كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

برجة بهجة لبهجة منظرها وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني رحمه الله تعالى
( رياض تعشقها سندس ... توشت معاطفها بالزهر )
( مدامعها فوق خدي ربى ... لها نضرة فتنت من نظر )
( وكل مكان بها جنة ... وكل طريق إليها سفر )
وقيها أيضا قوله
( حط الرحال ببرجه ... وارتد لنفسك بهجة )
( في قلعة كسلاح ... ودوحة مثل لجة )
( فحصنها لك أمن ... وروضها لك فرجه )
( كل البلاد سواها ... كعمرة وهي حجه )
وبمالقة التين الذي يضرب المثل بحسنه ويجلب حتى للهند والصين وقيل إنه ليس في الدنيا مثله وفيه يقول أبو الحجاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحد منهم ابن سعيد
( مالقة حييت يا تينها ... الفلك من أجلك ياتينها )
( نهى طبيبي عنه في علتي ... ما لطبيبي عن حياتي نهى )
وذيل عليه الإمام الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله
( وحمص لا تنس لها تينها ... واذكر

وفي بعض النسخ
( لا تنس لاشبيلية تينها ... واذكر مع التين زياتينها
وهو نحو الأول لأن حمص هي إشبيلية لنزول أهل حمص من المشرق بها حسبما سنذكره
ونسب ابن جزي في ترتيبه لرحلة ابن بطوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبدالوهاب المالقي والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبدالله بن عبدالملك فالله أعلم
وقال ابن بطوطة وبمقاله يصنع الفخار المذهب العجيب ويجلب منها أقاصي البلاد ومسجدها كبير الساحة شهير البركة وصحنه لا نظير له في الحسن وفيه أشجار النارنج انتهى
وقال قبله إن مقالة إحدى قواعد الأندلس وبلادها الحسان جامعة بين مرافق البر والبحر كثيرة الخيرات والفواكه رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطال بدرهم صغير ورمانها المرسي الياقوتي لا نظير له في الدنيا وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب انتهى
وبكورة أشبونة المتصلة بشنترين معدن التبر وفيها عسل يجعل في كيس كتان فلا يكون له رطوبة كأنه سكر ويوجد في ريفها العنبر الذي لا

نبذة عن قرطبة وشهرتها
ومن أشهر مدن الأندلس مدينة قرطبة أعادها الله تعالى الإسلام وبها الجامع المشهور والقنطرة المعروفة بالجسر
وقد ذكر ابن حيان أنه بني على أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ونصه وقام فيها بأمره على النهر الأعظم بدار مملكتها قرطبة الجسر الأكبر الذي ما يعرف في الدنيا مثله انتهى
وفيها يقول بعض علماء الأندلس
( بأربع فاقت الأمصار قرطبة ... منهن قنطرة الوادي وجامعها )
( هاتان ثنتان والزهراء ثالثة ... والعلم أعظم شيء وهو رابعها )
وقال الحجاري في المسهب كانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام ومجتمع أعلام الأنام بها استقر سرير الخلافة المروانية وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية وإليها كانت الرحلة في الرواية إذ كانت مركز الكرماء ومعدن العلماء وهي من الاندلس بمنزلة الرأس من الجسد ونهرها من احسن الأنهار مكتنف بديباج المروج مطرز بالأزهار تصدح في جنباته الأطيار وتنعر النواعير ويبسم النوار وقرطاها الزاهرة والزهراء حاضرتا الملك وأفقا النعماء والسراء وإن كان قد أخنى عليها الزمان وغير بهجة أوجهها الحسان فتلك عادته وسل الخورنق والسدير وغمدان وقد أعذر بإنذاره إذ لم يزل ينادي بصروفه لا أمان لا أمان وقد قال الشاعر
( وما زلت أسمع أن الملوك ... تبني على قدر أخطارها ) انتهى

وقال السلطان يعقوب المنصور ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي لأحد رؤساء أجنادها ما تقول في قرطبة فخاطبه على ما يقتضيه كلام عامة الأندلس بقوله جوفها شمام وغربيها قمام وقبلتها مدام والجنة هي والسلام
يعني بالشمام جبال الورد ويعني بالقمام ما يؤكل إشارة إلى محرث الكنبانية ويعني بالمدام النهر
ولما قال والده السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي ما عندك في قرطبة قال له ما كان لي أن أتكلم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها فقال السلطان إن ملوك بني أمية حين اتخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرة الديار المنفسحة الكثيرة والشوارع المتسعة والمباني الضخمة المشيدة والنهر الجاري والهواء المعتدل والخارج الناضر والمحرث العظيم والشعراء الكافية والتوسط بين شرق الأندلس وغربها قال فقلت ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول
قال ابن سعيد ولأهلها رياسة ووقار لا تزال سمة العلم والملك متوارثة فيهم إلا أن عامتها أكثر الناس

بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضا بأمورهم حتى إن السيد أبا يحيى أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لما انفصل عن ولايتها كيف وجدت أهل قرطبة فقال مثل الجمل إن خففت عنه الحمل صاح وإن أثقلته صاح ما ندري أين رضاهم فنقصده ولا أين سخطهم فنجتنبه وما سلط الله عليهم حجاج الفتنة حتى كان عامتها شرا من عامة العراق وإن العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية وإني إن كلفت العود إليها لقائل لا يلدغ المؤمن من حجر مرتين انتهى
وقال أبو الفضل التيفاشي جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها وإن مات مطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية قال وقرطبة أكثر بلاد الله كتبا انتهى
وحكى الإمام ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الاستاذ أبي بكر المخزومي قال فسألنا من أين فقلنا من قرطبة فقال متى عهدكما بها فقال الآن وصلنا منها فقال أقربا إلي اشم نسيم قرطبة فقربنا منه فشم رأسي وقبله وقال لي اكتب
( أقرطبة الغراء هل لي أوبة ... إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد )
( سقى الجانب الغربي منك غمامة ... وقعقع في ساحات دوحاتك الرعد )
( لياليك أسحار وأرضك روضة ... وتربك في استنشاقها عنبر ورد )
وكتب الرئيس الكاتب أبو

( يا سيدي وأبي هوى وجلالة ... ورسول ودي إن طلبت رسولا )
( عرج بقرطبة إذا بلغتها ... بأبي الحسين وناده تمويلا )
( وإذا سعدت بنظرة من وجهه ... أهد السلام لكفه تقبيلا )
( واذكر له شوقي وشكري مجملا ... ولو استطعت شرحته تفصيلا )
( بتحية تهدى إليه كأنما ... جرت على زهر الرياض ذيولا )
وفي باب اليهود بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد
( لقد أطلعوا عند باب اليهود ... بدرا أبي الحسن أن يكسفا )
( تراه اليهود على بابها ... أميرا فتحسبه يوسفا )
واستقبحوا قولهم باب اليهود فقالوا باب الهدى وسنذكر قرطبة والزهراء والزاهرة ومسجدها في الباب المنفرد بها إن شاء الله تعالى وكذلك القنطرة

إشبيلية وإقليمها
ومن أعظم مدن الأندلس

الهواء وحسن المباني ونهرها الاعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر وفيه يقول ابن سفر
( شق النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطيه يطلب ثاره
( فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزءا فضم من الحياء إزاره )
وقيل لأحد من رأى مصر والشام ايهما رأيت أحسن أهذان أم إشبيلية فقال بعد تفضيل إشبيلية شرفها غابة بلا أسد ونهرها نيل بلا تمساح انتهى
ويقال إن الذي بنى إشبيلية اسمه يوليش وإنه أول من سمي قيصر وإنه لما دخل الأندلس أعجب بساحاتها وطيب أرضها وجبلها المعروف بالشرف فردم على النهر الأعظم مكانا وأقام فيه المدينة وأحدق عليها بأسوار من صخر صلد وبنى في وسط المدينة قصبتين بديعتي الشأن تعرفان بالأخوين وجعلها أم قواعد الأندلس واشتق لها اسما من رومية ومن اسمه فسماها رومية يوليش انتهى
وقد تقدم شيء من هذا
وكان الأولون من ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة من بلاد الأندلس إشبيلية وقرطبة وقرمونة وطليطلة ويقسمون أزمانهم على

وأما شرف إشبيلية فهو شريف البقعة كريم التربة دائم الخضرة فرسخ في فرسخ طولا وعرضا لا تكاد تشمس فيه بقعة لالتفاف زيتونه
واعلم أن إشبيلية لها كور جليلة ومدن كثيرة وحصون شريفة وهي من الكور المجندة نزلها جند حمص ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق وانتهت جباية إشبيلية أيام الحكم بن هشام إلى خمسة وثلاثين ألف دينار ومائة دينار
وفي إقليم طالقة من أقاليم إشبيلية وجدت صورة جارية من مرمر معها صبي وكأن حية تريده لم يسمع في الأخبار ولا رئي في الآثار صورة أبدع منها جعلت في بعض الحمامات وتعشقها جماعة من العوام
وفي كورة ماردة حصن شنت أفرج في غاية الارتفاع لا يعلوه طائر البتة لا نسر ولا غيره
ومن عجائب الأندلس البلاط الأوسط من مسجد جامع أقليش فإن طول كل جائزة منه مائة شبر وأحد عشر شبرا وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف
وقال بعض من وصف إشبيلية إنها مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة وعليه جسر مربوط بالسفن وبها أسواق قائمة وتجارات رابحة وأهلها ذوو أموال عظيمة وأكثر متاجرهم الزيت وهو

يشتمل على كثير من إقليم الشرف وإقليم الشرف على تل عال من تراب أحمر مسافته أربعون ميلا في مثلها يمشي بها السائر في ظل الزيتون والتين ولها فيما ذكر بعض الناس قرى كثيرة وكل قرية عامرة بالأسواق والديار الحسنة والحمامات وغيرها من المرافق
وقال صاحب مناهج الفكر عند ذكر إشبيلية وهذه المدينة من أحسن مدن الدنيا وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة ويعينهم على ذلك واديها الفرج وناديها البهج وهذا الوادي يأتيها من قرطبة ويجزر في كل يوم ولها جبل الشرف وهو تراب أحمر طوله من الشمال إلى الجنوب أربعون ميلا وعرضه من المشرق إلى المغرب اثنا عشر ميلا يشتمل على مائتين وعشرين قرية قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت انتهى

شهرة باجة وجبل طارق
ولكورة باجة من الكور الغربية التي كانت من أعمال إشبيلية أيام بني عباد خاصية في دباغة الأديم وصناعة الكتان وفيها معدن فضة وبها ولد المعتمد بن عباد وهي متصلة بكورة ماردة
ولجبل طارق حوز قصب السبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير

إذ كان أول ما حل به مع المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح ولذا شهر بجبل الفتح وهو مقابل الجزيرة الخضراء وقد تجون البحر هنالك مستديرا حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء وفيه يقول مطرف شاعر غرناطة
( وأقود قد ألقى على البحر متنه ... فأصبح عن قود الجبال بمعزل )
( يعرض نحو الأفق وجها كأنما ... تراقب عيناه كواكب منزل )
وإذا أقبل عليه المسافرون من جهة سبتة في البحر بان كأنه سرج قال أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة فقال والدي أجز
( انظر إلى جبل الفتح ... راكبا متن لج )
فقلت
( وقد تفتح مثل الأفنان ... في شكل سرج )
وأما جزيرة طريف فليست بجزيرة وإنما سميت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة الخضراء وطريف المنسوبة إليه بربري من موالي موسى بن نصير ويقال إن موسى بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين وبعده دخل طارق

كورة طليطلة وما تشتهر به
ومن أعظم كور الأندلس كورة طليطلة وهي من متوسط الأندلس وكانت دار مملكة بني ذي النون من ملوك الطوائف وكان ابتداء ملكهم صدر المائة الخامسة وسماها قيصر بلسانه بزليطة وتأويل ذلك أنت فارح فعربتها العرب وقالت طليطلة وكانوا يسمونها وجهاتها في دولة بني أمية بالثغر الأدنى ويسمون سرقسطة وجهاتها بالثغر الأعلى وتسمى طليطلة مدينة الأملاك لأنها فيما يقال ملكها اثنان وسبعون إنسانا ودخلها سليمان بن داود عليهما السلام وعيسى بن مريم وذو القرنين وفيها وجد طارق مائدة سليمان وكانت من ذخائر اشبان ملك الروم الذي بنى إشبيلية أخذها من بيت المقدس كما مر وقومت هذه المائدة عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار وقيل إنها كانت من زمرد أخضر ويقال إنها الآن برومة والله أعلم بذلك
ووجد طارق بطليطلة ذخائر عظيمة منها مائة وسبعون تاجا من الدر والياقوت والأحجار النفيسة وإيوان ممتلىء من أواني الذهب والفضة وهو كبير حتى قيل إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه وقد قيل إن أواني المائدة من الذهب وصحافها من اليشم والجزع وذكروا فيها غير هذا مما لا يكاد يصدقه الناظر فيه
وبطليطلة بساتين محدقة وأنهار مخترقة ورياض وجنان وفواكه حسان مختلفة الطعوم

وضياع بديعة وقلاع منيعة وبالجملة فمحاسنها كثيرة ولعلنا نلم ببعض متنزهاتها فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى
وطليطلة قاعدة ملك القوطين وهي مطلة على نهر تاجه وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها وكانت على قوس واحد تكنفه فرختان من كل جانب وطول القنطرة ثلاثمائة باع وعرضها ثمانون باعا وخربت أيام الأمير محمد لما عصى عليه أهلها فغزاهم واحتال في هدمها وفي ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس
( أضحت طليطلة معطلة ... من أهلها في قبضة الصقر )
( تركت بلا أهل تؤهلها ... مهجورة الاكناف كالقبر )
( ما كان يبقي الله قنطرة ... نصبت لحمل كتائب الكفر )
وسيأتي بعض أخبار طليطلة

مدينة المرية وما تشتهر به
ومن مشهور مدن الأندلس وهي على ساحل البحر ولها القلعة المنيعة المعروفة بقلعة خيران بناها عبد الرحمن الناصر وعظمت في دولة المنصور بن أبي عامر وولى عليها مولاه خيران فنسبت القلعة إليه وبها من صنعه الديباج ما تفوق به على سائر البلاد وفيها دار الصناعة وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام ومن

عقاب من حجر قديم عجيب المنظر
وقال بعضهم كان بالمرية لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول ولللأسقاطون كذلك وللثياب الجرجانية كذلك وللأصفهانية مثل ذلك وللعنابي والمعاجر المدهشة والستور المكللة ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسنا وساحلها أفضل السواحل وبها قصور الملوك القديمة الغريبة العجيبة وقد ألف فيها أبو جعفر ابن خاتمة تاريخا حافلا سماه ب مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية في مجلد ضخم تركته من جملة كتبي بالمغرب والله سبحانه المسؤول في جمع الشمل فله الأمر من بعد ومن قبل
ووادي المرية طوله أربعون ميلا في مثلها كلها بساتين بهجة وجنات نضرة وأنهار مطردة وطيور مغردة
قال بعضهم ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالا من أهل المرية ولا أعظم متاجر وذخائر وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف وهي بين الجبلين بينهما خندق معمور وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة وعلى الآخر ربضها والسور محيط بالمدينة والربض وغربيها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة وأحجار اولية وكأنما غربلت أرضها من

شنترة وخواصها
وقال ابن اليسع عند ذكره مدينة شنترة إن من خواصها أن القمح والشعير يزرعان فيها ويحصدان عند مضي أربعين يوما من زراعته وإن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر قال لي أبو عبد الله الباكوري وكان ثقة أبصرت عند المعتمد بن عباد رجلا من أهل شنترة أهدى إليه أربعا من التفاح ما يقل الحامل على رأسه غيرها دور كل واحدة خمسة أشبار وذكر الرجل أن المعتاد عندهم أقل من هذا فإذا أرادوا أن يجيء بهذا العظم قطعوا أصلها وأبقوا منه عشرا أو أقل وجعلوا تحتها دعامات من الخشب انتهى
شنش وسهيل وتدمير
وبحصن شنش على مرحلة من المرية التوت الكثير وفيها الحرير والقرمز ويعرف واديها بوادي طبرنش
وبغربي مالقة عمل سهيل وهو عمل عظيم كثير الضياع وفيه جبل سهيل لا يرى نجم سهيل بالاندلس إلا منه
ومن كور الأندلس الشرقية تدمير وتسمى مصر أيضا لكثرة شبهها بها لأن لها أرضا يسيح عليها نهر في وقت بخصوص من السنة ثم ينضب عنها فتزرع كما تزرع أرض مصر وصارت القصبة بعد تدمير مرسية وتسمى البستان

أقاليم الأندلس وكور كل إقليم
واعلم أن جزيرة الأندلس أعادها الله للإسلام مشتملة على موسطة وشرق وغرب
فالموسطة فيها من القواعد الممصرة التي كل مدينة منها مملكة مستقلة لها أعمال ضخام وأقطار متسعة قرطبة وطليطلة وجيان وغرناطة والمرية ومالقة فمن أعمال قرطبة إستجة وبلكونة وقبرة ورندة وغافق والمدور وأسطبة وبيانة واليسانة والقصير وغيرها ومن أعمال طليطلة وادي الحجارة وقلعة رباح وطلمنكة وغيرها ومن أعمال جيان أبذة وبياسة وقسطلة وغيرها ومن أعمال غرناطة وادي آش

ومن أعمال المرية أندرش وغيرها ومن أعمال مالقة بلش والحامة وغيرهما وببلش من الفواكه ما بمالقة وبالحامة العين الحارة على ضفة واديها
وأما شرق الأندلس ففيه من القواعد مرسية وبلنسية ودانية والسهلة والثغر الاعلى فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك ومن أعمال بلنسية شاطبة ويضرب بحسنها المثل ويعمل بها الورق الذي لا نظير له وجزيرة شقر وغير ذلك وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال وأما السهلة فإنها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة ولذا عدها بعضهم من كور الثغر الأعلى ولها مدن وحصون ومن أعمال الثغر الأعلى سرقسطة وهي أم ذلك الثغر وكورة لإرادة وقلعة رباح وتسمى بالبيضاء وكورة تطيلة ومدينتها طرسونة وكورة وشقة ومدينتها تمريط وكورة مدينة سالم وكورة قلعة أيوب ومدينتها مليانة

وأما غرب الأندلس ففيه إشبيلية وماردة وأشبونة وشلب فمن أعمال إشبيلية شريش والخضراء ولبلة وغيرها ومن أعمال ماردة بطليوس ويابرة وغيرهما ومن أعمال أشبونة شنترين وغيرها ومن أعمال شلب شنت مرية وغيرها

الجزر البحرية
وأما الجزر البحرية بالأندلس فمنها جزيرة قادس وهي من أعمال إشبيلية وقال ابن سعيد إنها من كورة شريش ولا منافاة لأن شريشا من أعمال إشبيلية كما مر قال وبيد صنم قادس مفتاح ولما ثار بقادس ابن أخت القائد أبي عبد الله بن ميمون وهو علي بن عيسى قائد البحر بها ظن أن تحت الصنم مالا فهدمه فلم يجد شيئا انتهى
وهي أعني جزيرة قادس في البحر المحيط وفي المحيط الجزائر الخالدات السبع وهي غربي مدينة سلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجو من الأبخرة الغليظة وفيها سبة أصنام على أمثال الآدميين تشير أن لا عبور ولا مسلك وراءها وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى أولها جزيرة برطانية وهي بوسط البحر المحيك بأقصى شمال الأندلس ولا جبال فيها ولا عيون وإنما يشربون من ماء المطر ويزرعون عليه
قال ابن

كثير السمك ومنها يحمل مملحا إلى إشبيلية وهي من كورة لبلة مضافة إلى عمل أونبة انتهى

قرطاجنة وخواصها
وقال بعضهم لما أجرى ذكر قرطاجنة من بلاد الأندلس إن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة وبها أقواس من الحجارة المقربصة وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات ما يحير البصر والبصيرة ومن أعجب بنائها الدواميس وهي أربعة وعشرون على صف واحد من حجارة مقربصة طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ستين خطوة وارتفاع كل واحد أكثر من مائتي ذراع بين كا داموسين أنقاب محكمة تتصل فيها المياه من بعضها إلى بعض في العلو الشاهق بهندسة عجيبة وإحكام بديع انتهى
قلت أظن هذا غلظا فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة إفريقية لا قرطاجنة الأندلس والله أعلم
وقال صاحب مناهج الفكر عندما ذكر قرطاجنة وهي على البحر الرومي مدينة قديمة بقي منها آثار

معمور بالقرى انتهى
وذكر قبل ذلك في لورقة أن بناحيتها يوجد حجر اللازورد
وفي البحر الشامي الخارج من المحيط جزيرتا ميورقة ومنورقة وبينهما خمسون ميلا وجزيرة ميورقة مسافة يوم بها مدينة حسنة وتدخلها ساقية جارية على الدوام وفيها يقول ابن اللبانة
( بلد أعارته الحمامة طوقها ... وكساه حلة ريشه الطاووس )
( فكأنما الأنهار فيه مدامة ... وكأن ساحات الديار كؤوس )
وقال يخاطب ملكها ذلك الوقت
( وغمرت بالإحسان أرض ميورقة ... وبنيت ما لم يبنه الإسكندر )
وجزيرة يابسة
واستقصاء ما يتعلق بهذا الفصل يطول ولو تتبع لكان تأليفا مستقلا وما

( إن للجنة بالأندلس ... مجتلى حسن وريا نفس )
( فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس )
( وإذا ما هبت الريح صبا ... صحت واشوقي إلى الأندلس )
وقال بعضهم في طليطلة
( زادت طليطلة على ما حدثوا ... بلد عليه نضرة ونعيم )
( الله زينه فوشح خصره ... نهر المجرة والغصون نجوم )

رسالة أبي البحر في تغاير مدن الأندلس
ولا حرج إن أوردنا هنا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي فإنه مناسب ونصه مولاي أمتع الله ببقائك الزمان وأبناءه كما ضم على حبك أحناءهم وأحناءه ووصل لك ما شئت من اليمن والأمان كما نظم قلائد فخرك على لبة الدهر نظم الجمان فإنك الملك الهمام والقمر التمام أيامك غرر وحجول وفرند بهائها في صفحات الدهر يجول ألبست الرعية برود التأمين فتنافست فيك من نفيس ثمين وتلقت دعوات خلدك لها باليمين فكم للناس من أمن بك وإيناس وللأيام من لوعة فيك وهيام وللأقطار من لبانات لديك وأوطار وللبلاد من قراع لها على تملكك لها وجلاد يتمنون شخصك الكريم على الله ويقترحون ويغتبقون في رياض ذكرك العاطر بمدام حبك ويصطحبون ( كل حزب بما لديهم فرحون ) الروم 32 محبة من الله ألقاها لك حتى على الجماد

مؤزرا تنطق به ألسنة السيوف على أفواه الأغماد ومن أسر سريرة ألبسه الله رداءها ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل إعادتها وإبداءها ومن قدم صالحا فلا بد أن يوازيه ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه ولما تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار وطال بها الوقوف على حبك والاقتصار كلها يفصح قولا ويقول أنا أحق وأولى ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي ويتلو إذا بشر بك ( ذلك ما كنا نبغ ) الكهف 64 تنمرت حمص غيظا وكادت تفيض فيضا وقالت ما لهم يزيدون وينقصون ويطمعون ويحرصون ( إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون ) يونس 66 لي السهم الأسد والساعد الأشد والنهر الذي يتعاقب عليه الجزر والمد أنا مصر الأندلس والنيل نهري وسماء التأنس والنجوم زهري إن تجاريتم في ذلك الشرف فحسبي أن أفيض في ذكر الشرف وإن تبجحتم بأشرف اللبوس فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس لي ما شئت من أبنيه رحاب وروض يستغني بنضرته عن السحاب قد ملأت زهراتي وهادا ونجادا وتوشح سيف نهري بحدائقي نجادا فأنا أولاكم بسيدنا الهمام وأحق ( الآن حصحص الحق ) يوسف 51
فنظرتها قرطبة

الأصم بزرا كلام العدى ضرب من الهذيان وأنى للإيضاح والبيان متى استحال المستقبح مستحسنا ومن أودع أجفان المهجور وسنا ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ) فاطر 8 يا عجبا للمراكز تقدم على الأسنة وللأثفار تفضل على الإعنة إن ادعيتم سبقا فما عند الله خير وأبقى لي البيت المطهر الشريف والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف في بقيعي محل الرجال الأفاضل فليرغم أنف المناضل وفي جامعي مشاهد ليلة القدر فحسبي من نباهة القدر فما لأحد أن يستأثر علي بهذا السيد الأعلى ولا أرتضي له أن يوطىء غير ترابي نعلا فأقروا لي بالأبوة وانقادوا على حكم النبوة ( ولا تكونوا كالتي نقضت نقضت غزرها من بعد قوة ) وكفوا عن تباريكم ( ذلكم خير لكم عند بارئكم )
فقالت غرناطة لي المعقل الذي يمتنع ساكنه من النجوم ولا تجري إلا تحته جياد الغيم السجوم فلا يلحقني من معاند ضرر ولا حيف ولا يهتدي إلي خيال طارق ولا طيف فاستسلموا قولا وفعلا فقد أفلح اليوم من استعلى لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكا واطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكا ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق وبرد نسيم يرد ذ ماء المستجير بالانتشاق فحسبي لا يطمع فيه ولا يحتال فدعوني فكل ذات ذيل تختال فأنا أولى بهذا السيد الأعدل وما لي به من عوض ولا بدل ولم لا يعطف علي

( بلاد بها عق الشباب تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها )
فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون وتتأخرون في ميداني وتتقدمون تبرأوا إلي مما تزعمون ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ) التوبة 41
فقالت مالقة أتتركوني بينكم هملا ولم تعطوني في سيدنا أملا ولم ولي البحر العجاج والسبل الفجاج والجنات الأثيرة والفاكهة الكثيرة لدي من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل فما لي لا أعطي في ناديكم كلاما ولا انشر في جيش فخاركم أعلاما
فكأن الأمصار نظرتها ازدراء فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراء لأنها موطن لا يحلى منه بطائل ونظن البلاد تأولت فيها قول القائل
( إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فخير من إجابته السكوت )
فقالت مرسية أمامي تتعاطون الفخر وبحضرة الدر تنفقون الصخر إن عدت المفاخر فلي منها الأول والآخر أين أوشالكم من بحري وخرزكم من لؤلؤ نحري وجعجعتكم من نفثات سحري فلي الروض النضير والمرأى الذي ما له من نظير وزنقاتي التي سار مثلها في الآفاق وتبرقع وجه جمالها بغرة الإصفاق فمن دوحات كم لها من بكور وروحات ومن أرجاء إليها تمد أيدي الرجاء فأبنائي فيها في الجنة الدنيوية مودعون يتنعمون فيما يأخذون ويدعون ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدعون فانقادوا لأمري وحاذروا اصطلاء جمري وخلوا

بيني وبين سيدنا أبي زيد وإلا ضربتكم ضرب زيد فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) فصلت 35
فقالت بلنسية فيم الجدال والقراع وعلام الاستهام والاقتراع وإلام التعريض والتصريح وتحت الرغوة اللبن الصريح أنا أحوزه من دونكم فأخمدوا ناري تحرككم وهدونكم فلي المحاسن الشامخة الأعلام والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام فأجمعوا على الانقياد لي والسلام وإلا فعضوا بنانا واقرعوا أسنانا فأنا حيث لا تدركون وأنى ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منا
فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشرار واستدت أسهمها لنحور الشرار وقالت عش رجبا تر عجبا أبعد العصيان والعقوق تتهيئين لرتب ذوي الحقوق هذه سماء الفخر فمن ضمك أن تعرجي ليس بعشك فادرجي لك الوصب والخبل ( آلآن وقد عصيت قبل ) يونس 91 أيتها الصانعة الفاعلة من أداك أن تطري وما أنت ناعلة ما الذي يجديك الروض والزهر أم ما يفيدك الجدول والنهر وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر هل أنت إلا محط رحل النفاق

لسوق الخصب فيه من نفاق ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع فإلام تبرز الإماء في منصة العقائل ولكن اذكري قول القائل
( بلنسية بيني عن القلب سلوة ... فإنك روض لا أحن لزهرك )
( وكيف يحب المرء دارا تقسمت ... على صارمي جوع وفتنة مشرك )
بيد أني أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد ويسيل من تسديدك ما جمد ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد وإياه سبحانه نسأل أن يرد سيدنا ومولانا إلى أفضل عوائده ويجعل مصائب أعدائه من فوائده ويمكن حسامه من رقاب المشغبين ويبقيه وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويصل له تأييدا وتأبيدا ويمهد له الأيام حتى تكون الأحرار لعبيد عبيده عبيدا ويمد على الدنيا بساط سعده ويهبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده
( آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا )
ثم السلام الذي يتأنق عبقا ونشرا ويتألق رونقا وبشرا على حضرتهم العلية ومطالع أنوارهم الجلية ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى

عود إلى ذكر غرناطة
ولما ألم الرحالة ابن بطوطة في رحلته بدخوله

الله تعالى للإسلام قال فوصلت إلى بلاد الأندلس حرسها الله تعالى حيث الأجر موفور للساكن والثواب مذخور للمقيم والظاعن إلى أن قال عند ذكره غرناطة ما نصه قاعدة بلاد الأندلس وعروس مدنها وخارجها لا نظير له في الدنيا وهو مسيرة أربعين ميلا يخترقه نهر شنيل المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنات الرياضات والقصوروالكروم محدقة بها من كل جهة ومن عجيب مواضعها عين الدمع وهو جبل فيه الرياضات والبساتين لا مثل له بسواها انتهى
وقال الشقندي غرناطة دمشق بلاد الأندلس ومسرح الأبصار ومطمح الأنفس ولم تخل من أشراف أماثل وعلماء أكابر وشعراء أفاضل ولو لم يكن بها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها النساء الشواعر كنزهون القلعية والركونية وغيرهما وناهيك بهما في الظرف والأدب انتهى
ولبعضهم يتشوق إلى غرناطة فيما ذكر بعض المؤرخين والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مر والله أعلم
( أغرناطة الغراء هل لي أوبة ... إليك وهل يدنو لنا ذلك العهد )
( سقى الجانب الغربي منك غمائم ... وقعقع في ساحات روضتك الرعد )
( لياليك أسحار وأرضك جنة ... وتربك في استنشاقها عنبر ورد )
وقال

( رعى الله بالحمراء عيشا قطعته ... ذهبت به للأنس والليل قد ذهب )
( ترى الأرض منها فضة فإذا اكتسبت ... بشمس الضحى عادت سبيكتها ذهب )
وهو القائل
( لا تظنوا أن شوقي خمدا ... بعدكم أو أن دمعي جمدا )
( كيف أسلوا عن أناس مثلهم ... قل أن تبصر عيني أحدا )
وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس وتسمى بدمشق الأندلس لأنها أشبه شيء بها ويشقها نهر حدره ويطل عليها الجبل المسمى بشلير الذي لا يزول الثلج عنه شتاء وصيفا ويجمد عليه حتى يصير كالحجر الصلد وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة وأجناس الأفاوية الرفعية ونزل بها أهل دمشق لما جاءوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور وقرى غرناطة فيما ذكر بعض المتأخرين مائتان وسبعون قرية
وقال ابن جزي مرتب رحلة ابن بطوطة بعد ذكره كلامه ما نصه قال ابن جزي لولا خشية أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة فقد وجدت مكانه ولكن ما اشتهر كاشتهارها لا معنى لإطالة القول فيه ولله در شيخنا أبي بكر ابن محمد بن شبرين السبتي نزيل غرناطة حيث يقول
( رعى الله من غرناطة متبوأ ... يسر حزينا أو يجير طريدا )
( تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالثلج عدن جليدا )

( هي الثغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغر لا يكون برودا )
وقال ابن سعيد عندما أجرى ذكر قرية نارجة وهي قرية كبيرة تضاهي المدن قد أحدقت بها البساتين ولها نهر يفتن الناظرين وهي من أعمال مالقة إنه اجتاز مرة عليها مع والده أبي عمران موسى وكان ذلك الزمان صباغة الحرير عندهم وقد ضربوا في بطن الوادي بين مقطعاته خيما وبعضهم يشرب وبعضهم يغني ويطرب وسألوا بم يعرف ذلك الموضع فقالوا الطراز فقال والدي اسم طابق مسماه ولفظ وافق معناه
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل ثم قال اجز
( بنارجة حيث الطراز المنمنم ... ) فقلت
( أقم فوق نهر ثغره يتبسم ... ) فقال
( وسمعك نحو الهاتفات فإنها ... ) فقلت
( لما أبصرت من بهجة تترنم ... ) فقال
( أيا جنة الفردوس لست بآدم ... ) فقلت
( فلا يك حظي من جناك التندم ... ) فقال
( يعز علينا أن نزورك مثل ما ... ) فقلت
( يزور خيال من سليمى مسلم ... ) فقال
( فلو أنني أعطي الخيار لم عدت ... ) فقلت
( محلك لي عين بمرآك تنعم ... ) فقال
( بحيث الصبا

فقلت
( وقت لسع روض فيه للنهر أرقم ... ) فقال
( فوا أسفي إن لم تكن لي عودة ... ) فقلت
( فكن مالكا إني عليك متمم ... ) فقال
( فأحسب هذا آخر العهد بيننا ) فقلت
( وقد يلحظ الرحمن شوقي فيرحم ... ) فقال
( سلام سلام لا يزال مرددا ... ) فقلت
( عليك ولا زالت بك السحب تسجم ... )

بلنسية وبعض قراها
وقال ابن سعيد إن كورة بلنسية من شرق الأندلس تنبت الزعفران وتعرف بمدينة التراب وبها كمثرى تسمى الأرزة في قدر حبة العنب قد جمع مع حلاوة المطعم ذكاء الرائحة إذا دخل دارا عرف بريحه ويقال إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد بالأندلس وبها منازه ومسارح ومن أبدعها وأشهرها الرصافة ومنية ابن أبي عامر
وقال الشرف أبو جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها
( هي الفردوس في الدنيا جمالا

( ضاقت بلنسية بي ... وذاد عني غموضي )
( رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض )
وفيها لابن الزقاق البلنسي
( بلنسية إذا فكرت فيها ... وفي آياتها أسنى البلاد )
( وأعظم شاهدي منها عليها ... وأن جمالها للعين بادي )
( كساها ربها ديباج حسن ... له علمان من بحر ووادي )
وقال ابن سعيد أيضا أنشدني والدي قال أنشدني مروان بن عبد الله ابن عبد العزيز ملك بلنسية لنفسه بمراكش قوله
( كأن بلنسية كاعب ... وملبسها سندس أخضر )
( إذا جئتها سترت نفسها ... بأكمامها فهي لا تظهر )
وأما قول أبي عبد الله بن عياش بلنسية بيني البيتين وقد سبقا فقال ابن سعيد إن ذلك حيث صارت ثغرا يصابحها العدو ويماسيها انتهى
وقال أبو الحسن بن حريق يجاوب ابن عياش
( بلنسية قرارة كل حسن ... حديث صح في شرق وغرب

