنفع . وقيل : الباطل ما زيّن لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة ونحوهما . قرأ الجمهور { يؤمنون } بالتحتية ، وقرأ أبو بكر بالفوقية على الخطاب { وبنعمة الله هم يكفرون } أي : ما أنعم به عليهم مما لا يحيط به حصر . وفي تقديم النعمة ، وتوسيط ضمير الفصل دليل على أن كفرهم مختص بذلك ، لا يتجاوزه لقصد المبالغة والتأكيد .
{ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } هو معطوف على { يكفرون } داخل تحت الإنكار التوبيخي ، إنكاراً منه سبحانه عليهم حيث يعبدون الأصنام ، وهي لا تنفع ولا تضرّ ، ولهذا قال { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض شَيْئاً } قال الأخفش : إن { شيئاً } بدل من الرزق . وقال الفراء : هو منصوب بإيقاع الرزق عليه ، فجعل { رزقاً } مصدراً عاملاً في { شيئاً } ، والأخفش جعله اسماً للرزق . وقيل : يجوز أن يكون تأكيداً لقوله : { لا يملك } أي : لا يملك شيئاً من الملك ، والمعنى : أن هؤلاء الكفار يعبدون معبودات لا تملك لهم رزقاً ، أيّ رزق ، و { من السموات والأرض } صفة لرزق ، أي : كائناً منهما ، والضمير في { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } راجع إلى « ما » ، وجمع جمع العقلاء بناءً على زعمهم الباطل ، والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة التملك بطريق من الطرق . فبين سبحانه أنها لا تملك ولا تستطيع . وقيل : يجوز أن يكون الضمير في { يستطيعون } للكفار ، أي : لا يستطيع هؤلاء الكفار ، مع كونهم أحياء متصرّفين ، فكيف بالجمادات التي لا حياة لها ولا تستطيع التصرّف؟
ثم نهاهم سبحانه عن أن يشبهوه بخلقه ، فقال : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } فإن ضارب المثل يشبه حالاً بحال وقصة بقصة . قال الزجاج : لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له ، وكانوا يقولون : إن إله العالم أجلّ من أن يعبده الواحد منا ، فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن ذلك ، وعلل النهي بقوله : { إِنَّ الله } عليم { يَعْلَمْ } ما عليكم من العبادة { وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ما في عبادتها من سوء العاقبة ، والتعرّض لعذاب الله سبحانه ، أو أنتم لا تعلمون بشيء من ذلك ، وفعلكم هذا هو عن توهم فاسد وخاطر باطل وخيال مختلّ ، ويجوز أن يراد فلا تضربوا الله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك .

وقد أخرج ابن جرير عن عليّ في قوله : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } قال : خمس وسبعون سنة . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : هو الخرف . وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : من قرأ القرآن ، لم يرد إلى أرذل العمر ، ثم قرأ { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا } . وأخرج ابن أبي شيبة عن طاوس ، قال : العالم لا يخرف . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره أنه كان يتعوّذ بالله أن يردّ إلى أرذل العمر .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِى الرزق } قال : لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني؟ وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : هذا مثل لآلهة الباطل مع الله .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } قال : خلق آدم ، ثم خلق زوجته منه . وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، والبخاري في تاريخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } قال : الحفدة : الأختان . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، قال : الحفدة : الأصهار ، وأخرجا عنه ، قال : الحفدة : الولد وولد الولد . وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً قال : الحفدة بنو البنين . وأخرج ابن جرير ، عن أبي جمرة قال : سئل ابن عباس عن قوله : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } قال : من أعابك فقد حفدك ، أما سمعت الشاعر يقول :
حفد الولائد حولهنّ وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً ، قال : الحفدة : بنو امرأة الرجل ، ليسوا منه . وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } قال : الشرك . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : هو الشيطان { وبنعمة الله } قال : محمد . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية ، قال : هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها { رِزْقًا مّنَ السموات والأرض } ولا خيراً ولا حياة ولا نشوراً { فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الامثال } فإنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } يعني : اتخاذهم الأصنام . يقول : لا تجعلوا معي إلهاً غيري ، فإنه لا إله غيري .

