كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

بين النار والماء والأرض والسماء ولما قال فيه ابن باجة
( يا ملك الموت وابن زهر ... جاوزتما الحد والنهايه )
( ترفقا بالورى قليلا ... في واحد منكما الكفايه ) قال أبو العلاء
( لا بد للزنديق أن يصلبا ... شاء الذي يعضده أو أبى )
( قد مهد الجذع له نفسه ... وسدد الرمح إليه الشبا )
والذي يعضده مالك بن وهيب جليس أمير المسلمين وعالمه
وأما حفيده أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر فهو وزير إشبيلية وعظيمها وطبيبها وكريمها ومن شعره
( رمت كبدي أخت السماء فأقصدت ... ألا بأبي رام يصيب ولا يخطي )
( قريبة ما بين الخلاخيل إن مشت ... بعيدة ما بين القلادة والقرط )
( نعمت بها حتى أتيحت لنا النوى ... كذا شيم الأيام تأخذ ما تعطي )
وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائة وأمر أن يكتب على قبره
( تأمل بفضلك يا واقفا ... ولاحظ مكانا دفعنا إليه )
( تراب الضريح على صفحتي ... كأني لم أمش يوما عليه )
( أداوي الأنام حذار المنون ... فها أنا قد صرت رهنا لديه )
رحمه الله تعالى وعفا عنه
وفي هذه الأبيات إشارة إلى طبه ومعالجته للناس رحمه الله تعالى ! وقد ذكرنا بعض أخباره في غير هذا الموضع

وقال أبو الوليد ابن حزم
( مرآك مرآك لا شمس ولا قمر ... وورد خديك لا ورد ولا زهر )
( في ذمة الله قلب أنت ساكنه ... إن بنت بان فلا عين ولا أثر )
وقال
( لله أيام على وادي القرى ... سلفت لنا والدهر ذو ألوان )
( إذ نجتني في ظله ثمر المنى ... والطير ساجعة على الأغصان )
( والشمس تنظر من محاجر أرمد ... والطل يركض في النسيم الواني )
( فلثمت فاه والتزمت عناقه ... ويد الوصال على قفا الهجران )
وقال ابن عبد ربه
( يا قابض الكف لا زالت مقبضة ... فما أناملها للناس أرزاق )
( وغب إذا شئت حتى لا ترى أبدا ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق )
وقال في المدح
( وما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تخلق لهن يدان )
( لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان )
وقال الكاتب أبو عبد الله بن مصادق الرندي الأصل
( صارمته إذ رأت عارضه ... عاد من بعد الشباب أشيبا )

( قلت ما ضرك شيب فلقد ... بقيت فيه فكاهات الصبا )
( هو كالعنبر غال نفحه ... وشذاه أخضرا أو أشهبا ) وقال
( ووردة وردت في غير موقتها ... والسحب قد هملت أجفانها هطلا )
( وإنما الروض لما لم يفد ثمرا ... يقريكه انفتحت في خده خجلا )
وله
( لم أحتفل لقدوم العيد من زمن ... قد كان يبهجني إذ كنت في وطني )
( لم ألق أهلي ولا إلفي ولا ولدي ... فليت شعري سروري واقع بمن )
وقال
( يقول لي العاذل تب عن هوى ... من ليس يدنيك إلى مطلب )
( وكيف لي والدين دين الهوى ... فلا أرى أرجح من مذهبي )
( أليس باب التوب قد سده ... طلوعه شمسا من المغرب )
وله
( امنع كرائمك الخروج ولا ... تظهر لذلك وجه منبسط )
( لا تعتبر منهن مسخطة ... نيل الرضى في ذلك السخط )
( أو لسن مثل الدر في شبه ... والدر من صدف إلى سفط ) الشمس ما يتوقع )

وقال المعتمد بن عباد
( تم له الحسن بالعذار ... واختلط الليل بالنهار )
( أخضر في أبيض تبدى ... فذاك آسي وذا بهاري )
( فقد حوى مجلسي تماما ... إن يك من ريقه عقاري )
وقال ابن فرج الجياني رحمه الله تعالى
( وطائعة الوصال صدرت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع )
( بدت في الليل سافرة فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع )
( وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي )
( فملكت الهوى جمحات أمري ... لأجري في العفاف على طباعي )
( كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع )
( ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي ) وقال
( بأيهما أنا في الشكر بادي ... بشكر الطيف أم شكر الرقاد )
( سرى فازداد لي أملي ولكن ... عففت فلم أنل منه مرادي )
( وما في النوم من حرج ولكن ... جريت مع العفاف على اعتيادي )
وقال الرصافي
( وعشي أنس للسرور وقد بدا ... من دون قرص

( سقطت فلم يملك نديمك ردها ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع ) وقال ابن عبد ربه
( يراعة غرني منها وميض سنا ... حتى مددت إليها الكف مقتبسا )
( فصادفت حجرا لو كنت تضربه ... من لؤمه بعصا موسى لما انبجسا )
( كأنما صيغ من لؤم ومن كذب ... فكان ذاك له روحا وذا نفسا )
وقال ابن صارة في فروة
( أودت بذات يدي فرية أرنب ... كفؤاد عروة في الضنى والرقة )
( يتجشم الفراء من ترقيعها ... بعد المشقة في قريب الشقة )
( لو أن ما أنفقت في ترقيعها ... يحصى لزاد على رمال الرقة )
( إن قلت بسم الله عند لباسها ... قرأت علي إذا السماء انشقت )
وقال الغزال
( والمرء يعجب من صغيرة غيره ... أي امرئ إلا وفيه مقال )
( لسنا نرى من ليس فيه غميزة ... أي الرجال القائل الفعال )
وقال أبو حيان
( لا ترجون دوام الخير من أحد ... فالشر طبع وفيه الخير بالعرض )
( ولا تظن امرءا أسدى إليك ندى ... من أجل ذاتك بل أسداه للغرض )

وقال ابن شهيد
( ولما فشا بالدمع ما بين وجدنا ... إلى كاشحينا ما القلوب كواتم )
( أمرنا بإمساك الدموع جفوننا ... ليشجى بما نطوي عذول ولائم )
( أبى دمعنا يجري مخافة شامت ... فنظمه بين المحاجر ناظم )
( وراق الهوى منا عيونا كريمة ... تبسمن حتى ما تروق المباسم )
وقال في الانتحال
( وبلغت أقواما تجيش صدورهم ... علي وإني فيهم فارغ الصدر )
( أصاخوا إلى قولي فأسمعت معجزا ... وغاصوا على سري فأعجزهم أمري )
( فقال فريق ليس ذا الشعر شعره ... وقال فريق أيمن الله ما ندري )
( فمن شاء فليخبر فإني حاضر ... ولا شيء أجلى للشكوك من الخبر ) وينظر إلى مثل هذا قصة أبي بكر بن بقي حين استهدى من بعض إخوانه أقلاما فبعث إليه بثلاث من القصب وكتب معها
( خذها إليك أبا بكر العلا قصبا ... كأنما صاغها الصواغ من ورقه )
( يزهى بها الطرس حسنا ما نثرت بها ... مسك المداد على الكافور من ورقه ) فأجابه أبو بكر
( أرسلت نحوي ثلاثا من قنا سلب ... ميادة تطعن القرطاس في درقه )
( فالخط ينكرها والحظ يعرفها ... والرق يخدمها بالرق في عنقه )

فحسده عليه بعض من سمعه ونسبه إلى الانتحال فقال أبو بكر يخاطب صاحبه الأول
( وجاهل نسب الدعوى إلى كلمي ... لما رماه بمثل النبل في حدقه )
( فقلت من حنق لما تعرض لي ... من ذا الذي أخرج اليربوع من نفقه )
( ما ذم شعري وأيم الله لي قسم ... إلا امرؤ ليست الأشعار من طرقه )
( والشعر يشهد أني من كواكبه ... بل الصباح الذي يستن من أفقه )
وقال ابن شهيد أيضا في ضيف
( وما انفك معشوق الثناء يمده ... ببشر وترحيب وبسط بنان )
( إلى أن تشهى البين من ذات نفسه ... وحن إلى الأهلين حنة حاني )
( فأتبعته ما سد خلة حاله ... وأتبعني ذكرا بكل مكان )
وقال
( وبتنا نراعي الليل لم يطو برده ... ولم يجل شيب الصبح في فوده وخطا )
( تراه كملك الزنج من فرط كبره ... إذا رام مشيا في تبختره أبطا )
( مطلا على الآفاق والبدر تاجه ... وقد جعل الجوزاء في أذنه قرطا ) وقال ابن حذف
وقال بعضهم في لباس أهل الأندلس البياض في الحزن مع أن أهل المشرق يلبسون فيه السواد
( ألا يا أهل أندلس فطنتم ... بلطفكم إلى أمر عجيب )

( لبستم في مآتمكم بياضا ... فجئتم منه في زي غريب )
( صدقتم فالبياض لباس حزن ... ولا حزن أشد من المشيب )
وقال أبو جعفر بن خاتمة
( هل جسوم يوم النوى ودعوها ... باقيات لسوء ما أودعوها )
( يا حداة القلوب ما العدل هذا ... أتبعوها أجسامها أو دعوها )
وقال القسطلي يصف هول البحر
( إليك ركبنا الفلك تهوي كأنها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربان )
( على لجج خضر إذا هبت الصبا ... ترامى بها فينا ثبير وثهلان )
( مواثل ترعى في ذراها مواثلا ... كما عبدت في الجاهلية أوثان )
( يقلن وموج البحر والهم والدجى ... يموج بها فيها عيون وآذان )
( ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا ... سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان )
وقال الرمادي يهنئ ابن العطار الفقيه بمولود
( يهنيك ما زادت الأيام في عددك ... من فلذة برزت للسعد من كبدك )
( كأنما الدهر دهر كان مكتئبا ... من انفرادك حتى زاد في عددك )
( لا خلفتك الليالي تحت ظل ردى ... حتى ترى ولدا قد شب من ولدك )
وقال ابن صارة في النار
( هات التي للأيك أصل ولادها ... ولها جبين الشمس في الأشماس )
( يتقشع الياقوت في لباتها ... بوساوس تشفي من الوسواس )

( أنس الوحيد وصبح عين المجتلي ... ولباس من أمسى بغير لباس )
( حمراء ترفل في السواد كأنما ... ضربت بعرق في بني العباس )
وقال فيها أيضا
( لابنة الزند في الكوانين جمر ... كالدراري في الليلة الظلماء )
( خبروني عنها ولا تكذبوني ... ألديها صناعة الكيمياء )
( سبكت فحمها سبائك تبر ... رصعته بالفضة البيضاء )
( كلما ولول النسيم عليها ... رقصت في غلالة حمراء )
( سفرت عن جبينها فأرتنا ... حاجب الليل طالعا بالعشاء )
( لو ترانا من حولها قلت قوم ... يتعاطون أكؤس الصهباء )
وقال فيها الفقيه الأديب ابن لبال
( فحم ذكا في حشاه جمر ... فقلت مسك وجلنار )
( أو خد من قد هويت لما أطل ... من فوقه العذار )
وكان أبو المطرف الزهري جالسا في باب داره مع زائر له فخرجت عليهما من زقاق ثان جارية سافرة الوجه كالشمس الطالعة فحين نظرتهما على غفلة منها نفرت خجلة فرأى الزائر ما أبهته فكلفه وصفها فقال مرتجلا

( يا ظبية نفرت والقلب مسكنها ... خوفا لختلي بل عمدا لتعذيبي )
( لا تختشي فابن عبد الحق أنحلنا ... عدلا يؤلف بين الظبي والذيب )
وقال ابن شهيد
( أصباح لاح أم بدر بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا )
( هب من نعسته منكسرا ... مسبل للكم مرخ للردا )
( يمسح النعسة من عيني رشا ... صائد في كل يوم أسدا )
( قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من همك تبريح الصدى )
( فانثنى يهتز من منكبه ... قائلا لا ثم أعطاني اليدا )
( كلما كلمني قبلته ... فهو ما قال كلاما رددا )
( قال لي يلعب صد لي طائرا ... فتراني الدهر أجري بالكدى )
( وإذا استنجزت يوما وعده ... قال لي يمطل ذكرني غدا )
( شربت أعضانه خمر الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا )
( رشأ بل غادة ممكورة ... عممت صبحا بليل أسودا )
( أخجلت من عضة في نهدها ... ثم عضت حر وجهي عمدا )
( فأنا المجروح من عضتها ... لا شفاني الله منها أبدا )
وقال محمد بن هانئ في الشيب
( بنتم فلولا أن أغبر لمتي ... عبثا وألقاكم علي غضابا )

( لخضبت شيبا في مفارق لمتي ... ومحوت محو النقس عنه شبابا )
( وخضبت مبيض الحداد عليكم ... لو أنني أجد البياض خضابا )
( وإذا أردت على المشيب وفادة ... فاجعل مطيك دونه الأحقابا )
( فلتأخذن من الزمان حمامة ... ولتدفعن إلى الزمان غرابا )
وكتب ابن عمار إلى ابن رزين وقد عتب عليه أن اجتاز ببلده ولم يلقه
( لم تثن عنك عناني سلوة خطرت ... ولا فؤادي ولا سمعي ولا بصري )
( لكن عدتني عنكم خجلة خطرت ... كفاني العذر منها بيت معتذر )
( و اختصرتم من الإحسان زرتكم ... والعذب يهجر للأفراط في الخصر )
وقال ابن الجد
( وإني لصب للتلاقي وإنما ... يصد ركابي عن معاهدك العسر )
( أذوب حياء من زيارة صاحب ... إذا لم يساعدني على بره الوفر )
وقال ابن عبد ربه
( يا من عليه حجاب من جلالته ... وإن بدا لك يوما غير محجوب )
( ما أنت وحدك مكسوا ثياب ضنى ... بل كلنا بك من مضنى ومشحوب )
( ألقى عليك يدا للضر كاشفة ... كشاف ضر نبي الله أيوب )

وقال النحلي في مغنية
( ولاعبة الوشاح كغصن بان ... لها أثر بتقطيع القلوب )
( إذا سوت طريق العود نقرا ... وغنت في محب أو حبيب )
( فيمناها تقد بها فؤادي ... ويسراها تعد بها ذنوبي ) وقال ابن شهيد
( كلفت بالحب حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم )
( وعاقني كرمي عمن ولهت به ... ويلي من الحب أو ويلي من الكرم )
وكان بشريش صوفي حافظ للشعر فلا يعرض في مجلسه معنى إلا وهو ينشد عليه فاتفق أن عطس رجل بمجلسه فشمته الحاضرون فدعا لهم فرأى الصوفي أنه إن شمته قطع إنشاده بما لا يشاكله من النظم وإن لم يشمته كان تقصيرا في البر فرغب حين أصبح من الطلبة نظم هذا المعنى فقال الوزير الحسيب أبو عمرو بن أبي محمد
( يا عاطسا يرحمك الله إذ ... أعلنت بالحمد على عطستك )
( ادع لنا ... ربك يغفر لنا وأخلص النية في دعوتك )
( وقل له يا سيدي رغبتي ... حضور هذا الجمع في حضرتك )
( وأنت يا رب الندى والنوى ... بارك رب الناس في ليلتك )
( فإن يكن منكم لنا عودة ... فأنت محمود على عودتك )

وهذا الوزير المذكور كان يصرف شعره في أوصاف الغزلان ومخاطبات الإخوان وكتب إلى الشريشي شارح المقامات يستدعي منه كتاب العقد
( أيا من غدا سلكا لجيد معارفه ... ومن لفظه زهر أنيق لقاطفه )
( محبك أضحى عاطل الجيد فلتجد ... بعقد على لباته وسوالفه )
ووعك في بعض الأعياد فعاده من أعيان الطلبة جملة فلما هموا بالانصراف أنشدهم ارتجالا
( لله در أفاضل أمجاد ... شرف الندي بقصدهم والنادي )
( لما أشاروا بالسلام وأزمعوا ... أنشدتهم وصدقت في الإنشاد )
( في العيد عدتم وهو يوم عروبة ... يا فرحتي بثلاثة الأعياد )
قال الشريشي في شرح المقامات ولقد زرته في مرضه الذي توفي فيه رحمه الله تعالى أنا وثلاثة فتيان من الطلبة فسألني عنهم وعن آبائهم فلما أرادوا الانصراف ناول أحدهم محبرة وقال له اكتب وأملى عليه ارتجالا
( ثلاثة فتيان يؤلف بينهم ... ندي كريم لا أرى الله بينهم )
( تشابه خلق منهم وخليقة ... فإن قلت أين الحسن فانظره أين هم )
( وزينهم أستاذهم إذ غدا لهم ... معلم آيات فتمم زينهم )
( فإن خفت من عين ففي الكل فلتقل ... وقى الله رب الناس للكل عينهم )
وقال الشريشي حدثنا شيخنا أبو الحسين بن زرقون عن أبيه أبي عبد الله أنه قعد مع صهره أبي الحسن عبد الملك بن عياش

الكاتب على بحر المجاز وهو مضطرب الأمواج فقال له أبو الحسن أجز
( وملتطم الغوارب موجته ... بوارح في مناكبها غيوم )
فقال أبو عبد الله
( تمنع لا يعوم به سفين ... ولو جذبت به الزهر النجوم )
وكان لابن عبد ربه فتى يهواه فأعلمه أنه يسافر غدا فلما أصبح عاقه المطر عن السفر فانجلى عن ابن عبد ربه همه وكتب إليه
( هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر )
( ما زلت أبكي حذار البين ملتهبا ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر )
( يا برده من حيا مزن على كبد ... نيرانها بغليل الشوق تستعر )
( آليت أن لا أرى شمسا ولا قمرا ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر )
وقال ابن عبد ربه
( صل من هويت وإن أبدى معاتبة ... فأطيب العيش وصل بين إلفين )
( واقطع حبائل خدن لا تلائمه ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وقال أبو محمد غانم بن الوليد المالقي
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وكان المتوكل صاحب بطليوس ينتظر وفود أخيه عليه من

شنترين يوم الجمعة فأتاه يوم السبت فلما لقيه عانقه وأنشده
( تخيرت اليهود السبت عيدا ... وقلنا في العروبة يوم عيد )
( فلما أن طلعت السبت فينا ... اطلت لسان محتج اليهود )
وقال أبو بكر بن بقي
( أقمت فيكم على الإقتار والعدم ) لو كنت حرا أبي النفس لم أقم )
( فلا حديقتكم يجنى لها ثمر ... ولا سماؤكم تنهل بالديم )
( أنا امرؤ إن نبت بي أرض أندلس ... جئت العراق فقامت لي على قدم )
( ما العيش بالعلم إلا حيلة ضعفت ... وحرفة وكلت بالقعدد البرم )
وقال الأبيض في الفقهاء المرائين
( أهل الرياء لبستم ناموسكم ... كالذئب يدلج في الظلام العاتم )
( فملكتم الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتم الأموال بابن القاسم )
( وركبتم شهب البغال بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم ) وقال
( قل للإمام سنا الأئمة مالك ... نور العيون ونزهة الأسماع )
( لله درك من همام ماجد ... قد كنت راعينا فنعم الراعي )
( فمضيت محمود النقيبة طاهرا ... وتركتنا قنصا لشر سباع

( أكلوا بك الدنيا وأنت بمعزل ... طاوي الحشا متكفت الأضلاع )
( تشكوك دنيا لم تزل بك برة ... ماذا رفعت بها من الأوضاع )
وقال ابن صارة
( يا من يعذبني لما تملكني ... ماذا تريد بتعذيبي وإضراري )
( تروق حسنا وفيك الموت أجمعه ) كالصقل في السيف أو كالنور في النار ) وقال عبدون البلنسي
( يا من محياه جنات مفتحة ... وهجره لي ذنب غير مغفور )
( لقد تناقضت في خلق وفي خلق ... تناقض النار بالتدخين والنور )
وقال الوزير ابن الحكيم
( رسخت أصول علاكم تحت الثرى ... ولكم على خط المجرة دار )
( إن المكارم صورة معلومة ... أنتم لها الأسماع والأبصار )
( تبدو شموس الدجن من أطواقكم ... وتفيض من بين البنان بحار )
( ذلت لكم نسم الخلائق مثل ما ذلت لشعري فيكم الأشعار )
( فمتى مدحت ولا مدحت سواكم ... فمديحكم في مدحه إضمار )
وقال القاضي أبو جعفر بن برطال

( استودع الرحمن من لوداعهم قلبي وروحي آذنا بوداع بانوا وطرفي والفؤاد ومقولي باك ومسلوب العزاء وداع )
( فتول يا مولاي حفظهم ولا ... تجعل تفرقنا فراق وداع )
وقال ابن خفاجة
( وما هاجني إلا تألق بارق ... لبست به برد الدجنة معلما ) وهي طويلة
وقال من أخرى
( جمعت ذوائبه ونور جبينه ... بين الدجنة والصباح المشرق )
وقال ذو الوزارتين أبو الوليد ابن الحضرمي البطليوسي في غلام للمتوكل ابن الأفطس يرثيه
( غالته أيدي المنايا ... وكن في مقلتيه )
( وكان يسقي الندامى ... بطرفه ويديه )
( غصن ذوى وهلال ... جار الكسوف عليه )
وقال الفقيه العالم أبو أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي عالمها في المذهب المالكي وقد تحاكم إليه وسيمان أشقر وأكحل فيمن يفضل بينهما
( وشادنين ألما بي على مقة ... تنازعا الحسن في غايات مستبق )

( كأن لمة ذا من نرجس خلقت ... على بهار وذا مسك على ورق )
( وحكما الصب في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق )
( فقام يبدي هلال الدجن حجته ... مبينا بلسان منه منطلق )
( فقال وجهي بدر يستضاء به ... ولون شعري مقطوع من الغسق )
( وكحل عيني سحر للنهى وكذاك ... الحسن أحسن ما يعزى إلى الحدق )
( وقال صاحبه أحسنت وصفك لكن ... فاستمع لمقال في متفق )
( أنا على أفقي شمس النهار ولم ... تغرب وشقرة الشفق )
( وفضل ما عيب في العينين من زرق ... أن الأسنة قد تعزى إلى الزرق )
( قضيت للمة الشقراء حيث حكت ... نورا كذا يقضي على رمقي )
( فقام ذو اللمة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدة الحنق )
( وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهد من دمعي الغدق )
( وقلت عفوك إذ أصبحت متهمنا ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق ) وكان فيه ظرف وأدب وعنوان طبقته هذه الأبيات
وقال
( وغاب من الأكواس فيها ضراغم ... من الراح ألباب الرجال فريسها )
( قرعت بها سن الحلوم فأقطعت ... وقد كاد يسطو بالفؤاد رسيسها ) وله رحمه الله تعالى شرح البخاري وأكثر ابن حجر من النقل عنه في فتح الباري وله كتاب الأحكام وغير ذلك وترجمته شهيرة
وقال الأديب النحوي المؤرخ أبو إسحاق إبراهيم بن قاسم الأعلم البطليوسي صاحب التواليف التي بلغت نحو خمسين

( يا حمص لا زلت دارا ... لكل بؤس وساحه )
( ما فيك موضع راحه ... إلا وما فيه راحه ) وهو شيخ أبي الحسن بن سعيد صاحب المغرب وأنشده هذين البيتين لما ضجر من الإقامة بإشبيلية أيام فتنة الباجي
وقال الأديب الطبيب أبو الأصبغ عبد العزيز البطليوسي الملقب بالقلندر ( جرت مني الخمر مجرى دمي ... فجل حياتي من سكرها )
( ومهما دجت ظلم للهموم ... فتمزيقها بسنا بدرها )
وخرج يوما وهو سكران فلقي قاضيا في نهاية من قبح الصورة فقال سكران خذوه فلما أخذه الشرط قال للقاضي بفضل من ولاك على المسلمين بهذا الوجه القبيح عليك إلا ما أفضلت علي وتركتني فقال القاضي والله لقد ذكرتني بفضل عظيم ودرأ عنه الحد
وقال ابن جاخ الصباغ البطليوسي وهو من أعاجيب الدنيا لا يقرأ ولا يكتب
( ولما وقفنا غداة النوى وقد أسقط البين ما في يدي
( رأيت الهوادج فيها البدور ... عليها البراقع من عسجد )
( وتحت البراقع مقلوبها ... تدب على ورد خد ندي )
( تسالم من وطئت خده ... وتلدغ قلب الشجي المكمد )

وقال في المتوكل وقد سقط عن فرس
( لا عتب للطرف إن زلت قوائمه ... ولا يدنسه من عائب دنس )
( حملت جودا وبأسا فوقه ونهى ... وكيف حمل هذا كله الفرس )
وقال الشاعر المشهور بالكميت البطليوسي
( لا تلوموني فإني عالم ... بالذي تأتيه نفسي وتدع )
( بالحميا والمحيا صبوتي ... وسوى حبهما عندي بدع )
( فضل الجمعة يوما وأنا ... كل أيامي بأفراحي جمع ) وقال أبو عبد الله محمد بن البين البطليوسي وهو ممن يميل إلى طريقة ابن هانئ
( غصبوا الصباح فقسموه خدودا ... واستنهبوا قضب الأراك قدودا )
( ورأوا حصى الياقوت دون محلهم ... فاستبدلوا منه النجوم عقودا )
( واستودعوا حدق المها أجفانهم فسبوا بهن ضراغما وأسودا )
( لم يكفهم حمل الأسنة والظبى ... حتى استعاروا أعينا وقدودا )
( وتضافروا بضفائر أبدوا لنا ... ضوء النهار بليلها معقودا )
( صاغوا الثغور من الأقاحي بينها ... ماء الحياة لو اغتدى مورودا )
وكان عند المتوكل مضحك يقال له الخطارة فشرب ليلة مع المتوكل وكان في السقاة وسيم فوضع عينه عليه فلما كان وقت السحر دب إليه وكان بالقرب من المتوكل فأحس به فقال له ما هذا يا خطارة

فقال له يا مولاي هذا وقت تفرغ الخطارة الماء في الرياض فقال له لا تعد لئلا يكون ماء أحمر فرجع إلى نومه ولم يعد في ذلك كلمة بقية عمره معه ولا أنكر منه شيئا ولم يحدث بها الخطارة حتى قتل المتوكل رحمه الله
والخطارة صنف من الدواليب الخفاف يستقي به أهل الأندلس من الأودية وهو كثير على وادي إشبيلية وأكثر ما يباكرون العمل في السحر
وقال الوزير أبو زيد عبد الرحمن بن مولود
( أرني يوما من الدهر ... على وفق الأماني )
( ثم دعني بعد هذا ... كيفما شئت تراني
وقال أديب الأندلس وحافظها أبو محمد عبد المجيد بن عبدون الفهري اليابري وهو من رجال الذخيرة والقلائد وشهرته مغنية عن الزيادة يخاطب المتوكل وقد أنزله في دار وكفت عليه
( أيا ساميا من جانبيه كليهما ... سمو حباب الماء حالا على حال )
( لعبدك دار حل فيها كأنها ... ( ديار لسلمى عافيات بذي خال )
( يقول لها لما رأى من دثورها ... ألا عم صباحا أيها الطلل البالي )
( فقالت وما عيت جوابا بردها ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي )
( فمر صاحب الإنزال فيها بعاجل ... فإن الفتى يهذي وليس بفعال )
وقال في جمع حروف الزيادة حسبما ذكره عنه في المغرب [ الطويل ] سألت الحروف الزائدات عن اسمها فقالت ولم تكذب أمان وتسهيل

ظوابط حروف الزيادة
قلت وعلى ذكر حروف الزيادة فقد أكثر الناس في انتفاء الكلمات الضابطة لها وقد كنت جمعت فيها نحو مائة ضابط ولنذكر الآن بعضها فنقول منها ( ( أهوى تلمسانا ) ) ونظمتها فقلت
( قالت حروف زيادات لسائلها ... هل هويت بلدة أهوى تلمسانا )
وجمعها ابن مالك في بيت واحد بأربعة أمثلة من غير حشو وهو
( هناء وتسليم تلا يوم أنسه ... نهاية مسؤل أمان وتسهيل )
ومنها ( ( هويت السمان ) )
وحكي أن أبا عثمان المازني سئل عنه فأنشد
( هويت السمان فشيبنني ... وقد كنت قدما هويت السمانا )
فقيل له أجبنا فقال أجبتكم مرتين ويروى أنه قال سألتمونيها فأعطيتكم ثلاثة أجوبة هكذا حكاه بعض المحققين وهو أرق مما حكاه غير واحد على غير هذا الوجه ومنها ( ( سألتمونيها ) ) ومنها اليوم تنساه الموت ينساه أسلمني وتاه هم يتساءلون التناهي سمو تنمي وسائله أسلمي تهاون تهاوني أسلم التمس هواني ما سألت يهون مؤنس التياه لم يأتنا سهو يا أويس هل نمت نويت سؤالهم نويت مسائله سألتم هواني تأملها يونس أتاني وسهيل هوني مسألتها سألت ما يهون وسليمان أتاه تسأل من يهوى استملاني هو أسلمت وهناي هو استمالني سايل وأنت هم يا هول استنم أتاه وسليمان
قلت وليس هذا تكرارا مع السابق الذي هو ( ( وسليمان أتاه ) ) لأن التقديم والتأخير يصيرهما شيئين
ومنها الوسمي هتان أوليتم سناه واليتم أنسه أمسيت وناله أنله

توسيما أملتني سهوا أتوسل يمنها سألتهن يوما سألت يومنها سألت ما يوهن نهوي ما سألت يهون ما سألت وقد سبق ( ( سألت ما يهون ) ) وعدهما شيئين من أجل التقديم والتأخير كما مر نظيره ألا تنس يومه ليتأس ماؤه سله موتي أنا أنسته اليوم سألتم هوينا آوي من تسأله وهين ما سألت وهني ما سألت مسألتي نواه
ومنها مسألتي هاون سهوان يتألم أيلتم سهوان أو يلتم ناسه مسألتي أهون أو ميت تنساه سموتن إليها أمليت سهوان وسألتم هينا يهون ما تسأل أتلومن سهيا أسلم وانتهى يتأمل سهوان يتأمل ناسوه يتأملن سواه ايتأمل ونسوه الهوى أتنسم وليت ماه آسن تولين أسهما أتلوا سهمين أول ساهمتني أسماؤه تنيل يتأملنه سوا أو لم يتسناه آمن ويتساهل أمسيتن لهوا توسيمه لناء هو ما تسألين لأيها نتوسم أيهما نتوسل أتاني لسموه سميتهن أولا أولاهن سميت سلمتني أهوا أسلمتني هوا أو نستميلها أيستمهلونا هنأت الموسى سليم انتهوا وأنت سائلهم ساءلته ينمو تهنأ لا يسمو اسألي مؤنته سألتي موهنا التمسي هونا استملي أهون التناه موسى الهواء يتسنم نهوى ما تسأل ماؤه ليتأسن تنسمي الهواء تلومي إن سها ألمتني سهوا ستولينا أمه يتمهلون أسا أمهلتني سوا التناسي وهم أهويت سلمان هويت المأنس المأنس تهوي هويت أم ناسل أو ليس تم هنا استوهن أملي استهون ألمي استلمنا وهيأ أتسلمونيها أيتسلمونها ألا يتسمونه أليس توهمنا ألا يتسنموه فهذه مائة وأربعة وثلاثون تركيبا منها ما هو متين ومنها ما هو غير متين وقد جمع ابن خروف فيها اثنين وعشرين تركيبا محكيا وغير محكي وأحسنها بيت ابن عبدون السابق ويليه بيت ابن مالك وقال الطغمي جامعا لها أربع مرات

( آلمتني سهوا تلومي إن سها ... أو ليس تم هنا الهوا يتسنم )
هكذا بخطه يتسنم ولو قال يتنسم لكان أنسب وقال أيضا
( وليت ما سناه والتمسي هنا ... ما تسألين هو الهنا يتوسم )
قلت وقد جمعت في المغرب زيادة على ما تقدم وكنت قدرت رسالة فيها أسميها ( ( إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة
وقال أبو محمد عبد الله بن الليث يستدعي الوزير أبا الحسن اليابري في يوم غيم
( رقم الربيع بروضنا أزهاره ... فجرى على صفحاته أنهاره )
( فعسى تشرفنا ببهجة سيد ... ألقى على ليل الخطوب نهاره )
( تتمتع الآداب من نفحاته ... فيشم منها ورده وبهاره )
( يا سيدا بهر البرية سؤددا ... أبدى إلينا سره وجهاره )
( يوم أظل الغيم وجه ضيائه ... فعليك يا شمس العلا إظهاره )
وقال أبو القاسم بن الأبرش
( أدر كاس المدام فقد تغنى ... بفرع الأيك طائره الصدوح )
( وهب على الرياض نسيم صبح ... يمر كما دنا سار طليح )
( ومال النهر يشكو من حصاه ... جراحات كما أن الجريح )
وقال
( حلفت ويشهد دمعي بما ... أقاسيه من هجرك الزائد )

( فإن كنت تجحد ما أدعي ... وحاشاك تعرف بالجاحد )
( فإن النبي عليه السلام ... قضى باليمين مع الشاهد )
وقال أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني صاحب الذخيرة وشهرته تغني عن ذكره ونظمه دون نثره يخاطب أبا بكر ابن عبد العزيز
( أبا بكر المجتبى للأدب ... رفيع العماد قريع الحسب )
( أيلحن فيك الزمان الخؤون ... ويعرب عنك لسان العرب )
( وإن لم يكن أفقنا واحدا ... فينظمنا شمل هذا الأدب )
وقد ذكرنا له في غير هذا المحل قوله
( ألا بادر فلا ثان سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام ) الأبيات وتأخرت وفاته إلى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة وهو منسوب إلى ( ( شنترين ) ) من الكور الغربية البحرية من أعمال بطليوس
وقال أبو عمر يوسف بن كوثر
( مررت به يوما يغازل مثله ... وهذا على ذا بالملاحة يمتن )
( فقلت اجمعا في الوصل رأيكما فما ... لمثلكما كان التغزل والمجن )
( عسى الصب يقضي الله بينكما له ... بخير فقالا لي اشتهى العسل السمن )
وقال أبو محمد بن سارة
( أعندك أن البدر بات ضجيعي ... فقضيت أوطاري بغير شفيع

( جعلت ابنة العنقود بيني وبينه ... فكانت لنا أما وكان رضيعي ) وقال
( أيا من حارت الأوهام فيه ... فلم تعلم له الأقدار كنها )
( بجيد النبل منا عقد أنس ... أقام بغير واسطة فكنها )
وقال أبو الحسن بن منذر الأشبوني
( فديتك إني عن جنابك راحل ... فهل لي يوما من لقائك زاد )
( وحسبك والأيام خون غوادر ... فراق كما شاء العدا وبعاد )
( من شعر خلف القطيني 246 من شعر خلف القطيني وقال خلف بن هارون القطيني
( من أنبت الورد في خديك يا قمر ... ومن حمى قطفه إذ ليس مصطبر )
( الزهر في الروض مقرون بأزمنة ... وروض خدك موصول به الزهر )
وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس حسون وعزون ورحمون فأولع بهن الإمام أبو محمد بن السيد النحوي وقال فيهم
( أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني ... وهمت في حب عزون فعزوني )
( ثم ارحمزني برحمون فإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسون فحسوني )
ثم خاف على نفسه فخرج من قرطبة هكذا رأيته بخط بعض المؤرخين والله أعلم

وقال ابن خفاجة يداعب من بقل عذاره
( التائه مهلا ... ساءني أن تهت جهلا )
( هل ترى ... فيما ترى ... إلا شبابا قد تولى )
( وغراما قد تسرى ... وفؤادا قد تسلى )
( أين دمع فيك يجري ... أين جنب يتقلى )
( أين نفس بك تهذي ... وضلوع فيك تصلى )
( أي باك كان لولا ... عارض وافى فولى )
( وتخلى عنك إلا ... أسفا لا يتخلى )
( وانطوى الحسن فهلا ... أجمل الحسن وهلا ) أما بعد أيها النبيل النبيه فإنه لا يجتمع العذار والتيه قد كان ذلك وغصن تلك الشبيبة رطب ومنهل ذلك المقبل عذب وأما والعذار قد بقل والزمان قد انتقل والصب قد صحا فعقل فقد ركدت رياح الأشواق ورقدت عيون العشاق فدع عنك من نظرة التجني ومشية التثني وغض من عنانك وخذ في تراضي إخوانك وهش عند اللقاء هشة أريحية واقنع بالإيماء رجع تحية فكأني بفنائك مهجورا وبزائرك مأجورا والسلام وقال الرصافي لما بعث إليه من يهواه سكينا
( تفاءلت بالسكين لما بعثته ... لقد صدقت مني العيافة والزجر ) فكان من السكين سكناك في الحشا وكان من القطع القطيعة والهجر )

وحضر الفقيه أبو بكر بن حبيش ليلة مع بعض الجلة وطفئ السراج فقال ارتجالا
( أذك السراج يرينا غرة سفرت ... فباتت الشمس تستحيي وتستتر )
( أو خله فكفانا وجه سيدنا ... لا يطلب النجم من في بيته قمر ) وقصد أحد الأدباء بمرسية أحد السادات من بني عبد المؤمن فأمر له بصلة خرجت على يد ابن له صغير فقال المذكور ارتجالا
( تبرك بنجل جاء باليمن والسعد ... يبشر بالتأييد طائفة المهدي )
( تكلم روح الله في المهد قبله ... وهذا براء بدل اللام في المهد )
وخرج الأستاذ أبو الحسن ابن جابر الدباج يوما مع طلبته للنزهة بخارج إشبيلية وأحضرت مجبنات ما خبا نارها ولا هدأ أوارها فما حاد عنها ولا كف ولا صرف حرها عن اختضابها البنان ولا الكف فقال
( أحلى مواقعها إذا قربتها ... وبخارها فوق الموائد سام )
( إن أحرقت لمسا فإن أوارها في داخل الأحشاء برد سلام
وقال أبو بكر أحمد بن محمد الأبيض الإشبيلي يتهكم برجل زعم أنه ينال الخلافة
( أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من نصائحه اللطيفه )

( تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه )
( أفكر فيك مطويا فأبكي ... وتضحكني أمانيك السخيفه )
وقال صفوان
( ونهار أنس لو سألنا دهرنا ... في أن يعود بمثله لم يقدر )
( خرق الزمان لنا به عاداته ... فلو اقترحنا النجم لم يتعذر )
( في فتية علمت ذكاء بحسنهم ... فتلفعت من غيمها في مئزر )
( والسرحة الغناء قد قبضت بها ... كف النسيم على لواء أخضر )
( وكأن شكل الغيم منخل فضة ... يلقي على الآفاق رطب الجوهر )
واجتاز بعض الغلمان على أبي بكر بن يوسف فسلم عليه بإصبعه فقال أبو بكر في ذلك وأشار في البيت الثالث إلى أن والد الغلام كان خطيب البلد
( مر الغزال بنا مروعا نافرا ... كشبيهه في القفر ريع بصائده )
( لثم السلامى في السلام تسترا ... ثم انثنى حذر الرقيب لراصده )
( هلا تكلف وقفة لمحبه ... ولو أنها قصرا كجلسة والده )
وقال أبو
( القبتوري واحسرتا لأمور ليس يبلغها ... مالي وهن منى نفسي وآمالي )
( أصبحت كالآل لا جدوى لدي وما ... آليت جدا ولكن جدي الآلي )
وقال أبو الحسن بن الحاج

( كفى حزنا أن المشارع جمة ... وعندي إليها غلة وأوام )
( ومن نكد الأيام أن يعدم الغنى ... كريم وأن المكثرين لئام )
وقال أحمد بن أمية البلنسي
( قال رئيسي حين فاوضته ... وما درى أن مقامي عسير )
( أقم فقلت الحال لا تقتضي ... فقال سر قلت جناحي كسير )
وقال ابن برطلة
( لله ما ألقاه من همة ... لا ترتضي إلا السها منزلا )
( ومن خمول كلما رمت ... أن أسمو به بين الورى قال لا ) من شعر ابن خروف 249 من شعر ابن وكتب ابن خروف لبعض الرؤساء
( يا من حوى كل مجد ... بجده وبجده )
( أتاك نجل خروف ... فامنن عليه بجده )
وكتب أيضا لبعضهم يستدعي فروة
( بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب )
( طلبت مخافة الأنواء ... من جدواك جلد أبي )
( وفضلك عالم أني ... خروف بارع الأدب )
( حلبت الدهر أشطره ... وفي حلب صفا حلبي )
وبعد كتبي لما ذكر خشيت أن يكون لابن خروف المشرقي لا الأندلسي والله تعالى أعلم

وركب محبوب أبي بكر ابن مالك كاتب ابن سعد بغلة رديف رجل يعرف بالدب فقال أبو بكر في ذلك
( وبغلة ما لها مثال ... يركبها الدب والغزال )
( كأن هذا وذا عليها ... سحابة خلفها هلال )
وخرج محبوب لأبي الحسن بن حريق يوما لنزهة وعرض سيل عاقه عن دخول البلد فبات ليلة عند أبي الحسن فقال في ذلك
( يا ليلة جادت الأماني ... بها على رغم أنف دهري )
( تسيل فيها علي نعمى ... يقصر عنها لسان شكري )
( ابات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر )
( وبت لا حالة كحالي ... صريع سكر ضجيع بدر )
( يا ليلة القدر في الليالي ... لأنت خير من الف شهر )
وقال أبو الحسن بن الزقاق
( عذيري من هضيم الكشح أحوى ... رخيم الدل قد لبس الشبابا )
( أعد الهجر هاجرة لقلبي ... وصير وعده فيها سرابا )
وقال ابو بكر بن الجزار السرقسطي
( ثناء الفتى يبقى ويفنى ثراؤه ... فلا تكتسب بالمال شيئا سوى الذكر )
( فقد أبلت الأيام كعبا وحاتما ... وذكرهما غض جديد إلى الحشر )

وقال الأديب أبو عبد الله الجذامي كان لشخص من أصحابنا قينة فبينما هو ذات يوم قد رام تقبيلها على أثر سواك أبصره بمبسمها إذ مر فوال ينادي على فول يبيعه قال فكلفني أن أقول في ذلك شيئا فقلت
( ولم أنس يوم الأنس حين سمحت لي ... وأهديت لي من فيك فول سواك )
( ومر بنا الفوال للفول مادحا ... وماقصده في المدح فول سواك )
وشرب يوما أبو عبد الله المذكور عند بعض الأجلة وذرعة القيء فارتجل في العذر
( لا تؤاخذ من أخل به ... قهوة في الكاس كالقبس )
( كيف يلحى في المدام فتى ... أخذته أخذ مفترس )
( دخلت في الحلق مكرهة ... ضاق عنها موضع النفس )
( خرجت من موضع دخلت ... أنفت من مخرج النجس )
وجلس سلمة بن أحمد إلى جنب وسيم يكتب من محبرة فانصب الحبر منها على ثوب سلمة فخجل الغلام فقال سلمة
( صب المداد وما تعمد صبه ... فتورد الخد المليح الأزهر )
( يا من يؤثر حبره في ثوبنا ... تأثير لحظك في فؤادي أكبر )
وكان لأبي الحسن بن حزمون بمرسية محبوب يدعى أبا عامر وسافر أبو الحسن فبينما هو بخارج ألمرية إذ لقي فتى يشبه محبوبه وسأله عن اسمه فأخبره بأنه يدعى أبا عامر فقال أبو الحسن في ذلك
( إلى كم أفر أمام الهوى ... وليس لذا الحب من آخر

وكيف أفر أمام الهوى ... وفي كل واد أبو عامر )
وحضر أبو بكر ابن مالك كاتب ابن سعد مع محبوبه لارتقاب هلال شوال فأغمي على الناس ورآه محبوبه فقال أبو بكر في ذلك
( توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... ولاح لمن أهواه منه وحياه )
( فقلت لهم لم تفهموا كنه سره ... ولكن خذوا عني حقيقة معناه )
( بدا الأفق كالمرآة راق صفاؤه ... فأبصر دون الناس فيه محياه )
وكتب أبو بكر بن حبيش لمن يهواه بقوله
( متى ما ترم شرحا لحالي وتبيينا ... فصحف على قلبي علومك تحيينا ) أراد ( ( إني بحبك مولع ) )
وكتب القاضي ابن السليم إ لى الحكم المستنصر بالله
( لو أن أعضاء جسمي ألسن نطقت ... بشكر نعماك عندي قل شكري لك )
( أو كان ملكني الرحمن من أجلي ... شيئا وصلت به يا سيدي أجلك )
( ومن تكن في الورى آماله كثرت ... فإنما أملي في أن ارى أملك )
وقال الوزير ابن أبي الخصال
( وكيف أؤدي شكر من إن شكرته ... على بر يوم زادني مثله غدا )
( فإن رمت أقضي اليوم بعض الذي مضى ... رأيت له فضلا علي مجددا )

وقال الرصافي
( قلدت جيد الفكر من تلك الحلى ... ما شاءه المنثور والمنظوم )
( وأشرت قدامي كأني لاثم ... وكأن كفي ذلك الملثوم ) وقال
( ويا لك نعمة رمنا مداها ... فما وصل اللسان ولا الضمير )
( عجزنا أن نقوم لها بشكر ... على أن الشكور لها كثير )
وقال ابن باجة
( قوم إذا انتقبوا رأيت أهلة ... وإذا هم سفروا رأيت بدورا )
( لا يسألون عن النوال عفاتهم ... شكرا ولا يحمون منه نقيرا )
( لو أنهم مسحوا على جدب الربى ... بأكفهم نبت الأقاح نضيرا )
وقال ابن الأبار يمدح أبا زكريا سلطان إفريقية
( تحلت بعلياك الليالي العواطل ... ودانت لسقياك السحاب الهواطل )
( وما زينة الأيام إلا مناقب ... يفرعها اصلان بأس ونائل )
( إذ الطول والصول استقلا براحة ... ترقت لها نحو النجوم أنامل )
وقال أيضا في سعيد بن حكم رئيس منرقة
( سيد أيد رئيس بئيس ... في أساريره صفات الصباح )
( قمر في أفق المعالي تجلى ... وتحلى بالسؤدد الوضاح )
( سلم البحر في السماحة منه ... لجواد سموه بحر السماح

وقال ابو العباس احمد الاشبيلي
( يا أفضل الناس إجماعا ومعرفتي ... تغني وما الحسن في ريب ولا ريب )
( ورثت عن سلف ما شئت من شرف ... فقد بهرت بموروث ومكتسب )
وقال ابن زهر الحفيد
( يا من يذكرني بعهد أحبتي ... طاب الحديث بذكرهم ويطيب )
( أعد الحديث علي من جنباته ... إن الحديث عن الحبيب حبيب )
( ملأ الضلوع وفاض عن أحنائها ... قلب إذا ذكر الحبيب يذوب )
( ما زال يضرب خافقا بجناحه ... يا ليت شعري هل تطير قلوب ) وقال في زهر الكتاب
( أهلا بزهر اللازورد ومرحبا ... في روضة الكتان تعطفه الصبا )
( لو كنت ذا جهل لخلتك لجة ... وكشفت عن ساق كما فعلت سبا ) ولما قال الموشحة المشهورة التي أولها
( صادني ولم يدر ما صادا ... )
قال أبو بكر بن الجد لو سئل عما صاد لقال تيس بلحية حمراء
ولما قال الموشحة التي أولها
( هات ابنة العنب واشرب ... ) إلى قوله
( وفده بأبي ثم بي ... )
سمعها أبوه فقال يفديه بالعجوز السوء أمه وأما أنا فلا

وهنالك أبو بكر بن زهر الأصغر وهو ابن عم هذا الأكبر ومن نظم الأصغر
( والله ما أدري بما أتوسل ... إذ ليس لي ذات بها أتوصل )
( لكن جعلت مودتي مع خدمتي لعلاك أحظى شافع يتقبل )
( إن كنت من أدوات زهر عاطلا ... فالزهر منهن السماك الأعزل )
وهذه الأبيات خاطب بها المأمون بن المنصور صاحب المغرب
وقال الأديب أبو جعفر عمر ابن صاحب الصلاة
( وما زالت الدنيا طريقا لهالك ... تباين في أحوالها وتخالف )
( ففي جانب منها تقوم مآتم ... وفي جانب منها تقوم معازف )
( فمن كان فيها قاطنا فهو ظاعن ... ومن كان فيها آمنا فهو خائف )
وقال أبو بكر محمد ابن صاحب الصلاة يخاطب أخيل لما انتقل إلى العدوة
( لا تنكرن زمانا رماك منه بسهم ... وأنت غاية مجد ) في كل علم وفهم )
( هذي دموعي حتى ... يراك طرفي تهمي )
( يا ليت ما كنت أخشى ... عليك عدوان هم )
( وإنما الدهر يبدي ... ما لا يجوز بوهم )
( ما زال شيهم مس لكل يقظان شهم )
ولما وفد أهل الأندلس على عبد المؤمن قام خطيبا ناثرا وناظما فأتى

بالعجب وباهى به أهل الأندلس في ذلك الوقت
وله في عبد المؤمن
( هم الألى وهبوا للحرب أنفسهم ... وأنهبوا ما حوت أيديهم الصفدا )
( ما إن يغبون كحل الشمس من رهج ... كأنما عينها تشكو لهم رمدا )
وقال ابن السيد البطليوسي في أبي الحكم عمرو بن مذحج بن حزم وقد غلب على لبه وأخذ بمجامع قلبه
( رأى صاحبي عمرا فكلف وصفه ... وحملني من ذاك ما ليس في الطوق )
( فقلت له عمرو كعمرو فقال لي ... صدقت ولكن ذاك شب عن الطوق )
وفيه يقول ابن عبدون
( يا عمرو رد على الصدور قلوبها ... من غير تقطيع ولا تحريق )
( وأدر علينا من خلالك أكؤسا ... لم تأل تسكرنا بغير رحيق ) وفيه يقول أحدهما
( قل لعمرو بن مذحج ... جاء ما كنت أرتجي )
( شارب من زبرجد ... ولمى من بنفسج )
وكتب إليه ابن عبدون
( سلام كما هبت من المزن نفحة ... تنفس عند الفجر في وجهها الزهر )

ومنها
( أبا حسن أبلغ سلام فمي يدي ... أبي حسن وارفق فكلتاهما بحر )
( ولا تنس يمناك التي هي والندى ... رضيعا لبان لا اللجين ولا التبر )
فأجابه من أبيات
( تحير ذهني في مجاري صفاته ... فلم أدر شعر ما به فهت أم سحر )
( أرى الدهر أعطاك التقدم في العلى ... وإن كان قد وافى أخيرا بك الدهر ... لئن حازت الدنيا بك الفضل آخرا ... ففي أخريات الليل ينبلج الفجر )
ولعمرو في أبي العلاء بن زهر
( قدمت علينا والزمان جديد ... وما زلت تبدي في الندى وتعيد )
( وحق العلا لولا مراتبك العلا ... لما اخضر في أفق المكارم عود )
( فلوحوا بني زهر فإن وجوهكم ... نجوم بأفلاك العلاء سعود )
وقوله لأبي الوليد ابن عمه
( إني لأعجب أن يدنو بنا وطن ... ولا يقضى من اللقيا لنا وطر )
( لا غرو إن بعدت دار مصاقبة ... بنا وجد بنا للحضرة السفر )
( فمحجر العين لا يلقاه ناظرها ... وقد توسع في الدنيا به النظر )
وقال ابن عمه أبو بكر محمد بن مذحج يخاطب ابن عمه أبا الوليد

( ولما رأى حمص استخفت بقدره ... على أنها كانت به ليلة القدر )
( تحمل عنها والبلاد عريضة ... كما سل من غمد الدجى صارم الفجر )
وقال أبو الوليد المذكور
( أتجزع من دمعي وأنت أسلته ... ومن نار أحشائي وأنت لهيبها )
( وتزعم أن النفس غيرك علقت ... وأنت ولا من عليك حبيبها )
( إذا طلعت شمس علي بسلوة ... أثار الهوى بين الضلوع غروبها )
وله أيضا
( لما استمالك معشر لم أرضهم ... والقول فيك كما علمت كثير )
( داريت دونك مهجتي فتماسكت ... من بعد ما كادت إليك تطير )
( فاذهب فغير جوانحي لك منزل ... واسمع فغير وفائك المشكور ) وقال
( يقول وقد لمته في هوى ... فلان وعرضت شيئأ قليلا )
( أتحسدني قلت لا والذي ... أحلك في الحب مرعى وبيلا )
( وكيف وقد حل ذاك الجناب ... وقد سلك الناس ذاك السبيلا ) وله مما يكتب على قوس
( إنا إذا رفعت سماء عجاجة ... والحرب تقعد بالردى وتقوم )
( وتمرد الأبطال في جنباتها ... والموت من فوق النفوس يحوم )

( مرقت لهم منا الحتوف كأنما ... نحن الأهلة والسهام نجوم )
وقال أبو الحسين بن فندلة في كلب صيد
( فجعت بمن لو رمت تعبير وصفه ... لقل ولوأني غرفت من البحر )
( بأخطل وثاب طموح مؤدب ... )
( ثبوت يصيد النسرلو حل في النسر )
( كلون الشباب الغض في وجهه سنا ... كأن ظلاما ليس فيه سوى البدر )
( إذا سار والبازي أقول تعجبا ... ألا ليت شعري يسبق الطير من يجري )
ولا يلتفت إلى قول أبي العباس بن سيد فيه
( الموت لا يبقي على مهجة ... لا أسدا يبقي ولا نعثله )
( ولا شريفا لبني هاشم ... ولا وضيعا لبني فندله )
وكان ابن سيد مسلطا على هذا البيت قال ابن سعيد وإنما ينبح الكلب القمر
قال أبو العباس النجار كان أبو الحسين يلقب بالوزعة فوصلت إلى بابه يوما فتحجب عني فكتبت على الباب
( تحجب الفندلي عني ... فساء من فعله ضميري )
( ينفر من رؤيتي كأني ... مضمخ الجيب بالعبير )
قال ومن عادة الوزعة أن تكره رائحة الزعفران وتهرب منه

وقال أبو القاسم بن حسان
( ألا ليتني ما كنت يوما معظما ... ولا عرفوا شخصي ولا علموا قصري )
( أكلف في حال المشيب بمثل ما ... تحملته والغصن في ورق نضر )
( فما عاش في الأيام في حر عيشة ... سوى رجل ناء عن النهي والأمر )
وقال أبو بكر بن مرتين
( صحبت منك العلا والفضل والكرما ... وشيمة في الندى لا ترتضي السأما )
( مودة في ثرى الإنصاف راسخة ... وسمكها فوق أعناق السماء سما )
وقال
( أنصفتني فمحضك الود الذي ... يجزى بصفوته الخليل المنصف )
( لاتشكرن سوى خلالك إنها ... جلبت إليك من الثنا ما يعرف )
وقال
( يا هلالا يتجلى ... وقضيبا يتثنى )
( كل أنس لم تكنه ... فهو لفظ دون معنى )
وقال القاضي أبو عبدالله محمد بن زرقون
( ذكر العهد والديار غريب ... فجرى دمعه ولج النحيب )
( ذكر العهد والنوى من حبيب ... حبذا العهد والنوى والحبيب )
( إذ صفاء الوداد غيرمشوب ... بتجن وودنا مشبوب )

( وإذا الدهر دهرنا وإذا الدار ... قريب وإذ يقول الرقيب )
ومنها
( أسأل الله عفوه فلئن ساء ... مقالي لقد تعف القلوب )
( قد ينال الفتى الصغائر ظرفا ... لاسواها وللذنوب ذنوب )
( وأخو الشعر جناخ عليه ... وسواء صدوقه والكذوب )
334 - وقال الخطيب أبو عبد الله محمد بن عمر الإشبيلي
( وكل إلى طبعه عائد ... وإن صده المنع عن قصده )
( كذا الماء من بعد إسخانه ... يعود سريعا إلى برده )
وقال
( يا معدن الفضل وطود الحجى ... لا زلت من بحر العلا تغترف )
( عبدك بالباب فقل منعما ... يدخل أو ينصرف )
وقال إمام اللغة أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الإشبيلي
( ما طلبت العلوم إلا لأني ... لم أزل من فنونها في رياض )
( ما سواها له بقلبي حظ ... غير ما كان للعيون المراض )
وقال
( أشعرن قلبك ياسا ... ليس هذا الناس ناسا )
( ذهب الإبريز منهم ... فبقوا بعد نحاسا )

( سامريين يقولون ... جميعا لا مساسا )
وكان كتاب العين للخليل مختل القواعد فامتعض له هذا الإمام وصقل صدأه كما يصقل الحسام وأبرزه في أجمل منزع حتى قيل هذا مما أبدع واخترع وله كتاب في النحو يسمى الواضح وصيره الحكم المستنصر مؤدبا لولده هشام المؤيد وبالجملة فهو في المغرب بمنزلة ابن دريد في المشرق
وقال النحوي أبو بكر محمد بن طلحة الإشبيلي وشعره رقيق خارج عن شعر النحاة ومنه
( إلى أي يوم بعده يرفع الخمر ... وللورق تغريد وقد خفق النهر )
( وقد صقلت كف الغزالة أفقها ... وفوق متون الروض أردية خضر )
( وكم قد بكت عين السماء بدمعها ... عليها ولولا ذاك ما بسم الزهر )
وقال
( بدا الهلال فلما ... بدا نقصت وتما )
( كأن جسمي فعل ... وسحر عينيه لما ) وكان لا يملك نفسه في النظر إلى الصور الحسان وأتاه يوما أحد أصحابه بولد له فتان الصورة فعندما دخل مجلسه قصر عليه طرفه ولم يلتفت إلى والده وجعل والده يوصيه عليه وهو لا يعلم ما يقوله وقد افتضح في طاعة هواه فقال له الرجل يا أبا بكر حقق النظر فيه لعله مملوك ضاع لك وقد

جبره الله تعالى عليك ولكن على من يتركه عندك لعنة الله هذا ما عملت بمحضري والله إن غاب معك عن بصري لمحة لتفعلن به ما اشتهر عنك وأخذ ولده وانصرف به فانقلب المجلس ضحكا
وقال أبو جعفر أحمد بن الأبار الإشبيلي وهو من رجال ( ( الذخيرة ) )
( زارني خيفة الرقيب مريبا ... يتشكى منه القضيب الكثيبا )
( رشأ راش لي سهام المنايا ... من جفون يسبي بهن القلوبا )
( قال لي ما ترى الرقيب مطلا ... قلت دعه أتى الجناب الرحيبا )
( عاطه أكؤس المدام دراكا ... وأدرها عليه كوبا فكوبا )
( واسقنيها من خمر عينيك صرفا ... واجعل الكأس منك ثغرا شنيبا )
( ثم لما ان نام من نتقيه ... وتلقى الكرى سميعا مجيبا )
( قال لا بد أن تدب عليه ... قلت أبغي رشا وآخذ ذيبا )
( قال فابدأ بنا وثن عليه ... قلت عمري لقد أتيت قريبا )
( فوثبنا على الغزال ركوبا ... وسعينا على الرقيب دبيبا )
( فهل أبصرت أو سمعت بصب ... ناك محبوبه وناك الرقيبا )
وأنشد له ابن حزم
( أو ما رأيت الدهر أقبل معتبا ... متنصلا بالعذر مما أذنبا )
( بالأمس أذبل في رياضك أيكة ... واليوم أطلع في سمائك كوكبا )

وقيل إنه خاطب بهما ابن عباد ملك إشبيلية وقد ماتت له بنت وولد له ابن وبعضهم ينسبهما لغيره ودخل الأديب أبو القاسم بن العطار الإشبيلي حماما بإشبيلية فجلس إلى جانبه وسيم خمري العينين فافتتن بالنظر إليه والمحادثة إلى أن قام وقعد في مكانه أسود فقال
( مضت جنة المأوى وجاءت جهنم ... فها أنا أشقى بعد ما كنت أنعم )
( وما كان إلا الشمس حان غروبها ... فأعقبها جنح من الليل مظلم )
وقال الأديب المصنف أبو عمرو عثمان بن علي بن عثمان بن الإمام الإشبيلي صاحب سمط الجمان
( عذيري من الأيام لا در درها ... لقد حملتني فوق ما كنت أرهب )
( وقد كنت جلدا ما ينهنهني النوى ... ولا يستبيني الحادث المتغلب )
( يقاسي صروف الدهر مني مع الصبا ... جذيل حكاك أو عذيق مرجب )
( وكنت إذا ما الخطب مد جناحه ... علي تراني تحته أتقلب )
( فقد صرت خفاق الجناح يروعني ... غراب إذا أبصرته وهو ينعب )
( وأحسب من ألقى حبيبا مودعا ... وأن بلاد الله طرا محصب )
وقد امتعض للآداب في صدر دولة بني عبد المؤمن فجمع شمل الفضلاء الذين اشتملت عليهم المائة السابعة إلى مبلغ سنة منها في ذلك الأوان واستولى بذلك على خصل الرهان وانفرد بهذه الفضيلة التي لم ينفرد بها إلا فلان وفلان وكان الأديب العالم الصالح أبو الحسن علي بن جابر الدباج الإشبيلي إماما في فنون العربية ولكن شهر بإقراء كتب الآداب كالكامل للمبرد و نوادر

القالي وما أشبه ذلك وكان - مع زهده - فيه لوذعية ومن ظرفه أن أحد تلامذته قال لغلام جميل الصورة بالله أعطني قبلة تمسك رمقي فشكاه إلى الشيخ وقال له يا سيدي قال لي هذا كذا فقال له الشيخ وأعطيته ما طلب فقال له لا فقال له ما هذه الثقالة ما كفاك أن حرمته حتى تشتكي به أيضا وحسبك من جلالة قدره أن أهل إشبيلية رضوا به إماما في جامع العدبي وله
( لما تبدت وشمس الأفق بادية ... أبصرت شمسين من قرب ومن بعد )
( من عادة الشمس تعشي عين ناظرها ... وهذه نورها يشفي من الرمد )
وقال مالك بن وهيب
( أراميتي بالسحر من لحظاتها ... نعيذك كيف الرمي من دون أسهم )
( ألا فاعلمي أن قد أصبت فواصلي ... سهامك أو كفي فلست بمسلم )
( فإنسان عين الدهر أصميت فاحذري ... مطالبة بالقلب واليد والفم )
( أما هو في غيل غذا غابه القنا تحف به آساد كل ملثم )
( ولو أن لي ركنا شديدا بنجدة ... أويت له من بأس لحظك فارحمي )
وهو إشبيلي كان من أهل الفلسفة كما في المسهب قال وهو فيلسوف المغرب ظاهر الزهد والورع استدعاه من إشبيلية أمير المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين إلى حضرة مراكش وصيره جليسه وأنيسه وفيه يقول بعض أعدائه
( دولة لابن تاشفين علي ... طهرت بالكمال من كل عيب )
( غير أن الشيطان دس إليها ... من خباياه مالك بن وهيب )

وأمره علي بمناظرة محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أنشأ دولة بني عبد المؤمن

شعار لأبي الصلت
من شعر
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز المذكور في غير هذا الموضع من هذا الكتاب يستدعي بعض إخوانه
( بمعاليك وجدك ... جد بلقياك لعبدك )
( حضر الكل ولكن ... لم يطب شيء لفقدك )
وقال
( وراغب في العلوم مجتهد ... لكنه في القبول جلمود )
( فهو كذي عنة به شبق ... ومشتهي الأكل وهو ممعود )
وقال
( لئن عرضت نوى وعدت عواد ... أدالت من دنوك بالبعاد )
( فما بعدت عن اللقيا جسوم ... تدانت بالمحبة والوداد )
( ولكن قرب دارك كان أندى ... على كبدي وأحلى في فؤادي )
وله في مجمرة
( ومحرورة الأحشاء لم تدر ما الهوى ... ولم تدر ما يلقى المحب من الوجد )
( إذا ما بدا برق المدام رأيتها ... تثير غماما في الندي من الند )
( ولم أر نارا كلما شب جمرها ... رأيت الندامى منه في جنة الخلد ) وق

وله من قصيدة
( وإن هم نكصوا يوما فلا عجب ... قد يكهم السيف وهو الصارم الذكر )
( العود أحمد والأيام ضامنة ) عقبى النجاح ووعد الله منتظر ) وقال [ السريع ]
( تقريب ذي الأمر لأهل النهى أفضل ما ساس به أمره )
( هذا به أولى وما ضره ... تقريب أهل اللهو في الندره )
( عطارد في جل أوقاته ... أدنى إلى الشمس من الزهره )
وقوله
( تفكر في نقصان مالك دائما ... وتغفل عن نقصان جسمك والعمر )
( ويثنيك خوف الفقر عن كل بغية ... وخوفك حال الفقر )
شر من الفقر وقوله
( يا ليلة لم تبن من القصر ... كأنها قبلة على حذر )
( لم تك إلا كلا ولا ومضت ... تدفع في صدرها يد السحر ) وقال فيمن نظر إليه نظر إليه فأعرض عنه
( قالوا ثنى عنك بعد البشر صفحته ... فهل أصاخ إلى الواشي فغيره )
( فقلت لا بل درى وجدي بعارضه ... فرد صفحته عمدا لأبصره ) وقال
( حكت الزمان تلونا ... لمحبها العاني الأسير )
( فوصالها برد الأصيل ... وهجرها حر الهجير

وقال يستدعي
( هو يوم كما تراه مطير ... كلب القر فيه والزمهرير )
( وأرانا الغمام والبرد ثوبين ... علينا كلاهما مجرور )
( ولدينا شمسان شمس من الرا ح ... وشمس تسعى بها وتدور )
( فمن الرأي أن تشب الكوانين ... بأجذالها وترخى الستور )
( فاترك الإعتذار فيه فترك الشرب ... في مثل يومنا تغرير )
وقال
( هو البحر غص فيه إذا كان ساكنا ... على الدر واحذره إذا كان مزبدا )
وقال
( غبت عنا فغاب كل جمال ... ونأى إذ نأيت كل سرور )
( ثم لما قدمت عادونا الأنس ... وقرت قلوبنا في الصدور )
( فلو أنا نجزي البشير بنعمى ... لوهبنا حياتنا للبشير )
وقال
( كم ضيعت منك المنى حاصلا ... كان من الأحزم أن يحفظا )
( فالفظ بها عنك فمن حق ما ... يخفي صواب الرأي أن يلفظا )
( فإن تعللت بأطماعها ... فإنما تحلم مستيقظا ) وقال
( يقولون لي صبرا وإني لصابر ... على نائبات الدهر وهي فواجع )
( سأصبر حتى يقضي الله ما قضى ... وإن أنا لم أصبر فما أنا صانع )

وقال
( بأبي خود شموع أقبلت تحمل شمعه )
( فالتقى نوراهما واختلفا ... قدرا ورفعه )
( ومسير الشمس تستهدي ... بضوء النجم بدعه )
وقال في فرس أشهب
( وأشهب كالشهاب أضحى ... يلوح في مذهب الجلال )
( قال حسودي وقد رآه ... يخب تحتي إلى القتال )
( من ألجم الصبح بالثريا ... وأسرج البرق بالهلال )
وقال
( رمتني صروف الدهر بين معاشر ... أصحهم ودا عدو مقاتل )
( وما غربة الإنسان في غير داره ... ولكنها في قرب من لا يشاكل )
وقال أصبحت صبا دنفا مغرما ... أشكو جوى الحب وأبكي دما )
( هذا وقد سلم إذ مر بي ... فكيف لو مر وما سلما )
وقال
( وقفنا للنوى فهفت قلوب ... أضر بها الجوى وهمت شؤون )
( يناجي بعضنا باللحظ بعضا ... فتعرب عن ضمائرنا العيون )
( فلا والله ما حفظت عهود ... كما ضمنوا ولا قضيت ديون )

( ولو حكم الهوى يوما بعدل ... لأنصف من يفي ممن يخون )
( أمر بداركم وأغض طرفي ... مخافة أن تظن بي الظنون )
ولما رأى عبد الرحمن بن شبلاق الحضرمي الإشبيلي في النوم أنه مر على قبر وقوم يشربون حوله وسط أزاهر فأمروه أن يرثي صاحب القبر وهو أبو نواس الحسن بن هانئ قال
( جادك يا قبر انسكاب الغمام ... وعاد بالروح عليك السلام )
( ففيك أضحى الظرف مستودعا ... واستترت عنا عيون الظلام )
وقال أبو بكر محمد بن نصر الأشبيلي
( وكأنما تلك الرياض عرائس ... ملبوسهم معصفر ومزعفر )
( أو كالقيان لبسن موشي الحلى ... فلهم في وشي اللباس تبختر )
وقال أحمد بن محمد الإشبيلي
( أما ترى النرجس الغض الذكي بدا ... كأنه عاشق شابت ذوائبه )
( أو المحب شكا لما أضر به ... فرط السقام فعادته حبائبه )
وقال
( رب نيلوفر غدا مخجل الرا ئي ... إليه نفاسة وغرابه )
( كمليك للزنج في قبة بيضاء ... يدنو الدجا فيغلق بابه )

وقال أبو الأصبغ بن سيد
( كأنما النرجس في منظر الحسن ... الذي أمثاله تبتغى )
( أنامل من فضة فوقه ... كأس من التبر به أفرغا )
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خيرة الصباغ مما أنشده له أبو عامر ابن مسلمة في كتاب حديقة الارتياح
( يوم كأن سحابه لبست عمامي المصامت حجبت به شمس الضحى بمثال أجنحة الفواخت
( فالغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت )
( والرعد يخطب مفصحا ... والجو كالمحزون ساكت )
( والروض يسقيه الحيا ... والنور ينظر مثل باهت )
( فاشرب ولذ بجنة ... واطرب فإن العمر فائت )
وله
( رب ليل طال لا صبح له ... ذي نجوم أقسمت أن لا تغور قد هتكنا )
( جنحه من فلق ... من خمور ووجوه كالبدور )
( إذ بدت تشبهها في كأسها ... نار إبراهيم في برد ونور )
( صرعتنا أذ علونا ظهرها ... في ميادين التصابي والسرور )
( وكأنا حين قمنا معشر ... نشروا بعد ممات من قبور )
وقال أبو بكر بن حجاج

( لما كتمت الحب لا عن قلى ... ولم أجد إلا البكا والعويل )
( ناديت والقلب به مغرم ... يا حسبي الله ونعم الوكيل )
وقال
( يقولون إن السحر في أرض بابل ... وما السحر إلا ما أرتك محاجره )
( وما الغصن إلا ما انثنى تحت برده ... وما الدعص إلا ما طوته مآزره )
( وما الدر إلا ثغره وكلامه ... وما الليل إلا صدغه وغدائره ) وهذه الأبيات من قصيدة في محمد بن القاسم بن حمود ملك الجزيرة الخضراء أعادها الله تعالى
وقال الرصافي أبو عبد الله الشاعر المشهور وهو ابن رومي الأندلس في حريري
( وبنفسي من لاأسميه إلا ... بعض إلمامة وبعض إشاره )
( هو والظبي في المجال سواء ... ما استفاد الغزال منه استعاره )
( أغيد يمسك الحرير بفيه ... مثل ما يمسك الغزال العراره )
وهو القائل يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي
( لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور )
ولأبي جعفر أحمد بن الجزار
( وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا زرع يحصد )
( ثمار أياد دانيات قطوفها ... لأوراقها ظل علي ممدد )

( يرى جاريا ماء المكارم تحتها وأطيار شكري فوقهن تغرد )
ولما نفي أبو جعفر ابن البني من ميورقة وأقلع في البحر ثلاثة أميال ونشأت ريح ردته لم يتجاسر أحد من إخوانه على إتيانه فكتب إليهم [ الوافر ] أحبتنا الألى عتبوا علينا ... وأقصونا وقد أزف الوداع )
( لقد كنتم لنا جذلا وأنسا ... فما بالعيش بعدكم انتفاع )
( أقول وقد صدرنا بعد يوم ... أشوق بالسفينة أم نزاع
( إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع )
وله
( غصبت الثريا في البعاد مكانها ... وأودعت في عيني صادق نوئها )
( وفي كل حال لم تزالي بخيلة ... فكيف أعرت الشمس حلة ضوئها )
وله في غلام يرمي الطيور
( قالوا تصيب طيور الجو أسهمه ... إذا رماها فقلنا عندنا الخبر ) تعلمت قوسها من قوسه حاجبه
( وأيد السهم من أجفانه الحور )
( يلوح في بردة كالنقس حالكة ... كما أضاء بجنح الليلة القمر )
( وربما راق في خضراء مونقة ... كما تفتح في أوراقه الزهر )
وقال الأديب الكاتب القاضي أبو المطرف ابن عميرة المخزومي

لما قص شعر ملك شرق الأندلس زيان بن مردنيش مزين في يوم رفع فيه أبو المطرف شعرا فخرجت صلة المزين ولم تخرج صلة أبي المطرف
( أرى من جاء بالموسى مواسى ... وراحة من أذاع المدح صفرا )
( فأنجح سعي ذا إذ قص شعرا ... وأخفق سعي ذا إذ قص شعرا )
واسم أبي المطرف أحمد وهو من جزيرة شقر من كورة بلنسية
وكان الكاتب الحسيب أبو جعفر أحمد بن طلحة يعشق علجا من علوج ابن هود ويماشيه في غزواته وفيه يقول
( ما أحضر الغزو من صلاح ... كلا ولا رغبة الجهاد )
( لكن لكيما يكون داع ... لقربنا خيرة الجياد ) وقد تقدمت حكايته فلتراجع
وكان صنوبري الأندلس أبو إسحاق بن خفاجة وهو من رجال الذخيرة والقلائد والمسهب والمطرب والمغرب وشهرته تغني عن الإطناب فيه مغرى بوصف الأنهار والأزهار وما يتعلق بها وأهل الأندلس يسمونه الجنان ومن أكثر من شيء عرف به وتوفي سنة ثلاث أو خمس وثلاثين وخمسمائة وولد سنة خمسين وأربعمائة ومن نظمه قوله
( ربما استضحك الحباب حبيب ... نفضت لونها عليه المدام )
( كلما مر قاصرا من خطاه يتهادى كما تهادى الغمام )