( فإن قالوا محل غلاء سعر ... ومسقط ديمتي طعن وضرب )
( فقل هي جنة حفت رباها ... بمكروهين من جوع وحرب )
وقال الرصافي في رصافتها
( ولا كالرصافة من منزل ... سقته السحائب صوب الولي )
( أحن إليها ومن لي بها ... وأين السري من الموصلي )
وقال ابن سعيد وبرصافة بلنسية مناظر وبساتين ومياه ولا نعلم في الأندلس ما يسمى بهذا الإسم إلا هذه ورصافة قرطبة انتهى
ومن أعمال بلنسية قرية المنصف التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفي وقبره كان بسبتة يزار رحمه الله تعالى ومن نظمه
( قالت لي النفس أتاك الردى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم )
( فما ادخرت الزاد قلت اقصري ... هل يحمل الزاد لدار الكريم )
ومن عمل بلنسية قرية بطرنة وهي التي كانت فيها الوقيعة المشهورة للنصارى على المسلمين وفيها يقول أبو إسحاق بن معلى الطرسوني
( لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم ... حلل الحرير عليكم ألوانا )
( ما كان أقبحهم وأحسنكم بها ... لو لم يكن ببطرنة ما كانا )
ومن عمل بلنسية متيطة التي نسب إليه جماعة من العلماء والأدباء

ومن عمل بلنسية مدينة أندة التي في جبلها معدن الحديد وأما رندة بالراء فهي في متوسط الأندلس ولها حصن يعرف بأندة أيضا

متفرجات إشبيلية
وفي إشبيلية أعادها الله من المتفرجات والمتنزهات كثير ومن ذلك مدينة طريانة فإنها من مدن إشبيلية ومنتزهاتها وكذلك تيطل فقد ذكر ابن سعيد جزيرة تيطل في المتفرجات
موسى بن سعيد يأبى فراق الأندلس
وقال أبو عمران موسى بن سعيد في جوابه لأبي يحيى صاحب سبتة لما استوزره مستنصر بني عبد المؤمن وكتب إلى المذكور يرغبه في النقلة عن الأندلس إلى مراكش ما نص محل الحاجة منه وأما ما ذكر سيدي من التخيير بين ترك الأندلس وبين الوصول إلى حضرة مراكش فكفى الفهم العالي من الإشارة قول القائل
( والعز محمود وملتمس ... وألذة ما نيل في الوطن )
فإذا نلت بك السماء في تلك الحضرة فعلى من أسود فيها ومن ذا أضاهي بها
( لا رقت بي همة إن لم أكن ... فيك قد أملت فوق الأمل )
وبعد هذا فكيف أفارق الأندلس وقد علم سيدي

حباها الله به من اعتدال الهواء وعذوبة لماء وكثافة الأفياء وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرة عين وقرار نفس
( هي الأرض لا ورد لديها مكدر ... ولا ظل مقصور ولا روض مجدب )
أفق صقيل وبساط مدبج وماء سائح وطائر مترنم بليل وكيف يعدل الأديب عن أرض على هذه الصفة فيا سموأل الوفاء ويا حاتم السماح ويا جذيمة الصفاء كمل لمن أملك النعمة بتركه في موطنه غير مكدر لخاطره بالتحرك من معدنه ملتفتا إلى قول القائل
( وسولت لي نفسي أن أفارقها ... والماء في المزن أصفى منه في الغدر )
فإن أغناه اهتمام مؤمله عن ارتياد المراد وبلغه دون أن يشد قتبا ولا أن ينضي عيسا غاية المراد أنشد ناجح المرغوب بالغ المطلوب
( وليس الذي يتبع الوبل رائدا ... كمن جاءه في داره رائد الوبل )
ورب قائل إذا سمع هذا التبسط على الأماني ما له تشطط وعدل عن سبيل التأدب وتبسط ولا جواب عندي إلا قول القائل
( فهذه خطة ما زلت أرقبها ... فاليوم أبسط آمالي وأحتكم )
وما لي لا أنشد ما قاله المتنبي في سيف الدولة
( ومن كنت بحرا له يا علي ... لم يقبل

شريش ومجبناتها
وقال الحجاري إن مدينة شرقين بنت إشبيلية وواديها ابن واديها ما أشبه سعدى بسعيد وهي مدينة جليلة ضخمة الأسواق لأهلها همم وظرف في اللباس وإظهار الرفاهية وتخلق بالآداب ولا تكاد ترى بها إلا عاشقا ومعشوقا ولها من الفواكه ما يعم ويفضل ومما اختصت به إحسان الصنعة في المجبنات وطيب جبنها يعين على ذلك ويقول أهل الأندلس من دخل شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم انتهى
والمجبنات نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها وتقلى بالزيت الطيب
شلب وكورة أكشونبة
وفي شلب يقول الفاضل الكاتب أبو عمرو بن مالك بن سيدمير
( أشجاك النسيم حين يهب ... أم سنى البرق إذ يخب ويخبو )
( أم هتوف على الأراكة تشدو ... أم هتون من الغمامة سكب )
( كل هذاك للصبابة داع ... أي صب دموعه لا تصب )
( أنا لولا النسيم والبرق والورق ... وصوب الغمام ما كنت أصبو )
( ذكرتني شلبا وهيهات مني ... بعدما استحكم التباعد شلب )
وتسمى أعمال شلب كورة أكشونبة وهي متصلة بكورة أشبونة وهي أعني أكشونبة قاعدة جليلة

وبينها وبين قرطبة سبعة أيام ولما صارت لبني عبد المؤمن ملوك مراكش أضافوها إلى كورة إشبيلية وتفتخر شلب بكون ذي الوزارتين ابن عمار منها سامحه الله
ومنها القائد أبو مروان عبد الملك بن بدران وربما قيل ابن بدرون الأديب المشهور شارح قصيدة ابن عبدون التي أولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وهذا الشرح شهير بهذه البلاد المشرقية ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله
( العشق لذته التعنيق والقبل ... كما منغصه التثريب والعذل )
( يا ليت شعري هل يقضى وصالكم ... لولا المنى لم يكن ذا العمر يتصل )
ومنها نحوي زمانه وعلامته أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي فإن شلبا بيضته ومنها كانت حركته ونهضته كنا في الذخيرة وهو القائل
( إذا سألوني عن حالتي ... وحاولت عذرا فلم يمكن )
( أقول بخير ولكنه ... كلام يدور على الألسن )
( وربك يعلم

اشعار في بطليوس وشاطبة وبرجة
وقال الوزير أبو عمرو بن الفلاس يمدح بطليوس بقوله
( بطليوس لا أنساك ما اتصل البعد ... فلله غور في جنابك أو نجد )
( ولله دوحات تحفك بينها ... تفجر واديها كما شقق البرد )
وبنو الفلاس من أعيان حضرة بطليوس وأبو عمرو المذكور أشهرهم وهو من رجال الذخيرة والمسهب رحمه الله تعالى
وفي شاطبة يقول بعضهم
( نعم ملقى الرحل شاطبة ... لفتى طالت به الرحل )
( بلدة أوقاتها سحر ... وصبا في ذيله بلل )
( ونسيم عرفه أرج ... ورياض غصنها ثمل )
( ووجوه كلها غرر ... وكلام كله مثل )
وفي برجة يقول بعضهم
( إذا جئت برجة مستوفزا ... فخذ في المقام وخل السفر )
( فكل مكان بها جنة ... وكل طريق إليها سقر )
وقد تقدم هذان البيتان
رسالة للسان الدين في تفضيل الجهاد على الحج
واعلم أنه لو لم يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد

لكان كافيا ويرحم الله لسان الدين بن الخطيب حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارة إلى بعض ذلك ما نصه من أمير المسلمين فلان إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا وصل الله له سعادة تجذبه وعناية إليه تقربه وقبولا منه يدعوه إلى خير ما عند الله ويندبه سلام كريم عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله المرشد المثيب السميع المجيب معود اللطف الخفي والصنع العجيب المتكفل بإنجاز وعد النصر العزيز والفتح القريب والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله ذي القدر الرفيع والعز المنيع والجناب الرحيب الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبدة الصليب ونستظهر منه على العدو بالحبيب ونعده عدتنا لليوم العصيب والرضا عن آله وصحبه الذين فازوا من مشاهدته بأوفى النصيب ورموا إلى هدف مرضاته بالسهم المصيب فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لكم عملا صالحا يختم الجهاد صحائف بره وتتمحض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره وجعلكم ممن تنهى في الأرض التي فتح فيها أبواب الجنة حصة عمره من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى ولطف الله هامي السحاب وصنعه رائق الجناب والله يصل لنا ولكم ما عوده من صلة لطفه عند انبتات الأسباب وإلى هذا ايها المولى الذي هو بركة المغرب المشار إليه بالبنان وواحدة في رفعة الشان المؤثر ما عند الله على الزخرف الفتان المتقلل من المتاع الفان المستشرف إلى مقام العرفان من درج الإسلام والإيمان والاحسان فإننا لما نؤثره من بركم الذي نعده من الأمر الأكيد ونضمره من ودكم الذي نحله محل الكنز العتيد ونلتمسه من دعائكم التماس العدة والعديد

عن أحوالكم التي ترقت في أطوار السعادة ووصلت جناب الحق بهجر العادة وألقت إلى يد التسليم لله والتوكل عليه بالمقادة فنسر بما هيأ الله تعال لكم من القبول وبلغكم من المأمول وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول والفوز بما لديه والحصول وعندما رد الله تعالى علينا ملكنا الرد الجميل وأنالنا فضله الجزيل وكان لعثارنا المقيل خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا ومحلكم من حسن اعتقادنا ووجهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا والله ينفعنا بجميل الظن في دينكم المتين وفضلكم المبين ويجمع الشمل بكم في الجهاد عن الدين وتعرفنا الآن ممن له بأنبائكم اعتناء وعلى جلالكم حمد وثناء ولجناب ودكم اعتزاء وانتماء بتجاول عزمكم بين حج مبرور ترغبون من أجره في ازدياد وتجددون العهد منه بأليف اعتياد وبين رباط في سبيل الله وجهاد وتوثير مهاد بين ربي أثيرة عند الله ووهاد يحشر ويوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين فرحين بما آتاهم الله من فضله والله أصدق القائلين الصاديقين حيث لا غارة لغير عدو الإسلام تتقى إلا لابتغاء ما لدى الله ترتقى حيث رحمة الله قد فتحت ابوابها وحور الجنان قد زينت أترابها دار العرب الذين قرعوا باب الفتح وفازوا بجزيل المنح وخلدوا الآثار وأرغموا الكفار وأقالوا العثار وأخذوا الثار وأمنوا من لفح جهنم بما علا وجوههم من ذلك الغبار فكتبنا إليكم هذا نقوي بصيرتكم على جهة الجهاد من العزمين ونهيب بكم إلى إحدى الحسنيين والصبح غير خاف على ذي عينين والفضل ظاهر لإحدى المنزلتين فإنكم إذا حججتم أعدتم فرضا أديتموه وفضلا ارتديتموه فائدته عليكم مقصورة

حسناتكم عملا غريبا واستأنفتم سعيا من الله قريبا وتعدت المنفعة إلى ألوف من النفوس المستشعرة لباس البوس ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا وأعنة الاستدلال أرسلنا هذا لو قدمتم على هذا الوطن وفضلكم غفل من الاشتهار ومن به لا يوجب لكم ترفيع المقدار فكيف وفضلكم أشهر من محيا النهار ولقاؤكم أشهى الأمال وآثر الأوطار فإن قوي عزمكم والله يقويه ويعيننا من بركم على ما ننويه فالبلاد بلادكم وما فيها طريفكم وتلادكم وكهولها إخوانكم وأحداثها أولادكم ونرجو أن تجدوا لذكركم الله في رباها حلاوة زائدة ولا تعدموا من روح الله فيها فائدة وتتكيف نفسكم فيها تكيفات تقصر عنها خلوات السلوك إلى ملك الملوك حتى تعتبطوا بفضل الله الذي يوليكم وتروا أثر رحمته فيكم وتخلفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في قبيلكم وبينكم وتختموا العمر الطيب بالجهاد الذي يعليكم ومن الله تعالى يدنيكم فنبيكم العربي صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة والملاحم ومعمل الصوارم وبجهاد الفرنج ختم عمل جهاده والاعمال بالخواتم هذا على بعد بلادهم من بلاده وأنتم أحق الناس باقتفاء جهاده والاستباق إلى آماده هذا ما عندنا حثثناكم عليه وندبناكم إليه وأنتم في إيثار هذا الجوار ومقارضة ما عندنا بقدومكم على بلادنا من الاستبشار بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار وتصريف الليل والنهار وتقليب القلوب وإجالة الأفكار وإذا تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار والدار الآخرة دار القرار وخير الأعمال عمل أوصل إلى الجنة وباعد من النار ولتعلموا أن نفوس أهل الكشف والاطلاع بهذه الأرجاء والأصقاع قد اتفقت أخبارها واتحدت أسرارها على البشارة بفتح قرب أوانه وأظل زمانه فنرجو الله

ويكرم فيه مسعاه ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله ويرعاه والسلام الكريم يخصكم ورحمة الله وبركاته انتهى

تشبيه الأندلس بالعقاب
ولم دخل الأندلس أمير المسلمين علي ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشقين اللمتوني ملك المغرب والأندلس وامعن النظر فيها وتأمل وصفها وحالها قال إنها تشبه عقابا مخالبه طليطلة وصدره قلعة رباح ورأسه جيان ومنقاره غرناطة وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق في خبر طويل لم يحضرني الآن إذ تركته مع كتبي بالمغرب جمعني الله بها على أحسن الأحوال
المخزومي الأعمى ونزهون الغرناطية
ومع كون أهل الأندلس سباق حلبة الجهاد معطعين إلى داعية من الجبال والوهاد فكان لهم في الترف والنعيم والمجون ومداراة الشعراء خوف الهجاء محل وثير المهاد وسيأتي في الباب السابع من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي ولكن سنح لي أن أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزومي الهجاء المشهور الذي قال فيه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة إنه كان أعمى شديد الشر معروفا بالهجاء مسلطا على الأعراض سريع الجواب ذكي الذهن فطنا للمعاريض سابقا في ميدان الهجاء فإذا مدح ضعف شعره والحكاية هي ما حكاه أبو الحسن ابن سعيد في الطالع السعيد إذ قال حكاية عن أبيه فيما أظن قدم المذكور يعني المخزومي على غرناطة أيام ولاية أبي بكر

ونزل قريبا مني وكنت أسمع به بنار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده ثم رأيت أن أبدأه بالتأنيس والإحسان فاستدعيته بهذه الأبيات
( يا ثانيا للمعري ... في حسن نظم ونثر )
( وفرط ظرف ونبل ... وغوص فهم وفكر )
( صل ثم واصل حفيا ... بكل بر وشكر )
( وليس إلا حديث ... كما وهي عقد در )
( وشادن يتغنى ... على رباب وزمر )
( وما يسامح فيه الغفور ... من كأس خمر )
( وبيننا عهد حلف ... لياسر حلف كفر )
( نعم فجدده عهدا ... بطيب سكر ويسر )
( والكأس مثل رضاع ... ومن كمثلك يدري )
ووجه له الوزير أبو بكر ابن سعيد عبدا صغيرا قاده فلما استقر به المجلس وأفعمته روائح الند والعود والأزهار وهزت عطفه الأوتار قال
( دار السعيدي ذي أم دار رضوان ... ما تشتهي النفس فيها حاضر داني )
( سقت أباريقها للند سحب ندى ... تحدى برعد لأوتار وعيدان )
( والبرق من كل دن ساكب مطرا ... يحيا به ميت أفكار وأشجان )
( هذا النعيم الذي كن نحدثه ... ولا سبيل له إلا بآذان )
فقال له أبو بكر ابن سعيد وإلى

يبعث الله ولد زنى كلما أنشدت هذه الأبيات قال إن قائلها أعمى فقال أما أنا فما أنطق بحرف فقال من صمت نجا وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرة فقالت وتراك يا استاذ قديم النعمة بمجمر ند وغناء وشراب فتعجب من تأتيه وتشبهه بنعيم الجنة وتقول ما كان يعلم إلا بالسماع ولا يبلغ إليه بالعيان ولكن من يجيء من حصن المدور وينشأ بين تيوس وبقر من أين له معرفة بمجالس النعيم فلما استوفت كلامها تنحنح الإعمى فقالت له ذبحة فقال من هذه الفاضلة فقالت عجوز مقام أمك فقال كذبت ما هذا صوت عجوز إنماهذه نغمة قحبة محترقة تشم روائح هنها على فرسخ فقال له ابو بكر يا أستاذ هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرة الأديبة فقال سمعت بها لا أسمعها الله خيرا ولا أراها إلا ايرا فقالت له يا شيخ سوء تناقضت وأي خير للمرأة مثل ما ذكرت ففكر ساعة ثم قال
( على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وإن كان قد أمسى من الضوء عاريا )
( قواصد نزهون توارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل السواقيا )
فأعملت فكرها ثم قالت
( قل للوضيع مقالا ... يتلى إلى حين يحشر )
( من المدور أنشت ... والخرا منه أعطر )
( حيث البداوة أمست ... في مشيها تتبختر )
( لذاك أمسيت صبا ... بكل شيء مدور )
( خلقت أعمى ولكن ... تهيم في كل أعور

( إن كنت في الخلق أنثى ... فإن شعري مذكر )
فقال لها اسمعي
( ألا قل لنزهونة ما لها ... تجر من التيه أذيالها )
( ولو أبصرت فيشة شمرت ... كما عودتني سربالها )
فحلف ابو بكر ابن سعيد أن لا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه كلمة فقال المخزومي أكون هجاء الأندلس واكف عنها دون شيء فقال أنا أشتري منك عرضها فاطلب فقال بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك فإنه لين اليد رقيق المشي فقال أبو بكر لولا كونه صغيرا كنت أبلغك به مرادك وأهبه لك ففهم قصده وقال اصبر عليه حتى يكبر ولو كان كبيرا ما آثرتني به على نفسك فضحك أبو بكر وقال إن لم تهج نظما هجوت نثرا فقال ايها الوزير لا تبديل لخلق الله وانفصل المخزومي بالعبد بعدما أصلح الوزير بينه وبين نزهون انتهى
وفي كتاب الدر المنضد في وفيات أعيان أمة محمد تأليف الأمير صارم الدين إبراهيم بن دقماق قال ابو القاسم بن خلف كان يعني المخزومي المذكور حيا بعد الأربعين وخمسمائة انتهى

قصة استطرادية
ونقلت من كتاب قطب السرور

وممن ادركته وعاشرته عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب وذكرته هنا لأنه ملحق بالأمراء المتقدمين غير خارج منهم ولا مقصر عنهم بل كان واحد عصره في الغناء الرائق والادب الرائع والشعر الرقيق واللفظ الأنيق ورقة الطبع وإصابة النادر والتشبيه المصيب والبديهة التي لا يلحق فيها مع شرف النفس وعلو الهمة وكان قد قطع عمره وأفنى دهره في اللهو واللعب والفكاهة والطرب وكان أعلم الناس بضرب العود واختلاف طرائقه وصنعة اللحون وكثيرا ما يقول المعاني اللطيفة في الأبيات الحسنة ويصوغ عليها الألحان المطربة البديعة المعجبة اختراعا منه وحذقا وكانت له في ذلك قريحة وطبع وكان إذا لم يزره أحد من إخوانه أحضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته منهم ولده وعبد الله ابن أخيه وبعض غلمانه وكلهم يغني فيجيد فلا يزالون يغنون بين يديه حتى يطرب فيدعو بالعود ويغني لنفسه ولهم وكان بشارة الزامر الذي يزمر عليه من حذاق زمرة المشرق وكان بعيد الهمة سمحا بما يجد تغل عليه ضياعه كل عام أموالا جليلة فلا تحول السنة حتى ينفد جميع ذلك ويستسلف غره فكان لا يطرأ من المشرق مغن إلا سأل من يقصد بهذا الشأن فيدل عليه فمن وصله منهم استقبله بصنوف البر والإكرام وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحد من الناس فلا يزال معه في صبوح وغبوق وهو مجدد له كل يوم كرامة حتى يأخذ جميع ما معه من صوت مطرب أو حكاية نادرة
وجلس يوما وقد زاره رجلان من إخوانه وحضر أقرباؤه فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء فارتج المجلس إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال بالباب رجل غريب عليه ثياب السفر ذكر أنه ضيف فأمر بإدخاله فإذا رجل

قال البصرة فرحب به وأمره بالجلوس فجلس مع الغلمان في صفة وأتي بطعام فأكل وسقي أقداحا ودار الغناء في المجلس حتى انتهى إلى آخرهم فلما سكتوا اندفع يغني بصوت ندي وطبع حسن
( الا يا دار ما الهجر ... لسكانك من شاني )
( سقيت الغيث من دار ... وإن هيجت أشجاني )
( ولو شئت لما استسقيت ... غيثا غير أجفاني )
( بنفسي حل أهلوك ... وغن بانوا بسلواني )
( وما الدهر بمأمون ... على تشتيت خلاني )
فطرب عبد الوهاب وصاح وتبين الحذق في إشارته والطيب في طبعه وقال يا غلام خذ بيده إلى الحمام وعجل علي به فأدخل الحمام ونظف ثم دعا عبد الوهاب بخلعة من ثيابه فألقيت عليه ورفعه فأجلسه عن يساره واقبل عليه وبسطه فغنى له
( قومي امزجي التبر باللجين ... واحتملي الرطل باليدين )
( واغتنمي غفلة الليالي ... فربما أيقظت لحين )
( فقد لعمري أقر منا ... هلال شوال كل عين )
( ذات الخلاخيل أبصرته ... كنصف خلخالها اللجيني )
فطرب وشرب واستزاده فغناه
( من لي على رغم الحسود بقهوة ... بكر ربيبة حانة عذراء )
( موج من الذهب المذاب تضمه ... كأس كقشر الدرة البيضاء )
( والنجم في أفق السماء كأنه ... عين تخالس غفلة

( وأنت الذي أشرقت عيني بمائها ... وعلمتها بالهجر أن تهجر الغمضا )
( وأغرقتها بالدمع حتى جفونها ... لينكر من فقد الكرى بعضها بعضا )
فمر يوم من أحسن الأيام واطيبها ووصله وأحسن إليه ولم يزل عنده مقربا مكرما وكان خليعا ماجنا مشتهرا بالنبيذ فخلاه وما أحب ثم وصف له الأندلس وطيبها وكثرة خمورها فمضى إليها ومات بها وعلى نحو هذه الحال كان يفعل بكل طارىء يطرأ من المشرق ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب انتهى
وغرضي من إيراد هذه الحكاية هنا كونه وصف للمشرقي الأندلس وطيبها وذلك أمر لا يشك فيه ولا يرتاب والله المسئول في حسن المتاب

قصر باديس بغرناطة
ورأيت في بعض كتب تاريخ الأندلس في ترجمة السلطان باديس الصنهاجي صاحب غرناطة ما نصه وهو الذي أكمل ترتيب قصبة مالقة وكان أفرس الناس وأنبلهم ذا مروءة ونجدة وقصره بغرناطة ليس ببلاد الإسلام والكفر مثله فيما قيل انتهى
وهذا القصر هو الذي عناه لسان الدين بن الخطيب في قصيدته السينية المذكورة في الباب الخامس من القسم الثاني من هذا الكتاب فلتراجع ثمة
سرقسطة وخواصها
وذكر غير واحد من المحدثين والمؤرخين أن مدينة سرقسطة لا يدخلها الثعبان من قبل نفسه وإذا أدخله أحد لم يتحرك ونظير هذا المعنى في بعض الحيوانات بالنسبة إلى بعض البلاد كثير وذلك برصد أو طلسم وقد استطرد بعض علماء أصول الدين ذلك

والله أعلم
هكذا رأيت في كلام بعض علماء المشارقة والذي رأيته لبعض مؤرخي المغرب في سرقسطة أنها لا تدخلها عقرب ولا حية إلا ماتت من ساعتها ويؤتى بالحيات والعقارب إليها حية فبنفس ما تدخل إلى جوف البلد تموت قال ولا يتسوس فيها شيء من الطعام ولا يعفن ويوجد فيها القمح من مائة سنة والعنب المعلق من ستة أعوام والتين والخوخ وحب الملوك والتفاح والإجاص اليابسة من أربعة أعوام والفول والحمص من عشرين سنة ولا يسوس فيها خشب ولا ثوب صوفا كان أو حريرا أو كتانا وليس في بلاد الأندلس أكثر فاكهة منها ولا أطيب طع ما ولا أكبر جرما والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال ولها أعمال كثيرة مدن وحصون وقرى مسافة أربعين ميلا وهي تضاهي مدن العراق في كثرة الأشجار والانهار وبالجملة فأمرها عظيم وقد أسلفنا ذكرها

السمور بالأندلس
واعلم أن بأرض الاندلس من الخصب والنضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدنيا ما لا يوجد مجموعه غالبا في غيرها فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب أن السمور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة يوجد في البحر المحيط بالأندلس من جهة جزيرة برطانية ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها ولما ذكر ابن غالب وبر السمور الذي يصنع بقرطبة قال هذا السمور المذكور هنا لم أتحقق ما هو ولا ما عني به إن كان هو نباتا عندهم أو وبر الدابة المعروفة فإن كانت الدابة المعروفة فهي دابة تكون في البحر وتخرج إلى البر وعندها قوة ميز

المفردة هو حيوان يكون في بحر الروم ولايحتاج منه إلا إلى خصاه فيخرج الحيوان من البحر في البر فيؤخذ وتقطع خصاه ويطلق فربما عرض للقناصين مرة أخرى فإذا أحس بهم وخشي أن لا يفوتهم استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه ليرى موضع خصييه خاليا فإذا رآه القناصون كذلك تركوه قال ابن غالب ويسمى هذا الحيوان ايضا الجندبادستر والدواء الذي يصنع من خصييه من الأدويه الرفيعة ومنافعه كثيرة وخاصيته في العلل الباردة وهو حار يابس في الدرجة الرابعة

فراء القنلية
والقنلية حيوان أدق من الأرنب وأطيب في الطعم وأحسن وبرا وكثيرا ما تلبس فراؤها ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى ولا توجد في بر البربر إلا ما جلب منها إلى سبتة فنشأ في جوانبها قال ابن سعيد وقد جلبت في هذه المدة إلى تونس حضرة إفريقية
سائر حيواناتها وطيورها
ويكون بالأندلس من الغزال والأيل وحمار الوحش وبقره وغير ذلك مما يوجد في غيرها كثير وأما الأسد فلا يوجد فيها البتة ولا الفيل

وغير ذلك مما يكون في أقاليم الحرارة ولها سبع يعرف باللب أكبر بقليل من الذئب في نهاية من القحة وقد يفترس الرجل إذا كان جائعا
وبغال الأندلس فارهة وخيلها ضخمة الأجسام حصون للقتال لحملها الدروع وثقال السلاح والعدو في خيل البر الجنوبي
ولها من الطيور الجوارح وغيرها ما يكثر ذكره ويطول وكذلك حيوان البحر ودواب بحرها المحيط في نهاية من الطول والعرض
قال ابن سعيد عاينت من ذلك العجب والمسافرون في البحر يخافون منها لئلا تقلب المراكب فيقطعون الكلام ولها نفخ بالماء من فيها يقوم في الجو ذا ارتفاع مفرط

أنواع الأفاويه فيها
وقال ابن سعيد قال المسعودي في مروج الذهب في الأندلس من أنواع الأفاويه خمسة وعشرون صنفا منها السنبل والقرنفل والصندل والقرفة وقصب الذريرة وغير ذلك
وذكر ابن غالب أن المسعودي قال أصول الطيب خمسة أصناف المسك والكافور والعود والعنبر والزعفران وكلها من أرض الهند إلا الزعفران والعنبر فإنهما موجودان في أرض الأندلس ويوجد العنبر في أرض الشحر
قال ابن سعيد وقد تكلموا في أصل العنبر فذكربعضهم أنه عيون تنبع في قعر البحر يصير منها ما تبلعه الدواب وتقذفه قال الحجاري ومنهم من قال إنه نبات في قعر البحر
وقد تقدم قول الرازي إن المحلب وهو المقدم

أنواع الأشنان لا يوجد في شيء من الأرض إلا بالهند والأندلس
وقال ابن سعيد وفي الأندلس مواضع ذكروا أن النار إذا أطلقت فيها فاحت بورائح العود وما أشبهه وفي جبل شلير أفاويه هنديه

ثمارها وفواكهها
قال وأما الثمار وأصناف الفواكه فالأندلس اسعد بلاد الله بكثرتها ويوجد في سواحلها قصب السكر والموز المعدومان في الأقاليم الباردة ولا يعدم منها إلا التمر ولها من أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقل كالتين القوطي والتين الشعري بإشبيلية
قال ابن سعيد وهذان صنفان لم تر عيني ولم أذق لهما منذ خرجت من الأندلس ما يفضلهما وكذلك التين المالقي والزبيب المنكبي والزبيب العسلي والرمان السفري والخوخ والجوز واللوز وغير ذلك مما يطول ذكره
معادنها وأحجارها وقرمزها
وقد ذكر ابن سعيد أيضا أن الأرض الشمالية المغربية فيها المعادن السبعة وأنها في الأندلس التي هي بعض تلك الأرض وأعظم معدن للذهب بالأندلس في جهة شنت ياقوه قاعدة الجلالقة على البحر المحيط وفي جهة قرطبة الفضة والزئبق والنحاس في شمال الأندلس كثير والصفر الذي يكاد يشبه الذهب وغير ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها

والعين التي يخرج منها الزاج في لبلة مشهورة وهو كثير مفضل في البلاد منسوب وبجبل طليطلة جبل الطفل الذي يجهز إلى البلاد ويفضل على كل طفل بالمشرق والمغرب
وبالأندلس عدة مقاطع للرخام وذكر الرازي أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع والخمري وفي ناشرة مقطع عجيب للعمد وبباغه من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة موشاة في حمرة وصفرة وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزع وحصى المرية يحمل إلى البلاد فإنه كالدر في رونقه وله ألوان عجيبة ومن عادتهم أن يضعوه في كيزان الماء
وفي الأندلس من الأمنان التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجر البلوط فيجمعه الناس من الشعرا ويصبغون به فيخرج منه اللون الأحمر الذي لا تفوقه حمرة

مصنوعاتها
قال ابن سعيد وإلى مصنوعات الأندلس ينتهي التفضيل وللمتعصبين لها في ذلك كلام كثير فقد اختصت المرية ومالقة ومرسية بالوشي المذهب الذي يتعجب من حسن صنعته أهل المشرق إذا رأوا منه شيئا وفي تنتالة من عمل مرسية تعمل البسط التي يغالى في ثمنها بالمشرق ويصنع في غرناطة وبسطة من ثياب اللباس المحررة الصنف الذي يعرف بالملبد المختم ذو الألوان العجيبة ويصنع في مرسية من الأسرة المرصعة والحصر الفتانة الصنعة وآلات الصفر والحديد من السكاكين والأمقاص المذهبة وغير ذلك من آلات العروس

والجندي ما يبهر العقل ومنها تجهز هذه الأصناف إلى بلاد إفريقية وغيرها ويصنع بها وبالمرية ومالقة الزجاج الغريب العجيب وفخار مزجج مذهب ويصنع بالأندلس نوع من المفصص المعروف في المشرق بالفسيفساء ونوع يبسط به قاعات ديارهم يعرف بالزليجي يشبه المفصص وهو ذو ألوان عجيبة يقيمونه مقام الرخام الملون الذي يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم كالشاذ روان وما يجري مجراه

الأسلحة
وأما آلات الحرب من التراس والرماح والسروج والألجم والدروع والمغافر فأكثر همم أهل الأندلس فيما حكى ابن سعيد كانت مصروفة إلى هذا الشأن ويصنع منها في بلاد الكفر ما يبهر العقول قال والسيوف البرذليات مشهورة بالجودة وبرذيل آخر بلاد الأندلس من جهة الشمال والمشرق والفولاذ الذي بإشبيلية إليه النهاية وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره
الآثار الأولية بالأندلس
وقد أفرد ابن غالب في فرحة الأنفس للآثار الأولية التي بالأندلس من كتابه مكانا فقال منها ما كان من جلبهم الماء من البحر الملح إلى الأرحي التي بطركونة على وزن لطيف وتدبير محكم حتى طحنت به وذلك من أعجب ما صنع ومن ذلك ما صنعه الأول أيضا من جلب الماء في البحر

إلى جزيرة قادس من العين التي في إقليم الأصنام جلبوه في جوف البحر في الصخر المجوف ذكرا في أنثى وشقوا به الجبال فإذا وصلوا به إلى المواضع المنخفضة بنوا له قناطر على حنايا فإذا جاوزها واتصل بالأرض المعتدلة رجعوا إلى البنيان المذكور فإذا صادف سبخة بني له رصيف وأجري عليه هكذا إلى أن انتهى به إلى البحر ثم دخل به في البحر وأخرج في جزيرة قادس والبنيان الذي عليه الماء في البحر ظاهر بين قال ابن سعيد إلى وقتنا هذا
ومنها الرصيف المشهور بالأندلس قال في بعض أخبار رومية إنه لما ولي يوليش المعروف بجاشر وابتدأ بتذريع الأرض وتكسيرها كان ابتداؤه بذلك من مدينة رومية إلى المشرق منها وإلى المغرب وإلى الشمال وإلى الجنوب ثم بدأ بفرش المبلطة واقبل بها على وسط دائرة الأرض إلى أن بلغ بها أرض الأندلس وركزها شرقي قرطبة ببابها المتطامن المعروف بباب عبد الجبار ثم ابتدأها من باب القنطرة قبلي قرطبة إلى شقندة إلى إستجة إلى قرمونة إلى البحر وأقام على كل ميل سارية قد نقش عليها اسمه من مدينة رومية وذكر أنه أراد تسقيفها في بعض الأماكن راحة للخاطرين من وهج الصيف وهول الشتاء ثم توقع أن يكون ذلك فسادا في الأرض وتغييرا للطرق عند انتشار اللصوص وأهل الشر فيها في المواضع المنقطعة النائية عن العمران فتركها على ما هي عليه وذكر في هذه الآثار صنم قادس الذي ليس له نظير إلا الصنم الذي بطرف جليقية وذكر قنطرة طليطلة وقنطرة السيف وقنطرة ماردة وملعب مربيطر
قال ابن سعيد وفي الأندلس عجائب منها الشجرة التي لولا كثرة ذكر العامة لها بالأندلس ما ذكرتها فإن خبرها عندهم شائع متواتر

يشهد بخبرها ورؤيتها وهم جم غفير وهي شجرة زيتون تصنع الورق والنور والثمر في يوم واحد معلوم عندهم من أيام السنة الشمسية
ومن العجائب السارية التي بغرب الأندلس ما يزعم الجمهور أن أهل ذلك المكان إذا أحبوا المطر أقاموها فيمطر الله جهتهم
ومنها صنم قادس طول ما كان قائما كان يمنع الريح أن تهب في البحر المحيط فلا تستطيع المراكب الكبار على الجري فيه فلما هدم في أول دولة بني عبد المؤمن صارت السفن تجري فيه
وبكورة قبرة مغارة ذكرها الرازي وحكى أنه يقال إنها باب من أبواب الريح لا يدرك لها قعر
وذكر الرازي أن في جهة قلعة ورد جبلا فيه شق في صخرة داخل كهف فيه فأس حديد متعلق من الشق الذي في الصخرة تراه العيون وتلمسه اليد ومن رام إخراجه لم يطق ذلك وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة ثم يعود إلى حالته
وأما ما أورده ابن بشكوال من الأحاديث والآثار في شأن فضل الأندلس والمغرب فقد ذكرها ابن سعيد في كتابه المغرب ولم أذكرها أنا والله أعلم بحقيقة أمرها وكذلك ما ذكره ابن بشكوال من أن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس قال وذكره سيف عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه والله أعلم بصحة ذلك ولعل المراد بالقسطنطينية رومية والله أعلم
قال سيف وذلك أن عثمان ندب جيشا من القيروان إلى الأندلس وكتب لهم أما بعد فإن

