كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

وعليه ألقى الله تعالى فقلت الحمد لله الذي أراك البرهان فاشكر له كثيرا انتهى وقال ابن الأبار حدثني بهذه الحكاية أبو الربيع بن سالم بقراءتي عليه عن الكاتب أبي بكر عبد الرحمن بن مغاور قراءة عليه عن القاضي أبي حفص أحمد بن عبد الرحمن بن جحدر عن أبي الحسن طاهر بن مفوز قال كان أبو محمد - إلى آخرها وهي أتم من هذه انتهى

رجع إلى الباجي
ذكر أبو العرب عبد الوهاب البقساني بسنده إلى القاضي أبي الوليد الباجي أنه كان يقول وقد ذكرت له صحبة السلطان لولا السلطان لنقلتني الذر من الظل إلى الشمس أو ما هذا معناه انتهى ومن فوائد الباجي أنه حكى أن الطلبة كانوا ينتابون مجلس أبي علي البغدادي واتفق أن كان يوما مطر ووحل فلم يحضر من الطلبة سوى واحد فلما رأى الشيخ حرصه على الاشتغال وإتيانه في تلك الحال أنشده
( دببت للمجد والساعون قد بلغوا ... حد النفوس وألقوا دونه الأزرا )
( وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم ... وعانق المجد من وافى ومن صبرا )
( لا تحسب المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا )
انتهى وروى عن القاضي أبي الوليد الباجي رحمه الله تعالى الخطيب البغدادي قوله رحمه الله تعالى

( إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن جميع حياتي كساعه )
( فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه ) وقد ذكرناهما فيما يأتي قريبا من كلام الفتح لكوننا نقلنا كلامه بلفظه رحمه الله تعالى ورضي عنه وقال في القلائد في حق الباجي رحمه الله تعالى ما صورته بدر العلوم اللائح وقطرها الغادي الرائح وثبيرها الذي لا يزحم ومنيرها الذي ينجلي به ليلها الأسحم كان إمام الأندلس الذي تقتبس أنواره وتنتجع نجوده وأغواره رحل إلى المشرق فعكف على الطلب ساهرا وقطف من العلم أزاهرا وتفنن في اقتنائه وثنى إليه عنان اعتنائه حتى غدا مملوء الوطاب وعاد بلح طلبه إلى الإرطاب فكر إلى الأندلس بحرا لا تخاض لججه وفجرا لا يطمس منهجه فتهادته الدول وتلقته الخيل والخول وانتقل من محجر إلى ناظر وتبدل من يانع بناضر ثم استدعاه المقتدر بالله فصار إليه مرتاحا وبدا بأفقه ملتاحا وهناك ظهرت تواليفه وأوضاعه وبدا وخده في سبل العلم وإيضاعه وكان المقتدر يباهي بانحياشه إلى سلطانه وإيثاره لحضرته باستيطانه ويحتفل فيما يرتبه له ويجريه وينزله في مكانه متى كان يوافيه وكان له نظم يوقفه على ذاته ولا يصرفه في رفث القول وبذاته فمن ذلك قوله في معنى الزهد
( إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأن جميع حياتي كساعه )
( فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه )
وله يرثي ابنيه وماتا مغتربين وغربا كوكبين وكانا ناظري الدهر

وساحري النظم والنثر
( رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب )
( لئن غيبا عن ناظري وتبوءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب )
( يقر بعيني أن أزور ثراهما ... وألصق مكنون الترائب بالترب )
( وأبكي وأبكي ساكنيها لعلني ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب )
( فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روحت ريح الصبا عن أخي كرب )
( ولا استعذبت عيناي بعدهما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب )
( أحن ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب ) وله يرثى ابنه محمدا
( أمحمدا إن كنت بعدك صابرا ... صبر السليم لما به لا يسلم )
( ورزئت قبلك بالنبي محمد ... ولرزؤه أدهى لدي وأعظم )
( فلقد علمت بأنني بك لاحق ... من بعد ظني أنني متقدم )
( لله ذكر لا يزال بخاطري ... متصرف في صبره مستحكم فإذا نظرت فشخصه متخيل ... وإذا أصخت فصوته متوهم )
( وبكل أرض لي من اجلك لوعة ... وبكل قبر وقفة وتلوم )
( فإذا دعوت سواك حاد عن اسمه ... ودعاه باسمك معول بك مغرم )
( حكم الردى ومناهج قد سنها ... لأولي النهى والحزن قبل متمم )
انتهى ولعمري إنه لم يوف القاضي أبا الوليد الباجي حقه الواجب المفترض ووددت أنه مد النفس في ترجمته بعبارتة التي يعترف ببراعتها من سلم

له ومن اعترض فإن ترجمة المذكور مما سطره أفسح مجالا وأفصح روية وارتجالا وبالجملة فهو أحد الأعلام الأندلس وهو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي وذكره ابن بسام في الذخيرة وابن خلكان وغير واحد وأصله من بطليوس وانتقل جده إلى باجة قرب إشبيلية وليس هو من باجة القيروان ومولده سنة 403 ورحل سنة 426 فقدم مصر وسمع بها وأجر نفسه ببغداد لحراسة الدروب وكان لما رجع إلى الأندلس يضرب ورق الذهب ويعقد الوثائق إلى أن فشا علمه وتهيأت له الدنيا وشهرته تغني عن
وصفه ومن نظمه قوله
( ما طال عهدي بالديار وإنما ... أنسى معاهدها أسى وتبلد )
( لو كنت أنبأت الديار صبابتي ... رق الصفا بفنائها والجلمد )
وله في المعتضد بن عباد والد المعتمد
( عباد استعبد البرايا ... بأنعم تبلغ النعائم )
( مديحه ضمن كل قلب ... حتى تغنت به الحمائم )
ومن أشهر نظمه قوله
إذا كنت أعلم - البيتين وقد سبقا
وممن ذكره أيضا الحجاري في المسهب وابن بشكوال في الصلة وأنه حج أربع حجج رحمه الله تعالى ! وتوفي في المرية لإحدى عشرة بقيت من رجب وقيل ليلة

سنة أربع وسبعين وأربعمائة ومن تواليفه المنتقى في شرح الموطأ ذهب فيه مذهب الاجتهاد وإيراد الحجج وهو مما يدل على تبحره في العلوم في الفنون ولما قدم من المشرق إلى الأندلس بعد ثلاثة عشر عاما وجد ملوك الطوائف أحزابا مفترقة فمشى بينهم في الصلح وهم يجلونه في الظاهر ويستثقلونه في الباطن ويستبردون نزعته ولم يفد شيئا فالله تعالى يجازيه عن نيته ولما ناظر ابن حزم قال له الباجي أنا أعظم منك همة في طلب العلم لأنك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق فقال ابن حزم هذا الكلام عليك لا لك لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة فأفحمه قال عياض قال لي أصحابه كان يخرج إلينا للإقراء وفي يده أثر المطرقة إلى أن فشا علمه ونوهت الدنيا به وعظم جاهه وأجزلت صلاته حتى مات عن مال وافر وكان يستعمله الأعيان في ترسلهم ويقبل جوائزهم وولي القضاء بمواضع من الأندلس

ترجمة ابن حزم
وابن حزم المذكور هو أبو محمد بن حزم الظاهري قال ابن حيان وغيره كان ابن حزم صاحب حديث وفقه وجدل وله كتب كثيرة في المنطق

والفلسفة لم يخل فيها من غلط وكان شافعي المذهب يناضل الفقهاء عن مذهبه ثم صار ظاهريا فوضع الكتب في هذا المذهب وثبت عليه إلى أن مات وكان له تعلق بالأدب وشنع عليه الفقهاء وطعنوا فيه وأقصاه الملوك وأبعدوه عن وطنه وتوفي بالبادية عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة وقال صاعد في تاريخه كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار أخبرني ابنه الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه من تواليفه نحو أربعمائة مجلد نقله عن تاريخ صاعد الحافظ الذهبي قال الذهبي وهو العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح الأموي مولاهم الفارسي الأصل الأندلسي القرطبي الظاهري صاحب المصنفات وأول سماعه سنة 399 وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر ومع الصدق والديانة والحشمة والسؤدد والرياسة والثروة وكثرة الكتب قال الغزالي رحمه الله تعالى وجدت في أسماء الله تعالى كتابا لأبي محمد بن حزم يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه انتهى باختصار وعلى الجملة فهو نسيج وحده لولا ما وصف به من سوء الاعتقاد والوقوع في السلف الذي أثار عليه الانتقاد سامحه الله تعالى وذكر الذهبي أن عمره اثنتان وسبعون سنة وهو لا ينافي قول غيره إنه كان عمره إحدى وسبعين سنة وعشرة أشهر لأنه ولد رحمه الله تعالى بقرطبة بالجانب الشرقي في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس وبعد سلام

الإمام من صلاة الصبح آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بطالع العقرب وتوفي ليومين بقيا من شعبان سنة 456 وكان كثير المواظبة على التأليف ومن جملة تآليفه كتاب الفصل بين أهل الأهواء والنحل وكتاب الصادع والرادع على من كفر أهل التأويل من فرق المسلمين والرد على فرق التقليد وكتاب شرح حديث الموطإ والكلام على مسائله وكتاب الجامع في صحيح الحديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحها وكتاب التلخيص والتخليص في المسائل النظرية وفروعها التي لا نص عليها في الكتاب والحديث وكتاب منتقى الإجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف وكتاب الإمامة والخلافة في سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها وكتاب أخلاق النفس وكتاب الإيصال إلى فهم كتاب الخصال وكتاب كشف الالتباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس انتهى وقال ابن سعيد في حق ابن حزم ما ملخصه الوزير العالم الحافظ أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي وشهرته تغني عن وصفه وتوفي منفيا بقرية من بلد لبلة ووصله من ابن عمه أبي المغيرة رسالة فيها ما أوجب أن جاوبه بهذه الرسالة وهي سمعت وأطعت لقوله تعالى ( وأعرض عن الجاهلين ) [ الأعراف 199 ] وأسلمت وانقدت لقول نبيه عليه الصلاة و السلام " صل من قطعك واعف عمن ظلمك " ورضيت بقول الحكماء كفاك انتصارا ممن تعرض لأذاك إعراضك عنه وأقول
( تتبع سواي امرأ يبتغي ... سبابك إن هواك السباب ) فإني أبيت طلاب السفاه ... وصنت محلي عما يعاب )

( وقل ما بدا لك من بعد ذا ... وأكثر فإن سكوتي خطاب )
وأقول
( كفاني بذكر الناس لي ومآثري ... ومالك فيهم يا ابن عمي ذاكر )
( عدوي وأشياعي كثير كذاك من ... غدا وهو نفاع المساعي وضائر )
( وإني وإن آذيتني وعققتني ... لمحتمل ما جاءني منك صابر ) فوقع له أبو المغيرة على ظهر رقعته قرأت هذه الرقعة العاقة فحين استوعبتها أنشدتني
( نحنح زيد وسعل ... لما رأى وقع الأسل )
فأردت قطعها وترك المراجعة عنها فقالت لي نفسي قد عرفت مكانها بالله لا قطعتها إلا يده فأثبت على ظهرها ما يكون سببا إلى صونها فقلت
( نعقت ولم تدر كيف الجواب ... وأخطأت حتى أتاك الصواب
( وأجريت وحدك في حلبة ... نأت عنك فيها الجياد العراب )
( وبت من الجهل مستبحبا ... لغير قرى فأتتك الذئاب )
( فكيف تبينت عقبى الظلوم ... إذا ما انقضت بالخميس العقاب )
( لعمرك ما لي طباع تذم ... ولا شيمة يوم مجد تعاب )
( أنيل المنى والظبا سخط ... وأعطي الرضى والعوالي غضاب )
وأقول
( وغاصب حق أوبقته المقادر ... يذكرني حاميم والرمح شاجر )
( غدا يستعير الفخر من خيم خصمه ... ويجهل أن الحق أبلج ظاهر )

( ألم تتعلم يا أخا الظلم أنني ... برغمك ناه منذ عشر وآمر )
( تذل لي الأملاك حر نفوسها ... وأركب ظهر النسر والنسر طائر )
( وأبعث في أهل الزمان شواردا ... تلينهم وهي الصعاب النوافر )
( فإن أثو في أرض فإني سائر ... وإن أنا عن قوم فإني حاضر )
( وحسبك أن الأرض عندك خاتم ... وأنك في سطح السلامة عاثر )
( ولا لوم عندي في استراحتك التي ... تنفست عنها والخطوب فواقر )
( فإني للحلف الذي مر حافظ ... وللنزعة الأولى بحاميم ذاكر )
( هنيئا لكل ما لديه فإننا ... عطية من تبلى لديه السرائر )
ومن شعر أبي محمد ابن حزم يخاطب قاض الجماعة بقرطبة عبد الرحمن ابن بشر
( أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب )
( ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب )
( ولي نحو آفاق العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب )
( فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب )
( فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب )
( هنالك يدري أن للعبد قصة ... وإن كساد العلم آفته القرب )
( فيا عجبا من غاب عنهم تشوقوا ... له ودنو المرء من دارهم ذنب )
( وإن مكانا ضاق عني لضيق ... على أنه فيح مهامهه سهب وإن رجالا ضيعوني لضيع وإن زمانا لم أنل خصبه جدب

ومنها في الاعتذار عن مدحه لنفسه
( ولكن لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من بالنبي ائتسى ذنب )
( يقول مقال الصدق والحق إنني ... حفيظ عليم ما على صادق عتب )
وقوله
( لا يشمتن حاسدي إن نكبة عرضت ... فالدهر ليس على حال بمترك )
( ذو الفضل كالتبر يلقى تحت متربة ... طورا وطورا يرى تاجا على ملك )
وقوله لما أحرق المعتضد بن عباد كتبه بإشبيلية
( دعوني من إحراق رق وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري )
( فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري )
( يسير معي حيث استقلت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري )
وقوله
( لئن أصبحت مرتحلا بشخصي ... فقلبي عندكم أبدا مقيم )
( ولكن للعيان لطيف معنى ... لذا سأل المعاينة الكليم ) وقوله
( وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول )
( أمن أجل وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت عليل )
( فقلت له أسرفت في اللوم فاتئد فعندي رد لو أشاء طويل )
( ألم تر أني ظاهري وأنني ... على ما أرى حتى يقوم دليل

وهو أبو محمد علي بن أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن مزيد القرطبي قال ابنه أبو رافع الفضل اجتمع عندي بخط أبي من تواليفه نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من نحو ثمانين ألف ورقة انتهى وأبوه الوزير أبو عمر المذكور كان من وزراء المنصور بن أبي عامر وتوفي - كما قال ابن حيان - بذي القعدة سنة اثنتين وأربعمائة وكان منشؤه ومولده بقرية تعرف بالزاوية وحكي أن الحافظ أبا محمد بن حزم قصد أبا عامر بن شهيد في يوم غزير المطر والوحل شديد الريح فلقيه أبو عامر وأعظم قصده على تلك الحال وقال له يا سيدي مثلك يقصدني في مثل هذا اليوم فأنشده أبو محمد بن حزم بديها
( فلو كانت الدنيا دوينك لجة ... وفي الجو صعق دائم وحريق )
( لسهل ودي فيك نحوك مسلكا ... ولم يتعذر لي إليك طريق )
قال الحافظ ابن حزم أنشدني الوزير أبي في بعض وصاياه لي
( إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها ) وهذا كاف في فضل الفرع والأصل سامح الله الجميع قال ابن حزم في طوق الحمامة إنه مر يوما هو وأبو عمر بن عبد البر صاحب الاستيعاب بسكة الحطابين من مدينة إشبيلية فلقيهما شاب حسن الوجه فقال أبو محمد هذه صورة حسنة فقال له أبو عمر لم نر إلا الوجه فلعل ما سترته الثياب ليس كذلك فقال ابن حزم ارتجالا