( سلم الغصن والكثيب علينا ... فعلى الغصن والكثيب السلام ) وبات مع بعض الرؤساء فكاد ينطفئ السراج ثم تراجع نوره فقال
( وأغر ضاحك وجهه مصباحه ... فأنار ذا قمرا وذلك فرقدا )
( ما إن خبا تلقاء نور جبينه ... حتى ذكا بذكائه فتوقدا )
وله
( كتبت وقلبي في يديك أسير ... يقيم كما شاء الهوى ويسير )
( وفي كل حين من هواك وأدمعي ... بكل مكان روضة وغدير )
وله
( كتابنا ولدينا البدر ندمان ... وعندنا أكؤس للراح شهبان )
( والقضب مائسة والطير ساجعة ... والأرض كاسية والجو عريان )
ولما سئل أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بالأبيض عن لغة فعجز عنها بمحضر من خجل منه أقسم أن يقيد رجليه بقيد حديد ولا ينزعه حتى يحفظ ( الغريب المصنف ) فاتفق أن دخلت عليه أمه في تلك الحال فارتاعت فقال
( ريعت عجوزي أن رأتني لابسا ... حلق الحديد ومثل ذاك يروع )
( قالت جننت فقلت بل هي همة ... هي عنصر العلياء والينبوع )
( سن الفرزدق سنة فتبعتها ... إني لما سن الكرام تبوع )
وكان شاعرا وشاحا وطاح دمه على يد الزبير أمير قرطبة لما هجاه بمثل قوله عكف
( الزبير على الضلالة جاهدا ... ووزيره المشهور كلب النار )
( ما زال يأخذ سجدة في سجدة ... بين الكؤوس ونغمة الأوتار )

( فإذا اعتراه السهو سبح خلفه ... صوت القيان ورنة المزمار ) ولما بلغ الزبير عنه ذلك وغيره أمره بإحضاره فقرعه وقال ما دعاك إلى هذا فقال إني لم أر أحق بالهجو منك ولو علمت ما أنت عليه من المخازي لهجوت نفسك إنصافا ولم تكلها إلى أحد فلما سمع الزبير ذلك قامت قيامته وأمر بقتله
وأنشد له ابن غالب في فرحة الأنفس قوله في حلقة حائط
( وحلقة كشعاع الشمس صافية ... لو قابلت كوكبا في الجو لالتهبا )
( تأنق القين في إحكام صنعتها ... حتى أفاض على أطرافها الذهبا )
( كأنها بيضة قد قد قونسها ... وكل جنب لها بالطعن قد ثقبا )
وقال فيمن يحدث نفسه بالخلافة
( أمير المؤمنين نداء شيخ ... أفادك من أماليه اللطيفه )
( تحفظ أن يكون الجذع يوما ... سريرا من أسرتك المنيفه وأذكر منك مصلوبا فأبكي ) وتضحكني أمانيك السخيفه ) وهاجى ابن سارة فقال فيه ابن سارة عجائب أن يكون الأبيض بحماره بين السوابق يركض )
وقال إمام النحاة بالأندلس أبو علي عمر الشلوبين فيمن اسمه قاسم

( ومما شجا قلبي وفض مدامعي ... هوى قد قلبي إذ كلفت بقاسم )
( وكنت أظن الميم أصلا فلم تكن وكانت كميم ألحقت بالزراقم والزراقم الحيات مشتقة من الزرقة والميم زائدة يريد أن ميم قاسم كميمها فهو قاس وهو منسوب إلى حصن شلوبينة على ساحل غرناطة وله من الشهرة والتآليف ما يغني عن الإطناب في وصفه وله التوطئة و شرح الجزولية وغيرهما وكان مغفلا ومع ذلك فهو آية الله تعالى في العربية وكان في لسانه لكنة ولما أراد مأمون بني عبد المؤمن التوجه إلى مرسية وقد ثار بها ابن هود وأنشده الشعراء وتكلم في مجلسه الخطباء قام الشلوبين وقال دعاء منه ثلمك الله ونثرك يريد سلمك الله ونصرك لأنه بلكنته يرد السين والصاد ثاء فكان كما قال عاد المأمون وقد ثلم عسكره ونثر
ولما مرض الفقيه الزاهد أبو إسحاق إبراهيم الإلبيري دخل عليه الوزير أبو خالد هاشم بن رجاء فرأى ضيق مسكنه فقال لو اتخذت غير هذا المسكن لكان أولى بك فقال وهو آخر شعر قاله
( قالوا ألا تستجيد بيتا ... تعجب من حسنه البيوت )
( فقلت ما ذلكم صوابا ... عش كثير لمن يموت )
( لولا شتاء ولفح قيظ ... وخوف لص وحفظ قوت )
( ونسوة يبتغين سترا ... بنيت بنيان عنكبوت )

وقال أبو بكر بن عبادة القزاز الموشح في ابن بسام صاحب الذخيرة
( يا منيفا على السماكين سام ... حزت خصل السباق عن بسام )
( إن تحك مدحة فأنت زهير ... أو تشبب فعروة بن حزام )
( أو تباكر صيد المها فابن حجرأ ... أو تبك الديار فابن حذام )
( أو تذم الزمان وهو حقيق ... فأبو الطيب البعيد المرامي )
ولما انتثر سلك نظام ملك لمتونة تفرق ملك الأندلس رؤساء البلاد وكان من جملتهم الأمير أبو الحسن بن نزار لما له من الأصالة في وادي آش فحسده أهل بلده وقصدوا تأخيره عن تلك المرتبة فخطبوا في بلدهم لملك شرق الأندلس محمد بن مردنيش ووجه لهم عماله وأوصاهم أن يخرج هذا الأسد من غيله ويفرق بينه وبين تأميله ورفعوا له أشعارا كان يستريح بها على كاسه ويبثها بمحضر من يركن إليه من جلاسه ومنها قوله وقد استشعر من نفسه أنها أهل للتقديم مستحقة لطلب سلفه القديم
( الآن أعرف قدر النفع والضرر ... فكيف أصدر ما للملك من صدر )
( وكيف أطلع في أفق العلا قمرا ... ويستهل بكفي واكف الدرر )
( وكيف أملأ صدر الدهر من رعب ... وأستقل بحمل الحادث النكر )
( وأستعد لما ترمي الخطوب به ... وأستطيل على الأيام بالفكر )
( لكنني ربما بادرت منتهزا ... لفرصة مرقت كاللمح بالبصر )
( في أم رأسي ما يعيا الزمان به شرحا فسل بعدها الأيام عن خبري ) فعندما وقف ابن مردنيش لأ على هذا القول وجه إلى وادي آش من حمله إليه وقيده وقدم به إلى مرسية أسيرا بعدما كان مرتقبا أن يقدم أميرا فلما وقعت عين ابن مردنيش عليه قال له أمكن الله منك يا فاجر فقال

أنت - أعزك الله - أولى بقول الخير من قول الشر ومن أمكنه الله من القدرة على الفعل فما يليق به أن يستقدر بالقول فاستحيا منه وأمر به للسجن فمكث فيه مدة وصدرت عنه أشعار في تشوقه إلى بلاده منها قوله
( لقد بلغ الشوق فوق الذي ... حسبت فهل للتلاقي سبيل )
( فلو أنني مت من شوقكم ... غراما لما كان إلا قليل )
( تعللني بالتداني المنى ... وينشدني الدهر صبر جميل )
( فقل لبثينة إن أصبحت ... بعيدا فلم يسل عنها جميل )
( أغض جفوني عن غيرها ... وسمعي عن اللوم فيها يميل )
ولم يزل على حاله من السجن إلى أن تحيل في جارية محسنة للغناء حسنة الصوت وصنع موشحته التي أولها
( نازعك البدر اللياح ... بنت الدنان فلم يدع لك اقتراح على الزمان وفيها يقول يا هل أقول للحسود والعيس تحدى
( يا لائمي على السراح ... كانت أماني )
( أخرجها ذاك السماح ... إلى العيان ) وجعل يلقيها على الجارية حتى حفظتها وأحكمت الغناء بها وأهداها إلى ابن مردنيش بعدما أوصاها أنها متى استدعاها إلى الغناء وظفرت به في أطرب ساعة وأسرها غنته بهذه الموشحة وتلطفت في شأن رغبتها في سراح قائلها فلعل الله تعالى يجعل في ذلك سببا واتفق أن ظفرت بما أوصاها به وأحسنت غناء الموشحة فطرب ابن مردنيش لسماع مدحه وأعجبه مقاصد قائلها

فسألها لمن هي فقالت لمولاي عبدك ابن نزار فقال أعيدي علي قوله ( ( يا لائمي على السراح ) ) فأعادته فداخلته عليه الرأفة والأريحية بما أصابه فأمر في الحين بحل قيده واستدعى به إلى موضعه في ذلك الوقت فلما دخل خلع عليه وأدناه وقال له يا أبا الحسن قد أمرنا لك بالسراح على رغم الحسود فارجع إلى بلدك مباحا لك أن تطلب الملك بها وبغيرها إن قدرت فأنت أهل لأن تملك جميع الأندلس لا وادي آش فقال له والله يا سيدي بل ألتزم طاعتك والإقرار بأنك بعثتني من قبر رماني فيه الحساد والوشاة ثم شربا حتى تمكنت بينهما المطايبة فقال له يا ابن نزار الآن أريد أن أسألك عن شيء قال وما هو يا سيدي قال عما في أم رأسك حين قلت
( ي أم رأسي ما يعيا الزمان به شرحا فسل بعدها الأيام عن خبري )
فقال له يا سيدي لا تسمع إلى غرور نفس ألقته على لسان نشوان لعبت بأفكاره الأماني وغطت على عقله الآمال والله لقد بقيت في داري أروم الاجتماع بجارية مهينة قدر سنة فما قدرت على ذلك ومنعتني منها زوجتي فكيف أطلب ما دونه قطع الرؤوس ونهب النفوس فضحك ابن مردنيش وجدد له الإحسان وجهزه إلى بلده وأمر عماله أن يشاركوه في التدبير
( ويستأذنوه في الصغير والكبير فتأثل به مجده وعظم سعده
ومن شعره قوله
( انظر إلى الروض سحيرا وقد ... بث به الطل علينا العيون )
( يرقب منا يقظة للمنى ... فقل لها أهلا بداعي المجون )
( وحثها شمسا إلى أن ترى ... شمس الضحى تطرق تلك الجفون )

وقوله
( تنبه لمعشوق وكأس وقينة ... وروض ونهر ليس يبرح خفاقا ) فيها الصبح بالطل أحداقا )
( ومهما تكن في ضيقة فأدر لها ... كؤوس الطلا فالسكر يوسع ما ضاقا )
وقوله
( عطف القضيب مع النسيم تميلا ... والنهر موشي الخمائل والحلى )
( تركته أعطاف الغصون مظللا ... ولنا عن النهج القويم مضللا )
( أمسى يغازلنا بمقلة أشهل ... والطرف أسحر ما تراه أشهلا )
وقال بعضهم استدعاني أبو الحسن بن نزار لمجلس أنس بوادي آش فلما احتفل مجلسنا وطابت لذتنا قال والله ما تمام هذه المسرة إلا حضور أبي جعفر بن سعيد وهو الآن بوادي آش فوافقناه على ذلك لما نعلم من طيب حالتنا معهما وأنهما لا يأتيان إلا بما يأتي به اجتماع النسيم والروض فخلا في موضع وكتب له
( يا خير من يدعى لكاس دائر ... ووجوه أقمار وروض ناضر )
( إنا حضرنا في الندي عصابة ... معشوقة من ناظم )
( أو ناثر كل مخلى للذي يختاره ... في الأمن من ناه له أو زاجر )
( ما إن لهم شغل بفن واحد ... بل كل ما يجري بوفق الخاطر )
( شدو ورقص واقتطاف فكاهة ... وتعانق وتغامز بنواظر )
( وهم كما تدري بأفقي أنجم لكن لنا شوق لبدر زاهر )
سيدي لا زلت متقدما لكا مكرمة ! هل يجمل التخلف عن ناد قام فيه

السرور على ساق وضحك فيه الأنس بملء فيه وانسدل به ستر الصون وفاء عليه ظل النعيم وسفرت فيه وجوه الطرب وركضت خيل اللهو وثار قتام الند وهطلت سحاب ماء الورد وطيبت الكؤوس كالعرائس على كراسي العروس المثقلة بالعاج والآبنوس وكأن قطع النهار ممتزجة بقطع الظلام أو بني حام قد خالطت بني سام وعلى رؤوس الأقداح تيجان نظمها امتزاج الماء بالراح فطورا تستحيي فيبدو خجلها وطورا تمتزج فيظهر وجلها والعود ترجمان المسرة قد جعلته أمه في حجرها كولد ترضعه بدرها وساقي الشرب كالغصن الرطيب أوراقه أردية الشرب وأزهاره الكؤوس التي لا تزال تطلع وتغرب كالشموس ساق يفهم بالإشارة حلو الشمائل عذب العبارة ذو طرف سقيم وخد كأنه من خفره لطيم ولدينا من أصناف الفواكه والأزاهر ما يحار فيه الناظر وهل تكمل لذة دون إحضار خدود الورد وعيون النرجس وأصداغ الآس ونهود السفرجل وقدود قصب السكر ومباسم قلوب الجوز وسرر التفاح ورضاب ابنة العنب فقد اكتمل بهذه الأوصاف المختلسة من أوصاف الحبائب الطرب
( فطر بجناح الشوق عند وصولها ... إليك ولا تجعل سواك جوابها )
( فلا عين إلا وهي ترنو بطرفها ... إليك فيسر في المطال حسابها )
( فقد أصبحت تعلو عليها غشاوة ... لبعدك فاكشف عن سناها ) ضبابها قال أبو جعفر فجعلت وصولي جواب ما نظم ونثر وألفيت الحالة يقصر عن خبرها الخبر فانغمسنا في النعيم انغماس عرف الزهر في

النسيم ومر لنا يوم غض الدهر عنه جفنه حتى حسبناه عنوانا لما وعد الله تعالى به في الجنة وشرب يوما مع أبي جعفر بن سعيد والكتندي الشاعر في جنة بزاوية غرناطة وفيها صهريج ماء قد أحدق به شجر نارنج وليمون وغير ذلك من الأشجار وعليه أنبوب ماء تتحرك به صورة جارية راقصة بسيوف وطيفور رخام يصنع في أنبوبة الماء صورة خباء فقالوا نقتسم هذه الأوصاف الثلاثة فقال أبو جعفر يصف الراقصة
( وراقصة ليست تحرك دون أن ... يحركها سيف من الماء مصلت )
( يدور بها كرها فتنضى صوارما ... عليه فلا تعيا ولا هو يبهت )
( إذا هي دارت سرعة خلت أنها ... إلى كل وجه في الرياض تلفت ) وقال ابن نزار في خباء الماء
( رأيت خباء الماء ترسل ماءها ... فنازعها هب الرياح رداءها )
( تطاوعه طورا وتعصيه تارة ... كراقصة حلت وضمت قباءها )
( وقد قابلت خير الأنام فلم تزل ... لديه من العلياء تبدي حياءها )
( إذا أرسلت جودا أمام يمينه ... أبي العدل إلا أن يرد إباءها )
وقد قيل إن هذه الأبيات صنعها بمحضر الأمير أبي عبد الله بن مردنيش ملك شرق الأندلس وإنه لما ألجأته الضرورة أن يرتجل في مثل ذلك شيئا وكانت هذه عنده معدة فزعم أنه ارتجلها قال أبو عمرو بن سعيد وهذا هو الصحيح فإنه ما كانت عادته أن يخاطب عمي أبا جعفر بخير الأنام فإن كل واحد منهما كفؤ الآخر
وقال الكتندي
( وصهريج تخال به لجينا ... يذاب وقد يذهبه الأصيل )

( كأن الروض يعشقه فمنه ... على أرجائه ظل ظليل )
( وتمنحه أكف الشمس عشقا ... دنانيرا فمنه لها قبول )
( إذا رفع النسيم القضب عنها ... فحينئذ يكون لها سبيل )
( وللنارنج تحت الماء لما ... تبدى عكسها جمر بليل )
( ولليمون فيه دون سبك ... جلاجل زخرف بصبا تجول )
( فيا روضا به صقلت جفوني ... وأرهف متنه الزهر الكليل )
( تناثر فيك أسلاك الغوادي ... وقبل صفح جدولك القبول )
( ولا برحت تجمع فيك شملا ... من الأكياس والكاس الشمول )
( بدور تستنير بها نجوم ... مع الإصباح ليس لها أفول )
( يهيم بهم نسيم الروض إلفا ... فمن وجد له جسم عليل ) وروي أن الوزير أبا الأصبغ عبد العزيز بن الأرقم وزير المعتصم بن صمادح رأى راية خضراء فيها صنيفة بيضاء في يد علج من علوج المعتصم نشرها على رأسه فقال
( نشرت عليك من النعيم جناحا ... خضراء صيرت الصباح وشاحا )
( تحكي بخفق قلب من عاديته ... مهما يصافح صفحها الأرواحا )
( ضمنت لك النعمى برأي ظافر ... فترقب الفأل المشير نجاحا )
وكان هذا الوزير آية الله تعالى في الوفاء وأرسله المعتصم إلى المعتمد بن عباد فأعجبت المعتمد محاولته ووقع في قلبه فأراد إفساده على صاحبه وأخذ معه في أن يقيم عنده فقال له ما رأيت من صاحبي ما أكره فأوثر عند غيره ما أحب ولو رأيت ما أكره لما كان من الوفاء تركي له في حين فوض إلي أمره ووثثق بي وحملني أعباء دولته فاستحسن ذلك ابن عباد وقال له فاكتم علي فلما عاد إلى صاحبه سأله عن جميع ما جرى له فقال له في

أثناء ذلك وجرى لي معه ما إن أعلمتك به خفت أن تحسب فيه كالامتنان والاستظهار وتظن أن خاطري فسد به وإن كتمتك لم أوف النصيحة حقها وخفت أن تطلع عليه من غيري فيحطني ذلك من عينك وتحسب فيه كيدا فحمل عليه في أن يعلمه فأعلمه بعد أن تلطف هذا التلطف وهو من رجال الذخيرة والمسهب وابنه الوزير أبو عامر من رجال القلائد
ومن نظم أبي عامر
( فتى الخيل يقتادها ذبلا خفاقا ... تباري القنا الذابلا )
( ترى كل أجرد سامي التليل ... وتحسبه غصنا مائلا )
وللوزير الكاتب أبي محمد بن فرسان واسمه عبد البر وهو حسنة وادي آش يخاطب يحيى الميورقي
( أنعم بتسريح علي فعله ... سبب الزيارة للحطيم ويثرب )
( ولئن تقول كاشح أن الهوى ... درست معالمه وأنكر مذهبي )
( فمقالتي ما إن مللت وإنما ... عمري أبى حمل النجاد بمنكبي )
( وعجزت عن أن أستثير كمينها ... وأشق بالصمصام صدر الموكب )
وهذه الأبيات كتب بها إليه وقد أسن ومل من الجهد معه يرغب في سراحه إلى الحجاز رحمه الله تعالى وتقبل نيته بمنه ويمنه
وقال حاتم بن حاتم بن سعيد العنسي وكان صاحب سيف وقلم وعلم وعلم
( يا دانيا مني وما أنا زائر ... لا أنت معذور ولا أنا عاذر )

( ماذا يضرك إذ ظللت بظلمة ... أن لا يطالع منك بدر زاهر )
وتوفي المذكور بغرناطة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
التطيلي وقال الأعمى في أسد نحاس يقذف الماء
( أسد ولو أني أنا ... قشه الحساب لقلت صخره )
( فكأنه أسد السماء ... يمج من فيه المجره )

من بدائه ابن ظافر
قال ابن ظافر صرنا في بعض العشايا على البساتين المجاورة للنيل فرأينا فيه بئرا عليها دولابان متحاذيان قد دارت أفلاكهما بنجوم القواديس ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس وهما يئنان أنين الأشواق ويفيضان ماء أغزر من دموع العشاق والروض قد جلا للأعين زبرجده والأصيل قد راقه حسنه فنثر عليه عسجده والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون والسواقي قد أذابت من سلاسل فضتها كل مصون والنبت قد اخضر شاربه وعارضه وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضه ورضاب الغيث قد استقر من الطين في لمى وحيات المجاري حائرة تخاف من زمرد النبات أن يدركها العمى والبحر قد صقل النسيم درعه وزعفران العشي قد ألقى في ذيل الجو ردعه فأوسعنا ذلك المكان حسنا

وقلوبنا استحواذا وملأ أبصارنا وأسماعنا مسرة والتذاذا وملنا إلى الدولابين شاكين أزمرا حين سجعت قيان الطير بألحانها وشدت على عيدانها أم ذكرا أيام أيام نعما وطابا وكانا أغصانا رطابا فنفيا عنهما لذيد الهجوع ورجعا النوح وأفاضا الدموع طلبا للرجوع وجلسنا نتذاكر ما في تركيب الدواليب من الأعاجيب ونتناشد ما وصفت به من الأشعار الغالية الأسعار فأفضى بنا الحديث الذي هو شجون إلى ذكر قول الأعمى التطيلي في أسد نحاس يقذف الماء
( أسد ولو أني ... ) إلخ فقال لي القاضي أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله تعالى يتولد من هذا في الدولاب معنى يأخذ بمجامع المسامع ويطرب الرائي والسامع فتأملت ما قاله بعين بصيرتي البصيرة واستمددت مادة غريزتي الغزيرة فظهر لي معنى ملأني أطرابا وأوسعني إعجابا وأطرق كل منا ينظم ما جاش به مد بحره وأنبأه به شيطان فكره فلم يكن إلا كنقرة العصفور الخائف من الناطور حتى كمل ما أردنا من غير أن يقف واحد منا على ما صنعه الآخر فكان الذي قال
( حبذا ساعة العشية والدولاب ... يهدي إلى النفوس المسره )
( أدهم لا يزال يعدو ولكن ... ليس يعدو مكانه قدر ذره )
( ذو عيون من القواديس تبكي ... كل عين من فائض الدمع ثره )
( فلك دائر يرينا نجوما ... كل نجم يبدي لدينا المجره )

وكان الذي قلت
( ودولاب يئن أنين ثكلى ... ولا فقدا شكاه ولا مضره )
( ترى الأزهار في ضحك إذا ما ... بكى بدموع عين منه ثره )
( حكى فلكا تدور به نجوم ... تؤثر في سرائرنا المسره )
( يظل النجم يشرق بعد نجم ... ويغرب بعدما تجري المجره )
فعجبنا من اتفاقنا وقضى العجب منه سائر رفاقنا انتهى
وكان لأبي محمد عبد الله بن شعبة الوادي آشي ابن شاعر فعرض عليه شعرا نظمه فأعجبه فقال
( شعرك كالبستان في شكله ... يجمع بين الآس والورد )
( فاصنع به إن كنت لي طائعا ... ما يصنع الفارس بالبند )
الأندلس أبي عبد الله بن الحداد الوادي آشي وهو من رجال الذخيرة
( لزمت قناعتي وقعدت عنهم ... فلست أرى الوزير ولا الأميرا )
( وكنت سمير أشعاري سفاها ... فعدت بها لفلسفتي سميرا ) وله في العروض تأليف مزج فيه بين الأنحاء الموسيقية والآراء الخليلية ورد فيه على السرقسطي المنبوز بالحمار

( حجبوك إلا من توهم خاطري ... وحموك إلا من تصور بالي )
( والقارظان جميل صبري والكرى ... فمتى أرجي منك طيف خيال ) ومن بدائعه قوله
( سامح أخاك إذا أتاك بزلة ... فخلوص شيء قلما يتمكن )
( في كل شيء آفة موجودة ... إن السراج على سناه يدخن ) وأنشد أحد الأدباء هذين البيتين متمثلا فأعجبا المعتصم وسأل عن قائلهما فأخبر فتبسم وقال أتعرف إلى من أشار بهذا المعنى قال ما أعرف إلا أنه مليح فقال المعتصم كنت في الصبا وهو معي ألقب بسراج الدولة فقاتله الله ما أشعره فسلوه فلما باحثوه في ذلك أقر بحسن حدس المعتصم
واكتنفته سعايات وكان ممن يغلب لسانه على عقله ففر من المرية وحبس أخوه بها فقال
( الدهر لا ينفك من حدثانه ... والمرء منقاد لحكم زمانه )
( وعلمت أن السعد ليس بمنجح ... ما لا يكون السعد من أعوانه )
( والجد دون الجد ليس بنافع ... والرمح لا يمضي بغير سنانه )
وبلغت الأبيات المعتصم فقال شعره أعقل منه صدق فإنه لا يتهيأ له صلاح عيش إلا بأخيه وهو منه بمنزلة السنان من الرمح ثم أمر بإطلاقه ولحاقه به
ولما قال في المعتصم

( يا طالب المعروف دونك فاتركن ... دار المرية وارفض ابن صمادح )
( رجل إذا أعطاك حبة خردل ... ألقاك في قيد الأسير الطائح )
( لو قد مضى لك عمر نوح عنده ... لا فرق بينك والبعيد النازح ) اغتاظ عليه وأبعده ففر عن بلده
ومن المنسوب إليه في النساء
( خن عهدها مثل ما خانتك منتصفا ... وامنح هواها بنسيان وسلوان )
( فالغيد كالروض في خلق وفي خلق ... إن مر جان أتى من بعده جان )
وله
( حيثما كنت ظاعنا أو مقيما ... دم رفيعا وعش منيعا سليما )
( وقال ابن دحية في المطرب إن من المجيدين في الجد والهزل ورقيق النظم والجزل صاحبنا الوزير أبا بلال وقال لي إنه كان وبرد شبابه قشيب وغصن اعتداله رطيب بقميص النسك متقمص وبعلم الحديث متخصص فاجتاز يوما وبيده مجلد من صحيح مسلم بقصر بعض الملوك الأكابر ومن بعض مناظره ناظر ومجلسه بخواص ندمائه حال وصوت المثاني والمثالث عال فقال أطلعوا لنا هذا الفقيه فلعلنا نضحك منه فلما مثل بين يديه وحيا أمر الساقي بمناولته كأس الحميا فتقبض متأففا وأبدى تمعرا وتقشفا والسلطان يستغرب ضحكا بما هجم عليه ويد

الساقي ممدودة إليه واتفق أن انشقت من ذاتها الزجاجة فظهر من السلطان التطير من ذلك فأنشد الفقيه مرتجلا
( ومجلس بالسرور مشتمل ... لم يخل فيه الزجاج من أدب )
( سرى بأعطافه يرنحه ... فشق أثوابه من الطرب )
فسر السلطان وسري عنه واستحسن من الفقيه ما بدا منه وأمر له بجائزة سنية وخلعة رائقة بهية
وما أحسن قول ابن البراق
( يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول )
( ولي ديون عليك حلت ... لو أنه ينفع الحلول )
وقوله
( انظر إلى الوادي إذا ما غردت ... أطياره شق النسيم ثيابه )
( أتراه أطربه الهديل وزاده ... طربا وحقك أن حللت جنابه ) وله في غلام على فمه أثر المداد
( يا عجبا للمداد أضحى ... على فم ضمن الزلالا )
( كالقار أضحى على الحميا ... والليل قد لامس الهلالا )
وكتب أبو محمد عبد الله بن عذرة إلى بعض أصحابه من الأسر في طليطلة

( لو كنت حيث تجيبني ... لأذاب قلبك ما أقول )
( يكفيك مني أنني ... لا أستقل من الكبول )
( وإذا أردت رسالة ... لكم فما ألفي رسول )
( هذا وكم بتنا وفي ... أيماننا كأس الشمول )
( والعود يخفق والدخان ... العنبري به يجول )
( حال الزمان ولم يزل ... مذ كنت أعهده يحول )
ولأبي الحسن علي بن مهلهل الجلياني في أبي بكر ابن سعيد صاحب أعمال غرناطة في دولة الملثمين
( لولا النهود لما عراك تنهد ... وعلى الخدود القلب منك يخدد )
( يا نافذا قلبي بسهم جفونه ... مالي على سهم رميت به يد )
وقال أبو زكريا يحيى بن مطروح في غلام كاتب أطل عذاره
( يا حسنه كاتبا قد خط عارضه ... في خده حاكيا ما خط بالقلم )
( لام العذول عليه حين أبصره ... فقلت دعني فزين البرد بالعلم )
( وانظر إلى عجب مما تلوم به ... بدر له هالة قدت من الظلم )
( قولوا عن البحر ما شئتم ولا عجب ... من عنبر الشحر أو من در مبتسم )
وله وقد عزل عن مالقة وال غير مرضي ونزل المطر على إثره وكان الناس في جدب
( ورب وال سرنا عزله ... فبعضنا هنأه البعض )
( قد واصلتنا السحب من بعده ... ولذ في أجفاننا الغمض )

( لو لم يكن من نجس شخصه ... ما طهرت من بعده الأرض )
وكان الكاتب أبو بكر محمد بن نصر الأوسي مختصا بوزير عبد المؤمن أبي جعفر بن عطية فقال فيه
( أبا جعفر نلت الذي نال جعفر ... ولا زلت بالعليا تسر وتحبر )
( عليك لنا فضل وبر وأنعم ... ونحن علينا كل مدح يحبر ...
وحدث من حضر مجلس الوزير ابن عطية وقد أحس من عبد المؤمن التغير الذي أفضى إلى قتله وقد افتتح ابن نصر مطلع هذه القصيدة فتغير وجه أبي جعفر لأن جعفر بن يحيى كان آخر أمره الصلب فكأن هذا عمم الدعاء والعجب أنه قتل مثل جعفر بعد ذلك وهذا الشاعر هو القائل
(
( وما أنا عن ذاك الهوى متبدل ... وذا الغدر بالإخوان غير كريم )
( بغيرك أجري ذكر فضلك في الندى ... كما قد جرى بالروض هب نسيم )
( وإن كان عندي للجديد لذاذة ... فلست بناس حرمة لقديم ) ولأبي عبد الله محمد بن علي اللوشي يخاطب صاحب المسهب
( بي إليكم شوق شديد ولكن ... ليس يبقى مع الجفاء اشتياق )
( إن يغيركم الفراق فودي ... لو خبرتم يزيد فيه الفراق ) وله
( لو أن لي قلبا كقلبك ... كنت أهجر هجركا )

( يكفيك أنك قد نسيت ... ولست أنسى ذكركا )
( ومن العجائب أنني ... أفنى وأكتم سركا )
( كن كيفما تختاره ... فالحب يبسط عذركا )
وله
( هل عندكم علم بما فعلت بنا ... تلك الجفون الفاتكات بضعفها )
( نصحا لكم أن تأمنوها أنها ... سحر النهى ما تبصرون بطرفها )
ولابنه أبي محمد عبد المولى وكان ماجنا لما نعي إليه وهو على الشراب أحد أصحابه مرتجلا
( إنما دنياك أكل ... وشراب وقحاب )
( ثم من بعد صراخ ... ووداع وتراب )
وله
( يا نديم اشرب على أفق ... صقيل وحديقه )
( واسقني ثم اسقني ثم ... اسقني خمرا وريقه )
( من غزال تطلع الشمس ... بخديه أنيقه )
( لا تفوت ساعة من ... كأس خمر وعشيقه )
( واجتنب ما سخرت جهلا ... له هذي الخليقه )
( رغبوا في باطل زور ... بزهد في الحقيقه )
( ليس إلا ما تراه ... أنا أدرى بالطريقه ) قال أبو عمران موسى بن سعيد قلنا له ما هذا الاعتقاد الفاسد الذي لا ينبغي لأحد أن يصحبك به فقال هذا قول لا فعل وقد قال الله تعالى

( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون 5 وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) [ الشعراء 224 - 226 ] ثم قال ابن سعيد ولولا أن حاكي الكفر ليس بكافر ما ذكرتها وهذا منزع من قال من المجوس
( خذ من الدنيا بحظ ... قبل أن ترحل عنها )
( فهي دار لا ترى من ... بعدها أحسن منها )
وهذا كفر صراح وقائله قد تقمص كفرا اللهم غفرا
وطلب منه بعض الأرذال أن يكتب له شفاعة عند أحد العمال فكتب له رسالة فيها هذه الأبيات
( كتبته مولاي في طالع ... ما طار فيه طائر اليمن )
( وفكرة حائلة والحشا ... ينهب بالهم وبالحزن )
( كلفنيه ساقط أخرق ... مشتهر بالطحن والقرن )
( أكذب خلق الله أرداهم ... أخوفهم في الخوف والأمن )
( يكفر ما يسدى إليه ولا ... يعذر خلقا سيء الظن )
( فإن صنعت الخير ألفيته ... شرا وأضحى المجد ذا غبن )
( وانتقد الناس عليك الذي ... تسدي له في أي ما فن )
( فافعل به ما هو أهل له ... واسمعه تفسيرا ولا أكني )
( أهنه واصفعه ولا تترك البواب ... يكرمه لدى الإذن )
( واقطع بفيه القول واحرمه من ... رد جواب أنسه يدني )
( وكلما استنبط رأيا فسفهه ... ودعه مسخن الجفن )
( فهو إذا أكرمته فاسد ... وصالح بالهون واللعن )

( شفاعتي في مثله هذه ... فلا سقاه هاطل المزن )
ودفع إليه الكتاب مختوما فسربه وحمله إلى العامل وسافر إليه أياما فلما دفعه إليه قرأه وضحك ودفعه إلى من يشاركه في ذلك من أصحابه فوعده بخير وأخرجه إلى شغل لم يرضه فلما عاد منه قال له أخرجتني لأرذل شغل وأخسه فما فائدة الشفاعة إذن فقال له أو تريد أن أفعل معك ما تقتضيه شفاعة صاحبك قال لا أقل من ذلك فأمر من يأتيه بالأبيات فقرئت عليه فانصرف في أسوء حال فلما دخل غرناطة - وكان عبد المولى تزوج فيها امرأة اغتبط بها - تزيا هذا الرجل بزي أهل البادية وزور كتابا على لسان زوجة لعبد المولى في بلدة أخرى وقال في الكتاب وقد بلغني أنك تزوجت غيري وأردت أن أكتب إليك في أن تطلقني فوصلني كتابك تعرفني فيه أن الزوجة الجديدة لم توافق اختيارك وأنك ناظر في طلاقها فردني ذلك عما عزمت عليه فانظر في تعجيل ما وعدت به من طلاقها فإنك إن لم تفعل لم أبق معك أبدا فلما مر بدار عبد المولى رأى جارية زوجته فقال لها أنا رجل بدوي أتيت من عند فلانة زوجة أبي محمد عبد المولى فعندما سمعت ذلك أعلمت ستها وأخذت الكتاب فوقفت على ما فيه غير شاكه في صحته فلما دخل عبد المولى وجدها على خلاف ما فارقها عليه فسألها عن حالها فقالت أريد الطلاق فقال ما سبب هذا وأنا أرغب الناس فيك فألقت إليه الكتاب فلما وقف عليه حلف لها أن هذا ليس بصحيح وأن عدوا له اختلفه عليه فلم يفد ذلك عندها شيئا ولم يطب له بعد ذلك معها عيش فطلقها وعلم أن ذلك الرجل هو الذي فعل ذلك فقال له لا جزاك الله خيرا ولا أصلح لك حالا ! فقال وأنت كذلك فهذه بتلك والبادي أظلم فما كان ذنبي عندك حين كتبت في حقي ما كتبت فقال له مثلك لا يقول ( ( ما ذنبي ) ) أنت كلك ذنوب

( ألست بألأم الثقلين طرا ... وأثقلهم وأفحشهم لسانا )
( فمهما تبغ برا عند شخص ... تزد منه بما تبغي هوانا ) فانصرف عنه عالي اللسان بلعنته وكان أحد بني عبد المؤمن قد ألزمه أن ينسخ له كتابا بموضع منفرد فخطر له يوما جلد عميرة واتفق أن مر السيد يوما بذلك الموضع فنظر إليه في تلك الحال فقال له السيد ما تصنع فقال الدواة جفت ولم أجد ما أسقيها به إلا ماء ظهري فضحك السيد وأمر له بجارية فقال
( قل للعميرة طلقت ... بعد طول زواج )
( قد كان مائي ضياعا ... يمر في غير حاج )
( حتى حباني بحسناء ... قابل للنتاج )
( فكان ناقل خمر ... من حنتم لزجاج )
( كانت تمر ضياعا ... فأصبحت كالسراج )
وقال حاتم بن سعيد
( جنبوني عن المدامة إلا ... عند وقت الصباح أو في الأصيل )
( واشفعوها بكل وجه مليح ... ودعوني من كل قال وقيل )
( وإذا ما أردتم طيب عيشي ... فاحجبوني عن كل وجه ثقيل )
وقال مالك بن محمد ابن سعيد
( أتاني زائرا فبسطت خدي ... له ويقل بسط الخد عندي )

( فقلت له أيا مولاي ألفا ... فقال وأنت ألفا عبد عبدي )
( وعانقني وقبلني ونادى ... بلطف منه كيف رأيت وعدي )
وقال في استهداء مقص
( ألا قل نعم في مطلب قد حكاه لا ... يفصل إذ نبغي الوصال موصلا )
( نشق به صدر النهار وقد بدا ... ظلاما بأمثال النجوم مكللا )
وقال
( سارت كبدر وليل الخدر يسترها ... ولو بدا وجهها جاءتك بالفلق )
( ودونها من صليل اللامعات حمى ... فالبرق والرعد دون الشمس في الأفق ) بين محمد بن غالب والكتندي وأبي جعفر ابن سعيد 292 بين محمد بن غالب والكتندي وأبي جعفر بن سعيد واجتمع بغرناطة محمد بن غالب الرصافي الشاعر المشهور ومحمد بن عبد الرحمن الكتندي الشاعر وغيرهما من الفضلاء والرؤساء فأخذوا يوما في أن يخرجوا لنجد أو لحور مؤمل وهما منتزهان من أشرف وأظرف منتزهات غرناطة ليتفرجوا ويصقلوا الخواطر بالتطلع في ظاهر البلد وكان الرصافي قد أظهر الزهد وترك الخلاعة فقالوا ما لنا غنى عن أبي جعفر بن سعيد اكتبوا له فصنعوا هذا الشعر وكتبوه له وجعلوا تحته أسماءهم
( بعثنا إلى رب السماحة والمجد ... ومن ما له في ملة الظرف من ند ...
( ليسعدنا عند الصبيحة في غد ... لنسعى إلى الحور المؤمل أو نجد )
( نسرح منا أنفسا من شجونها ... ثوت في شجون هن شر من اللحد )
( ونظفر من بخل الزمان بساعة ... ألذ من العليا وأشهى من الحمد )
( على جدول ما بين ألفاف دوحة ... تهز الصبا فيها لواء من الرند )
( ومن كان ذا شرب يخلى بشأنه ... ومن كان ذا زهد تركناه للزهد )
( وما ظرفه يأبى الحديث على الطلى ... ولا أن يديل الهزل حينا من الجد )