فتحتموها كنتم الشركاء في الأجر والسلام انتهى
قلت عهدة هذه الأمور على ناقلها وأنا بريء من عهدتها وإن ذكرها ابن بشكوال وصاحب المغرب وغير واحد فإنها عندي لا أصل لها وأي وقت بعث عثمان إلى الاندلس مع أن فتحها بالاتفاق إنما كان زمان الوليد وإنما ذكرت هذا للتنبيه عليه لا غير والله أعلم

وصف ابن سعيد للأندلس
قال ابن سعيد وميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد احدقت بها البحار فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع والصحاري فيها معدومة ومما اختصت به أن قراها في نهاية من الجمال لتصنع أهلها في أوضاعها وتبييضها لئلا تنبو العيون عنها فهي كما قال الوزير ابن الحمارة فيها
( لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدر بين زبرجد مكنون )
ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدر العين بسوادها ويضيق الصدر بضيق أوضاعها وف يالأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصرة من مثلها والمثال في ذلك أنك إذا توجهت من إشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر مدينة شريش وهي في نهاية من الحضارة والنضارة ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك ثم مالقة وهذا كثير في الأندلس ولهذا كثرت مدنها وأكثرها مسور من أجل الاستعداد للعدو فحصل لها بذلك التشييد والتزيين وفي

على عشرين سنة لامتناع معاقلها ودربة أهلها على الحرب واعتيادهم لمجاورة العدو بالطعن والضرب وكثرة ما تنخزن الغلة في مطاميرها فمنها ما يطول صبره عليها نحوا من مائة سنة قال ابن سعيد ولذلك أدامها الله تعالى من وقت الفتح إلى الآن وإن كان العدو قد نقصها من أطرافها وشارك في أوساطها ففي البقية منعة عظيمة فأرض بقي فيها مثل إشبيلية وغرناطة ومالقة والمرية وما ينضاف إلى هذه الحواضر العظيمة الممصرة الرجاء فيها قوي بحول الله وقوته انتهى
قلت قد خاب ذلك الرجاء وصارت تلك الأرجاء للكفر معرجا ونسأل الله تعالى الذي جعل للهم فرجا وللضيق مخرجا أن يعيد إليها كلمة الإسلام حتى يستنشق أهله منه فيها أرجا آمين

بيلتا طليطلة
ومن غرائب الأندلس البيلتان اللتان بطليطلة صنعهما عبد الرحمن لما سمع بخبر الطلسم الذي بمدينة أرين من أرض الهند وقد ذكره المسعودي وأنه يدور باصبعيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فصنع هو هاتين البيلتين خارج طليطلة في بيت مجوف في جوف النهر الأعظم في الموضع المعروف بباب الدباغين ومن عجبهما أنها تمتلئان وتنحسران مع زيادة القمر ونقصانه وذلك أن أول انهلال الهلال يخرج فيهما يسير ماء فإذا أصبح كان فيهما ربع سبعمها من الماء فإذا كان آخر النهار كمل فيهما نصف سبع ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتىيكمل من الشهر

فيهما نصفهما ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع في اليوم والليلة حتىيكمل امتلاؤهما بكمال القمر فإذا كان في ليلة خمسة عشر وأخذ القمر في النقصان نقصتا بنقصان القمر كل يوم وليلة نصف سبع حتى يتم القمر واحدا وعشرين يوما فينقص منهما نصفهما ولا يزال كذلك ينقص في كل يوم وليلة نصف سبع فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من الماء وإذا تكلف أحد حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعتا ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلا ما كان فيهما في تلك الساعة وكذا لو تكلف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق فيهما شيئا ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين وهما أعجب من طلسم الهند لأن ذلك في نقطة الاعتدال حيث لا يزيد الليل على النهار وأما هاتان فليستا في مكان الاعتدال ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى دمرهم الله طليلة فأراد الفنش أن يعلم حركاتهما فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء وكيف الحركة فيهما فقلعت فبطلت حركتهما وذلك سنة 528 وقيل إن سبب فسادهما حنين اليهودي الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليلة في يوم واحد وذلك سنة 527 وهو الذي أعلم الفنش أن ولده سيدخل قرطبة ويملكها فأراد أن يكشف حركة البيلتين فقال له أيها الملك أنا أقلعهما وأردهما أحسن مما كانتا وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل فلما قلعت لم يقدر على ردها وقيل إنه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت ولم تزل الأخرى تعطي حركتها والله

عود إلى ذكر إشبيلية
وقال بعضهم في إشبيلية إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها ومدينة الأدب واللهو والطرب وهي على ضفة النهر الكبير عظيمة الشأن طيبة المكان لها البر المديد والبحر الساكن والوادي العظيم وهي قريبة من البحر المحيط إلى أن قال ولو لم يكن لها من الشرف إلا موضع الشرف المقابل لها المطل عليها المشهور بالزيتون الكثير الممتد فراسخ في فراسخ لكفى وبها منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور ليس في بلاد الإسلام أعظم بناء منها وعسل الشرف يبقى حينا لا يترمل ولا يتبدل وكذلك الزيت والتين
وقال ابن مفلح إن إشبيلية عروس بلاد الأندلس لأن تاجها الشرف وفي عنقها سمط النهر الأعظم وليس في الأرض أتم حسنا من هذا النهر يضاهي دجلة والفرات والنيل تسير القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار وتغريد الأطيار أربعة وعشرين ميلا ويتعاطى الناس السرج من جانبيه عشرة فراسخ في عمارة متصلة ومنارات مرتفعة وأبراج مشيدة وفيه من أنواع السمك ما لا يحصى وبالجملة فهي قد حازت البر والبحر والزرع والضرع وكثرة الثمار من كل جنس وقصب السكر ويجمع منها القرمز الذي هو أجل من اللك الهندي وزيتونها يخزن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة ثم يعتصر فيخرج منه أكثر مما يخرج منه وهو طري انتهى ملخصا
ولما ذكر ابن اليسع الأندلس قال لا يتزود فيها أحد ماء حيث سلك لكثرة أنهارها وعيونها وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد

المعاقل والقرى ما لا يحصى وهي بطاح خضر وقصور بيض انتهى

مقارنة ابن سعيد بين الأندلس وسواها
قال ابن سعيد وأنا أقول كلاما فيه كفاية منذ خرجت من جزيرة الأندلس وطفت في بر العدوة ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبتة ثم طفت في إفريقية وما جاورها من المغرب الأوسط فرأيت بجاية وتونس ثم دخلت الديار المصرية فرأيت الإسكندرية والقاهرة والفسطاط ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلب وما بينهما لم أر ما يشبه رونق الأندلس في مياهها وأشجارها إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى ومدينة دمشق بالشام وفي حماة مسحة أندلسية ولم أر ما يشبهها في حسن المباني والتشييد والتصنيع إلا ما شيد بمراكش في دولة بني عبد المؤمن وبعض أماكن في تونس وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية ولكن الإسكندرية أفسح شوارع وأبسط وأبدع ومباني حلب داخلة فيما يستحسن لأنها من حجارة صلبة وفي وضعها وترتيبها إتقان انتهى
أشعار في وصف الأندلس
ومن أحسن ما جاء من النظم في الأندلس قول ابن سفر المريني والإحسان له عادة
( في ارض أندلس تلتذ نعماء ... ولا يفارق فيها القلب سراء )
( وليس في غيرها بالعيش منتفع ... ولا تقوم يحق الأنس صهباء )
( وأين يعدل عن أرض تحض بها ... على المدامة أمواه وأفياء )
( وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها ... وكل روض بها في الوشي صنعاء

( وللهواء بها لطف يرق به ... من لا يرق وتبدو منه أهواء ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا ... ولا انتثار لآلي الطل أنداء )
( وإنم ا أرج الند استثار بها ... في ماء ورد فطابت منه أرجاء )
( وأين يبلغ منها ما أصنفه ... وكيف يحوي الذي حازته إحصاء )
( قد ميزت من جهات الأرض حين بدت ... فريدة وتولى ميزها الماء )
( دارت عليها نطاق أبحر خفقت ... وجدا بها إذ تبدت وهي حسناء )
( لذاك يبسم فيها الزهر من طرب ... والطير يشدو وللأغصان إصغاء )
( فيها خلعت عذارى ما بها عوض ... فهي الرياض وكل الأرض صحراء )
ولله در ابن خفاجة حيث يقول
( إن للجنة بالأندلس ... مجتلى مرأى وريا نفس )
( فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ظلمتها من لعس )
( فإذا ما هبت الريح صبا ... صحت واشوقي إلى الأندلس )
وقد تقدمت هذه الأبيات
قال ابن سعيد قال ابن خفاجة هذه الأبيات وهو بالمغرب الأقصى في بر العدوة ومنزله في شرق الأندلس بجزيرة شقر

رخاء الأندلس كما يصفه ابن حوقل
وقال ابن سعيد في المغرب ما نصه قواعد من كتاب الشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة أول ما نقدم الكلام على قاعدة السلطنة

بالأندلس فنقول إنها ما بأيدي عباد الصليب منها أعظم سلطنة كثرت ممالكها وتشعبت في وجوه الاستظهار للسلطان إعانتها وندع كلامنا في هذا الشأن وننقل ما قاله ابن حوقل النصيبي في كتابه لما دخلها في مدة خلافة بني مروان بها في المائة الرابعة وذلك أنه لما وصفها قال وأما جزيرة الأندلس فجزيرة كبيرة طولها دون الشهر في عرض نيف وعشرين مرحلة تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر والرخص والسعة في الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر إلى أسباب التملك الفاشية فيها ولما هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم لقلة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم ثم أخذ في عظم سلطانها ووصف وفور جباياته وعظم مرافقه وقال في أثناء ذلك ومممايدل بالقليل منه على كثيره أن سكة دار ضربه على الدراهم والدنانير دخلها في كل سنة مائتا ألف دينار وصرف الدينا سبعة عشر درهما هذا إلى صدقات البلد وجباياته وخراجاته وأعشاره وضماناته والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة وغير ذلك
وذكر ابن بشكوال أن جباية الأندلس بلغت في مدة عبد الرحمن الناصر خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفا ثم من السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار
ثم قال ابن حوقل ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها وضعة نفوسهم ونقص عقولهم وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة ولقاء الرجال ومراس الأنجاد والأبطال مع علم أمير المؤمنين بمحلها في

رد ابن سعيد على بعض كلام ابن حوقل
قال علي بن سعيد مكمل هذا الكتاب لم أر بدا من إثبات هذا الفصل وإن كان على أهل بلدي فيه من الظلم والتعصب ما لا يخفى ولسان الحال في الرد أنطق من لسان البلاغة وليت شعري إذ سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة فمن الذين دبروها بآرائهم وعقولهم مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيف ومن الذين حموها ببسالتهم من الأمم المتصلة بهم في داخلها وخارجها نحو ثلاثة أشهر على كلمة واحدة في نصرة الصليب وإني لأعجب منه إذ كان في زمان قد دلفت فيه عباد الصليب إلى الشام والجزيرة وعاثوا كل العيث في بلاد الإسلام حيث الجمهور والقبة العظمى حتى أنهم دخلوا مدينة حلب وما أدراك وفعلوا فيها ما فعلوا وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة إلى غير ذلك مما هو مسطور في كتب التواريخ ومن أعظم ذلك وأشده أنهم كانوا يتغلبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكنون بها من بسائط بلادهم فيسبون ويأسر ونفلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك وقد يستعين به بعضهم على بعض فيتمكن من ذلك الداء الذي لا يطب وقد كانت جزيرة الأندلس في ذلك الزمان بالضد من البلاد التي ترك وراء ظهره وذلك موجود في تاريخ ابن حيان وغيره وإنما كانت الفتنة بعد ذلك الأعلام بينة والطريق واضح
فلنرجع إلى ما نحن بسبيله
ابن سعيد يقدم سردا لتطور التاريخ الأندلسي
كانت سلطنة الأندلس

من سلاطين إفريقية واختلاف الولاة داع إلى الاضطراب وعدم تأثل الأحوال وتربية الضخامة في الدولة ولما صارت الأندلس لبني أمية وتوارثوا ممالكها وانقاد إليهم كل أبي فيها وأطاعهم كل عصي عظمت الدولة بالأندلس وكبرت الهمم وترتبت الأحوال وترتبت القواعد وكانوا صدرا من دولتهم يخطبون لأنفسهم بأبناء الخلائف ثم خطبوا لأنفسهم بالخلافة وملكوا من بر العدوة ما ضخمت به دولتهم وكانت قواعدهم إظهار الهيبة وتمكن الناموس من قلوب العالم ومراعاة أحوال الشرع في كل الأمور وتعظيم العلماء والعمل بأقوالهم وإحضارهم في مجالسهم واستشارتهم ولهم حكايات في تاريخ ابن حيان منها ما هو مذكور من توجه الحكم على خليفتهم أو على ابنه أو أحد حاشيته المختصين وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد للحق لهم او عليهم وبذلك انضبط لهمأمر الجزيرة ولما فرقوا هذا الناموس كان أول ما تهتك أمرهم ثم اضمحل وكانت ألقاب الأول منهم الأمراء أبناء الخلائف ثم الخلفاء أمراء المؤمنين إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي رتبت عليه فاستبدت ملوك الممالك الأندلسية ببلادها وسموا بملوك الطوائف واستبدوا وكان فيهم من خطب للخلفاء المروانيين وإن لم يبق لهم خلافة ومنهم من خطب للخلفاء العباسيين المجمع على إمامتهم وصار ملوك الطوائف يتباهون في أحوال الملك حتى في الألقاب فآل أمرهم إلى أن تلقبوا بنعوت الخلفاء وترفعوا إلى طبقات السلطنة العظمى وذلك بما في جزيرتهم من أسباب الترفه والضخامة التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم وتنهض بهم للمباهاة ولأجل توثبهم على النعوت العباسية قال ابن رشيق القيرواني

( مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيب معتضد فيها ومعتمد )
( القاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد )
وكان عباد بن محمد بن عباد قد تلقب بالمعتضد واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين وتلقب ابنه محمد بن عباد بالمعتمد وكانت لبن عباد مملكة إشبيلية ثم انضاف إليها غيرها
وكان خلفاء بني أمية يظهرون للناس في الأحيان على أبهة الخلافة وقانون لهم في ذلك معروف إلى أن كانت الفتنة فازدرت العيون ذلك الناموس واستخفت به
وقد كان بنو حمود من ولد إدريس العلوي الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلم من وراء حجاب والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة ولما حضر ابن مقانا الأشبوني أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمودي الذي خطب له بالخلافة في مالقة وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله
( وكأن الشمس لما أشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين )
( وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمود أمير المؤمنين ) وبلغ فيها إلى قوله
( انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين ) رفع الخليفة

ولما جاء ملوك الطوائف صاورا يتبسطون للخاصة وكثير من العامة ويظهرون مداراة الحند وعوام البلاد وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء ويحب أن يشهر عنه ذلك عند مباريه في الرياسة
ومذ وقعت الفتنة بالأندلس أعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد عن إمام الجماعة وصار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك ومرنوا على ذلك فصعب ضبطهم إلى نظام واحد وتمكن العدو منهم بالتفرق وعداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة والطمع إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن وبنيه وتلك القواعد في رؤوسهم كامنة والثوار في المعاقل تثور وتروم الكرة إلى ان ثار ابن هود وتلقب بالمتوكل ووجد قلوبا منحرفة عن دولة بر العدوة مهيأة للاستبداد فملكها بأيسر محاولة مع الجهل المفرط وضعف الرأي وكان مع العامة كأنه صاحب شعوذة يمشي في الأسواق ويضحك في وجوههم وبيادرهم بالسؤال وجاء للناس منه ما لم يعتادوه منم سلطان فأعجب ذلك سفهاء الناس وعامتهم العمياء وكان كما قيل
( أمور يضحك السفهاء منها ... ويبكي من عواقبها الحليم )
فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة وتملك الأمصار الجليلة وخروجها من يد الإسلام
والضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارسا يبرع الفرسان أو جوادا يبرع الأجواد تهافتوا في نصرته ونصبوه ملكا من غير تدبير في عاقبة

قد تورثت وتدوولت ويكون في تلك المملكة قائد من قوادها فد شهرت عنه وقائع في العدو وظهر منه كرم نفس للأجناد ومراعاة قدموه ملكا في حصن من الحصون ورفضوا عيالهم وأولادهم إن كان لهم ذلك بكرسي الملك ولم يزالوا في جهاد وإتلاف أنفس حتى يظفر صاحبهم بطلبتة وأهل المشرق أصوب رأيا منهم في مراعاة نظام الملك والمحافظة على نصابه لئلا يدخل الخلل الذي يقضي باختلال القواعد وفساد التربية وحل الأوضاع
ونحن نمثل في ذلك بما شاهدناه لما كانت هذه الفتنة الأخيرة بالأندلس تمخضت عن رجل من حصن يقال له أرجونة ويعرف الرجل بابن الأحمر كان يكثر مغاورة العدو من حصنه وظهرت له مخايل وشواهد علىالشجاعة إلى أن سار اسمه في الأندلس وآل ذلك إلى أن قدمه أهل حصنه على أنفسهم ثم نهض فملك قرطبة العظمى وملك إشبيلية وقتل ملكها الباجي وملك جيان أحصن بلد بالأندلس وأجله قدرا في الامتناع وملك غرناطة ومالقة وسموه بأمير المسلمين فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه
ابن سعيد يصف الخطط الأندلسية 1 - الوزارة
وأما قاعدة الوزارة بالأندلس فإنها كانت في مدة بني أمية مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة ويخصهم بالمجالسة ويختار منهم شخصا لمكان النائب المعروف بالوزير فيسميه بالحاجب وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة لذلك إلى أن كانت ملوك الطوائف فكان الملك منهم لعظم اسم الحاجب في الدولة المروانية وأنه كان نائبا عن خليفتهم يسمىبالحاجب ويرى أن هذه السمة أعظم ما تنوفس فيه وظفر

اسم الوزارة عاما لكل من يجالس الملوك ويختص بهم وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يعرف بذي الوزارتين وأكثر ما يكون فاضلا في علم الأدب وقد لا يكون كذلك بل عالما بأمور الملك وخاصة
2

- الكتابة
وأما الكتابة فهي على ضربتين أعلاهما كاتب الرسائل وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس وأشرف أسمائه الكاتب وبهذه السمة يخططه من يعظمه في رسالة وأهل الأندلس كثيرو الانتقاد على صاحب هذه السمة لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة فإن كان ناقصا عن درجات الكمال لم ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلط الألسن في المحافل والطعن عليه وعلى صاحبه والكاتب الآخر كاتب الزمام هكذا يعرفون كاتب الجهبذة ولا يكون بالأندلس وبر العدوة لا نصرانيا ولا يهوديا البتة إذ هذا الشغل نبيه يحتاج إلى صاحبه عظماء الناس ووجوههم
3
- الخراج
وصاحب الأشغال الخراجية في الأندلس أعظم من الوزير وأكثر أتباعا وأصحابا وأجدى منفعة فإليه تميل الأعناق ونحوه تمد الأكف والاعمال مضبوطة بالشهود والنظار ومع هذا إن تأثلت حالته واغتر بكثرة البناء والاكتساب نكب وصودر وهذا راجع إلى تقلب الأحوال وكيفية السلطان
4
- القضاء
وأما خطة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة لتعلقها بأمور الدين وكون السلطان لو توجه عليه حكم حضر بين يدي القاضي هذا

وضعها في زمان بني أمية ومن سلك مسلكهم ولا سبيل أن يتسمى بهذه السمة إلا من هو وال للحكم الشرعي في مدينة جليلة وإن كانت صغيرة فلا يطلق على حاكمها إلا مسدد خاصة وقاضي القضاة يقال له قاضي القضاة وقاضي الجماعة
5

- خطة الشرطة
وأما خطة الشرطة بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن معروفة بهذه السمة ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحب المدينة وصاحب الليل وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له القتل لمن يحب عليه دون استئذان السلطان وذلك قليل ولا يكون إلا في حضرة السلطان الأعظم وهو الذي يحد على الزنا وشرب الخمر وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه قد صارت تلك عادة تقرر عليها رضا القاضي وكانت خطة القاضي أوقر وأتقى عندهم من ذلك
6
- الحسبة
وأما خطة الاحتساب فإنها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن وكأن صاحبها قاض والعادة فيه أن يمشي بنفسه راكبا على الأسواق وأعوانه معه وميزانه الذين يزن به الخبز في يد أحد الأعوان لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم وكذلك للثمن وفي ذلك من المصحلة أن يرسل المبتاع الصبي الصغير أو الجارية الرعناء فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره

الورقة ولايكاد تخفى خيانته فإن المحتسب يدس عليه صبيا أو جارية يبتاع أحدهما منه ثم يختبر الوزن المحتسب فإن وجد نقصا قاس على ذلك حاله مع الناس فلا تسأل عما يلقى وإن كثر ذلك منه ولم يتب بعد الضرب والتجريس في الأسواق نفي من البلد ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه لأنها عندهم تدخل في جميع المبتاعات وتتفرع إلى ما يطول ذكره

خطة الطواف بالليل
وأما خطة الطواف بالليل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق فإنهم يعرفون في الأندلس بالداربين لأن بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة ولكل زقاق بائت فيه له سراج معلق وكلب يسهر وسلاح معد وذلك لشطارة عامتها وكثرة شرهم وإغيائهم في أمور التلصص إلى أن يظهروا على المباني المشيدة ويفتخروا الأغلاق الصعبة ويقتلوا صاحب الدار خوف أن يقر عليهم أو يطالبهم بعد ذلك ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع دار فلان دخلت البارحة وفلان ذبحه اللصوص على فراشه وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدة الوالي ولينه ومع إفراطه في الشدة وكون سيفه يقطر دما فإن ذلك لا يعدم وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا علىعنقود سرقه شخص من كرم وما أشبه ذلك فلم ينته اللصوص
الأندلسيون والتشريع

إلى السلاطين ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود وإنكار النهاون بتعطيلها وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبأون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم وهذا كثير في أخبارهم وأما الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكل يوم

الأندلسيون والتصوف
وأما طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق في الدروزة التي تكسل عن الكد وتحوج الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى نهاية وإذا رأوا شخصا صحيحا قادرا علىالخدمة يطلب سبوه وأهانوه فضلا عن أن يتصدقوا عليه فلا تجد بالاندلس سائلا إلا أن يكون صاحب عذر
الأندلسيون والعلوم والآداب
وأما حال أهل الأندلس في فنون العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعه ويربأ بنفسه أن يرى فارغا عالة على الناس لأن هذا عندهم في نهاية القبح والعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة يشار إليه ويحال عليه وينبه قدره وذكره عند الناس ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم بل يقرءون جميع العلوم

فالعالم منهم بارع لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه وينفق من عنده حتى يعلم وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء إلا الفلسفة والتنجيم فإن لهما حظا عظيما عند خواصهم ولا يتظاههر بهما خوف العامة فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق وقيدت عليه أنفاسه فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان أويقتله السلطان تقربا لقلوب العامة وكثيرا ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خال من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري والله أعلم
وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة وللفقه رونق ووجاهة ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به بمحاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم وسمة الفقيه عندهم جليلة حتى إن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه لأنها عندهم أرفع السمات وعلم الاصول عندهم متوسط الحال والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة حتى إنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدة وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه وكل عامل في أي علم لا يكون متمكنا من علم النحو بحيث لا تخفى عليه الدقائق فليس عندهم بمستحق للتمييز ولا سالم من الازدراء مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عما تقتضيه أوضاع العربية حتى لو أن شخصا من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي علي

وشرقت وهو يقريء درسه لضحك بملء فيه من شدة التحريف الذي في لسانه والخاص منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه ولكن ذلك مراعى عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الكايات أنبل علم عندهم وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهمومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهل غفل مستثقل
والشعر عندهم له حظ عظيم وللشعراء من لموكهم وجاهة ولهم عليهم وظائف والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة ويوقع لهم بالصلات على أقدارهم إلا أن يختل الوقت ويغلب الجهل في حين ما ولكن هذا الغالب وإذا كان الشخص بالاندلس نحويا أو شاعرا فإنه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب عادة قد جبلوا عليها
الزي الأندلسي في السلم والحرب
وأما زي أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم لا سيما في شرق الأندلس فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضيا ولا فقيها مشارا إليه إلا وهو بعمامة وقد تسامحوا بشرقها في ذلك ولقد رأيت عزيز بن خطاب أكبر عالم بمرسية حضرة السلطان في ذلك الأوان وإليه الإشارة وقد خطب له بالملك في تلك الجهة وهو حاسر الرأس وشيبه قد غلب على سواد شعره وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم من تراه بعمة في شرق منها أو في غرب وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة وكذلك ابن الأحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده وكثيرا

ما يتزيا سلاطينهم وأجنادهم بزي النصارى المجاورين لهم فسلاحهم كسلاحهم وأقبيتهم من الإشكرلاط وغيره كأقبيتهم وكذلك أعلامهم وسروجهم
ومحاربتهم بالتراس والرماح الطويلة للطعن ولا يعرفون الدبابيس ولا قسي العرب بل يعدون قسي الإفرنج للمحاصرات في البلاد أو تكون للرجالة عند المصاففة للحرب وقليلا ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يوتروها ولا تجد في خواص الأندلس وأكثر عوامهم من يمشي دون طيلسان إلا أنه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظمون وغفائر الصوف كثيرا ما يلبسونها حمرا وخضرا والصفر مخصوصة باليهود ولا سبيل إلى يهودي أن يتعمم البتة والذؤابة لا يرخيها إلا العالم ولا يصرفونها بين الأكتاف وإنما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس وإن رأوا في رأس مشرقي داخل إلى بلادهم شكلا منها أظهروا التعجب والاستظراف ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا غير أوضاعهم وكذلك في تفصيل الثياب

تدبير الأندلسيين ومروءتهم
وأهل الأندلس أشد خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون وغير ذلك ممايتعلق بهم وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائما ويبتاع صابونا يغسل به ثيابه ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها
وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذل السؤال فلذلك قد ينسبون للبخل ولهم مروءات على عادة بلادهم

لفضل دقائقها على عظائمه ولد اجتزت مع والدي على قرية من قراها وقد نال منا البرد والمطر أشد النيل فأوينا إليها وكنا على حال ترقب من السلطان وخلو من الرفاهية فنزلنا في بيت شيخ من أهلها من غير معرفة متقدمة فقال لنا إن كان عندكم ما أشتري لكم فحما تسخنون به فإني أمضي في حوائجكم وأجعل عيالي يقومون بشأنكم فأعطيناه ما اشترى به فحما فأضرم نارا فجاء ابن له صغير ليصطلي فضربه فقال له والدي لم ضربته فقال يتعلم استغنام مال الناس والضجر للبرد من الصغر ثم لما جاء النوم قال لابنه أعط هذا الشاب كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه فدفع كساءه إلي ولما قمنا عند الصباح وجدت الصبي منتبها ويده في الكساء فقلت ذلك لوالدي فقال هذه مروءات أهل الأندلس وهذا احتياطهم أعطاك الكساء وفضلك على نفسه ثم أفكر في أنك غريب لا يعرف هل أنت ثقة أو لص فلم يطب له منام حتى يأخذكساءه خوفا من انفصالك بها وهو نائم وعلى هذا الشيء الحقير فقس الشيء الجليل انتهى كلام ابن سعيد في المغرب باختصار يسير

منهج كتاب المغرب لابن سعيد
ولله دره فإنه أبدع في هذا الكتاب ما شاء وقسمه إلى أقسام منها كتاب وشي الطرس في حلى جزيرة الأندلس وهو ينقسم إلى أربعة كتب
الكتاب الأول كتاب حلي العرس في حلى غرب الأندلس
الكتاب الثاني كتاب الشفاه اللعس في حلى موسطة الاندلس

الكتاب الثالث كتاب الأنس في حلى شرق الأندلس
الكتاب الرابع كتاب لحظات المريب في ذكر ما حماه من الأندلس عباد الصليب
والقسم الثاني كتاب الألحان المسلية في حلى جزيرة صقلية وهو أيضا ذو أنواع
والقسم الثالث كتاب الغاية الأخيرة في حلى الأرض الكبيرة وهو أيضا ذو أقسام وصور رحمه الله تعالى أجزاء الأندلس في كتاب وشي الطرس وقال أيضا إن كلا من شرق الأندلس وغربها ووسطها يقرب في قدر المساحة بعضه من بعض وليس فيها جزء يجاوز طوله عشرة أيام ليصدق التثليث في القسمة وهذا دون ما بقي بأيدي النصارى
وقدم رحمه الله كتاب حلي العرس في حلي غرب الأندلس لكون قرطبة قطب الخلافة المروانية وإشبيلية التي ما في الأندلس أجمل منها فيه وقسمه إلى سبعة كتب كل كتاب منها يحتوي على مملكة منحازة عن الأخرى
الكتاب الأول كتاب الحلة المذهبة في حلى مملكة قرطبة
الكتاب الثاني كتاب الذهبية الأصيلية في حلى المملكة الإشبيلية
الكتاب الثالث كتاب خدع الممالقة في حلى مملكة مالقة
الكتاب الرابع كتاب الفردوس في حلى مملكة بطليوس
الكتاب الخامس كتاب الخلب في حلى مملكة شلب
الكتاب السادس كتاب الديباجة في حلى مملكة باجة
الكتاب السابع كتاب الرياض المصونة في حلى مملكة أشبونه وقد

ذكر رحمه الله تعالى في كل قسم ما يليق به وصور اجزاءه على ما ينبغي فالله يجازيه خيرا والكلام في الأندلس طويل عريض

خاتمة في نبذة جغرافية
وقال بعض المؤرخين طول الأندلس ثلاثون يوما وعرضها تسعة أيام ويشقها أربعون نهرا كبارا وبها من العيون والحمامات والمعادن ما لا يحصى وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار وأزيد من ثلثمائة من المتوسطة وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة حتى قيل إن عدد القرى التي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألف قرية وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعا من يومه إلا بالأندلس ومن بركتها أن المسافر لا يسير فيها فرسخين دون ماء أصلا وحيثما سار من الأقطار يجد الحوانيت في الفوات والشعارى والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة
وذكر صاحب الجغرافيا أن جزيرة الاندلس مسيرة أربعين يوما طولا في ثمانية عشر يوما عرضا وهو مخالف لما سبق
وقال اين سيده أخذت الاندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب إلى البحر المحيط في الشمال وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلا انتهى
مقطعات في مدح الأندلس
ولبعضهم
( لله أندلس وما جمعت بها

( فكأنما تلك الديار كواكب ... وكأنما تلك البقاع سماء )
( وبكل قطر جدول في جنة ... ولعت به الأفياء والأنداء )
وقال غيره
( في أرض أندلس تلتذ نعماء ... ولا يفارق فيها القلب سراء )
( وليس في غيرها بالعيش منتفع ... ولا تقوم بحق الماء صهباء )
( وأين يعدل عن أرض تحض بها ... على الشهادة أزواج وأبناء )
( وأين يعدل عن أرض تحث بها ... على المدامة أفياء وأنداء
( وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها ... وكل أرض بها في الوشي صنعاء )
( أنهارها فضة والمسك تربتها ... والخز روضتها والدر حصباء )
( وللهواء بها لطف يرق به ... من لا يرق وتبدو منه أهواء )
( ليس النسيم الذي يهفو بها سحرا ... ولا انتشار لآلي الطل أنداء )
( وإنما أرج الند استثار بها ... في ماء ورد فطابت منه أرجاء )
( وأين يبلغ منها ما أصنفه ... وكيف يحوي الذي حازته إحصاء )
( قد ميزت من جهات الأرض ثم بدت ... فريدة وتولى ميزها الماء )
( دارت عليها نطاقا أبحر خفقت ... وجدا بها إذ تبدت وهي حسناء )
( لذاك يبسم فيها الزهر من طرب ... والطير يشدو وللأغصان إصغاء )
( فيها خلعت عذارى ما بها عوض ... فهي الرياض وكل الأرض صحراء )
وفد تقدمت هذه القصيدة
وقال آخر
( حبذا أندلس من بلد ... لم تزل تنتج لي

( طائر شاد وظل وارف ... ومياه سائحات وقصور )
وقال آخر
( يا حسن أندلس وما جمعت لنا ... فيها من الأوطار والأوطان )
( تلك الجزيرة لست أنسى حسنها ... بتعاقب الاحيان والأزمان )
( نسج الربيع نباتها من سندس ... موشية ببدائع الألوان )
( وغدا النسيم بها عليلا هائما ... بربوعها وتلاطم البحران )
( يا حسنها والطل ينثر فوقها ... دررا خلال الورد والريحان )
( وسواعد الأنهار قد مدت إلى ... ندمائها بشقائق النعمان )
( وتجاوبت فيها شوادي طيرها ... والتفت الأغصان بالأغصان )
( ما زرتها إلا وحياني بها ... حدق البهار وأنمل السوسان )
( من بعدها ما أعجبتني بلدة ... مع ما حللت به من البلدان )

من خصائص الأندلس
وحكى بعضهم أن بالجامع من مدينة أقليش بلاطا فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف طول الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبرا
وفي الأندلس جبل من شرب من مائه كثر عليه الاحتلام من غير إرادة ولا تفكر وفيها غير ذلك مما يطول ذكره والله أعلم
ولنمسك العنان في هذا الباب فإن بحر الأندلس طويل مديد وربما كررنا الكلام لارتباط بعضه ببعض أو لنقل صاحبه المروي عنه أو لاختلاف

الباب الثاني
في إلقاء الأندلس للمسلمين بالقياد وفتحها علىيد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد وصيرورتها ميدانا لسبق الجياد ومحط رحل الارتباء والارتياد وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه ازدياد ونبإ وصل إليه اعتيام وتقرر بمثله اعتياد
اعلم أنه لما قضى الله سبحانه بتحقيق قول رسول الله زويت لي مشارق الأرض ومغاربها وسيبلغ ملك امتي ما زوي لي منها وقع الخلاف بين لذريق ملك القوط وبين ملك سبتة الذي على مجاز الزقاق فكان ما يذكر من فتح الأندلس على يد طارق وطريف ومولاهما الأمير موسى ابن نصير رحم الله الجميع
أخبار الفتح حسب مختلف الروايات
وذكر الحجاري وابن حيان وغيرهما أن أول من دخل جزيرة الأندلس من المسلمين برسم الجهاد طريف البربري مولى موسى بن نصير الذي تنسب إليه جزيرة طريف التي على المجاز غزاها بمعونة صاحب سبتة يليان النصراني لحقده على لذريق صاحب الأندلس وكان في مائة فارس وأربعمائة راجل جاز البحر في أربعة مراكب