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } لما قال سبحانه : { إن الله يعلم } أي : بالمعلومات التي من جملتها كيف يضرب الأمثال ، وأنتم لا تعلمون؟ علمهم سبحانه كيف تضرب الأمثال ، فقال : { ضرب الله مثلاً } أي : ذكر شيئاً يستدلّ به على تباين الحال بين جناب الخالق سبحانه ، وبين ما جعلوه شريكاً له من الأصنام . ثم ذكر ذلك فقال : { عَبْدًا مَّمْلُوكًا } والمثل في الحقيقة هي حالة للعبد عارضة له ، وهي المملوكية والعجز عن التصرف ، فقوله : { عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } تفسير للمثل وبدل منه ، ووصفه بكونه مملوكاً؛ لأن العبد والحرّ مشتركان في كون كل واحد منهما عبد الله سبحانه . ووصفه بكونه لا يقدر على شيء؛ لأن المكاتب والمأذون يقدران على بعض التصرفات . فهذا الوصف لتمييزه عنهما { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } " من " هي الموصولة ، وهي معطوفة على { عبداً } أي : والذي رزقناه { مِنَّا } أي : من جهتنا { رِزْقًا حَسَنًا } من الأحرار الذين يملكون الأموال ويتصرفون بها كيف شاءوا ، والمراد بكون الرزق حسناً : أنه مما يحسن في عيون الناس ، لكونه رزقاً كثيراً مشتملاً على أشياء مستحسنة نفيسة تروق الناظرين إليها . والفاء في قوله : { فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ } لترتيب الإنفاق على الرزق ، أي : ينفق منه في وجوه الخير ويصرف منه إلى أنواع البرّ والمعروف ، وانتصاب { سِرّا وَجَهْرًا } على الحال ، أي : ينفق منه في حال السرّ وحال الجهر . والمراد : بيان عموم الإنفاق للأوقات ، وتقديم السرّ على الجهر مشعر بفضيلته عليه ، وأن الثواب فيه أكثر . وقيل : إن «من» في { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } موصوفة ، كأنه قيل : وحرّاً رزقناه ، ليطابق عبداً .
{ هَلْ يَسْتَوُونَ } أي : الحرّ والعبد الموصوفان بالصفات المتقدّمة ، وجمع الضمير لمكان من ، لأنه اسم مبهم يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمذكر والمؤنث . وقيل : إنه أريد بالعبد والموصول الذي هو عبارة عن الحرّ الجنس؛ أي من اتصف بتلك الأوصاف من الجنسين ، والاستفهام للإنكار ، أي : هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بتلك الصفات مع كون كلا الفريقين مخلوقين لله سبحانه من جملة البشر ، ومن المعلوم أنهم لا يستوون عندهم ، فكيف يجعلون لله سبحانه شركاء لا يملكون لهم ضرّاً ولا نفعاً ، ويجعلونهم مستحقين للعبادة مع الله سبحانه؟ وحاصل المعنى : أنه كما لا يستوي عندكم عبد مملوك لا يقدر من أمره على شيء ورجل حرّ قد رزقه الله رزقاً حسناً ، فهو ينفق منه ، كذلك لا يستوي الربّ الخالق الرازق ، والجمادات من الأصنام التي تعبدونها ، وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضرّ ولا تنفع . وقيل : المراد بالعبد المملوك في الآية : هو الكافر المحروم من طاعة الله وعبوديته ، والآخر : هو المؤمن . والغرض : أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف ، وقيل : العبد : هو الصنم ، والثاني : عابد الصنم ، والمراد : أنهما لا يستويان في القدرة والتصرّف؛ لأن الأوّل جماد ، والثاني إنسان .

{ الحمد للَّهِ } أي : الحمد لله كله ، لأنه المنعم ، لا يستحق غيره من العباد شيئاً منه ، فكيف تستحق الأصنام منه شيئاً ولا نعمة منها أصلاً لا بالأصالة ولا بالتوسط؛ وقيل : أراد الحمد لله على ما أنعم به على أوليائه من نعمة التوحيد؛ وقيل : أراد قل الحمد لله ، والخطاب إما لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لمن رزقه الله رزقاً حسناً ، وقيل : إنه لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود ، قال : الحمد لله أي : على قوّة هذه الحجة { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذلك حتى يعبدوا من تحقّ له العبادة ، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة ، ونفي العلم عنهم إما لكونهم من الجهل بمنزلة لا يفهمون بسببها ما يجب عليهم ، أو هم يتركون الحق عناداً مع علمهم به ، فكانوا كمن لا علم له ، وخصّ الأكثر بنفي العلم : إما لكونه يريد الخلق جميعاً ، وأكثرهم المشركون ، أو ذكر الأكثر ، وهو يريد الكلّ ، أو المراد أكثر المشركين؛ لأن فيهم من يعلم ولا يعمل بموجب العلم .