( وذي عذل فيمن سباني حسنه ... )
الأبيات ولابن حزم أيضا قوله
( لا تلمني لأن سبقة لحظ ... فات إدراكها ذوي الألباب )
( يسبق الكلب وثبة الليث في العد ... و ويعلو النخال فوق اللباب )
ولأبي بكر بن مفوز جزء يرد فيه على أبي محمد بن حزم وفيه قال معرضا
( يا من تعاني أمورا لن تعانيها ... خل التعاني واعط القوس باريها )
( تروي الأحاديث عن كل مسامحة ... وإنما لمعانيها معانيها )
وقيل إنه خاطب بهما بعض أصحاب ابن حزم

رجع إلى القاضي أبي الوليد الباجي
- ومن نظمه قوله من مرثية
( أحن ويثني اليأس نفسي على الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب )
ومن جيد نظمه قوله
( أسروا على الليل البهيم سراهم ... فنمت عليهم في الشمال شمائل )
( متى نزلوا ثاوين بالخيف من منى ... بدت للهوى بالمأزمين مخايل )
( فلله ما ضمت منى وشعابها ... وما ضمنت تلك الربى والمنازل )
( ولما التقينا للجمار وأبرزت ... أكف لتقبيل الحصى وأنامل )
( أشارت إلينا بالغرام محاجر ... وباحت به منا جسوم نواحل )

وقال الباجي أبو الوليد رحمه الله تعالى
( مضى زمن المكارم والكرام ... سقاه الله من صوب الغمام )
( وكان البر فعلا دون قول ... فصار البر نطقا بالكلام )
وذيله بعضهم بقوله
( وزال النطق حتى لست تلقى ... فتى يسخو برد للسلام )
( وزاد الأمر حتى ليس إلا ... سخي بالأذى أو بالملام )
46 - ومنهم الفقيه العالم الشهير أبو بكر محمد بن الوليد بن محمد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الطرطوشي صاحب سراج الملوك ويعرف بابن أبي رندقة - بالراء المهملة المفتوحة وسكون النون - وكفى بسراج الملوك دليلا على فضله ذكره ابن بشكوال في الصلة وتوفي بالإسكندرية في شعبان وقيل جمادى الأولى سنة عشرين وخمسمائة وزرت قبره بالإسكندرية وممن أخذ عنه الحافظ القاضي أبو بكر بن العربي وغيره ومن نظم الطرطوشي قوله من رسالة
( أقلب طرفي في السماء ترددا ... لعلي أرى النجم الذي أنت تنظر )
( وأستعرض الركبان من كل وجهة ... لعلي بمن قد شم عرفك أظفر )

( وأستقبل الأرواح عند هبوبها ... لعل نسيم الريح عنك يخبر )
( وأمشي وما لي في الطريق مآرب ... عسى نغمة باسم الحبيب ستذكر )
( وألمح من ألقاه من غير حاجة ... عسى لمحة من نور وجهك تسفر )
ومن نظمه أيضا قوله
( يقولون ثكلى ومن لم يذق ... فراق الأحبة لم يثكل )
( لقد جرعتني ليالي الفراق ... كؤوسا أمر من الحنظل ) ومما نسب إليه
( إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بإنجازها مغرم )
( فأرسل بأكمه جلابة ... به صمم أغطش أبكم )
( ودع عنك كل رسول سوى ... رسول يقال له الدرهم )
وكان كثيرا ما ينشد
( إن لله عبادا فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا )
( فكروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا )
( جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا )
وقال رحمه الله تعالى كنت ليلة نائما بالبيت المقدس إذ سمعت في الليل صوتا حزينا ينشد
( أخوف ونوم إن ذا لعجيب ... ثكلتك من قلب فأنت كذوب )
( أما وجلال الله لو كنت صادقا ... لما كان للإغماض فيك نصيب )

قال فأيقظ النوام وأبكى العيون وكان رحمه الله تعالى زاهدا متورعا متقللا من الدنيا قوالا للحق وكان يقول إذا عرض لك أمر دنيا وأخرى فبادر بأمر الأخرى يحصل لك أمر الدنيا والأخرى وله طريقة في الخلاف ودخل مرة على الأفضل بن أمير الجيوش فوعظه وقال له إن الأمر الذي أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك وهو خارج عن يدك بمثل ما صار إليك فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة فإن الله عز و جل سائلك عن النقير والقطمير والفتيل واعلم أن الله عز و جل آتى سليمان بن داود ملك الدنيا بحذافيرها فسخر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والبهائم وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب ورفع عنه حساب ذلك أجمع فقال عز من قائل ( هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ) [ ص 39 ] فما عد ذلك نعمة كما عددتموها ولا حسبها كرامة كما حسبتموها بل خاف أن يكون استدراجا من الله عز و جل فقال ( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ) [ النمل 40 ] فافتح الباب وسهل الحجاب وانصر المظلوم وكان إلى جانب الأفضل رجل نصراني فأنشده
( يا ذا الذي طاعته قربة ... وحقه مفترض واجب )
( إن الذي شرفت من أجله ... يزعم هذا أنه كاذب )
( وأشار إلى النصراني فأقامه الأفضل من مكانه والطرطوشي - بضم الطاءين - نسبة إلى طرطوشة من بلاد الأندلس

وقد تفتح الطاء الأولى وعبر عنه ابن الحاجب في مختصره الفقهي في باب العتق بالأستاذ وكان رحمه الله تعالى صحب القاضي أبا الوليد الباجي رحمه الله تعالى بسرقسطة وأخذ عنه مسائل الخلاف وسمع منه وأجازه وقرأ الفرائض والحساب بوطنه وقرأ الأدب على أبي محمد بن حزم بمدينة إشبيلية ثم رحل إلى المشرق سنة ست وسبعين وأربعمائة ودخل بغداد والبصرة فتفقه هناك عند أبي بكر الشاشي وأبي محمد الجرجاني وسمع بالبصرة من أبي علي التستري وسكن الشام مدة ودرس بها وكان راضيا باليسير وقال الصفدي في ترجمة الطرطوشي إن الأفضل بن أمير الجيوش أنزله في مسجد شقيق الملك بالقرب من الرصد وكان يكرهه فلما طال مقامه به ضجر وقال لخادمه إلى متى نصبر اجمع لي المباح فجمعه وأكله ثلاثة أيام فلما كان عند صلاة المغرب قال لخادمه رميته الساعة فلما كان من الغد ركب الأفضل فقتل وولي بعده المأمون بن البطائحي فأكرم الشيخ إكراما كثيرا وله ألف الشيخ سراج الملوك انتهى ومقامه - أعني الطرطوشي - مشهور وهذه الحكاية تكفي في ولايته ومن تآليفه مختصر تفسير الثعالبي والكتاب الكبير في مسائل الخلاف وكتاب في تحريم جبن الروم وكتاب بدع الأمور ومحدثاتها وكتاب شرح رسالة الشيخ ابن أبي زيد وولد سنة إحدى وخمسين وأربعمائة تقريبا ولما توفي صلى عليه ولده محمد ودفن رحمه الله تعالى قبل الباب الأخضر بإسكندرية وزرت قبره مرارا رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به ! وكان القاضي عياض ممن استجازه فأجازه ولم يلقه وشهرته رضي الله

تعالى عنه تغني عن الإطناب وحكي أنه كتب على سراج الملوك الذي أهداه لولي الأمر بمصر
( الناس يهدون على قدرهم ... لكنني أهدي على قدري )
( يهدون ما يفنى وأهدي الذي ... يبقى على الأيام والدهر )
( وحكي أنه لما سمع رضي الله تعالى عنه منشدا ينشد للوأواء
( قمر أتى من غير وعد ... في ليلة طرقت بسعد )
( بات الصباح إلى الصباح ... معانقي خدا بخد ) يمتاز في وناظري ... ما شئت من خمر وشهد )
فقال أو يظن هذا الدمشقي أن أحدا لا يحسن ينظم الكذب غيره لو شئنا لكذبنا مثل هذا ثم أنشد لنفسه يعارضه
( قمر بدا من غير وعد ... حفت شمائله بسعد )
( قبلته ورشفت ما ... في فيه من خمر وشهد )
( فرشفت مزن السلسبيل ... بزنجبيل مستعد )
( ولثمت فاه من الغروب ... إلى الصباح المستجد )
( وسكرت من رشفي العقيق ... على أقاح تحت رند )
( فنزعت عن فمه فمي ... ووضعت خدا فوق خد )
( وشممت عرف نسيمه الجاري ... على مسك وند )
( وصحوت من ريا القرنفل ... بين ريحان وورد )
( وألذ من وصلي به ... شكواه وجدا مثل وجدي )
( ومن نظم الطرطوشي قوله أيضا

( كأن لساني والمشكلات ... سنا الصبح ينحر ليلا بهيما )
( وغيري إن رام ما رمته ... خصي يحاول فرجا عقيما )
وقوله أيضا
( فاعمل لمعادك يا رجل فالقوم لدنياهم عملوا )
( وادخر لمسيرك من زاد ... فالقوم بلا زاد رحلوا )
47 - ومنهم محمد بن عبد الجبار الطرطوشي - وفد إلى المشرق وذكره العماد في الخريدة وله في الآمدي العلي بمصر وكان يخضب بسواد الرمان يخضب بأقبح سواد خضب به
( خلط العفص فيه يا أحوج الناس ... إلى العفص حين يعكس عفص )
48 - ومنهم القاضي الشهير الشهيد أبو علي الصرفي وهو حسين بن محمد بن فيره بن حيون ويعرف بابن سكرة وهو من أهل سرقسطة سكن مرسية وروى بسرقسطة عن الباجي وأبي محمد عبد الله بن محمد بن إسماعيل وغيرهما وسمع ببلنسية من أبي العباس العذري وسمع بالمرية من أبي عبد الله محمد بن سعدون القروي وأبي عبد الله بن المرابط وغيرهما

ورحل إلى المشرق أول المحرم من سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وحج من عامه ولقي بمكة أبا عبد الله الحسن بن علي الطبري وأبا بكر الطرطوشي وغيرهما ثم سار إلى البصرة فلقي بها أبا يعلى المالكي وأبا العباس الجرجاني وأبا القاسم بن شعبة وغيرهم وخرج إلى بغداد فسمع بواسط من أبي المعالي محمد بن عبد السلام الأصبهاني وغيره ودخل بغداد سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة فأطال الإقامة بها خمس سنين كاملة وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون مسند بغداد ومن أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي وطراد الزينبي والحميدي وغيرهم وتفقه عند أبي بكر الشاشي وغيره ثم رحل منها سنة سبع وثمانين فسمع بدمشق من أبي الفتح نصر المقدسي وأبي الفرج الإسفراييني وغيرهما وسمع بمصر من القاضي أبي الحسن الخلعي وأبي العباس أحمد بن إبراهيم الرازي وأجاز له الحبال مسند مصر في وقته ومكثرها وسمع بالإسكندرية من أبي القاسم الوراق وشعيب بن سعيد وغيرهما ووصل إلى الأندلس في صفر من سنة سبعين وأربعمائة وقصد مرسية فاستوطنها وقعد يحدث الناس بجامعها ورحل الناس من البلدان إليه وكثر سماعهم عليه وكان عالما بالحديث وطرقه عارفا بعلله وأسماء رجاله ونقلته وكان حسن الخط جيد الضبط وكتب بخطه علما كثيرا وقيده وكان حافظا لمصنفات الحديث قائما عليها ذاكرا لمتونها وأسانيدها ورواتها وكتب منها صحيح البخاري في سفر وصحيح مسلم في سفر وكان قائما على الكتابين مع مصنف أبي عيسى الترمذي وكان فاضلا دينا متواضعا حلوما وقورا عالما عاملا واستقضي بمرسية ثم استعفى فأعفي

وأقبل على نشر العلم وبثه وقد ذكره أبو القاسم بن عساكر في تاريخه لدخوله الشام قال وبعد أن استقرت به النوى واستمرت إفادته بما قيد وروى رفعته ملوك أوانه وشفعته في مطالب إخوانه فأوسعته رعيا وأحسنت فيه رأيا ومن أبنائهم من جعل يقصده لسماع يسنده وعلى وقاره الذي كان به يعرف ندر له مع بعضهم ما يستطرف وهو أن فتى يسمى يوسف لازم مجلسه معطرا رائحته ومنظفا ملبسه ثم غاب لمرض قطعه أو شغل منعه ولما فرغ أو أبل عاود ذلك النادي المبارك والمحل وقبل إفضائه إليه دل طيبه عليه فقال الشيخ على سلامته من المجون وخلاصه من الفتون ( إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون ) [ يوسف 94 ] وهي من طرف نوادره رحمة الله عليه ولما قلد قضاء مرسية وعزم عليه صاحب الأمر فيه فر إلى المرية فأقام بها سنة خمس وبعض سنة ست وخمسمائة وفي سنة ست قبل قضاءها على كره إلى أن استخفى آخر سنة سبع في قصة يطول إيرادها وبطول مقامه بالمرية أخذ الناس عنه بها فلما كانت وقعة كتندة كان ممن حضرها ففقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى ! وقال القاضي عياض ولقد حدثني الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن جعفر أنه قال له خذ الصحيح واذكر أي متن شئت منه أذكر لك سنده أو أي سند شئت أذكر لك متنه انتهى

وذكر غير واحد أنه حدث ببغداد بحديث واحد والله أعلم وهو من أبناء الستين
49 - ومنهم ابن أبي روح الجزيري - ومن شعره لما تغرب بالمشرق قوله
( أحن إلى الخضراء في كل موطن ... حنين مشوق للعناق والضم )
( وما ذاك إلا أن جسمي رضيعها ... ولا بد من شوق الرضيع إلى الأم )
50 - ومنهم العالم أبو حفص عمر بن حسن الهوزني الحسيب العالم المحدث - ذكره ابن بسام في الذخيرة والحجاري في المسهب وسبب رحلته للمشرق أنه لما تولى المعتضد بن عباد خاف منه فاستأذنه في الحج سنة 444 ورحل إلى مصر ثم إلى مكة وسمع في طريقه كتاب صحيح البخاري وعنه أخذه أهل الأندلس ورجع وسكن إشبيلية وخدم المعتضد فقتله ومن خاف من شيء سلط عليه وكان قتله يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ستين وأربعمائة ومن شعره يحرضه على الجهاد
( أعباد جل الرزء والقوم هجع ... على حالة من مثلها يتوقع )
( فلق كتابي من فراغك ساعة ... وإن طال فالموصوف للطول موضع )
( إذا لم أبث الداء رب شكاية ... أضعت وأهل للملام المضيع )
ووصله بنثر وهو وما أخطأ السبيل من أتى البيوت من أبوابها