بغنيمة جليلة فعقد موسى بن نصير صاحب المغرب لمولاه طارق بن زياد على الأندلس ووجهه مع يليان صاحب سبتة انتهى
وسيأتي في أمر طريف وغيره ما يخالف هذا السياق وهي أقوال
وقال ابن حبان إن أول أسباب فتح الأندلس كان أن ولى الوليد بن عبدالملك موسى بن نصير مولى عمه عبد العزيز على إفريقية وما خلفها سنة ثمان وثمانين فخرج في نفر قليل من المطوعة فلما ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا وفعل ذلك في إفريقية وجعل على مقدمته مولاه طارقا فلم يزل يقاتل البربر ويفتح مدائنهم حتى بلغ مدينة طنجة وهي قصبة بلادهم وأم مدائنهم فحصرها حتى فتحها وأسلم أهلها ولم تكن فتحت قبله وقيل بل فتحت ثم استغلقت
وذكر ابن حيان أيضا استصعاب سبتة على موسى بتدبير صاحبها الداهية الشجاع يليان النصراني وأنه في أثناء ذلك وقع بينه وبين لذريق صاحب الأندلس ثم سرد ما يأتي ذكره
وقال لسان الدين بن الخطيب رحمه الله وحديث الفتح وما من الله به على الإسلام من المنح وأخبار ما أفاء الله من الخير على موسى بن نصير وكتب من جهاد لطارق بن زياد مملول قصاص وأوراق وحديث أفول وإشراق وإرعاد وإبراق وعظم امتشاش وآلة معلقة في دكان قشاش انتهى
وقال في المغرب طارق بن زياد من إفريقية
وقال ابن بشكوال إنه طارق بن عمرو فتح جزيرة الأندلس ودوخها و ' ليه ينسب جبل طارق الذي يعرفه العامة بجبل الفتح في قبلة الجزيرة الخضراء ورحل مع سيده بعد فتح الأندلس إلى الشام وانقطع خبره انتهى

وقال أيضا إن طارقا كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه وأما المعارف السلطانية فيكفيه ولاية سلطنة الأندلس وما فتح فيها من البلاد إلى أن وصل سيده موسى بن نصير
ومن تاريخ ابن بشكوال احتل طارق بالجبل المنسوب إليه يوم الاثنين لخمس خلون من رجب سنة اثنتين وتسعين في اثني عشر ألف غير اثني عشر رجلا من البربر ولم يكن فيهم من العرب إى شيء يسير وإنه لما ركب البحر رأى وهو نائم النبي وحوله المهاجرون والانصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي فيقول له رسول الله يا طارق تقدم لشأنك ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الأندلس قدامه فهب من نومه مستبشرا وبشر أصحابه وثابت نفسه ببشراه ولم يشك في الظفر فخرج من الجبل واقتحم بسيط البلد شانا للغارة وأصاب عجوزا من أهل الجزيرة فقالت له في بعض قولها إنه كان لها زوج عالم بالحدثان فكان يحدثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا فيغلب عليه ويصف من نعته أنه ضخم الهامة فأنت كذلك ومنها أن في كتفه اليسرى شامة عليها شعر فإن كانت فيك فأنت هو فكشف ثوبه فإذا بالشامة في كتفه على ما ذكرت فاستبشر بذلك ومن معه
ومن تاريخ ابن حيان لما حرض يليان النصاني صاحب سبتة للأمر الذي وقع بينه وبين صاحب الأندلس موسى بن نصير على غزو الأندلس جهز لها مولاه طارقا المذكور في سبعة آلاف من المسلمين جلهم من البربر في أربع سفن وحط بجبل طارق المنسوب إليه يوم السبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين ولم تزل المراكب تعود حتى توافى جميع أصحابه عنده بالجبل قال ووقع على لذريق صاحب الأندلس الخبر وأن يليان السبب فيه وكان يومئذ غازيا في جهة البشكنس فبادر

وكتب طارق إلى موسى بأنه قد زحف إليه لذريق بما لا طاقة له به وكان عمل من السفن عدة فجهز له فيها خمسة آلاف من المسلمين فكملوا بمن تقدم اثني عشر ألفا ومعهم يليان صاحب سبتة في حشده يدلهم على العورات ويتجسس لهم الأخبار وأقبل نحوهم لذريق ومه خيار العجم وأملاكها وفرسانها وقلوبهم عليه فتلاقوا فيما بينهم وقالوا إن هذا الخبيث غلب على سلطاننا وليس من بيت الملك وإنما كان من أتباعنا ولسنا نعدم من سيرته خبالا واضطرابا وهؤلاء القوم الذين طرقوا لا حاجة لهم في إيطان بلدنا وإنما مرادهم أن يملأوا أيديهم من الغنائم ويخرجوا عنا فهلم فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم فلعلهم يكفوننا أمره فإذا هم انصرفوا عنا أقعدنا في ملكنا من يستحقه فأجمعوا على ذلك انتهى
وقال ابن خلدون بعد ذكره ان القوطيين كان لهم ملك الأندلس وان ملكهم لعهد الفتح يسمى لذريق ما نصه وكانت لهم خطوة وراء البحر في هذه العدوة الجنوبية حطوها من فرضة المجاز بطنجة ومن زقاق البحر إلى بلاد البربر واستعبدوهم وكان ملك البرابرة بذلك القطر الذي هو اليوم جبال غمارة يسمى يليان فكان يدين بطاعتهم وبملتهم وموسى بن نصير أمير المغرب إذ ذاك عامل على إفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك ومنزله بالقيروان وكان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى ودوخ اقطاره وأثخن في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزقاق واستنزل يليان لطاعة الإسلام وخلف مولاه طارق بن زياد الليثي واليا بطنجة وكان يليان ينقم على لذريق ملك

بابنته الناشئة في داره على عادتهم في بنات بطارقتهم فغضب لذلك وأجاز إلى لذريق وأخذ ابنته منه ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط ودلهم على عورة فيهم أمكنت طارقا فيها الفرصة فانتهزها لوقته وأجاز البحر سنة اثنتين وتسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلثمائة من العرب واحتشد معهم من البربر زهاء عشرة آلاف فصيرهم عسكرين أحدهما على نفسه ونزل به جبل الفتح فسمي جبل طارق به والآخر على طريف بن مالك النخعي ونزل بمكان مدينة طريف فسمي به وأداروا الأسوار على أنفسهم للتحصن وبلغ الخبر إلى لذريق فنهض إليهم يجر أمم الأعاجم وأهل ملة النصرانية في زهاء أربعين ألفا وزحفوا إليه فالتقوا بفحص شريش فهزمه الله ونفلهم أموال أهل الكفر ورقابهم وكتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح وبالغنائم فحركته الغيرة وكتب إلى طارق يتوعده إن توغل بغير إذنه ويأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به واستخلف على القيروان ولده عبد الله وخرج ومعه حبيب بن أبي عبيدة الفهري ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب الموالي وعرفاء البربر ووافى خليج الزقاق ما بين طنجة والجزيرة الخضراء فأجاز إلى الأندلس وتلقاه طارق فانقاد واتبع وأتم موسى الفتح وتوغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق وأربونة في الجوف وصنم قادس في الغرب ودوخ أقطارها وجمع غنائمها وأجمع أن يأتي المشرق من ناحية القسطنطينية ويتجاوز إلى الشام دروبه ودروب الأندلس ويخوض إليه ما بينهما من أمم الأعاجم النصرانية مجاهدا فيهم

لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة ونمي الخبر إلى الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب ورأى أن ما هم به موسى غرر بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ والانصراف وأسر إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع وكتب له بذلك عهده ففت ذلك في عزم موسى وقفل عن الأندلس بعد ان أنزل الرابطة والحامية بثغورها وأنزل ابنه عبد العزيز لسدها وجهاد عدوها وأنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة واحتل موسى بالقيروان سنة خمس وتسعين وارتحل إلى المشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم والذخائر والأموال على العجل والظهر يقال إن من جملتها ثلاثين ألف رأس من السبي وولى على إفريقية ابنه عبد الله وقدم على سليمان بن عبد الملك فسخطه ونكبه وثارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته وكان خيرا فاضلا وافتتح في ولايته مدائن كثيرة وولي من بعده أيوب بن حبيب اللخمي وهو ابن أخت موسى بن نصير فولي عليها ستة أشهر ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس تارة من قبل الخليفة وتارة من قبل عامله بالقيروان وأثخنوا في أمم الكفر وافتتحوا برشلونة من جهة المشرق وحصون قشتالة وبسائطها من جهة الجوف وانقرضت أمم القوط وأرز الجلالقة من بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصنوا بها وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها وتوغلوا في بلاد الفرنجة وعصفت ريح الإسلام بأمم الكفر من كل جهة وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض

سنة من لدن فتحها واستمر الأمر على ذلك
وكان محمد بن يزيد عامل إفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه مهلك عبد العزيز بن موسى بن نصير بعث إلى الأندلس الحر بن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي فقدم الأندلس وعزل أيوب بن حبيب وولي سنتين وثمانية أشهر
ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السمح بن مالك الخولاني على رأس المائة من الهجرة وأمره أن يخمس أرض الأندلس فخمسها وبنى قنطرة قرطبة واستشهد غازيا بأرض الفرنجة سنة ثنتين ومائة فقدم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى ان قدم عنبسة بن سحيم الكلبي من قبل يزيد بن أبي مسلم عامل إفريقية فقدمها في صفر سنة ثلاث ومائة فاستقام أمر الأندلس وغزا الفرنجة وتوغل في بلادهم واستشهد سنة سبع ومائة لأربع سنين وأربعة أشهر
ثم تتابعت ولاة الأندلس من قبل أمراء إفريقية فكان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي أنفذه بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية لما استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع واقام في ولايتها سنتين ونصفا ولم يغز وقدم إليها عثمان بن أبي نسعة الخثعمي واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية وعزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص القيسي فوافاها سنة عشر وعزل قريبا يقال لسنة من ولايته واختلف هل تقدمه عثمان أو هو تقدم عثمان ثم ولي بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا قدم في المحرم سنة إحدى عشرة وغزا أرض مقوشة فافتتحها وتوفي سنة ثلاث عشرة ومائة لسنتين من ولايته وقدم بعده محمد بن عبد الله الأشجعي فولي شهرين ثم قدم عبد الرحمن بن

عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة وغزا الإفرنجة وكانت له فيهم وقائع وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة وكانت ولايته سنة وثمانية أشهر ثم ولي عبد الملك بن قطن الفهري وقدم في رمضان سنة أربع عشرة فولي سنتين وقال الواقدي أربع سنين وكان ظلوما جائرا في حكومته وغزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة ومائة فأوقع بهم وغنم ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة وولي عقبة بن الحجاج السلولي من قبل عبيد الله بن الحجاب فأقام خمس سنين محمود السيرة مجاهدا مظفرا حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر رودنة ثم وثب عليه عبد الملك بن قطن الفهري سنة إحدى وعشرين فخلعه وقتله ويقال أخرجه من الأندلس وولي مكانه إلى أن دخل بلج بن بشر بأهل الشام سنة أربع وعشرين فغلب عليه وولي الأندلس سنة أو نحوها
وقال الرازي ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر وتوفي بقرقشونة في صفر سنة ثلاث وعشرن واستقام الأمر لعبد الملك ثم دخل بلج بن بشر القشيري بجنيد الشام ناجيا من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر بملوية فثار على عبد الملك وقتله وهو ابن سبعين سنة واستوثق له الأمر بعد مقتل عبد الملك وانحاز الفهريون إلى جانب فامتنعوا عليه وكاشفوه واجتمع إليهم من أنكر فعلته بابن قطن وقام بأمرهم قطن وأمية

والتقوا فكانت الدائرة على الفهريين وهلك بلج من الجراح التي نالته في حربهم وذلك سنة اربع وعشرين لسنة أو نحوها من إمارته ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي وغلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلج وانحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه وولي سنتين أظهر فيهما العدل ودانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن مالت به العصبية في يمانيته ففسد أمره وهاجت الفتنة وقدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل إفريقية ركب إليها البحر من تونس سنة خمس وعشرين فدان له أهل الأندلس وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك فلقيهم وأحسن إليهم واستقام أمره وكان شجاعا كريما ذا رأي وحزم وكثر أهل الشام عنده ولم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد وأنزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها وسماها دمشق وأنزل أهل حمص إشبيلية وسماها حمص وأهل قنسرين جيان وسماها قنسرين وأهل الأردن رية ومالقة وسماهما الأردن وأهل فلسطين شذونة وهي شريش وسماها فلسطين وأهل مصر تدمير وسماها مصر وقفل ثعلبة إلى المشرق ولحق بمروان بن محمد وحضر حروبه وكان أبو الخطار أعرابيا عصبيا أفرط عند ولايته في التعصب لقومه من اليمانية وتحامل على المضرية وأسخط قيسا وأمر في بعض الأيام بالصميل بن حاتم كبير القيسية وكان من طوالع بلج وهو الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ورأس على المضرية فأقيم من مجلسه وتقنع فقال له بعض الحجاب وهو خارج من القصر أقم عمامتك يا أبا الجوشن فقال إن كان لي قوم فسيقيمونها فسار الصميل بن حاتم أميرهم يومئذ وزعيمهم وألب عليه قومه واستعان بالمنحرفين عنه من اليمانية فخلع أبو الخطار سنة ثمان وعشرين لأربع سنين وتسعة أشهر من ولايته وقدم مكانه ثوابه بن سلامة الجذامي

لكل دولة وقدم المضرية على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة تسع وعشرين واستتم سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافته اليمانية لميعاد إدالتهم واثقين بمكان عهدهم وتراضيهم واتفاقهم فبيتهم يوسف بمكان نزولهم في شقندة من قرى قرطبة بممالأة من الصميل بن حاتم والقيسية وسائر المضرية فاستلحموهم وثار ابو الخطار فقاتله الصميل وهزمه وقتله سنة تسع وعشرين واستبد يوسف بما وراء البحر من عدوة الأندلس وغلب اليمينة على أمرهم فاستكانوا لغلبة وتربصوا الدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل وكان يوسف ولي الصميل سرقسطة فلما ظهر أمر المسودة بالمشرق ثار الحباب الزهري بالأندلس داعيا لهم وحاصر الصميل بسرقسطة واستمد يوسف فلم يمده رجاء هلاكه لما كان يغض به وأمدته القيسية فأفرج عنه الحباب وفارق الصميل سرقسطة فملكها الحباب وولى يوسف الصميل على طليطلة إلى أن كان من عبد الرحمن الداخل ما كان انتهى كلام ولي الدين بن خلدون ببعض اختصار
وقال بعض المؤرخين إن عبد الله بن مروان أخا عبد الملك كان واليا على مصر

ابن نصير إلى إفريقية وذلك سنة سبع وثمانين للهجرة فامتثل أمره في ذلك
وقال الحميدي في جذوة المقتبس إن موسى بن نصير ولي إفريقية والمغرب سنة سبع وسبعين فقدمها ومعه جماعة من الجند فبلغه أن بأطراف البلاد من هو خارج عن الطاعة فوجه ولده عبد الله فأتاه بمائة ألف رأس من السبايا ثم ولده مروان إلى جهة أخرى فأتاه بمائة ألف رأي وقال الليث بن سعد بلغ الخمس ستين ألف رأس وقال الصدفي لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير ووجد أكثر مدن إفريقية خالية لاختلاف أيدي البربر عليها وكانت البلاد في قحط شديد فأمر الناس بالصوم والصلاة وإصلاح ذات البين وخرج بهم إلى الصحراء ومعه سائر الحيوانات وفرق بينها وبين أولادها فوقع البكاء والصراخ والضجيج وأقام على ذلك إلى منتصف النهار ثم صلى وخطب الناس ولم يذكر الوليد بن عبد الملك فقيل له ألا تدعو لأمير المؤمنين فقال هذا مقام لا يدعى فيه لغير الله تعالى فسقوا حتى رووا ثم خرج موسى غازيا وتتبع البربر وقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى سبيا عظيما وسار حتى انتهى إلى السوس الأدنى لا يدافعه أحد فلما رأى بقية البربر ما نزل بهم استأمنوا وبذلوا له الطاعة فقبل منهم وولى عليهم واليا واستعمل على طنجة وأعمالها مولاه طارق بن زياد البربري ويقال إنه من الصدف وترك عنده تسعة عشر ألفا من البربر بالأسلحة والعدة الكاملة وكانوا قد اسلموا وحسن إسلامهم وترك موسى عندهم خلقا يسيرا من العرب ليعلموا البربر القرآن وفرائض الإسلام ورجع إلى إفريقية ولم يبق بالبلاد من ينازعه من البربر ولا من الروم ولما استقرت له القواعد كتب إلى طارق وهو بطنجة يأمره بغزو بلاد الأندلس فغزاها في اثني عشر ألف من البربر خلا اثني عشر رجلا وصعد على

يوم الاثنين خامس رجب سنة اثنتين وتسعين وذكر عن طارق أنه كان نائما في المركب وقع التعدية فرأى النبي صلى الله عليه و سلم وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد هكذا ذكر ابن بشكوال
وقيل إن موسى ندم على تأخره وعلم أن طارقا إن فتح شيئا نسب الفتح إليه دونه فأخذ في جمع العساكر وولى على القيروان ابنه عبد الله وتبع طارقا فلم يدركه إلا بعد الفتح وقال بعض العلماء إن موسى بن نصير كان عاملا شجاعا كريما تقيا لله تعالى ولم يهزم له قط جيش وكان والده نصير على جيوش معاوية ومنزلته لديه مكينة ولما خرج معاوية لصفين لم يخرج معه فقال له ما منعك من الخروج معي ولي عندك يد لم تكافئني عليها فقال لم يمكني أن أشكرك بكفري من هو أولى بشكري منك فقال من هو فقال الله عز و جل فأطرق مليا ثم قال أستغفر الله ورضي عنه
ورجع إلى حديث طارق قال بعض المؤرخين كان لذريق ملك الأندلس استخلف عليها شخصا يقال له تدمير وإليه تنسب تدمير بالأندلس فلما نزل طارق من الجبل كتب تدمير إلى لذريق إنه قد نزل بأرضنا قوم لا ندري أمن السماء هم أم من الأرض فلما بلغ لذريق ذلك وكان قصد بعض الجهات البعيدة لغزو له في بعض أعدائه رجع عن مقصده في سبعين ألف فارس ومعه العجل تحمل الأموال والمتاع وهو على سريره بين دابتين وعليه مظلة مكللة بالدر والياقوت والزبرجد فلما بلغ طارقا دنوه قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم ثم قال أيها الناس أين المفر البحر من ورائكم والعدو أمامكم

من الأيتام في مأدبة اللئام وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمعتم بالأرفه الألذ طويلا فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفى من حظي وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدر والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان وقد انتخبكم الوليد ابن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا ورضيكم لملوك هذه الجزيرة صهارا وأختانا ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين واعلموا أني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتله إن شاء الله تعالى فاحملوا معي فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله فإنهم بعده يخذلون فلما فرغ من تحريض أصحابه على الصبر في قتال لذريق وأصحابه وما

وعدهم من الخير الجزيل انبسطت نفوسهم وتحققت آمالهم وهبت رياح النصر عليهم وقالوا له قد قطعنا الآمال مما يخالف ما عزمت عليه فاحضر إليه فإننا معك وبين يديك فركب وأصحابه فباتوا ليلتهم في حرس إلى الصبح فلما أصبح الفريقان تكتبوا وعبوا جيوشهم وحمل لذريق وهو على سريره وقد حمل على رأسه رواق ديباج يظلله وهو مقبل في غابة من البنود والأعلام وبين يديه المقاتلة والسلاح وأقبل طارق في أصحابه عليهم الزرد من فوق رؤوسهم العمائم البيض وبأديهم القسي العربية وقد تقلدوا السيوف واعتقلوا الرماح فلما نظر إليهم لذريق حلف وقال إن هذه الصور هي التي رأيناها ببيت الحكمة ببلدنا فداخله منهم الرعب فلما رأى طارق لذريق قال هذا طاغية القوم فحمل وحمل أصحابه معه فتفرقت المقاتلة من بين يدي لذريق فخلص إليه طارق فضربه بالسيف على رأسه فقتله على سريره فلما رأى أصحابه مصرع صاحبهم اقتحم الجيشان وكان النصر للمسلمين ولم تقف هزيمة العدو على موضع بل كانوا يسلمون بلدا بلدا ومعقلا معقلا
ولما سمع موسى بن نصير بما حصل من النصرة لطارق عبر الجزيرة بمن معه ولحق بمولاه طارق فقال له يا طارق إنه لن يجازيك الوليد بن عبد الملك على بلائك بأكثر من أن يمنحك الأندلس فاستبحه هنيئا مريئا فقال له طارق أيها الأمير والله لا أرجع عن قصدي هذا ما لم أنته إلى البحر المحيط أخوض فيه بفرسي يعني البحر الشمالي الذي تحت بنات نعش ولم يزل طارق يفتح وموسى معه إلى أن بلغ جليقية وهي ساحل البحر المحيط انتهى
وقال

نقم على مولاه طارق إذ غزا بغير إذنه وهم بقتله ثم ورد عليه كتاب الوليد بإطلاقه فأطلقه وخرج معه إلى الشام انتهى

خبر بيت الحكمة بالأندلس
قول لذريق إن هذه الصور هي التي رأيناها في بيت الحكمة إلخ اشار به إلى بيت حكمة اليونان وكان من خبره فيما حكى بعض علماء التاريخ أن اليونان وهم الطائفة المشهورة بالحكم كانوا يسكنون بلاد الشرق قبل عهد الإسكندر فلما ظهرت الفرس واستولت على البلاد وزاحمت اليونان على ما كان بأيديهم من الممالك انتقل اليونان إلى جزيرة الأندلس لكونها طرفا في آخر العمارة ولم يكن لها ذكر إذ ذاك ولا ملكها أحد من الملوك المعتبرة ولم تك عامرة وكان أول من عمر فيها واختطها أندلس بن يافث بن نوح عليه السلام فسميت باسمه ولما عمرت الأرض بعد الطوفان كانت الصورة المعمورة منها عندهم على شكل طائر رأسه المشرق والجنوب والشمال رجلاه وما بينهما بطنه والمغرب ذنبه وكانوا يزدرون المغرب لنسبته إلى أخس أجزاء الطير وكانت اليونان لا ترى فناء الأمم بالحروب لما فيها من الأضرار والاشتغال عن العلوم التي كان الاشتغال بها عندهم من أهم الامور فلذلك انحازوا من بين يدي الفرس إلى الأندلس فلما صاروا إليها أقبلوا على عمارتها فشقوا الانهار وبنوا المعاقل وغرسوا الجنات والكروم وشيدوا الأمصار وملؤوها حرثا ونسلا وبنيانا فعظمت وطابت حتى قال قائلهم لما رأى بهجتها إن الطائر الذي صورت هذه العمارة على شكله وكان المغرب ذنبه كان طاووسا معظم جماله في ذنبه
وحكي أن الرشيد هرون رحمه الله لما حضر بين

المغرب قال الرشيد يقال إن الدنيا بمثابة طائر ذنبه المغرب فقال الرجل صدقوا يا أمير المؤمنين وإنه طاووس فضحك أمير المؤمنين الرشيد وتعجب من سرعة جواب الرجل وانتصاره لقطره
رجع قال فاغتبط اليونان بالأندلس أتم اغتباط واتخذوا دار الحكمة والملك بها طليطلة لأنها أوسط البلاد وكان أهم الأمور عندهم تحصينها عمن يتصل به خبرها من الأمم فنظروا فإذا هو أنه لا يحسدهم على رغد العيش إلا أرباب الشظف والشقاء والتعب وهم يومئذ طائفتان العرب والبربر فخافوهم على جزيرتهم العامرة فعزموا على أن يتخذوا لهذين الجنسين من الناس طلسما فرصدوا لذلك أرصادا ولما كان البربر بالقرب منهم وليس بينهم سوى تعدية البحر ويرد عليهم منهم طوائف منحرفة الطباع خارجة عن الأوضاع ازدادوا منهم نفورا وكثر تحذرهم من نسب أومجاورة حتى ثبت ذلك في طبائعهم وصار بعضه مركبا في غرائزهم فلما علم البربر عداوة أهل الأندلس وبغضهم لهم أبغضوهم وحسدوهم فلم تجد أندلسيا إلا مبغضا بربريا وبالعكس إلا أن البربر أحوج إلى أهل الأندلس لوجود بعض الأشياء عندهم وفقدها ببلاد البربر
وكان بنواحي غرب الأندلس ملك يوناني بجزيرة يقال لها قادس وكانت له ابنة في غاية الجمال فتسامع بها ملوك الأندلس وكانت الأندلس كثيرة الملوك لكل بلدة أو بلدتين ملك فخطبوها وخشي أبوها إن زوجها من واحد أسخط الباقين فتحير وأحضر ابنته وكانت الحكمة مركبة في طباع القوم ذكورهم وإناثهم ولذا قيل إن الحكمة نزلت من السماء على ثلاثة أعضاء من أهل الأرض أدمغة اليونان وأيدي أهل الصين وألسنة العرب فقال لها يا بنية إني اصبحت على حيرة في أمرك

من الملوك وما أرضيت واحدا إلا أسخطت الباقين فقالت له اجعل الأمر إلى تخلص فقال وما تقترحين فقالت أن يكون ملكا حكيما فقال نعم ما اخترته لنفسك فكتب في أجوبة الملوك الخطاب أنها اختارت من الأزواج الملك الحكيم فلما وقفوا على الجواب سكت من لم يكن حكيما وكان من الملوك الخاطبين حكيمان فكتب كل واحد منهما أنا الملك الحكيم فلما وقفت على كتابيهما قال لها يا بنية بقي الأمر على إشكال وهذان ملكان حكيمان أيهما أرضيت أسخطت الآخر فقالت سأقترح على كل واحد منهما أمرا يأتي به فأيهما سبق إلى الفراغ مما التمست كنت زوجته قال وما الذي تقترحين عليهما قالت إنا ساكنون بهذه الجزيرة ومحتاجون إلى أرحي تدور بها وإني مقترحة على أحدهما إدارتها بالماء العذاب الجاري إليها من ذلك البر ومقترحة على الأخر أن يتخذ لي طلسما نحصن به جزيرة الأندلس من البربر فاستظرف أبوها ذلك وكتب إلى الملكين بما قالت ابنته فأجاباه إلى ذلك وتقاسماه على ما اختارا وشرع كل واحد منهما في عمل ما أسند إليه من ذلك
فأما صاحب الرحي فإنه عمد إلى أشكال اتخذها من الحجارة نضد بعضها إلى بعض في البحر المالح الذي بين جزيرة الأندلس والبر الكبير في الموضع المعروف بزقاق سبتة وسدد الفرج التي بين الحجارة بما اقتضت حكمته وأوصل تلك الحجارة من البر إلى الجزيرة وآثاره باقية إلى اليوم في الزقاق الذي بين سبتة والجزيرة الخضراء وأكثر أهل الأندلس يزعمون أن هذا أثر قنطرة كان الإسكندر قد عملها ليعبر عليها الناس من سبتة إلى الجزيرة والله أعلم أي القولين أصح غير أن الشائع إلى الآن عند الناس هو الثاني فلما تم تنضيد الحجارة للملك الحكيم جلب الماء العذب من جبل عال في البر الكبير وسلطه من ساقية محكمة وبنى بجزيرة الاندلس رحى على هذه الساقية
وأما صاحب الطلسم فإنه أبطأ

غير انه عمل أمره وأحكمه وابتنى بنيانا مربعا من حجر أبيض على ساحل البحر في رمل عالج حفر أساسه إلى أن جعله تحت الأرض بمقدار ارتفاعه فوق الأرض ليثبت فلما انتهى البناء المربع إلى حيث اختار صور من النحاس الأحمر والحديد المصفى المخلوطين بأحكم الخلط صورة رجل بربري وله لحية وفي رأسه ذؤابة من شعر جعد قائمة في رأسه لجعودتها وهو متأبط بصورة كساء قد جمع طرفيه على يده اليسرى بألطف تصوير وأحكمه في رجله نعل وهو قائم من رأس البناء على مستهدف بمقدار رحليه فقط وهو شاهق في الهواء طوله نيف عن ستين أو سبعين ذراعا وهو محدود الأعلى إلى أن ينتهي ما سعته قدر ذراع وقد مد يده اليمنى بمفتاح قفل قابضا عليه مشيرا إلى البحر كأنه يقول لا عبور وكان من تأثير هذا الطلسم في البحر الذي تجاهه أنه لم ير قط ساكنا ولا كانت تجري فيه قط سفينة بربر حتى سقط المفتاح من يده وكان الملكان اللذان عملا الرحي والطلسم يتسابقان إلى فراغ العمل إذ بالسبق يستحق زواج المرأة وكان صاحب الرحي فرغ أولا لكنه أخفى أمره عن صاحب الطلسم لئلا يترك عمله فيبطل الطلسم لتحظى المرأة بالرحي والطلسم فلم علم باليوم الذي يفرغ صاحب الطلسم في آخره أجرى الماء في الجزيرة من أوله وأدار الرحي واشتهر ذلك فاتصل الخبر بصاحب الطلسم وهو في أعلى القبة يصقل وجهه وكان الطلسم مذهبا فلما تحقق أنه مسبوق ضعفت نفسه فسقط من أعلى البناء ميتا وحصل صاحب الرحي على المرأة والرحي والطلسم وكان من تقدم من ملوك اليونان يخشى على الأندلس من البربر للسبب

اختاروا أرصادها وأودعوا تلك الطلسمات تابوتا من الرخام وتركوه في بيت بطليطلة وركبوا على ذلك الباب قفلا تأكيدا لحفظ ذلك البيت فاستمر أمرهم على ذلك
ولما حان وقت انقراض دولة من كان بالأندلس ودخول العرب والبربر إليها وذلك بعد مضي ستة وعشرين ملكا من ملوكهم من تاريخ عمل الطلسمات بطليطلة وكان لذريق المذكور آنفا هو تمام السابع والعشرين من ملوكهم فلما اقتعد أريكة الملك قال لوزرائه وخواص دولته وأهل الرأي منهم قد وقع في نفسي من أمر هذا البيت الذي عليه ستة وعشرون قفلا شيء وأرد أن أفتحه لأنظر ما فيه لأنه لم يعمل عبثا فقالوا أيها الملك صدقت إنه لم يصنع عبثا ولم يقفل سدى والرأي والمصلحة أن تلقي أنت أيضا عليه قفلا أسوة بمن تقدمك من الملوك وكان آباؤك وأجدادك لم يهملوا هذا فلا تهمله وسر سيرهم فقال لهم إن نفسي تنازعني إلى فتحه ولا بد لي منه فقالوا له إن كنت تظن أن فيه مالا فقدره ونحن نجمع لك من أموالنا نظيره ولا تحدث علينا بفتحه حادثا لا نعرف عاقبته فأصر على ذلك وكان رجلا مهيبا فلم يقدروا على مراجعته وأمر بفتح الأقفال وكان على كل قفل مفتاحه معلقا فلما فتح الباب لم ير في البيت شيئا إلا مائدة عظيمة من ذهب وفضة مكللة بالجواهر وعليها مكتوب هذه مائدة سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ورأى في البيت ذلك التابوت وعليه قفل ومفتاحه معلق ففتحه فلم يجد فيه سوى رق وفي جوانب التابوت صور فرسان مصورة بأصباغ محكمة التصوير على أشكال العرب وعليهم الفراء وهم معممون إلى ذوائب جعد ومن تحتهم الخيل العربية وهم متقلدون السيوف المحلاة معتقلون الرماح

التابوت المقفلان بالحكمة دخل القوم الذين صورهم في التابوت إلى جزيرة الأندلس وذهب ملك من فيها من أيديهم وبطلت حكمتهم فلما سمع لذريق ما في الرق ندم على ما فعل وتحقق انقراض دولتهم فلم يلبث إلا قليلا حتى سمع أن جيشا وصل من المشرق جهزه ملك العرب ليفتح بلاد الأندلس انتهى
فهذا هو بيت الحكمة الذي أشار إليه لذريق والله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك كله على أن في هذا السياق مخالفة لما سنذكره عن بعض ثقات مؤرخي الأندلس وغيرهم في شأن المائدة وغيرها وما ذكر في هذه القصة من جلب الماء من بر العدوة إلخ فيه بعد عندي لأن بلاد الأندلس أكثر بلاد الله مياها وأنهارا فأنى تحتاج إلى جلب الماء إليها من العدوة الأخرى إلا أن يقال إن المرأة أرادت تعجيز الرجل بذلك أو اختبار حكمته حتى يفعل هذا الامر الغريب وعلم الله من وراء ذلك كله وفوق كل ذي علم عليم ومنتهى العلم إلى الله الحكيم

عود إلىأخبار الفتح
وقال ابن حيان في المقتبس ذكروا أن لذريق لم يكن من أبناء الملوك ولا بصحيح النسب في القوط وأنه إنما نال الملك من طريق الغصب والتسور عندما مات إغطشة الملك الذي كان قبله وكان أثيرا لديه مكينا فاستصغر أولاده لمكانه واستمال طائفة من الرجال مالوا معه فانتزع الملك من أولاد إغطشة واستبقاهم فكانوا هم الذين دبروا عليه فيما ذكر عندما لقي

رجال العرب المقتحمين عليه بالأندلس من تلقاء بحر الزقاق وعليهم طارق بن زياد مولى موسى بن نصير طماعة منهم في أن يودي ويخلص إليهم ملك أبيهم فالتقوا بموضع يدعى وادي لكة من أرض الجزيرة الخضراء من ساحل الأندلس القبلي مكان عبورهم وذلك لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين من الهجرة فانهزم القوط أعظم هزيمة وقتل ملكهم لذريق وغلبت العرب على الاندلس فصارت أقصى فتوحهم من أرض العرب ومصداق موعد نبيهم الكفيل بفتح ما بين المشرق والمغرب عليهم بوحي الله تعالى إليه أنجزه لهم بفتح الأندلس ولله القوة
قال وقام بأمر العرب بالأندلس منذ فتحت الأمراء المرسلون منهم عليها من قبل أئمة المسلمين بالمشرق طوال دولة بني أمية رضي الله تعالى عنهم إلى أن طرأ إليها فلهم عند غلبة بني العباس عليهم وذلك عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام بن عبد الملك بن مروان فملكها وأعاد إليها الدولة الأموية التي أورثها عقبه حقبة فكانت عدة هؤلاء الأمراء من لدن أولهم طارق بن زياد إلى آخرهم يوسق بن عبد الرحمن الفهري عشرين عاملا وعدة سنيهم بالشمسي خمس وأربعون سنة وبالقمري سبع وأربعون سنة غير أشهر انتهى
وقال في موضع آخر نقلا عن الرازي وافتتحت الاندلس في أيام الوليد ابن عبد الملك فكان فتحها من أعظم الفتوح الذاهبة بالصيت في ظهور الملة الحنيفية وكان عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه متهمما بها معتنيا بشأنها وقد حولها عن نظر والي إفريقية وجرد إليها عاملا من قبله اختاره لها دلالة على معنيته بها ووقعت

ملخص خبر الفتح من الكتاب الخزائني وغيره
وفي الكتاب الخزائني وغيره سياقة فتح الأندلس علىأتم الوجود فلنذكر ملخصه قالوا استعمل أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك رحمه الله تعالى موسى بن نصير مولى عمه عبد العزيز بن مروان ويقال بل هو بكري وذلك أن أباه نصيرا أصله من علوج أصابهم خالد بن الوليد رضي الله عنه في عين التمر فادعوا أنهم رهن وأنهم من بكر بن وائل فصار نصيرا وصيفا لعبد العزيز بن مروان فأعتقه فمن هذا يختلف فيه وقيل إنه لخمي وعقد له على إفريقية وما خلفها في سنة ثمان وثمانين فخرج إلى ذلك الوجه في نفر قليل من المطوعة فلما ورد مصر أخرج معه من جندها بعثا وأتى إفريقية عمله فأخرج من أهلها معه ذوي القوة والجلد وصير على مقدمته طارق بن زياد فلم يزل يقاتل البربر ويفض جموعهم ويفتح بلادهم ومدائنهم حتى بلغ طنجة وهي قصبة ملك البربر وأم مدائنهم فحصرها حتى افتتحها وقيل إنها لم تكن افتتحت قبله وقيل افتتحت ثم ارتجعت فأسلم أهلها وخطها قيروانا للمسلمين ثم ساروا إلى مدائن على شط البحر فيها عمال لصاحب الاندلس قد غلبوا عليها وعلى ما حولها ورأس تلك المدائن سبتة وعليها علج يسمى يليان قاتله موسى فألفاه في نجدة وقوة وعدة فلم يطقه فرجع إلى مدينة طنجة فأقام بمن معه وأخذ في الغارات على ما حولهم والتضييق عليهم والسفن تختلف إليهم بالميرة والأمداد من الأندلس من قبل ملكها غيطشة فهم يذبون عن حريمهم ذبا شديدا ويحمون بلادهم حماية تامة إلى ان هلك غيطشة ملك الأندلس وترك أولادا لم يرضهم أهلها للملك فاضطرب حبل أهل الأندلس ثم تراضوا بعلج من كبارهم يقال