( تهز معاني الشعر أغضان ظرفه ... ويمرح في ثوب الصبابة والوجد )
( وما نغص العيش المهنأ غير أن ... يمازجه تكليف ما ليس بالود )
( نظمنا من الخلان عقد فرائد ... ولما نجد إلاك واسطة العقد )
( فماذا تراه لا عدمناك ساعة ... فنحن ما تبديه في جنة الخلد )
( ورشدك مطلوب وأمرك نحوه ار تقاب ... وكل منك يهدي إلى الرشد )
فكان جوابه لهم
( هو القول منظوما أو الدر في العقد ... هو الزهر نفاح الصبا أم شذا الود )
( أتاني وفكري في عقال من الأسى ... فحل بنفث السحر ما حل من عقد )
( ومن قبل علمي أين مبعث وجهه ... علمت جناب الورد من نفس الورد )
( وأيقنت أن الدهر ليس براجع ... لتقديم عصر أو وقوف على حد )
( فكل أوان فيه أعلام فضله ... ترادف موج البحر ردا )
( إلى رد فكم طيها من فائت متردم ... يهز بما قد اضمرت معطف الصلد )
( فيا من بهم تزهى المعالي ومن لهم ... قياد المعالي ما سوى قصدكم قصدي )
( فسمعا وطوعا للذي قد أشرتم ... به لا أرى عنه مدى الدهر من بد )
( فقوموا على اسم الله نحو حديقة ... مقلدة الأجياد موشية البرد )
( بها قبة تدعى الكمامة فاطلعوا ... بها زهرا أذكى نسيما من الند )
( وعندي ما يحتاج كل مؤمل ... ) ( من الراح والمعشوق والكتب والنرد )
( فكل إلى ما شاءه لست ثانيا ... عنانا له إن المساعد ذو الود )
( ولست خليا من تأنس قينة ... إذا ما شدت ضل الخلي عن الرشد )
( لها ولد في حجرها لا تزيله ... أوان غناء ثم ترميه بالبعد )
( فيا ليتني قد كنت منها مكانه ... تقلبني ما بين خصر إلى نهد )
( ضمنت لمن قد قال إني زاهد ... إذا حل عندي أن يحول عن الزهد )

( فإن كان يرجو جنة الخلد آجلا ... فعندي له في عاجل جنة الخلد )
فركبوا إلى جنته فمر لهم أحسن يوم على ما اشتهوا وما زالوا بالرصافي إلى أن شرب لما غلب عليه الطرب فقال الكتندي
( غلبناك عما رمته يا ابن غالب ... براح وريحان وشدو وكاعب )
فقال أبو جعفر
( بدا زهده مثل الخضاب فلم يزل ... به ناصلا حتى بدا زور كاذب )
فلما غربت الشمس قالوا ما رأينا أقصر من هذا اليوم وما ينبغي أن يترك بغير وصف فقال أبو جعفر أنا له ثم قال بعد فكرة وهو من عجائبه التي تقدم بها المتقدمين وأعجز المتأخرين
( الله يوم مسرة ... أضوا وأقصر من ذباله )
( لما نصبنا للمنى ... فيه بأوتار حباله )
( طار النهار به كمرتاع ... فأجفلت الغزاله )
( فكأننا من بعده ... بعنا الهداية بالضلاله )
والنهار ذكر الحبارى وإليه أشار بقوله ( ( طار النهار ) ) والغزالة الشمس ولا يخفى حسن التوريتين فسلم له الجميع تسليم السامع المطيع
وعلى ذكر الغزالة في هذا الموضع فلأبي جعفر أيضا فيها وهو من بدائعه قوله
( بدا ذنب السرحان ينبئ أنه ... تقدم سبت والغزالة خلفه )

( ولم تر عيني مثله من متابع ... لمن لا يزال الدهر يطلب حتفه )
وقوله
( اسقني مثل ما أنار لعيني ... شفق ألبس الصباح جماله )
( قبل أن تبصر الغزالة تستد رج ... منه على السماء غلاله )
( وتأمل لعسجد سال نهرا ... كرعت فيه أو تقضى غزاله )
ومن نظم أبي جعفر قوله
( لو لم يكن شدو الحمائم فاضلا ... شدو القيان لما استخف الأغصنا )
( طرب ثنى حتى الجماد ترنحا ... وأفاض من دمع السحائب أعينا ) وقوله
( في الروض منك مشابه من أجلها ... يهفو له طرفي وقلبي المغرم )
( الغصن قد والأزاهر حلية ... والورد خد والأقاحي مبسم ) وقوله
( ألا حبذا نهر إذا ما لخظته ... أبى أن يرد اللحظ عن حسنه الأنس )
( ترى القمرين الدهر قد عنيا به ... يفضضه بدر وتذهبه شمس )
وقوله وقد مر بقصر من قصور أمير المؤمنين عبد المؤمن وقد رحل عنه
( قصر الخليفة لا أخليت من كرم ... وإن خلوت من الأعداد ) والعدد
( جزنا عليك فلم تنقص مهابته ... والغيل يخلو وتبقى هيبة الأسد )

وقوله من أبيات
( سرح لحاظك حيث شئت فإنه ... في كل موقع لحظة متأمل )
وقوله أيضا
( ولقد قلت للذي قال حلوا ... ههنا سر فإننا ما سئمنا )
( لا تعين لنا مكانا ولكن ... حيثما مالت اللواحظ ملنا ) وقال
( ألا هاتها إن المسرة قربها ... وما الحزن إلا في توالي جفائها )
( مدام بكى الإبريق عند فراقها ... فأضحك ثغر الكاس عند لقائها )
وقال
( عرج على الحور وخيم به ... حيث الأماني ضافيات الجناح )
( واسبق له قبل ارتحال الندى ... ولا تزره دون شاد وراح )
( وكن مقيما منه حيث الصبا ... تمتار مسكا من أريج البطاح )
( والقضب مال البعض منها على ... بعض كما يثني القدود ارتياح )
( وشق جيب الصبح قصف إذا ... شقت جيوب الطل منها الرياح )
( لم أحص كم غاديته ثابتا ... واسترقصتني الراح عند الرواح ) وقوله
( ألا حبذا روض بكرنا له ضحى ... وفي جنبات الروض للطل أدمع )
( وقد جعلت بين الغصون نسيمة ... تمزق ثوب الطل منها وترقع )
( ونحن إذا ما ظلت القضب ركعا ... نظل لها من هزة السكر نركع )

وكان ابن الصابوني في مجلس أحد الفضلاء بإشبيلية فقدم فيما قدم خيار فجعل أحد الأدباء يقشرها بسكين فخطف ابن الصابوني السكين من يده فألح عليه في استرجاعها فقال له ابن الصابوني كف عني وإلا جرحتك بها فقال له صاحب المنزل اكفف عنه لئلا يجرحك ويكون جرحك جبارا تعريضا بقول النبي " جرح العجماء جبار " فاغتاظ ابن الصابوني وخرج من الاعتدال وأخطأ بلسانه وما كف إلا بعد الرغبة والتضرع
ومن نظم ابن الصابوني
( بعثت بمرآة إليك بديعة ... فأطلع بسامي أفقها قمر السعد )
( لننظر فيها حسن وجهك منصفا ... وتعذرني فيما أكن من الوجد )
( فأرسل بذاك الخد لحظك برهة ... لتجني منه ما جناه من الورد )
( مثالك فيها منك أقرب ملمسا ... وأكثر إحسانا وأبقى على العهد )
وقوله في لابس أحمر
( أقبل في حلة موردة ... كالبدر في حلة من الشفق )
( تحسبه كلما أراق دمي ... يمسح في ثوبه ظبى الحدق )
ورحل إلى القاهرة والإسكندرية فلم يلتفت إليه ولا عول عليه وكان شديد الانحراف فانقلب على عقبه يعض يديه على ما جرى عليه فمات عند إيابه إلى الإسكندرية كمدا ولم يعرف له بالديار المصرية مقدار

وحضر يوما بين يدي المعتضد الباجي ملك إشبيلية وقد نثرت أمامه جملة من دنانير سكت باسمه فأنشد
( قد فخر الدينار والدرهم ... لما علا ذين لكم ميسم )
( كلاهما يفصح عن مجدكم ... وكل جزء منه فرد فم )
ومر فيها إلى أن قال في وصف الدنانير
( كأنها الأنجم والبعد قد ... حقق عندي أنها الأرجم )
فأشار السلطان إلى وزيره فأعطاه منها جملة وقال له بدل هذا البيت لئلا يبقى ذما
وكان يلقب بالحمار ولذا قال فيه ابن عتبة الطبيب
( يا عير حمص عيرتك الحمير ... بأكلك البر مكان الشعير )
وهو أبو بكر محمد بن الفقيه أبي العباس أحمد بن الصابوني شاعر إشبيلية الشهير الذكر والذي أظهره مأمون بني عبد المؤمن وله فيه قصائد عدة منها قوله في مطلع
( استول سباقا على غاياتها ... نجح الأمور يبين في بدآتها )
وله الموشحات المشهورة رحمه الله تعالى
بين
ومن حكايات الصبيان أن ابن أبي الخصال وهو من شقورة اجتاز بأبدة وهوصبي صغير يطلب الأدب فأضافه بها القاضي ابن مالك

ثم خرج معه إلى حديقة معروشة فقطف لهما منها عنقودا أسود فقال القاضي
( انظر إليه في العصا ... ) فقال ابن أبي الخصال كرأس زنجي عصى فعلم أنه سيكون له شأن في البيان
وحدث أبو عبد الله بن زرقون أن أبا بكر ابن المنخل وأبا بكر الملاح الشلبيين كانا متواخيين متصافيين وكان لهما ابنان صغيران قد برعا في الطلب وحازا قصب السبق في حلبة الأدب فتهاجى الابنان بأقذع الهجاء فركب ابن المنخل في سحر من الأسحار مع ابنه عبد الله فجعل يعتبه على هجاء بني الملاح ويقول له قد قطعت ما بيني وبين صديقي وصفيي أبي بكر في إقذاعك في ابنه فقال له ابنه إنه بدأني والبادي أظلم وإنما يجب أن يلحى من بالشر تقدم فعذره أبوه فبينما هما على ذلك إذ أقبلا على واد تنق فيه الضفادع فقال أبو جعفر لابنه
( تنق ضفادع الوادي ... ) فقال ابنه
( بصوت غير معتاد ... ) فقال الشيخ
( كأن نقيق مقولها ... )
فقال ابنه
( بنو الملاح في النادي ... )

فلما أحست الضفادع بهما صمتت فقال أبو بكر
( وتصمت مثل صمتهم ... )
فقال ابنه ( إذا اجتمعوا على زاد ... ) فقال الشيخ ( فلا غوث لملهوف ... ) فقال الابن
( ولا غيث لمرتاد ... )
ولا خفاء أن هذه الإجازة لو كانت من الكبار لحصلت منها الغرابة فكيف ممن هو في سن الصبا
ومن حكايات النصارى واليهود من أهل الأندلس - أعادها الله تعالى إلى الإسلام عن قريب إنه سميع مجيب - ما حكي أن ابن المرعزي النصراني الإشبيلي أهدى كلبة صيد للمعتمد بن عباد وفيها يقول
( لم أر ملهى لذي اقتناص ... ومكسبا مقنع الحريص )
( كمثل خطلاء ذات جيد ... أتلع في صفرة القميص )
( كالقوس في شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقنيص )
( إن تخذت أنفها دليلا ... دل على الكامن العويص )
( لو أنها تستثير برقا ... لم يجد البرق من محيص )

ومنها في المديح
( يشفع تنويله بود ... شفع القياسات بالنصوص )
وقال
( الله أكبر أنت بدر طالع ... والنقع دجن والكماة نجوم )
( والجود أفلاك وأنت مديرها ... وعدوك الغاوي وهن رجوم )
وقال
( نزلت في آل مكحول وضيفهم ... كنازل بين سمع الأرض والبصر )
( لا تستضيء بضوء في بيوتهم ... ما لم يكن لك تطفيل على القمر )
وسببهما أنه نزل عندهم فلم يوقدوا له سراجا
شعراء اليهود
وقال نسيم الإسرائيلي
( يا ليتني كنت طيرا ... أطير حتى أراكا )
( بمن تبدلت غيري ... أو لم تحل عن هواكا )
وهو شاعر وشاح من أهل إشبيلية وذكره الحجاري في المسهب
وقال إبراهيم بن سهل الإسرائيلي في أصفر ارتجالا
( كان محياك له بهجة ... حتى إذا جاءك ماحي الجمال )

( أصبحت كالشمعة لما خبا ... منها الضياء اسود فيها الذبال )
وهو شاعر إشبيلية ووشاحها وقرأ على أبي علي الشلوبين وابن الدباج وغيرهما وقال العز في حقه وكان أظهر الإسلام ما صورته كان يتظاهر بالإسلام ولا يخلو مع ذلك من قدح واتهام انتهى
وسئل بعض المغاربة عن السبب في رقة نظم ابن سهل فقال لأنه اجتمع فيه ذلان ذل العشق وذل اليهودية ولما غرق قال فيه بعض الأكابر عاد الدر إلى وطنه
ومن نظم ابن سهل المذكور قوله
( وألمى بقلبي منه جمر مؤجج ... تراه على خديه يندى ويبرد )
( يسائلني من أي دين مداعبا ... وشمل اعتقادي في هواه مبدد )
( فؤادي حنيفي ولكن مقلتي ... مجوسية من خده النار تعبد ) ومنه قوله
(
( هذا أبو بكر يقود بوجهه ... جيش الفتور مطرز الرايات )
( أهدى ربيع عذاره لقلوبنا ... حر المصيف فشبها لفحات )
( خد جرى ماء النعيم بجمره ... فاسود مجرى الماء في الجمرات )
وذكر الحافظ أبو عبد الله محمد بن عمر بن رشيد الفهري في رحلته الكبيرة القدر والجرم المسماة ب ملء العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهة الوجيهة إلى الحرمين مكة وطيبة خلافا في إسلام ابن سهلا باطنا وكتب على هامش هذا الكلام الخطيب العلامة سيدي أبو عبد الله بن مرزوق ما نصه صحح لنا من أدركناه من أشياخنا أنه مات على دين الإسلام انتهى ورأيت في بعض كتب الأدب بالمغرب أنه اجتمع جماعة مع ابن سهل في مجلس أنس فسألوه لما أخذت منه الراح عن إسلامه هل هو في الظاهر والباطب أم لا فأجابهم بقوله للناس ما ظهر ولله ما استتر انتهى

واستدل بعضهم على صحة إسلامه بقوله
( تسليت عن موسى بحب محمد ... هديت ولولا الله ما كنت أهتدي )
( وما عن قلى قد كان ذاك وإنما ... شريعة موسى عطلت بمحمد )
وله ديوان كبير مشهور بالمغرب حاز به قصب السبق في النظم والتوشيح
وما أحسن قوله من قصيدة
( تأمل لظى شوقي وموسى يشبها ... تجد خير نار عندها خير موقد )
وأنشد بعضهم له قوله
( لقد كنت أرجو أن تكون مواصلي ... فأسقيتني بالبعد فاتحة الرعد )
( فبالله برد ما بقلبي من الجوى ... بفاتحة الأعراف من ريقك الشهد )
وقال الراعي رحمه الله تعالى سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن سمعة الأندلسي رحمه الله تعالى يقول شيئان لا يصحان إسلام إبراهيم بن سهل وتوبة الزمخشري من الاعتزال ثم قال الراعي قلت وهما في مروياتي أما إسلام إبراهيم بن سهل فيغلب علي ظني صحته لعلمي بروايته وأما الثاني - وهو توبة الزمخشري - فقد ذكر بعضهم أنه رأى رسما بالبلاد المشرقية محكوما فيه يتضمن توبة الزمخشري من الاعتزال فقوي جانب الرواية انتهى باختصار
وقال الراعي أيضا ما نصه وقد نكت الأديب البارع إبراهيم بن سهل الإسرائيلي الأندلسي على الشيخ أبي القاسم في تغزله حيث قال
( أموسى أيا بعضي وكلي حقيقة ... وليس مجازا قولي الكل والبعضا )
( خفضت مكاني إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا )

وفي هذا دليل على أن يهود الأندلس كانوا يشتغلون بعلم العربية فإن إبراهيم قال هذين البيتين قبل إسلامه والله تعالى أعلم
وقد روينا أنه مات مسلما غريقا في البحر فإن كان حقا فالله تعالى رزقه الإسلام في آخر عمره والشهادة انتهى
ومن نظم ابن سهل في التوجيه باصطلاح النحاة قوله
( رفعت عوامله وأحسب رتبتي ... بنيت على خفض فلن تتغيرا ) ومنه
( تنأى وتدنو والتفاتك واحد ... كالفعل يعمل ظاهرا ومقدرا )
وقوله
( إذا كان نصر الله وقفا عليكم ... فإن العدا التنوين يحذفه الوقف )
وقوله
( ليتني نلت منه وصلا وأجلى ... ذلك الوصل عن صباح المنون )
( وقرأنا باب المضاف عناقا ... وحذفنا الرقيب كالتنوين )
وقوله
( بنيت بناء الحرف خامر طبعه ... فصرت لتأثير العوامل جازما مانعا )
وقوله
( لك الثناء فإن يذكر سواك به ... يوما فكالرابع المعهود في البدل )

يعني الغلط وقوله
( إذ اليأس ناجى النفس منك بلن ولا ... أجابت ظنوني ربما وعساني )
وقوله
( وقلت عساه إن أقمت يرق لي ... وقد نسخت لا عنده ما اقتضت عسى )
وقوله
( ينفي لي الحال ولكنه ... يدخل لا في كل مستقبل )
وقوله
( خفضت مقامي إذ جزمت وسائلي ... فكيف جمعت الجزم عندي والخفضا )
وقوله في غلام شاعر
( كيف خلاص القلب من شاعر ... رقت معانيه عن النقد )
( يصغر نثر الدر عن نثره ... ونظمه جل عن العقد )
( وشعره الطائل في حسنه ... طال على النابغة الجعدي )
وحدث أبو حيان عن قاضي القضاة أبي بكر محمد بن أبي النصر الفتح بن علي الأنصاري الإشبيلي بغرناطة أن إبراهيم بن سهل الشاعر الإشبيلي كان يهوديا ثم أسلم ومدح رسول الله بقصيدة طويلة بارعة قال أبو حيان وقفت عليها وهي من أبدع ما نظم في معناها وكان سن ابن سهل حين غرق نحو الأربعين سنة وذلك سنة تسع وأربعين وستمائة وقيل إنه جاوز الأربعين وكان يقرأ مع المسلمين ويخالطهم وما أحسن قوله

( مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى ... أداري بها همي إذا الليل عسعسا )
( أتاني حديث الوصل زورا على النوى ... أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا )
( ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا ... أصبت الأماني خذ قلوبا وأنفسا )
( كساني موسى من سقام جفونه ... رداء وسقاني من الحب أكؤسا )
ومن أشهر موشحاته قوله
( ليل الهوى يقظان ... والحب ترب )
( السهر والصبر لي خوان ... والنوم عن عيني بري )
وقد عارضه غير واحد فما شقوا له غبار
واما وأما إبراهيم بن الفخار اليهودي فكان قد تمكن عند الأذفونش ملك طليطلة النصراني وصيره سفيرا بينه وبين ملوك المغرب وكان عارفا بالمنطق والشعر قال ابن سعيد أنشدني لنفسه يخاطب أديبا مسلما كان يعرفه قبل أن تعلو رتبته ويسفر بين الملوك ولم يزده على ما كان يعامله به من الإذلال فضاق ذرع ابن الفخار وكتب إليه
( أيا جاعلا أمرين شبهين ما له ... من العقل إحساس به يتفقد )
( جعلت الغنى والفقر والذل والعلا ... سواء فما تنفك تشقى وتجهد )
( وهل يستوي في الأرض نجد وتلعة ... فتطلب تسهيلا وسيرك مصعد )
( وما كنت ذا ميز لمن كنت طالبا ... بما كنت في حال الفراغ تعود )
( وقد حال ما بيني وبينك شاغل ... فلا تطلبني بالذي كنت تعهد )
( فإن كنت تأبى غير إقدام جاهل ... فإنك لا تنفك تلحى وتطرد )

حذف

( ألا فأت في ابوابه كل مسلك ... ولا تك محلا حيثما قمت تقعد )
قال ابن سعيد وأنشدني لنفسه
( ولما دجا ليل العذار بخده ... تيقنت أن الليل أخفى وأستر )
( وأصبح عذالي يقولون صاحب ... فأخلو به جهرا ولا أتستر )
وقال يمدح الأذفونش لعنهما الله تعالى
( حضرة الأذفنش لا برحت ... غضة أيامها عرس )
( فاخلع النعلين تكرمة ... في ثراها إنها قدس )
قال وأدخلوني إلى بستان الخليفة المستنصر فوجدته في غاية الحسن كأنه الجنة ورأيت على بابه بوابا في غاية القبح فلما سألني الوزير عن حال فرجتي قلت رأيت الجنة إلا أني سمعت أن الجنة يكون على بابها رضوان وهذه على بابها مالك فضحك وأخبر الخليفة بما جرى فقال له قل له إنا قصدنا ذلك فلو كان رضوان عليها بوابا لخشينا أن يرده عنها ويقول له ليس هذا موضعك ولما كان هناك مالك أدخله فيها وهو لا يدري ما وراءه ويخيل أنها جهنم قال فلما أعلمني الوزير بذلك قلت له
( الله أعلم حيث يجعل رسالته )
وكان في زمان الياس بن المدور اليهودي الطبيب الرندي طبيب آخر كان يجري بينهما من المحاسدة ما يجري بين مشتركين في صنعة فأصلح الناس بينهما مرارا وظهر لإلياس من ذلك الرجل الطبيب ما ينفر الناس منه فكتب إليه

( لا تخدعن فما تكون مودة ... ما بين مشتركين أمرا واحدا )
( انظر إلى القمرين حين تشاركا ... بسناهما كان التلاقي واحدا )
يعني أنهما معا لما اشتركا في الضياء وجب التحاسد بينهما والتفرقة هذا يطلع ليلا وهذه تطلع نهارا واعتراضهما يوجب الكسوف
وكتب أيوب بن سليمان المرواني إلى بسام بن شمعون اليهودي الوشقي في يوم مطير لما كنت وصل الله تعالى إخاءك وحفظك مطمح نفسي ومنزع اختياري من ابناء جنسي على جوانبك أميل وأرتع في رياض خلقك الجميل هزتني خواطر الطرب والارتياح في هذا اليوم المطير الداعي بكاؤه إلى ابتسام الأقداح واستنطاق البم والزير فلم أر معينا على ذلك ومبلغا إلى ما هنالك إلا حسن نظرك وتجشمك من المكارم ما جرت به عادتك وهذا يوم حرم الطرف فيه الحركة وجعل في تركها الخير والبركة فهل توصل مكرمتك أخاك إلى التخلي معك في زاوية متكئا على دن مستندا إلى خابية ونحن خلال ذلك نتجاذب أهداب الحديث الذي لم يبق من اللذات إلى هو ونجيل الألحاظ فيما تعودت عندك من المحاسن والأسماع في اصناف الملاهي وأنت على ذلك قدير وكرمك بتكلفه جدير
( ولا يعين المرء يوما على ... راحته إلا كريم الطباع )
( وها أنا والسمع مني إلى الباب ... وذو الشوق حليف استماع )
( فإن أتى داع بنيل المنى ... ودع أشجاني ونعم الوداع ) وهذا المرواني من ذرية عبد العزيز أخي عبد الملك بن مروان وهو من أهل المائة السادسة

وكانت الأندلس شاعرة من اليهود يقال لها قسمونة بنت إسماعيل اليهودي وكان أبوها شاعرا واعتنى بتأديبها وربما صنع من الموشحة قسما فأتمتها هي بقسم آخر وقال لها أبوها يوما أجيزي
( لي صاحب ذو بهجة قد قابلت ... نعمى بظلم واستحلت جرمها )
ففكرت غير كثير وقالت
( كالشمس منها البدر يقبس نوره ... أبدا ويكسف بعد ذلك جرمها ) فقام كالمختبل وضمها إليه وجعل يقبل رأسها ويقول أنت والعشر كلمات أشعر مني ونظرت في المرآة فرأت جمالها وقد بلغت أوان الترزويج ولم تتزوج فقالت
( أرى روضة قد حان منها قطافها ... ولست أرى جان يمد لها يدا )
( فوا أسفا يمضي الشباب مضيعا ... ويبقى الذي ما إن أسميه مفردا )
فسمعها أبوها فنظر في تزويجها وقالت في ظبية عندها
( يا ظبية ترعى بروض دائما ... إني حكيتك في التوحش والحور )
( أمسى كلانا مفردا عن صاحب ... فلنصطبر أبدا على حكم القدر )
واستدعى أبو عبد الله محمد بن رشيق القلعي ثم الغرناطي بعض أصحابه إلى أنس بقوله
( سيدي عندي أترجج ... ونارنج وراح )

( وجنى آس وزهر ... وحمانا لا يباح )
( ليس إلا مطرب يسلي ... الندامى والملاح )
( ومكان لانهتاك ... قد نأى عنه الفلاح )
( لا يرى يطلع فيه ... دون أكواس صباح )
( فيه فتيان لهم في ... لذة العيش جماح )
( طرحوا الدنيا يسارا ... فاستراحت واستراحوا )
( لا كقوم أوجعتهم ... لهم فيها نباح ) وله
( قال العذول إلى كم ... تدعو لمن لا يجيب )
( فقلت ليس عجيبا ... أن لا يجيب حبيب )
( هون عليك فإني ... من حبه لا أتوب )
قال ابو عمران بن سعيد دخلت عليه وهو مسجون بدار الأشراف بإشبيلية وقد بقي عليه من مال السلطان اثنا عشر ألف دينار قد أفسدها في لذات نفسه فلما لمحني أقبل يضحك ويشتغل بالنادر والحكايات الطريفة فقلت له قالوا إنك أفسدت للسلطان اثني عشر ألف دينار وما احسبك إلا زدت على هذا العدد لما أراك فيه من المسرة والاستبشار فزاد ضحكا وقال يا أبا عمران أتراني إذا لزمت الهم والفكر يرجع علي ذلك العدد الذي أفسدت ثم فكر ساعة وأنشدني
( ليس عندي من الهموم حديث ... كلما ساءني الزمان سررت )
( أتراني أكون للدهر عونا ... فإذا مسني بضر ضجرت )

( غمرة ثم تنجلي فكأني ... عند إقلاع همها ما ضررت )
وقال النحوي اللغوي أبو عيسى لب بن عبد الوارث القلعي
( بدا ألف التعريف في طرس خده ... فيا هل تراه بعد ذاك ينكر )
( وقد كان كافورا فهل أنا تارك ... له عند ما حياه مسك وعنبر )
( وما خير روض لا يرف نباته ... وهل أفتن الأثواب إلا المشهر )
وقال
( أبى لي أن أقول الشعر أني ... أحاول أن يفوق السحر شعري )
( وأن يصغي إليه كل سمع ... ويعلق ذكره في كل صدر )
قال الحجاري أخبرني أنه أحب أحد أولاد الأعيان ممن كان يقرأ عليه فلما خلا به شكا إليه ما يجده فقال له الصبيان يفطنون بنا فإذا أردت أن تقول شيئا فاكتبه لي في ورقة قال فلما سمعت ذلك منه تمكن الطمع مني فيه وكتبت له
( يا من له حسن يفوق به الورى ... صل هائما قد ظل فيك محيرا )
( وامنن علي بقبلة أو غيرها ... إن كنت تطمع في الهوى أن تؤجرا ) وكتبت بعدها من الكلام ما رأيته فلما حصلت الورقة عنده كتب إلي في غيرها أنا من بيت عادة أهله أن يكونوا اسم فاعل لا اسم مفعول وإنما أردت أن يحصل عندي خطك شاهدا على ما قابلتني به لئلا أشكوك إلى أبي فيقول لي حاش لله أن يقع الفقيه في هذا وإنما أنت خبيث رأيته يطالبك بالتزام الحفظ فاختلقت عليه لأخرجك من عنده فأبقى معذبا معك ومعه وإن

أنا أوقفته على خطك صدقني واسترحت ولكن لا أفعل هذا إلا إذا لم تنته عني وإن انتهيت فلا أخبر به أحدا قال ابن عبد الوارث فلما وقفت على خطه علمت قدر ما وقعت فيه وجعلت أرغب إليه في أن يرد الرقعة إلي فأبى وقال هي عندي رهن على وفائك بأن لا ترجع تتكلم في ذلك الشأن قال فكان والله يبطل القراءة فلا أجسر أكلمه لأني رأيت صيانتي وناموسي قد حصل في يده وتبت من ذلك الحين عن هذا وأمثاله
وقال جابر بن خلف الفحصي - وكان في خدمة عبد الملك بن سعيد وقرأ مع أبي جعفر بن سعيد وتهذب معه - يخاطبه حين عاثت الذئاب في غنمه
( أيا قائدا قد سما في العلا ... وساد علينا بذات وجد )
( غدا الذئب في غنمي عائثا ... وقد جئت مستعديا بالأسد )
وكثر عليه الدين فكتب إليه أيضا
( أفي أيامك الغر ... أموت كذا من الضر )
( وأخبط في دجى همي ... ووجهك طلعة الفجر ) فضحك وأدى دينه
ولما خلع أهل المرية طاعة عبد المؤمن وقتلوا نائبه ابن مخلوف قدموا عليهم أبا يحيى بن الرميمي ثم كان عليه من النصارى ما علم ففر إلى مدينة فاس وبقي بها ضائعا خاملا يسكن في غرفة ويعيش من النسخ فقال

( أمسيت بعد الملك في غرفة ... ضيقة الساحة والمدخل )
( تستوحش الأرزاق من وجهها ... فما تزال الدهر في معزل )
( النسخ بالقوت لديها ولا ... تقرعها كف أخ مفضل ) وأنشدها لبعض الأدباء فبينما هو ليلة ينسخ بضوء السراج إذا بالباب يقرع ففتحه فإذا شخص متنكر لا يعرفه وقد مد يده إليه بصرة فيها جملة دنانير وقال خذها من كف أخ لا يعرفك ولا تعرفه وأنت المفضل بقبولها فأخذها وحسن بها حاله
وقال له بعض هذا شعرك أيام خلعك فهل قلت أيام أمرك قال نعم لما قتل أهل المرية ابن مخلوف عامل عبد المؤمن وأكرهوني أن أتولى أمرهم قلت
( أرى فتنا تكشف عن لظاها ... رماد بالنفاق له انصداع )
( وآل بها النظام إلى انتثار ... وساد بها الأسافل والرعاع )
( سأحمل كل ما جشمت منها ... بصدر فيه للهول اتساع )
وأصل بني الرميمي من بني أمية ملوك الأندلس ونسبوا إلى رميمة قرية من أعمال قرطبة
وقال أبو بحر يوسف بن عبد الصمد
( فوصلت أقطارا لغير أحبة ... ومدحت أقواما بغير صلات )
( أموال أشعاري نمت فتكاثرت ... فجعلت مدحي للبخيل زكاتي ) وهذا من غريب المعاني

وفي بني عبد الصمد يقول بعض أهل عصرهم لما رأى من كثرة عددهم والتباسهم بالسلطان
( ملأت قلبي هموما مثل ما ... ملأ الدنيا بنو عبد الصمد كاثر الشيخ أبوهم آدما ... فغدا أكثر نسلا وولد )
( كلهم ذئب إذا آمنته ... والرعايا بينهم مثل النقد )
وكان الوزير الكاتب أبو جعفر أحمد بن عباس وزير زهير الصقلبي ملك ألمرية بذ الناس في وقته بأربعة أشياء المال والبخل والعجب والكتابة قال أبن حيان وكان قبل محنته صير هجيراه أوقات لعب الشطرنج أو ما ينسخ له هذا البيت
( عيون الحوادث عني نيام ... وهضمي على الدهر شيء حرام )
وذاع هذا البيت في الناس حتى قلب له مصراعه الأخير بعض الأدباء فقال
( سيوقظها قدر لا ينام ... ) وكان حسن الكتابة جميل الخط مليح الخطاب غزير الأدب قوي المعرفة مشاركا في الفقه حاضر الجواب جماعا للدفاتر حتى بلغت أربعمائة ألف مجلد وأما الدفاتر المخرومة فلم يوقف على عددها لكثرتها وبلغ ماله خمسمائة ألف مثقال جعفرية سوى غير ذلك وكان مقتله بيد باديس بن حبوس ملك غرناطة وكفى دليلا على إعجابه قوله
( لي نفس لا ترتضي الدهر عمرا ... وجميع الأنام طرا عبيدا )
( لو ترقت فوق السماك محلا ... لم تزل تبتغي هناك صعودا )

( أنا من تعلمون شيدت مجدي ... في مكاني ما بين قومي وليدا )
وكان يتهم بداء أبي جهل فيما ينقل حتى كتب بعض الأدباء على برجه بالمرية
( خلوت بالبرج فما الذي ... تصنع فيه يا سخيف الزمان ) فلما نظر إليه أمر أن يكتب
( أصنع فيه كل ما أشتهي ... وحاسدي خارجه في هوان )
وكان الأعمى التطيلي شاعرا مشهورا وكان الصبيان يقولون له ( ( تحتاج كحلا يا أستاذ ) ) فكان ذلك سبب انتقاله من مرسية وقيل له يا أبا بكر كم تقع في الناس فقال أنا أعمى وهم لا يبرحون حفرا فما عذري في وقوعي فيهم فقال له السائل والله لا كنت قط حفرة لك وجعل يواليه بره ورفده ومن شعره
( وجوه تعز على معشر ... ولكن تهون على الشاعر )
( قرونهم مثل ليل المحب ... وليل المحب بلا آخر ) وله
( زنجيكم بالفسوق داري ... يدلي من الحرص كالحمار )
( يخلو بنجل الوزير سرا ... فيولج الليل في النهار )

ومن شعر أبي جعفر أحمد بن الخيال الإستبي كاتب ابن الأحمر فيمن اسمه ( ( فضل الله ) )
( من الناس من يؤتى بنقد ومنهم ... بكره ومنهم من يناك إذا انتشى )
( ومنهم فتى يؤتى على كل حالة ... وذلك فضل الله يؤتيه من يشا )
ولعبد الملك بن سعيد الخازن
( ما حمدناك إذ وقفنا ببابك ... للذي كان من طويل حجابك )
( قد ذممنا الزمان فيك فقلنا ... أبعد الله كل دهر أتى بك )
وقال في المسهب كنت بمجلس القاضي ابن حمدين وقد أنشده شعراء قرطبة وغيرها وفي الجملة هلال شاعر غرناطة ومحمد بن الإستجي شاعر إستجة الملقب بزحكون فقام الإستجي وأنشده قصيدة منها
( إليك ابن حمدين انتخلت قصائدا ... بها رقصت في القضب ورق الحمائم )
( أنا العبد لكن بالمودة أشترى ... إذا كان غيري يشترى بالدراهم ) فشكره ابن حمدين ونبه على مكان الإحسان فحسده هلال البياني على ذلك فلما فرغ من القصيدة قال له هلال أعد علي البيت الذي فيه ( ( رقص الحمام ) ) فأعاده فقال له لو أزلت النقطة عن الخاء كنت تصدق فقال له في الحين ولو أزلت النقطة عن العين كنت تحسن
وكانت على عين هلال نقطة فكان ذلك من الاتفاق العجيب والجواب الغريب وعمل فيه

ولما قال المقدم بن المعافى في رثاء سعيد بن جودي
( من ذا الذي يطعم أو يكسو ... وقد حوى حلف الندى رمس )
( لا اخضرت الأرض ولا أورق العود ... ولا أشرقت الشمس )
( بعد ابن جودي الذي لن ترى ... أكرم منه الجن والإنس ) فقيل له اترثيه وقد ضربك فقال والله إنه نفعني حتى بذنوبه ولقد نهاني ذلك الأدب عن مضار جمة كنت أقع فيها على رأسي أفلا أرعى له ذلك والله ما ضربني إلا وأنا ظالم له أفأبقى على ظلمي له بعد موته وقيل له لم لا تهجو مؤمن بن سعيد فقال لا أهجو من لو هجا النجوم ما اهتدى أحد بها
وقال أبو مروان عبد الملك بن نظيف
( لا أشرب الراح إلا ... مع كل خرق كريم )
( ولست أعشق إلا ... ساجي الجفون رخيم )
ومدح هلال البياني ابن حمدين بقصيدة أولها
( عرج على ذاك الجناب العالي ... واحكم على الأموال بالآمال )
( فيه ابن حمدين الذي لنواله ... من كل أرض شد كل رحال )
فقال له القاضي ما هذا الوثوب على المدح من أول وهلة ألا تدري أنهم عابوا ذلك كما عابوا الطول أيضا وأن الأولى التوسط فقال يا سيدي اعذرني بما لك في قلبي من الإجلال والمحبة فإني كلما ابتدأت في مدحك