ولا أرجأ الدليل من أناط الأمور بأربابها ولرب أمل بين أثناء المحاذير مدمج ومحبوب في طي المكاره مدرج فانتهز فرصتها فقد بان من غيرك العجز وطبق مفاصلها فقد أمكنك الحز ولا غرو أن يستمطر الغمام في الجدب ويستصحب الحسام في الحرب وله
( صرح الشر فلا يستقل ... إن نهلتهم جاءكم بعد عل )
( بدء صعق الأرض رش وطل ... ورياح ثم غيم أبل )
( خفضوا فالداء رزء أجل ... واغمدوا سيفا عليكم يسل )
وابنه أبو القاسم هو الذي كان سبب فساد دولة المعتمد بن عباد بسبب قتل المعتضد والده كما مروبيت بنى الهوزاني بالأندلس بيت كبير مشهور ومنهم عدة علماء وكبراء رحم الله الجميع
51 - ومنهم أبو عمرو عثمان بن الحسين أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية الآتي ذكره كان أسن من أخيه أبي الخطاب وكان حافظا للغة العرب قيما بها وعزل الملك الكامل أبا الخطاب عن دار الحديث الكاملية التي أنشأها بين القصرين ورتب مكانه أخاه أبا عمرو المذكور ولم يزل بها إلى أن توفي

سنة 634 بالقاهرة ودفن بسفح المقطم كأخيه وكان موت أبي عمرو بعد أبي الخطاب بسنة رحمهما الله تعالى
52 - ومنهم الكاتب أبو بكر محمد بن القاسم - من أهل وادي الحجارة ويعرف باشكنهادة وارتحل إلى المشرق لما نبت به حضرة قرطبة عند تقلب دولها وتحول ملوكها وخولها فجال في العراق وقاسى ألم الفراق واجتاز بحلب وأقام بها مقام غريب لم يصف له حلب وقال
( أين أقصى الغرب من أرض حلب ... أمل في الغرب موصول التعب )
( حن من شوق إلى أوطانه ... من جفاه صبره لما اغترب )
( جال في الأرض لجاجا حائرا ... بين شوق وعناء ونصب )
( كل من يلقاه لا يعرفه ... مستغيثا بين عجم وعرب )
( لهف نفسي أين هاتيك العلا ... واضياعاه ويا غبن الحسب )
( والذي قد كان ذخرا وبه ... أرتجي المال وإدراك الرتب )
( صار لي أبخس ما أعددته ... بين قوم ما دروا طعم الأدب )
( يا أحباي اسمعوا بعض الذي ... يتلقاه الطريد المغترب )
( وليكن زجرا لكم عن غربة ... يرجع الرأس لديها كالذنب )
( واحملوا طعنا وضربا دائما ... فهو عندي بين قومي كالضرب )
( ولئن قاسيت ما قاسيته ... فبما أبصر لحظي من عجب )
( ولقد أخبركم أن ألتقي ... بكم حتى تقولوا قد كذب )

واجتاز بدمشق فقال من أبيات رحمه الله تعالى
( دمشق جنة الدنيا حقيقا ... ولكن ليس تصلح للغريب )
( بها قوم لهم عدد ومجد ... وصحبتهم تؤول إلى حروب )
ثم إنه ودع الشرق بلا سلام وحل بحضرة دانية لدى ملكها مجاهد العامري في بحبوحة عز لا يخشى فيه الملام واستقبل الأندلس بخاطر جديد ونال بها بعد من بلوغ الآمال ما ليس له عليه مزيد وقال
( وكم قد لقيت الجهد قبل مجاهد ... وكم أبصرت عيني وكم سمعت أذني )
( ولاقيت من دهري وصرف خطوبه ... كما جرت النكباء في معطف الغصن )
( فلا تسألوني عن فراق جهنم ... ولكن سلوني عن دخولي إلى عدن )
وله من كتاب وحامل كتابي - سلمه الله تعالى وأعانه - ممن أخنى عليه الزمان وأدار عليه وما صحا إلى الآن كؤوس الهوان وقد قصد على بعد جنابك الرحيب الخصيب قصد الحسن محل الخصيب ويمم جناب ابن طاهر حبيب وإني لأرجو أن يرجع منك رجوع نصيب عن سليمان ويستعين في شكرك بكل لسان وأنت عليم بأن الثناء هو الخلف وقد قال الأول
( أرى الناس أحدوثة ... فكوني حديثا حسن )
وأنا القائل
( فلا تزهدن في الخير قد مات حاتم ... وأخباره حتى القيامة تذكر )

ومع هذا فهو عليه بقدر ما يحتمل من التكليف هذا الأوان عارف وجوه الأعذار غير ذي عجل في العتب قبل البيان وعند سيدي من التهدي للإيصاء ما يحقق فيه جميع الرجاء دامت أرجاؤه مؤملة ولا برحت نعمه سابغة مكملة
53 - ومنهم الكاتب أبو عبد الله محمد بن عبد ربه المالقي - وقال بعضهم إنه من الجزيرة الخضراء له رحلة إلى الديار المصرية صنع فيها مقامه يقول فيها
( وفي جنبات الروض نهر ودوحة ... يروقك منها سندس ونضار )
( تقول وضوء البدر فيه مغرب ... ذراع فتاة دار فيه سوار )
ومن شعره
( ما كل إنسان أخ منصف ... ولا الليالي أبدا تسعف )
( فلا تضع إن أمكنت فرصة ... واصحب من الإخوان من ينصف )
( وانتف من الدهر ولو ريشة ... فإنما حظك ما تنتف )
وقوله يرثي السيد أبا عمران ابن أمير المؤمنين يوسف ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس
( بجيد المعالي أي عقد تبددا ... وصدر العوالي أي رمح تقصدا )

( لما دهت خيل الشقي فجاءة ... وسال العدا بحرا من الموت مزبدا )
( شهدت بوجه كالغزالة مشرقا ... وإن كان وجه الشمس بالنقع مربدا )
( عزائم صدق ليس تصرف هكذا ... إلى الموت تسعى أو على الموت يعتدى )
وكان السيد أبو عمران المرثي قتله الميورقي صاحب فتنة إفريقية في الهزيمة المشهورة على تاهرت وجمع ابن عبد ربه المذكور شعر السيد أبي الربيع بن عبد الله بن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي وكان ابن عبد ربه المذكور كاتبا للسيد أبي الربيع سليمان المذكور ولما أنشد لبعض الشعراء
( حاكت يمين الرياح محكمة ... في نهر واضح الأسارير )
( فكلما ضعفت به حلقا ... قام لها القطر بالمسامير )
أنشد لنفسه
( بين الرياض وبين الجو معترك ... بيض من البرق أو سمر من السمر )
( إن أوترت قوسها كف السماء رمت ... نبلا من الماء في زغف من الغدر )
( لأجل ذاك إذا هبت طلائعها ... تدرع النهر واهتزت قنا الشجر ) واجتمع ابن عبد ربه المذكور في رحلته بالسعيد بن سناء الملك وأخذ عنه شيئا من شعره ورواه بالمغرب

54 - ومنهم الشاعر الأديب أبو محمد عبد المنعم بن عمر بن حسان المالقي ومن نظمه في السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من قصيدة رحمه الله تعالى
( في صهوات المقربات وفي القنا ... حصون حمى لا في هضاب المعاقل )
ومنها
( ولا ملك يأتي كيوسف آخرا ... كما لم يجئ مثل له في الأوائل )
55 - ومنهم الحافظ أبو الخطاب بن دحية وهو مجد الدين عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن الجميل بن فرح بن خلف الظاهري المذهب الأندلسي كان من كبار المحدثين ومن الحفاظ الثقات الأثبات المحصلين استوطن بجاية في مدة أبي عبد الله بن يومور وروى بها وأسمع وكان من أحفظ أهل زمانه باللغة حتى صار حوشي اللغة عنده مستعملا غالبا ولا يحفظ الإنسان من اللغة حوشيها إلا وذلك أضعاف أضعاف محفوظه من مستعملها وكان قصده - والله تعالى أعلم - أن ينفرد بنوع يشتهر به دون غيره كما فعل كثير من الأدباء حيث تركوا طريق المعرب وانفردوا بالطريق الآخر ولو سلكوا طريق المعرب لكانوا فيه كآحاد الناس وكذا الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له رسائل ومخاطبات كلها مغلقات مقفلات وكان - رحمه الله تعالى - إذا كتب اسمه فيما يجيزه أو غير ذلك يكتب ابن دحية ودحية معا المتشبه به جبريل وجبرائيل ويذكر ما ينيف على ثلاث عشرة لغة مذكورة

في جبريل ويقول عند فاطر السموات والأرض وهذا فرع انفرد به عمن عداه من أهل العلم قال صاحب عنوان الدراية رأيت له تصنيفا في رجال الحديث لا بأس به وارتحل إلى المشرق في دولة بني أيوب فرفعوا شأنه وقربوا له مكانه وجمعوا له علماء الحديث وحضروا له مجلسا أقروا له بالتقدم وعرفوا أنه من أولي الضبط والإتقان والتفهم وذكروا أحاديث بأسانيد حولوا متونها فأعاد المتون المحولة وعرف عن تغييرها ثم ذكر الأحاديث على ما هي عليه من متونها الأصلية ومثل هذه الحكاية اتفق لأبي عمر بن عات في كتاب مسلم بمراكش ببيت الطلبة منها ومن شعر أبي الخطاب ما كتب به إلى الكامل بن العادل بن أيوب
( ما لي أسائل برق بارق عنكم ... من بعد ما بعدت دياري منكم )
( فمحلكم قلبي وأنتم بالحشا ... لا بالعقيق ولا برامة أنتم )
( وأنا المقيم على الوفاء بعهدكم ... يا مالكين وفيتم أو خنتم )
( وهي طويلة ومنها
( رفعت له الأملاك منه سجية ... ملك السماك الرمح وهو محرم )
ومنها أيضا
( لذوي النهى والفهم سر حكومة ... قد حار فيها كاهن ومنجم )
( فاقصد مرادك حيث سرت مظفرا ... والله يكلأ والكواكب نوم )
( وليهنك الشهر السعيد تصومه ... وتفوز فيه بالثواب وتغنم )
( فلأنت في الدنيا كليلة قدره ... قدرا فقدرك في الملوك معظم )
فأجابه السلطان مكافأة بنثر ونظم فمن النظم
( وهيجن شوقي للأجارع باللوى ... وأين اللوى مني وأين الأجارع )
( مرابع لو أن المرابع أنجم ... لكان نجوم الأرض تلك المرابع )
( رعى الله أياما بها ولو أنها ... إلي وقد ولى الشباب رواجع )
( ليالي لا ليلى إذا رمت وصلها ... يلوح لها من صبح شيبي مواقع ) في جملة أبيات ومن النثر الحمد لله ولي الحمد وقف ولده على الأبيات التي حسن شعرها وصفا درها وليس من البديع أن يقذف البحر درا أو ينظم الخليل شعرا وقد أخذت الورقة لأتنزه في معانيها وأستفيد بما أودعه فيها فالله تعالى لا يخلينا من فوائد فكرته وصالح أدعيته والسلام فأجابه الحافظ أبو الخطاب عن الأبيات بقوله من قصيدة
( شجتني شواج في الغصون سواجع ... ففاضت هوام للجفون هوامع ) وأكثر فيها من التغزل إلى أن قال
( ولا حاكم أرضاه بيني وبينها ... سوى حاكم دهري له اليوم طائع )
( يدافع عني الضيم قائم سيفه ... إذا عز من للضيم عني يدافع )
( هو الكامل الأوصاف والملك الذي تشير إليه بالكمال الأصابع )
( وبيض أياديه الكريمة في الورى ... قلائد في الأعناق وهي الصنائع )
( ويوماه يوماه اللذان هما هما ... إذا جمعت غلب الملوك المجامع )
( ومنها فما روضة غنا بها مرت الصبا ... ونشر شذاها الطيب النشر ذائع )

( له من شذي الزهر برد مفوف ... أتيح له من أرض صنعاء صانع )
( فراقك منها أخضر الثوب ناضر ... وشاقك منها أصفر اللون فاقع )
( وأحمر قان للخدود مورد ... وأبيض كالثغر المفلج ناصع )
( بأحسن من توشيع مدحي الذي له ... بدائع من وشي البديع وشائع )
( وما ضائع من نشر شكري الذي به ... تأرجت الأرجاء عندك ضائع )
( ولو لم يقيدني نداك لكان لي ... مجال فسيح في البسيطة واسع )
( فأنت الذي لي والأعادي كثيرة ... فويق مكان النجم في الأفق دافع )
ومنها
( بقيت لعبد جده دحية الذي ... يشابه جبريل له ويضارع )
( وجدته الزهراء بنت محمد ... عليه السلام الدائم المتتابع )
( ولا عدمت منك الممالك مالكا ... يقرب للآمال ما هو شاسع )
( ومنك عيون للمهمات يقظ ... وعنك عيون الحادثات هواجع )
وقال المقريزي في ترجمة الملك الكامل إنه كان مشغوفا بسماع الحديث النبوي وتقدم عنده أبو الخطاب بن دحية وبنى له دار الحديث الكاملية بين القصرين بالقاهرة انتهى وقال أبو الخطاب بن دحية أنشدني أبو القاسم السهيلي لنفسه وذكر أنه ما سأل الله تعالى بها إلا أعطاه
( يا من يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع )
( يا من يرجى للشدائد كلها ... يا من إليه المشتكى والمفزع )

( يا من خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع )
( ما لي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع )
( ما لي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع )
( ومن الذي أدعو وأهتف باسمه ... إن كان فضلك عن فقيرك يمنع )
( حاشا لجودك أن يقنط عاصيا ... الفضل أجزل والمواهب أوسع )
( ومن نظم السهيلي رضي الله تعالى عنه
( أسائل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه والحال تنطق )
( وما بي إلى جيرانه من صبابة ... ولكن نفسي عن صبوح ترقق )
وله
( لما أجاب بلا طمعت بوصله ... إذ حرف لا حرفان معتنقان )
( وكذا نعم بنعيم وصل آذنت ... فنعم ولا في اللفظ متفقان )
ولد أبو الخطاب بن دحية في ذي القعدة سنة سبع - أو ثمان - وأربعين وخمسمائة وتوفي في انفجار الفجر ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بالقاهرة ودفن بسفح المقطم وتكلم فيه جماعة فيما ذكره ابن النجار وقدره أجل مما ذكروه وقد روى رحمه الله تعالى بالمغرب ومصر والشام والعراق وخراسان وعراق العجم وكل ذلك في طلب الحديث وسمع بالأندلس من ابن بشكوال وابن