أنه من قوادهم وفرسانهم فولوه أمرهم وكانت طليطلة دار الملك بالأندلس حينئذ وكان بها بيت مغلق متحامى الفتح على الأيام عليه عدة من الأقفال يلزمه قوم من ثقات القوط قد وكلوا به لئلا يفتح وقد عهد الأول في ذلك إلى الآخر فكلما قعد منهم ملك أتاه أولئك الموكلون بالبيت فأخذوا منه قفلا وصيروه على ذلك الباب من غير أن يزيلوا قفل من تقدمه فلما قعد لذريق هذا وكان متهمما يقظا ذا فكر أتاه الحراس يسألونه أن يقفل على الباب فقال لهم لا أفعل أو أعلم ما فيه ولا بد لي من فتحه فقالوا له أيها الملك إنه لم يفعل هذا أحد ممن قبلك وتناهوا عن فتحه فلم يلتفت إليهم ومشى إلى البيت فأعظمت ذلك العجم وضرع إليه أكابرهم في الكف فلم يفعل وظن أنه بيت مال ففض الأقفال عنه ودخل فأصابه فارغا لا شيء فيه إلا تابوتا عليه قفل فأمر بفتحه يحسب أن مضمونه يقنعه نفاسة فألفاه أيضا فراغا ليس فيه إلا شقة مدرجة قد صورت فيها صور العرب عليهم العمائم وتحتهم الخيول العراب متقلدي السيوف متنكبي القسي رافعي الرايات على الرماح وفي أعلاها أسطر مكتوبة بالعجمية فقرئت فإذا فيها إذا كسرت الأقفال عن هذا البيت وفتح هذا التابوت فظهر ما فيه من هذه الصور فإن هذه الأمة المصورة في هذه الشقة تدخل الأندلس فتغلب عليها وتملكها فوجم لذريق وندم على ما فعل وعظم غمه وغم العجم بذلك وأمر برد الأقفال وإقرار الحرس على حالهم وأخذ في تدبير الملك وذهل عما أنذر به
وقد كان من سير أكابر العجم بالأندلس وقوادهم أن يبعثوا أولادهم الذين يريدون منفعتهم والتنويه بهم إلى بلاد الملك الأكبر بطليطلة ليصيروا في خدمته ويتأدبوا بأدبه وينالوا من كرامته حتى إذا بلغوا أنكح بعضهم بعضا استئلافا لآبائهم وحمل صدقاتهم وتولى تجهيز إناثهم إلى أزواجهن فاتفق أن فعل ذلك يليان عامل لذريق على سبتة وكانت يومئذ في يد صاحب الأندلس وأهلها على النصرانية ركب الطريقة بابنة له بارعة الجمال

صارت عند لذريق وقعت عينه عليها فأعجبته وأحبها حبا شديدا ولم يملك نفسه حتى استكرهها وافتضها فاحتالت حتى أعلمت أباها بذلك سرا بمكاتبة خفية فأحفظه شأنها جدا واشتدت حميته وقال ودين المسيح لأزيلن سلطانه ولأحفرن تحت قدميه فكان امتعاضه من فاحشة ابنته هو السبب في فتح الأندلس بالذي سبق من قدر الله تعالى
ثم إن يليان ركب بحر الزقاق من سبتة في أصعب الأوقات في ينير قلب الشتاء فصار بالأندلس وأقبل إلى طليطلة نحو الملك لذريق فأنكر عليه مجيئه في مثل ذلك الوقت وسأله عما لديه ولم جاء في مثل وقته فذكر خيرا واعتل بذكر زوجته وشدة شوقها إلى رؤية بنتها التي عنده وتمنيها لقاءها قبل الموت وإلحاحها عليه في إحضارها وأنه أحب إسعافها ورجا بلوغها أمنيتها منه وسأل الملك إخراجها إليه وتعجيل إطلاقه للمبادرة بها ففعل وأجاز الجارية وتوثق منها بالكتمان عليه وأفضل على أبيها فانقلب عنه وذكروا أنه لما ودعه قال له لذريق إذا قدمت علينا فاستفره لنا من الشذانقات التي لم تزل تطرفنا بها فإنها آثر جوارحنا لدينا فقال له أيها الملك وحق المسيح لئن بقيت لأدخلن عليك شذانقات ما دخل عليك مثلها قط عرض له بالذي أضمره من السعي في إدخال رجال العرب عليه وهو لا يفطن فلم يتنهنه يليان عندما استقر بسبتة عمله أن تهيأ للمسير نحو موسى بن نصير الأمير فمضى نحوه بإفريقية وكلمة في غزو الأندلس ووصف له حسنها وفضلها وما جمعت من أسباب المنافع وأنواع المرافق

وطيب المزارع وكثرة الثمار وثرارة المياه وعذوبتها وهون عليه مع ذلك حال رجالها ووصفهم بضعف البأس وقلة الغناء فشوق موسى إلى ما هناك وأخذ بالحزم فيما دعاه إليه يليان فعاقده على الانحراف إلى المسلمين واستظهر عليه بأن سامه مكاشفة أهل ملته من الأندلس المشركين والاستخراج إليهم بالدخول إليها وشن الغارة فيها ففعل يليان ذلك وجمع جمعا من أهل عمله فدخل بهم في مركبين وحل بساحل الجزيرة الخضراء فأغار وقتل وسبى وغنم وأقام بها أياما ثم رجع بمن معه سالمين وشاع الخبر عند المسلمين فأنسوا بيليان واطمأنوا إليه وكان ذلك عقب سنة تسعين فكتب موسى بن نصير إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك يخبره بالذي دعاه إليه يليان من أمر الأندلس ويستأذنه في اقتحامها فكتب إليه الوليد أن خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال فراجعه أنه ليس ببحر زخار وإنما هو خليج منه يبين للناظر ما خلفه فكتب إليه وإن كان فلا بد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه فبعث موسى عند ذلك رجلا من مواليه من البرابرة اسمه طريف يكنى أبا زرعة في أربعمائة رجل معهم مائة فرس سار بهم في أربعة مراكب فنزل بجزيرة تقابل جزيرة الأندلس المعروفة بالخضراء التي هي اليوم معبر سفائنهم سفائنهم ودار صناعتهم ويقال لها اليوم جزيرة طريف لنزوله بها وأقام بها أياما حتى تتام إليه أصحابه ثم مضى حتى أغار على الجزيرة فأصاب سبيا لم ير موسى ولا أصحابه مثله حسنا ومالا جسيما وأمتعة وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الدخول وقيل دخل طريف في ألف رجل فأصاب غنائم وسبيا ودخل بعده أبو زرعة شيخ من البرابرة وليس بطريف في ألف رجل منهم أيضا

وحرقوا كنيسة بها كانت عندهم معظمة وأصابوا سبيا يسيرا وقتلوا وانصرفوا سالمين
وقال الرازي هو أبو زرعة طريف بن مالك المعافري الاسم طبق الكنية قالوا ثم عادو يليان القدوم على موسى بن نصير محركا في الاقتحام على أهل الأندلس وخبره بما كان منه ومن طريف وأبي زرعة وما نالوه من أهلها وباشروه من طيبها فحمد الله على ذلك واستجد عزما في إقحام المسلمين فيها فدعا مولى له كان على مقدمته يسمى طارق بن زياد بن عبد الله فارسيا همذانيا وقيل إنه ليس بمولى لموسى وإنما هو رجل من صدف وقيل مولى لهم وقد كان بعض عقبه بالأندلس ينكرون ولاء موسى إنكارا شديدا وقيل إنه بربري من نفزة فعقد له موسى وبعثه في سبعة آلاف من المسلمين جلهم البربر والموالي وليس فيهم عرب إلا قليل ووجه معه يليان فهيأ له يليان المراكب فركب في أربع سفن لا صناعة له غيرها وحط بجبل طارق المنسوب إليه يوم سبت في شعبان سنة اثنتين وتسعين في شهر أغشت ثم صرف المراكب إلى من خلفه من أصحابه فركب من بقي من الناس ولم تزل السفائن تختلف إليهم حتى توافى جميعهم عنده بالجبل وقيل حل طارق بجبله يوم لاثنين لخمس خلون من رجب من السنة في اثنى عشر ألفا غير ستة عشر رجلا من البرابرة ولم يكن فيهم من العرب إلا يسيرا أجازهم يليان إلى ساحل الأندلس في مراكب التجار من حيث لم يعلم بهم أولا وركب أميرهم طارق آخرهم
قيل وأصاب طارق عجوزا من أهل الجزيرة فقالت له في بعض قولها إنه كان لها زوج عالم بالحدثان فكان يحدثهم عن أمير يدخل إلى بلدهم هذا

ويغلب عليه ويصف من نعته أنه ضخم الهامة فأنت كذلك ومنها أن في كتفه الأيسر شامة عليها شعر فإن كانت بك هذه العلامة فأنت هو فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة في كتفه على ما ذكرته العجوز فاستبشر بذلك هو ومن معه
وذكر عن طارق أنه كان نائما في المركب فرأى في منامه النبي والخلفاء الأربعة أصحابه عليهم السلام يمشون على الماء حتى مروا به فبشره النبي بالفتح وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد وقيل إنه لما ركب البحر غلبته عينه فكان يرى النبي وحوله المهاجرون والانصار قد تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي فيقول له رسول الله صلى الله عليه و سلم يا طارق تقدم لشأنك ونظر إليه وإلى أصحابه قد دخلوا الاندلس قدامه فهب من نومه مستبشرا وبشر أصحابه وثابت إليه نفسه ثقة ببشراه فقويت نفسه ولم يشك في الظفر فخرج من البلد واقتحم بسيط البلاد شانا للغارة
قالوا ووقع على لذريق الملك خبر اقتحام العرب ساحل الأندلس وتوالي غاراتهم على بلد الجزيرة وأن يليان السبب فيها وكان يومئذ غائبا بأرض بنبلونة في غزاة له إلى البشكنس لأمر كان استصعب عليه بناحيتهم فعظم عليه وفهم الأمر الذي منه أتي وأقبل مبادرا الفتق في جموعه حتى احتل بمدينة قرطبة من الموسطة ونزل القصر المدعو بها ببلاط لذريق المنسوب إليه وليس لأنه بناه أو اخترعه وهو بناء من تقدمه من الملوك اتخذوه لمنزلهم في قرطبة إذا أتوها إلا أن العرب لما غلبوا لذريق وهذا القصر من مواطنه نسبوه إليه إذ لم يعرفوا من بناه ويزعم العجم أن الذي بناه ملك

انتهى إلى مكان قرطبة وهي يومئذ خراب وكان في موضع قصرها غيضة عليق ملتفة أشبة فأرسل الملك بازيا له يكرم عليه علىحجلة عنت له من ناحية الكدية المنسوبة بعد إلى أبي عبدة فتخبت في ذلك العليق ولج البازي في الانقضاض عليها فركض الملك خلفه حتى وقف على مكانه بالحرجة فأمر بقطعها لاستنقاذ بازيه ضنا منه به فقطعت وبدا له تحتها اساس قصر عظيم راقه رصة وقد كان ذا همة فأمر بالكشف عنه وتقصي حدوده طولا وعرضا وتتبع اسه وأصله فوجده مبنيا من وجه الماء بصم الحجارة فوق زرجون وضع بينها وبين الماء بأحكم صناعة فقال هذا أثر ملك كريم وأنا أولى من جدده فأمر بإعادته إلى هيأته واتخاذه منزلا من منازل راحاته فكان إذا طاف بعمله أو مضى في متصيده نزل فيه وصار السبب في بناء قرطبة إلى جنبه ونزول الناس فيها وتوارث الملوك قصرها من بعد ونزله لذريق في زحفه إلى العرب أياما والحشود من أعماله تتوافى إليه ثم مضى نحو كورة شذونة يبغي لقائهم في حشوده الكثيرة
وقيل إن آخر ملوك الأندلس الذين تلتهم العرب غيطشة وإنه هلك عن أولاد ثلاثة صغار لم يصلحوا للملك فضبطت أمهم عليهم ملك والدهم بطليطلة وانحرف لذريق قائد الخيل لوالدهم فيمن تبعه عنهم فصار بقرطبة فلما اقتحم طارق الأندلس نفر إليه لذريق واستنفر إليه أجناد أهل الأندلس وكتب إلى أولاد غيطشة وقد ترعرعوا وركبوا الخيل واتخذوا الرجال يدعوهم إلى الاجتماع معه على حرب العرب ويحذرهم من القعود عنه ويحضهم على أن يكونوا على عدوهم يدا واحدة فلم يجدوا بدا وحشدوا وقدموا

نهرها قبالة القصر ولم يطمئنوا إلى الدخول على لذريق أخذا بالحزم إلى أن استتب جهاز لذريق وخرج فانضموا إليه ومضوا معه وهم مرصدون لمكروهه والأصح والله أعلم ما سبق أن ملك القوط اجتمع للذريق واختلف في اسمه فقيل رذريق بالراء أوله وقيل باللام لذريق وهو الأشهر وقيل إن أصله من أصبهان ويسمى الإشبان والله أعلم
قالوا وعسكر لذريق في نحو مائة ألف ذوي عدد وعدة فكتب طارق إلى موسى يستمده ويعرفه أنه فتح الجزيرة الخضراء فرضة الأندلس وملك المجاز إليها واستولى على أعمالها إلى البحيرة وأن لذريق زحف إليه بما لا قبل له به إلا أن يشاء الله وكان موسى منذ وجه طارقا لوجهه قد أخذ في عمل السفن حتى صار عنده منها عدة كثيرة فحمل إلى طارق فيها خمسة آلاف من المسلمين مددا كملت بهم عدة من معه اثنى عشر ألف أقوياء على المغانم حراصا على اللقاء ومعهم يليان المستأمن إليهم في رجاله وأهل عمله يدلهم على العورات ويتجسس لهم الأخبار وأقبل نحوهم لذريق في جموع العجم وملوكها وفرسانها فتلاقوا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض إن هذا ابن الخبيثة قد غلب على سلطاننا وليس من أهله وإنما كان من أتباعنا فلسنا نعدم من سيرته خبالا في أمرنا وهؤلاء القوم الطارقون لا حاجة لهم في استيطان بلدنا وإنما مرادهم أن يملأوا أيديهم من الغنائم ثم يخرجوا عنا فهلم فلننهزم بابن الخبيثة إذا نحن لقينا القوم لعلهم يكفوننا إياه فإذا انصرفوا عنا أقعدنا في ملكنا من يستحقه فأجمعوا على ذلك والقضاء يبرم ما ارتأوه
وكان لذريق ولي ميمنته أحد ابني غيطشة وميسرته الآخر فكانا

رأسي الذين أداروا عليه الهزيمة وأداهما إلى ذلك طمع رجوع ملك والدهما إليهما
وقيل لما تقابل الجيشان أجمع أولاد غيطشة على الغدر بلذريق وأرسلوا إلى طارق يعلمونه أن لذريق كان تابعا وخادما لأبيهم فغلبهم على سلطانه بعد مهلكه وأنهم غير تاركي حقهم لديه ويسألونه الأمان على أن يميلوا إليه عند اللقاء فيمن تبعهم وأن يسلم إليهم إذا ظفر ضياع والدهم بالأندلس كلها وكانت ثلاثة آلاف ضيعة نفائس مختارة وهي التي سميت بعد ذلك صفايا الملوك فأجابهم إلى ذلك وعاقدهم عليه فالتقى الفريقان من الغد فانحاز الأولاد إلى طارق فكان ذلك أقوى أسباب الفتح وكان الالتقاء على وادي لكة من كورة شذونة فهزم الله الطاغية لذريق وجموعه ونصر المسلمين نصرا لا كفاء له ورمى لذريق نفسه في وادي لكة وقد أثقلته السلاح فلم يعلم له خبر ولم يوجد
وقيل نزل طارق بالمسلمين قريبا من عسكر لذريق منسلخ شهر رمضان سنة 92 فوجه لذريق علجا من أصحابه قد عرف نجدته ووثق بباسه ليشرف على عسكر طارق فيحزر عددهم ويعاين هيئاتهم ومراكبهم فأقبل ذلك العلج حتى طلع على العسكر ثم شد في وجوه من استشرفه من المسلمين فوثبوا إليه فولى منصرفا راكضا وفاتهم بسبق فرسه فقال العلج للذريق أتتك الصور التي كشف لك عنها التابوت فخذ على نفسك فقد جاءك منهم من لا يريد إلا الموت أو إصابة ما تحت قدميك قد حرقوا مراكبهم إياسا لأنفسهم من التعلق بها وصفوا في السهل موطنين أنفسهم على الثبات إذ ليس لهم في أرضنا مكان مهرب فرعب وتضاعف جزعه والتقى العسكران بالبحيرة واقتتلوا قتالا شديدا إلى أن انهزمت ميمنة لذريق وميسرته

انهزم بهما أبناء غيطشة وثبت القلب بعدهما قليلا وفيه لذريق فعذرأهله بشيء من قتال ثم انهزموا ولذريق أمامهم فاستمرت هزيمتهم وأذرع المسلمون القتل فيهم وخفي أثر لذريق فلا يدرى أمره إلا أن المسلمين وجدوا فرسه الأشهب الذي فقد وهو راكبه وعليه سرج له من ذهب مكلل بالياقوت والزبرجد ووجدوا أحد خفيه وكان من ذهب مكلل بالدر والياقوت وقد ساخ الفرس في طين وحمأة وغرق العلج فثبت أحد خفيه في الطين فأخذ وخفي الآخر وغاب شخص العلج ولم يوجد حيا ولا ميتا والله أعلم بشأنه
وقال الرازي كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان فاتصلت الحرب بينهم إل يوم الاحد لخمس خلون من شوال بعد تتمة ثمانية أيام ثم هزم الله المشركين فقتل منهم خلق عظيم أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبسة لتلك الأرض قالوا وحاز المسلمون من عسكرهم ما يحل قدره فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم ويعرفون من دونهم بخواتم الفضة ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس فجمع طارق الفيء وخمسه ثم اقتسمه أهله على تسعة آلاف من المسلمين سوى العبيد والأتباع وتسامع الناس من أهل بر العدوة بالفتح على طارق بالاندلس وسعة المغانم فيها فأقبلوا نحوه من كل وجه وخرقوا البحر على كل ما قدروا عليه من مركب وقشر فلحقوا بطارق وارتفع أهل الأندلس عند ذلك إلى الحصون والقلاع

طارق حتى نزل بأهل مدينة شذونة فامتنعوا عليه فشد الحصر عليهم حتى نهكهم وأضرهم فتهيأ له فتحها عنوة فحاز منها غنائم ثم مضى منها إلى مورور ثم عطف إلى قرمونة فمر بعينه المنسوبة إليه ثم مال على إشبيلية فصالحه أهلها على الجزية ثم نازل أهل إستجة وهم في قوة ومعهم فل عسكر لذريق فقاتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتل والجراح بالمسلمين ثم إن الله تعالى أظهر المسلمين عليهم فانكسروا ولم يلق المسلمون فيما بعد ذلك حربا مثلها وأقاموا على الامتناع إلى أن ظفر طارق بالعلج صاحبها وكان مغترا سيء التدبير فخرج إلى النهر لبعض حاجاته وحده فصادف طارقا هناك قد أتى لمثل ذلك وطارق لا يعرفه فوثب عليه طارق في الماء فأخذه وجاء به إلى العسكر فلما كاشفه اعترف له بأنه أمير المدينة فصالحه طارق على ما أحب وضرب عليه الجزية وخلى سبيله فوفى بما عاهد عليه وقذف الله الرعب في قلوب الكفرة لما رأوا طارقا يوغل في البلاد وكانوا يحسبونه راغبا في المغنم عاملا على القفول فسقط في أيديهم وتطايروا عن السهول إلى المعاقل وصعد ذوو القوة منهم إلى دار مملكتهم طليطلة قيل وكان من إرهاب طارق لنصارى الأندلس وحيله أن تقدم إلى أصحابه في تفصيل لحوم القتلى بحضرة أسراهم وطبخها في القدور يرونهم أنهم يأكلونها فجعل من انطلق من الأسرى يحدثون من وراءهم بذلك فتمتلىء منه قلوبهم رعبا ويجفلون فرارا قالوا وقال يليان لطارق قد فضضت جيوش القوم ورعبوا فاصمد لبيضتهم وهؤلاء أدلاء من أصحابي مهرة ففرق جيوشهم معهم في جهات البلاد واعمد أنت إلى طليطلة حيث معظمهم فاشغل القوم عن النظر في امرهم والاجتماع إلى أولي رأيهم ففرق

عبد الملك إلى قرطبة وكانت من أعظم مدائنهم في سبعمائة فارس لأن المسلمين ركبوا جميعا خيل العجم ولم يبق فيهم راجل وفضلت عنهم الخيل وبعث جيشا آخر إلى مالقة وآخر إلى غرناطة مدينة إلبيرة وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيان يريد طليطلة وقد قيل إن الذي سار لقرطبة طارق بنفسه لا مغيث قالوا فكمنوا بعدوة نهر شقندة في غيضة أرز شامخة وأرسلت الأدلاء فأمسكوا راعي غنم فسئل عن قرطبة فقال رحل عنها عظماء أهلها إلى طليطلة وبقي فيها أميرها في أربعمائة فارس من حماتهم مع ضعفاء أهلها وسئل عن سورها فأخبر أنه حصين عال فوق أرضها إلا أنه فيه ثغرة ووصفها لهم فلما أجنهم الليل أقبلوا نحو المدينة ووطأ الله لهم أسباب الفتح بأن أرسل السماء برذاذ أخفى دقدقة حوافر الخيل وأقبل المسلمون رويدا حتى عبروا نهر قرطبة ليلا وقد أغفل حرس المدينة احتراس السور فلم يظهروا عليه ضيقا بالذي نالهم من المطر والبرد فترجل القوم حتى عبروا النهر وليس بين النهر والسور إلا مقدار ثلاثين ذراعا أو أقل وراموا التعلق بالسور فلم يجدوا متعلقا ورجعوا إلى الراعي في دلالاتهم علىالثغرة التي ذكرها فأراهم إياها فإذا بها غير متسهلة التسنم إلا أنه كانت في أسفلها شجرة تين مكنت أفنانها من التعلق بها فصعد رجل من أشداء المسلمين في أعلاها ونزع مغيث عمامته فناوله طرفها وأعان بعض الناس بعضا حتى كثروا على السور وركب مغيث ووقف من خارج وأمر أصحابه المرتقين للسور بالهجوم على الحرس ففعلوا وقتلوا نفرا منهم وكسروا أقفال الباب وفتحوه فدخل مغيث ومن معه وملكوا المدينة عنوة فصمد إلى البلاط منزل الملك ومعه أدلاؤه وقد بلغ

المدينة فبادر بالفرار عن البلاط في أصحابه وهم زهاء أربعمائة وخرج إلى كنيسة بغربي المدينة وتحصن بها وكان الماء يأتيها تحت الأرض من عين في سفح جبل ودافعوا عن أنفسهم وملك مغيث المدينة وما حولها وقال من ذهب إلى أن طارقا لم يحضر فتح قرطبة وان فاتحها معيث إنه كتب إلى طارق بالفتح وأقام على محاصرة العلج بالكنيسة ثلاثة أشهر حتى ضاق من ذلك وطال عليه فتقدم إلى أسود من عبيده اسمه رباح وكان ذا بأس ونجدة بالكمون في جنان إلى جانب الكنيسة ملتفة الأشجار لعله أن يظفر له بعلج يقف به على خبر القوم ففعل ودعاه ضعف عقله إلى أن صعد في بعض تلك الأشجار وذلك أيام الثمر ليجني ما يأكله فبصر به أهل الكنيسة وشدوا عليه فأخذوه فملكوه وهم في ذلك هائبون له منكرون لخلقه إذ لم يكونوا عاينوا أسود قبله فاجتمعوا عليه وكثر لغطهم وتعجبهم من خلقه وحسبوا أنه مصبوغ أو مطلي ببعض الأشياء التي تسود فجردوه وسط جماعتهم وأدنوه إلى القناة التي منها كان يأتيهم الماء وأخذوا في غسله وتدليكه بالحبال الحرش حتى أدموه وأعنتوه فاستغاثهم وأشار إلى أن الذي به خلقة من بارئهم عز و جل ففهموا إشارته وكفوا عن غسله واشتد فزعهم منه ومكث في إسارهم سبعة أيام لا يتركون التجمع عليه والنظر إليه إلى أن يسر الله له الخلاص ليلا ففر واتى الأمير مغيثا فخبره بشأنه وعرفه بالذي اطلع عليه من موضع الماء الذي ينتابونه ومن أي ناحية يأتيهم فأمر أهل المعرفة بطلب تلك القناة في الجهة التي أشار غليها الأسود حتى أصابوها فقطعوها عن جريتها إلى

بالهلاك حينئذ فدعاهم مغيث إلى الإسلام أو الجزية فأبوا عليه فأوقد الناء عليهم حتى أحرقهم فسميت كنيسة الحرقى والنصارى تعظمها لصبر من كان فيها على دينهم من شدة البلاء غير أن العلج أميرهم رغب بنفسه عن بليتهم عند إيقان الهلاك ففر عنهم وحده وقد استغفلهم ورام اللحاق بطليطلة فنمي خبره إلى مغيث فبادر الركض خلفه وحده فلحقه بقرب قرية تطليرة هاربا وحده وتحته فرس أصفر ذريع الخطو وحرك مغيث خلفه فالتفت العلج ودهش لما رأى مغيثا فد رهقه وزاد في حث فرسه فقصر به فسقط عن الفرس واندقت عنقه فقعد على ترسه مستأسرا قد هاضته السقطة فقبض عليه مغيث وسلبه سلاحه وحبسه عنده ليقدم به على أمير المؤمنين الوليد ولم يؤسر من ملوك الأندلس غيره لأن بعضهم استأمن وبعضهم هرب إلى جليقية وفي رواية أن مغيثا استنزل أهل الكنيسة بعد أسره لملكهم فضرب أعنقاقهم جميعا فمن أجل ذلك عرفت بكنيسة الأسرى وأن مغيثا جمع يهود قرطبة فضمهم إلى مدينتها استنامة إليهم دون النصارى للعداوة بينهم وأنه اختار القصر لنفسه والمدينة لأصحابه
وأما من وجه إلى مالقة ففتحوها ولجأ علوجها إلى جبال هنالك ممتنعة ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجه إلى إلبيرة فحاصروا مدينتها غرناطة فافتتحوها عنوة وضموا اليهود إلى قصبة غرناطة وصار ذلك لهم سنة متبعة في كل بلد يفتحونه أن يضموا يهوده إلى القصبة مع قطعة من المسلمين لحفظها ويمضي معظم الناس لغيرها وإذا لم يجدوا يهودا وفروا عدد المسلمين المخلفين لحفظ ما فتح ثم صنعوا عند فتح كورة رية

ومضى الجيش إلى تدمير وتدمير اسم العلج صاحبها سميت به واسم قصبتها أريولة ولها شأن في المنعة وكان ملكها علجا داهية وقاتلهم مضحيا ثم استمرت عليه الهزيمة في فحصها فبلغ السيف في أهلها مبلغا عظيما أفنى أكثرهم ولجأ العلج إلى أريولة في يسير من أصحابه لا يغنون شيئا فأمر النساء بنشر الشعور وحمل القصب والظهور على السور في زي القتال متشبهات بالرجال وتصدر قدامهن في بقية أصحابه يغالظ المسلمين في قوته على الدفاع عن نفسه فكره المسلمون مراسه لكثرة من عاينوه على السور وعرضوا عليه الصلح فأظهر الميل إليه ونكر زيه فنزل إليهم بأمان على أنه رسول فصالحهم على أهل بلده ثم على نفسه وتوثق منهم فلما تم له من ذلك ما أراد عرفهم بنفسه واعتذر إليهم بالإبقاء على قومه وأخذهم بالوفاء بعهده وأدخلهم المدينة فلم يجدوا فيها إلا العيال والذرية فندموا على الذي أعطوه من الأمان واسترجحوه فيما احتال به ومضوا على الوفاء له وكان الوفاء عادتهم فسلمت كورة تدمير من معرة المسلمين بتدبير تدمير وصارت كلها صلحا ليس فيها عنوة وكتبوا إلى أميرهم طارق لفتح وخلفوا بقصبة البلد رجالا منهم ومضى معظمهم إلى أميرهم لفتح طليطلة
قال ابن حيان وانتهى طارق إلى طليطلة دار ممكلة القوط فألفاها خالية قد فر أهلها عنها ولجأوا إلى مدينة بها خلف الجبل فضم اليهود إلى طليطلة وخلف بها رجالا من أصحابه ومضى خلف من فر من أهل طليطلة فسلك إلى وادي الحجارة ثم استقبل الجبل فقطعه من فج سمي به

بعد فبلغ مدينة المائدة خلف الجبل وهي المنسوبة لسليمان بن داود عليهما السلام وهي خضراء من زبرجدة حافاتها منها وأرجلها وكان لها ثلاثمائة وخمس وستون رجلا فأحرزها عنده ثم مضى إلى المدينة التي تحصنوا بها خلف الجبل فأصاب بها حليا ومالا ورجع ولم يتجاوزها إلى طليلة سنة ثلاث وتسعين وقيل إنه لم يرجع بل اقتحم أرض جليقية واخترقها حتى انتهى إلى مدينة استرقه فدوخ الجهة وانصرف إلى طليلة والله أعلم وقيل إن طارقا دخل الأندلس بغير أمر مولاه موسى بن نصير فالله أعلم قال بعضهم وكانت إقامته في الفتوح وتدويخ البلاد إلى أن وصل سيده موسى ابن نصير سنة وكان ما سيذكر
وأنشد في المسهب وابن اليسع في المعرب لطارق من قصيدة قالها في الفتح
( ركبنا سفينا بالمجاز مقيرا ... عسى أن يكون الله منا قد اشترى )
( نفوسا وأموالا وأهلا بجنة ... إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا )
( ولسنا نبالي كيف سألت نفوسنا ... إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا )
قال ابن سعيد وهذه الأبيات مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته لا لعلو طبقتها انتهى
وأما أولاد غيطشة فإنهم لما صاروا إلى طارق بالأمان وكانوا سبب الفتح حسبما تقدم قالوا لطارق أنت أمير نفسك أم فوقك أمير فقال بل على رأسي أمير وفوق ذلك الأمير أمير عظيم فاستأذنوه باللحاق بموسى بن نصير بإفريقية ليؤكد سببهم به وسألوه الكتاب إليه بشأنهم معه وما أعطاهم من عهده ففعل وساروا نحو

من بلاد البربر وعرفوه بشأنهم ووقف على ما خاطبه به طارق في ذمتهم وسابقتهم فأنفذهم إلى أمير المؤمنين الوليد بالشام بدمشق وكتب إليه بما عرفه به طارق من جميل أثرهم فلما وصلوا إلى الوليد أكرمهم وأنفذ لهم عهد طارق في ضياع والدهم وعقد لكل واحد منهم سجلا وجعل لهم أن لا يقوموا لداخل عليهم فقدموا الأندلس وحازوا ضياع والدهم أجمع واقتسموها على موافقة منهم فصار منها لكبيرهم ألمند ألف ضيعة في غرب الأندلس فسكن من أجلها إشبيلية مقتربا منها وصار لأرطباش ألف ضيعة وهو تلوه في السن وضياعه في موسطة الأندلس فسكن من أجلها قرطبة وصار لثالثهم وقلة ألف ضيعة في شرقي الأندلس وجهة الثغر فسكن من أجلها مدنية طليطلة فكانوا على هذه الحال صدر الدولة العربية إلى أن هلك ألمند كبيرهم وتخلف ابنته سارة المعروفة بالقوطية وابنين صغيرين فبسط يده أرطباش على ضياعهم وضمها إلى ضياعه وذلك في خلافة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك فأنشأت سارة بنت ألمند مركبا بإشبيلية حصينا كامل العدة وركبت فيه مع أخويها الصغيرين تريد الشام حتى نزلت بعسقلان من ساحلها ثم قصدت باب الخليفة هشام بداره بدمشق فأنهت خبرها وشكت ظلامتها من عمها واستعدت عليه واحتجت بالعهد المنعقد لأبيها وأخويه على الخليفة

وكتب إلى حنظلة بن صفوان عامله فإفريقية وبإنصافها من عمها أرطباش وإمضائها وأخويها على سنة الميراث فيما كان في يد والدها مما قاسم فيه أخويه فأنفذ لها الكتاب بذلك إلى عامله بالأندلس أبي الخطار ابن عمه فتم لها ذلك وأنكحها الخليفة هشام من عيسى بن مزاحم فابتنى بها بالشام ثم قدم بها إلى الأندلس وقام لها في دفاع عمها أرطباش عن ضياعها فنال بها نعمة عظيمة وولد له منها ولداه إبراهيم وإسحاق فأدركا الشرف المؤثل والرياسة بإشبيلية وشهرا ونسلهما بالنسبة إلى أمهما سارة القوطية وكانت أيام وفادتها على الخليفة هشام رات عنده حفيده عبد الرحمن بن معاوية الداخل بعد إلى الأندلس وعرفها فتوسلت بذلك إليه لما ملك الأندلس ووفدت إليه فاعترف بذمامها وأكرمها وأذن لها في الدخول إلى قصره متى جاءت إلى قرطبة فيجدد تكرمتها ولا يحجب عياله منها وتوفي زوجها عيسى في السنة التي ملك فيها عبد الرحمن الأندلس فزوجها عبد الرحمن من عمير بن سعيد
وكان لها ولأبيها ألمند وعمها أرطباش في صدر الدولة العربية بالأندلس أخبار ملوكية فمنها ما حكاه الفقيه محمد بن عمر بن لبابة المالكي أنه قصد أرطباش يوما إلى منزله عشرة من رؤساء رجال الشاميين فيهم الصميل وابن الطفيل وأبو عبدة وغيرهم فأجلسهم على الكراسي وبالغ في تكريمهم ودخل على أثرهم ميمون العابد جد بني حزم وكان في عداد الشاميين إلا أنه كان شديد الانقباض عنهم لزهده وورعه فلما بصر به أرطباش قام إليه دونهم إعظاما ورقاه إلى كرسيه الذي كان يجلس عليه وكان ملبسا صفائح الذهب وجذبه