لم يتركني غرامي في اسمك إلى أن أتركه عند أول بيت فاستحسن ذلك منه وأحسن إليه
ومن هذه القصيدة )
( قاض موال برد ونواله ... فله جميع العالمين موالي )
وكان يهوى وسيما من متأدبي قرطبة فصنع فيه شعرا أنشده منه
( وكلت عيني برعي النجم في الظلم ... وعبرتي قد غدت ممزوجة بدم )
فقال له الغلام أنت لا تبرح بكوكب من عينك ليلا ولا نهارا وعاشقا وغير عاشق فخجل هلال وكان على عينه نقطة
وحكى ابن حيان أن الأمير
( عبد الرحمن عثرت به دابته وهو سائر في بعض أسفاره وتطأطأت فكاد يكبو لفيه ولحقه جزع وتمثل أثره بقول الشاعر
( وما لا ترى مما يقي الله أكثر ... )
وطلب صدر البيت فعزب عنه وأمر بالسؤال عنه فلم يوجد من يحفظه إلا الكاتب محمد بن سعيد الزجالي وكان يلقب بالأصمعي لذكائه وحفظه فأنشد الأمير
( ترى الشيء مما يتقى فتهابه ... )
فأعجب الأمير واستحسن شكله فقال له الزم السرداق وأعقب ابنا يسمى حامدا

وحضر مع الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في مجلس فيه رؤساء فعرض عليهم فرس مطهم فتمثل فيه عبد الواحد بقول امرئ القيس
( بريد السرى بالليل من خيل بربرا ... )
ففهم الزجالي بأنه عرض بأنه من البربر فلم يحتمل ذلك وأراد الجواب فقال مدبجا لما أراده ومعرضا أحسن عندي من ليل يسري بي فيه على مثل هذا يوم على الحال التي قال فيها القائل
ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر ) وإنما عرض للإسكندراني بأنه كان يشهد مجالس الراحات في أول أمره ومعرفة الغناء فقلق الوزير وشكاه إلى الحاجب عيسى بن شهيد فاجتمع مع الزجالي وأخذ معه في ذلك فحكى له الزجالي ما جرى من الأول إلى الآخر وأنشد
( وما الحر إلا من يدين بمثل ما ... يدان ومن يخفي القبيح وينصف )
( هم شرعوا التعريض قذفا فعندما ... تبعناهم لاموا عليه وعنفوا )
ومن نوادر ابنه حامد أنه غلط أمامه في قوله تعالى ( الزانية والزاني ) [ النورالآية2 ] بأن قال ( ( فانكحوهما ) ) فأنشده حامد
( أبدع القارئ معنى ... لم يكن في الثقلين )
( أمر الناس جميعا ... بنكاح الزانيين )
وقال لبعض أصحابه حينئذ أما سمعت ما أتى به إمامنا من تبديل الحدود وتضاحكا

وتراجم من المطمح
وكتب الوزير أبو عبد الله بن عبد العزيز إلى المنصور صاحب بلنسية ويعرف بالمنصور الصغير قطعة أولها
( يا أحسن الناس آدابا وأخلاقا ... وأكرم الناس أغصانا وأوراقا )
( ويا حيا الأرض لم نكبت عن سنني ... وسقت نحوي إرعادا وإبراقا )
( ويا سنا الشمس لم أظلمت في بصري ... وقد وسعت بلاد الله إشراقا )
( من أي باب سعت غير الزمان إلى ... رحيب صدرك حتى قيل قد ضاقا )
( قد كنت أحسبني من حسن رأيك لي ... أني أخذت على الأيام ميثاقا )
( فالآن لم يبق لي بعد انحرافك ما ... آسى عليه وأبدي منه إشفاقا )
فأجابه بهذه القطعة
( ما زلت أوليك إخلاصا وإشفاقا ... وأنثني عنك مهما غبت مشتاقا )
( وكان من أملي أن أقتنيك أخا ... فأخفق الأمل المأمول إخفاقا )
( فقلت غرس من الإخوان أكلؤه ... حتى أرى منه أثمارا وأيراقا )
( فكان لما زها أزهاره ودنت ... إثمارها حنظلا مرا لمن ذاقا )
( فلست أول إخوان سقيتهم ... صفوي وأعلقتهم بالقلب إعلاقا )
( فما جزوني بإحساني ولا عرفوا ... قدري ولا حفظوا عهدا وميثاقا )
والوزير المذكور قال في حقه في المطمح إنه وزير المنصور بن عبد العزيز ورب السبق في وده والتبريز ومنقض الأمور ومبرمها ومخمد الفتن ومضرمها اعتقل بالدهي واستقل بالأمر والنهي على انتهاض بين الأكفاء واعتراض المحو لرسومه والإعفاء فاستمر غير مراقب وأمر

ما شاء غير ممتثل للعواقب ينتضي عزائم تنتضى فإن ألمت من الأيام مظلمة أضا إلى أن أودى وغار منه الكوكب الأهدى فانتقل الأمر إلى ابنه أبي بكر فناهيك من أي عرف ونكر فقد أربى على الدهاة وما صبا إلى الظبية ولا إلى والمهاة واستقل بالهول يقتحمه والأمر يسديه ويلحمه فأي ندى ندى أفاض وأي أجنحة بمدى هاض فانقادت إليه الآمال بغير خطام ووردت من نداه ببحر طام ولم يزل بالدولة قائما وموقظا من بهجتها ما كان نائما إلى أن صار الأمر إلى المأمون بن ذي النون أسد الحروب ومسد الثغور والدروب فاعتمد عليه واتكل ووكل الأمر إلى غير وكل فما تعدى الوزارة إلى الرياسة ولا تردى بغير التدبير والسياسة فتركه مستبدا ولم يجد من ذلك بدا
وكان أبو بكر هذا ذا رفعة غير متضائلة وآراء لم تكن آفلة أدرك بها ما أحب وقطع غارب كل منافس وجب إلى أن طلحه العمر وأنضاه وأغمده الذي انتضاه فخلى الأمر إلى ابنيه فتلبدا في التدبير ولم يفرقا بين القبيل والدبير فغلب عليهما القادر بن ذي بالنون وجلب إليهما كل خطب ما خلا المنون فانجلوا بعدما القوا ما عندهم وتخلوا وكان لأبي عبد الله نظم مستبدع يوضع بين الجوانح ويودع انتهى المقصود من الترجمة
وكان للوزير أبي الفرج ابن مكبود قد أعياه علاجه وتهيأ للفساد مزاجه فدل على خمر قديمة فلم يعلم بها إلا عند حكم وكان وسيما وللحسن قسيما فكتب إليه
( أرسل بها مثل ودك ... أرق من ماء خدك )

( شقيقة النفس فانضح ... بها جوى ابني وعبدك )
وكتب رحمه الله تعالى معتذرا عما جناه منذرا
( ما تغيبت عنك إلا لعذر ... ودليلي في ذاك حرصي عليكا )
( هبك أن الفرار من عظم ذنب ... أتراه يكون إلا إليكا )
وقال في المطمح في حق أبي الفرج من ثنية رياسة وعترة نفاسة ما منهم إلا من تحلى بالإمارة وتردى بالوزارة وأضاء في آفاق الدول ونهض بين الخيل والخول وهو أحد أمجادهم ومتقلد نجادهم فاتهم أدبا ونبلا وباراهم كرما تخاله وبلا إلا أنه بقي وذهبوا ولقي من الأيام ما رهبوا فعاين تنكرها وشرب عكرها وجال في الآفاق واستدر أخلاف الأرزاق وأجال للرجاء قداحا متواليات الإخفاق فأخمل قدره وتوالى عليه جور الزمان وغدره فاندفعت آثاره وعفت أخباره وقد أثبت له بعض ما قاله وحاله قد أدبرت والخطوب إليه قد انبرت أخبرني الوزير الحكيم أبو محمد المصري وهو الذي آواه وعنده استقرت نواه وعليه كان قادما ولوكان منادما أنه رغب إليه في أحد الأيام أن يكون من جملة ندمائه وأن لا يحجب عنه وتكون منة من أعظم نعمائه فأجابه بالإسعاف واستساغ منه ما كان يعاف لعلمه بقلته وإفراط خلته فلما كان ظهر ذلك اليوم كتب إليه
( أنا قد أهبت بكم وكلكم هوى ... وأحقكم بالشكر مني السابق )
( فالشمس أنت وقد أظل طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجر صادق )

وقال الوزير أبو عامر بن مسلمة
( حج الحجيج منى ففازوا بالمنى ... وتفرقت عن خيفه الأشهاد ) ولنا بوجهك حجة مبرورة ... في كل يوم تنقضي وتعاد )
وقال الفتح في حقه ما صورته نبتة شرف باذخ ومفخر على ذوائب الجوزاء شامخ وزروا للخلفاء فانتجعتهم الأدباء واتبعتهم العظماء وانتسبت لهم النعماء وتنفست عن نور بهجتهم الظلماء وأبو عامر هذا هو جوهرهم المنتخل وجوادهم الذي لايبخل وزعيمهم المعظم وسلك مفخرهم المنظم وكان فتى المدام ومستفتي الندام وأكثر من النعت للراح والوصف وآثر الأفراح والقصف وأرى قينات السرور مجلوة وآيات الحسن متلوة وله كتاب سماه حديقة الارتياح في وصف حقيقة الراح واختص بالمعتضد اختصاصا جرعه رداه وصرعه في مداه فقد كان في المعتضد من عدم تحفظه للأرواح وتهاونه باللوام في ذلك واللواح فاطمأن إليه أبو عامر واغتر وأنس إلى ما بسم له من مؤانسته وافتر حتى أمكنته في اغتياله فرصة لم يعلق بها حصة ولم يضيق عليه إلا أنه زلت به قدمه فسقط في البحيرة وانكفا ولم يعلم به إلا بعدما طفا فأخرج وقد قضى وأدرج منه في الكفن حسام المجد منتضى فمن محاسنه قوله يصف السوسن وهو مما أبدع فيه وأحسن
( وسوسن راق مرآه ومخبره ... وجل في أعين النظار منظره )
( كأنه أكؤس البلور قد صنعت مسندسات تعالى الله مظهره )
( وبينها ألسن قد طوقت ذهبا ... من بينها قائم بالملك يؤثره )

إلى أن قال واجتمع بجنة بخارج إشبيلية مع إخوان له علية فبينما هم يديرون الراح ويشربون من كأسها الأفراح والجو صاح إذا بالأفق قد غيم وأرسل الديم بعدما كسا الجو بمطارف اللاذ وأشعر الغصون زهر قباذ والشمس منتقبة بالسحاب والرعد يبكيها بالانتحاب فقال
( يوم كأن سحابه ... لبست عمامات الصوامت )
( حجبت به شمس الضحى ... بمثال أجنحة الفواخت )
( والغيث يبكي فقدها ... والبرق يضحك مثل شامت )
( والرعد يخطب مفصحا ... والجو كالمحزون ساكت ) وخرج إلى تلك الخميلة والربيع قد نشر رداه ونثر على معاطف الغصون أنداه فأقام بها وقال
( وخميلة رقم الزمان أديمها ... بمفضض ومقسم ومشوب )
( رشفت قبيل الصبح ريق غمامة ... رشف المحب مراشف المحبوب ) وطردت في أكنافها ملك الصبا ... وقعدت واستوزرت كل أديب )
( وأدرت فيها اللهو حق مداره ... مع كل وضاح الجبين حسيب )
( وقال الوزير الكاتب أبو حفص أحمد بن برد
( قلبي وقلبك لا محالة واحد ... شهدت بذلك بيننا الألحاظ )

( فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا ... إن الحسود بمثل ذاك يغاظ ) وقال
( يا من حرمت لذاذتي بمسيره ... هذي النوى قد صعرت لي خدها )
( زود جفوني من جمالك نظرة ... والله يعلم إن رأيتك بعدها )
وقال في المطمح في ابن برد المذكور إنه غذي بالأدب وعلا إلى أسمى الرتب وما من أهل بيته إلا شاعر كاتب لازم لباب السلطان راتب ولم يزل في الدولة العامرية بسبق يذكر وحق لا ينكر وهو بديع الإحسان بليغ القلم واللسان مليح الكتابة فصيح الخطابة وله رسالة السيف والقلم وهو أول من قال بالفرق بينهما وشعره مثقف المباني مرهف كالحسام اليماني وقد أثبت منه ما يلهيك سماعا ويريك الإحسان لماعا فمن ذلك قوله يصف البهار
( تأمل فقد شق البهار كمائما ... وأبرز عن نواره الخضل الندي )
( مداهن تبر في أنامل فضة ... على أذرع مخروطة من زبرجد )
وله يصف معشوقا أهيف القد ممشوقا أبدى صفحة ورد وبدا في ثوب لازورد
( لما بدا في لازور ... دي الحرير وقد بهر )
( كبرت من فرط الجمال ... وقلت ما هذا بشر )
( فأجابني لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر )

وقال الوزير الكاتب أبو جعفر بن اللمائي
( ألما فديتكما نستلم ... منازل سلمى على ذي سلم )
( منازل كنت بها نازلا ... زمان الصبا بين جيد وفم )
( أما تجدن الثرى عاطرا ... إذا ما الرياح تنفسن ثم )
وقال في المطمح فيه إمام من أئمة الكتابة ومفجر ينبوعها والظاهر على مصنوعها بمطبوعها إذا كتب نثر الدر في المهارق ونمت فيه أنفاسه كالمسك في المفارق وانطوى ذكره على انتشار إحسانه وقسصر أمره مع امتداد لسانه فلم تطل لدوحته فروع ولا اتصل لها من نهر الإحسان كروع فاندفنت محاسنه من الإهمال في قبر وانكسرت الآمال بعدم بدائعه كسرا بعد جبر وكان كاتب علي بن حمود العلوي وذكر أنه كان يرتجل بين يديه ولا يروي فيأتي على البديه بما يتقبله المروي ويبديه فمن ذلك ما كتب به متفننا من ضمن رسالة روض القلم في فنائك مونق وغصن الأدب بمائك مورق وقد قذف بحر الهند درره وبعث روض نجد زهره فأهدى ذلك على يدي فلان الجاري في حمده على مباني قصده
وقال الوزير حسان بن مالك بن أبي عبدة في المهرجان
( أرى المهرجان قد استبشرا ... غداة بكى المزن واستعبرا )
( وسربلت الأرض أمواجها ... وجللت السندس الأخضرا )
( وهز الرياح صنابيرها ... فضوعت المسك والعنبرا )
( تهادى به الناس ألطافه ... وسامى المقل به المكثرا )

وقال في حقه في المطمح من بيت جلالة وعترة أصالة كانوا مع عبد الرحمن الداخل وتوغلوا معه في متشعبات تلك المداخل وسعوا في الخلافة حتى حضر مبايعها وكثر مشايعها وجدوا في الهدنة وانعقادها وأخمدوا نار الفتنة عند اتقادها فانبرمت عراها وارتبطت أولاها وأخراها فظهرت البيعة واتضحت وأعلنت الطاعة وأفصحت وصاروا تاج مفرقها ومنهاج طرقها وهو ممن بلغ الوزارة بعد ذلك وأدركها وحل مطلعها وفلكها مع اشتهار في اللغة والآداب وانخراط في سلك الشعراء والكتاب وإبداع لما ألف وانتهاض بما تكلف ودخل على المنصور وبين يديه كتاب ابن السري وهو به كلف وعليه معتكف فخرج وعمل على مثاله كتابا سماه ربيعة وعقيل جرد له من ذهنه أي سيف صقيل وأتى به منتسخا مصورا في ذلك اليوم من الجمعة الأخرى وأبرزه والحسن يتبسم عنه ويتفرى فسر به المنصور وأعجب ولم يغب عن بصره ساعة ولا حجب وكان له بعد هذه المرة حين أدجت الفتنة ليلها وأزجت إبلها وخيلها اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض واضطراب بين القوافي والمواضي كالحية النضناض ثم اشتهر بعد وافتر له السعد وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله
( سقى بلدا أهلي به وأقاربي ... غواد بأثقال الحيا وروائح
( وهبت عليهم بالعشي وبالضحى ... نواسم برد والظلال فوائح )
( تذكرتهم والنأي قد حال دونهم ... ولم أنس لكن أوقد القلب لافح )
( ومما شجاني هاتف فوق أيكة ... ينوح ولم يعلم بما هو نائح )
( فقلت اتئد يكفيك أني نازح ... وأن الذي أهواه عني نازح )
( ولي صبية مثل الفراخ بقفرة ... مضى حاضناها فاطحتها الطوائح )

( إذا عصفت ريح أقامت رؤوسها ... فلم يلقها إلا طيور بوارح )
( فمن لصغار بعد فقد أبيهم ... سوى سانح في الدهر لو عن سانح )
واستوزره المستظهر عبد الرحمن بن هشام أيام الفتنة فلم يرض بالحال ولم يمض في ذلك الانتحال وتثاقل عن الحضور في كل وقت وتغافل في ترك الغرور بذلك المقت وكان المستظهر يستبد بأكثر تلك الأمور دونه وينفرد مغيبا عنه شؤونه فكتب إليه
( إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيان مني مشهد ومغيب )
( فأصبحت تيميا وما كنت قبلها ... لتيم ولكن الشبيه نسيب )
وله رأت طالعا للشيب بين ذوائبي فباحت بأسرار الدموع السواكب )
( وقالت أشيب قلت صبح تجاربي ... أنار على أعقاب ليل نوائبي ) ولما مات رثاه الوزير أبو عامر ابن شهيد بقوله
( أفي كل عام مصرع لعظيم ... أصاب المنايا حادثي وقديمي )
( وكيف اهتدائي في الخطوب إذا دجت ... وقد فقدت عيناي ضوء نجوم )
( مضى السلف الوضاح إلا بقية ... كغرة مسود القميص بهيم )
( فإن ركبت مني الليالي هضيمة ... فقبلي ما كان اهتضام تميم )
( أبا عبدة إنا غدرناك عندما ... رجعنا وغادرناك غير ذميم )
( أنخذل من كنا نرود بأرضه ... ونكرع منه في إناء علوم )
( ويجلو العمى عنا بأنوار رأيه ... إذا أظلمت ظلماء ذات غيوم )
( كأنك لم تلقح بريح من الحجا ... عقائم أفكار بغير عقيم )
( ولم نعتمد مغناك غدوا ولم نزر ... رواحا لفصل الحكم دار حكيم )

وقال الوزير الفقيه أبو أيوب ابن أبي أمية
( أمسك دارين حياك النسيم به ... أم عنبر الشحر أم هذي البساتين )
( بشاطئ النهر حيث النور مؤتلق ... والراح تعبق أم تلك الرياحين )
وحلاه في المطمح بقوله واحد الأندلس الذي طوقها فخارا وطبقها بأوانه افتخارا ما شئت من وقار لا تحيل الحركة سكونه ومقدار يتمنى مخبر أن يكونه إذا لاح رأيت المجد مجتمعا وإذا فاه أضحى كل شيء مستمعا تكتحل منه مقل المجد وتنتحل المعالي أفعاله انتحال ذي كلف بها ووجد لو تفرقت في الخلق سجاياه لحمدت الشيم ولو استسقيت بمحياه لما استمسكت الديم ودعي للقضاء فما رضي وأعفي عنه فكأنه ما استقضي لديه تثبت الحقائق وتنبت العلائق وبين يديه يسلك عين الجدد ويدع اللدد اللدد وله أدب إذا حضر به فلا البحر إذا عصف ولا أبو عثمان إذا وصف مع حلاوة مؤانسة تستهوي الجليس وتهوي حيث شاءت بالنفوس وأما تحبيره وإنشاؤه ففيهما للسامع تحييره وانتشاؤه وقد اثبت له بدعا يثني إليها الإحسان جيدا وأخدعا فمن ذلك قوله في منزل حله متنزها
( يا منزل الحسن أهواه وآلفه ... حقا لقد جمعت في صحنك البدع )
( لله ما اصطنعت نعماك عندي في ... يوم نعمت به والشمل مجتمع )
وحل منية صهره الوزير أبي مروان بن الدب بعدوة إشبيلية المطلة على النهر المشتملة على بدائع الزهر وهو معرس ببنته فأقام بها أياما متأنسا

ولجذوة السرور مقتبسا فوالى عليه من التحف وأهدى إليه من الطرف ما غمر كثرة وبهر نفاسة وأثرة فلما ارتحل وقد اكتحل من حسن ذلك الموضع بما اكتحل كتب إليه
( قل للوزير وأين الشكر من منن ... جاءت على سنن تترى وتتصل )
( غشيت مغناك والروض الأنيق به ... يندى وصوب الحيا يهمي وينهمل )
( وجال طرفي في أرجائه مرحا ... وفق اجتيازي يستعلي ويستفل )
( ندعو بلفتته حيث ارتمى زهر ... عليه من منثني أفنانه كلل )
( محل أنس نعمنا فيه آونة ... من الزمان وواتانا به الأمل )
وحل بعد ذلك متنزها بها على عادته فاحتفل في موالاة ذلك البر وإعادته فلما رحل كتب إليه
( يا دار أمنك الزمان ... صروفه ونوائبه )
( وجرت سعودك بالذي ... يهوى نزيلك آيبه )
( فلنعم مأوى الضيف أنت ... إذا تحاموا جانبه )
( خطر شأوت به الديار وأذعنت لك قاطبه )
وصنع له ولد ابن عبد الغفور رسالة سماها ب الساجعة حذا بها حذو أبي العلاء المعري في الصاهل والشاحج وبعث بها إليه فعرضها عليه فأقامت عنده أياما ثم استدعاها منه فصرفها إليه وكتب معها بكر زففتها أعزك الله تعالى نحوك وهززت بمقدمها سناك وسروك فلم ألفظها عن شبع ولا

جهلت ارتفاعها عما يجتلي من نوعها ويستمع ولكن لما أنسته من أنسك بانتجاعها وحرصك على ارتجاعها دفعت في صدر الولوع وتركت بينها وبين مجاثمها تلك الربوع حيث الأدب غض وماء البلاغة مرفض فأسعد أعزك الله بكرتها وسلها عن أفانين معرتها بما تقطفه من ثمارك وتغرفه من بحارك وترتاح له ولإخوانه من نتائج أفكارك وإنها لشنشنة أعرفها فيكم من أخزم وموهبة حزتموها وأحرزتم السبق فيها منذ كم انتهى
وابن عبد الغفور هو الوزير أبو القاسم الذي قال فيه الفتح فتى زكا فرعا وأصلا وأحكم البلاغة معنى وفصلا وجرد من ذهنه على الأعراض نصلا قدها به وفراها وقدح زند المعالي حتى أوراها مع صون يرتديه ولا يكاد يبديه وشبيبة ألحقته بالكهول فأقفرت منه ربعها المأهول وشرف ارتداه وسلف اقتفى أثره الكريم واقتداه وله شعر بديع السرد مفوف البرد وقد أثبت له منه ما ألفيت وبالدلالة عليه أكتفيت فمن ذلك قوله
( تركت التصابي للصواب وأهله ... وبيض الطلى للبيض والسمر للسمر )
( مدامي مدادي والكؤوس محابري ... وندماي أقلامي ومنقلتي سفري ) وله
( لا تنكروا أننا في رحلة أبدا ... نحث في نفنف طورا وفي هدف
( فدهرنا سدفة ونحن أنجمها ... وليس ينكر مجرى النجم في السدف )
( لو أسفر الدهر لي أقصرت عن سفري ... وملت عن كلفي بهذه الكلف )

حذف

وله من قصيدة
( رويدك يا بدر التمام فإنني ... أرى العيس حسرى والكواكب ظلعا )
( كأن أديم الصبح قد قد أنجما ... وغودر درع الليل فيها مرقعا )
( فإني وإن كان الشباب محببا ... إلي وفي قلبي أجل وأوقعا )
( لآنف من حسن بشعري مفترى ... وآنف من حسن بشعري قنعا )
وقال الوزير أبو الوليد بن حزم
( إليك أبا حفص وما عن ملالة ... ثنيت عناني والحبيب حبيب )
( مقالا يطير الجمر عن جنباته ... ومن تحته قلب عليك يذوب )
( مضت لك في أفياء ظلي صولة ... لها بين أحناء الضلوع دبيب )
( ولكن أبى إلا إليك التفاته ... فزاد عليه من هواك رقيب )
( وكم بيننا لو كنت تحمد ما مضى ... إذ العيش غض والزمان قشيب )
( وتحت جناح الغيم أحشاء روضة ... بها لخفوق العاصفات وجيب )
( وللزهر في ظل الرياض تبسم ... وللطير منها في الغصون نحيب ) وقال في الزهد
( ثلاث وستون قد جزتها ... فماذا تؤمل أو تنتظر )
( وحل عليك نذير المشيب ... فما ترعوي أو فما تزدجر )
( تمر لياليك مرا حثيثا ... وأنت على ما أرى مستمر )
( فلو كنت تعقل ما ينقضي ... من العمر لاعتضت خيرا بشر )
( فما لك تستعد إذن ... لدار المقام ودار المقر )
( أترغب عن فجأة للمنون ... وتعلم أن ليس منها مفر )

( فإما فإما إلى جنة أزلفت ... وإما إلى سقر تستعر )
وقال ابن أبي زمنين
( الموت في كل حين ينشر الكفنا ... ونحن في غفلة عما يراد بنا )
( لا تطمئن إلى الدنيا وبهجتها ... وإن توشحت من أثوابها الحسنا )
( أين الأحبة والجيران ما فعلوا ... أين الذين هم كانوا لنا سكنا )
( سقاهم الموت كأسا غير صافية ... فصيرتهم لأطباق الثرى رهنا )
( تبكي المنازل منهم كل منسجم ... بالمكرمات وترثي البر والمننا )
( حسب الحمام لو ابقاهم وأمهلهم ... أن لا يظن على معلوة حسنا )
وقال في المطمح الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي زمنين فقيه متبتل وزاهد لا منحرف إلى الدنيا ولا منفتل هجرها هجر المنحرف وحل أوطانه فيها محل المعترف لعلمه بارتحاله عنها وتفويضه وإبداله منها وتعويضه فنظر بقلبه لا بعينه وانتظر يوم فراقه وبينه ولم يكن له بعد ذلك بها اشتغال ولا في شعاب تلك المسالك إيغال وله تآليف في الوعظ والزهد وأخبار الصالحين تدل على تخليته عن الدنيا واتراكه والتفلت من حبائل الاغترار وأشراكه والتنقل من حال إلى حال والتأهب للارتحال ويستدل به على ذلك الانتحال فمنها قوله
( الموت في كل حين ينشر الكفنا ... فذكر الأبيات

وقال خلف بن هارون يمدح الحافظ أبا محمد بن حزم
( يخوض إلى المجد والمكرمات ... بحار الخطوب وأهوالها )
( وإن ذكرت للعلا غاية ... ترقى إليها وأهوى لها ) وقال في المطمح فيه فقيه مستنبط ونبيه بقياسه مرتبط ما تكلم تقليدا ولا عدا اختراعا وتوليدا ما تمنت به الأندلس أن تكون كالعراق ولا حنت الأنفس معه إلى تلك الآفاق أقام بوطنه وما برح عن عطنه فلم يشرب ماء الفرات ولم يقف عيشة الثمرات ولكنه أربى على من من ذلك غذي وأزرى على من هنالك نعل وحذي تفرد بالقياس واقتبس نار المعارف أي اقتباس فناظر بها أهل فاس وصنف وحبر حتى أفنى الأنقاس ونابذ الدنيا وقد تصدت له بأفتن محيا وأهدت إليه أعبق عرف وريا وخلع الوزارة وقد كسته ملاها وألبسته حلاها وتجرد للعلم وطلبه وجد في اقتناء نخبه وله تآليف كثيرة وتصانيف أثيرة منها الإيصال إلى فهم كتاب الخصال وكتاب الإحكام لأصول الأحكام وكتاب الفصل في الأهواء والملل والنحل وكتاب مراتب العلوم وغير ذلك مما لم يظهر مثله من هنالك مع سرعة الحفظ وعفاف اللسان واللحظ وفيه يقول خلف بن هارون
( يخوض إلى المجد والمكرمات ... ) ولابن حزم في الأدب سبق لا ينكر وبديهة لا يعلم أنه روى فيها ولا

فكر وقد أثبت من شعره ما يعلم أنه أوحد وما مثله فيه أحد ثم ذكر جملة من نظمه ذكرناها في غير هذا الموضع
وكتب أبو عبد الله بن مسرة إلى أبي بكر الؤلؤي يستدعيه في يوم طين ومطر لقضاء أرب من الأنس ووطر
( أقبل فإن اليوم يوم دجن إلى مكان كالضمير مكني )
( لعلنا نحكم أشهى فن فأنت في ذا اليوم أمشى مني )
وقال في المطمح إن ابن مسرة كان على طريق من الزهد والعبادة سبق فيها وانتسق في سلك مقتفيها وكانت له إشارة غامضة وعبارة عن منازل الملحدين غير داحضة ووجدت له مقالات ردية واستنباطات مردية نسب بها إليه رهق وظهر له فيها مزحل عن الرشد ومزهق فتتبعت مصنفاته بالحرق واتسع في استباحتها الخرق وغدت مهجورة على التالين محجورة وكان له تنميق في البلاغة وتدقيق لمعانيها وتزويق لأغراضها وتشييد لمبانيها انتهى
وهو من نمط الصوفية الذين تكلم فيهم والتسليم أسلم والله تعالى بأمرهم أعلم
ومن حكايات أهل الأندلس في الانقباض عن السلطان والفرار من المناصب مع العذر اللطيف ما حكاه في المطمح في ترجمة الفقيه أبي عبد الله الخشني إذ قال كان فصيح اللسان جزيل البيان وكان أنوفا منقبضا عن السلطان لم يتشبث بدنيا ولم ينكث له مبرم عليا دعاه الأمير محمد إلى

القضاء فلم يجب ولم يظهر رجاءه المحتجب وقال أبيت عن إمامة هذه الديانة كما أبت السموات والأرض عن حمل الأمانة إباية إشفاق لا إباية عصيان ونفاق وكان الأمير قد أمر الوزراء بإجباره أو حمل السيف إن تمادى على تأبيه وإصراره فلما بلغه قوله هذا أعفاه قال وكان الغالب عليه علم النسب واللغة والأدب ورواية الحديث وكان مأمونا ثقة وكانت القلوب على حبه متفقة وله رحلة دخل فيها العراق ثم عاد إلى هذه الآفاق وعندما اطمأنت داره وبلغ أقصى مناه مداره قال
( كأن لم يكن بين ولم تك فرقة ... )
الأبيات انتهى وهذه الأبيات قدمناها في الباب الخامس في ترجمة القاضي ابن أبي عيسى
فأنت ترى كلام الفتح قد اضطرب في نسبتها فمرة نسبها إلى هذا ومرة نسبها إلى ذاك وهي قطعة عرفها ذاك
ومن دعابات أهل الأندلس وملحهم ما يحكى عن ابن أبي حلى وهو علي ابن أبي حلى المكناسي أبو الحسن قال لسان الدين كان شيخا مليح الحديث حافظا للمسائل الفقهية قائما على المدونة مضطلعا بمشكلاتها كثير الحكايات يحكي أنه شاهد غرائب وتملحا فينمقها عليه بعض الطلبة ويتعدون ذلك إلى الافتعال والمداعبة حتى جمعوا من ذلك جزءا سموه السالك والمحلى في أخبار ابن أبي حلى فمن ذلك أنه كانت له هرة فدخل البيت يوما فوجدها قد بلت إحدى يديها وجعلتها في الدقيق حتى علق بها ونصبتها

بإزاء كوة فأر ورفعت اليد الأخرى لصيده فناداها باسمها فردت رأسها وجعلت إصبعها على فمها على هيئة المشير بالصمت وأشباه ذلك وتوفي المذكور سنة 406 قاله في الإحاطة ومن أجوبة ملوك الأندلس أن نزارا العبيدي صاحب مصر كتب إلى المرواني صاحب الأندلس كتابا يسبه فيه ويهجوه فكتب إليه المرواني أما بعد فإنك عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك والسلام فاشتد ذلك على نزار وأفحمه عن الجواب وحكي أنه كتب إلى العبيدي ملك مصر مفتخرا [ الطويل ] ألسنا بني مروان كيف تبدلت بنا الحال أو دارت علينا الدوائر إذا ولد المولود منا تهللت له الأرض واهتزت إليه المنابر من شجاعة الأندلسيين 330 من شجاعة الأندلسيين ومن غريب ما يحكى من قوة أهل الأندلس وشجاعتهم أن الأمير حريز بن عكاشة من ذرية عكاشة بن محصن صاحب رسول الله لما نزل بساحة أذفونش ملك الروم فبدأهم بخراب ضياعها وقطع الشجر فكتب إليه حريز ليس من أخلاق القدير الفساد والتدمير فإن قدرت على البلاد أفسدت ملكك ولو كان الملك في عشرة أمثال عددي لم ينزل لي بساحة ولا تمكن منها براحة فلما وصلته الرسالة عف وأمر بالكف وبعث الملك يرغبه في الاجتماع به فاسترهنه في نفسه عدة من ملوك

الروم فأجاب إلى ما ارتهن ولما صاروا بالمدينة البيضاء - وهي قلعة رباح غربي طليطلة - خرج حريز لابسا لأمة حربه يرمق الروم منه شخصا أوتي بسطة في الجسم والبسالة يتعجبون من آلات حربه ويتحدثون بشجاعة قلبه ولما وصل فسطاط الملك تلقته الملوك بالرحب والسعة ولما أراد النزول عن فرسه ركز رمحه فأبصر الملك منه هيئة تشهد له بما عنه حدث وهيبة يجزع للقائها الشجاع ويكترث فدعاه إلى البراز عظيم أبطالهم فقال له الملك يا حريز أريد أن أنظر إلى مبارزتك هذا البطل فقال له حريز المبارز لا يبارز إلا أكفاءه وإن لي بينة على صدق قولي أن ليس لي فيهم كفء هذا رمحي قد ركزته فمن ركب واقتلعه بارزته كان واحدا أو عشرة فركب عظيمهم فلم يهز الرمح من مكانه حين رامه ثم فعل ذلك مرارا فقال له الملك أرني يا حريز كيف تقلعه فركب وأشار بيده واقتلعه فعجب القوم ووصله الملك وأكرمه انتهى
وكان حريز هذا شاعرا ولما اجتاز به كاتب ابن ذي النون الوزير أبو المطرف ابن المثنى كتب إليه
( يا فريدا دون ثان ... وهلالا في العيان )
( عدم الراح فصارت ... مثل دهن البلسان )
فجاوبه حريز وهو يومئذ أمير قلعته
( يا فريدا لا يجارى ... بين أبناء الزمان )
( جاء من شعرك روض ... جاده صوب البيان )
( فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان )

وكان لحريز كاتب يقال له عبد الحميد بن لاطون فيه تغفل شديد فأمره أن يكتب إلى المأمون بن ذي النون في شأن حصن دخله النصارى فكتب وقد بلغني أن الحصن الفلاني دخله النصارى إن شاء الله تعالى فهذه الواقعة التي ذكرها الله تعالى في القرآن بل هي الحادثة الشاهدة بأشراط الزمان فإنا لله على هذ المصيبة التي هدت قواعد المسلمين وأبقت في قلوبهم حسرة إلى يوم الدين
فلما وصل الكتاب للمأمون ضحك حتى وقع للأرض وكتب لابن عكاشة جوابه وفيه وقد عهدناك منتقيا لأمورك نقادا لصغيرك وكبيرك فكيف جاز عليك أمر هذا الكاتب الأبله الجلف واسندت إليه الكتب عنك دون أن تطلع عليه وقد علمت أن عنوان الرجل كتابه ورائد عقله خطابه وما أدري من أي شيء يتعجب منه هل من تعليقه إن شاء الله تعالى بالماضي أم من حسن تفسيره للقرآن ووضعه مواضعه أم من تورعه عن تأويله إلا بتوقيف من سماع عن إمام أم من تهويله لما طرأ على من يخاطبه أم من علمه بشأن هذا الحصن الذي لو أنه القسطنطينية العظمى ما زاد عن عظمه وهوله شيئا ولو أن حقيرا يخفى عن علم الله تعالى لخفي عنه هذا الحصن ناهيك عن صخرة حيث لا ماء ولا مرعى منقطع عن بلاد الإسلام خارج عن سلك النظام لا يعبره إلا لص فاجر أو قاطع طريق غير متظاهر حراسه لا يتجاوزون الخمسين ولا يرون خبز البر عندهم إلا في بعض السنين باعه أحدهم بعشرين دينارا ولعمري إنه لم يغبن في بيعه ولا ربح أرباب ابتياعه وأراح من الشين بنسبته والنظر في خداعه فليت شعري ما الذي عظمه في عين هذا الجاهل حتى خطب في أمره بما لم يخطب به في حرب وائل
فلما وقف حريز على الكتاب كتب لابن ذي النون جوابا منه وإن المذكور ممن له حرمة قديمة تغنيه عن أن يمت بسواها وخدمة محمود أولاها وأخراها ولسنا ممن اتسعت مملكته وعظمت حضرته فنحتاج إلى انتقاء الكتاب والتحفظ في الخطاب وإنما نحن أحلاس ثغور وكتاب كتائب