زرقون في جمع كبير وببغداد من أبي الفرج بن الجوزي وبأصبهان من أبي جعفر الصيدلاني معجم الطبراني ومن غيره وبنيسابور من أبي سعيد بن الصفار ومنصور بن الفراوي والمؤيد الطوسي وحصل الكتب والأصول وحدث وأفاد وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب وأشعارها وصنف كتبا كثيرة مفيدة جدا منها كتاب التنوير في مولد السراج المنير صنفه عند قدومه إلى إربل سنة أربعة وستمائة وهو متوجه إلى خراسان لما رأى ملك إربل مظفر الدين كوكبري معتنيا بعمل المولد النبوي في شهر ربيع الأول كل عام مهتما به غاية الاهتمام وكمله وقرأه عليه بنفسه وختمه بقصيدة طويلة فأجازه بألف دينار وصنف أيضا العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور و الآيات البينات في ذكر ما في أعضاء رسول الله من المعجزات وكتاب شرح أسماء النبي وكتاب النبراس في أخبار خلفاء بني العباس وكتاب الإعلام المبين في المفاضلة بين أهل صفين وولي قضاء بلد أصوله دانية مرتين ثم صرف عن ذلك لسيرة نعيت عليه فرحل عنها وحدث بتونس سنة 595 ثم حج وكتب بالمشرق عن جماعة بأصبهان ونيسابور وعاد إلى مصر فاستأدبه العادل لولده الكامل وأسكنه القاهرة فنال بذلك دنيا عريضة ثم زادت حظوته عند الكامل وأقبل عليه إقبالا عظيما وكان يعظمه ويحترمه ويعتقد فيه الخير ويتبرك به حتى كان يسوي له المداس حين يقوم وهو بلنسي كما قاله ابن خلكان وغيره وبلنسية مشهورة بشرق الأندلس
56 - ومنهم خلف بن القاسم بن سهل بن الدباغ الحافظ الأندلسي رحل إلى المشرق وكان حافظا فهما عارفا بالرجال حدث حديث مالك وشعبة وأشياء في الزهد وسمع بمصر أبا الحسن بن الورد البغدادي ومسلم بن الفضل والحسن بن رشيق وجماعة وسمع بدمشق علي بن أبي العقب وأبا الميمون بن راشد وبمكة من بكير الحداد وأبي الحسن الخزاعي والأجري وبقرطبة من أحمد بن يحيى بن الشاهد ومحمد بن معاوية وتوفي سنة 393
57 - ومنهم خلف بن سعيد بن عبد الله بن زرارة أبو القاسم بن المرابط الكلبي من ذرية الأبرش الكلبي ويعرف بالمبرقع المحتسب القرطبي رحل إلى المشرق مرتين أولاهما سنة 332 وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وسمع أبا سعيد بن الأعرابي وابن الورد وأبا بكر الآجري وروى عنه أبو إسحاق بن شنظير وأبو جعفر الزهراوي وقال ابن شنظير إنه توفي في نحو الأربعمائة رحمه الله تعالى ورضي عنه
58 - ومنهم سابق فضلاء زمانه أبو الصلت أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت الإشبيلي يقال إن عمره ستون سنة منها عشرون في بلده إشبيلية وعشرون في إفريقية عند ملوكها الصنهاجيين وعشرون في مصر محبوسا في خزانة الكتب وكان وجهه صاحب المهدية إلى ملك مصر فسجن بها طول تلك المدة في خزانة الكتب فخرج في فنون العلم إماما وأمتن علومه الفلسفة والطب والتلحين

وله في ذلك تواليف تشهد بفضله ومعرفته وكان يكنى بالأديب الحكيم وهو الذي لحن الأغاني الإفريقية قال ابن سعيد وإليه تنسب إلى الآن وذكره العماد في الخريدة وله كتاب الحديقة على أسلوب يتيمة الدهر للثعالبي وتوفي سنة 520 وقيل سنة 528 بالمهدية وقيل مستهل السنة بعدها ودفن بها وله فيمن اسمه واصل
( يا هاجرا سموه عمدا واصلا ... وبضدها تتبين الأشياء )
( ألغيتني حتى كأنك واصل ... وكأنني من طول هجري الراء )
وقوله وهو من بدائعه
( لا غرو أن سبقت لهاك مدائحي ... وتدفقت جدواك ملء إنائها )
( يكسى القضيب ولم يحن إثماره ... وتطوق الورقاء قبل غنائها )
وقال في الأفضل
( تردي بكل فتى إذا شهد الوغى ... نثر الرماح على الدروب كعوبا )
( قد لوحته يد الهواجر فاغتدى ... مثل القناة قضافة وشحوبا )
( تخذوا القنا أشطانهم واستنبطوا ... في كل قلب بالطعان قليبا )
ومنها
( تعطي الذي أعطتكه سمر القنا ... أبدا فتغدو سالبا مسلوبا )

ومنها
( وأنا الغريب مكانه وبيانه ... فاجعل صنيعك في الغريب غريبا )
وله
( ومهفهف شربت محاسن وجهه ... ما مجه في الكاس من إبريقه )
( ففعالها من مقلتيه ولونها ... من وجنتيه وطعمها من ريقه )
أخذه من ابن حيوس وقصر عنه في قوله
( ومهفهف يفني بلحظ جفونه ... عن كاسه الملأى وعن إبريقه )
( فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه ) ولأبي الصلت فيمن اسمه محسن
( أيها الظالم المسيء ... مدى دهره بنا )
( ما لهم أخطأوا الصواب ... فسموك محسنا )
وله في لابس قرمزية حمراء
( أقبل يسعى أبو الفوارس في ... مرأى عجيب ومنظر أنق )
( أقبل في قرمزية عجب ... قد صبغت لون خده الشرق )
( كأنما جيده وغرته ... من دونها إذ بدون في نسق )
( عمود فجر من فوقه قمر ... دارت به قطعة من الشفق )

وله في ثقيل
( لي جليس عجبت كيف استطاعت ... هذه الأرض والجبال تقله )
( أنا أرعاه مكرها وبقلبي ... منه ما يقلق الجبال أقله )
( فهو مثل المشيب أكره مرآه ... ولكن أصونه وأجله )
أخذه من قول أبي الحسن جعفر بن الحاج اللورقي وهما في عصر واحد
( لي صاحب عميت علي شؤونه ... حركاته مجهولة وسكونه )
( يرتاب بالأمر الجلي توهما ... فإذا تيقن نازعته ظنونه )
( إني لأهواه على شرقي به ... كالشيب تكرهه وأنت تصونه )
وأوصى أن يكتب على قبره أبو الصلت المذكور مما نظمه قبيل موته
( سكنتك يا دار الفناء مصدقا ... بأني إلى دار البقاء أصير )
( وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور )
( فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير )
( فإن أك مجزيا بذنبي فإنني ... بشر عقاب المذنبين جدير )
( وإن يك عفو ثم عني ورحمة ... فثم نعيم دائم وسرور )
وله أيضا

( إذا كان أصلي من تراب فكلها ... بلادي وكل العالمين أقاربي )
( ولا بد لي أن أسأل العيس حاجة ... تشق على شم الذرا والغوارب )
وقال
( دب العذار بخده ثم انثنى ... عن لثم مبسمه البرود الأشنب )
( لا غرو أن خشي الردى في لثمه ... فالريق سم قاتل للعقرب )
( وقد ذكروا أن من خواص ريق ... الإنسان أنه يقتل العقرب وهو مجرب ) وقال
( لا تدعني ولتدع من شئته ... إليك من عجم ومن عرب )
( فنحن أكالون للسحت في ... ذراك سماعون للكذب )
وقال
( لا تسألني عن صنيع جفونها ... يوم الوداع وسل بذلك من نجا )
( لو كنت أملك خدها للثمته ... حتى أعيد به الشقيق بنفسجا )
( أو كنت أهجع لاحتضنت خيالها ... ومنعت ضوء الصبح أن يتبلجا )
( وبثثت في الظلماء كحل جفونها ... وعقدت هاتيك الذوائب بالدجى )
وقال مهنئا بمولود
( يلوح في المهد على وجهه ... تجهم البأس وبشرى الندى )

( والشمس والبدر إذا استجمعا ... لم يلبثا أن يلدا فرقدا )
( فابق له حتى ترى نجله ... وإن عرا خطب فنحن الفدا )
قال ابن سعيد وهذا البيت الأخير من أثقل الشعر يتطير من سماعه وتركه أولى وقال رحمه الله تعالى في الرصد
( فذا غدير وذا روض وذا جبل ... فالضب والنون والملاح والحادي )
59 - ومنهم الفقيه أبو محمد عبد الله بن يحيى بن محمد بن بهلول السرقسطي ذكره العماد الأصبهاني في الخريدة وذكره السمعاني في الذيل وأنه دخل بغداد في حدود سنة ست عشرة وخمسمائة ومن شعره
( يا شمس إني إن أتتك مدائحي ... وهن لآل نظمت وقلائد )
( فلست بمن يبغي على الشعر ... رشوة أبى ذاك لي جد كريم ووالد )
( وأني من قوم قديما ومحدثا ... تباع عليهم بالألوف القصائد )
60 - ومنهم الفقيه المقرئ أبو عامر التياري من رجال الذخيرة رحل إلى المشرق وقرأ على أبي جعفر الديباجي كتابه في العروض وسائر كتبه ولقي شيخ القيروان في العربية ابن القزاز وأديبها الحصري وأخبر عن نفسه أنه كان بين يديه تلميذ له وسيم فمر به أبو جعفر التجاني

بسحاءة كتب له فيها وخلاها بين يديه وهو قد غلب النوم عليه فقال
( يا نائما متعمدا ... إبصار طيف حبيبه )
( هو جوهر فاثقبه إن ... الطيب في مثقوبه )
( أو أركبني ظهره ... إن لم تقل بركوبه )
فلما قرأها علم أنها للتجاني فكتب تحتها
( يا طالبا أضحى حجاب ... دون ما مطلوبه )
( لو لم يكن في ذاك إثم ... لم أكن أسخو به )
( إني أغار عليه من ... أثوابه ورقيبه )
وأنشد يوما في حلقته لابن الرومي في خباز
( إن أنس لا أنس خبازا مررت به ... يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر )
( ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر )
( إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر )
فقال بعض تلامذته أما إنه لا يقدر على الزيادة على هذا فقال
( فكاد يضرط إعجابا برؤيتها ... ومن رأى مثل ما أبصرت منه خري )
فضحك من حضر وقال البيت لائق بالقطعة لولا ما فيه من ذكر الرجيع فقال
( إن كان بيتي هذا ليس يعجبكم ... فعجلوا محوه أو فالعقوه طري )
61 - ومنهم الأديب الطبيب أبو الحجاج يوسف بن عتبة الإشبيلي

مطبوع في الشعر والتوشيح قال ابن سعيد اجتمعت به في القاهرة مرارا بمجلس الأمير جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك وفي غيره وتوفي في مارستان القاهرة ومن شعره
( أما الغراب فإنه سبب النوى ... لا ريب فيه وللنوى أسباب )
( يدعو الغراب وبعد ذاك يجيبه ... جمل وتعوي بعد ذاك ذئاب )
( لا تكذبن فهذه أسبابه ... لكن منها بدأة وجواب )
62 - ومنهم الإمام المحدث الحافظ جمال الدين أبو أبو بكر محمد بن يوسف بن موسى الأندلسي المعروف بابن مسدي وهو من الأئمة المشهورين بالمشرق والمغرب قال رحمه الله تعالى أنشدني رئيس الأندلس وأديبها أبو الحسن سهل بن مالك الأزدي الغرناطي لنفسه سنة 637 في شوال بداره بغرناطة
( منغص العيش لا يأوي إلى دعة ... من كان ذا بلد أو كان ذا ولد )
( والساكن النفس من لم ترض همته ... سكنى مكان ولم يسكن إلى أحد )
63 - ومنهم الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن فتوح بن عبد الله الأزدي

الحميدي نسبة لجده حميد الأندلسي ولد أبوه بقرطبة وولد هو بالجزيرة بليدة بالأندلس قبل العشرين وأربعمائة وكان يحمل على الكتف للسماع سنة 425 فأول ما سمع من الفقيه أبي القاسم أصبغ قال وكنت أفصح من يقرأ عليه وكان قد لقي ابن أبي زيد وقرأ عليه وتفقه وروى عنه رسالته ومختصر المدونة ورحل سنة 448 وقدم مصر وسمع بها من الضراب والقضاعي وغير واحد وكان سمع بالأندلس من ابن عبد البر وابن حزم ولازمه وقرأ عليه مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته وصار على مذهبه إلا أنه لم يكن يتظاهر به وسمع بدمشق وغيرها وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته وسمع بمكة من الزنجاني وأقام بواسط مدة بعد خروجه من بغداد ثم عاد إلى بغداد واستوطنها وكتب بها كثيرا من الحديث والأدب وسائر الفنون وصنف مصنفات كثيرة وعلق فوائد وخرج تخاريج للخطيب ولغيره وروى عنه أبو بكر الخطيب أكثر مصنفاته وابن ماكولا وكان إماما من أئمة المسلمين في حفظه ومعرفته وإتقانه وثقته وصدقه ونبله وديانته وورعه ونزاهته حتى قال بعض الأكابر ممن لقي الأئمة لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهة وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله وكان ورعا ثقة إماما في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته محققا في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث متبحرا في علم الأدب والعربية ومن تصانيفه كتاب جذوة المقتبس في أخبار علماء الأندلس وكتاب تاريخ الإسلام وكتاب من ادعى الأمان من أهل الإيمان وكتاب الذهب المسبوك في وعظ الملوك وكتاب تسهيل السبيل إلى علم الترسيل وكتاب مخاطبات الأصدقاء في

المكاتبات واللقاء وكتاب ما جاء من النصوص والأخبار في حفظ الجار وكتاب النميمة وكتاب الأماني الصادقة وغير ذلك من المصنفات و الأشعار الحسان في المواعظ والأمثال وكان من كثرة اجتهاده ينسخ بالليل في الحر ويجلس في إجانة ماء يتبرد به ومن مشهور مصنفاته كتاب الجمع بين الصحيحين وذكره الحجاري في المسهب وقال عنه إنه طرق ميورقة بعدما كانت عطلا من هذا الشأن وترك لها فخرا تباري به خواص البلدان وهو من علماء أئمة الحديث ولازم أبا محمد بن حزم في الأندلس واستفاد منه ورحل إلى بغداد وبها ألف كتاب الجذوة ومن شعره قوله رضي الله تعالى عنه
( ألفت النوى حتى أنست بوحشها ... وصرت بها لا في الصبابة مولعا )
( فلم أحص كم رافقته من مرافق ... ولم أحص كم خيمت في الأرض موضعا )
( ومن بعد جوب الأرض شرقا ومغربا ... فلا بد لي من أن أوافي مصرعا ) وقال رحمه الله تعالى
( لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال )
( فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال ) وذكره ابن بشكوال في الصلة وتوفي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة رحمه الله تعالى ! قال ابن ماكولا أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم وكان أوصى مظفرا ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي فخالف وصيته

ودفنه في مقبرة باب أبرز فلما كانت مدة رآه مظفر في النوم كأنه يعاتبه على مخالفته فنقل في صفر سنة 491 إلى مقبرة باب حرب ودفن عند قبر بشر وكان كفنه جديدا وبدنه طريا تفوح منه رائحة الطيب ووقف كتبه على أهل العلم رحمه الله تعالى ومن مناقبه أنه قال لمن دخل عليه فوجده مكشوف الفخذ تعديت بعين إلى موضع لم ينطره أحد منذ عقلت انتهى ومن شعر الحميدي أيضا قوله
( طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله تالية الحقوق )
( فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك ودع بنيات الطريق )
وقوله
( كلام الله عز و جل قولي ... وما صحت به الآثار ديني )
( وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين
( فدع ما صد عن هذي خذها ... تكن منها على عين اليقين )
64 - ومنهم الكمال أبو العباس أحمد الشريشي وهو أحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عيسى بن عبد المؤمن القيسي من أهل شريش روى عن أبي الحسن بن لبال وأبي بكر بن أزهر وأبي عبد الله بن زرقون وأبي الحسين بن جبير وغيرهم وأقرأ العربية وله تواليف أفاد بما حشر فيها منها شرح الإيضاح للفارسي والجمل للزجاج وله في العروض تواليف وجمع مشاهير قصائد العرب واختصر نوادر أبي علي القالي