ليجلسه مكانه فامتنع عليه ميمون وقعد على الأرض فقعد أرطابش معه عليها وأقبل عليه قبلهم فقال له يا سيدي ما الذي جاء بك إلى مثلي فقال له ما تسمعه إنا قدمنا إلى هذا البلد غزاة نحسب أن مقامنا فيه لا يطول فلم نستعد للمقام ولا كثرنا من العدة ثم حدث بعدنا على موالينا وفي أجنادنا ما قد أيسنا معه من الرجوع إلى أوطاننا وقد وسع الله عليك فأحب أن تدفع إلي ضياعا من ضياعك أعتمرها بيدي وأؤدي إليك الحق منها وآخذ الفضل لي طيبا أتعيش منه فقال لا أرضي لك بالمساهمة بل أهب لك هبة مسوغة ثم دعا بوكيل له فقال له سلم إليه المجشر الذي لنا على وادي شوش بما لنا فيه من العبيد والدواب والبقر وغير ذلك وادفع إليه الضيعة التي بجيان فتسلم ميمون الضيعتين وورثهما ولده وإليهم نسبت قلعة حزم فشكره ميمون وأثنى عليه وقام عنه وقد أنف الصميل من قيامه إليه فأقبل على أرطباش وقا له كنت أظنك أرجح وزنا أدخل عليك وأنا سيد العرب بالأندلس في أصحابي هؤلاء وهم سادة الموالي فلا تزيدنا من الكرامة على الإنعقاد على أعوادك هذه ويدخل هذا الصعلوك فتصير من إكرامه إلى حيث صرت فقال له يا ابا جوشن إن أهل دينك يخبروننا أن أدبهم لم يرهفك ولو كان لم تنكر علي ما فعلته إنكم أكرمكم الله إنما تكرمون لدنياكم وسلطانكم وهذا إنما أكرمته لله تعالى فقد روينا عن المسيح عليه السلام أنه قال من أكرمه الله تعالى من عباده بالطاعة له وجبت كرامته على خلقه فكأنما ألقمه حجرا وكان الصميل أميا فلذلك عرض به فقال له القوم دعنا من هذا وانظر فيما قصدنا له فحاجتنا حاجة الرجل الذي قصدك فأكرمته فانظر في شأننا فقال له أنتم ملوك الناس وليس يرضيكم إلا الكثير وها أنا أهب لكم مائة ضيعة تقتسمونها

إليهم فكان القوم يرونها من أطيب أملاكهم انتهى
قال ابن حيان وغيره ولما بلغ موسى بن نصير ما صنعه طارق بن زياد وما أتيح له من الفتوح حسده وتهيأ للمسير إلى الأندلس فعسكر وأقبل نحوها ومعه جماعة الناس وأعلامهم وقيل إنهم كانوا ثمانية عشر ألفا وقيل اكثر فكان دخوله إلى الأندلس في شهر رمضان سنة ثلاث وتسعين وتنكب الجبل الذي حله طارق ودخل على الموضع المنسوب إليه المعروب الآن بجبل موسى فلما احتل الجزيرة الخضراء قال ما كنت لأسلك طريق طارق ولا أقفو اثره فقال له العلوج الأدلاء أصحاب يليان نحن نسلك بك طريقا هو أشرف من طريقه وندلك على مدائن هي أعظم خطرا وأعظم خطبا وأوسع غنما من مدائنه لم تفتح بعد يفتحها الله عليك إن شاء الله تعالى فملىء سرورا وكان شفوف طارق قد غمه فساروا به في جانب ساحل شذونة فافتتحها عنوة وألقوا بأيديهم إليه ثم سار إلى مدينة قرمونة وليس بالأندلس أحصن منها ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال فدخلها بحيلة توجهت بأصحاب يليان دخلوا إليهم كأنهم فلال وطرقهم موسى بخيله ليلا ففتحوا لهم الباب وأوقعوا بالأحراس فملكت المدينة ومضى موسى إلى إشبيلية جارتها فحاصرها وهي أعظم مدائن الأندلس شأنا وأعجبها بنيانا وأكثرها آثارا وكانت دار الملك قبل القوطيين فلما غلب القوطيون على ملك الأندلس حولوا السلطان إلى طليطلة وبقي رؤساء الدين فيها أعني إشبيلية فامتنعت أشهرا على موسى ثم فتحها الله عليه فهرب العلوج عنها إلى مدينة باجة فضم موسى يهودها إلى القصبة وخلف بها رجالا ومضى من إشبيلية

لفنت إلى مدينة ماردة وكانت أيضا دار مملكة لبعض ملوك الأندلس في سالف الدهر وهي ذات عز ومنعة وفيها آثار وقصور ومصانع وكنائس جليلة القدر فائقة الوصف فحاصرها أيضا وكان في أهلها منعة شديدة وبأس عظيم فنالوا من المسلمين دفعات وآذوهم وعمل موسى دبابة دب المسلمون تحتها إلى برج من أبراج سورها جعلوا ينقبونه فلما قلعوا الصخر أفضوا بعده إلى العمل المدعو بلسان العجم ألاشه ماشه فنبت عنه معاولهم وعدتهم وثار بهم العدو على غفلة فاستشهد بأيديهم قوم من المسلمين تحت تلك الدبابة فسمي ذلك الموضع برج الشهداء ثم دعا القوم إلى السلم فترسل إليه في تقريره قوم من أماثلهم أعطاهم الأمان واحتال في توهيمهم في نفسه فدخلوا عليه أول يوم فإذا هو أبيض الرأس واللحية كما نصل خضابه فلم يتفق لهم معه أمر وعاودوه قبل الفطر بيوم فإذا به قد قنأ لحيته بالحناء فجاءت كضرام عرفج فعجبوا من ذلك وعاودوه يوم الفطر فإذا هو قد سود لحيته فازداد تعجبهم منه وكانوا لا يعرفون الخضاب ولا استعماله فقالوا لقومهم إنا نقاتل أنبياء يتخلقون كيف شاءوا ويتصورون في كل صورة أحبوا كان ملكهم شيخا فقد صار شابا والرأي أن نقاربه ونعطيه ما يسأله فما لنا به طاقة فأذعنوا عند ذلك وأكملوا صلحهم مع موسى على أن أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحليها للمسلمين ثم

يوم الفطر سنة أربع وتسعين فملكها ثم إن عجم إشبيلية انتقضوا على المسلمين واجتمعوا من مدينتي باجة ولبلة إليهم فأوقعوا بالمسلمين وقتلوا منهم نحو ثمانين رجلا وأتى فلهم الأمير موسى وهو بماردة فلما أن فتحها وجه ابنه عبد العزيز بن موسى في جيش إليهم ففتح إشبيلية وقتل أهلها ونهض إلى لبلة ففتحها واستقامت الامور فيما هنالك وعلا الإسلام وأقام عبد العزيز بإشبيلية وتوجه الامير موسى من ماردة في عقب شوال من العام المؤرخ يريد طليطلة وبلغ طارقا خبره فاستقبله في وجوه الناس فلقيه في موضع من كورة طلبيرة وقيل إن موسى تقدم من ماردة فدخل جليقية من فج نسب إليه فخرقها حتى وافى طارق بن زياد صاحب مقدمته بمدينة استرقة فغض منه علانية وأظهر ما بنفسه عليه من حقد والله أعلم وقيل لما وقعت عينه عليه نزل إليه إعظاما له فقنعه موسى بالسوط ووبخه على استبداده عليه ومخالفته لرايه وساروا إلى طليطلة فطالبه موسى بأداء ما عنده من مال الفيء وذخائر الملوك واستعجله بالمائدة فأتاه بها وقد خلع من أرجلها رجلا وخبأه عنده فسأله موسى عنه فقال لا علم لي به وهكذا أصبتها فأمر موسى فجعل لها رجل من ذهب جاء بعيد الشبه من أرجلها يظهر عليه التعمل ولم يقدر على أحسن منه فأخل بها
وقال ابن الفرضي موسى بن نصير صاحب فتح الأندلس لخمي يكنى أبا عبد الرحمن يروي عن تميم الداري وروى عنه يزيد بن مسروق اليحصبي
وقيل غزا موسى بن نصير في المحرم سنة ثلاث وتسعين فأتى طنجة ثم عبر إلى الأندلس فأدخلها لا يأتي على مدينة إلا فتحها ونزل أهلها على حكمه ثم سار إلى قرطبة ثم قفل عن الأندلس سنة أربع وتسعين فأتى إفريقية وسار عنها سنة خمس وتسعين إلى الشام يؤم الوليد بن عبد

احتمله من غنائم الأندلس من الأموال والأمتعة يحملها على العجل والظهر ومعه ثلاثون ألف رأس من السبي فلم يلبث أن هلك الوليد بن عبد الملك وولي سليمان فنكب موسى نكبا أداه إلى المتربة فهلك في نكبته تلك بوادي القرى سنة سبع وتسعين
قال ابن حيان وهذه المائدة المنوه باسمها المنسوبة إلى سليمان النبي عليه الصلاة و السلام لم تكن له فيما يزعم رواة العجم وإنما أصلها أن العجم في أيام ملكهم كان أهل الحسنة منهم إذا مات أحدهم أوصى بمال للكنائس فإذا اجتمع عندهم ذلك المال صاغوا منه الآلات الضخمة من الموائد والكراسي وأشباهها من الذهب والفضة تحمل الشمامسة والقسوس فوقها مصاحف الأناجيل إذا أبرزت في أيام المناسك ويضعونها على المذابح في الأعياد للمباهاة بزينتها فكانت تلك المائدة بطليطلة مما صيغ في هذه السبيل وتأنقت الأملاك في تفخيهما يزيد الآخر منهم فيها على الأول حتى برزت على جميع ما اتخذ منتلك الآلات وطار الذكر مطاره عنها وكانت مصوغة من خالص الذهب مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزمرد لم تر الأعين مثلها وبولغ في تفخيمها من أجل دار المملكة وأنه لا ينبغي أن تكون بموضع آلة جمال أو متاع مباهاة إلا دون ما يكون فيها وكانت توضع على مذبح كنيسة طليطلة فأصابها المسلمون هناك وطار النبأ الفخم عنها وقد كان طارق ظن بموسى أميره مثل الذي فعله من غيرته على ما تهيأ له ومطالبته له بتسليم ما في يده إليه فاستظهر بانتزاع رجل من أرجل هذه المائدة خبأه عنده فكان من فلجه به على موسى عدوه عند الخليفة

وقال بعض المؤرخين إن المائدة كانت مصنوعة من الذهب والفضة وكان عليها طوق لؤؤ وطوق ياقوت وطوق زمرد وكلها مكللة بالجواهر انتهى
وما ذكره ابن حيان من أن الذي نكب موسى بن نصير هو سليمان بن عبد الملك صواب وأما ما حكاه ابن خلكان من أن المنكب له الوليد فليس بصحيح والله أعلم
رجع إلى كلام ابن حيان قالوا ثم إن موسى اصطلح مع طارق وأظهر الرضى عنه وأقره على مقدمته على رسمه وأمره بالتقدم أمامه في أصحابه وسار موسى خلفه في جيوشه فارتقى إلى الثغر الاعلى وافتتح سرقسطة وأعمالها وأوغل في البلاد وطارق أمامه لا يمران بموضع إلا فتح عليهما وغنمهما الله تعالى ما فيه وقد ألقى الله الرعب في قلوب الكفرة فلم يعارضهما أحد إلا بطلب الصلح وموسى يجيء على أثر طارق في ذلك كله ويكمل ابتداءه ويوثق للناس ما عاهدوه عليه فلما صفا القطر كله وطامن نفوس من أقام على سلمه ووطأ لأقدام المسلمين في الحلول به أقام لتمييز ذلك وقتا وأمضى المسلمين إلى إفرنجة ففتحوا وغنموا وسلموا وعلوا وأوغلوا حتى انتهوا إلى وادي ردونة فكان أقصى أثر العرب ومنتهى موطئهم من أرض العجم وقد دوخت بعوث طارق وسراياه بلد إفرنجة

وصخرة أبينون وحصن لوذون على وادي رودنة فبعدوا عن الساحل الذي منه دخلوا جدا وذكر أن مسافة ما بين قرطبة وأربونة من بلاد إفرنجة ثلاثمائة فرسخ وخمسة وثلاثون فرسخا وفيل ثلاثمائة فرسخ وخمسون فرسخا ولما أوغل المسلمون إلى أربونة ارتاع لهم قارله ملك الإفرنجة بالأرض الكبيرة وانزعج لانبساطهم فحشد لهم وخرج عليهم في جمع عظيم فلما انتهى إلى حصن لوذون وعلمت العرب بكثرة جموعه زالت عن وجهه وأقبل حتى انتهى إلى صخرة أبنيون فلم يجد بها أحدا وقد عسكر المسلمون قدامه فيما بين الأجبل المجاورة لمدينة أربونة وهم بحال غرة لا عيون لهم ولا طلائع فما شعروا حتى أحاط بهم عدو الله قارله فاقتطعهم عن اللجإ إلى مدينة اربونة وواضعهم الحرب فقاتلوا قتالا شديدا استشهد فيه جماعة منهم وحمل جمهورهم على ص فوفه حتى اخترقوها ودخلوا المدينة ولاذوا بحصانتها فنازلهم بها اياما أصيب له فيها رجال وتعذر عليه المقام وخامره ذعر وخوف مدد للمسلمين فزال عنهم راحلا إلى بلده وقد نصب في وجوه المسلمين حصونا عل وادي رودنة شكها بالرجال فصيرها ثغرا بين بلده والمسلمين وذلك بالأرض الكبيرة خلف الأندلس
وقال الحجاري في المسهب إن موسى بن نصير نصره الله نصرا ما عليه مزيد واجفلت ملوك النصارى بين يديه حتى خرج على باب الاندلس الذي في الجبل الحاجز بينها وبين الأرض الكبيرة فاجتمعت الإفرنج إلى ملكها الأعظم قارله وهذه سمة لملكهم فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها واستولوا على بلاد الأندلس وعظيم ما فيها من العدة والعدد

وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم فقال لهم ما معناه الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه فإنهم كالسيل يحمل من يصادره وهم في إقبال أمرهم ولهم نيات تغني عن كثرة العدد وقلوب تغني عن حصانة الدروع ولكن أمهلوهمحتى تمتلىء أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة ويستعين بعضهم ببعض فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر قال فكان والله كذلك بالفتنة التي طرأت بين الشاميين والبلديين والبربر والعرب والمضرية واليمانية وصار بعض المسلمين يستعين على بعض بمن يجاورهم من الأعداء انتهى
وقيل إن موسى بن نصير أخرج ابنه عبد الأعلى إلى تدمير ففتحها وإلى غرناطة ومالقة وكورة رية ففتح الكل وقيل إنه لما حاصر مالقة وكان ملكها ضعيف الرأي قليل التحفظ كان يخرج إلى جنان له بجانب المدينة طلبا للراحة من غمة الحصار من غير نصب عين وتقديم طليعة وعرف عبد الأعلى بأمره فأكمن له في جنبات الجنة التي كان ينتابها قوما من وجوه فرسانه ذوي رأي وحزم أرصدوا له ليلا فظفروا به وملكوه فأخذ المسلمون المدينة عنوة وملأوا أيديهم غنيمة
وقيل كانت نفس موسى بن نصير في ذلك كله تنزعج إلى دخول دار الكفر جليقية فبينما هو يعمل في ذلك ويعد له إذ أتاه مغيث الرومي رسول الوليد بن عبد الملك ومولاه يأمره بالخروج عن الأندلس والإضراب عن الوغول فيها ويأخذه بالقفول إليه فساءه ذلك وقطع به عن إرداته إذ لم يكن في الأندلس بلد لم تدخله العرب إلى وقته

على اقتحامها فلاطف موسى مغيثا رسول الخليفة وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في الدخول إليها والمسير معه في البلاد أياما ويكون شريكه في الأجر والغنيمة ففعل ومشى معه حتى بلغ المفازة فافتتح حصن بارو وحسن لك فأقام هناك وبث السرايا حتى بلغوا صخرة بلاي على البحر الأخضر فلم تبق كنيسة إلا هدمت ولا ناقوس إلا كسر وأطاعت الأعاجم فلاذوا بالسلم وبذل الجزية وسكنت العرب المفاوز وكان العرب والبربر كلما مر قوم منهم بموضع استحسنوه حطوا به ونزلوه قاطنين فاتسع نطاق الإسلام بأرض الاندلس وخذل الشرك وبينما موسى كذلك في اشتداد الظهور وقوة الأمل إذ قدم عليه رسول آخر من الخليفة يكنى أبا نصر أردف به الوليد مغيثا لما استبطأ موسى في القفول وكتب إليه يوبخه ويأمره بالخروج وألزم رسوله إزعاجه فانقلع حينئذ من مدينة لك بجليقية وخرج علىالفج المعروف بفج موسى ووافاه طارق في الطريق منصرفا من الثغر الأعلى فأقفله مع نفسه ومضيا جميعا ومعهما من الناس من اختار القفول وأقام من آثر السكنى في مواضعهم التي كانوا قد اختطوها واستوطنوها وقفل معهم الرسولان مغيث وأبو نصر حتى احتلوا بإشبيلية فاستخلف موسى ابنه عبد العزيز على إمارة الأندلس وأقره بمدينة إشبيلية لاتصالها بالبحر نظرا

وركب موسى البحر إلى المشرق بذي حجة سنة خمس وتسعين وطارق معه وكان مقام طارق بالأندلس قبل دخول موسى سنة وبعد دخوله سنتين وأربعة أشهر وحمل موسى الغنائم والسبي وهو ثلاثون ألف رأس والمائدة منوها بها ومعها من الذخائر والجواهر ونفيس الأمتعة ما لا يقدر قدره وهو مع ذلك متلهف على الجهاد الذي فاته أسيف على ما لحقه من الإزعاج وكان يؤمل أن يخترق ما بقي عليه من بلد إفرنجة ويقتحم الأرض الكبيرة حتى يتصل بالناس إلى الشام مؤملا أن يتخذ مخترقه بتلك الأرض طريقا مهيعا يسلكه أهل الأندلس في مسيرهم ومجيئهم من المشرق وإليه على البر لا يركبون بحرا وقيل إنه أوغل في أرض الفرنجة حتى انتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار فأصاب فيها صنما عظيما قائما كالسارية مكتوبا فيه بالنقر كتابة عربية قرئت فإذا هي يا بني إسماعيل انتهيتم فارجعوا فهاله ذلك وقال ما كتب هذا إلا لمعنى كبير فشاور أصحابه في الإعراض عنه وجوازه إلى ما وراءه فاختلفوا عليه فأخذ برأي جمهورهم وانصرف بالناس وقد أشرفوا على قطع البلاد وتقصي الغاية
وحكى الرازي أن موسى خرج من إفريقية إلى الأندلس في رجب سنة ثلاث وتسعين واستخلف على إفريقية أسن ولده عبد الله بن موسى وكان موسى في عشرة آلاف قال وكان عبدالملك بن مروان هو الذي أإزى موسى المغرب في خلافته ففتح له في أهله البرابر فتوح كبار حتى لقد بعث إلى عبد الملك في الخمس بعشرين ألف سببية ثم أردفها بعشرين ألفا أخرى كل ذلك من البربر فعجب عبد الملك يومئذ من كثرة ذلك
وزعم ابن حبيب أنه دخل

المنيذر قال ودخلها من التابعين ثلاثة موسى الأمير وعلي بن رباح اللخمي وحيوة بن رجاء التميمي وقيل إن ثالثهم إنما هو حنش بن عبد الله الصنعاني صنعاء الشام وإنهم قفلوا عنها بقفول موسى وأهل سرقسطة يزعمون أن حنشا مات عندهم ولم يقفل للمشرق وقبره لديهم مشهور يتبركون به ولا يختلفون فيه فالله أعلم
وقيل إن التابعين أربعة بأبي عبد الرحمن الحبلي الأنصاري واسمه عبد الله بن يزيد والله أعلم وخمسهم بعضهم بحبان بنأبي جبلة مولى بني عبد الدار وكان في ديوان مصر فبعث به عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية في جماعة من الفقهاء ليفقهوا أهلها وكان روى عن عمرو بن العاص وابن عباس وابن عم وحدث عنه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وغيره وغزا مع موسى حين افتتح الاندلس وانتهى معه إلى حصن من حصون العدو يقال له قرقشونة وقيل بل قفل إلى إفريقية فتوفي بها بعد العشرين ومائة
وقال بعضهم إن بين قرقشونة هذه وبين برشلونة مسافة خمسة وعشرين يوما وفيها الكنيسة المعظمة عند الفرنج المسماة شنت مرية وقد حكى ابن حيان أن فيها سبع سوار من فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحيط الإنسان بذراعيه على واحدة منها مع طول مفرط
وحنش الصنعاني المذكور تابعي جليل كان مع علي رضي الله عنه بالكوفة وقدم مصر بعد قتله فصار عداده في المصريين وكان فيمن قام مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان فعفا عنه وكفى الأندلس شرفا دخوله لها
وعلي بن رباح بصري تابعي يكنى أبا عبد الله وهو لخمي ولد عام اليرموك سنة خمس عشرة قال ابن معين أهل

وأهل العراق يقولونه بضمها وروى الليث عن ابنه موسى بن علي وكانت لعلي بن رباح عند عبد العزيز بن مروان مكانة وهو الذي زف ابنته أم البنين لزوجها الوليد ثم عتب عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية
وأما المنيذر لصحابي فلم ينسبه ابن بيب وذكره ابن عبد البر في الصحابة وقال إنه المنيذر الإفريقي وكان سكن إفريقية وكان صحب رسول الله أنه سمعه يقول من قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنا الزعيم له فلآخذن بيده فلأدخلنه الجنة ) ورواه عنه ابن عبد البر بسنده إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى في حق المنيذر مزيد بيان
ولما قفل موسى بن نصير إلى المشرق وأصحابه سأل مغيثا أن يسلم إليه العلج صاحب قرطبة الذي كان في إساره فامتنع عليه وقال لا يؤديه للخليفة سواي وكان يدل بولائه من الوليد فهجم عليه موسى فانتزعه منه فقيل له إن سرت به حيا معك ادعاه مغيث والعلج لا ينكر قوله ولكن اضرب عنقه ففعل فاضطغنها عليه مغيث وصار إلبا مع طارق الساعي عليه واستخلف موسى عل طنجة وما يليها من المغرب ابنه الآخر عبد الملك وقد كان كما مر استخلف بإفريقية أكبر أولاده عبد الله فصار جميع الأندلس والمغرب بيد أولاده وابنه عبد الله الذي خلفه بإفريقية هو الفاتح لجزيرة ميورقة وسار موسى فورد الشام واختلف الناس هل كان وروده قبل موت الوليد أو بعده فمن يقول بالثاني قال قدم على سليمان حين استخلف وكان منحرفا عنه فسبق إليه طارق ومغيث بالشكية فعلم سليمان صدقه وكذب موسى فحقق جميع ما رمى به عنده وعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرما عظيما كشفه فيه حتى اضطره إلى أن سأل العرب معونته فيقال إن لخما حملت عنه في أعطيتها تسعين ألف ذهبا وقيل حمله سليمان غرم مائتي ألف فأدى مائة ألف وعجز فاستجار بيزيد بن المهلب أثير سليمان فاستوهمه من سليمان فوهبه إياه إلا أنه عزل ابنه عبد الله عن إفريقية
وقال الرازي إن الذي أزعج موسى عن الأندلس أبو نصر رسول الوليد فقبض على عنانه وثناه قافلا وقفل معه من أحب المشرق وكان أكثر الناس قطنوا ببلاد الأندلس لطيبها فأقاموا فيها

نهاية موسى وابنه عبد العزيز
وذهب جماعة من أهل التاريخ إلى أن مسوى إنما قدم على الوليد وأن سليمان ولي العهد لماسمع بقرب موسى بن نصير من دمشق وكان الوليد مريضا كتب أي سليمان إلى موسى يأمره بالتربص رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى على سليمان في أول خلافته بتلك الغنائم

منه ورمياه بالخيانة وأخبراه بما صنع بهما من خبر المائدة والعلج صاحب قرطبة وقالا له إنه قد غل جوهرا عظيم القدر أصابه لم تحو الملوك من بعد فتح فارس مثله فلما وافى سليمان وجده ضغينا عليه فأغلظ له واستقبله بالتأنيب والتوبيخ فاعتذر له ببعض العذر وسأله عن المائدة فأحضرها فقاله له زعم طارق أنه الذي أصابها دونك قال لا وما رآها قط إلا عندي فقال طارق فليسأله أمير المؤمنين عن الرجل التي تنقصها فسأله فقال هكذا أصبتها وعوضتها رجلا صنعتها لها فحول طارق يده إلى قبائه فأخرج الرجل فعلم سليمان صدقه وكذب موسى فحقق جميع ما رمى به عنده وعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأمر بتقصي حسابه فأغرمه غرما عظيما كشفه فيه حتى اضطره إلى أن سأل العرب معونته فيقال إن لخما حملت عنه في أعطيتها تسعين ألف ذهبا وقيل حمله سليمان غرم مائتي ألف فأدى مائة ألف وعجز فاستجار بيزيد بن المهلب أثير سليمان فاستوهبه من سليمان فوهبه إياه إلا أنه عزل ابنه عبد الله عن إفريقية
وقال الرازي إن الذي أزعج موسى عن الأندلس أبو نصر رسول الوليد فقبض على عنانه وثناه قافلا وقفل معه من أحب المشرق وكان أكثر الناس قطنوا ببلاد الأندلس لطيبها فأقاموا فيها
نهاية موسى وابنه عبد العزيز
وذهب جماعة من أهل التاريخ إلى أن موسى إنما قدم على الوليد وأن سليمان ولي العهد لماسمع بقرب موسى بن نصير من دمشق وكان الوليد مريضا كتب أي سليمان إلى موسى يأمره بالتربص رجاء أن يموت الوليد قبل قدوم موسى فيقدم موسى على سليمان في أول

الكثيرة التي ما رئي ولا سمع مثلها فيعظم بذلك مقام سليمان عند الناس فأبى موسى من ذلك ومنعه دينه منه وجد في السير حتى قدم والوليد حي فسلم له الأخماس والمغانم والتحف والذخائر فلم يمكث الوليد إلا يسيرا بعد قدوم موسى وتوفي واستخلف سليمان فحقد عليه وأهانه وأمر بإقامته في الشمس حتى كاد يهلك وأغرمه أموالا عظيمة ودس إلى أهل الأندلس بقتل ابنه الذي استخلفه على الأندلس وهو عبد العزيز بن موسى وكان تولى الاندلس بعد قفول أبيه عنها باستخلافه إياه كما سبق فضبط سلطانها وضم نشرها وسد ثغورها وافتتح في ولايته مدائن كثيرة مما كان قد بقي على أبيه موسى منها وكان من خير الولاة إلا أن مدته لم تطل لوثوب الجند به وقتلهم إياه عقب سنة خمس وتسعين في خلافة سليمان الموقع بأبيه موسى لأشياء نقموها عليه منها زعموا تزوجه لزوجة لذريق المكناة أم عاصم وكانت قد صالحت على نفسها وأموالها وقت الفتح وباءت بالجزية وأقامت على دينها في ظل نعمتها إلى أن نكحها الأمير عبد العزيز فحظيت عنده ويقال إنه سكن بها في كنيسة بإشبيلية وإنها قالت له لم لا يسجد لك أهل مملكتك كما كان يسجد للذريق زوجها الأول أهل مملكته فقال لها إن هذا حرام في ديننا فلم تقنع منه بذلك وفهم لكثرة شغفه بها أن عدم ذلك مما يرزي بقدره عندها فاتخذ باب صغيرا قبالة مجلسه يدخل عليه الناس منه فينحنون وأفهمها أن ذلك الفعل منهم تحية له فرضيت بذلك فنمي الخبر إلى الجند مع ما انضم إلى ذلك من دسيسة سليمان لهم في قتله فقتلوه سامحه الله تعالى
وذكر

هي ارجعوا يا بني إسماعيل إلخ ما معناه وإن سألتم لم ترجعون فاعلموا أنكم ترجعون ليضرب بعضكم رقاب بعض انتهى
قال ابن حيان وليحيى بن حكم الشاعر المعروف بالغزال في فتح الأندلس أرجوزة حسنة مطولة ذكر فيها السبب في غزوها نظما وتفصيل الوقائع بين المسلمين وأهلها وعداد الأمراء عليها وأسماءهم فأجاد وتقصى وهي بأيدي الناس موجودة انتهى
وقد عرفت بما سبق تفصيل ما أجمله ابن خلدون والروايات في فتح الأندلس مختلفة وقد ذكرنا نحن بحسب ما اقتضاه الوقت ما فيه كفاية وأشرنا إلى بعض الاختلاف في ذلك ولو بسطنا العبارة في الفتح لكان وحده في مجلد أو أكثر

عبد الرحمن الداخل
وعلم مما ألمعنا به من كلام ابن خلدون السابق ذكر الولاة للأندلس من لدن الفتح وهم من قبل بني مروان بالمشرق المنفردين بإمامة المسلمين أجمعين قبل تفرقهم إلى أن انقرضت دولتهم العظيمة التي هي ألف شهر فاقتطع الأندلس عن بني العباس الدائلين علي بني مروان الناسخين لهم فل المروانيين عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان واقتعدها دار مملكة مستقلة لنفسه ولأعقابه وحمع بها شمل بني أمية ومواليهم وأورثها بنيه حقبة من الدهر بعد أن قاسى في ذلك خطوبا واجتمع عليه ثم على ذريته من بعده أهل الأندلس أجمعون رضى بهم دون بني العباس بعد أن حاول بنو العباس ملكها بأن ولوا بعض رؤساء العرب وأمروهم بالقيام على عبد الرحمن والدعاء للعباسيين القاطعين جرثومة

عبد الرحمن بمن نصب له الحرب في ذلك وقتل منهم آلافا وذلك في مدة المنصور كما سيأتي إن شاء الله تعالى عند ذكر عبد الرحمن الداخل في موضع آخر وسنذكر قريبا ولاة الاندلس من حين الفتح إلى إمارة الداخل وإن سبق في كلام ابن خلدون

مزيد بيان في نهاية موسى وشيء من شخصيته
وقال بعضهم كانت ولادة موسى بن نصير في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة تسع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأجل اللسلام وعلى آله وصحبه أجمعين انتهى
وقال الحجاري في المسهب يحكى أن موسى بن نصير ألفى بنفسه على يزيد بن المهلب لمكانه من أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك وطلب منه أن يكلمه في أن يخفف عنه فقال له يزيد اريد أن أسألك فأضغ إلي قال سل عما بدا لك فقال له لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكايد الحروب ومداراة الدنيا فقل لي كيف حصلت في يد هذا الرجل بعدما ملكت الأندلس وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار وتيقنت بعد المرام واستصعابه واستخلصت بلادا أنت أفترعتها واستملكت رجالا لا يعرفون غير خيرك وشرك وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل والرجال ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك ثم إنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه المولى بعد أخيه وقد أشرف أخوه على الهلاك لا محال وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة وأحقدت مالكك ومملوكك قال يعني سليمان وطارقا وما رضى هذا الرجل عنك

تعديد أما سمعت إذا جاء الحين غطى العين فقال ما قصدت بما قلت لك تعديدا ولا تبكيتا وإنما قصدت تلقيح العقل وتنبيه الرأي وأن أرى ما عندك فقال موسى أما رأيت الهدهد يرى الماء تحت الأرض عن بعد ويقع في الفخ وهو بمرأى عينه ثم كلم فيه سليمان فكان من جوابه إنه قد اشتمل رأسه بما تكن له من الظهور وانقياد الجمهور والتحكم في الأموال والأبشار على ما لا يمحوه إلا السيف ولكن قد وهبت لك دمه وأنا بعد ذلك غير رافع عنه العذاب حتى يرد ما غل من مال الله قال وآلت حاله إلى أن كان يطاف به ليسأل من أحياء العرب ما يفتك به نقسه وفي تلك الحال مات وهو من أفقر الناس وأذلهم بوادي القرى سائلا من كان نازلا به
وقال أحد غلمانه ممن وفى له في حال الفقر والخمول لقد رأيتنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا ولربما دفع إلينا على جهة الرحمة الدرهم والدرهمين فيفرح بذلك الأمير ليدفعه إلى الموكلين به فيخففون عنه من العذاب ولقد رأيتنا أيام الفتوح العظام بالأندلس نأخذ السلوك من قصور النصارى فنفصل منها ما يكون من الذهب وغير ذلك ونرمي به ولا نأخذ إلا الدر الفاخر فسبحان الذي بيده العز والذل والغنى والفقر
قال وكان له مولى قد وفى له وصبر عليه إلى ن ضاق ذرعه بامتداد الحال فعزم على أن يسلمه بوادي القرى في أسوإ حال وشعر بذلك موسى فخضع للمولى المذكور وقال له يا فلان أتسلمني

فقال له المولى من شدة ما كان فيه من الضجر قد أسلمك خالقك ومالكك الذي هو أرحم الراحمين فدمعت عيناه وجعل يرفعهما إلى السماءخاضعا مهينما بشفيته فما سفرت تلك الليلة إلا عن قبض روحه رحمة الله عليه فقد كان له من الأثر ما يوجب أن يترحم عليه وإن فعل سليمان به وبولده وكونه طرح رأس ابنه عبد العزيز الذي تركه نائبا عنه بالأندلس وقد جيء به من أقصى المغرب بين يديه من وصماته التي تعد عليه طول الدهر لا جرم أن الله تعالى لم يمتعه بعده بملكه وشبابه
وذكر ابن حيان أن موسى كان عربيا فصيحا وقد سبق من مراجعة يزيد بن المهلب ما يدل على بلاغته ويكفي منها ما ذكره ابن حيان أنه كتب إلى الوليد بن عبد الملك فيما هاله من فتوح الأندلس وغنائمها إنها ليست الفتوح ولكنها الحشر وقال الحجاري إن منازعة جرت بينه وبين عبد الله بن يزيد بن أسيد بمحضر عبد الملك بن مروان ألجأته إلى أن قال شعرا منه
( جاريت غير سؤوم في مطاولة ... لو نازع الحفل لم ينزع إلى حصر )
وتقدم ما ذكره غير واحد كابن حيان أن موسى مولى عبد العزيز بن مروان وكذا ذكر الحجاري أنه تجهز مع أم البنين بنت عبد العزيز حين ابتنى بها الوليد ابن عبد الملك فكانت تنمي مكانته عند الوليد إلى أن بلغ ما بلغ وأشهر من كان في صحبة موسى بن نصير من مواليه طارق المشهور بالفتوح العظيمة

وقال ابن سعيد بعد ذكره الخلاف في موسى هل هو لخمي صريح أو بالولاء ابو بربري أومولى لعبد العزيز بن مروان ما صورته وكان في عقبه نباهة في السلطنة ولي ابنه عبد العزيز سلطنة الأندلس وعبد الملط سلطنة المغرب الأقصى وعبد الله سلطنة إفريقية وذكر الحجاري أن أصله من وادي القرى بالحجاز وأنه خدم بني مروان بدمشق وتنبه شأنه فصرفوه في ممالكهم إلى أن ولي إفريقية وما وراءها من المغرب في زمن الوليد بن عبد الملك فدوخ أقاصي المغرب ودخل الأندلس من جبل موسى المنسوب إليه المجاور لسبتة ودوخ بلاد الأندلس ثم أوفده الوليد إلى الشام فوافق مرضه ثم موته وخلافة أخيه سليمان فعذبه واستصفى أمواله وآل أمره إلى أن وجهه إلى قومه بوادي القرى لعلهم يعطفون عليه ويؤدون عنه فمات بها وقد نص ابن بشكوال على أنه مات بوادي القرى
أما معارفه السلطانية فيكفيه ولاية ما خلف مصر إلى البحر المحيط بين بري البربر والأندلس
وأما الأدبية فقد جاءت عنه بلاغة في النثر والنظم تدخله مع نزارتها في أصحاب در الكلام وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين رووا الحديث وأن روايته عن تميم الداري وذكره في كتب الأئمة من المصنفين أنبه وأوعب من أن يخصص بذكره واحد منهم وهو غرة التواريخ الأندلسية وذكره إلى الآن جديد في ألسن الخاصة والعامة من أهلها
ومن مسهب الحجازي كان قد جمع رحمه الله من خلال الخير ما أعانه الله سبحانه به على ما بنى له من المجد المشيد والذكر الشهير المخلد الذي لا يبليه الليل والنهار ولا يعفي جديدة بلى الأعصار إلا أنه كان يغلب عليه ما لا يكاد رئيس يسلم منه وهو الحقد والحسد والمنافسة لا