لا سطور وإن كان الكاتب المذكور لا يحسن فيما يلقيه على القلم فإنه يحسن كيف يصنع في مواطن الكرم وله الوفاء الذي تحدث به فلان وفلان بل سارت بشأنه في أقصى البلاد الركبان وليس ذلك يقدح عندنا فيه بل زاده لكونه دالا على صحة الباطن والسذاجة في الإكرام والتنويه انتهى
ولهذا الكاتب شعر يسقط فيه سقوط الأغبياء وقد يتنبه فيه تنبه الأذكياء فمنه قوله من قصيدة يمدح حريزا المذكور مطلعها
( يذكرني بهم العنبر ... وظلم ثناياهم سكر )
إلى أن قال
( ولولا معاليك يا ذا الندى ... لما كان في الأرض من يشعر )
( فلا تنكرن زحاما على ... ذراك وفي كفك الكوثر )
ومشى في موكبه وهم في سفر وكان في فصل المطر والطين فجعل فرسه في ذنب فرس ابن عكاشة فلما أثارت يدا فرسه طينا جاء في عنق أميره ففطن لذلك الأمير فقال له يا أبا محمد تقدم فقال معاذ الله أن أسيء الأدب بالتقدم على أميري فقال فإن كان كذلك فتأخر مع الخيل فقال مثلي لا يزال على ركابك في مثل هذه المواضع فقال له فقد والله أهلكتني بما ترمي يدا
( فرسك علي من الطين فقال أعز الله الأمير ! يعذرني علمت فوالله ما علمت أن يد فرسي تصل إلى عنقك فضحك ابن عكاشة حتى كاد يسقط عن مركوبه
وكان بسرقسطة غلام اسمه يحيى بن يطفت من بني يفرن قد نشأ عند ملكها المقتدر بن هود وتخلق بالركوب والأدب وكان في غاية الجمال والحلاوة والظرف فعلق بقلب ابن هود وكتم حبه زمانا فلم ينكتم فكتب له
( يا ظبي بالله قل لي متى ترى في حبالي

يمر عمري وحالي ... من خيبتي منك خالي )
فكتب له الغلام في ظهر الرقعة
( إن كنت ظبيا فأنت الهزبز ... تبغي اغتيالي )
( وليس يخطر يوما ... حلول غيل ببالي )
ثم كتب بعدهما هذا ما اقتضاه حكم الجواب في النظم وأنا بعد قد جعلت رسني بيد سيدي فعسى أن يقودني إلى ما أحب لا ما أكره والذي أحبه أن يكون بيننا من المحبة ما يقضي بدوام الإخلاص ونأمن في مغبته من العار والقصاص فتركه مدة ثم كتب له يوما على الصورة التي ذكرها
( ماذا ترى في يوم أمن طرزت ... حلل السحاب به البروق المذهبه )
( وأنا وكاسي لا جليس غيره ... ملآن لا يخلو إلى أن تشربه )
( والأنس إن يسرته متيسر ... ومتى تصعبه فيا ما أصعبه ) فأجابه
( يا مالكا بذ الملوك بعلمه ... وخلاله وعلوه في المرتبه )
( وافى نداك فحرت عند جوابه ... إذ ما تضمن ريبة مستغربه )
( إنا إذا نخلو تقول حاسد ... وغدا بهذا الأمر ينصر مذهبه )
( هبني إلى يوم تطيش به النهى ... والبيض تنضى والقنا متأشبه )
( وهناك فانظرني بعين بصيرة ... فالشبل يعرف أصله من جربه ) ثم أعلاه إلى درجة الوزارة والقيادة إلى أن قتل في جيش كان قدمه عليه فقال فيه من قصيدة
( يا صارما أغمدته ... عن ناظري الصوارم )

( وزهرة غيبتها ... من الطيور كمائم )
( يا كوكبا خر من أنجمي ... وأنفي راغم )
( بكت علي وشقت ... جيوبهن الغمائم )
( قل للحمائم إني ... أصبحت أحكي الحمائم )
( وأنثر الدمع مهما ... رأيت للزهر باسم )
( تالله لا لذ عيش 5 لمترف لك عادم ) ولما رحل الوزير عبد البر بن فرسان من وادي آش إلى علي الميورقي صاحب فتنة إفريقية أقبل عليه ثم ولي أخوه يحيى الإمارة بعده فأسند جميع أموره إليه فقال يخاطبه
( أجبنا ورمحي ناصري وحسامي ... وعجزا وعزمي قائدي وإمامي )
( ولي منك بطاش اليدين غضنفر ... يحارب عن أشباله ويحامي )
( ألا غنياني بالصهيل فإنه ... سماعي ورقراق الدماء مدامي )
( وحطا على الرمضاء رحلي فإنها ... )
( مهادي وخفاق البنود خيامي ... )
وكان الأمير أبو عبد الله بن مردنيش ملك شرق الأندلس من أبطال عصره وكان يدفع في المواكب ويشقها يمينا وشمالا منشدا
( أكر على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها )
حتى إنه دفع مرة في موكب النصارى فصرع منهم وقتل وظهر منه ما أعجبت به نفسه فقال لشخص من خواصه عالم بأمور الحرب كيف رأيت فقال لو رآك السلطان لزاد فيما لك في بيت المال وأعلى مرتبتك أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك من

معه فقال له دعني فإني لا أموت مرتين وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي
ومن حكاياتهم في الظرف أن القاضي أبا عبد الله محمد بن عيسى من بني يحيى بن يحيى خرج إلى حضور جنازة وكان لرجل من إخوانه منزل بقرب مقبرة قريش فعزم عليه في الميل إليه فنزل وأحضر له طعاما وغنت جارية
( طابت بطيب لثاتك الأقداح ... وزهت بحمرة وجهك التفاح )
( وإذا الربيع تنسمت أرواحه ... نمت بعرف نسيمك الأرواح )
( وإذا الحنادس ألبست ظلماءها ... فضياء وجهك في الدجى مصباح )
فكتبها القاضي طربا على ظهر يده قال الراوي فلقد رأيته يكبر على الجنازة والأبيات على ظهر يده
ومن حكاياتهم في البلاغة ما ذكره في المطمح أن أبا الوليد بن عيال لما انصرف من الحج اجتمع مع أبي الطيب في مسجد عمرو بن العاص بمصر ففاوضه قليلا ثم قال له أنشدني لمليح الأندلس يعني ابن عبد ربه فأنشده
( يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتعذيب القلوب رفيقا )
( ما إن رأيت ولا سمعت بمثله درا ... يعود من الحياء عقيقا )
( وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا )
( يا من تقطع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا )

فلما كمل إنشادها استعادها ثم صفق بيديه وقال يا ابن عبد ربه لقد تأتيك العراق حبوا انتهى
وقال مؤلف كتاب واجب الأدب مما يجب حفظه من مخترعات الأندلسيين قول ابن عبد ربه
( يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا )
( ما كنت أقطع أن لحظك صارم حتى حملت من العذار حمائلا )
وحكي أن الوزير أبا الوليد بن زيدون توفيت ابنته وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم فقيل إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد قال الصفدي وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام وهو أمر صعب إلى الغاية وأرى أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء وهذا كثير في كلام العرب فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساع أو صافن أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهذم أو غير ذلك وأما ابن زيدون فأقول في حقه إنه أقل ما كان في تلك الجنازة وهو وزير ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له ويضطر إلى ذلك فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر وهذا كثير إلى الغاية لا سيما من محزون فقد

قطعة من كبده
( ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب ) وقد استعمل الحريري هذا في مقاماته عندما يذكر طلوع الفجر وهو من القدرة على الكلام وأرى الخطيب ابن نباتة ممن لا يلحق في هذا الباب فإنه أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها ( يا أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه راجعون ) وهذا أمر بارع معجز والناس يذهلون عن هذه النكتة فيه انتهى كلام الصفدي ملخصا
وقال في الوافي بعد ذكره جملة من أحوال ابن زيدون ما نصه وقال بعض الأدباء من لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف
وكان يسمى بحتري المغرب لحسن ديباجة نظمه وسهولة معانيه انتهى
رجع إلى كلام أهل الأندلس وكان الأديب المحدث أبو الربيع سليمان بن علي الشلبي الشهير بكثير يهوى من يتجنى عليه ويقول إنه أبرد من الثلج فخاطبه كثير بقوله
( يا حبيبا له كلام خلوب ... قلبت في لظى هواه القلوب ) كيف تعزو إلى محبك بردا ... ومن الحب في حشاه لهيب )
( أنت شمس وقلت إني ثلج ... فلهذا إذا طلعت أذوب )

وقال ابن مهران مما يشتمل على أربعة أمثال
( المال زين والحياة شهية ... والجود يفقر والشجاعة تقتل )
( والبخل عيب والجبان مذمم ... والقصد أحكم والتوسط أجمل )
وقال ابن السيد البطليوسي متغزلا
( نفسي الفداء لجؤذر حلو اللمى ... مستحسن بصدوده أضناني )
( في فيه سمطا جوهر يروي الظما ... لو علني ببروده أحياني )
ويخرج من هذه القطعة عدة قطع
وقال ابن صارة مضمنا
( إلى كم ينفد الدينار مني ... ويطلب كف من عنه يحيد )
( ألم أنشده في وادي هيامي ... به لو كان يعطفه النشيد )
( حبيبي أنت تعلم ما أريد ... ولكن لا ترق ولا تجود )
( وكم غنيت حين تنكبتني ... منى شيطانها أبدا مريد ) ( يريد المرء أن يؤتى مناه ... ويأبى الله إلا ما يريد )
وقال ذو الرياستين أبو مروان عبد الملك بن رزين
( بالله إن لم تزدجر ... يا مشبه البدر المنير )

( أسرحن نواظري ... في ذلك الورد النضير )
( ولآكلنك بالمنى ... ولأشربنك بالضمير )
وقال ابن عبد ربه
( اشرب على المنظر الأنيق ... وامزج بريق الحبيب ريقي )
( واحلل وشاح الكعاب رفقا ... خوفا على خصرها الرقيق )
( وقل لمن لام في التصابي ... خل قليلا عن الطريق )
وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من بلاغة أهل الأندلس في الجد والهزل ما فيه مقنع لمن ومن حكاياتهم في عدم احتمال الضيم والذل والوصف بالأنفة أنه لما ثار أيوب بن مطروح في المائة الخامسة في الفتنة على ملك غرناطة عبد الله بن بلقين بن حبوس وخاض بحار الفتنة حتى رماه موجها فيمن رمى على الساحل وحصل فيما بث عليهم يوسف بن تاشفين من الحبائل وكانت له همة وأنفة عظيمة وخلع عن إمارته وحصل في حبالته أدخل رأسه تحته فانتظر من حضر معه أن يتكلم أو يخرج رأسه فلم يكن إلا قليل حتى وقع ميتا رحمه الله تعالى
ولما ثار الميورقي بإفريقية على بني عبد المؤمن الثورة المشهورة وخدمه جملة من أعيان أهل الأندلس وكان من جملتهم مالك بن محمد بن سعيد العنسي كتب عنه من رسالة وبعد فإنا لا نحتاج لك إلى برهان على أمير لسانه الحسام وأيده التأييد الرباني الذي لا يرام قد نصب خيامه

بالبراح ولم يتخذ سورا غير سمر القنا وبيض الصفاح له من العزم ردء ومن الرأي كمين
( إذا صدق الحسام ومنتضيه ... فكل قرارة حصن )
حصين وهو من القوم الذين لا يجورون على جار ولا يرحلون بخزية ولا يتركون من عار دينهم دين التقوى وإن كنت من ذلك في شك فأقدم علينا حتى يصح لك اختبار الذهب بالسبك وأنت بالخيار في الظعن والإقامة فإن حللت نزلت خير منزل وإن رحلت ودعت أفضل وداع وسرت في كنف السلامة إذ قد شهرنا بأنا لا نقيد إلا بالإحسان وأن ندع لاختياره كل إنسان من
كرم الأندلسيين 339 من كرم الأندلسيين
ومن حكايات أهل الأندلس في الجود والفضل ومكارم الأخلاق أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد بن عباد فأدخلت عليه جملة من دنانير السكة فأمر له بخريطتين منها وبين يديه تصاوير عنبر من جملتها صورة جمل مرصع بنفيس الدر فقال أبو العرب ما يحمل هذه الدنانير إلا جمل فتبسم المعتمد وأمر له به فقال
( أعطيتني جملا جونا شفعت به ... حملا من الفضة البيضاء لو حملا )
( نتاج جودك في أعطان مكرمة ... لا قد تعف من منع ولا عقلا )
( فاعجب لشأني فشأني كله عجب ... رفهتني فحملت الحمل والجملا )
ومن نظم أبي العرب المذكور
( إلام اتباعي للأماني الكواذب ... وهذا طريق المجد بادي المذاهب )

( أهم ولي عزمان عزم مشرق ... وآخر يثني همتي للمغارب )
( ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على أخفافها والغوارب )
( إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي )
وذكر الحافظ الحجاري في المسهب أنه سأل عمه أبا محمد عبد الله بن إبراهيم عن أفضل من لقي من أجواد تلك الحلبة فقال يا ابن أخي لم يقدر أن يقضى لي الاصطحار بهم في شباب أمرهم وعنفوان رغبتهم في المكارم ولكن اجتمعت بهم وأمرهم قد هرم وساءت بتغير الأحوال ظنونهم وملوا الشكر وضجروا من المروءة وشغلتهم المحن والفتن فلم يبق فيهم فضل للإفضال وكانوا كما قال أبو الطيب
( أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم ) فإن يكن أتاه على الهرم فإنا أتيناه وهو في سياق الموت ثم قال ومع هذا فإن الوزير أبا بكر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى كان يحمل نفسه ما لا يحمله الزمان ويبسم في موضع القطوب ويظهر الرضى في حال الغضب ويجهد ألا ينصرف عنه أحد غير راض فإن لم يستطع الفعل عوض عنه القول
قلت له فالمعتمد بن عباد كيف رأيته فقال قصدته وهو مع أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في غزوته للنصارى المشهورة فرفعت له قصيدة منها
( لا روع الله سربا في رحابهم ... وإن رموني بترويع وإبعاد )
( ولا سقاهم على ما كان من عطش ... إلا ببعض ندى كف ابن عباد )
( ذي المكرمات التي ما زلت تسمعها ... أنس المقيم وفي الأسفار كالزاد )
( يا ليت
( شعري ماذا يرتضيه لمن ناداه ... يا موئلي في جحفل النادي )

فلما انتهيت إلى هذا البيت قال أما ما أرتضيه لك فلست أقدر في هذا الوقت عليه ولكن خذ ما ارتضى لك الزمان وأمر خادما له فأعطاني ما أعيش في فائدته إلى الآن فإني انصرفت به إلى المرية وكان يعجبني سكناها والتجارة بها لكونها ميناء لمراكب التجار من مسلم وكافر فتجرت فيها فكان إبقاء ماء وجهي على يديه رحمة الله تعالى عليه
ثم أخذ البطاقة وجعل يجيل النظر والفكر في القصيدة وأنا مترقب لنقده لكونه في هذا الشأن من أئمته وكثيرا ما كان الشعراء يتحامونه لذلك إلا من عرف من نفسه التبريز ووثق بها إلى أن انتهى إلى قولي
( ولا سقاهم على ما كان من عطش ... إلا ببعض ندى كف ابن عباد )
فقال لأي شيء بخلت عليهم أن يسقوا بكفه فقلت إذن كان يلحقني من النقد ما لحق ذا الرمة في قوله
( ولا زال منهلا بجرعائك القطر ... ) وكان طوفان نوح أهون عليهم من ذلك فتألقت غرته وبدت مسرته وقال إنا لله على أن لم يعنا الزمان على مكافأة مثلك
قال وكنت ممن زاره بسجنه بأغمات وحملتني شدة الحمية له والامتعاض لما حل به أن كتبت على حائط سجنه متمثلا
( فإن تسجنوا القسري لا تسجنوا اسمه ... ولا تسجنوا معروفه في القبائل ) ثم تقفدت الكتابة بعد أيام فوجدت تحت البيت لذلك سجناه

( ومن يجعل الضرغام في الصيد بازه ... تصيده الضرغام فيما تصيدا )
فما أدري من جاوب بذلك ثم عدت له ووجدته قد محي وأعلمت بذلك ابن عباد فقال صدق المجاوب وأنا الجاني على نفسه والحافر بيده لرمسه ولما أردت وداعه أمر لي بإحسان على قدر ما استطاع فارتجلت
( آليت لا أقبل إحسانكم ... والدهر فيما قد عراكم مسي )
( ففي الذي أسلفتم غنية ... وإن يكن عندكم قد نسي )
قال وفيه أقول من قصيدة
( يا طالب الإنصاف من دهره ... طلبت أمرا غير معتاد )
( فلو يكونى العدل في طبعه ... لما عدا ملك ابن عباد ) وللحجاري المذكور كتاب في البديع سماه الحديقة وأنشد لنفسه فيه
( وشادن ينصف من نفسه ... أمنني من سطوة الدهر )
( ينام للشرب على جنبه ... ويصرف الذنب إلى الخمر )
وله في فرس
( ومستبق يحار الطرف فيه ... ويسلم في الكفاح من الجماح )
( كأن أديمه ليل بهيم ... تحجل باليسير من الصباح )
( إذا احتدم التسابق صار جرما ... تقلب بين أجنحة الرياح )
وكتب أبو العلاء إدريس بن أزرق إلى ابن رشيق ملك مرسية وقد طالت إقامته عند ابن عبد العزيز

( ألا ليت شعري هل أعود إلى الذي ... عهدت من النعمى لديكم بلا جهد )
( فوالله مذ فارقتكم ما تخلصت ... من الدهر عندي ساعة دون ما كد )
( فمنوا بإذن كي أطير إليكم ... فلا عار في شوق إلى المال والمجد )
ووقف بعض أعدائه على هذه الأبيات فوشى بها إلى ابن عبد العزيز قاصدا ضرره وكان ذلك في محفل ليكون أبلغ فقال والله لقد ذكرتني أمره ولقد أحسن الدلالة على حاله فإن الرجل كريم وعلينا موضع اللوم لا عليه ووالله لأوسعنه مالا ووجدا بقدر وسعي ثم أخذ في الإحسان إليه حتى بر يمينه رحمه الله تعالى
( هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طرق المزاح )
ولنذكر جملة من بني مروان بالأندلس فنقول
قال محمد بن هشام المرواني صاحب كتاب أخبار الشعراء
( وروضة من رياض الحزن حالفها ... طل أطلت به في أفقها الحلل )
( كأنما الورد فيما بينها ملك ... موف ونوارها من حوله خول ) وكان في مدة الناصر وأدخل عليه يوما ليذاكره فاستحسنه وأمره بالتزام بنيه ليؤدبهم بحسن أدبه ويتخلقوا بخلقه فاستعفى من ذلك وقال إن الفتيان لا يتعلمون إلا بشدة الضبط والقيد والإغلاظ وأنا أكره أن أعامل بذلك أولاد الخليفة فيكرهوني وقد يحقد لي بعضهم ذلك إلى أن يقدر على النفع والضرر قالوا وكان يتعشق المستنصر بالله ولي عهد الناصر وهو غلام وله فيه

( متع بوجهك جفني ... يا كوكبا فوق غصن )
( يا من تحجب حتى ... عن كل فكر وأذن )
( وخامر الخوف فيه ... فما يجول بذهن )
( فليس للطرف والقلب ... غير دمع وحزن )
( فإنني ذو ذنوب ... وأنت جنة عدن ) وقال أخوه أحمد بن هشام
( قطعت الليالي بارتجاء وصالكم ... وما نلت منكم غير متصل الهجر )
( وما كنت أدري ما التصبر قبلكم ... فعلمتموني كيف أقوى على الصبر )
( وما كنت ممن يعلق الصبر فكره ... ولكن خشيت الصبر يذهب بالعمر )
ومن حكاياتهم في علو الهمة أنه كان سبب قراءته واجتهاده أنه حضر مجلسا فيه القائد أحمد بن أبي عبدة وهو غلام فاستخبره القائد فرآه بعيدا من الأدب والظرف ورأى له ذهنا قابلا للصلاح فقال أي سيف لو كانت عليه حلية فقامت من هذه الكلمة قيامته وثابت له همة ملوكية عطف بها على الأدب والتعلم إلى أن صار ابن أبي عبدة عنده كما كان هو عند ابن أبي عبدة أولا فحضر بعد ذلك معه وجالا في مضمار الأدب فرأى ابن أبي عبدة جوادا لا يشق غباره فقال ما هذا أين هذا مما كان فقال إن كلمتك عملت في فكري ما أوجب هذا فقال والله إن هذه حلية تليق بهذا السيف فجزاك الله عن همتك خيرا ثم قال له سر إن لي عليك حقا إذ بعثتك على التأدب والتميز فإذا حضرنا في جماعة فلا تتطاول على تقصيري وحافظ على أن لا أسقط من العيون بإرباء غيري علي فقال لك ذلك وزيادة وكان المنذر ابن الأمير عبد الرحمن الأوسط سيئ الخلق في أول

أمره كثير الإصغاء إلى أقوال الوشاة مفرط القلق مما يقال في جانبه معاقبا على ذلك لمن يقدر على معاقبته مكثر التشكي ممن لا يقدر عليه لوالده الأمير عبد الرحمن فطال ذلك على الأمير فقال لوكيل خاص به عارف بالقيام بما يكلفه به الموضع الفلاني الذي بالجبل الفلاني المنقطع عن العمران تبني فيه الآن بناء أسكن فيه ابني المنذر وأوصاه بالاجتهاد فيه ففرغ منه وعاد إليه فقال له تعلم المنذر أني أمرته بالانفراد فيه ولا تترك أحدا من أصحابه ولا أصحاب غيره يزوره ولا يتكلم معه البتة فإذا ضجر من ذلك وسألك عنه فقل له هكذا أمر أبوك فتولى الثقة ذلك على ما أمر به ولما حصل المنذر في ذلك المكان وبقي وحده وفقد خوله ومن كان يستريح إليه ونظر إلى ما سلبه من الملك ضجر فقال للثقة عسى أن يصلني غلماني وأصحابي أتأنس بهم فقال له الثقة إن الأمير أمر أن لا يصلك أحد وأن تبقى وحدك لتستريح مما يرفع لك أصحابك من الوشاية فعلم أن الأمير قصد محنته بذلك وتأديبه فاستدعى دواة وكتب إلى أبيه إني قد توحشت في هذا الموضع توحشا ما عليه من مزيد وعدمت فيه من كنت آنس إليه وأصبحت مسلوب العز فقيد الأمر والنهي فإن كان ذلك عقابا لذنب كبير ارتكبته وعلمه مولاي ولم أعلمه فإني صابر على تأديبه ضارع إليه في عفوه وصفحه
( وإن أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر ) فلما وقف الأمير على رقعته وعلم أن الأدب بلغ به حقه استدعاه فقال له وصلت رقعتك تشكو ما أصابك من توحش الانفراد في ذلك الموضع وترغب أن تأنس بخولك وعبيدك وأصحابك وإن كان لك ذنب يترتب عليه

أن تطول سكناك في ذلك المكان وما فعلت ذلك عقابا لك وإنما رأيناك تكثر الضجر والتشكي من القال والقيل فأردنا راحتك بأن نحجب عنك سماع كلام من يرفع لك وينم حتى تستريح منهم فقال له سماع ما كنت أضجر منه أخف علي من التوحد والتوحش والتخلي مما أنا فيه من الرفاهية والأمر والنهي فقال له فإذ قد عرفت وتأدبت فارجع إلى ما اعتدته وعول على أن تسمع كأنك لم تسمع وترى كأنك لم تر وقد قال النبي " لو تكاشفتم ما تدافنتم " واعلم أنك أقرب الناس إلي وأحبهم في وبعد هذا فما يخلو صدرك في وقت من الأوقات عن إنكار علي وسخط لما أفعله في جانبك أو جانب غيرك مما لو أطلعني الله تعالى عليه لساءني لكن الحمد لله الذي حفظ ما بين القلوب بستر بعضها عن بعض فيما يجول فيها وإنك لذو همة ومطمح ومن يكن هكذا يصبر ويغض ويحمل ويبدل العقاب بالثواب ويصير الأعداء من قبيل الأصحاب ويصبر من الشخص على ما يسوء فقد يرى منه بعد ذلك ما يسر ولقد يخف علي اليوم من قاسيت من فعله وقوله ولو قطعتهم عضوا عضوا لما ارتكبوه مني ما شفيت فيهم غيظي ولكن رأيت الإغضاء والاحتمال لا سيما عن الاقتدار أولى ونظرت إلى جميع من حولي ممن يحسن ويسيء فوجدت القلوب متقاربة بعضها من بعض ونظرت إلى المسيء يعود محسنا والمحسن يعود مسيئا وصرت أندم على من سبق له مني عقاب ولا أندم على من سبق له مني ثواب فالزم يا بني معالي الأمور وإن جماعها في التغاضي ومن لا يتغاضى لا يسلم له صاحب ولا يقرب منه جانب ولا ينال ما تترقى إليه همته ولا يظفر بأمله ولا يجد معينا حين يحتاج إليه فقبل المنذر يده وانصرف ولم يزل يأخذ نفسه بما أوصاه

والده حتى تخلق بالخلق الجميل وبلغ ما أوصاه به أبوه ورفع قدره
ومن شعره في ابن عم له
( ومولى أبى إلا أذاي وإنني ... لأحلم عنه وهو بالجهل يقصد
( توددته فازداد بعدا وبغضة ... وهل نافع عند الحسود التودد )
وقوله
( خالف عدوك فيما ... أتاك فيه لينصح )
( فإنما يبتغي أن ... تنام عنه فيربح )
ومن كرم نفسه أن أحد التجار أهدى له جارية بارعة الحسن واسمها طرب ولها صنعة في الغناء حسنة فعندما وقع بصره على حسنها ثم أذنه على غنائها أخذت بمجامع قلبه فقال لأحد خدامه ما ترى أن ندفع لهذا التاجر عوضا عن هذه الجارية التي وقعت منا أحسن موقع فقال تقدر ما تساوي من الثمن وتدفع له بقدرها فقومت بخمسمائة دينار فقال المنذر للخديم ما عندك فيما ندفع له فقال الخمسمائة فقال إن هذا للؤم رجل أهدى لنا جارية فوقعت منا موقع استحسان نقابله بثمنها ولو أنه باعها من يهودي لوجد عنده هذا فقال له إن هؤلاء التجار لؤماء بخلاء وأقل القليل يقنعهم فقال وإنا كرماء سمحاء فلا يقنعنا القليل لمن نجود عليه فادفع له ألف دينار واشكره على كونه خصنا بها وأعلمه بأنها وقعت منا موقع رضى وفيها يقول

( ليس يفيد السرور والطرب ... إن لم تقابل لواحظي طرب )
( أبهت في الكأس لست أشربها ... والفكر بين الضلوع يلتهب )
( يعجب مني معاشر جهلوا 5 ولو رأوا حسنها لما عجبوا )
وقال له أبوه يوما بإن فيك لتيها مفرطا فقال له حق لفرع أنت أصله أن يعلو فقال له يا بني إن العيون تمج التائه والقلوب تنحرف عنه فقال يا أبي لي من العز والنسب وعلو المكان والسلطان ما يجمل من ذلك وإني لم أر العيون إلا مقبلة علي ولا الأسماع إلا مصغية إلي وإن لهذا السلطان رونقا يرنقه التبذل وعلوا يخفضه الانبساط ولا يصونه ويشرفه إلا التيه والانقباض وإن هؤلاء الأنذال لهم ميزان يسبرون به الرجل منا فإن رأوه راجحا عرفوا له قدر رجاحته وإن رأوه ناقصا عاملوه بنقصه وصيروا تواضعه صغرا وتخضعه خسة فقال له أبوه لله أنت ! فابق وما رأيت وكان له أخ اديب أيضا اسمه المطرف بن عبد الرحمن الأوسط ومن شعره
( أفنيت عمري في الشرب ... والوجوه الملاح )
( ولم أضيع أصيلا ... ولا اطلاع صباح )
( أحيي الليالي سهدا ... في نشوة ومراح )
( ولست أسمع ماذا ... يقول داعي الفلاح ) والعياذ بالله من هذا الكلام وحاكي الكفر ليس بكافر وعتبه أحد إخوانه على هذا القول فقال إني قلته وأنا لا أعقل ولا أعلم أنه يحفظ عني وأنا أستغفر الله تعالى منه والذي يغفر الفعل أكرم من

أن يعاقب على القول ومن جيد شعره له
( يا أخي فرقت صروف الليالي ... بيننا غير زورة الأحلام )
( فغدونا بعد ائتلاف وقرب ... نتناجى بألسن الأقلام )
وقال أخوهما الثالث هشام بن عبد الرحمن فيمن اسمه ريحان
( أحبك يا ريحان ما عشت دائما ... ولو لامني في حبك الإنس والجان )
( ولولاك لم أهو الظلام وسهده ... ولا حببت لي في ذرا الدار غربان )
( وما أعشق الريحان إلا لأنه ... شريكك في اسم فيه قلبي هيمان )
( على أنه لم يكمل الظرف مجلس ... إذا لم يكن فيه مع الراح ريحان )
وله فيه
( إذ أنا مازحت الحبيب فإنما ... قصدت شفاء الهم في ذلك المزح )
( فما العيش إلا أن أراه مضاحكا ... كما ضحك الليل البهيم عن الصبح ) من شعر يعقوب
وقال أخوهم الرابع يعقوب بن عبد الرحمن
( إذا أنا لم أجد يوما وقومي ... لهم في الجود آثار عظام )
( فمن يرجى لتشييد المعالي ... إذا قعدت عن الخير الكرام )
ومدحه بعض الشعراء فأمر له بمال جزيل فلما كان مثل ذلك الوقت جاءه بمدح آخر فقال أحد خدام يعقوب هذا اللئيم له دين عندنا جاء يقتضيه فقال الأمير يا هذا إن كان الله تعالى خلقك مجبولا على كره رب الصنائع

فاجر على ما جبلت عليه في نفسك ولا تكن كالأجرب يعدي غيره وإن هذا الرجل قصدنا قبل فكان منا له ما أنس به وحمله على العودة وقد ظن فينا خيرا فلا نخيب ظنه والحديث أبدا يحفظ القديم وقد جاءنا على جهة التهنئة بالعمر ونحن نسأل الله تعالى أن يطيل عمرنا حتى يكثر ترداده ويديم نعمنا حتى نجد ما ننعم به عليه ويحفظ علينا مروءتنا حتى يعيننا على التجمل معه ولا يبلينا بجليس مثلك بقبض أيدينا عن إسداء الأيادي وأمر الشاعر بما كان أمر له به قبل وأوصاه بالعود عند حلول ذلك الأوان ما دام العمر
وقال أخوهم الخامس الأمير عبد محمد بن الأمير عبد الرحمن لأخيهم السادس أبان وقد خلا معه على راحة هل لك أمل نبلغك إياه فقال لم يبق لي أمل إلا أن يديم الله تعالى عمرك ويخلد ملكك فأعجب ذلك الأمير وقال ما مالت إليك نفسي من باطل وكان كل واحد منهما يهيم بالآخر وفي ذلك يقول أبان [ البسيط ] يا من يلوم ولا يدري بمن أنا مف لو ابصرته ما كنت تلحاني من مازجت روحه روحي وشاطرني يا حسنه حين أهواه ويهواني أبناء محمد بن عبد الرحمن وشيء من شعرهم 348 أبناء محمد بن عبد الرحمن وشيء من شعرهم وكان للأمير محمد بن عبد الرحمن ثلاثة أولاد نجباء القاسم والمطرف ومسلمة ولهم أخ رابع اسمه عثمان فمن نظم القاسم في عثمان أخيه وقد زاره فاستسقاه ماء فأبطأ عليه غلامه لعله لم يقبلها القاسم
( الماء في دار عثمان له ثمن ... والخبز شيء له شأن من الشان )

فاسلح على كل عثمان مررت به غير الخليفة عثمان بن عفان وله
( شغلت بالكيمياء دهري ... فلم أفد غير كل خسر )
( إتعاب فكر خداع عقل ... فساد مال ضياع عمر ) وقال شقيقه المطرف ويعرف بابن غزلان وهي أمه وكانت مغنية بديعة محسنة عوادة أديبة
( هل أتكي مشرفا على نهر ... أرمي بطرفي إليه من قصري )
( عند أخ لو دهته حادثة ... أعطيته ما أحب من عمري ) وقال أخوهما مسلمة
( إن شيبا وصبوة لمحال ... أو لم يأن أن يكون زوال )
( فدع النفس عن مزاح ولهو ... تلك حال )
وكان يقول إني لا أفارق إلا من اختار مفارقتي ومن خادعني انخدعت له وأريته أني غير فطن بخداعه ليعجبه أمره وأدخل عليه مسرة بنفسه ورأيه من شعر محمد
( وقال محمد بن الأمير منذر ابن الأمير محمد في جاريته الأراكة
( قل للأراكة قد زاد ... بالدنو اشتياقي )

( وهاج ما بي إليها ... تمثلي للعناق )
( وإنني وبقلبي ... جمر جرى في المآقي )
( طويت ما بي ليوم ... يكون فيه التلاقي )
( فإن أعد لاجتماع ... حرمت يوم افتراق )
( لا يعرف الشوق إلا ... من ذاق طعم الفراق )
وقال عبد الله بن الناصر وقد أهدى له سعيد بن فرج ياسمينا أبيض وأصفر وكتب معه
( مولاي قد أرسلت نحوك تحفة ... بمراد ما أبغيه منك تذكر )
( من ياسمين كاللجين تبرجت ... بيضا وصفرا والسماح يعبر ) فأجابه بما نصه
( أتاك تفسيري ولما يحل ... عني على أضغاث أحلام )
( فاجعله رسما دائما زائرا ... منك وفي غرة العام )
وبعث إليه بهذين البيتين مع ملء الطبق دنانير ودراهم فقال ابن فرج
( قد سمعنا بجود كعب وحاتم ... ما سمعنا جودا مدى العمر لازم )
( فدعائي بأن تدوم دعاء ... لي ما زال طول ما عشت دائم )
( ما سمعنا كمثل هذا اختراعا ... هكذا هكذا تكون المكارم ) وتشبه هذه الحكاية حكاية اتفقت لبعض ملوك إفريقية وذلك أم رجلا

أهدى لي في قادوس وردا أحمر وأبيض فأمر أن يملأ له دراهم فقالت له جارية من جواريه إن رأى الأمير أن يلون ما أعطاه حتى يوافق ما أهداه فاستحسن ذلك الأمير وأمر أن يملأ دنانير ودراهم وكان المرواني المذكور يساير أحد الفقهاء الظرفاء فمرا بجميل فمال عبد الله بطرفه على وجهه وظهر ذلك لمسايره فتبسم ففهم عبد الله عنه فقال إن هذه الوجوه الحسان خلابة ولكنا لا نتغلغل في نظرها ولا ندعي العفة عنها بالجملة وفيها اعتبار وتذكار بالحور العين التي وعد الله تعالى فقال له الفقيه احتج لروحك بما شئت فقال أو ما هي حجة تقبل فقال الفقيه يقبلها من رق طبعه وكاد يضيق عن الصبر وسعه فقال وأراك شريكا لي فقال ولولا ذلك للمتك فأطرق عبد الله ساعة ثم أنشد
( أفدي الذي مر بي فمال له ... لحظي ولكن ثنيته غصبا )
( ما ذاك إلا مخاف منتقد ... فالله يعفو ويغفر الذنبا ) فقال له الفقيه إن كنت ثنيت لحظك خوف انتقادي فإني أدعوه إليك حتى تملأ منه ولا تنسب إلي ما نسبت فتبسم عبد الله وقال ولا هذا كله وقال له إن مثلك في الفقهاء لمعدوم فقال له ما كنت إلا أديبا ولكني لما رأيت سوق الفقه بقرطبة نافقة اشتغلت به فقال له ومن عقل المرء أن لا يفني عمره فيما لا ينفقه عصره وكان عبد الله المذكور يسمى الزاهد فبايع قوما على قتل والده الناصر وأخيه الحكم المستنصر ولي العهد فأخذ يوم عيد الأضحى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة فذبح بين يديه رحمه الله تعالى
وقال أخوه أو الأصبغ عبد العزيز بن الناصر وقد دخل ابن له

الكتاب فكتب أول لوح فبعثه إلى أخيه الحكم المستنصر ملك الأندلس ومعه
( هاك يا مولاي خطا ... مطه في اللوح مطا ) ابن سبع في سنيه لم يطق للوح ضبطا
( دمت يا مولاي حتى ... يلد ابن ابنك سبطا ) وله
( زارني من همت فيه سحرا ... يتهادى كنسيم السحر )
( أقبس الصبح ضياء ساطعا ... فأضا والفجر لم ينفجر )
( واستعار الروض منه نفحة ... بثها بين الصبا والزهر )
( أيها الطالع بدرا نيرا ... لا حللت الدهر إلا بصري ) وكان مغرى مغرما بالخمر والغناء فقطع الخمر فبلغه أن المستنصر لما بلغه تركه للخمر قال الحمد لله الذي أغنانا عن مفاتحته ودله على ما نريد منه ثم قال لو ترك الغناء لكمل خيره فقال والله لا تركته حتى تترك الطيور تغريدها ثم قال
( أنا في صحة وجاه ونعمى ... هي تدعو لهذه الألحان )
( وكذا الطير في الحدائق تشدو للذي سر نفسه بالقيان )
وقال أخوه محمد بن الناصر لما قدم أخوهما المستنصر من غزوة
( قدمت بحمد الله أسعد مقدم ... وضدك أضحى لليدين وللفم )