قال ابن الأبار لقيته بدار شيخنا أبي الحسن بن حريق من بلنسية قبل توجهي إلى إشبيلية في سنة ست عشرة وستمائة وهو إذ ذاك يقرأ عليه شرحه للمقامات فسمعت عليه بعضه وأجاز لي سائره مع رواياته وتواليفه وأخذ عنه أصحابنا ثم لقيته ثانية مقدمه من مرسية انتهى ومن بديع نظمه وهو بمصر يتشوق إلى الشام
( يا جيرة الشام هل من نحوكم خبر ... فإن قلبي بنار الشوق يستعر )
( بعدت عنكم فلا والله بعدكم ... ما لذ للعين لا نوم ولا سهر )
( إذا تذكرت أوقاتا نأت ومضت ... بقربكم كادت الأحشاء تنفطر )
( كأنني لم أكن بالنير بين ضحى ... والغيم يبكي ومنه يضحك الزهر )
( والورق تنشد والأغصان راقصة ... والدوح يطرب بالتصفيق والنهر )
( والسفح أين عشياتي التي سلفت ... لي منه فهي لعمري عندي العمر )
( سقاك يا سفح سفح الدمع منهملا ... وقل ذاك له إن أعوز المطر )
وله رحمه الله تعالى شروح لمقامات الحريري كبير ووسط وصغير وفي الكبير من الآداب ما لا كفاء له وكان رحمه الله تعالى معجبا بالشام وقال ابن الأبار عندما ذكره إنه شرح مقامات الحريري في ثلاث نسخ كبراها الأدبية ووسطاها اللغوية وصغراها المختصرة انتهى وتوفي بشريش بلده سنة تسع عشرة وستمائة رحمه الله تعالى
65 - ومنهم أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد الأزدي القرطبي الملقب بضياء الدين أحد الأئمة المتأخرين في القراءات وعلوم القرآن الكريم والحديث والنحو واللغة وغير ذلك

قال القاضي الشمس ابن خلكان إنه رحل من الأندلس في عنفوان شبابه وقدم مصر فسمع بالإسكندرية أبا عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي وبمصر أبا صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري وأبا طاهر أحمد بن محمد الأصبهاني المعروف بالسلفي وغيرهم ودخل بغداد سنة 517 وقرأ بها القرآن الكريم على الشيخ أبي محمد عبد الله بن علي المقرىء المعروف بابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط وسمع عليه كتبا كثيرة منها كتاب سيبويه وقرأ الحديث على أبي بكر محمد بن عبد الباقي البزار المعروف بقاضي المارستان وأبي القاسم بن الحصين وأبي العز وغيرهم وكان دينا ورعا عليه وقار وسكينة وكان ثقة صدوقا ثبتا نبيلا قليل الكلام كثير الخير مفيدا أقام بدمشق مدة واستوطن الموصل ورحل منها إلى أصبهان ثم عاد إلى الموصل وأخذ عنه شيوخ ذلك العصر وذكره الحافظ ابن السمعاني في كتاب الذيل وقال إنه اجتمع به بدمشق وسمع عنه مشيخة أبي عبد الله الرازي وانتخب عليه أجزاء وسأله عن مولده فقال ولدت سنة 486 في مدينة قرطبة ورأيت في بعض الكتب أن مولده سنة 487 والأول أصح وكان شيخنا القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم المعروف بابن شداد قاضي حلب رحمه الله تعالى يفتخر بروايته وقراءته عليه وقال كنا نقرأ عليه بالموصل ونأخذ عنه وكنا نرى رجلا يأتي إليه كل يوم فيسلم عليه وهو قائم ثم يمد يده إلى الشيخ بشيء ملفوف فيأخذه الشيخ من يده ولا نعلم ما هو ويتركه ذلك الرجل ويذهب ثم تقفينا ذلك فعلمنا أنها دجاجة مسموطة كانت ترسم للشيخ في كل يوم يبتاعها له ذلك الرجل ويسمطها ويحضرها وإذا دخل الشيخ إلى منزله تولى طبخها بيده

وذكر في كتاب دلائل الأحكام أنه لازم القراءة عليه إحدى عشرة سنة آخرها سنة 567 وكان الشيخ أبو بكر القرطبي المذكور كثيرا ما ينشد مسندا إلى أبي الخير الكاتب الواسطي
( جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون )
( جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين )
وتوفي القرطبي المذكور بالموصل يوم عيد الفطر سنة 567 رحمه الله تعالى
انتهى كلام ابن خلكان ببعض اختصار
66 - ومنهم الوزير أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الأجل أبي الحسن بن عبد ربه وهو من حفداء صاحب كتاب العقد المشهور حدث الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن علي اليحصبي القرموني رفيقه قال اصطحبت معه في المركب من المغرب إلى الإسكندرية فلما قربنا منها هاج علينا البحر وأشفينا على الغرق فلاح لنا ونحن على هذه الحال منار الإسكندرية فسررنا برؤيته وطمعنا في السلامة فقال لي لا بد أن أعمل في المنار شيئا فقلت له أعلى مثل هذه الحال التي نحن فيها فقال نعم فقلت فاصنع فأطرق ثم عمل بديها
( لله در منار اسكندرية كم ... يسمو إليه على بعد من الحدق )
( من شامخ الأنف في عرنينه شمم ... كأنه باهت في دارة الأفق ) يكسر الموج منه جانبي رجل ... مشمر الذيل لا يخشى من الغرق )
( لا يبرح الدهر من ورد على سفن ... ما بين مصطبح منها ومغتبق

( للمنشآت الجواري عند رؤيته ... كموقع النوم من أجفان ذي أرق )
وتقدمت ترجمة الكاتب أبي عبد الله بن عبد ربه وأظنه هذا فليتنبه له بل أعتقد أنه هو لا غيره والله تعالى أعلم
67 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن الصفار القرطبي قال في القدح المعلى بيتهم مشهور بقرطبة لم يزل يتوارث في العلم والجاه وعلو المرتبة ونشأ أبو عبد الله هذا حافظا للآداب إماما في علم الحساب مع أنه كان أعمى مقعدا مشوه الخلقة ولكنه إذا نطق علم كل منصف حقه ومن عجائبه أنه سافر على تلك الحالة حتى غدت بغداد له هالة اجتمعت به بحضرة تونس فرأيت بحرا زاخرا وروضا ناضرا إلا أنه حاطب ليل وساحب ذيل لا يبالي ما أورده ولا يلتفت إلى ما أنشده جامعا بين السمين والغث حافظا للمتين والرث وكان يقرئ الأدب بمراكش وفاس وتونس وغيرها ومن مشهور حكاياته أنه لما قال أبو زيد الفازازي في أبي العلاء المستنصر قصيدته ! ! ! ! ! ! ! التي مطلعها
( الحزم والعزم منسوبان للعرب ... ) عارضه بقصيدة ثم قال فيه وفي ابن أخيه يحيى بن الناصر الذي نازعه في ذلك الأوان رداء السلطان

( وإن ينازعك في المنصور ذو نسب ... فنجل نوح ثوى في قمة العطب )
( وإن يقل أنا عم فالجواب له ... عم النبي بلا شك أبو لهب )
وشاعت القصيدة فبلغت أبا العلاء فحرض على قتله وسلمه الله تعالى منه ومات سنة 639
ومن شعره قوله
( لا تحسب الناس سواء متى ... تشابهوا فالناس أطوار )
( وانظر إلى الأحجار في بعضها ... ماء وبعض ضمنها نار )
وقوله
( يا طالعا في جفوني ... وغائبا في ضلوعي )
( بالغت في السخط ظلما ... وما رحمت خضوعي )
( إذا نويت انقطاعا ... فاحسب حساب الرجوع )
انتهى باختصار يسير 68 - ومنهم أبو الوليد بن الجنان محمد بن المشرف أبي عمرو بن الكاتب أبي بكر بن العالم الجليل أبي العلاء بن الجنان الكناني الشاطبي
قال ابن سعيد توارثوا بشاطبة مراتب تحسدها النجوم الثاقبة وأبو الوليد أشعرهم وقد تجدد به في أقطار المشرق مفخرهم وهو معروف هناك بفخر الدين ومتصدر في أئمة النحويين ومرتب في شعراء الملك الناصر صاحب الشام ومقطعاته الغرامية قلائد أهل الغرام صحبته بمصر ودمشق

وحلب وجريت معه طلق الجموح في ميادين الأدب وأنشدني بدمشق
( أنا من سكر هواهم ثمل ... لا أبالي هجروا أم وصلوا (
( فبشعري وحديثي فيهم ... زمزم الحادي وسار المثل )
( إن عشاق الحمى تعرفني ... والحمى يعرفني والطلل )
( رحلوا عن ربع عيني فلذا ... أدمعي عن مقلتي ترتحل )
( ما لها قد فارقت أوطانها ... وهي ليست لحماهم تصل )
( لا تظنوا أنني أسلو فما ... مذهبي عن حبكم ينتقل )
وقوله رحمه الله تعالى
( بالله يا بانة الوادي إذا خطرت ... تلك المعاطف حيث الشيح والغار )
( فعانقيها عن الصب الكئيب فما ... على معانقة الأغصان إنكار )
( وعرفيها بأني فيك مكتئب ... بعض هذا لها بالحب إخبار )
( وأنتم جيرة الجرعاء من إضم ... لي في حماكم أحاديث وأسمار )
( وأنتم أنتم في كل آونة ... وإنما حبكم في الكون أطوار )
( ويا نسيما سرى تحدو ركائبه ... لي بالغوير لبانات وأوطار )
وله
( يا رعى الله أنسنا بين روض ... حيث ماء السرور فيه يجول )
( تحسب الزهر عنده يتثنى ... وتخال الغصون فيه تميل )
وله

( هات المدام فقد ناح الحمام ... على فقد الظلام وجيش الصبح في غلب )
( وأعين الزهر من طول البكا رمدت ... فكحلتها يمين الشمس بالذهب )
( والكأس حلتها حمراء مذهبة ... لكن أزرتها من لؤلؤ الحبب )
( كم قلت للأفق لما أن بدا صلفا ... بشمسه عندما لاحت من الحجب )
( إن تهت بالشمس يا أفق السماء فلي ... شمسان وجه نديمي وابنة العنب )
( قم اسقنيها وثغر الصبح مبتسم ... والليل تبكيه عين البدر بالشهب )
( والسحب قد لبست سود الثياب وقد ... قامت لترثيه الأطيار في القضب )
وله عليك من ذاك الحمى يا رسول ... بشرى علامات الرضى والقبول )
( جئت وفي عطفيك منهم شذا ... يسكر من خمر هواه العذول )
ومنها
( أحبابنا ودعتم ناظري ... أنتم بين ضلوعي نزول )
( حللتم قلبي وهو الذي ... يقول في دين الهوى بالحلول )
( أنا الذي حدث عني الهوى ... بأنني عن حبكم لا أحول )
( فليزد العاذل في عذله ... وليقل الواشي لكم ما يقول ) انتهى كلام النور بن سعيد
وقال غيره ولد المذكور بشاطبة منتصف شوال سنة 615 ومات بدمشق ودفن بسفح قاسيون وكان عالما فاضلا دمث الأخلاق كريم الشمائل كثير الاحتمال واسع الصدر صحب الشيخ كمال الدين بن العديم وولده قاضي

القضاة مجد الدين فاجتذبوه إليهم وصار حنفي المذهب ودرس بالمدرسة الإقبالية الحنفية بدمشق وله مشاركة في علوم كثيرة وله يد في النظم ومن قوله
) لله قوم يعشقون ذوي اللحى ... لا يسألون عن السواد المقبل )
( وبمهجتي قوم وإني منهم ... جبلوا على حب الطراز الأول )
وله أيضا
( قم اسقنيها وليل الهم منهزم ... والصبح أعلامه محمرة العذب )
( والسحب قد نثرت في الأرض لؤلؤها ... تضمه الشمس في ثوب من الذهب )
وقد تقدم عن ابن سعيد له ما يقارب هذا
وله - رحمه الله تعالى في كاتب
( بي كاتب أضمرت في القلب حبه ... مخافة حسادي عليه وعذالي )
( له صنعة في خط لام عذاره ... ولكن سها إذ نقط اللام بالخال )
69 - ومنهم أبو محمد القرطبي قال ابن سعيد لقيته بالقاهرة وكأنه لا خبر عنده من الآخرة وقد طال عمره في أكل الأعراض وفساد الأغراض ومما بقي في أذني من شعره قوله
( رحم الله من لقيت قديما ... فلقد كان بي رؤوفا رحيما )
( أتمنى لقاء حر وقد أعوز ... بختي كما عدمت الكريما )

وتوفي بالقاهرة سنة 643 انتهى
70 - ومنهم علي بن أحمد القادسي الكناني قال ابن سعيد لقيته ببيت المقدس على زي الفقراء وحصلت منه هذه الأبيات وندمت بعد ذلك على ما فات وهي
( ذاك العذار المطل ... دمي عليه يطل )
( كأنما الخد ماء ... وقد جرى فيه ظل )
( عقود صبري عليه ... مذ حل قلبي تحل )
( جرت دموعي عليه ... فقلت آس وطل )
71 - ومنهم أبو عبد الله بن العطار القرطبي قال ابن سعيد هو حلو المنازع ظريف المقاطع والمطالع مطبوع النوادر موصوف بالأديب الشاعر مازجته بالإسكندرية وبهذه الحضرة العلية وما زال يدين بالانفراد والتجول في البلاد حتى قضى مناه وألقى بهذه المدينة عصاه لا يخطر الهم له ببال ولا يبيت إلا على وعد من وصال وله حين سمع ما ارتجلته في السكين بالإسكندرية حين داعبني باختلاسها القاضي زين القضاة بن الريغي وقال ما لي إليه سبيل حتى يحضر مصري نبيل
( أيا سارقا ملكا مصونا ولم يجب ... على يده قطع وفيه نصاب )
( ستندبه الأقلام عند عثارها ... ويبكيه إن يعد الصواب كتاب )
فقال

( أحاجيك ما شيء إذا ما سرقته ... وفيه نصاب ليس يلزمك القطع )
( على أن فيه القطع والحد ثابت ... ولا حد فيه هكذا حكم الشرع )
انتهى كلام ابن سعيد من كتابه القدح المعلى فيما أظن

ورسالة للسان الدين
ويعني والله سبحانه وتعالى أعلم بقوله وبهذه الحضرة العلية حضرة تونس المحروسة فإنها كانت محط رحال الأفاضل من الأواخر والأوائل حتى إن قاضي القضاة ابن خلدون أقام بها مدة ومنها ارتحل إلى مصر وكذلك الخطيب الجليل سيدي أبو عبد الله بن مرزوق رحمه الله تعالى ومنها خاطب الوزير لسان الدين بن الخطيب وسلطانه في الشفاعة له عند سلطان المغرب فكتب لسان الدين عن سلطانه في ذلك ما نصه المقام الذي نؤكد إليه ببر سلفه الوداد ونغري بتخليد فخره وأمره القلم والمداد ونصل به الاستظهار على عدو الله تعالى والاعتداد ونخطب له من الله بهز أعطافه للخير والتوفيق والسداد والإعانة منه والإمداد مقام محل أخينا الذي اشتهر فضله ودينه ووضح سعده متألقة براهينه وحياه الصنع الجميل وبياه مشرقا جبينه السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله يرعى الذمم ويسلك من الفضائل المنهج الأمم ويغلي البضائع النافقة عند الله تعالى ويعلي الهمم معظم قدره وملتزم بره الحريص على توفير أجره وتخليد فخره فلان
أما بعد حمد الله تعالى ناصر الإمرة المطاعة المحافظة على السنة والجماعة