من ذلك وأنشد بعض الرؤساء
( وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا ... ) فقلبه الرئيس وقال من يترك الحقدا ثم قال إن السيد إذا ترك إضمار الخير والشر والمجازاة عليهما اجترىء عليه ونسب للضعف والغفلة وهل رأيت صفقة أخسر من غفلة رئيس أحقده غيره فنسي ذلك أو تناساه وعدوه لا يغفل عنه وحاسده لا ينفعه عنده إلا الراحة منه وهو في واد آخر عنه ولله در القائل
( ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى )
ولكن الأصوب أن يكون الرأي ميزانا لا يزن الوافي لناقص ولا يزن الناقص لواف ويدبر أمره على ما يقتضيه الزمان ويقدر فيه حسن العاقبة
ونص ابن بشكوال على أن موسى بن نصير مات بوادي القرى سنة سبع وتسعين وأغزى الأندلس سنة إحدى وتسعين ودخلها سنة ثلاث وتسعين وقفل عنها إلى الوليد بن عد الملك بالغنائم سنة أربع وتسعين وذكر أن ولايته على الأندلس بالمباشرة مذ دخلها إلى حين خروجه منها سنة واحدة ومكث فيها مولاه طارق سنة انتهى وقد تقدم شيء من ذلك

عود إلى ذكر التابعين في الأندلس
وذكر ابن بشكوال أيضا ان ابن حبيب قال عن ربيعة غل الناس كلهم يوم فتح الأندلس إلا أربعة نفر فقط كانوا

وأبو عبد الرحمن الحبلي وابن شماسة وعياض بن عقبة انتهى
قال ابن سعيد وممن دخل الأندلس من غير هؤلاء الأربعة من التابعين علي بن رباح اللخمي وموسى بن نصير فاتح الأندلس وحبان بن أبي جبلة القرشي مولاهم وعبد الرحمن بن عبد الله الغافقي صاحب الأندلس المذكور في سلاطينها ومحمد بن أوس بن ثابت الانصاري وزيد بن قاصد السكسكي والمغيرة بن أبي بردة الكناني وعبد الله بن المغيرة الكناني وحيوة بن رجاء التميمي وعبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ومنصور بن خزامة وعلي بن عثمان بن خطاب
وذكر ابن حبيب أن عدة من دخل الأندلس من التابعين سوى من لا يعرف نحو عشرين رجلا وفي كتاب ابن بشكوال أنه دخل الأندلس من التابعين ثمانية وعشرون رجلا وهم أسسوا قبلة المسجد الجامع بقرطبة وسمى الحجاري في المسهب هؤلاء المتقدمين
وذكر ابن سعيد أنه لم يتحقق المواضع التي تختص بهؤلاء التابعين من بلاد الأندلس مع جزمه بأنهم دخلوا الأندلس وكانوا بها وسيأتي ذكر التابعين الداخلين الأندلس بما هو أشمل من هذا وقد تقدم غلول من عدا التابعين من الغنائم

مغانم الأندلس
وقال الليث بن سعد بعد ذكره أن طارقا أصاب بالأندلس مغانم كثيرة من الذهب والفضة إن كانت الطنفسة لتوجد منسوجة بقضبان الذهب وتنظم السلسة من الذهب باللؤلو والياقوت والزبرجد وكان البربر ربما وجدوها فلا يستطيعون

والآخر النصف الآخر لنفسه ويسير معهم جماعة والناس مشتغلون بغير ذلك
وعن يحيى بن سعيد لما افتتحت الاندلس أصاب الناس فيها غنائم فغلوا منها غلولا كثيرا حملوه في المراكب وركبوا البحر فسمعوا مناديا يقول اللهم غرق بهم وتقلدوا المصاحف فما نشبوا أن أصابتهم ريح عاصف وضربت المراكب بعضها بعضا حتى تكسرت وغرق بهم وأهل مصر ينكرون ذلك ويقولون أهل الأندلس ليس هم الذين غرقوا وإنما هم أهل سردانية فالله أعلم بحقيقة الحال
ورأيت في بعض كتب التاريخ أنه وجد في طليطلة حين فتحت من الذخائر والأموال ما لا يحصى فمن ذلك مائة وسبعون تاجا من الذهب الاحمر مرصعة بالدر وأصناف الحجارة الثمينة ووجد فيها ألف سيف ملوكي ووجد فيها من الدر والياقوت أكيال ومن أواني الذهب والفضة ما لا يحيط به وصف ومائدة سليمان وكانت فيما يذكر من زمردة خضراء وزعم بعض العجم أنها لم تكن لسليمان وإنما أصلها أن العجم أيام ملكهم كان أهل الحسنة في دينهم إذا مات أحد منهم أوصى بما للكنائس فإذا اجتمع عتدهم مال له قدر صاغوا منه الآلة من الموائد العجيبة والكراسي من الذهب والفضة تحمل الشمامسة والقسوس فوقها الأناجيل في ايام المناسك ويضعونها في الأعياد للمباهاة فكانت تلك المائدة بطليطة مما صنع في هذا السبيل وتأنق الملوك في تحسينها يزيد الآخر منهم فيها على الأول حتى برزت على جميع ما اتخذ من تلك الآلات وطار الذكر بها كل مطار وكانت مصوغة من الذهب الخالص مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد وقيل إنها من زبرجدة خضراء حافاتها وأرجلها منها وكان لها ثلاثمائة وخمس وستون رجلا وكانت توضع في كنيسة طليطلة فأصابها

وقد كرنا فيما مر عن ابن حبان ما فيه نظير هذا وذكرنا فيما مضى من أمر المائدة وغيرها ما فيه بعض تخالف وما ذلك إلا لأنا ننقل كلام المؤرخين وإن خالف بعضهم بعضا ومرادنا تكثير الفائدة وبالجملة فالمائدة جليلة المقدار وإن حصل الخلاف في صفتها وجنسها وعدد أرجلها وهي من أجل ما غنم بالأندلس على كثرة ما حصل فيها من الغنائم المتنوعة الاجناس التي ذكرها إلى الآن شائع بين الناس

استيطان العرب في الأندلس
واعلم أنه لما اسقر قدم أهل الإسلام بالاندلس وتتام فتحها صرف أهل الشام وغيرهم من العرب هممهم إلى الحلول بها فنزل بها من جراثيم العرب وساداتهم جماعة أورثوها أعقابهم إلى أن كان من أمرهم ما كان
فأما العدنانيون فمنهم خندف ومنهم قريش وأما بنو هاشم من قريش فقال ابن غالب في فرحه الأنفس بالأندلس منهم جماعة كلهم من ولد إدريس ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ومن هؤلاء بنو حمود ملوك الاندلس بعد انتثار سلك بني أمية وأما بنو أمية فمنهم خلفاء الاندلس قال ابن سعيد ويعرفون هنالك إلى الآن بالقرشيين وإنما عموا نسبتهم إلى أمية في الآخر لما انحرف الناس عنهم وذكروا أفعالهم في الحسين رضي الله عنه وأما بنو زهرة فهم بإشبيلية أعيان متميزون وأما المخزوميون فمنهم أبو بكر المخزومي الأعمى الشاعر المشهور من أهل حصن المدور ومنهم الوزير الفاضل في النظم والنثر أبو بكر بن زيدون ووالده الذي هو أعظم منه أبو الوليد بن زيدون وزير معتضد بني عباد وقال ابن غالب وفي الأندلس من ينسب إلى جمح

ابن فهر وهم من قريش الظواهر ومنهم عبد الملك بن قطن سلطان الاندلس ومن ولده بنو القاسم الامارء الفضلاء وبنو الجد الاعيان العلماء ومن بني الحارث بن فهر يوسف بن عبد الرحمن الفهري سلطان الأندلس الذي غلبه عليها عبد الرحمن الاموي الداخل وجد يوسف عقبة بن نافع الفهري صاحب الفتوح بإفريقية قال ابن حزم ولهم بالأندلس عدد وثروة وأما المنتسبون إلى عموم الكنانة فكثير وجلهم في طليطلة وأمالها ولهم ينسب الوقشيون الكنانيون الاعيان الفضلاء الذين منهم القاضي أبو الوليد والوزير أبو جعفر ومنهم أبو الحسين بن جبير العالم صاحب الرحلة وقد ذكرناه في محله وأما هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غالب أن منزلهم بجهة أريولة من كورة تدمير وأما تميم بن مر بن أدبن بن طابخة بن إلياس بن مضر فذكر ابن غلب أيضا أنهم خلق كثير بالأندلس فهؤلاء خندف من العدانية
وأما قيس عيلان بن إلياس بن مضر من العدنانية ففي الأندلس كثير منهم ينتسبون إلى العموم ومنهم من ينتسب إلى سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس كعبد الملك بن حبيب السلمي الفقيه صاحب الإمام مالك رضي الله عنه وكالقاضي أبي حفص بن عمر قاضي قرطبة ومن قيس من ينتسب إلى هوازن بن منصور بن عكرمة قال ابن غالب وهم بإشبيلية خلق كثير ومنهم من ينتسب إلى بكر بن هوازن قال ابن غالب ولهم منزل بجوفي بلنسية على ثلاثة أميال منها وبإشبيلية وغيرها منهم خلق كثير ومنهم بنو حزم وهم بيت غير البيت الذي منه أبو محمد بن حزم الحافظ الظاهري وهو فارسي الأصل ومنهم من ينتسب إلى سعد بن بكر بن هوازن وذكر ابن غالب أن منهم بغرناطة كثيرا كبني جودي وقد رأس بعض بني جودي ومنهم من ينتسب إلى سلول امرأة نسب إليها بنوها

ابن معاوية بن بكر بن هوازن ومنهم من ينتسب إلى كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن ومنهم من ينتسب إلى نمير بن عامر ابن صعصعة قال ابن غالب وهم بغرناطة كثير ومنهم من ينتسب إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ومنهم بلج بن بشر صاحب الأندلس وآله وبنو رشيق ومنهم من ينتسب إلى فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان ومنهم من ينتسب إلى أشجع بن ريث بن غطفان ومن هؤلاء محمد بن عبد الله الأشجعي سلطان الأندلس وفي ثقيف اختلاف فمنهم من قال إنها قيسية وإن ثقيفا هو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن ومنهم بالأندلس جماعة وإليهم ينتسب الحر بن عبد الرحمن الثقفي صاحب الأندلس وقيل إنها من بقايا ثمود انتهى قيس عيلان وجميع مضر
وأما ربيعة بن نزار فمنهم من ينتسب إلىأسد بن ربيعة بن نزار قال في فرحة الأنفس إن إقليم هؤلاء مشهور باسمهم بجوفي مدينة وادي آش انتهى والأشهر بالنسبة إلى أسد أبدا بنو أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس ابن مضر ومنهم من ينتسب إلى محارب بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة قال ابن غالب في فرحة الانفس ومنهم بنو عطية أعيان غرناطة ومنهم من ينتسب إلى النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد كبني عبد البر الذين منهم الحافظ أبو عمر بن عبد البر ومنهم من ينتسب إلى تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب كبني حمدين أعيان قرطبة ومنهم من ينتسب إلى بكر ابن وائل كالبكريين أصحاب أونبة وشلطيش الذين منهم أبو عبيد

وأما إياد بن نزار وقد يقال إنه ابن معد والصحيح الأول فينتسب إليهم بنو زهر المشهورون بإشبيلية وغيرهم انتهت العدنانية وهم الصريح من ولد إسماعيل عليه السلام
واختلف في القحطانية هل هم من ولد إسماعيل أو من ولد هود على ما هو معروف وظاهر صنيع البخاري الأول والأكثر على خلافه والقحطانية هم المعروفون باليمانية وكثيرا ما يقع بينهم وبين المضرية وسائر العدنانية الحروب بالأندلس كما كان يقع بالمشرق وهم الأكثر بالأندلس والملك فيهم أرسخ إلا ما كان من خلفاء بني أمية فإن القرشية قدمتهم على الفرقتين واسم الخلافة لهم بالمشرق وكان عرب الأندلس يتميزون بالقبائل والعمائر والبطون والأفخاذ إلى أن قطع ذلك المنصور بن أبي عامر الداهية الذي ملك سلطنة الاندلس وقصد بذلك تشتيتهم وقطع التحامهم وتعصبهم في الاعتزاء وقدم القواد على الأجناد فيكون في جند القائد الواحد فرق من كل قبيل فانحسمت مادة الفتن والاعتزاء بالأندلس إلا ما جاءت على غير هذه الجهة
قال ابن حزم جماع أنساب اليمن من جذمين كهلان وحمير ابني سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن شالح بن أرفخشذ ابن سام بن نوح وقيل قحطان بن الهميسع بن تيهان بن نبت بن إسماعيل وقيل قحطان بن هود بن عبد الله بن رباح بن حارف بن عاد بن عوص بن إرم بن سام والخلف في ذلك مشهور فمنهم كهلان بن سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان ومنهم الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان وإليهم ينتسب محمد بن هانىء الشاعر المشهور الإلبيري وهو من بني المهلب ومن الازد من ينتسب إلى غسان وهم بنو مازن بن الأزد وغسان ماء

غرناطة وكثير منهم بصالحة قرية على طريق مالقة ومن الأزد من ينتسب إلى الأنصار علىالعموم وهم الجم الغفير بالأندلس
قال ابن سعيد والعجب أنك تعدم هذا النسب بالمدينة وتجد منه بالأندلس في أكثر بلدانها ما يشذ عن العدد كثرة ولقد أخبرني من سأل عن هذا النسب بالمدينة فلم يجد إلا شيخا من الخزرج وعجوزا من الأوس
قال ابن غالب وكان جزء الأنصار بناحية طليطلة وهم أكثر القبائل بالاندلس في شرقها ومغربها انتهى
ومن الخزرج بالأندلس أبو بكر عبادة بن عبد الله بن ماء السماء من ولد سعد بن عبادة صاب رسول الله وهو المشهور بالموشحات وإلى قيس بن سعد بن عبادة ينتسب بنو الأحمر سلاطين غرناطة الذي كان لسان الدين بن الخطيب أحد وزرائهم وعليهم انقرض ملك الأندلس من المسلمين واستولى العدو على الجزيرة جميعا كما يذكر
ومن أهل الأندلس من ينتسب إلى الأوس أخي الخزرج ومنهم من ينتسب إلى غامق بن عك بن عد ثان بن هزان بن الأزد وقد يقال عك بن عدنان بالنون فيكون أخا معد بن عدنان وليس بصحيح قال ابن غالب من غامق أبو عبدالله بن أبي الخصال الكاتب وأكثر جهات شقورة ينتسبون إلى غامق ومن كهلان من ينتسب إلى همدان وهو أوسلة بن مالك بن زيد بن بن

أوسلة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان ومنزل همدان مشهور على ستة أميال من غرناطة ومنهم أصحاب غرناطة بنو أضحى ومن كهلان من ينتسب إلى مذحج ومذحج اسم أكمة حمراء باليمن وقيل اسم أم مالك وطيء ابني أدد بن زيد بن كهلان قال ابن غالب بنو سراج الأعيان من أهل قرطبة ينتسبون إلى مذحج ومنزل طيئ بقبلي مرسية ومنهم من ينتسب إلى مراد بن مالك بن أدد وحصن مراد بين إشبيلية وقرطبة مشهور قال ابن غالب وأعرف بمراد منهم خلا كثيرا ومنهم من ينتسب إلى عنس بن مالك بن أدد ومنهم بنو سعيد مصنفو كتاب المغرب وقلعة بني سعيد مشهورة في مملكة غرناطة ومن مذحج من ينتسب إلى زبيد قال ابن غالب وهو منبه بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد ومن كهلان من ينتسب إلى مرة بن أدد بن زيد بن كهلان قال ابن غالب منهم بنو المنتصر العلماء من أهل غرناطة ومنهم من ينتسب إلى عاملة وهي امرأة من قضاعة ولدت للحارث ابن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد فنسب ولدها منه إليها قال ابن غالب منهم بنو سماك القضاة من أهل غرناطة وقوم زعموا أن عاملة هو ابن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان وقيل هم من قضاعة ومن كهلان خولان بن عمرو بن الحارث بن مرة وقلعة خولان مصهورة بين الجزيرة الخضراء وإشبيلية ومنهم بنو عبد السلام أعيان غرناطة ومنهم من ينتسب إلى المعافر بن يعفر بن مالك بن الحارث بن مرة ومنهم المنصور بن أبي عامر صاحب الأندلس ومنهم من ينتسب إلى لخم

بنو عباد أصحاب إشبيلية وغيرها وهم من ولد النعمان بن المنذر صاحب الحيرة ومنهم بنو الباجي أعيان إشبيلية وبنو وافد الأعيان ومنهم من ينتسب إلى جذام مثل ثوابة بن سلامة صاحب الأندلس وبني هود ملوك شرقي الأندلس ومنهم المتوكل بن هود الذي صحت له سلطنة الأندلس بعد الموحدين ومنهم بنو مردنيش أصحاب شرقي الأندلس قال ابن غالب وكان لجذام جزء من قلعة رباح واسم جذام عامر واسم لخم مالك وهما ابنا عدي ومن كهلان من ينتسب إلى كندة وهو ثور بن عفير بن عدي بن الحارث ابن مرة بن أدد ومنهم يوسف بن هرون الرمادي الشاعر ومنهم من ينتسب إلى تجيب وهي امرأة أشرس بن السكون بن أشرس بن كندة ومن كهلان من نيتسب إلى خثعم بن أنمار بن اراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان ومنهم عثمان بن أبي نسعة سلطان الاندلس وقد قيل أنمار بن نزار بن معد بن عدنان انتهت كهلان
وأما حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فمنهم من ينتسب إلى ذي رعين قال ابن غالب وذو رعين هم ولد عمرو بن حمير في بعض الأقوال وقيل هو من ولد سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير قال ومنهم أبو عبد الله الحناط الاعمى الشاعر قال

النسب ومنهم من ينتسب إلى ذي أصبح قال ابن حزم هو ذو أصبح ابن مالك بن زيد من ولد سبأ الأصغر بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس ووصل النسب وذكر الحازمي أن ذا أصبح من كهلان وأخبر أن منهم مالك بن أنس الإمام والمشهور أنهم من حمير والأصبحيون من أعيان قرطبة ومنهم من ينتسب إلى يحصب قال ابن حزم إنه أخو ذي أصبح وهم كثير بقلعة بني سعيد وقد تعرف من أجلهم في التواريخ الاندلسية بقلعة يحصب ومنهم من ينتسب إلى هوزن بن عوف بن عبد شمس بن وائل بن الغوث قال ابن غالب ومنزلهم بشرف إشبيلية والهوزنيون من أعيان إشبيلية ومنهم من ينتسب إلى قضاعة بن مالك بن حمير وقد قيل إنه قضاعة بن معد بن عدنان وليس بمرضي ومن قضاعة من ينتسب إلى مهرة كالوزير أبي بكر ابن عمار الذي وثب على ملك مرسية وهو مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ومنهم من ينتسب إلى خشين بن نمر بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ومنهم من ينتسب إلى تنوخ قال ابن غالب وهو ابن مالك بن فهم بن نمر بن وبرة بن تغلب قال الحازمي تنوخ هم مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة ومنهم من ينتسب إلى بلي بن عمرو ابن الحاف بن قضاعة ومنهم البلويون بإشبيلية ومنهم من ينتسب إلى جهينة بن سود بن أسلم بن عمرو بن الحاف

وبقرطبة منهم جماعة ومنهم من ينتسب إلى كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان كبني أبي عبدة الذين منهم بنو جهور ملوك قرطبة ووزراؤها ومنهم من ينتسب إلى عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن سود بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ومنهم أعيان الجزيرة الخضراء بنو عذرة
ومن أهل الاندلس من ينتسب إلى حضرموت منهم الحضرميون بمرسية وغرناطة وإشبيلية وبطليوس وقرطبة قال ابن غالب وهم كثير بالأندلس وفيه خلاف قيل إن حضرموت هو ابن قحطان وقيل هو حضرموت بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد اشمس بن وائل بن الغوث بن جيدان بالجيم بن قطن بن العريب بن الغرز بن نبت بن أيمن بن الهميسع ابن حمير كذا نسق النسب الحازمي
ومن أهل الاندلس من ينتسب إلى سلامان ومنهم الوزير لسان الدين بن الخطيب حسبما ذكر في محله

ثبت بأسماء الامراء
وقد رأيت أن أسرد هنا أسماء ملوك الأندلس من لدن الفتح إلى آخر ملوك بني أمية وإن تقدم ويأت ذكر جملة منهم بما هو أتم مما هنا فنقول
طارق بن زياد مولى موسى بن نصير
ثم الأمير موسى بن نصير وكلاهما لم يتخذ سريرا للسلطنة
ثم عبد العزيز بن موسى بن نصير وسريره إشبيلية
ثم أيوب بن حبيب اللخمي وسريره

قرطبة او الزهراء والزاهرة بجانبيها إلى أن انقضت دولة بني مروان على ما ينبه عليه
ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي
ثم السمح بن مالك الخولاني
ثم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي
ثم عنبسة بن سحيم الكلبي
ثم عذرة بن عبد الله الفهري
ثم يحيى بن سلمة الكلبي
ثم عثمان بن أبي نسعه الخثعمي
ثم حذيفة بن الاحوص القيسي
ثم الهيثم بن عدي الكلابي
ثم محمد بن عبد الله الأشجعي
ثم عبد الملك بن قطن الفهري
ثم بلج بن بشر بن عياض القشيري
ثم ثعلبة بن سلامة العاملي
ثم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي
ثم ثوابة بن سلامة الجذامي
ثم يوسف بن عبد الرحمن الفهري
وههنا انتهى الولاة الذين ملكوا الأندلس من غير موارثة أفرادا عددهم عشرون فيما ذكر ابن سعدي ولم يتعدوا في السمة لفظ الأمير
قال ابن حيان مدتهم منذ تاريخ الفتح من لذريق سلطان الأندلس النصراني وهو يوم الاحد لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين إلى يوم الهزيمة على يوسف

المرواني على سرير الملك قرطبة وهو يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثون ومائة ست وأربعون سنة وخمسة أيام انتهى

حكام بني أمية
ثم كانت دولة بني أمية
أولهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك
ثم ابنه هشام الرضى
ثم ابنه الحكم بن هشام
ثم ابنه عبد الرحمن الأوسط
ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن ثم ابنه المنذر بن محمد
ثم أخوه عبدالله بن محمد
ثم ابن ابنه عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله
ثم ابنه الحكم المستنصر وكرسيهما الزهراء
ثم هشام بن الحكم وفي أيامه بني حاجبه المنصور بن أبي عامر الزاهره
ثم المهدي محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر وهو أول خلفاء الفتنة وهدمت في أيامه الزهراء والزاهرة وعاد السرير إلى قرطبة
ثم المستعين سليمان بن الحكم بن سليمان بن الناصر
الحموديون
ثم تخللت دولة بني حمود العلويين
وأولهم

ثم أخوه المأمون القاسم بن حمود
ثم المعتلي يحيى بن الناصر بن علي بن حمود

بقية بني أمية
ثم كانت دولة بني أمية الثانية
وأولها المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر ثم المستكفي محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر
ثم المعتد هشام بن محمد بن عبد الملك بن الناصر وهو آخر خلفاء الجماعة بالأندلس وحين خلع أسقط ملوك الأندلس الدعوة للخلافة المروانية
ملوك الطوائف ومن بعدهم
واستبدت ملوك الطوائف كابن جهور في قرطبة وابن عباد بإشبيلية وغيرهما ولم يعد نظام الأندلس إلى شخص واحد إلى أن ملكها يوسف بن تاشفين الملثم من بر العدوة وفتك في ملوك الطوائف وبعد ذلك ما خلصت له ولا لولده علي بن يوسف لأن بني هود نازعوه في شرقها بالثغر إلى أن جاءت دولة عبد المؤمن وبنيه فما صفت لعبد المؤمن بمحمد بن مردنيش الذي كان ينازعه في شرق الأندلس ثم صفت ليوسف بن عبد المؤمن بموت ابن مردنيش ثم لمن بعده من بنيه وحضرتهم مراكش وكانت ولاتهم تتردد على الأندلس وممالكها ولم يولوا على جميعها شخصا واحدا لعظم ممالكها إلى أن انقرضت منها دولتهم بالمتوكل محمد بن هود من بني هود ملوك سرقسطة وجهاتها فمك معظم الأندلس بحيث يطلق عليه اسم السلطان ولم ينازعه فيها إلا زيان بن

من غرب الأندلس ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته ولما قتله وزيره ابن الرميمي بالمرية زاد الأمر إلى أن ملك بنو الأحمر وكان أهل غرب الأندلس في المائة السابعة يخطبون لصاحب إفريقية السلطان أبي زكرياء بن أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص ثم تقلصت تلك الظلال ودخل الجزيرة الانحلال إلى أن استولى عليها حزب الضلال والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وقد ذكرت في هذا الكتاب جملة من أخبار ملوك الأندلس مما يصلح للمذاكرة وربما سرحت طرف القلم في بعضهم
وبنو جهور المشار إليهم قريبا كانوا وزراء الأمويين ثم إنه لما انتثر سلك الخلافة استبد بقرطبة الوزير أبو الحزم بن جهور من غير أن يتعدى اسم الوزارة

جهور بن محمد بن جهور
قال في المطمح الوزير الأجل جهور بن محمد بن جهور وبنو جهور أهل بيت وزارة اشتهروا كاشتهار ابن هبيرة في فزارة وأبو الحزم أمجدهم في المكرمات وأنجدهم في الملمات ركب متون الفتون فراضها ووقع في بحور المحن فخاضها منبسط غير منكمش لا طائش اللسان ولا رعش وقد كان وزر في الدولة العامرية فشرفت بجلاله واعترفت باستقلاله فلما انقرضت وعاقت الفتن واعترضت تحيز عن التدبير مدتها وخلى لخلافه أعباء الخلافة وشدتها وجعل يقبل مع أولئك الوزراء ويدبر وينهل الامر معهم ويدبر غير مظهر للإنفراد ولا متصرف في ميدان ذلك الطراد

الرياسة ويخب ويسعى في الفتنة ويدب ولما ارتفع الوبال وأدبر ذلك الإقبال راسل أهل التقوى مستمدا بهم ومعتمدا على بعضهم تحيلا منه وتمويها وتداهيا على أهل الخلافة وذويها وعرض عليهم تقديم المعتد هشام وأومض منه لأهل قرطبة برق خلب يشام بعد سرعة التياثها وتعجيل انتكاشها فأنابوا إلى الإجابة وأجابوا إلى استرعائه الوزارة والحجابة وتوجهوا مع ذلك الإمام وألموا بقرطبة أحسن إلمام فدخلوها بعد فتن كثيرة واضطرابات مستثيرة والبلد مقفر والجلد مسفر فلم يبق غير يسير حتى جبذ واضطرب أمره فخلع واختطف من الملك وانتزع وانقضت الدولة الأموية وارتفعت الدولة العلوية واستولى على قرطبة عند ذلك أبو الحزم ودبرها بالجد والعزم وضبطها ضبطا أمن خائفها ورفع طارق تلك الفتنة وطائفها وخلا له الجو فطار واقتضى اللبانات والأوطار فعادت له قرطبة إلى أكمل حالتها وانجلى به نور جلالتها ولم تزل به مشرقة وغصون الآمال فيها مورقة إلى أن توفي سنة 435 فانتقل الامر إلى ابنه أبي الوليد واشتمل منه على طارف وتليد وكان لأبي الحزم أدب ووقار وحلم سارت بها الأمثال وعدم فيها المثال وقد أثبت من شعره ما هو لائق وفي سماء الحسن رائق وذلك قوله في

( الورد أحسن ما رأت عيني وأذكى ... ما سقى ماء السحاب الجائد )
( خضعت نواوير الرياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وهي شوارد )
( وإذا تبدى الورد في أغصانه ... يزهو فذا ميت وهذا حاسد )
( وإذا أتى وفد الربيع مبشرا ... بطلوع وفدته فنعم الوافد )
( ليس المبشر كالمبشر باسمه ... خبر عليه من النبوة شاهد )
( وإذا تعرى الورد من أوراقه ... بقيت عوارفه فهن خوالد )
انتهى المقصود منه
وكأنه عارض بهذه الأبيات في تفضيل الورد قول ابن الرومي في تفضيل النرجس عليه من قصيدة
( للنرجس الفضل 7المبين وإن أبى ... أب وحاد عن الحقيقة حائد )
وهي مشهورة
ورد على ابن الرومي بعضهم بقوله
( يا من يشبه نرجسا بنواظر ... دعج تنبه إن فهمك فاسد )
إلخ وهي أيضا مشهورة

انتقاض حال الأندلس
رجع إلى ما كنا فيه وكانت لأهل الأندلس بين زمان الفتح وما بعده وقائع في الكفار شفت الصدور من امراضها ووفت النفوس بأغراضها واستولت على ما كان لملة الكفر من جواهرها

الائتلاف فعصفت ريح العدو والحروب سجال وأعيا العلاج حكماء الرجال فصار أهل الأندلس يتذكرون موسى بن نصير وطارق ومن بعدهما من موك الأندلس الذين راعت العدو الكافر منهم طوارق

رسائل أبي المطرف بن عميرة
وما أحسن ما أعرب الإمام الكاتب القاضي أبو المطرف بن عميرة عما يشمل هذا المعنى وغيره في كتاب بعث به إلى الشيخ أبي جعفر بن أمية حين حل الرزء ببلنسية وهو
( ألا أيها القلب المصرح بالوجد ... أما لك من بادي الصبابة من بد )
( وهل من سلو يرتجى لمتيم ... له لوعة الصادي وروعة ذي الصد )
( يحن إلى نجد وهيهات حرمت ... صروف الليالي أن يعود إلى نجد )
( فيا جبل الريان لا ري بعد ما ... عدت غير الأيام عن ذلك الورد )
( ويا أهل ودي والحوادث تقتضي ... خلوي عن أهل يضاف إلى الود )
( ألا متعة يوما بعارية المنى ... فإنا نراها كل حين إلى الرد )
( أمن بعد رزء في بلنسية ثوى ... بأحنائنا كالنار مضمرة الوقد )
( يرجي أناس جنة من مصائب ... تطاعن

( ألا ليت شعري هل لها من مطالع ... معاد إلى ما كان فيها من السعد )
( وهل أذنب الأبناء ذنب أبيهم ... فصاروا إلى الإخراج من جنة الخلد )
مرحبا بالسحاءة وما أعارت أفقي من الإضاءة وردت تسحر النهى وتسحب ذيلا على السها وتهز من المسرة أعطافا وترد من نجوم المجرة نطافا عامت من الظلمة في موجها ثم غلبت الشهب على أوجها فقلب العقرب يجب وسهيل بداره يحتجب والطرف غضيض وجناح الطائر مهيض وصاحب الأخيبة يقرض والذابح عن ذبيحته يعرض ورامح السماكين تخونه السلاح وواقع النسرين يود أن يخفيه الصباح بلاغة تفتن كل لبيب وترعى روض كل أديب وتغض على رغم العدو من حبيب إن من البيان لسحرا ويا أيها الجواد وجدناك بحرا أدريت أي بري بريت وبأي قمر اهتديت ليلة سريت افتتحت بأبياتك الحسان ونظمتها نظم الجمان فعوذت ستتها بالسبع وعرفت منها براعة ذلك الطبع ثم نثرت على القرطاس من شذور المنثور بل من جواهر النحور ما استوقف النظار وبهرج اللجين والنضار ورأيتك استمددت ولك الباع الأمد وأعرت محاسنك والعارية ترد وجئت بالرائية تروق أربعتها وتخرس بها قعقعة الأشعار وجعجعتها فأدت من حسنها ما يسر واجتمع لمن روى القطعتين ما نظم فيها وهو الدر وأجريت خبر الحادثة التي محقت بدر التمام وذهبت بنضارة

الوحشة أخقا أنه دكت الأرض ونزف المعين والبرض وصوح روض المنى وصرخ الخطب وما كنى ابن لي كيف فقدت رجاحة الأحلام وعقدت مناحة الإسلام وجاء اليوم العسر وأوقدت نار الحزن فلا تزال تستعر حلم ما نرى بل ما رأى ذا حالم طوفان يقال عنده لا عاصم من ينصفنا من الزمان الظالم الله بما يلقى الفؤاد عالم بالله أي نحو تنحو ومسطور تثبت وتمحو وقد حذف الأصلي والزائد وذهب الصلة والعائد وباب التعجب طال وحال البائس لا تخشى الانتقال وذهبت علامة الرفع وفقدت سلامة الجمع والمعتل أعدى الصحيح والمثلث أردى الفصيح وامتنعت العجمة من الصرف وامنت زيادتها من الحذف ومالت قواعد الملة وصرنا إلى جمع القلة وللشرك صيال وتخمط ولقرنه في شركه تخبط وقد عاد الدين إلى غربته وشرق الإسلام بكربته كأن لم يسمع بنصر ابن نصير وطرق طارق بكل خير ونهشات حنش وكيف أعيت الرقي وأدالت بليل السليم يوم الملتقى ولم تخبر عن المروانية وصوائفها وفتى معافر وتعفيره للأوثان وطوائفها لله ذلك السلف لقد طال الأسى عليهم والأسف وبقي الحكم العدل والرب الذي قوله الفصل وبيده الفضل ربنا أمرت فعصينا ونهيت فما انتهينا وما كان ذلك جزاء إحسانك إلينا أنت العليم بما أعلنا وما أخفينا والمحيط بما لم نأت وما أتينا لو أننا فيك أحببنا وقلينا لم ترنا ومن الفرقة ما رأينا ولم تسلط عدوك وعدونا علينا لكن أنت أرحم من أن تؤاخذنا بما جنينا وأكرم من أن لا تهب حقوقك لدينا
وأشرت ايها الأخ الكريم إلى استراحة إلي وتنسم بما لدي لتبرد كما زعمت حر نفس وتقدح

والرند وأقشع الشؤبوب وركد ما كان يظن به الهبوب فالقلم دفين لا يحشر وميت لا ينشر والطبع قد نكص القهقرى وقل منزله أنه يدعى له النقرى فها هو لا يملك مبيتا ولا يجد لقلمه تثبيتا وأنت أبقاك الله عز و جل بمقتبل الآداب طائر ميعة الشباب وأين سن السمو من سن الانحطاط ووقت الكسل من وقت النشاط وقد راجعتك لا داخلا في حلبتك بل قاضيا حق رغبتك والله تعالى يجعلك بوسيلة العلم مترقيا وبجنة الطاعة متوقيا ولهناء الأنفس مستقبلا ومتلقيا بمنه والسلام انتهى
وكتب رحمه الله إلى سلطان إفريقية الوارث ملك بني عبد المؤمن بتلك النواحي المستولى على البلدان والضواحي وقد كان لأهل الاندلس أمل في أخذه بثأرهم وضم انتثارهم ما صورته
( شاقه غب الخيال الوارد ... بارق هاج غرام الهاجد )
( صدقا وعد التلاقي ثم ما ... طرقا إلا بخلف الواعد )
( وكلا الزورين من طيف ومن ... وافد تحت الدياجي وارد )
( لم يكن بعد السرى مستمتع ... فيه للرائي ولا للرائد )
( وشديد بث فلب هائم ... يشتكيه عند ربع هامد )
( بالأمير المرتضى عز الهدى ... وثنى عطف الملي الواجد )
( وبه أصحب ما كان يرى ... حاملا أنف الأبي الشارد )
( إنما الفخر لمولانا أبي ... زكرياء بن عبد الواحد )
( ملك لولا حلاه الغر