ثم ذكر سبحانه مثلاً ثانياً ضربه لنفسه ، ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية ، وللأصنام التي هي أموات لا تضرّ ولا تنفع فقال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً } أي : مثلاً آخر أوضح مما قبله وأظهر منه ، و { رَّجُلَيْنِ } بدل من مثل وتفسير له ، والأبكم العييّ المفحم . وقيل : هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام ، وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر ، ثمّ وصف الأبكم فقال : { لاَّ يَقْدِرُ على شَىْء } من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره لعدم فهمه ، وعدم قدرته على النطق ، ومعنى { كَلٌّ على مَوْلاهُ } ثقيل على وليه وقرابته وعيال على من يلي أمره ويعوله ، ووبال على إخوانه ، وقد يسمى اليتيم : كلا؛ لثقله على من يكفله ، ومنه قول الشاعر :
أكول لمال الكلّ قبل شبابه ... إذا كان عظم الكلّ غير شديد
وفي هذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقاً ، ثم وصفه بصفة رابعة فقال : { أَيْنَمَا يُوَجّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } أي : إذا وجهه إلى أيّ جهة لا يأت بخير قط؛ لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له ولا يمكنه أن يقول . وقرأ يحيى بن وثاب « أينما يوجه » على البناء للمجهول ، وقرأ ابن مسعود « أينما توجه » على صيغة الماضي { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ } في نفسه مع هذه الأوصاف التي اتصف بها { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } أي : يأمر الناس بالعدل مع كونه في نفسه ينطق بما يريد النطق به ويفهم .

ويقدر على التصرّف في الأشياء . { وَهُوَ } في نفسه { على صراط مُّسْتَقِيمٍ } على دين قويم ، وسيرة صالحة ليس فيه ميل إلى أحد جانبي الإفراط والتفريط ، قابل أوصاف الأوّل بهذين الوصفين المذكورين للآخر ، لأن حاصل أوصاف الأوّل عدم استحقاقه لشيء ، وحاصل وصفي هذا أنه مستحق أكمل استحقاق ، والمقصود الاستدلال بعدم تساوي هذين المذكورين على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يجعلونه شريكاً له . ولما فرغ سبحانه من ذكر المثلين ، مدح نفسه بقوله : { وَللَّهِ غَيْبُ السموات والأرض } أي : يختصّ ذلك به ، لا يشاركه فيه غيره ، ولا يستقل به ، والمراد : علم ما غاب عن العباد فيهما ، أو أراد بغيبهما يوم القيامة ، لأن علمه غائب عن العباد ، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما . والمعنى : التوبيخ للمشركين والتقريع لهم ، أي : أن العبادة إنما يستحقها من كانت هذه صفته لا من كان جاهلاً عاجزاً لا يضرّ ولا ينفع ولا يعلم بشيء من أنواع العلم { وَمَا أَمْرُ الساعة } التي هي أعظم ما وقعت فيه المماراة من الغيوب المختصة به سبحانه { إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } اللمح : النظر بسرعة ، ولا بدّ فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي ، وكل زمان قابل للتجزئة ، ولذا قال : { أَوْ هُوَ } أي : أمرهما { أَقْرَبُ } وليس هذا من قبيل المبالغة ، بل هو كلام في غاية الصدق ، لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية ، ومنها إلى الأبد غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . أو يقال : إن الساعة لما كانت آتية ولا بدّ جعلت من القرب كلمح البصر . وقال الزجاج : لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر ، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها ، لأنه يقول للشيء كن فيكون ، وقيل : المعنى هي عند الله كذلك وإن لم تكن عند المخلوقين بهذه الصفة . ومثله قوله سبحانه : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6 - 7 ] . ولفظ « أو » في { أو هو أقرب } ليس للشك ، بل للتمثيل . وقيل : دخلت لشك المخاطب ، وقيل : هي بمنزلة بل { إِنَّ الله على كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } ومجيء الساعة بسرعة من جملة مقدوراته .