وحافظها من الإضاعة إلى قيام الساعة الذي جعل المودة فيه أنفع الوسائل النفاعة والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله المخصوص بمقام الشفاعة على العموم والإشاعة متمم مكارم الأخلاق من الفضل والبذل والحياء والشجاعة والرضى عن آله وصحبه الذين اقتدوا بهديه بحسب الاستطاعة وزرعوا الخير في العاجلة ففازوا في الآجلة بفائدة تلك الزراعة والدعاء لمقامكم الأعلى بصنع يروي فيه عن الأشمط الباتر خبر النصر المتواتر لسان البراعة وتأييد لا ترضى فيه القنا بمقام القناعة فإنا كتبناه إليكم كتب الله تعالى لثنائكم العاطر بتخليد المفاخر منشور الإذاعة في أيدي النواسم الضواعة من حمراء غرناطة - حرسها الله تعالى - عن خير هامي السحاب وبشر مفتح الأبواب وعز للإسلام ببركة الاعتداد بملككم المنصور الأعلام مقتبل الشباب ويمن ضافي الجلباب والحمد لله على تضافر الأيدي في ذاته وتوفر الأسباب وجانبكم الرفيع الأمل للمنتاب إذا حدت الحداة ذوات الأقتاب ومطمح الوسائل المطرزة المسائل بتصحيح الود اللباب وإلى هذا وصل الله تعالى سوابغ نعمه وآلائه دائمة الانسكاب وجعل ما عجل لكم من نعمه كفيلة بالزلفى وحسن المآب وألهمكم تقييد شواردها بالشكر قولا وعملا فالشكر مستدعي المزيد كما وعد في الكتاب فإن من المنقول الذي اشتهر وراق فضله وبهر قوله اشفعوا تؤجروا وما في معناه من المعتبر في الخبر وتنفيس كربة عن مسلم وسماع شكوى من متظلم ولولا أن مقامكم السني أغنى لجلبنا الكثير من هذا المعنى ولما تحقق ما أنتم عليه من سلوك سبيل والدكم الملك الصالح - قدس الله تربته وضاعف قربته - من يمن الظفر وسلوك سبيل الخير وإقامة رسوم الدين والاهتداء من هديه بالنور المبين خف علينا أن نقصدكم بالشفاعات مع الساعات ونتجر لكم مع الله بأنفس البضاعات فما أثمر من ذلك شكرنا الله تعالى عليه حقيقة وشكرناكم عليه شريعة وما تأخر أوسعناكم فيه عذرا يسد ذريعة وعلمنا أن الله تعالى لم يأذن في تعجيله

وسألناه في تيسيره وتسهيله سواء لدينا في ذلك ما عاد بإعانة عامة وإمداد وساهم في قصد جهاد وما لم يعد علينا خصوصا وعلى المسلمين عموما بإعانة ولا إرفاد إنما علينا أن نجلب الخير الباقي والأجر الراقي إلى بابكم وندل عليه كريم جنابكم بمقتضى وداد صبحه باد وجميل ظن في دينكم المتين واعتقاد سلم مجمله ومفصله من انتقاد وذلك أن الشيخ الخطيب الفقيه الكبير الشهير الصدر الأوحد سلالة الصالحين وخطيب والدكم كبير الخلفاء والسلاطين ويا لها من مزية دنيا ودين أبا عبد الله بن مرزوق جبر الله تعالى على يدكم البرة حاله وسنى من مقامكم السني آماله جرى عليه من المحن وتباريح الإحن ما يعلم كل ذي مروءة وعقل واجتهاد ونقل أن ذلك من الجنايات على والدكم السلطان محسوب وإلى معقاته منسوب ولو كانت ذنوبه رضوى وثبيرا لاستدعت إلى تعمدها عفوا كبيرا رعيا لذلك الإمام الصالح الذي كبر خلفه وأحرم وتشهد وسلم وأمن عقب دعائه ونصب كفه لمواهب الله تعالى وآلائه وأنصت لخطبته ووعظه وأوجب المزية لسعة حفظه وعذوبة لفظه فأحبط ذلك من أحبط الأعمال الصالحة وعطل المتاجر الرابحة وأسف الملك المذكور بدم ولده وإحراق خزائنه وعدده وتغيير رسومه وحدوده وإسخاطه وإسخاط الله معبوده إلى أن طهر سيفكم الملك من عاره وأخذ منه بثاره وتقرب إلى الله وإلى السلف الكريم بمحو آثاره والحمد لله على ما خصه من إيثاره وتدارك الإسلام بإقالة عثاره وإنه خاطبنا الآن من حضرة تونس يقرر من حاله ما يفت الفؤاد ويوجب الامتعاض له والاجتهاد يطلب منا الإعانة بين يديكم والإنجاد ويشكو العيلة والأولاد والغربة التي أحلته الأقطار النازحة والبلاد والحوادث التي سلبته الطارف

والتلاد وأن نذكركم بوسيلته وضعف حيلته فبادرنا لذلك عملا بالواجب وسلوكا من بره ورعي حقه على السنن اللاحب وإن كنا نطوقه في أمرنا عند الحادثة علينا تقصيرا ولا نشكر إلا الله وليا ونصيرا فحقه علينا أوجب فهو الذي لا يجحد ولا يحجب ولا يلتبس منه المذهب وكيف لا يشفع فيمن جعله السلف إلى الله تعالى شفيعا وأحله محلا منيعا رفيعا إلى وليه الذي جبر ملكه سريعا وصير جنابه بعد المحول مريعا وجدد رسومه تأصيلا لها وتفريعا ومثلكم من اغتنم بره في نصر مظلوم وسبر مكلوم وإعداء كرم على لوم وهي منا ذكرى تنفع وحرص على أجر من يشفع وإسعاف لمن سأل ما يعلي من قدركم ويرفع وتأدية لحق سلفكم الذي توفرت حقوقه وإبلاغ نصيحة دينية إلى مجدكم الذي لا يمنعه عن المجد مانع ولا يعوقه ومطلبه في جنب ملككم الكبير حقير وهو إلى ما يفتح الله تعالى به على يد صدقتكم فقير ومنهلكم الأروى وباعكم في الخير أطول وساعدكم أقوى ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) ( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة 197 ] والله عز و جل يسلك بكم ؟ المسالك التي تخلد بالجميل ذكركم وتعظم عند الله أجركم فما عند الله خير للأبرار والدنيا دار الغرور والآخرة دار القرار وهو سبحانه يصل سعدكم ويحرس مجدكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى
والسلطان المخاطب بهذا هو أبو فارس عبد العزيز ابن لسلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني وكان ابن مرزوق غالبا على دولة السلطان أبي سالم أخي أبي فارس المذكور فقتله الوزير عمر بن عبد الله الفودودي وتغلب على الملك ونصب أخا لأبي سالم معتوها وسجن ابن مرزوق ورام قتله فخلصه الله تعالى منه ثم إن السلطان أبا فارس ثار على الوزير المتغلب وقتله واستقل بالملك فخوطب في شأن ابن مرزوق بما ذكر

رجع إلى ما كنا فيه من ذكر الراحلين من أعلام الأندلسيين إلى البلاد المشرقية المحروسة بالله سبحانه وتعالى فنقول 72 - ومنهم أبو الوليد وأبو محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي القرطبي المعروف بابن الفرضي الحافظ المشهور كان فقيها عالما عارفا بعلم الحديث ورجاله بارعا في الأدب وغيره وله من التصانيف تاريخ علماء الأندلس وقفت عليه بالمغرب وهو بديع في بابه وهو الذي ذيل عليه ابن بشكوال بكتاب الصلة وله كتاب حسن في المؤتلف والمختلف وفي مشتبه النسبة وكتاب في أخبار شعراء الأندلس وغير ذلك ورحل من الأندلس إلى المشرق سنة 382 فحج وسمع من العلماء وأخذ منهم وكتب من أماليهم وروى عن شيوخ عدة من أهل المشرق
ومن شعره
( أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجل مما به أنت عارف )
( يخاف ذنوبا لم يغب عنك غيبها ... ويرجوك فيها فهو راج وخائف )
( ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى ... وما لك في فصل القضاء مخالف )
( فيا سيدي لا تخزني في صحيفت ... ي إذا نشرت يوم الحساب الصحائف )
( وكن مؤنسي في ظلمة القبر عندما ... يصد ذوو القربى ويجفو المؤالف )
( لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... أرجي لإسرافي فإني لتالف )
وكان - رحمه الله تعالى - حسن الشعر والبلاغة ومن شعره أيضا

رحمه الله تعالى
( إن الذي أصبحت طوع يمينه ... إن لم يكن قمرا فليس بدونه )
( ذلي له في الحب من سلطانه ... وسقام جسمي من سقام جفونه )
وله شعر كثير
ومولده في ذي القعدة ليلة الثلاثاء لتسع بقين منه سنة 351 وتولى القضاء بمدينة بلنسية في دولة محمد المهدي المرواني وقتله البربر يوم فتح قرطبة يوم الإثنين لست خلون من شوال سنة 403 وبقي في داره ثلاثة أيام ودفن متغيرا من غير غسل ولا كفن ولا صلاة رحمه الله تعالى
وروي عنه أنه قال تعلقت بأستار الكعبة وسألت الله تعالى الشهادة ثم انحرفت وفكرت في هول القتل فندمت وهممت أن أرجع فأستقيل الله سبحانه وتعالى فاستحييت وأخبر من رآه بين القتلى ودنا منه فسمعه يقول بصوت ضعيف لا يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك كأنه يعيد على نفسه الحديث الوارد في ذلك قال ثم قضى على اثر ذلك
وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه
وقد ساق في المطمح حكايته فقال كان حافظا عالما كلفا بالرواية رحل في طلبها وتبحر في المعارف بسببها مع حظ من الأدب كثير واختصاص بنظيم منه ونثير حج وبرع في الزهادة والورع فتعلق بأستار الكعبة يسأل الله الشهادة ثم فكر في القتل ومرارته والسيف وحرارته فأراد أن يرجع ويستقيل الله تعالى فاستحيا وآثر نعيم الآخرة على شقاء الدنيا فأصيب في تلك الفتن مكلوما وقتل مظلوما ثم ذكر مثل ما مر
ومما قال في طريقه يتشوق إلى فريقه

( مضت لي شهور منذ غبتم ثلاثة ... وما خلتني أبقى إذا غبتم شهرا )
( وما لي حياة بعدكم أستلذها ... ولو كان هذا لم أكن في الهوى حرا )
( ولم يسلني طول التنائي عليكم ... بلى زادني وجدا وجدد لي ذكرى )
( يمثلكم لي طول شوقي إليكم ... ويدنيكم حتى أناجيكم سرا )
( سأستعتب الدهر المفرق بيننا ... وهل نافعي أن صرت أستعتب الدهرا )
( أعلل نفسي بالمنى في لقائكم ... وأستسهل البر الذي جبت والبحرا )
( ويؤنسني طي المراحل عنكم ... أروح على أرض وأغدو على أخرى )
( وتالله ما فارقتكم عن قلى لكم ... ولكنها الأقدار تجري كما تجرى )
( رعتكم من الرحمن عين بصيرة ... ولا كشفت أيدي النوى عنكم سترا )
وقد عرف به ابن حيان في المقتبس وذكر قصة شهادته رحمه الله تعالى
73 - ومنهم الشيخ أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله البكري الشريشي المالكي ولد بشريش سنة 601 ورحل إلى العراق فسمع به المشايخ كالقطيعي وابن روزبة وابن الكثير وغيرهم واشتغل وساد أهل زمانه واشتهر بين أقرانه ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية ثم انتقل إلى القدس الشريف فأقام به شيخ الحرم ثم جاء إلى دمشق المحروسة بالله وتولى مشيخة الحديث بتربة أم صالح ومشيخة الرباط الناصري ومشيخة المالكية وعرض عليه القضاء فلم يقبل وكانت وفاته يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب بالرباط الناصري ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وذلك سنة خمس وثمانين وستمائة
وليس هو بشارح المقامات بل هو غيره وقد اشتركا في البلد فبسبب

ذلك ربما يقع في الأذهان الوهم في أمرهما وشارح المقامات أحمد وهذا محمد وقد ترجمنا صاحب شرح المقامات فيما تقدم من هذا الباب فليراجع والله سبحانه وتعالى أعلم
74 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن السيد بن المغلس القيسي الأندلسي البلنسي كان من أهل العلم باللغة والعربية مشارا إليه فيهما رحل من الأندلس وسكن بمصر واستوطنها وقرأ الأدب على أبي العلاء صاعد اللغوي صاحب كتاب الفصوص وعلى أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاذ بن النجيرمي ودخل بغداد واستفاد وأفاد وله شعر حسن فمن ذلك قوله
( مريض الجفون بلا علة ... ولكن قلبي به ممرض )
( أعان السهاد على مقلتي ... بفيض الدموع فما تغمض )
( وما زار شوقا ولكن أتى ... يعرض لي أنه معرض )
وله أشعار كثيرة
وتوفي يوم الأربعاء لست بقين من جمادى الأولى سنة 427 وقيل سنة 429 بمصر وكان استوطنها وصلى عليه الشيخ أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي صاحب التفسير في مصلى الصدفي ودفن عند أبي إسحاق رحمه الله تعالى
ومغلس بضم الميم وفتح الغين وتشديد اللام المكسورة وبعدها سين مهملة
وكانت بينه وبين أبي الطاهر إسماعيل بن خلف صاحب كتاب

العنوان معارضات في قصائد
ومن شعر ابن المغلس أيضا قوله في حمام
( ومنزل أقوام إذا ما اغتدوا به ... تشابه فيه وغده ورئيسه )
( يخالط فيه المرء غير خليطه ... ويضحي عدو المرء وهو جليسه )
( يفرج كربي إن تزايد كربه ... ويؤنس قلبي أن يعد أنيسه )
( إذا ما أعرت الحوض ماء تكاثرت ... على مائه أقماره وشموسه )
75 - ومنهم أبو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الحكيم الأديب المعروف بالمغربي وهو من أهل المرية وانتقل إلى المشرق وكان كامل الفضيلة وجمع بين الأدب والحكمة وله ديوان شعر جيد والخلاعة والمجون غالبة عليه وذكر العماد في الخريدة أنه كان طبيب المارستان المستصحب في معسكر السلطان السلجوقي حيث خيم وكان السديد يحيى بن سعيد المعروف بابن المرخم الذي صار أقضى القضاة ببغداد في أيام المقتفى فاصدا وطبيبا في هذا المارستان
وأثنى العماد على أبي الحكم المذكور وذكر فضله وما كان عليه وأن له كتابا سماه نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ثم إن أبا الحكم انتقل إلى الشام وسكن دمشق وله فيها أخبار ومجاريات ظريفة تدل على خفة روحه
قال ابن خلكان رأيت في ديوانه أن أبا الحسين أحمد بن منير الطرابلسي كان عند الأمراء بني منقذ بقلعة شيزر وكانوا مقبلين عليه وكان بدمشق شاعر يقال له أبو الوحش وكانت فيه دعابة وبينه وبين أبي الحكم المذكور