( لقد حزت فيها السبق إذ كنت أهله كما حاز بسم الله فضل التقدم )
وأما أخوهما محمد بن عبد الملك بن الناصر فقال الحجاري فيه إنه لم يكن في ولد الناصر ممن لم يل الملك أشعر منه ومن ابن أخيه وكتب إلى العزيز صاحب مصر
( الدوائر إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر )
وكان جواب العزيز له أما بعد فإنك علمتنا فهجوتنا ولو علمناك لهجوناك وله في الصنوبر
( إن الصنوبر حصن ... لديه حرز وباس )
( خفت من اجل إرهاب ... من عداه تراس )
( كأنما هو ضد ... لما حواه الرئاس ) وبعض سيوف الأندلس محفور صدر الرئاس على صورة قشور الصنوير إلا أن تلك ناتئة وهذه محفورة وقال
( أتاني وقد خط العذار بخده ... كما خط في ظهر الصحيفة عنوان )
( تزاحمت الألحاظ في وجناته ... فشقت عليه للشقائق أردان )
( وزدت غراما حين لاح كأنما ... تفتح بين الورد والآس سوسان )

وقال
( لئن كنت خلاع العذار بشادن ... وكأس فإني غير نزر المواهب )
( وإني لطعان إذا اشتجر القنا ... ومقحم طرفي في صدور الكتائب )
( وإني إذا لم ترض نفسي بمنزل ... وجاش بصدري الفكر جم المذاهب )
( جليد يود الصخر لو أن صبره ... كصبري على ما نابني للنوائب ) ( واسري إلى أن يحسب الليل أنني ... لطول مسيري فيه بعض الكواكب )
وأما ابن أخيه مروان بن عبد الرحمن بن عبد الملك بن الناصر فكان في بني أمية شبه عبد الله بن المعتز في بني العباس بملاحة شعره وحسن تشبيهه ومن شعره القصيدة المشهور
( غصن يهتز في دعص نقا ... يجتني منه فؤادي حرقا )
( سال لام الصدغ في صفحته ... سيلان التبر وافى الورقا )
( فتناهى الحسن فيه إنما ... يحسن الغصن إذا ما أورقا )
ومنها
( أصبحت شمسا وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيي مشرقا )
( فإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا )

ومنها
( وكأن الورد يعلوه الندى ... وجنة المحبوب تندى عرقا )
قالوا وهذا النمط قد فاق به أهل عصره ويظن أنه لا يوجد لأحد منهم أحلى وأكثر أخذا بمجامع القلوب من قوله
( ودعت من أهوى أصيلا ليتني ... ذقت الحمام ولا أذوق نواه )
( فوجدت حتى الشمس تشكو وجده ... والورق تندب شجوها بهواه ) وعلى الأصائل رقة من بعده ... فكأنها تلقى الذي ألقاه )
( وغدا النسيم مبلغا ما بيننا ... فلذاك رق هوى وطاب شذاه )
( ما الروض قد مزجت به أنداؤه ... سحرا بأطيب من شذاه )
( والزهر مبسمه ونكهته الصبا ... والورد أخضله الندى خداه )
( فلذاك أولع بالرياض لأنها ... أبدا تذكرني بمن أهواه ) ولله قوله
( وعشي كأنه صبح عيد ... جامع بين بهجة وشحوب )
( هب فيه النسيم مثل محب ... مستعيرا شمائل المحبوب )
( ظلت فيه ما بين شمسين هذي ... في طلوع وهذه في غروب )
( وتدلت شمس الأصيل ولكن ... شمسنا لم تزل بأعلى الجيوب )
( رب هذا خلقته من بديع ... من رأى الشمس أطلعت في قضيب )
( أي وقت قد أسعف الدهر فيه ... وأجابت به المنى عن قريب )
( قد قطعناه نشوة ووصالا ... وملأناه من كبار الذنوب )
( حين وجه السعود بالبشر طلق ... ليس فيه أمارة للقطوب )
( ضيع الله من يضيع وقتا ... قد خلا من مكدر ورقيب )

وبات عند أحد رؤساء بني مروان فقدم إليه ذلك الرئيس قدحا من فضة فيه راح أصفر وقال اشرب وصف فداك ابن عمك فقام إجلالا وشرب صائحا بسروره ثم قال الدواة والقرطاس فأحضرا وكتب اشرب هنيئا لا عداك الطرب شرب كريم في العلا منتخب
( وافاك بالراح وقد ألبست ... برد أصيل معلما بالحبب )
( في قدح لم يك يسقى به ... غير أولي المجد وأهل الحسب )
( ما جار إذ سقاك من كفه ... في جامد الفضة ذوب الذهب )
( فقم على رأسك برا به واشرب على ذكراه طول الحقب )
( ويحكى أنه لما قتل أباه وقد وجده مع جارية له كان يهواها سجنه المنصور بن أبي عامر مدة إلى أن رأى في منامه النبي يأمره بإطلاقه فأطلقه فمن أجل ذلك عرف بالطليق
وقال أحمد بن سليمان بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر في ابن حزم لما عاداه علماء عصره
( لما تحلى بخلق ... كالمسك أو نشر عود )
( نجل الكرام ابن حزم ... وقام في العلم عودي )
( فتواه جدد ديني ... جدواه أورق عودي )
وله في أبي عامر بن المظفر بن أبي عامر من قصيدة يمدحه بها
( بأبي عامر وصلت حبالي ... فزماني به زمان سعيد )

( فمتى زدت فيه ودا وشكرا ... فنداه وقد تناهى يزيد )
( كيف لي وصفه وفي كل يوم ... منه في المكرمات معنى جديد )
وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان ابن سراج
( وكم من حديث للنبي أبانه 5 وألبسه من حسن منطقه وشيا )
( وكم مصعب للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولا بعد ما كان قد أعيا )
وقال عبيد الله بن محمد المهدي وهو من حسنات بني مروان ويعرف بالأقرع
( أقول لآمالي ستبلغ إن بدا ... محيا ابن عطاف ونعم المؤمل )
( فقالت دعاني كل يوم تعلل ... فقلت لها إن لاح يفنى التعلل )
( لئن كان مني كل حين ترحل ... فإني إن أحلل به لست أرحل )
( فتى ترد الآمال في بحر جوده ... وليس على نعمى سواه المعول )
وقال هذه في الوزير ابن عطاف فضن عليه حتى برجع الجواب فكتب إليه بقصيدة منها
( أيها الممكن من قدرته ... لا يراك الله إلا محسنا )
( إنما المرء بما قدمه ... فتخير بين ذم وثنا )
( لا تكن بالدهر غرا وإذا ... كنت فانظر فعله في ملكنا )
( كل ما خولت منه ذاهب والذي إنما تصحب منه الكفنا )
( مد كفا نحو كف طالما ... أمطرت منه السحاب الهتنا )
( أو أرحني بجواب مؤيس ... فمطال البر من شر العنا )

فلم يعطه شيئا وكان له كاتب فتحيل في خمسين درهما فأعطاها له فلما سمع الوزير بذلك طرده وقال له من أنت حتى تحمل نفسك هذا وتعطيه قال فوالله ما لبث إلا قليلا حتى مات الوزير وتزوج الكاتب بزوجته وسكن في داره وتخول في نعمته فحملني ذلك على أن كتبت بالفحم في حائط داره
( أيا دار قولي أين ساكنك الذي ... أبى لؤمه أن يترك الشكر خالدا )
( تسمى وزيرا والوزارة سبة 5 لمن قد أبى أن يستفيد المحامدا )
( وولى ولكن ليس يبرح ذمه 5 فها هو قد أرضى عدوا وناقدا )
( وأضحى وكيل كان يأنف فعله ... نزيلك في الحوض الممنع واردا )
( جزاء بإحسان لذا وإساءة ... لذاك وساع ورث الحمد قاعدا ) والمثل السائر في هذا ( ( رب ساع لقاعد ) )
وقال سليمان بن المرتضى بن محمد بن عبد الملك بن الناصر وكان في غاية الجمال ويلقب بالغزال
( قدم الربيع عليك بعد مغيب ... فتلقه بسلافة وحبيب )
( فصل جديد فلتجدد حالة ... يأتي الزمان بها على المرغوب )
( الجو طلق فالقه بطلاقة ... وإذا تقطب فالقه بقطوب )
( لله أيام ظفرت بها ومن ... أهواه منقاد بغير رقيب ) وله
( لي في كفالات الرماح لو أنها ... وفت ضمان يبلغ الآمالا )
( وكلت دهري في اقتضاء ضمانها ... ضنا به أن لا يحول فحالا )
وكان مولعا بالفكاهة والنادر محبا في الظرفاء وكان يلتزم خدمته المضحك

المشهور بالزرافة ويحضر معه ولعبوا في مجلس سليمان لعبة أفضوا فيها إلى أن تقسموا اثنين اثنين كل شخص ورفيقه فقال سليمان ومن يكون رفيقي فقال له المضحك يا مولاي وهل يكون رفيق الغزال إلا الزرافة فضحك منه على عادته ودخل عليه وهو قاعد في رحبة قصره وقد أطل عذاره فقال له ما تطلب الزرافة فقال ترعى الحشيش وأشار إلى عذاره فقال له اعزب لعنك الله
ومر سليمان به يوما وهو سكران وقد أوقف ذكره وجعل يقول له ماذا رأيت في القيام في هذا الزمان أما رأيت كل ملك قام كيف خلع وقتل والله إنك سيء الرأي فقال له سليمان وبم لقبت هذا الثائر فقال يا مولاي بصفته القائم فقال ويحتاج إلى خاتم فقال نعم ويكون خاتم سليمان فقال له أخزاك الله إن الكلام معك لفضيحة
وقال سعيد بن محمد المرواني وقد هجره المنصور بن أبي عامر مدة لكلام بلغه عنه فدخل والمجلس غاص وأنشد
( مولاي مولاي أما آن أن ... تريحني بالله من هجركا )
( وكيف بالهجر وأنى به ... ولم أزل أسبح في بحركا )
فضحك ابن أبي عامر على ما كان يظهره من الوقار وقام وعانقه وعفا عنه وخلع عليه
وله
( والبدر في جو السماء قد انطوى ... طرفاه حتى عاد مثل الزورق )

( فتراه من تحت المحاق كأنما ... غرق الكثير وبعضه لم يغرق ) وهو مأخوذ من قول ابن المعتز
( وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر )
وقال قاسم بن محمد المرواني يستعطف المنصور بن أبي عامر وقد سجنه لقول صدر عنه
( ناشدتك الله العظيم وحقه ... في عبدك المتوسل المتحرم )
( بوسائل المدح المعاد نشيدها ... في كل مجمع موكب أو موسم )
( لا تستبح مني حمى أرعاكه ... يا من يرى في الله أحمى محتمي )
وقال الأصم المرواني يمدح أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بجبل الفتح معارضا بائية أبي تمام
( السيف أصدق أنباء من الكتب ... )
بقصيدة طويلة منها
( ما للعدا جنة أوقى من الهرب ... أين المفر وخيل الله في الطلب )
( وأين يذهب من في رأس شاهقة ... إذا رمته سماء الله بالشهب ) ومنها
( وطود طارق قد حل الإمام به ... كالطور كان لموسى أيمن الرتب )
( لو يعرف الطود ما غشاه من كرم ... لم يبسط النور فيه الكف للسحب )

( ولو تيقن بأسا حل ذروته ... لصار كالعين من خوف ومن رهب )
( سالف الحقب ويلبس الدين غضا ثوب عزته ... كأن أيام بدر عنه لم تغب )
وقال في نارنجة
( وبنت أيك دنا من لثمها قزح ... فصار منه على أرجائها أثر )
( يبدو لعينيك منها منظر عجب ... زبرجد ونضار صاغه المطر )
( كأن موسى نبي الله أقبسه ... نارا وجر عليها كفه الخضر )
وقال
( وشادن قلت له صف لنا ... بستاننا هذا ونارنجنا )
( فقال لي بستانكم جنة ... ومن جنى النارنج نارا جنى )
وقال في زلباني
( لله سفاح بدا لي مسحرا ... فأفاد علم الكيميا بيمينه )
( ذهبت فضة خده بلواحظي ... وكذاك تفعل ناره بعجينه )
وقال وقد نزل في فندق لا يليق بمثله
( يا هذه لا تفنديني ... أن صرت في منزل هجين )
( فليس قبح المحل مما ... يقدح في منصبي وديني )
( فالشمس علوية ولكن ... تغرب في حمأة وطين )

وقال أحمد المرواني
( حلفت بمن رمى فأصاب قلبي ... وقلبه على جمر الصدود )
( لقد أودى تذكره بجمي ... ولست أشك أن النفس تودي )
( فقيد وهو موجود بقلبي ... فواعجبا بموجود فقيد )
وقال الأصبغ القرشي يرثي ابن شهيد وهو من أصحابه
( نأى من به كان السرور مواصلا ... وأسلم قلبي للصبابة والفكر ) ومنها
( لعمرك ما يجدي النعيم إذا نأت ... وجوههم عني ولا فسحة العمر )
وقال سليمان بن عبد الملك الأموي
( وذي جدل أطال القول منه ... بلا معنى وقد خفي الصواب )
( فقلت أجيبه فازداد ردا ... فقلت له قد ازدحم الجواب )
( ولم أر غير صمتي من مريح ... إذا ما لم يفد فيه الخطاب )
وقال أبو يزيد بن العاصي
( عابه الحاسد الذي لام فيه ... أن رأى فوق خده جدريا )
( إنما وجهه هلال تمام ... جعلوا برقعا عليه الثريا )
وله
( إذا شئت أن يصفو صديقك فاطرح ... نزاع الذي يبديه في الهزل والجد )
( وإن كنت من أخلاقه في جهنم ... فأنزله من مثواك في جنة الخلد )
( إلى أن يتيح الله من لطف صنعه ... فراقا جميلا فاجعل العذر في البعد )

وليكن هذا آخر ما نورده من كلام بني مروان رحمهم الله
المنصفي ولنرجع إلى أهل الأندلس جملة فنقول أمر أبو الحجاج المنصفي أن يكتب على قبره
( قالت لي النفس أتاك الردى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم )
( هلا ادخرت الزاد قلت اقصري ... لا يحمل الزاد لدار الكريم ) وقد ذكرنا هذين البيتين في غير هذا الموضع
وقال ابن مرج الكحل اجتمعنا في حانوت بعض الأطباء بإشبيلية فأضجرناه بكثرة جلوسنا عنده وتعذرت المنفعة عليه من أجلنا فأنشدنا
( خففوا عنا قليلا ... رب ضيق في براح )
( هل شكوتم من سقام ... أو جلسنا للصحاح )
فأضفت إليهما ثالثا وأنشدته إياه على سبيل المداعبة
( إن أتيتم ففرادى ذاك حكم المستراح )
ودخل أبو محمد غانم بن وليد مجلس باديس بن حبوس فوسع له على ضيق كان فيه فقال

( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
ودخل على أبي جعفر اللمائي بعض أصحابه عائدا في علته التي مات فيها وجعل يروح عليه بمروحة فقال أبو جعفر على البديهة
( روحني عائدي فقلت له ... لا لا تزدني على الذي أجد )
( أما ترى النار وهي خامدة ... عند هبوب الرياح تتقد )
وقال الأعلم ليكن محفوظك من النظم مثل قول ابن القبطرنة
( دعاك خليلك واليوم طل ... وعارض وجه الثرى قد بقل )
( لقدرين فاحا وشمامة ... وإبريق راح ونعم المحل )
( ولو شاء زاد ولكنه ... يلام الصديق إذا ما احتفل )
وقال أبو عامر بن ينق الشاطبي
( ما احسن العيش لو أن الفتى أبدا ... كالبدر يرجو تماما بعد نقصان )
( إذ لا سبيل إلى تخليد مأثرة ... إذ لا سبيل إلى تخليد جثمان )
وقال أبو الحسن اللورقي
( عجبا لمن طلب المحا مد ... وهو يمنع ما لديه )
( ولباسط آماله ... للغير لم يبسط يديه )
( لم لا أحب الضيف أو ... أرتاح من طرب إليه )

( والضيف يأكل رزقه ... عندي ويحمدني عليه )
وقال أبو عيسى بن لبون وهو من قواد المأمون بن ذي النون
( نفضت كفي من الدنيا وقلت لها ... إليك عني فما في الحق أغتبن )
( من كسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار مؤتمن )
( أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن )
( وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا )
وقال أبو عامر بن الحمارة
( ولي صاحب أحنو عليه وإنه ... ليوجعني حينا فلا أتوجع )
( أقيم مكاني ما جفاني وربما ... يسائلني الرجعى فلا أتمنع )
( كأني في كفيه غصن أراكة ... تميل على حكم النسيم وترجع )
وقال أبو العباس بن السعود
( تبا لقلب عن الأحباب منصرف ... يهوى أحبته ما خالس النظر )
( مثل السجنجل فيه الشخص تبصره ... حتى إذا غاب لم يترك به أثرا )
ومرض أبو الحكم بن علندة فعاده جماعة من أصحابه فيهم

فتى صغير السن فوفاه من بره ما أوجب تغيرهم ففطن لذلك وأنشد ارتجالا
( تكثر من الإخوان للدهر عدة ... فكثرة در العقد من شرف العقد )
( وعظم صغير القوم وابدأ بحقه ... فمن خنصري كفيك تبدأ بالعقد ) ثم نظر إليهم وأنشدهم ارتجالا قوله
( مغيث أيوب والكافي لذي النون ... يحلني فرجا بالكاف والنون )
( كم كربة من كروب الدهر فرجها ... عني ولم ينكشف وجهي لمن دوني )
وقال القاضي أبو موسى بن عمران
( ما للتجارب من مدى ... والمرء منها في ازدياد )
( قد كنت أحسب ذا العلا ... من حاز علما واستفاد )
( فإذا الفقيه بغير مال ... كالخيام بلا عماد )
( شرف الفتى بنضاره ... إن الفقير أخو الجماد )
( ما العلم إلا جوهر ... قد بيع في سوق الكساد )
وقال أبو بكر بن الجزار السرقسطي
( إياك من زلل اللسان فإنما ... عقل الفتى في لفظه المسموع )
( والمرء يختبر الإناء بنقره ... ليرى الصحيح به من المصدوع )
وقال أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد تناول بعض أصحابنا نرجسة فركبها في وردة ثم دفعها إلي وإلى صاعد وقال قولا

فأبهمت دوننا أبواب القول فدخل الزهيري وكان أما لا يذكر من الكلام إلا ما علق بنفسه في الجالس وينفذ مع هذا في المطولات من الأشعار فأشعر بأمرنا فجعل يقول دون روية
( ما للأديبين قد أعيتهما ... مليحة من ملح الجنه )
( نرجسه في وردة ركبت ... كمقلة تطرف في وجنه ) وقال أبو محمد بن حزم في طوق الحمامة
( خلوت بها والراح ثالثة لنا ... وجنح ظلام الليل قد مد واعتلج )
( فتاة عدمت العيش إلا بقربها ... فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج )
( كأني وهي والكأس والخمر والدجى ... حيا وثرى والدر والتبر والسبج )
قال وهذه حمس تشبيهات لا يقدر أحد على أكثر منها إذ تضيق الأعارض عنه قال أبو عامر بن مسلمة ولا أذكر مثلها إلا قول بعض
( فأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وغضت على العناب بالبرد ) إلا أنه لم يعطف خمسة على خمسة كما صنع ابن حزم بل أكتفى بالعلم في التشبيهات قال ومن أغرب ما وقع لي من التشبيهات في بيت قول بن برون الكشوني الأندلسي يصف فرسا وردا أغر محجلا

فكأنه غرته وتحجيلاته ... خمس من السوسان وسط شقائق )
قال وهذا على التحقيق ستة على ستة ولم أسمع بمثله لأحد من الأندلسيين ولا من المشارقة قال ابن الجلاب وكلام أبي عامر هذا لا يخلو من النقد
وقال ابن صارة
( انظر إلى البدر وإشراقه ... على عدير موجه يزهر )
( كمشحذ من حجر أخضر ... خط عليه ذهب أحمر )
وقال أبو القاسم بن العطار الإشبيلي
( ركبنا سماء النهر والجو مشرق ... وليس لنا إلا الحباب نجوم )
( وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البرود رقوم )
وقال ابن صارة
( والنهر قد رقت غلالة صبغه ... وعليه من ذهب الأصيل طراز )
( تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تضمها الأعجاز )
وقال سهل بن مالك
( ورب يوم وردنا فيه كل منى ... وقل في مثل ذاك اليوم أن نردا )
( في روضتين بشطي سلسل شبم ... كما اجتليت من المحبوب مفتقدا )

( يبدد القطر في أثنائه حلقا ... فتنظم الريح منها فوقه زردا )
وقال ابن صارة
( انظر النهر في رداء عروس ... صبغته بزعفران العشي )
( ثم لما هب النسيم عليه ... هز عطفيه في دلاص )
الكمي ولبعضهم في شكل يرمي الماء مجوفا مثل الخباء وتمزقه الريح أحيانا
( ومطنب للماء ما أوتاده ... إلا نتائج فكر طب حاذق )
( لعبت به أيدي الصبا فكأنها ... أيدي الصبابة بالفؤاد العاشق )
وقال صفوان بن إدريس يصف تفاحة في الماء
( ولم أر فيما تشتهي العين منظرا ... كتفاحة في بركة بقرار )
( يفيض عليها ماؤها فكأنها ... بقية خد في اخضرار عذار )
وقال أبو جعفر بن وضاح في دولاب
( وباكية والروض يضحك كلما ... ألحت عليه بالدموع السواجم )
( يروقك منها إن تأملت نحوها ... زئير أسود والتفات أراقم )
( تخلص من ماء الغدير سبائكا ... فتنبتها في الروض مثل الدراهم )

وقال الوزير بن عمار
( يوم تكاثف غيمه فكأنه ... دون السماء دخان عود أخضر )
( والطل مثل برادة من فضة ... منثورة في تربة من عنبر )
( والشمس أحيانا تلوح كأنها ... أمة تعرض نفسها للمشتري )
وقال أبو الحسن بن سعد الخير
( لله دولاب يفيض بسلسل ... في روضة قد أينعت أفنانا )
( قد طارحته بها الحمائم شجوها ... فيجيبها ويرجع الألحانا )
( فكأنه دنف يدور بمعهد ... يبكي ويسأل فيه عمن بانا )
( ضاقت مجاري طرفه عن دمعه ... فتفتحت أضلاعه أجفانا )
وقال ابن أبي الخصال
( وورد جني طالعتنا خدوده ... ببشر ونشر يبعثان على السكر )
( وحف ترنجان به فكأنه ... خدوده العذارى في مقانعها الخضر )
وقال ابن صارة
( يا رب نارنجة يلهو النديم بها ... كأنها كرة من أحمر الذهب )
( أو جذوة حملتها كف قابسها ... لكنها جذوة معدومة اللهب )
وقال الخفاجي

( ومياسة تزهو وقد خلع الحيا ... عليها حلى حمرا وأردية خضرا )
( يذوب بها ريق الغمامة فضة ... ويجمد في أعطافها ذهبا نضرا ) وقال ابن صارة أيضا
( ونارنجة لم يدع حسنها ... لعيني في غيرها مذهبا )
( فطورا ارى لهبا مضرما ... وطورا أرى شفقا مذهبا )
وقال ابن وضاح في السرو
( أيا سرو لا يعطش منابتك الحيا ... ولا يدعن أعطافك الخضل النضر )
( فقد كسيت منك الجذوع بمثل ما ... تلف على الخطي راياته الخضر )
وقال أبو إسحاق الخولاني
( نيلوفر شكله كشكلي ... يعوم في أبحر الدموع )
( قد ألبست عطفه دروعا ... خوذ لريح الصبا شموع )
( يلوح إذ لونه كلوني ... من فوق فضفاضة هموع )
( مثل مسامير مذهبات ... في حلقات من الدروع )
وقال ابن الأبار
( وسوسنات أرت من حسنها بدعا ... ولم يزل عصر مولانا يري بدعه )
( شبيهة بالثريا في تألفها ... وفي تألقها تلتاح ملتمعه )

( هامت بيمناه تبغي أن تقبلها ... واستشرفت تجتلي مرآه مطلعه )
( ثم انثنى بعضها من بعضها غلبا ... على البدار فوافت وهي مجتمعه )
ورفع هذه الأبيات إلى الأمير أبي يحيى زكريا
وقال حازم
( لا نور يعدل نور اللوز في أنق ... وبهجة عند ذي عدل وإنصاف )
( نظام زهر يظل الدر منتثرا ... عليه من كل هامي القطر وكاف )
( بينا ترى وهي أصداف لدر حيا ... بيض غدت دررا في خضر أصداف )
وقال ابن سعد الخير في رمانة
( وساكنة في ظلال الغصون ... بروض يروقك أفنانه )
( تضاحك أترابها فيه إذ ... غدا الجو تدمع أجفانه )
( كما فتح الليث فاه وقد ... تضرج بالدم أسنانه )
وقال ابن نزار الوادي آشي
( ورمانة قد فض عنها ختامها ... حبيب أعار البدر بعض صفاته )
( فكسر منها نهد عذراء كاعب ... وناولني منها شبيه لداته )
وقال بعضهم في القراسيا ويقال له بالمغرب حب الملوك
( ودوح تهدل أشطانه ... رعى الدهر من حسنه ما اشتهى )

( فما احمر منه فصوص العقيق ... وما اسود منه عيون المها )
وقال بعضهم
( وأين معاهد للحسن فيها ... وللأنس التقاء البهجتين )
( وللأوتار والأطيار فيها ... لدى الأسحار أطرب ساجعين )
( فكم بدر تجلى من رباها ... ومن بطحائها في مطلعين )
( وأغيد يرتعي من تلعتيها ... ومن ثمر القلوب بمرتعين )
( إذا أهوى لسوسنة يمينا ... عجبت من التقاء السوسنين )
( وكم يوم توشح من سناه ومن زهراتها في حلتين )
( وراح أصيله ما بين نهر ... ودولاب يدور بمسمعين )
( بنهر كالسماء يجول فيه ... سحائب من ظلال الدوحتين )
( تدرع للنواسم حين هزت ... عليه كل غصن كالرديني )
( ملاعب في غرامي عند ذكري ... صباه وغصنه المتلاعبين )
وقال الوزير محمد بن عبد الرحمن بن هانئ
( يا حرقة البين كويت الحشا ... حتى أذبت القلب في أضلعه )
( أذكيت فيه النار حتى غدا ... ينساب ذاك الذوب من مدمعه )
( ياسؤل هذا القلب حتى متى ... يؤسى برشف الريق من منبعه )
( فإن في الشهد شفاء الورى ... لا سيما إن مص من مكرعه )
( والله يدني منكم عاجلا ... ويبلغ القلب إلى مطمعه )
ولو لم يكن للأندلسيين غير كتاب شذور الذهب لكفاهم دليلا على البلاغة ومؤلفه هو علي بن موسى بن علي بن محمد بن خلف أبو

الحسن الأنصاري الجياني نزيل فاس وولي خطابتها ولم ينظم أحد في الكيمياء مثل نظمه بلاغة معان وفصاحة ألفاظ وعذوبة تراكيب حتى قيل فيه إن لم يعلمك صناعة الذهب علمك الأدب
وفي عبارة بعضهم إن فاتك ذهبه لم يفتك أدبه وقيل
فيه إنه شاعر الحكماء وحكيم الشعراء وتوفي رحمه الله تعالى سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة

عود إلى النقل عن بدائع البدائه
ولنذكر هنا نبذة من سرعة بديهة أهل الأندلس وإن مرت من ذلك جملة وستأتي أيضا زيادة على الجميع فنقول
قال في بدائع البدائه ما صورته روى عبد الجبار بن حمديس الصقلي قال صنع عبد الجليل بن وهبون المرسي الشاعر لنا نزهة بوادي إشبيلية فأقمنا فيه يومنا فلما دنت الشمس للغروب هب نسيم ضعيف غضن وجه الماء فقلت للجماعة أجيزوا
( حاكت الريح من الماء زرد ... )
فأجازه كل منهم بما تيسر لي فقال له أبو تمام غالب بن رباح الحجاج كيف قلت يا أبا محمد فأعدت القسيم له فقال
( أي درع لقتال لو جمد ... ) وقد ذكرنا في هذا الكتاب ما يخالف هذا فليراجع في محله ثم قال صاحب بدائع البدائه بعد ما سبق ما صورته وقد نقله ابن

حمديس إلى غير هذا الوصف فقال
( نثر الجو على الترب برد ... أي در لنحور لو جمد )
فتناقض المعنى بذكر البرد وقوله ( ( لو جمد ) ) إذ ليس البرد إلا ما جمده البرد اللهم إلا أن يريد بقوله ( ( لو جمد ) ) دام جموده فيصح وينعقد عن التحقيق
ومثل هذا قول المعتمد بن عباد يصف فوارة
( ولربما سلت لنا من مائها ... سيفا وكان عن النواظر مغمدا )
( طبعته لجيا فزانت صفحة ... منه ولو جمد لكان مهندا )
وقد أخذت أنا هذا المعنى فقلت أصف روضا
( فلو دام ذاك النبت كان زبرجدا ... ولو جمدت أنهاره كن بلورا )
وهذا المعنى مأخوذ من قول علي التونسي الإيادي من قصيدته الطائية المشهورة
( ألؤلؤ قطر هذا الجو أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط )
وهذا المعنى كثير للقدماء قال ابن الرومي من قطعة في العنب الرازقي
( لو أنه يبقى على الدهور ... قرط آذان الحسان الحور )
قال علي بن ظافر وأخبرني من أثق به قال ركب المعتمد على الله أبو القاسم ابن عباد لنزهة بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه وخواص شعرائه فلما أبعد أخذ في المسابقة بالخيول فجاء فرسه بين البساتين سابقا

فرأى شجرة تين قد أينعت وزهت وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت فسدد إليها عصا كانت في يده فأصابها وثبتت على أعلاها فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها والتفت ليخبر به من لحقه من أصحابه فرأى ابن جاخ الصباغ أول من لحق به فقال أجر
( كأنها فوق العصا ... )
( فقال هامة زنجي عصى ... ) فز
( اد طربه وسروره بحسن ارتجاله وأمر له بجائزة سنية
قال علي بن ظافر وأخبرني أيضا أن سبب اشتهار ابن جاخ هذا أن الوزير أبا بكر بن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس لا يستقر ببلدة ولا يستفزه عن وطره وطن وكان كثير التطلب لما يصدر عن أرباب المهن من الأدب الحسن فبلغه خبر ابن جاخ هذا قبل اشتهاره فمر على حانوته وهو آخذ في صباغته والنيل قد جر على يديه ذيلا وأعاد نهارهما ليلا فأراد أن يعلم سرعة خاطره فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء وأشار إلى يده وقال
( كم بين زند وزند ... ) فقال
( ما بين وصل وصد ... )
فعجب من حسن ارتجاله ومبادرة العمل واستعجاله وجذب بضبعه وبلغ من الإحسان إليه غاية وسعه

وبلغني ايضا أنه دخل سرقسطة فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي فمر عليه ولحم خرفانه بين يديه فأشار ابن عمار إلى اللحم وقال
( لحم سباط الخرفان مهزول ... ) فقال
( يقول يا مشترين مه زولوا ... )
ولما صنع المتوكل على الله بن الأفطس صاحب بطليوس هذا القسيم
( الشعر خطة خسف ... ) أرتج عليه فاستدعى أبا محمد عبد المجيد بن عبدون صاحب الرائية التي أولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... ) وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب وهو أحد وزراء دولته وخواص حضرته فاستجازه إياه فقال
( لكل طالب عرف ... )
( للشيخ عيبة عيب ... وللفتى ظرف ظرف )
وذكر ابن بسام في الذخيرة أن قائل القسيم الأول الأستاذ أبو الوليد بن ضابط وأن عبد المجيد أجازه ارتجالا وهو ابن ثلاث عشرة سنة وقد ذكرنا ما يقرب من ذلك في هذا الكتاب

وقال ابن الغليظ المالقي قلت يوما للأديب أبي عبد الله ابن السراج المالقي ونحن على جرية ماء أجز
( شربنا على ماء كأن خريره ) فقال بديها ( بكاء محب بان عنه حبيب ... فمن كان مشغوفا كئيبا بإلفه )
( فإني مشغوف به وكئيب ... )
وذكر ابن بسام في الذخيرة أنه اجتمع ابن عبادة وابن القابلة السبتي بألمرية نظر إلى وسيم يسبح في البحر وقد تعلق بسكان بعض المراكب فقال ابن عبادة
( انظر إلى البدر الذي لاح لك ... )
فقال ابن القابلة
( في وسط اللجة تحت الحلك ... )
( قد جعل الماء سماء له ... واتخذ الفلك مكان الفلك )
وقال أبو عامر بن شهيد لما قدم زهير الصقلبي إلى حضرة قرطبة من المرية وجه وزيره أبو جعفر ابن عباس إلى لمة من أصحابنا منهم ابن برد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني فحضروا إليه فسألهم عني

وقال وجهوا إليه فوافاني رسوله مع دابة بسرج محلى ثقيل فسرت إليه ودخلت المجلس وأبو جعفر غائب فتحرك المجلس لدخولي وقاموا جميعا لي حتى طلع أبو جعفر علينا ساحبا ذيلا لم أر أحدا سحبه قبله وهو يترنم فسلمت عليه سلام من يعرف قدر الرجال فرد ردا لطيفا فعلمت أن في أنفه نعرة لا تخرج إلا بسعوط الكلام ولا ترام إلا بمستحصد النظام ورأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه
فقال لي ابن الحناط وكان كثير الإنحاء علي جالبا في المحافل ما يسوء إلي إن الوزير حضره قسيم وهو يسألنا إجازته فعلمت أني المراد فاستنشدته فأنشد
( مرض الجفون ولثغة في المنطق ... ) فقلت لمن حضر لا تجهدوا أنفسكم فما المراد غيري ثم أخذت الدواة فكتبت
( سببان جرا عشق من لم يعشق ... )
( من لي بألثغ لا يزال حديثه ... يذكي على الأحشاء جمرة محرق )
( ينبي فينبو في الكلام لسانه ... فكأنه من خمر عينيه سقي )
( لا ينعش الألفاظ من عثراتها ... ولو انها كتبت له في مهرق )
ثم قمت عنهم فلم ألبث أن وردوا علي وأخبروني أن أبا جعفر لم يرض بما جئت به من البديهة وسألوني أن أحمل مكاوي الهجاء على حتاره فقلت
( أبو جعفر كاتب محسن ... مليح سنا الخط حلو الخطابة )
( تملأ شحما ولحما وما 5 يليق تملؤه بالكتابه )
( له عرق ليس ماء الحياء ... ولكنه رشح ماء الجنابه )
( جرى الماء في سفله جري لين ... فأحدث في العلو منه صلابه )

وذكر الوزير أبو بكر ابن اللبانة الداني في كتابه سقيط الدرر ولقيط الزهر أن المعتمد بن عباد صنع قسيما في القبة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهي وهو
( سعد السعود يتيه فوق الزاهي ... )
ثم استجاز الحاضرين فعجزوا فصنع ولده عبد الله الرشيد
( وكلاهما في حسنه متناهي ... )
( ومن اغتدى سكنا لمثل محمد ... قد جل في العليا عن الأشباه )
( لا زال يبلغ فيهما ما شاءه ... ودهت عداه من الخطوب دواهي )
وخرج القاضي الفقيه أبو الحسن علي بن القاسم بن محمد بن عشرة أحد رؤساء المغرب الأوسط في جماعة من أصحابه منهم محمد بن عيسى بن سوار الأشبوني ورجل يسمى بأبي موسى خفيف الروح ثقيل الجسم فجعل يعبث بالحاضرين بأبيات من الشعر يصنعها فيهم فصنع القاضي أبو الحسن معاتبا له
( وشاعر أثقل من جسمه ... )
ثم استجاز ابن سوار فقال
( تأتي معانيه على حكمه ... )
( يهجو فلا يهجى فهل عندكم ... ظلامة تعدي على ظلمه )
( لسانه في هجوه حية فيه ... منية الحية في سمه )

( يصيب سر المرء في رميه ... كأنما العالم في علمه )
( أما أبو موسى ففي كفه ... عصا ابنه والسحر في نظمه )
وفي المقتبس في تاريخ الأندلس أن الأمير عبد الرحمن خرج في بعض أسفاره فطرقه خيار جاريته طروب أم ولده عبد الله وكانت أعظم حظاياه عنده وأرفعهن لديه لا يزال كلفا بها هائما بحبها فانتبه وهو يقول
( شاقك من قرطبة الساري ... في الليل لم يدر به الداري ) ثم أنبه عبد الله بن الشمر نديمه فاستجازه كمال البيت فقال
( زار فحيا في ظلام الدجى ... أحبب به من زائر ساري ) وصنع الأمير عبد الرحمن المذكور في بعض غزواته قسيما وهو
( نرى الشيء مما يتقى فنهابه ... )
ثم أرتج عليه وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائبا عن حضرته فأراد من يجيزه فأحضر بعض قواده محمد بن سعيد الزجالي وكان يكتب له فأنشده القسيم فقال
( وما لا نرى مما يقي الله أكثر ... )
فاستحسنه وأجازه وحمله استحسانه على أن استوزره