ثم إنه سبحانه ذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ، ونهاية رأفته ، فقال : { والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } وهذا معطوف على قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } منتظم معه في سلك أدلة التوحيد ، أي : أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالاً لا علم لكم بشيء ، وجملة { لا تعلمون شيئاً } في محل نصب على الحال ، وقيل : المراد : لا تعلمون شيئاً مما أخذ عليكم من الميثاق . وقيل : لا تعلمون شيئاً مما قضي به عليكم من السعادة والشقاوة . وقيل : لا تعلمون شيئاً من منافعكم . والأولى التعميم لتشمل الآية هذه الأمور وغيرها اعتباراً بعموم اللفظ ، فإن { شيئاً } نكرة واقعة في سياق النفي .

وقرأ الأعمش ، وابن وثاب ، وحمزة « إمهاتكم » بكسر الهمزة والميم هنا ، وفي النور ، والزمر ، والنجم . وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم . وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم .
{ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } أي : ركب فيكم هذه الأشياء ، وهو معطوف على { أخرجكم } وليس فيه دلالة على تأخير هذا الجعل عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو مطلق الجمع . والمعنى : جعل لكم هذه الأشياء لتحصلوا بها العلم الذي كان مسلوباً عنكم عند إخراجكم من بطون أمهاتكم ، وتعملوا بموجب ذلك العلم من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه ، والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو وسط القلب ، منزل منه بمنزلة القلب من الصدر ، وقد قدّمنا الوجه في إفراد السمع ، وجمع الأبصار والأفئدة ، وهو أن إفراد السمع لكونه مصدراً في الأصل يتناول القليل والكثير { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لكي تصرفوا كل آلة فيما خلقت له ، فعند ذلك تعرفون مقدار ما أنعم الله به عليكم فتشكرونه ، أو أن هذا الصرف هو نفس الشكر .
ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر على كمال قدرته ، فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مسخرات } أي : ألم ينظروا إليها حال كونها مسخرات أي : مذللات للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة ، وسائر الأسباب المواتية لذلك ، كرقة قوام الهواء وإلهامها بسط الجناح وقبضه ، كما يفعل السابح في الماء { فِى جَوّ السمآء } أي : في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو ، وإضافته إلى السماء لكونه في جانبها { مَا يُمْسِكُهُنَّ } في الجوّ { إِلاَّ الله } سبحانه بقدرته الباهرة ، فإن ثقل أجسامها ، ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها ، لأنها لم تتعلق بشيء من فوقها ، ولا اعتمدت على شيء تحتها . وقرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش ، وابن عامر ، وحمزة ، ويعقوب « ألم تروا » بالفوقية على الخطاب . واختار هذه القراءة أبو عبيد . وقرأ الباقون بالتحتية { إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي : إن في ذلك التسخير على تلك الصفة لآيات ظاهرات تدلّ على وحدانية الله سبحانه وقدرته الباهرة { لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالله سبحانه ، وبما جاءت به رسله من الشرائع التي شرعها الله .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا } الآية قال : يعني الكافر أنه لا يستطيع أن ينفق نفقة في سبيل الله { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا } الآية ، قال : يعني : المؤمن وهذا المثل في النفقة . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم نحوه بأطول منه . وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية ، وفي قوله : { مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } قال : كل هذا مثل إله الحق وما تدعون من دونه الباطل .

وأخرج ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال : في المثل الأوّل ، يعني بذلك : الآلهة التي لا تملك ضرّاً ولا نفعاً ، ولا تقدر على شيء ينفعها { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّا وَجَهْرًا } قال : علانية الذي ينفق سرّاً وجهراً لله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، وابن عساكر عنه ، قال : نزلت هذه الآية { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا } في رجل من قريش ، وعبدة بن هشام بن عمرو ، وهو الذي ينفق سرّاً وجهراً ، وفي عبدة أبي الجوزاء الذي كان ينهاه . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ } الآية قال : يعني بالأبكم : الذي هو كلّ على مولاه الكافر { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } المؤمن ، وهذا المثل في الأعمال . وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عنه أيضاً قال : نزلت هذه الآية { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ } الآية في عثمان بن عفان ومولى له كافر ، وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام ، وكان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤنة ، وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما . وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة ، والبخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة عنه أيضاً في قوله : { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } قال : عثمان بن عفان . وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله : { كُلٌّ } قال : الكلّ : العيال ، كانوا إذا ارتحلوا حملوه على بعير ذلول ، وجعلوا معه نفراً يمسكونه خشية أن يسقط عليهم ، فهو عناء وعذاب وعيال عليهم { هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل وَهُوَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ } يعني : نفسه .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } هو أن يقول : كن فهو كلمح البصر { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } فالساعة كلمح البصر أو هي أقرب . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله : { والله أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أمهاتكم } قال : من الرحم . وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : { فِى جَوّ السمآء } أي : في كبد السماء .