مداعبات فسأل منه كتابا إلى ابن منير بالوصية عليه فكتب أبو الحكم
( أبا الحسين استمع مقال فتى ... عوجل فيما يقول فارتجلا )
( هذا أبو الوحش جاء ممتدحا ... للقوم فاهنأ به إذا وصلا )
( واتل عليهم بحسن شرحك ما ... أنقله من حديثه جملا )
( وخبر القوم أنه رجل ... ما أبصر الناس مثله رجلا )
( تنوب عن وصفه شمائله ... لا يبتغي عاقل به بدلا )
ومنها
( وهو على خفة به أبدا ... معترف أنه من الثقلا )
( يمت بالثلب والرقاعة والسخف ... وأما بغير ذاك فلا )
( إن أنت فاتحته لتخبر ما ... يصدر عنه فتحت منه خلا )
( فنبه إن حل خطة الخسف والهون ... ورحب به إذا رحلا )
( واسقه السم إن ظفرت به ... وامزج له من لسانك العسلا )
وله أشياء مستملحة منها مقصورة هزلية ضاهى بها مقصورة ابن دريد من جملتها
( وكل ملموم فلا بد له ... من فرقة لو ألزقوه بالغرا )
وله مرثية في عماد الدين زنكي بن آق سنقر الأتابكي شاب فيها الجد الهزبل والغالب على شعره الانطباع
وتوفي ليلة الأربعاء رابع ذي القعدة سنة 549 وقيل في السنة التي قبلها بدمشق رحمه الله تعالى
والقاضي ابن المرخم المذكور هو الذي يقول فيه أبو القاسم هبة الله بن الفضل الشاعر المعروف بابن القطان

( يا ابن المرخم صرت فينا قاضيا ... خرف الزمان تراه أم جن الفلك )
( إن كنت تحكم بالنجوم فربما ... أما بشرع محمد من أين لك )
وكان أبو الحكم المذكور فاضلا في العلوم الحكمية متقنا للصناعة الطبية حسن النادرة كثير المداعبة محبا للهو والخلاعة والشراب وكان يعرف صنعة الموسيقى ويلعب بالعود ويجلس في دكان بجيرون للطب وسكناه باللبادين وأتى في ديوانه نهج الوضاعة بكل غريب يدل على أنه أريب سامحه الله تعالى وغفر له
76 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق من هو الأحق بالتقديم والسبق الشهير عند أهل الغرب والشرق الحافظ المقريء الإمام الرباني أبو عمرو الداني عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي مولاهم القرطبي صاحب التصانيف التي منها المقنع والتيسير وعرف بالداني لسكناه دانية وولد سنة 371 وابتدأ بطلب العلم سنة 387 ورحل إلى المشرق سنة 397 فمكث بالقيروان أربعة أشهر ودخل مصر في شوالها فمكث بها سنة وحج ورجع إلى الأندلس في ذي القعدة سنة 399 وقرأ بالروايات على عبد العزيز بن جعفر الفارسي وغيره بقرطبة
وعلى أبي الحسن بن غلبون وخلف بن خاقان المصري وأبي الفتح فارس بن أحمد وسمع من أبي مسلم الكاتب وهو أكبر شيخ له ومن عبد الرحمن بن عثمان القشيري وحاتم بن عبد الله البزار وغير واحد من أهل مصر وسواها وسمع من الإمام أبي الحسن القابسي وخلف كتبه بالحجاز ومصر والمغرب والأندلس وتلا عليه خلق منهم مفرج الأقفالي وأبو داود بن نجاح صاحب

التنزيل في الرسم وهو من أشهر تلامذته وحدث عنه خلق كثير منهم خلف بن إبراهيم الطليطلي
قال أبو محمد عبيد الله الحجري ذكر بعض الشيوخ أنه لم يكن في عصر الحافظ أبي عمرو الداني ولا بعد عصره أحد يدانيه ولا يضاهيه في حفظه وتحقيقه وكان يقول ما رأيت شيئا قط إلا كتبته ولا كتبته إلا حفظته ولا حفظته فنسيته
قال ابن بشكوال كان أبو عمرو أحد الأئمة في علم القرآن ورواياته وتفسيره ومعانيه وطرقه وإعرابه وجمع في ذلك كله تواليف حسانا وله معرفة بالحديث وطرقه وإعرابه وأسماء رجاله وكان حسن الخط والضبط من أهل الحفظ والذكاء واليقين وكان دينا فاضلا ورعا سنيا
وقال بعضهم وأظنه المغامي كان أبو عمرو مجاب الدعوة مالكي المذهب
وقال بعض أهل مكة إن أبا عمرو الداني مقرىء متقدم وإليه المنتهى في علم القراءات وإتقان القرآن والقراء خاضعون لتصانيفه واثقون بنقله في القراءات والرسم والتجويد والوقف والابتداء وغير ذلك وله مائة وعشرون مصنفا وروى عنه بالإجازة رجلان أحمد بن محمد بن عبد الله الخولاني وأبو العباس أحمد بن عبد الملك بن أبي حمزة وكانت وفاته رحمه الله تعالى بدانية في نصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة
77 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى بن عبد الله بن أحمد بن أبي حبيب الأندلسي من بيت علم ووزارة صرف عمره في طلب العلم

وكان غزير العلم في الفقه والحديث والأدب وولي القضاء بالأندلس مدة ثم دخل الإسكندرية ومصر وجاور بمكة المشرفة ثم قدم العراق وأقام ببغداد مدة ثم وافى خراسان فأقام بنيسابور وبلخ وكانت ولادته ببلاد الأندلس وتوفي بهراة في شعبان سنة 548 رحمه الله تعالى ورضي عنه
78 - ومنهم أبو العباس أحمد بن علي بن محمد بن علي بن شكر الأندلسي المقرىء رحل وأخذ القراءات عن أبي الفضل جعفر الهمداني وسمع من أبي القاسم بن عيسى وسكن الفيوم واختصر التيسير وصنف شرحا للشاطبية وتوفي سنة 640 رحمه الله تعالى
79 - ومنهم العلامة ذو الفنون علم الدين القاسم بن أحمد المريني اللورقي المقرىء النحوي ولد سنة 575 وقرأ القراءات وأحكم العربية وبرع فيها واجتمع بالجزولي وسأله عن مسألة في مقدمته وقرأ علم الكلام والأصوليين والفلسفة وكان خبيرا بهذه العلوم مقصودا بإقرائها وولي مشيخة قراءة العادلية ودرس بالعزيزية نيابة وصنف شرحا للشاطبية وشرحا للمفصل في عدة مجلدات وشرح الجزولية وغير ذلك وكان مليح الشكل حسن البزة وتوفي سنة 661 رحمه الله تعالى ورضي
80 - ومنهم أبو عبد الله بن أبي الربيع القيسي الأندلسي الغرناطي

قدم مصر سنة 515 أو بعدها فسمع على السلفي وبقراءته على جماعة من شيوخ مصر وكان لديه فقه وأدب ثم سافر إلى باب الأبواب وكان حيا سنة 556
ومن نظمه يمدح كتاب الشهاب
( إن الشهاب له فضل على الكتب ... بما حوى من كلام المصطفى العربي )
( كم ضم من حكمة غرا وموعظة ... ومن وعيد ومن وعد ومن أدب )
( أما القضاعي فالرحمن يرحمه ... كما حباه من التأليف بالعجب )
81 - ومنهم الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون بن مرجى القرشي العبدري من أهل ميورقة من بلاد الأندلس سكن بغداد وسمع بها من أبي الفضل بن خيرون وطراد الزينبي وأبي عبد الله الحميدي وجماعة ولم يزل يسمع إلى حين وفاته وكتب بخطه كثيرا من الكتب والأجزاء وجمع وخرج وكان صحيح العقل معتمد الضبط مرجوعا إليه في الإتقان وكفاه فخرا وشرفا أن روى عنه الحافظان أبو طاهر السلفي وأبو الفضل محمد بن ناصر وكان فهامة علامة ذا معرفة بالحديث متعففا مع فقره وكان يذهب إلى أن المناولة والعرض كالسماع
وقال السلفي فيه إنه من أعيان علماء الإسلام بمدينة السلام متصرف في فنون من العلم أدبا ونحوا ومعرفة بأنساب العرب والمحدثين وكان داودي المذهب قرشي النسب وقد كتب عني وكتبت عنه وسمعنا معا كثيرا على شيوخ بغداد ومولده بقرطبة من مدن الأندلس
وقبل اجتماعي به كنت أسمع إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يثني عليه فلما اجتمعنا وجدته فوق ما وصفه انتهى

وقال ابن عساكر كان أحفظ شيخ لقيته وربما حكى عنه بعضهم كابن عساكر أمورا منكرة فالله أعلم وتوفي في ربيع الآخر سنة 524 ببغداد رحمه الله تعالى
82 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعدون الباجي سمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وابن رشيق وبمكة من الآجري وكان صالحا فاضلا زاهدا ورعا حدث ومات ببطليوس فجأة سنة 392 ومولده سنة 322
83 - ومنهم أبو بكر محمد بن سعدون التميمي الجزيري المتعبد كانت آدابه كثيرة وحج غير مرة ورابط ببلاد المغرب وكان حسن الصوت بالقرآن سمع بمصر من جماعة وبمكة وصحب الفقراء وطاف بالشام وغزا غزوات وتعرض للجهاد وحرض عليه وساح بجبل المقطم وذكر أنه صلى بمصر الضحى اثنتي عشرة ركعة ثم نام فرأى النبي فقال يا رسول الله إن مالكا والليث اختلفا في الضحى فمالك يقول اثنتا عشرة ركعة والليث يقول ثمان فضرب عليه الصلاة و السلام بين وركي ابن سعدون وقال رأي مالك هو الصواب ثلاث مرات قال وكان في وركي وجع فمن تلك الليلة زال عني وكان له براهين من نور يضيء عليه إذا صلى ونحوه وأنشد
( سجن اللسان هو السلامة للفتى ... من كل نازلة لها استئصال )
( إن اللسان إذا حللت عقاله ... ألقاك في شنعاء ليس تقال )
توفي سنة 344

84 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعد الأعرج الطليطلي الخطيب وقال فيه ابن سعيد سمع بمصر ابن الورد وابن السكن وحدث مولده سنة 309 وتوفي في ربيع الآخر سنة 384
85 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن إسحاق بن يوسف الأموي القرطبي وأصله من لبلة ولكن سكن قرطبة وقدم مصر وحج وسمع في طريقه من الشيخ أبي محمد بن أبي زيد صاحب الرسالة وأخذ عن القابسي وعن جماعة من علماء مصر والحجاز ومولده سنة 352 ورحلته سنة 418
86 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سعيد بن حسان بن الحكم بن هشام القرطبي سمع من أبيه ويحيى بن يحيى وعبد الملك بن حبيب ورحل فسمع من أشهب بن عبد العزيز وعبد الله بن نافع وعبد الله بن عبد الحكم وعاد إلى الأندلس وبها توفي سنة 260 رحمه الله تعالى
87 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن سليمان المعافري الشاطبي نزيل الإسكندرية ويعرف بابن أبي الربيع أحد أولياء الله تعالى شيخ الصالحين صاحب الكرامات المشهورة جمع بين العلم والعمل والورع والزهد والانقطاع إلى الله تعالى والتخلي عن الناس والتمسك بطريقة السلف قرأ القرآن ببلده بالقراءات السبع على أبي عبد الله محمد بن سعادة الشاطبي وغيره وقرأ بدمشق على الواسطي وسمع عليه الحديث ورحل فسمع من الزاهد أبي يوسف يعقوب

خادم أضياف رسول الله بين قبره ومنبره سنة 617 وسمع بدمشق على أبي القاسم بن صصرى وأبي المعالي بن خضر وأبي الوفاء بن عبد الحق وغيرهم وانقطع لعبادة الله تعالى في رباط سوار من الإسكندرية بتربة أبي العباس الراسي وتلمذ للشاطبي تلميذ الراسي وصنف كتبا حسنة منها كتاب المسلك القريب في ترتيب الغريب وكتاب اللمعة الجامعة في العلوم النافعة في تفسير القرآن العزيز وكتاب شرف المراتب والمنازل في معرفة العالي في القراءات والنازل وكتاب المباحث السنية في شرح الحصرية وكتاب الحرقة في لباس الخرقة وكتاب المنهج المفيد فيما يلزم الشيخ والمريد وكتاب النبذة الجلية في ألفاظ اصطلح عليها الصوفية وكتاب زهر العريش في تحريم الحشيش وكتاب الزهر المضي في مناقب الشاطبي وكتاب الأربعين المضية في الأحاديث النبوية ومولده بشاطبة سنة 585 ووفاته بالإسكندرية في رمضان سنة 672 ودفن بتربة شيخه المجاورة لزاويته رحمهما الله تعالى ونفع بهما ! محمد بن شريح الرعيني 289 محمد بن شريح الرعيني 88 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني الإشبيلي قدم مصر وسمع بها من ابن نفيس وأبي علي الحسن البغدادي وأبي جعفر النحوي وأبي القاسم بن الطيب البغدادي الكاتب وبمكة من أبي ذر الهروي قال ابن بشكوال كان من جملة المقرئين وخيارهم ثقة في روايته وكانت رحلته إلى المشرق سنة 423 وولد سنة 392 وتوفي سنة 476 وعمره أربع وثمانون سنة إلا خمسة وخمسين يوما وروى بإشبيلية عن جماعة

رحمه الله تعالى
89 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح الأنصاري المالقي قال السلفي هو شاب من أهل الأدب له خاطر سمح كان يحضر عندي بالإسكندرية كثير السماع للحديث وذكر أنه قرأ الأدب على أبي الحسين بن الطراوة النحوي بالأندلس وعلى نظرائه وأنشدني لنفسه
( كم ذا تقلقلني النوى وتسوقني ... وإلى متى أشجى بها وأسام )
( ألفت ركائبي الفلا فكأنما ... للبين عهد بيننا وذمام )
( يا ويح قلبي من فراق أحبة ... أبدا تصدعه به الأيام )
90 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح القحطاني المعافري الأندلسي المالكي رحل إلى المشرق فسمع بالشام خيثمة بن سليمان وبمكة أبا سعيد بن الأعرابي وببغداد إسماعيل بن محمد الصفار وسمع بالمغرب بكر بن حماد التاهرتي ومحمد بن وضاح وقاسم بن أصبغ وبمصر جماعة من أصحاب يونس والمزني
روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال اجتمعنا به بهمذان مات ببخارى سنة 383 وقيل سنة ثمان وقيل سنة تسع وسبعين
وقال فيه أبو سعيد الإدريسي إنه كان من أفاضل الناس ومن ثقاتهم
وقال غنجار إنه كان فقيها حافظا جمع تاريخا لأهل الأندلس
وقال السمعاني فيه كان فقيها حافظا رحل في طلب العلم إلى المشرق والمغرب رحمه الله تعالى
91 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الخزرجي