( ولو أن العذب أبدى رغبة ... عنه لم يشف غليل الوارد )
( فضله مثل سنا الشمس وهل ... لسنا الشمس يرى من جاحد )
( قهر البغي بجد صادع ... ما تعداه وجد صاعد )
( إنما آل أبي حفص هدى ... للورى من غائب أو شاهد )
( قعدوا فوق النجوم الزهر عن ... همم نبهن عزم القائد )
( وعن الإسلام ذادوا عندما ... فل طول العهد غرب الذائد )
( أي فخر عمري المنتمي ... ورثوه ماجدا عن ماجد )
( ما الفتوح الغر إلا لهم ... بين ماض بادىء أو عائد )
( في محيا لاحق من سابق ... وعلى المولود سيما الوالد )
( وليحيى راجح الحلم الذي ... ترك الطود بعطفي مائد )
( عقد أحسابهم تم به ... مثل ما تم حساب العاقد )
( أيها الجامع ما قد أحرزوا ... جمع من همته في الزائد )
( هذه الأمة قد أوسعتها ... نظرا يكلأ ليل الراقد )
( لم تزل منك ... بخير طارف ريشه تال قدامى تالد )
( ولهم منك ليوم حاضر ... وغد رأي البصير الناقد )
( أرشد الله لأولى نظر ... بالورى رأي الإمام الراشد )
( وتولاه بتوفيق الألى ... سعدوا من عاقد أو عاهد )
( وله في الله أوفى كافل ... بالذي يبقى وأكفى عاضد )
نصر الله تعالى مولانا وأيده وشد ملكه وأبقى للفضل أيامه وللفصل أحكامه وأظفر بأعناق الأشقياء حسامه ووفر من اتساق النعم والآلاء وأقسامه والحمد لله ثم الحمد لله على أن جعل به حرم الأمة آمنا ووهج الفتنة ساكنا وأبواب الصلة والمعروف لا تعرف إلا واصلا أو آذنا وتلافى فل الإسلام منه بفيئاته

الأعز والنصر الأغر فهم بين جدة قبضوها وعدة رضوها وارتقاب للفتح أكبر هممهم منه درك الثار وانتصاف لأهل الجنة من أهل النار فأما الأوطان فقد أسلتهم عنها جهة تنبت العز فيما تنبته وتنفي من الضيم ما تلك تثبته وما ذكر الساخط وعلى المحل الساقط منازل عادت على مبانيها أطلالا ومغانيها محالا وللعبد حال يستقبل بها من النظر الكريم أدامه الله تعالى ما أعين الآمال إليه صور ورجاء الجميع عليه مقصور انتهى
والغاية في هذا الباب ما كتب به رحمه الله من جملة كتاب لبعض ذوي الألباب ونص محل الحاجة منه نخص الجهة البعيدة الصيت والاسم الشهيرة العمل والعلم درة تاجنا وضوء سراجنا ونكتة احتجاجنا أبقاها الله تعالى في أعيننا منارا ولأندلسنا فخارا على أنه وإن بقيت المفاخر فقد أودى المفاخر وإن أضاء الطالع فقد دجت المطالع وغلب عليها عداة زووا عنها وجوهنا وأروا فيها مكروهنا حتى إني أتيت بشعر فيه استسقاء للديار على عادة الأشعار فقلت
( زدنا على النائين عن أوطانهم ... وإن اشتركنا في الصبابة والجوى )
( إنا وجدناهم فد استسقوا لها ... من بعد أن شطت بهم عنها النوى )
( ويصدنا عن ذاك في اوطاننا ... مع حبها الشرك الذي فيها ثوى )
( حسناء طاعتها استقامت بعدنا ... لعدونا أفيستقيم لها الهوى )
انتهى
قلت وما رأيت ولا سمعت مثل هذه الأبيات في معناها العالية في مبناها فإن فيها الإشارة إلى إستيلاء النصارى دمرهم الله على تلك الديار وثبوت قدمهم فيها على طبق ما حصل لهم فيه اختيار مع إدماج حبه لها الذي لا يشك فيه ولا يرتاب واشتمالها على المحاسن التي هي بغية الرائد

ومما يستولي على الخواطر ويروي رياض الأفكار بسحب بلاغته المواطر قوله رحمه الله تعالى يخاطب أبا الحسن الرعيني سنة 634
( يا صاحبي والدهر لولا كرة ... منه على حفظ الذمام ذميم )
( أمنازعي أنت الحديث فإنه ... ما فيه لا لغو ولا تأثيم )
( ومروض مرعى مناي فنبته ... من طول إخلاف الغيوم هشيم )
( طال اعتباري بالزمان وإنما ... داء الزمان كما علمت قديم )
( مجفو حظ لا ينادي ثم لا ... ينفك عنه الحذف والترخيم )
( وأرى إمالته تدوم وقصره ... فعلام يلغى المد والتفخيم )
( وعلام أدعو والجواب كأنما ... فيه بنص قد أتى التحريم )
( لم ألق إلا مقعدا غير الأسى ... فلدي منه مقعد ومقيم )
( وشرابي الهم المعتق خالصا ... فمتى يساعدني عليه نديم )
( غارات أيامي علي خوارج ... قعديها في طبعه التحكيم )
( ولواعج يحتاج صالي حرها ... أمرا به قد خص إبراهيم )
( ولقد أقول لصاحب هو بالذي ... أدركت من علم الزمان عليم )
( لا يأس من روح الإله وإن قست ... يوما قلوب الخلق فهو رحيم )
ويهزني ويستفزني ما كتبه رحمه الله تعالى من رسالة :
كتبته إلى سيدي وهو السيد حقيقة وأخي وقد كتب الدهر بذلك وثيقة أبقى الله تعالى جلاله محروسا وربع وفائه لا يخشى دروسا من رباط الفتح وأنا بحقه عليم وعلى عهده مقيم وشأني توقير له وتعظيم وحب فيه خالص كريم ووصلني خطابه الخطير

الله تعالى خير منزل وجعلكما من النوائب والشوائب بمعزل من رباط الفتح ولبي قديما ملكتما رقه وقلبي تعليما عرفتما صدقه كيف حالكما من سفر طويتما خبره حين تجشمتما غرره وكيف سخت نفوسكما بأم الحصون وذات الظلال والعيون تربة الآباء ومنزلة الجمحيين النجباء حتى صرمتما حبلها وهجرتما حزنها وسهلها وخضتما غبر الفجاج وخضر الأمواج ما ذاك إلا لتغلب الحادث النكر وتألب المعشر الغدر ومن أجل الداهية النكاد والحادثة الشنيعة على البلاد ازعجتكم حين أزعجتنا واخرجتكم كما أخرجتنا وطوحت بنا طوائحها واجتاحت ثمرنا وشجرنا جوائحها فشكر لله تعالى على قضائه وتضرعا فيما نرفعه من دعائه وهنيئا لنا ولكم معشر الشرداء المنطوين من الشجن على شر داء ذلك الطود الذي إليه أويتما وفي ظله ثويتما وعن ريه تريان وبسعيه تسعيان فوجهه المبارك لا يعدم رأيه نجحا ولا يعدو لصحبه إذا دجا ليل الهم صبحا انتهى

تعريف بأبي المطرف
وكان أبو المطرف بن عميرة المذكور كما قال فيه بعض علماء المغرب قدوة البلغاء وعمدة العلماء وصدر الجلة الفضلاء وهو أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي ونكتة البلاغة التي قد أحرزها وأودعها وشمسها التي أخفت ثواقب كواكبها حين أبدعها مبدع البدائع التي لم يحظ بها قبله إنسان ولا ينطق عن تلاوتها لسان إذ كان ينطق عن قريحة صحيحة وروية بدرر

وهو الذي أوتي جوامع الكلم في يديه الأقلام وأصل سلفه من جزيرة شقر وولد بمدينة بلنسية وروى عن أبي الخطاب بن واجب وأبي الربيع بن سالم وابن نوح والشلوبيني النحوي وابن عات وابن حوط الله وغيرهم من الحفاظ وأجازه من أهل المشرق جماعة وكان شديد العناية بشأن الرواية فأكثر من سماع الحديث وأخذه عن مشايخ أهله ثم تفنن في العلوم ونظر في المعقولات وأصول الفقه ومال إلى الأدب فبرع براعة عد فيها من مجيدي النظم فأما الكتابة فهو فارسها الذي لا يجارى وصاحب عينها الذي لا يبارى وله وعظ على طريقة ابن الجوزي ورسائل خاطب بها الملوك وغيرهم من الموحدين والحفصيين وله تأليف في كائنة ميورقة وتغلب الروم عليها نحا في الخبر عنها منحى الإمام الأصبهاني في الفتح القدسي وله كتاب تعقب فيه على الفخر الرازي في كتاب المعالم وله كتاب رد به على كمال الدين الأنصاري في كتابه المسمى بالتبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن وسماه بالتنبيهات على ما في البيان من التمويهات وله اختصار نبيل من تاريخ ابن صاحب الصلاة وغير ذلك
ورد رحمه الله حضرة الإمامة مراكش صحبة أمير المؤمنين الرشيد حين قفوله من مدينة سلا واستكتبه مدة يسيرة ثم صرفه عن الكتابة وقلده قضاء هيلانة ثم نقله إلى قضاء سلا ثم نقله السعيد إلى قضاء مكناسة الزيتون ثم قصد سبتة وأخذ ماله في قافلة في فتنة بني مرين ثم توجه إلى بلاد إفريقية ووصف حاله في رسالة خاطب بها ابن السلطان أبي زكريا الحفصي وهو أبو زكريا ابن السلطان أبي زكريا وكان صاحب بجاية لأبيه ولم يزل رحمه الله تعالى مذ فارق الأندلس متطلعا لسكنى إفريقية

قدم تونس مال إلى صحبة الصالحين والزهاد وأهل الخير برهة من الزمان ثم استقضي بالأربس من إفريقية ثم بقابس مدة طويلة ثم استدعاه أمير المؤمنين المستنصر بالله الحفصي وأحضره مجالس أنسه وداخله مداخلة شديدة حتى تغلب على أكثر أمره
ومولده بجزائر شقر في شهر رمضان المعظم سنة 580 وتوفي ليلة الجمعة الموفية عشرين من ذي الحجة سنة 658 ألحفه الله رضوانه وجدد عليه غفرانه
وقال ابن الأبار في تحفة القادم في حق أبي المطرف المذكور فائدة هذه المائة والواحد يفي بالفئة الذي اعترف باتحاده الجميع واتصف بالإبداع فماذا يتصف به البديع ومعاذ الله أن أحابيه بالتقديم لما له من حق التعليم كيف وسبقه الأشهر ونطقه الياقوت والجوهر تحلت به الصحائف والمهارق وما تخلت عنه المغارب والمشارق فحسبي أن أجهد في أوصافه ثم أشهد بعدم إنصافه هذا على تناول الخصوص والعموم لذكره وتناوب المنثور والمنظوم على شكره ثم أورد له جملة منها قوله
( وأجلت فكري في وشاحك فانثنى ... شوقا إليك يجول في جوال )
( أنصفت غصن البان إذ لم تدعه ... لتأود مع عطفك الميال )
( ورحمت در العقد حين وضعته ... متواريا عن ثغرك المتلالي )
( كيف اللقاء وفعل وعدك سينه ... ابدا تخلصه للاستقبال )
( وكماة قومك نارهم ووقيدها ... للطارقين أسنة وعوالي )
وله مما يكتب على قوس قوله
( ما أنآد معتقل القنا

( تحنو الضلوع على القلوب وإنني ... ضلع ثوى فيها بأعضل داء )
وله وقد أهدى وردا
( خذها إليك أبا عبد الإله فقد ... جاءتك مثل خدود زانها الخفر )
( أتتك تحكي سجايا منك قد عذبت ... لكن تغير هذا دونه الغير )
( إن شمت منها بروق الغيث لامعة ... فسوف يأتيك من ماء لها مطر )
قال وكتب إلي مع تحفة أهداها مكافئا عن مثلها
( يا واحد الأدب الذي قد زانه ... بمناقب جعلته فارس مقنبه )
( بالفضل في الهبة ابتدأت فإن تعر ... طرف القبول لما وهبت ختمت به )
قال وله ارتجالا بقصر الإمارة من بلنسية وأنا حاضر في صبيحة بعض الجمع وقد حجم صاحب لنا من أهل النظم والنثر وأحسن إلى الحجام المخصوص
( ارى من جاء بالموسى مواسى ... وراحة ذي القريض تعود صفرا )
( فهذا مخفق إن قص شعرا ... وهذا منجح إن قص شعرا )
وله أيضا
( هوما علمت من الامير فما الذي ... تزداد منه وفيه لا يرتاب )
( لا تتقي الأجناد في أيامه ... فقرا ولا يرجو الغني الكتاب )
وله بعد انفصاله من بلنسية عن وحشة في ذي القعدة سنة 628
( أسير بارجاء الرجاء وإنما ... حديث

( وأحضر نفسي إن تقدمت خيفة ... لغض عنان أو بعض زمان )
( أيترك حظي للحضيض وقد سرى ... لإمكانه فوق الذرا جبلان )
( وأخبط في ليل الحوادث بعدما ... أضاء لعيني منهما القمران )
( فيحيى لآمالي حياة معادة ... وإن عزيزا عزة لمكاني )
( وقالوا اقترح إن الأماني منهما ... وإن كن فوق النجم تحت ضمان )
( فقلت إذا ناجاهما بقضيتي ... ضميري لم أحفل بشرح لساني )
وله أيضا
( سلب الكرى من مقلتي فلم يجيء ... منه على نأي خيال يطرق )
( أهفو ارتياحا للنسيم إذا سرى ... إن الغريق بما يرى يتعلق )
انتهى ما لخص من تحفة القادم في ذكر ابن عميرة أبي المطرف

رسالة لأبي المطرف
ومما كتب أبو المطرف رحمه الله وفي أثنائه إشارة إلى الكفار الغالبين على بلاد الأندلس ما نصه
( ألا إن شخصينا على القطع واحد ... وجاحد هذا للضرورة جاحد )
( فإن لم تصدق ما نطقت بصدقه ... فإنك لي لاح وللود لاحد )
ومعاذ الله عز و جل ان تلحاني أو تمنع أنفك ريح ريحاني وكيف تصد عني بوجهك أو تشحذ لي غرب نجهك وأنا على غيبك أمين ولشمالك يمين ولكم دعوت بي فأجبت واستغنيت عني فحجبت وأردت الاستبداد فما استطعت ونعت الوداد

فراهة الأعوجي إن جرى وتذكر فضيلة ابن السري إذا سرى فأما الاقتصار على عظم باد والانتظار لعين عدمت السواد فخطأ من القائل وخطل عند العاقل ولله در أخيك من مغمض طرف التطرف قارىء أدب الصحبة على السبعة الأحرف كرع في أعز مورد وتواضع في شرف مولد وسما بنفسه عن أن يستخفه نسب يرفعه وحسب ما منا أحد يدفعه وكذلك الكرام يرون عليهم حقا ويتوقون من لم يكن من الكبر موقى ولعهدي به وظل الثروة بارد وشيطان الشبيبة مارد وبشره في الملمات يرف وقدمه إلى الحاجات تخف يصون عرضه بماله ويخفي صدقة يمينه عن شماله ويقسم جسمه في جسوم ويقوم بالحقوق غير ملول ولا ملوم تلك المكارم لا قعبان وما تستوي البدنة المهيضة مع غيرها في القربان وعرضت بذكر العصر الخالي والقصر العالي وظل من فنن وريق وعيش مع أكرم فريق وما تذكر من زمن تولى وعهد على أن لا يعود تألى فارقناه أحسن ما كان وودعناه به الأطيبين الزمان والمكان فعفت الرسوم وأفلت تلك النجوم ورمتنا عن قوسها الروم ثم خلفتنا في المغاني وقسمتنا بين الأسير والعاني فأودى القل والكثر واشتفى من الإسلام الكفر فكم كأس أنس أرقناه ومنزل فرقة الأبد فارقناه وذكرت اجتيازك بين العلمين وقطعك متن اليم في يومين وأنك انتقلت من ذوات الألواح إلى عذبات الأدواج ومن متهافت الشراع إلى منابت اليراع ومن سكنى بيت السكان إلى منزل

وظللت الساحات وذللت الثمار المباحات فلا تشرقنا يا أصيل ولأم تلك الأرض الويل انتهى
ووصل هذا الكلام بالأبيات التي تقدمت قريبا وهي قوله زدنا على النائين عن أوطانهم إلخ

رسالة أخرى لأبي المطرف
وكتب رحمه الله عن أهل شاطبة ايام كان قاضيا بها مهنئا أمير المسلمين ابن هود المستولي على الأندلس آخر دولة الموحدين بوصول الكتاب العباسي الكريم إليه من بغداد بولاية الأندلس إذ كان ابن هود حين ثار على الموحدين يدعو إلى الخليفة العباسي الذي كان أكثر الملوك في ذلك الزمان يدينون بطاعته بما نصه بعد الصدر
أما بعد فكتب العبيد كتب الله تعالى للمقام العلي المجاهدي المتوكلي سعادة لا تبلغ أمدا إلا تخطته ويدا علوها أثبتته أيدي الأقدار وخطته من شاطبة وبركات الأمر المجاهدي المتوكلي والعهد الواثقي المعتصمي تنسكب كالمطر وتنسحب على البشر وتقضي بعادة النصر والظفر وسعادة الورد والصدر والحمد لله وعند العبيد من أداء فروض الخدم والقيام بحقوق النعم ما عقدت عليه ضمائرهم وسمت إليه واشترك فيه باديهم وحاضرهم فجناب أملهم فسيح وتجر خدمتهم ربيح وحديث طاعتهم حسن صحيح وبسنا النظر العلي اهتداؤهم وفي الباب الكريم رجاؤهم وبصدق العبودية اعتزازهم وإليها اعتزاؤهم والله تعالى ينهضهم بوظائف المثابة العلية ويحملهم على المناهج السوية ووصل الكتاب الكريم متحليا برواء الحق ناطقا بلسان الصدق واصفا من التشريف والفخار المنيف ما صدر عن إمام الخلق

بيان أعجب من ذلك البيان ولا يوم كذلك اليوم تبدى نظره للعيان أوتأدى خبره في أخبار الزمان نثرت فيه الخلع العباسية في أعلى الصور وبرز منها للعيون ما يعثر البليغ عند وصفه في ذيل الحصر ويهدي سواده سواد القلب والبصر فيا لمشهدها ما أعجب ما كان ومرآها الذي راع الكفر وراق الإيمان وأشبه يومه بالأندلس يوم خرجت الرايات السود من خرسان وكفى بهذا فخارا لا يحتاج ثابته مثبتا أن باشرت بردا باشر البدن الذي طاب حيا وميتا فهو علو في الإسناد ولا نظير له في العوالي وفخار ضلت عن مثله العصور الخوالي وجلت بهجته أن تخلق جدتها الأيام والليالي ودل الكتاب العزيز على التسمية المشتقة من الجهاد والسمة من سيف أمير المؤمنين بما لا يدخل في جنس ذوات الأغماد وخير الأوصاف ما صدقه الموصوف وللكريم النسب نسبة يباهي بها الدين وتزهى السيوف
( فإن نحن سميناك خلنا سيوفنا ... من التيه في أغمادها تتبسم )
ومما أفاده الكتاب المبهج بطيب أنبائه نص علامة سيدنا صلوات الله عليه وعلى أبائه فإنها تضمنت صفة لله عز و جل من صفات الكمال ودلت على مذهب أهل السنة في خلق الله عز و جل الأعمال وأشعرتنا معشر العبيد بعناية سبقت بالمقام المجاهدي المتوكلي أحسن الله تعالى إليه حين تولى خلافة أمير المؤمنين صلوات الله عليه فإنه لما شايعه بعزيمة مساعدة ونية في مشاريع الصفاء والإخلاص واردة ألهم زيادة في العلامة شاركت الإمامة في صفة واحدة فهذه كرامة العلامة هي علامة الكرامة وهبة من مواهب الكشف يجدها من امتثل قوله ( فاستقم كما أمرت ) هود 112 فكان من أهل الاستقامة وتضمن الكتاب الكريم بيعة أهل جيان وما معها وإن هذه البشائر وما تبعها لفروع عن هذا الأصل الصحيح وأقيسة عن

الخلافة قد استقلت وشبهة الخلاف قد بطلت واضمحلت والحمد لله على أن منح جزيل النعماء وشرح باليقين صدور الأولياء وشرف هذه الأمة بإمامة نجل الإئمة الخلفاء وابن عم سيد الرسل وخاتم الأنبياء والعبيد يهنئون بهذه النعم التي لا يستقل بذكرها قلم ولا يقطع علم من وصفها إلا بدا علم وبهم من الأشواق إلى مشاهدة المعالم السينة وثم اليمين الطاهرة العلية ما أكده دنو الدار وجدده ما تجدد للمقام العالي المتوكلي من نعم الله تعالى الجليلة المقدار والشاهدة له بإسعاد الأيام وإسعاف الأقدار فلو أمكنهم الإقدام لأقدموا ولو وجدوا رخصة في المسير لعزموا وهم يستلمون البساط الأشرفي توهما ومن أملهم أنهم في الحقيقة قد استلموا انتهى
وبه تعلم أن الدولة العباسية خطب لها ببلاد الأندلس أعادها الله للإسلام ولا يخفاك أن ما جلبناه من ذلك وغيره مناسب للمقام فلا انتقاد ولا ملام

رسالة للسان الدين إلى أحمد بن قلاوون
وقد رأيت أن أذكر هنا مخاطبة صدرت من الغني بالله صاحب الأندلس إلى السلطان المنصور أحمد ابن السلطان الناصر محمد بن قلاوون من إنشاء الوزير الكبير لسان الدين بن الخطيب رحمه الله لما اشتملت عليه من أحوال الأندلس ونصها الأبواب التي تفتح لنصرها أبواب السماء وتستدر من آفاقها سحاب النعماء وتجلى بأنوار سعدها دياجي الظلماء وتعرف نكرة البلاد والعباد بالانتساب إلى محبتها والانتماء على اختلاف العروض وتباين الحدود وتعدد الأسماء ويجتزأ من صلات صلاتها عند الموانع من كمال حالات صفاتها بالإيماء وتحمل لها التحية ذوات الدسر والألواح طاعنة نحر الصباح على كتد الماء أبواب السلطان الكبير الجليل الشهير الطاهر الظاهر الأوحد الأسعد الأصعد الأمجد الأعلى العادل

عماد الدنيا والدين رافع ظلال العدل على العالمين جمال الإسلام علم الأعلام فخر الليالي والأيام ملك البرين والبحرين إمام الحرمين مؤمل الأمصار والأقطار عاصب تاج الفخار هازم الفرنج والترك والتتار الملك المنصور ابن الأمير الرفيع الجادة الكريم الولادة الطاهر الظاهر الكبير الشهير المعظم الممجد الأسمى الموقر الأعلى فخر الجلة سيف الملة تاج الإمارة عز الإسلام مستظل الأنام قمر الميدان أسد الحرب العوان المقدس ال مطهر الأمير أحمد ابن والد السلاطين ومالك المسلمين وسيف خلافة الله على العالمين وولي المؤمنين سلطان الجهاد والحج ومقيم رسم العج والثج محيي معالم الدين قامع المعتدين قاهر الخوارج والمتمردين ناصر السنة محي الملة ملك البرين والبحرين سلطان الحرمين الملك العادل العالم العامل المنصور المؤيد المعان المرفع المعظم المبجل المؤمل المجاهد المرابط الغازي الممجد المكمل المطهر الكبير الشهير المقدس الملك الناصر أبي عبد الله محمد بن قلاوون الصالحي جعل الله فسطاط دعوته معمودا بعمود الصبح وحركات عزمه مبنية على الفتح ومجمل سعادته غنيا عن الشرح وجياد أوصافه متبارية في ميدان المدح وزناد رأيه وارية على القدح من موجب حقه وجوب الشعائر الخمس المرحب لأجل أفقه الشرقي بوفادة الشمس المجدد في اليوم حكم ما تقرر بين السلف رحمهم الله بالأمس أمير المسلمين بالأندلس عبد الله الغني بالله الغالب به محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن نصر سلام كريم كما زحفت راية الصبح تقدمها طلائع مبشرات الرياح

رتب العز فصولها وعضدت نصوص النصر نصولها ورحمة الله تعالى وبركاته
أما بعد حمد الله الذي جعله فاتحة القرآن وخاتمة دعاء أهل الجنان وشكره على ما أولى من مواهب الإحسان حمدا وشكرا يستخدمان من الإنسان ملكتي القلب واللسان والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله زهرة كمامة الأكوان وسيد ولد آدم على اختلاف اللغات والألوان الذي أذل بعزة الله أنوف الطغيان وغطى بدينه الحق على الأديان وزويت له الأرض فرأى ملك أمته يبلغ ما زوي له فكان الخبر وفق العيان والرضا عمن له من الأصحاب والأحباب والأعمام والأخوال والإخوان صلاة يجددها الجديدان ويمليها الملوان وتتزاحم على تربته المقدسة مع الأحيان ما سجعت طيور البراعة من أعواد اليراعة على الأفنان والتفتت عيون المعاني ما بين أجفان البيان والدعاء لأبوابكم الشريفة جعل الله تعالى عصمته تقيم بها وظيفتي الحجابة والاستئذان وضرب بدعوتها التي هي لذة الإقامة والأذان على الآذان واستخدم بروج الفلك الدوار في أمرها العزيز استخدام الأنصار والأعوان حتى يعلم ما في المدافعة عن حماها مخالب السرحان وفي الإشادة بعدلها كفتي الميزان ويهدي لها من الزهرة كرة الميدان ومن الهلال عوض الصولجان وأبقى في عواملها ضمير الأمر والشان إلى يوم تعنو وجوه الملوك إلى الملك الديان فإنا كتبناه إلى تلك الأبواب كتب الله لعتبتها النصرة الداخلة كما أخجل بمكارمها السحب الباخلة وجعل مفارق مناصلها المختضبة من نجيع عداها غير ناصلة وقرن بكل سبب من أضدادها فاصلة من دار ملك الإسلام بالأندلس حمراء غرناطة وصل الله سبحانه عادة الدفاع عن أرجائها وشد بأيدي اليقين عرى أملها في الله ورجائها حيث المصاف المعقود وثمن النفوس المنقود

الحرب ذات الوقود حيث الأفق قد تردى بالقتام وتعمم والسيف قد تجرد وتيمم وغبار الجهاد يقول أنا الأمان من دخان جهنم حيث الإسلام من عدوه كالشامة من جلد البعير والتمرة من أوسق العير حيث المصارع تتزاحم الحور على شهدائها والأبطال يعلو بالتكبير مسمع ندائها حيث الوجوه الضاحكة المستبشرة قد زينتها الكلوم بدمائها وإن هذا القطر الذي مهدت لسياستنا أكوار مطاياه وجعلت بيدنا والمنة لله عياب عطاياه قطر مستقل بنفسه مرب يومه في البر على أمسه زكي المنابت عذب المشارب متمم المآمل مكمل المآرب فاره الحيوان معتدل السحن والألوان وسيطة في الأقاليم السبعة شاهدة لله بإحكام الصنعة أما خيله ففارهة وإلى الركض شارهة وأما سيوفه فلمواطن الغمود كارهة وأما أسله فمتداركة الخطف وأما عوامله فبينة الحذف وأما نباله فمحذورة القذف إلا أن الإسلام به في سفط مع الحيات وذريعة للمنيات الوحيات وهدف للنبال وأكلة للشبال تطؤهم الغارات المتعاقبة وتتحيفهم الحدود المصاقبة وتجوس خلالهم العيون المراقبة وتريب من أشكال مختطهم إلا أن يتفضل الله بحسن العاقبة فليس إلا الصبر والضرب والهبر والهمز والنبر والمقابلة والجبر وقد حال البحر بينهم وبين إخوان ملتهم وأساة علتهم يقومون بهذا الفرض عن أهل الأرض ويقرضون ملك يوم العرض أحسن القرض فلولا بعد المدى وغول الردى ولغط العدا وما عدا مما بدا لسمعتم تكبير الحملات وزئير تلك الفلات ودوي الحوافر وصليل السيوف من فوق المغافر وصراخ الثكالى وارتفاع الأدعية إلى الله تعالى ولو ارتفع قيد المكان وهو للأولياء مثلكم من حيز الإمكان لمقلتم مقل الأسنة الزرق

من أطراف قصب الرماح محال الورق وأبصرتم القنا الخطار قد عاد أخلة والسيوف قد صارت فوق بدور الخوذ أهلة وعقود الشهادة عند قاضي السعادة مستقلة وكان كما تحصره علومكم الشريفة حدق سور الفتح وآخر دلاء ذلك المتح عرض على الفاروق فاحتاط وأغرى به من بعده فاشتاط وسرحت خيل ابن أبي سرح في خبر يدعو على شرح حتى إذا ولد مروان تقلدوا كرتها التي هوت وخضموا ما أنضجت ورثة الحق وشوت ويدهم على الأمر احتوت وفازت منه بما نوت نفل ولائده الوليد وجلب له الطريف والتليد وطرقت خيل طارق وضاقت عن أخباره المهارق وجلت الفائدة وظهر على الذخيرة التي منها المائدة ثم استرسل المهب ونصر الرب ويكثر الطير حين ينتثر الحب وصرفت أشراف الشام أعنتها إلى التماس خيره وطارت بأجنحة العزائم تيمنا بطيره وقصدته الطلائع صحبة بلج بن بشر وغيره ففتحت الأقفال ونفلت الأنفال ونجح الفال ووسمت الأغفال وافتتحت البلاد الشهيرة وانتقيت العذارى الخيرة واقتنيت الذخيرة وتجاوز الإسلام الدروب وتخطى وخضد الأرطى وأركب وأمطى واستوثق واستوطأ وتثاءب وتمطى حتى تعددت مراحل البريد وسخنت عين الشيطان المريد واستوسق للإسلام ملك ضخم السرادق مرهوب البوارق رفيع العمد بعيد الأمد تشهد بذلك الآثار والأخبار والوقائع الكبار والأوراق والأسطار وهل يخفى النهار ولكل هبوب ركود والدهر حسود لمن يسود فراجعت الفرنج كرتها واستدركت معرتها فدومت جوارحها وحلقت وأومضت بوارقها وتألقت وتشبثت وتعلقت وأرسلت مما يتعلق بهذا الباب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه

الأعنة وأطلقت وراجعت العقائل التي طلقت حتى لم يبق من الكتاب إلا الحاشية ولا من الليل إلا الناشية وسقطت الغاشية وأخلدت الفئة المتلاشية وتقلصت الظلال الفاشية إلا أن الله تدارك بقوم رجح من سلفنا أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم وأخلصوا لله بأسهم وإقدامهم ووصلوا سيوفهم الباترة بخطاهم وأعطاهم منشور العز من أعطاهم حين تعين الدين وتحيز واشتد بالمدافعة وتميز وعادت الحروب سجالا وعلم الروم أن لله رجالا وقد أوفد جدنا رضي الله عنه على أبواب سلفكم من وقائعه في العدو كل مبشرة ووجودية منتشرة ضحكت لها ثغور الثغور وسرت بها في الأعطاف حميا السرور وكانت المراجعة عنها شفاء للصدور وتمائم في الدور وخفرا في وجوه البدور فإن ذمام الإسلام موصول وفروعه تجمعها في الله أصول وما أقرب الحزن ممن داره صول والملة والمنة لله واحدة والنفوس لا منكرة للحق ولا جامدة والأقدار معروفة والآمال إلي ما يوصل إلى الله مصروفة فإذا لم يكن الاستدعاء أمكن الدعاء والخواطر فعالة والكل على الله عالة والدين غريب والغريب يحن إلى أهله والمرء كثير بأخيه على بعد محله
انتهى المقصود من المخاطبة مما يتعلق بهذا الباب والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب

الباب الثالث
في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد والقهر للعدو في الرواح والغدو والتحرك والهدو والارتياح البالغ غاية الآماد وإعمال أهلها للجهاد بالجد والاجتهاد في الجبال والوهاد بالأسنة المشرعة
( والسيوف المستلة من الأغماد ... )
أقول قدمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين وفتحهم الأندلس وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل فتقررت القواعد السلطانية وعلت الكلمة الإيمانية كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى
وذكر غير واحد منهم ابن حزم أن دولة بني أمية بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام وأنكاها في العدو وقد بلغت من العز والنصر ما لا مزيد عليه كما سترى بعضه
عبد الرحمن الداخل
وأصل هذه الدولة كما قال ابن خلدون وغير واحد أن بني أمية لما نزل بهم بالمشرق ما نزل وغلبهم بنو العباس على الخلافة وأزالوهم عن كرسيها وقتل عبد الله بن علي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة وتتبع بني مروان بالقتل فطلبوا بطن الأرض

الباب الثالث
في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد والقهر للعدو في الرواح والغدو والتحرك والهدو والارتياح البالغ غاية الآماد وإعمال أهلها للجهاد بالجد والاجتهاد في الجبال والوهاد بالأسنة المشرعة
( والسيوف المستلة من الأغماد ... )
أقول قدمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين وفتحهم الأندلس وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل فتقررت القواعد السلطانية وعلت الكلمة الإيمانية كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى
وذكر غير واحد منهم ابن حزم أن دولة بني أمية بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام وأنكاها في العدو وقد بلغت من العز والنصر ما لا مزيد عليه كما سترى بعضه
عبد الرحمن الداخل
وأصل هذه الدولة كما قال ابن خلدون وغير واحد أن بني أمية لما نزل بهم بالمشرق ما نزل وغلبهم بنو العباس على الخلافة وأزالوهم عن كرسيها وقتل عبد الله بن علي مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة

من بعد ظهرها وكان ممن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان وكان قومه يتحينون له ملكا بالمغرب ويرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن مسلمة بن عبد الملك وكان هو قد سمعها منه مشافهة فكان يحدث نفسه بذلك فخلص إلى المغرب ونزل على أخواله نفزه من برابرة طرابلس وشعر به عبد الرحمن بن حبيب وكان قد قتل ابني الوليد ابن يزيد بن عبد الملك لما دخلا إفريقية فلحق بمغيلة وقيل بمكناسة وقيل بقوم من زناتة فأحسنوا قبوله واطمأن فيهم ثم لحق بمليلة وبعث بدرا مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين وأشياعهم فاجتمع بهم وبثوا له في الأندلس دعوة ونشروا له ذكرا ووافق قدومه ما كان من الإحن بين اليمنية والمضرية فأصفقت اليمنية على أمره لكون الأمر كان ليوسف بن عبد الرحمن الفهري وصاحبه الصميل ورجع بدر مولاه إليه بالخبر فأجاز البحر سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور ونزل بساحل المنكب وأتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه ثم انتقل إلى كورة رية فبايعه عاملها عيسى ابن مساور ثم إلى شذونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخمي ثم إلى مورور فبايعه ابن الصباح ونهد إلى قرطبة فاجتمعت إليه اليمنية ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري وكان غازيا بجليقية فانفض عسكره ورجع إلى قرطبة وأشار عليه وزيره الصميل بن حاتم بالتلطف له والمكر به لكونه صغير السن حديث عهد بنعمة فلم يتم ما أرداه وارتحل عبد الرحمن من المنكب فاحتل بمالقة فبايعه جندها ثم برندة ثم بشريش كذلك ثم بإشبيلية فتوافت إليه جنود الأمصار وتسايلت المضرية إليه حتى إذا لم يبق مع يوسف بن

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24