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)

قوله : { والله جعل لكم } معطوف على ما قبله . وهذا المذكور من جملة أحوال الإنسان ، ومن تعديد نعم الله عليه ، والسكن مصدر يوصف به الواحد والجمع . وهو بمعنى : مسكون ، أي : تسكنون فيها وتهدأ جوارحكم من الحركة . وهذه نعمة ، فإن الله سبحانه لو شاء لخلق العبد مضطرباً دائماً كالأفلاك ، ولو شاء لخلقه ساكناً أبداً كالأرض { وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا } لما ذكر سبحانه بيوت المدن ، وهي التي للإقامة الطويلة ، عقبها بذكر بيوت البادية والرحلة ، أي : جعل لكم من جلود الأنعام ، وهي الأنطاع والأدم بيوتاً كالخيام والقباب { تَسْتَخِفُّونَهَا } أي : يخفّ عليكم حملها في الأسفار وغيرها ، ولهذا قال : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } والظعن بفتح العين وسكونها ، وقرىء بهما : سير أهل البادية للانتجاع والتحوّل من موضع إلى موضع ، ومنه قول عنترة :
ظعن الذين فراقهم أتوقع ... وجرى ببيتهم الغراب الأبقع
والظعن الهودج أيضاً { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أثاثا } معطوف على { جعل } أي : وجعل لكم من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها . والأنعام : تعمّ الإبل والبقر والغنم كما تقدّم . والأصواف : للغنم ، والأوبار : للإبل ، والأشعار : للمعز ، وهي من جملة الغنم ، فيكون ذكر هذه الثلاثة على وجه التنويع كل واحد منها لواحد من الثلاثة ، أعني : الإبل ، ونوعي الغنم ، والأثاث متاع البيت ، وأصله الكثرة والاجتماع ، ومنه شعر أثيث ، أي : كثير مجتمع ، قال الشاعر :
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
قال الخليل أثاثاً ، أي : منضماً بعضه إلى بعض ، من أثّ إذا أكثر ، قال الفراء : لا واحد له ، والمتاع : ما يتمتع به بأنواع التمتع ، وعلى قول أبي زيد الأنصاري : إن الأثاث المال أجمع : الإبل والغنم والعبيد والمتاع ، يكون عطف المتاع على الأثاث من عطف الخاص على العام ، وقيل : إن الأثاث ما يكتسي به الإنسان ويستعمله من الغطاء والوطاء ، والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به ، ومعنى { إلى حِينٍ } إلى أن تقضوا أوطاركم منه ، أو إلى أن يبلى ويفنى ، أو إلى الموت ، أو إلى القيامة .
ثم لما كان الإنسان قد لا يكون له خيام ، أو أبنية يستظل بها لفقر ، أو لعارض آخر ، فيحتاج إلى أن يستظلّ بشجر أو جدار أو غمام أو نحو ذلك ، نبه سبحانه على ذلك فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ مّمَّا خَلَقَ ظلالا } أي : أشياء تستظلون بها كالأشياء المذكورة ، والحاصل : أن الظلال تعم الأشياء التي تظلّ . ثم لما كان المسافر قد يحتاج إلى ركن يأوي إليه في نزوله ، وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحرّ والبرد ، نبه سبحانه على ذلك فقال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الجبال أكنانا } وهي جمع كنّ : وهو ما يستكنّ به من المطر ، وهي هنا الغيران في الجبال ، جعلها الله سبحانه عدّة للخلق يأوون إليها ويتحصنون بها ، ويعتزلون عن الخلق فيها { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ } جمع سربال ، وهي : القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34