وذكر ابن بسام أن المعتمد بن عباد أمر بصياغة غزال وهلال من ذهب فصيغا فجاء وزنهما سبعمائة مثقال فأهدى الغزال إلى السيدة ابنه مجاهد والهلال إلى ابنه الرشيد فوقع له إلى أن أن قال
( بعثنا بالغزال إلى الغزال ... وللشمس المنيرة بالهلال )
ثم أصبح مصطحبا وجاء الرشيد فدخل عليه وجاء الندماء والجلساء وفيهم أبو القاسم بن مرزقان فحكى لهم المعتمد البيت وأمرهم بإجازته فبدر ابن مرزبان فقال
( فذا سكني أبوئه فؤادي ... وذا نجلي أقلده المعالي )
( شغلت بذا الطلا خلدي ونفسي ... ولكني بذاك رخي بال )
( دفعت إلى يديه زمام ملكي ... محلى بالصوارم والعوالي )
( فقام يقر عيني في مضاء ... ويسلك مسلكي في كل حال )
( فدمنا للعلاء ودام فينا ... فإنا للسماح وللنزال )
ولما أنشد أبو القاسم ابن الصيرفي قول عبد الله بن السمط
( حار طرف تأملك ... ملك أنت أم ملك ) قال بديها
( بل تعاليت رتبة ... فلك الأرض والفلك )
وذكر ابن بسام في الذخيرة أنه غني يوما بين يدي العالي بالله الإدريسي بمالقة بيت لعبد الله بن المعتز

( هل ترين البين يحتال ... أن غدت للحي أجمال )
فأمر الفقيه أبا محمد غانم بن الوليد المالقي بإجازته فقال بديها
( إنما العالي إمام هدى ... حليت في عصره الحال )
( ملك أقيال دولته ... لذوي الأفهام إقبال )
( قل لمن أكدت مطالبه ... راحتاه الجاه والمال )
وغنى أبو الحسن زرياب يوما بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بهذين البيتين وهما لأبي العتاهية
( قالت ظلوم سمية الظلم ... مالي رأيتك ناحل الجسم )
( يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت الخبير بموقع السهم ) فقال عبد الرحمن هذان البيتان منقطعان فلو كان بينهما ما يصلهما لكان أبدع فصنع عبيد الله بن فرناس بديها
( فأجبتها والدمع منحدر ... مثل الجمان وهى من النظم )
فاستحسنه وأمر له بجائزة في
وذكر ابن بسام أيضا أن المعتمد بن عباد غني بين يديه بقول ابن المعتز [ المتقارب ] وخمارة من بنات المجوس ترى الزق في بيتها شائلا )
( وزنا لها ذهبا جامدا ... فكالت لنا ذهبا سائلا )

فقال بديها يجيزه
( وقلت خذي جوهرا ثابتا ... فقالت خذوا عرضا زائلا )
وركب المعتمد في بعض الأيام قاصدا الجامع والوزير أبو بكر بن عمار يسايره فسمع أذان مؤذن فقال المعتمد
( هذا المؤذن قد بدا بأذانه ... )
فقال ابن عمار
( يرجو بذاك العفو من رحمانه ... )
فقال المعتمد
( طوبى له من شاهد بحقيقة ... )
فقال ابن عمار
( إن كان عقد ضميره كلسانه ... )
وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي أقمت بإشبيلية لما قدمتها على المعتمد بن عباد مدة لا يلتفت إلي ولا يعبأ بي حتى قنطت لخيبتي مع فرط تعبي وهممت بالنكوص على عقبي فإني لكذلك ليلة من الليالي في منزلي إذا بغلام معه شمعة ومركوب فقال لي أجب السلطان فركبت من فوري ودخلت عليه فأجلسني على مرتبة فنك وقال لي افتح الطاق التي تليك ففتحتها فإذا بكور زجاج على بعد والنار تلوح من بابيه وواقدة تفتحهما تارة وتسدهما أخرى ثم دام سد أحدهما وفتح الآخر فحين تأملتهما قال لي أجز

في الظلام قد نجما
فقلت
( كما رنا في الدجنة الأسد ... ) فقال
( يفتح عينيه ثم يطبقها ... ) فقلت
( فعل امريء في جفونه رمد ... )
( فابتزه الدهر نور واحدة ... ) فقلت
( وهل نجا من صروفه أحد ... ) ذلك وأمر لي بجائزة سنية وألزمني خدمته
وقد ذكرنا هذه الحكاية في هذا الكتاب ولكن ما هنا مساقا فلذلك نبهت عليه
475 - وذكر صاحب فرحة الأنفس في أخبار أهل الأندلس أن أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر جلس في جماعة من خواصه ومعهم أبو القاسم لب وكان يعده للمجون والتطايب فقال له اهج عبد الملك بن جهور يعني أحد وزرائه فقال أخافه فقال لعبد الملك فاهجه أنت فقال أخاف على عرضي منه فقال أهجوه أنا وأنت ثم صنع
( لب أبو القاسم ذو لحية ... طوية أزري بها الطول )

عبد الملك
( وعرضها ميلان إن كسرت ... والعقل مأفون ومخبول ) الناصر للب اهجه فقد هجاك فقال بديهيا
( قال أمين الله في عصرنا ... لي لحية أزري بها الطول )
( وابن جهير قال قول الذي ... مأكوله القرضيل والفول )
( لولا حيائي من إمام الهدى ... نخست بالمنخس شو . . . )
ثم سكت فقال له الناصر هات تمام البيت فامتنع فقال له قولو يعني تمام البيت كلمة قالها الناصر مسترسلا غير متحفظ من زيادة الواو وإبدال الهاء واوا إذ صوابها قله على حكم المشي مع الطبع والراحة من التكلف فقال لب يا مولانا أنت هجوته ففطن الناصر والحاضرون وضحكوا وأمر له بجائزة
والقرضيل شوك له ورق عريض تأكله البقر وقوله شو اسم لذكر الرجل بالرومية وقولو اسم للاست بها فكأنه قال لولا حيائي من إمام الهدى نخست بالمنخس الذي هو الذكر استه

بسم الله الرحمن الرحيم

الباب السابع
تتمة
476 - وقال ابن ظافر أخبرني من أثق به قال اجتمع الوزير أبو بكر ابن القبطرنة والأستاذ أبو العباس ابن صارة في يوم جلا ذهب برقه وأذاب ورق ودقه والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء واهتزت وربت عند نزول الماء فترافدا فى صفتها فقال ابن صارة
( هذي البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار )
فقال ابن القبطرنة
( وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والإضرار )
فقال ابن صاره
( فإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار )
فقال ابن القبطرنة
( فمن أجل عزة ذا وذلة هذه ... تبكي الغمام وتضحك الأزهار )

477 - وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي صاحب الشرطة يخاطب الوزير أبا الحسن جعفر بن عثمان المصفحي لما كتب كتابا له فيه فاضت نفسه بالضاد مبينا له الخطأ دون تصريح
( قل للوزير السني محتده ... لي ذمة منك أنت حافظها )
( عناية بالعلوم معجزة ... قد بهظ الأولين باهظها )
( يقر لي عمرها ومعمرها ... فيها ونظامها وجاحظها )
( قد كان حقا قبول حرمتها ... لكن صرف الزمان لافظها )
( وفي خطوب الزمان لى عظة ... لو كان يثني النفوس واعظها )
( إن لم تحافظ عصابة نسبت ... إليك قدما فمن يحافظها )
( لا تدعن حاجتي بمطرحة ... فإن نفسي قد فاظ فائظها )
فأجابه المصحفي
( خفض فواقا فأنت أوحدها ... علما ونقابها وحافظها )
( كيف تضيع العلوم فى بلد ... أبناؤها كلهم يحافظها )
( ألفاظهم كلها معطلة ... مالم يعول عليك لافظها )
( من ذا يساويك إن نطقت وقد ... أقر بالعجز عنك جاحظها )
( علم ثنى العالمين عنك كما ... ثنى عن الشمس من يلاحظها )
( وقد أتتني فديت شاغلة ... للنفس أن قلت فاظ فائظها )
( فأوضحنها تفز بنادرة ... قد بهظ الأولين باهظها )
فأجابه الزبيدى وضمن شعره الشاهد على ذلك
( أاتاني كتاب من كريم مكرم ... فنفس عن نفس تكاد تفيظ )

( فسر جميع الأولياء وروده ... وسيء رجال آخرون وغيظوا )
( لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه ... لدي سواه والكريم حفيظ )
( وباحثت عن فاظت وقبلي قالها ... رجال لديهم فى العلوم حظوظ )
( روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا ... مقال أبي الغياظ وهو مغيظ )
( وسميت غياظا ولست بغائظ ... عدوا ولكن للصديق تغيظ )
( فلا رحم الرحمن روحك حية ... ولاهي فى الارواح حين تفيظ )
قلت وفي خطاب الوزير بهذا البيت وإن حكي عن قائله ما لا يخفي أن اجتنابه المطلوب على انه قد يقال فاضت نفسه بالضاد كما ذكره ابن السكيت فى خلل الألفاظ له والله أعلم
وكتب الزبيدي المذكور إلى أبي مسلم ابن فهد
( أبا مسلم إن الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللبس )
( وليست ثياب المرء تغني قلامة ... إذا كان مقصورا على قصر النفس )
( وليس يفيد العلم والحلم والحجى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي )
وقال وقد استأذن الحكم المستنصر فى الرجوع الى أهله بإشبيلية ولم يأذن له فكتب إلى جاريته سلمى
( ويحك يا سلم لا تراعي ... لابد للبين من زماع )
( لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع )
( ماخلق الله من عذاب ... أشد من وقفة الوداع )
( ما بينها والحمام فرق ... لولا المناحات والنواعي )

( إن يفترق شملنا وشيكا ... من بعد ما كان ذا اجتماع )
( فكل شمل الى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع )
( وكل قرب إلى بعاد ... وكل وصل إلى انقطاع )
478 - واجتمع جماعة من الأدباء فيهم أبو الحسن سهل بن مالك والمهر ابن الفرس وغيرهما بمدينة سبتة سنة 581 فتذاكروا محبوبا لهم يسكن الجزيرة الخضراء أمامهم فقالوا ليقل كل واحد منكم شيئا فيه فقال سهل بن مالك
( لما حططت بسبتة قتب النوى ... والقلب يرجو أن يحول حاله )
( والجو مصقول الأديم كأنما ... يبدى الخفي من الأمور صقاله )
( عاينت من بلد الجزيرة مكنسا ... والبحر يمنع أن يصاد غزاله )
( كالشكل فى المرآة تبصره وقد ... قربت مسافته وعز مناله )
فقال الجماعة والله لايقول أحد منا بعد هذا شيئا
479 - ولما قرأ أبو محمد عبدالله بن مطروح البلنسي صداق إملاك وغير فيه حال القراءة لفظة غير برفع ماكان منصوبا أو بالعكس أنشد بديها بعد الفراغ معتذرا عن لحنه
( غيرت غيرا فصرت عيرا ... وهكذا من يجد سيرا )
فأجابه الحافظ أبو الربيع ابن سالم الكلاعي وكان إلى جانبه بديهة
( ما أنت ممن يظن فيه ... بذاك جهل فظن خيرا )

480 - ووقف أبو أمية ابن حمدون بباب الأستاذ الشلوبين فكتب فى ورقة أبو أمية بالباب ودفع الورقة لخادم الأستاذ فلما نظر اليها الأستاذ نون تاء أمية ولم يزد على ذلك وأمر الخادم بدفع الورقة اليه فلما نظر فيها أبو أمية انصرف علما منه أن الأستاذ صرفه فانظر الى فطنة الشيخ والتلميذ مع أن الشيخ منسوب الى التغفل فى غير العلم
481 - ومن حكايات أهل الأندلس فى العفو أن المعتصم بن صمادح كان قد أحسن للنحلي البطليوسي ثم إن النحلي سار إلى إشبيلية فمدح المعتضد ابن عباد بشعر قال فيه
( أباد ابن عباد البربرا ... وأفنى ابن معن دجاج القرى )
ونسي ماقاله حتى حل بالمرية فأحضره ابن صمادح لمنادمته وأحضر للعشاء موائد ليس فيها غير دجاج فقال النحلي يامولاي ماعندكم فى المرية لحم غير الدجاج فقال انما أردت ان أكذبك فى قولك
( وأفنى ابن معن دجاج القرى ...
فطار سكر النحلي وجعل يعتذر فقال له خفض عليك إنما ينفق مثلك بمثل هذا وإنما العتب على من سمعه فاحتمله منك فى حق من هو فى نصابه ثم أحسن إليه وخاف النحلي ففر من المرية ثم ندم فكتب الى المعتصم
( رضى ابن صمادح فارقته ... فلم يرضني بعده العالم )
( وكانت مريته جنة ... فجئت بما جاءه آدم )
فما زال يتفقده بالإحسان على بعد دياره وخروجه عن اختياره انتهى
482 - وقال فى بلنسية أبو عبدالله الرصافي وقد خرج منها صغيرا

( بلادي التي ريشت قويدمتي بها ... فريخا وآوتني قرارتها وكرا )
( مهادي ولين العيش في ريق الصبا ... أبى الله أن انسى اعتيادى بها خيرا )
483 - وقال أبو بكر محمد بن يحيى الشلطيشي
( وفاة المر ء سر لم يكاشف ... ولم تثبت حقيقته دراية )
( سيفنى كل ذى شبح ونفس ... وتلتحق النهاية بالبدايه )
( وينصدع الجميع الى صدوع ... تعود له البرية كالبرايه )
( كأن مصائب الدنيا سهام ... لها الأيام أغراض الرمايه )
( فنل ماشئت إن الفقر حد ... وعش ماشئت إن الموت غايه )
484 - وقال أبو بكر محمد بن العطار اليابسي وهو من رجال الذخيرة
( أمطيت عزمك منه متن سابحة ... خلت الحباب على لباتها لببا )
( تبدو على الموج أحيانا ويضمرها ... كالعيس تعتسف الأهضام والكثبا )
485 - وقال محمد بن الحسن الجبلي النحوي
( وما الأنس بالناس الذين عهدتهم ... بأنس ولكن فقد رؤيتهم أنس )
( إذا سلمت نفسي وديني منهم ... فحسبي أن العرض مني لهم ترس )
486 - وقال محمد بن حرب
( طوبى لروضة جنة ... لك قد نويت ورودها )
( نظمت على لباتها ... أيدى الغمام عقودها )

( وسقت بماء الورد وال مسك ... الفتيت صعيدها )
( والطير تشدو فى الغصون ... المائدات قصيدها )
( وتعير سمع المستعير ... نظيمها ونشيدها )
487 - وكان فى دار محمد بن اليسع شاعر الدولة العامرية وردة وكان يهدى وردها كل عام الى عارض الجيش أحمد بن سعيد فغاب العارض سنة فقال
( قال لي الورد وقد لا حظته ... فى روضتيه )
( وهو قد أينع طيبا ... جمع الحسن لديه )
( أين مولاي الذي قد ... كنت تهديني اليه )
( قلت غاب العام فايأس ... أن ترى بين يديه )
( فبدا يذبل حتى ... ظهر الحزن عليه )
488 - وقال أحمد بن أفلح
( ما أستريح إلى حال فأحمدها ... بالبين قلبي وقبل البين قد ذهبا )
( إن كان لي أرب فى العيش بعدكم ... فلا قضيت إذن من حبكم أربا )
489 - وقال أحمد بن تليد الكاتب
( لم أرض بالذل وإن قلا ... والحر لا يحتمل الذلا )
( يارب خل كان لي خامل ... صار الى العزة فاحولا ) ( حرمت إلمامي على بابه ... ووصله لم أره حلا )

( تأبى على النفس من أن أرى ... يوما على مستثقل كلا )
490 - وقال إسحاق بن المنادى وقد أهدى له من يهواه تفاحة
( مجال العين فى ورد الخدود ... يذكر طيب جنات الخلود )
( وآرجة من التفاح تزهو ... بطيب النشر والحسن الفريد )
( أقول لها فضحت المسك طيبا ... فقالت لي بطيب أبي الوليد )
491 - وقال غالب بن عبدالله الثغري
( ياراحلا عن سوادالمقلتين الى ... سواد قلب عن الأضلاع قد رحلا )
( غدا كجسم وأنت الروح فيه فما ... ينفك مرتحلا ما دمت مرتحلا )
( وللفراق جوى لو مر أبرده ... من بعد فرقتكم بالماء لاشتعلا )
492 - وقال الوزير أبو الحسن ابن الامام الغرناطي يهجو مراكش المحروسة
( ياحضرة الملك ما أشهاك لي وطنا ... لولا ضروب بلاء فيك مصبوب )
( ماء زعاق وجو كله كدر ... وأكلة من بذنجان ابن معيوب )
وابن معيوب هذا كان من خدام أبي العلاء ابن زهر يزعم الناس أنه سم

ابن باجة لعداوته لابن زهر فى باذنجان
493 - ولما بنى الفقيه أبو العباس ابن القاسم قصره بسلا وشيده وصفته الشعراء وهنته به ودعت له وكان بالحضرة حينئذ الوزير أبو عامر ابن الحمارة ولم يكن أعد شيئا فأفكر قليلا ثم قال
( يا واحد الناس قد شيدت واحدة ... فحل فيها محل الشمس فى الحمل )
( فما كدارك فى الدنيا لذى أمل ... ولا كدارك فى الأخرى لذى عمل )
وفيهم يقول ابن بقي فى موشحته الشهيرة التى آخرها
( إن جئت أرض سلا ... تلقاك بالمكارم فتيان )
( هم سطور العلا ... ويوسف بن القاسم عنوان )
494 - وكان محمد بن عبادة بالمرية ومعه ابن القابلة السبتي فنظر الى غلام وسيم يسبح وقد تعلق بمركب فقال ابن عبادة
( انظر الى البدر الذى لاح لك ... ) فقال ابن القابلة
فى وسط اللجة تحت الحلك )
( قد جعل الماء مكان السما ... واتخذ الفلك مكان الفلك )

- وقال ابن خروف ويروى لغيره
( أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي )
( مفضض الثغر له شامة ... مسكية فى خده المذهب )
( أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمسا من المغرب )
496 - واجتمع فى بستان واحد ثلاثة شعراء من الأندلس وهم ابن خفاجة وابن عائشة وابن الزقاق فقال ابن خفاجة يصف الحال هنالك
( لله نورية المحيا ... تحمل نارية الحميا )
( درنا بها تحت ظل دوح ... قد راق مرأى وطاب ريا )
( تجسم النور فيه نورا ... فكل غصن به ثريا )
وقال ابن عائشة
( ودوحة قد علت سماء ... تطلع أزهارها نجوما )
( هفا نسيم الصبا علينا ... فخلتها أرسلت رجوما )
( كأنما الأفق غار لما ... بدت فأغرى بها النسيما )
وقال ابن الزقاق
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح )

( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
497 - وقال الأديب أبو الحسن ابن زنون وقع بيدى وأنا أسير بقيجاطة أعادها الله تعالى دار إسلام كتاب ترجمته كتاب التحف والطرف لابن عفيون فوجدت فيه قال الحسين بن الضحاك
( ماكان أحوجني يوما الى رجل ... فى وسطه ألف دينار على فرس )
( فى كفه حربة يفرى الدروع بها ... وصارم مرهف الحدين كالقبس )
( فلو رجعت ولم أظفر بمهجته ... وقد خضبت ذباب الصارم الشكس )
( فلا اغتبطت بعيش وابتليت بما ... يحول بيني وبين الشادن الأنس )
ووقف على هذه القطعة أبو نواس فقال
( ماكان أحوجني يوما الى خنث ... حلو الشمائل فى باق من الغلس )
( في كفه قهوة يسبي النفوس بها ... محكم الطرف للألباب مختلس )
( فلو رجعت ولم أظفر بتكته ... وقد رويت من الصهباء كالقبس )
( فلا هنيت بعيش وابتليت بما ... يكون منه صدود الشادن الأنس )
( هذا ألذ وأشهى من منى رجل ... فى وسطه ألف دينار على فرس )
ووقف على ذلك الوزير أبو عامر ابن ينق فقال
( ماكان أحوجني يوما الى رجل ... يردد الذكر فى باق من الغلس )
( فى حلقه غنة يشفي النفوس بها ... وفى الحشا زفرة مشبوبة القبس )
( فلو رجعت ولم أوثر تلاوته ... على سماع غناء الشادن الأنس )

( فلا حمدت إذن نفسي ولا اعتمدت ... بي النجائب قصد البيت والقدس )
( ولا أسلت بقبر المصطفى مقلا ... تبكي عليه بهامي الدمع منبجس )
فوقفت على ذلك يقول ابن زنون فقلت وكل ينفق مما عنده ومن عجائب الله أنه عند فراغي من كتب هذه القطعة وصل الفكاك الي وحل قيودي وأخرجني الى بلاد المسلمين وهي
( ما كان أحوجني يوما الى رجل ... يأتي فينبهني فى فحمة الغلس )
( يفك قيدي وغلي غير مرتقب ... ولا مبال من الحجاب والحرس )
( وقوله لي تأنيسا وتسلية ... هذا سلاحي فالبسه وذا فرسي )
( فلو جبنت ولم أقبل مقالته ... وأمتطي الطرف وثبا فعل مفترس )
( إذن خلعت لباس المجد من عنقي ... وصار حظي منه حظ مختلس )
( وأخلفتني أماني التى طمحت ... نفسي اليها وإحساني لكل مسي )
498 - وقال أبو بكر ابن حبيش وقد زاره بعض أودائه فى يوم عيد الفطر
( أكل ذا الاجمال فى ذا الجمال ... الله أستحفظ ذاك الكمال )
( يامالكا بالبر رقي أما ... يكفيك أن تملكني بالوصال )
( سرت الى ربعي زورا كما ... سرى الى المهجور طيف الخيال )
( العيد لي وحدي بين الورى ... حقا لأني قد رأيت الهلال )
( صومي مقبول وبرهانه ... أني أدخلت جنان الوصال )
499 - وقال أبو بكر ابن يوسف اللخمي وقد عاده في شكاية فتى وسيم من الأعيان كان والده خطيب البلد

( يا عائدي وهو أصل ما بي ... أفديك من ممرض طبيب )
( أصميت لما رميت قلبي ... بسهم ألحاظك المصيب )
( وجئتني منكرا لسقمي ... وتلك من عادة الحبيب )
( ياساعة قد غفرت فيها ... وما كان للدهر من ذنوب )
( ماكان فى فضلها مقال ... لو لم تكن جلسة الخطيب )
500 - وخاطب أبوزيد ابن أبي العافية أبا عبدالله ابن العطار القرطبي بقصيدة منها هذا البيت
( وكيف يفيق ذو صبر قصير ... حليف وساوس حول طوال )
يعرض له بطوله وحوله ولصاحبه أبي محمد ابن بلال بقصره فراجعه أبو عبدالله المذكور بهذه الأبيات يعرض له فيها بجربه وكان أبوزيد أصابه جرب كثير
( اجل يانافث السحر الحلال ... أتاني منك نظم كاللآلي )
( يروقك أولا لفظا ومعنى ... ويلدغ آخرا لدغ الصلال )
( تعرض فيه انك ذو مطال ... حليف وساوس حول طوال )
( كأنك لم تجرب قط خلقا ... ولم تعرف بتجربة الليالي )
( أأنسيت التجارب إذ تجاري ... بهن الجربياء مع الشمال )
( فلا تغفل عن التجريب يوما ... ولو أعطيت فيه جراب مال )
( وجرب جار بيتك واختبره ... وجر برجله إن كان قالي )
( وجار بنيك لا تستحي منه ... ومن نجار بابك لا تبال )
( وأجر ببالك الجرباء تبصر ... نجوم الأفق تجرى بانتقال )
( وجرب أهل جربة تلف قوما ... أبوا لبس الجوارب والنعال )
( تجارا باعة تجروا بزيت ... تسموا بالتجار بغير مال )

( اذا سمعوا بتمر في جريب ... جروا ببطاء ذى التمر البوالي )
( إذا جربت هذا الخلق أبدى ... لك التجريب أجربة خوالي )
( جرى بالنجح دهرا جر بؤسا ... عليك وجار بالنوب الثقال )
501 - وخرج ثلاثة أدباء لنزهة خارج مرسية وصلوا خلف إمام بمسجد قرية فأخطأ فى قراءته وسها فى صلاته فلما خرج أحدهم كتب على حائط المسجد
( ياخجلتي لصلاة ... صليتها خلف خلف )
فلما خرج الثاني كتب تحته
( أغض عنها حياء ... من المهيمن طرفي )
فلما خرج الثالث كتب تحته
( فليس تقبل منا ... لو أنها ألف ألف )
502 - وقال ابو اسحاق ابن خفيف الأندلسي فى أحدب أخذ مع صبي فى خلوة فضربا وطيف بهما والأحدب على عنق الصبي
( رأيت اليوم محمولا ... وأعجب منه من حمله )
( جمال الناس تحملهم ... وهذا حامل جمله )
503 - وقال أبو الصلت الأندلسي

( وقائلة مابال مثلك خاملا ... أأنت ضعيف الرأي ام أنت عاجز )
( فقلت لها ذنبي الى القوم أنني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز )
504 - وكتب بعض المغاربة لأبي العباس ابن مضاء يذكره بحاله
( ياغارسا لي ثمار مجد ... سقيتها العذب من زلالك )
( أخاف من زهرها سقوطا ... إن لم يكن سقيها ببالك )
505 - وكتب الكاتب أبوعبدالله القرطبي مستنجزا وعدا
( أبا عبد الاله وعدت وعدا ... فأنجز تربح الشكر الجزيلا )
( ولا تمطل فإن المطل يمحو ... من الإحسان رونقه الصقيلا )
( إذا كان الجميل يحب طبعا ... فإني أكره الصبر الجميلا )
506 - وكتب ابن هذيل الفزاري للغني بالله سلطان لسان الدين بن الخطيب
( ليس يامولاي لي من جابر ... إذ غدا قلبي من البلوى جذاذا )
( غير صك احمر تكتب لي ... فيه يمناك اعتناء صح هذا )
507 - وقال أبو الحسن ابن الزقاق فى غلام يهودي كان يجلس معه وينادمه يوم سبت
( وحبب يوم السبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذى أنا أحببت )
( ومن أعجب الأشياء أني مسلم ... حنيف ولكن خير أيامي السبت )
508 - وقال أبو حيان
( ويعجبني رشف تلك الشفاه ... وعض الخدود وهصر القوام )

( محاسن فاتت قضيب الأراك ... وورد الرياض وكأس المدام )
509 - وكتب أحد الأدباء بمرسية الى فتى وسيم من أعيانها كان يلازم حانوت بعض القضاة بها للتفقه عليه بأبيات فى غرض فراجعه عنه أبو العباس ابن سعيد بقوله
( ما للمحب لدي غير صبابة ... تقضي عليه ولوعة وغرام )
( فدع الطماعة واسترح باليأس من ... وصل عليك إلى الممات حرام )
510 - وقال السميسر
( قرابة السوء شر داء ... فاحمل أذاهم تعش حميدا )
( ومن تكن قرحة بفيه ... يصبر على مصه الصديدا )
511 - وقال ابن خفاجة
( إن للجنة بالأندلس ... مجتلى عين وريا نفس )
( فسنا صبحتها من شنب ... ودجى ليلتها من لعس )
( فإذا ما هبت الريح صبا ... صحت واشوقي إلى الاندلس )
512 - وقال بعض الأندلسيين ممن لم يحضرني اسمه الان
( إذا صال ذو ود بود صديقه ... فيا أيها الخل المصاحب لي صل بي )
( فإني مثل الماء لينا لصاحبي ... وناهيك للأعداء من رجل صلب )
513 - وقال أبو يحيى ابن هشام القرطبي
( وخائط رائع جمالا ... وصاله غاية اقتراحي )

( تنعم منه الخيوط فتلا ... بين أقاح وبين راح )
( تراه فى السلم ذا طعان ... بنافذات بلا جراح )
( حلقته أشبهت فؤادي ... لكثرة الوخز فى النواحي )
( تقطع الثوب راحتاه ... كصنع ألحاظه الملاح )
( فقبله ما رأيت بدرا ... ممزقا بردة الصباح )
514 - وقال أبو جعفر أحمد بن عبدالولي البلنسي
( غصبت الثريا فى البعاد مكانها ... وأودعت فى عيني صادق نوئها )
( وفى كل حال لم تزالي بخيلة ... فكيف أعرت الشمس حلة ضوئها )
قال ابن الأبار أنشد مؤلف قلائد العقيان هذين البيتين لأبي جعفر البني اليعمري وأحدهما غالط من قبل اشتباه نسبهما والتفرقة بينهما مستوفاة في تأليفي المسمى ب هداية المعتسف فى المؤتلف والمختلف انتهى
وأبو جعفر ابن عبدالولي المذكور أحرقه القنبيطور لعنه الله تعالى حين تغلبه بالروم على بلنسية قال ابن الأبار وذلك في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وقيل إن احراقه كان سنة تسعين وأربعمائة انتهى515 - وقال أبو العباس القيجاطي فيما أنشده له ابن الطيلسان
( ليس الخمول بعار ... على امرىء ذى جلال )
( فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي )

516 - وقال أبو محمد ابن جحاف المعافرى البلنسي
( أقول وقد خوفوني القران ... وماهو من شره كائن )
( ذنوبي أخاف و أما القران ... فإني من شره آمن )
وأبوه أبو أحمد هو المحرق ببلنسية كما ذكرناه فى غير هذا الموضع
517 - وقال أبو العباس المالقي
( وبين ضلوعي للصبابة لوعة ... بحكم الهوى تقضي علي ولا أقضي )
( جني ناظري منها على القلب ماجنى ... فيا من رأى بعضا يعين على بعض )
518 - ودخل أبو القاسم ابن عبد المنعم وكان أزرق وسيما ومعه أبو عبدالله الشاطبي وأبو عثمان سعيد بن قوشترة على صاحب كتاب مشاحذ الأفكار فى مآخذ النظار فقال ابن قوشترة
( عابوه بالزرق الذى بجفونه ... والماء أزرق والسنان كذلكا )
فقال الشاطبي
( والماء يهدي للنفوس حياتها ... والرمح يشرع للمنون مسالكا )
فقال أبوبكر ابن طاهر صاحب كتاب المشاحذ
( وكذاك فى أجفانه سبب الردى ... لكن أرى طيب الحياة هنالكا )
وهذا من بارع الإجازة وكم لأهل الأندلس من مثل هذا الديباج الخسرواني رحمهم الله تعالى وسامحهم

519 - وكتب الشيخ الإمام العالم العلامة أبو عبدالله محمد بن الصائغ الأندلسي النحوي عند قول الحريري امنا أن يعززا بثالث مانصه قد جيء لهما بثالث ورابع في قافيتهما وهو قول بعض الفضلاء
( ما الأمة اللكعاء بين الورى ... كمسلم حر أتى ملأمة )
( فمه إذا استجديت من قول لا ... فالحر لا يملأ منها فمه )
ثم قال وبخامس وسادس
( انقد مهوى أزره فانثنى ... مه ياعذولي فى الذي انقد مه )
( مندمة قتل المعنى فلا ... ترسل سهام اللحظ تأمن دمه )
قلت رأيت فى المغرب فى هذا المعنى ما ينيف على سبعين بيتا كلها مساجلة لبيتي الحريري رحمه الله تعالى
520 - وقال أبو بكر عبادة الشاعر في أبي بكر والد الوزير أبي الوليد ابن زيدون
( أي ركن من الرياسة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا )
( حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا )
( مثل حمل السحاب ماء طبيبا ... لتداوي به مكانا مريضا )
وكان المذكور توفي في ضيعة له ونقل تابوته الى قرطبة فدفن فى الربض سنة 405 وولد سنة 304
521 - وقال أبو بكر ابن قزمان صاحب الموشحات

( وعهدي بالشباب وحسن قدي ... حكى الف ابن مقلة فى الكتاب )
( فصرت اليوم منحنيا كأني ... أفتش فى التراب على شبابي )
وقال
( يارب يوم زارني فيه من ... أطلع من غرته كوكبا )
( ذو شفة لمياء معسولة ... ينشع من خديه ماء الصبا )
( قلت له هب لي بها قبلة ... فقال لي مبتسما مرحبا )
( فذقت شيئا لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا )
( أسعدني الله بإسعاده ... ياشقوتي يا شقوتي لو أبى )
قال لسان الدين كان ابن قزمان نسيج وحده أدبا وظرفا ولوذعية وشهرة قال ابن عبدالملك كان أديبا بارعا حلو الكلام مليح التندير مبرزا فى نظم الزجل قال لسان الدين وهذه الطريقة الزجلية بديعة تتحكم فيها ألقاب البديع وتنفسح لكثير مما يضيق على الشاعر سلوكه وبلغ فيها أبوبكر رحمه الله تعالى مبلغا حجره الله عمن سواه فهو آيتها المعجزة وحجتها البالغة وفارسها المعلم والمبتدىء فيها والمتمم
وقال الفتح فى حقه مبرز فى البيان ومحرز للسبق عند تسابق الأعيان اشتمل عليه المتوكل على الله فرقاه إلى مجالس وكساه ملابس فامتطى أسمى الرتب وتبوأها ونال أسنى الخطط وما تملأها وقد أثبت

له مايعلم به رفيع قدره ويعرف كيف أساء له الزمان بغدره كقوله
( ركبوا السيول من الخيول وركبوا ... فوق العوالي السمر زرق نطاف )
( وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف )
والمأذي العسل والنطاف جمع النطفة وهى الماء الصافي قل أو كثر
522 - نقول من المطمح
1 - وقال الفقيه أبو بكر ابن القوطيه صاحب الأفعال فى اللغة والغريب في زمن الربيع
( ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... فاخضر شاربه وطر عذاره )
( ورنت حدائقه وزرر نبته ... وتعطرت أنواره وثماره )
( واهتز ذابل كل ماء قرارة ... لما أتى متطلعا آذاره )
( وتعممت صلع الربى بنباته ... وترنمت من عجمة أطياره )
وقال في المطمح فى حق ابن القوطية المذكور إنه ممن له سلف وثنية كلها شرف وهو أحد المجتهدين فى الطلب والمشتهرين بالعلم والأدب والمنتدبين للعلم والتصنيف والمرتبين له بحسن الترتيب والتأليف وكان له شعر نبيه وأكثره أوصاف وتشبيه انتهى
2 - وقال القاضي الأجل يونس بن عبدالله بن مغيث

( أتوا حسبة إذ قيل جد نحوله ... فلم يبق من لحم عليه ولا عظم )
( فعادوا قميصا في فراش فلم يروا ... ولا لمسوا شيئا يدل على جسم )
( طواه الهوى فى ثوب سقم من الضنى ... وليس بمحسوس بعين ولا وهم )
وقال فى المطمح فيه إنه قاضي الجماعة بقرطبة فاضل ورع مبرز في النساك والزهاد دائم الأرق فى التخشع والسهاد مع التحقق بالعلم والتمييز بحمله والتحيز إلى فئة الورع وأهله وله تآليف فى التصوف والزهد منها كتاب المنقطعين الى الله وكتاب المجتهدين وأشعار فى هذا المعنى منها قوله
( فررت إليك من ظلمي لنفسي ... وأوحشني العباد وأنت أنسي )
( قصدت إليك منقطعا غريبا ... لتؤنس وحدتي فى قعر رمسي )
( وللعظمى من الحاجات عندي ... قصدت وأنت تعلم سر نفسي )
ولما أراد المستنصر بالله غزو الروم تقدم الى أبي محمد والده بالكون في صحبته ومسايرته في غزوته فاعتذر بعذر يجده فقال له الحكم إن ضمن لي أن يؤلف في أشعار خلفائنا بالمشرق والأندلس مثل كتاب الصولي في أشعار خلفاء بني العباس أعفيته من الغزاة وجازيته أفضل المجازاة فأجابه إليه على أن يؤلفه بالقصر فزعم أنه رجل مزور وأن ذلك الوضع ممتنع على من يلم به ويزور فألفه بدار الملك المطلة على النهر وأكمله فيما دون شهر وتوفي والمستنصر بعد فى غزاته
3 - وقال ابن سيده صاحب المحكم يخاطب إقبال الدولة
( ألا هل الى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيبل فإن الأمن في ذاك واليمنا )
قال في المطمح الفقيه أبو الحسن على بن أحمد المعروف بابن سيده إمام فى اللغة العربية وهمام فى الفئة الأدبية وله فى ذلك أوضاع لأفهام أخلافها استدرار واسترضاع حررها تحريرا وأعاد طرف الذكاء بها قريرا وكان منقطعا الى الموفق صاحب دانية وبها أدراك أمانيه ووجد تجرده للعلم وفراغه وتفرد بتلك الاراغة ولا سيما كتابة المسمى بالمحكم فإنه أبدع كتاب وأحكم ولما مات الموفق رائش جناحه ومثبت غرره وأوضاحه خاف من ابنه إقبال الدولة وأطاف به مكروها بعض من كان حوله إذ أهل الطلب كحيات مساورة ففر الى بعض الأعمال المجاورة وكتب إليه منها مستعطفا
( ألا هل الى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن فى ذاك واليمنا )
( فتنضى هموم طلحته خطوبها ... ولا غاربا يبقين منه ولا متنا )
( غريب نأى أهلوه عنه وشفه ... هواهم فأمسى لايقر ولا يهنا )
( فيا ملك الأملاك إنى محلا ... عن الورد لا عنه أذاذ ولا أدنى )
( تحققت مكروها فأقبلت شاكيا ... لعمري أمأذون لعبدك أن يعنى )
( وإن تتأكد في دمي لك نية ... فإني سيف لا أحب له جفنا )
( إذا ماغدا من حر سيفك باردا ... فقدما غدا من برد نعماكم سخنا )
( وهل هي إلا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ماعمرت من ندم سنا )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24