الداني النحوي أخو أبي العباس بن عيسى سمع بدانية من أبي داود المقرىء وغيره وقدم دمشق سنة 554 حين خرج حاجا وأقرأ بدمشق النحو مدة ثم خرج إلى بغداد وأقام بها إلى أن مات سنة 619 وولد سنة 512 وقدم مصر سنة 572 وله من المصنفات كتاب تحصيل عين الذهب من معدن جوهر الأدب في علم مجازات العرب ومن كلامه ليست هيبة الشيخ لشيبه ولا لسنه ولا لشخصه ولكن لكمال عقله والعقل هو المهاب ولو رأيت شخصا جمع جميع الخصال وعدم العقل لما هبته وقال من جهل شيئا عابه ومن قصر عن شيء هابه
92 - ومنهم القاضي الشهير محمد بن بشير وهو محمد بن سعيد بن بشير بن شراحيل المعافري وقيل في آبائه غير ذلك كما يأتي ولما أشير على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بتقديم ابن بشير إلى خطة القضاء بقرطبة وجه إليه بباجة فأقبل ولا يعلم ما دعي إليه ونزل على صديق له من العباد فتحدث في شأن استدعائه وقدم أنه يصرف في الكتابة فقال له العابد ما أراه بعث فيك إلا للقضاء فإن القاضي بقرطبة مات وهي الآن دون قاض فقال ابن بشير فأنا أستشيرك في ذلك إن وقع فقال أسألك عن أشياء ثلاثة وأعزم عليك أن تصدقني فيها ثم أشير بعد ذلك عليك فقال ما هي فقال كيف حبك للأكل الطيب واللباس اللين وركوب الفاره فقال والله لا أبالي ما رددت به جوعي وسترت به عورتي وحملت به

رحلي فقال هذه واحدة فكيف حبك للتمتع بالوجوه الحسان والتبطن للكواعب الغيد وما شاكل ذلك من الشهوات فقال هذه حال والله ما استشرفت قط إليها ولا خطرت ببالي ولا اكترثت لفقدها فقال وهذه ثانية فكيف حبك لمدح الناس لك وثنائهم عليك وكيف حبك للولاية وكراهيتك للعزل فقال والله ما أبالي في الحق من مدحني وذمني وما أسر للولاية ولا أستوحش للعزل فقال وهذه الثالثة أقبل الولاية فلا بأس عليك فقدم قرطبة فولاه الأمير الحكم القضاء والصلاة
قال ابن وضاح أخبرني من كان يرى محمد بن بشير القاضي داخلا على باب المسجد الجامع يوم الجمعة وعليه رداء معصفر وفي رجله نعل صرارة وله جمة مفرقة ثم يقوم فيخطب ويصلي وهو في هذا الزي وبه كان يجلس للقضاء بين الناس فإن رام أحد من دينه شيئا وجده أبعد من الثريا
وأتاه رجل لا يعرفه فلما رأى ما هو فيه من زي الحداثة من الجمة المفرقة والرداء المعصفر وظهور الكحل والسواك وأثر الحناء في يديه توقف وقال دلوني على القاضي فقيل له ها هو وأشير إليه فقال إني رجل غريب وأراكم تستهزئون بي أنا أسألكم عن القاضي وأنتم تدلونني على زامر فصححوا له أنه القاضي فتقدم إليه واعتذر فأدناه وتحدث معه فوجد عنده من العدل والإنصاف فوق ما ظنه فكان يحدث بقصته معه
وعوتب في إرسال لمته ولبسه الخز والمعصفر فقال حدثني مالك بن أنس أن محمد بن المنكدر - وكان سيد القراء - كانت له لمة وأن هشام بن عروة فقيه هذا البلد - يعني المدينة - كان يلبس المعصفر وأن القاسم بن محمد كان يلبس الخز

ولقد سئل يحيى بن يحيى عن لباس العمائم فقال هي لباس الناس في المشرق وعليه كان أمرهم في القديم فقيل له لو لبستها لاتبعك الناس في لباسها فقال قد لبس محمد بن بشير الخز فما تبعه الناس فيه وكان ابن بشير أهلا أن يقتدى به فلعلي لو لبست العمامة لتركني الناس ولم يتبعوني كما تركوا ابن بشير
وكان أول ما نظر فيه محمد بن بشير - حين ولي القضاء - التسجيل على الخليفة الحكم في أرحي القنطرة إذ قيم عليه فيها وثبت عنده حق المدعي وأعذر إلى الحكم فلم يكن عنده مدفع فسجل فيها وأشهد على نفسه فما مضت مديدة حتى ابتاعها الحكم ابتياعا صحيحا فسر بذلك وقال رحم الله محمد بن بشير فلقد أحسن فيما فعل بنا على كره منا كان في أيدينا شيء مشتبه فصححه لنا وصار حلالا طيب الملك في أعقابنا وحكم على ابن فطيس الوزير ولم يعرفه بالشهود فرفع الوزير ذلك إلى الحكم وتظلم من ابن بشير فأومأ الحكم إليه أن الوزير ذكر حكمك عليه بشهادة قوم لم تعرفه بهم ولا أعذرت إليه فيهم وإن أهل العلم يقولون إن ذلك له فكتب إليه ابن بشير ليس ابن فطيس ممن يعرف بمن شهد عليه لأنه إن لم يجد سبيلا إلى تجريحهم لم يتحرج عن طلب أذاهم في أنفسهم وأموالهم فيدعون الشهادة هم ومن ائتسى بهم وتضيع أموال الناس
وأكثر موسى بن سماعة أحد خواص الأمير الحكم في ابن بشير الشكاية وأنه يجور عليه فقال له الحكم أنا أمتحن قولك الساعة فاخرج إليه فورا واستأذن عليه فإن أذن لك عزلته وصدقت قولك فيه وإن لم يأذن لك دون خصمك ازددت بصيرة فيه فليس هو عندي بجائر على حال وإنما

مقصده الحق في كل ما يتصرف فيه فخرج يؤم دار ابن بشير وقد أمر الحكم من يثق به من الفتيان الصقالبة أن يقفوا أثره ويعلموا ما يكون منه فلم يكن إلا ريثما بلغ ثم انصرف فحكى للحكم أنه لما خرج الآذن إلى موسى وعلم القاضي بمكانه عاد إليه فقال له إن كانت لك حاجة فاقصد فيها إذا جلس القاضي مجلس القضاء فتبسم الحكم وقال قد أعلمته أن ابن بشير صاحب حق لا هوادة فيه عنده لأحد
وولي القضاء مرتين فلما عزل المرة الأولى انصرف إلى بلده وكان بعض إخوانه يعاتبه في صلابته ويقول له أخشى عليك العزل فيقول له ليته قدر إن الشقراء - يعني بغلته - تقطع الطريق بي جاثة نحو باجة
فما مضى إلا يسير حتى عتب عليه الأمير في قصة اشتد فيها على بعض خاصته فكانت سببا لعزله وانصرف كما تمنى فلم يمكث إلا يسيرا حتى أتى فيه رقاص من قبل الأمير الحكم والرقاص عند المغاربة هو الساعي عند المشارقة فعاد إلى قرطبة وجبره على القعود للقضاء الأمير الحكم فلاذ منه باليمين بطلاق زوجته وبصدقة ما يملك في سبيل الله تعالى إن حكم بين اثنين فلم يعذره وأخرجه من ماله وعوضه من طيب ما عنده ووهب له جارية من جواريه فعاد إلى القضاء ثانية
ومما يحكى عنه في العدل أن سعيد الخير ابن السلطان عبد الرحمن الداخل وكل عند ابن بشير وكيلا يخاصم عنه لشيء اضطر إليه وكانت بيده فيه وثيقة فيها شهادات شهود قد ماتوا ولم يكن فيها من الأحياء إلا الأمير الحكم وشاهد آخر مبرز فشهد لسعيد الخير ذلك الشاهد وضربت على وكيله الآجال في شاهد ثان وجد به الخصام فدخل سعيد الخير بالكتاب إلى الحكم وأراه شهادته في الوثيقة وقد كان كتبها قبل الخلافة في حياة أبيه وعرفه مكان

حاجته إلى أدائها عند قاضيه خوفا من بطلان حقه وكان الحكم يعظم سعيد الخير عمه ويلتزم مبرته فقال له يا عم إنا لسنا من أهل الشهادات وقد التبسنا من هذه الدنيا بما لا تجهله ونخشى أن توقفنا مع القاضي موقف مخزاة كنا نفديه بملكنا فصر في خصامك حيث صيرك الحق إليه وعلينا خلف ما انتقصك فأبى عليه وقال سبحان الله وما عسى أن يقول قاضيك في شهادتك وأنت وليته وهو حسنة من حسناتك وقد لزمتك في الديانة أن تشهد لي بما علمته ولا تكتمني ما أخذ الله عليك فقال بلى إن ذلك لمن حقك كما تقول ولكنك تدخل علينا به داخلة فإن أعفيتنا منه فهو أحب إلينا وإن اضطررتنا لم يمكنا عقوقك فعزم عليه عزم من لم يشك أن قد ظفر بحاجته وضايقته الآجال فألح عليه فأرسل الحكم عند ذلك إلى فقيهين من فقهاء زمانه وخط شهادته بيده في قرطاس وختم بخاتمه ودفعها إلى الفقيهين وقال لهما هذه شهادتي بخطي تحت ختمي فأدياها إلى القاضي فأتياه بها إلى مجلسه وقت قعوده للسماع من الشهود فأدياها إليه فقال لهما قد سمعت منكما فقوما راشدين في حفظ الله تعالى وجاء وكيل سعيد الخير وتقدم إليه مدلا واثقا وقال له أيها القاضي قد شهد عندك الأمير - أصلحه الله تعالى - فما تقول فأخذ كتاب الشهادة ونظر فيه ثم قال للوكيل هذه شهادة لا تعمل عندي فجئني بشاهد عدل فدهش الوكيل ومضى إلى سعيد الخير فأعلمه فركب من فوره إلى الحكم وقال ذهب سلطاننا وأزيل بهاؤنا يجترئ هذا القاضي على رد شهادتك والله سبحانه قد استخلفك على عباده وجعل الأمر في دمائهم وأموالهم إليك هذا ما لا يجب أن تحمل عليه وجعل يغريه بالقاضي ويحرضه على الإيقاع به فقال له الحكم وهل شككت أنا في هذا يا عم القاضي رجل صالح والله

لا تأخذه في الله لومة لائم فعل ما يجب عليه ويلزمه وسد دونه بابا كان يصعب عليه الدخول منه فأحسن الله تعالى جزاءه فغضب سعيد الخير وقال هذا حسبي منك فقال له نعم قد قضيت الذي كان لك علي ولست والله أعارض القاضي فيما احتاط به لنفسه ولا أخون المسلمين في قبض يد مثله
ولما عوتب ابن بشير فيما أتاه من ذلك قال لمن عاتبه يا عاجز أما تعلم أنه لا بد من الإعذار في الشهادات فمن كان يجترئ على الدفع في شهادة الأمير لو قبلتها ولو لم أعذر لبخست المشهود عليه حقه
وتوفي القاضي محمد بن بشير سنة 198 قبل الشافعي بست سنين كما يأتي قريبا ومحاسنه - رحمه الله تعالى - كثيرة وقد استوفى ترجمته بقدر الإمكان القاضي عياض في المدارك فليراجعها من أرادها فإن عهدي بها في المغرب
وقال بعض من عرف به ما نصه القاضي محمد بن بشير بن محمد المعافري أصله من جند باجة من عرب مصر ولاه الحكم بن هشام قضاء القضاة الذي يعبرون عنه بالمغرب بقضاء الجماعة بقرطبة بعد المصعب بن عمران ثم صرفه وولى مكانه الفرج بن كنانة
وعن ابن حارث قال أحمد بن خالد طلب محمد بن بشير العلم بقرطبة عند شيوخ أهلها حتى أخذ منه بحظ وافر ثم كتب لأحد أولاد عبد الملك بن عمر المرواني لمظلمة نالته على وجه الاعتصام به وتصرف معه تصرفا لطيفا ثم انقبض عنه وخرج حاجا قال ابن حارث وكتب محمد بن بشير في حداثته للقاضي مصعب بن عمران ثم خرج حاجا فلقي مالك بن أنس وجالسه وسمع منه وطلب العلم أيضا بمصر ثم انصرف فلزم ضيعته في باجة

وقال ابن حيان إنه استقدم من باجة للقضاء برأي العباس بن عبد الملك
وقال ابن شعبان في الرواة عن مالك من أهل الأندلس محمد بن بشير بن سرافيل ويقال شراحبل ولي القضاء وكان رجلا صالحا وبعدله تضرب الأمثال واستوطن قرطبة وتوفي بها سنة ثمان وتسعين ومائة انتهى وبعضه عن غيره
ومن شعره قوله
( إنما أزرى بقدري أنني ... لست من بابة أهل البلد )
( ليس منهم غير ذي مقلية ... لذوي الألباب أو ذي حسد )
( يتحامون لقائي مثلما ... يتحامون لقاء الأسد )
( مطلعي أثقل في أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحد )
( لو رأوني وسط بحر لم يكن ... أحد يأخذ منهم بيدي )
93 - ومنهم محمد بن عيسى بن دينار الغافقي من أهل قرطبة كان فقيها زاهدا وحج وحضر افتتاح إقريطش واستوطنها قاله الرازي
94 - ومنهم محمد بن يحيى بن يحيى الليثي خرج حاجا ولقي سحنون بن سعيد بإفريقية ولقي بمصر رجالا من أصحاب مالك فسمع منهم وعرف بالفقه والزهد وجاور بمكة وتوفي هنالك
95 - ومنهم محمد بن مروان بن خطاب المعروف بابن أبي جمرة

رحل حاجا هو وابناه خطاب وعميرة في سنة اثنتين وعشرين ومائتين وسمعوا ثلاثتهم من سحنون بن سعيد المدونة بالقيروان وأدركوا أصبغ بن الفرج وأخذوا عنه
96 - ومنهم محمد بن أبي علاقة البواب من أهل قرطبة كانت له رحلة إلى المشرق ولقي فيها جماعة من أهل العلم وأخذ عن أبي إسحاق الزجاجي وعن أبي بكر بن الأنباري وعن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش وأبي عبد الله نفطويه وغيرهم وسمع من الأخفش الكامل للمبرد وقال الحكم المستنصر لم يصح كتاب الكامل عندنا من رواية إلا من قبل ابن أبي علاقة وكان ابن جابر الإشبيلي قد رواه قبل بمصر بمدة وما علمت أحدا رواه غيرهما وكان ابن الأحمر القرشي يذكر أنه رواه وكان صدوقا ولكن كتابه ضاع ولو حضر ضاهى الرجلين المتقدمين
97 - ومنهم محمد بن حزم بن بكر التنوخي من أهل طليطلة وسكن قرطبة يعرف بابن المديني سمع من أحمد بن خالد وغيره وصحب محمد بن مسرة الجبلي قديما واختص بمرافقته في طريق الحج ولازمه بعد انصرافه وكان من أهل الورع والانقباض وحكي عن ابن مسرة أنه كان في سكناه المدينة يتتبع آثار النبي قال ودله بعض أهل المدينة على دار مارية أم إبراهيم سرية النبي فقصد إليها فإذا هي دويرة لطيفة بين البساتين بشرقي المدينة عرضها وطولها واحد قد شق في وسطها بحائط وفرش على حائطها خشب غليظ يرتقى إلى ذلك الفرش

على خارج لطيف وفي أعلى ذلك بيتان وسقيفة كانت مقعد النبي في الصيف قال فرأيت أبا عبد الله بعد ما صلى في البيتين والسقيفة وفي كل ناحية من نواحي تلك الدار ضرب أحد البيتين بشبره فكشفته بعد انصرافي وهو ساكن في الجبل عن ذلك فقال هذا البيت الذي تراني فيه بنيته على تلك الحالة في العرض والطول بلا زيادة ولا نقصان انتهى
98 - ومنهم محمد بن يحيى بن مالك بن يحيى بن عائذ ولد أبي زكريا الراوية من أهل طرطوشة يكنى أبا بكر تأدب بقرطبة وسمع بها من قاسم بن أصبغ ومحمد بن معاوية القرشي وأحمد بن سعيد ومنذر بن سعيد وأبي علي القالي وغيرهم وكان حافظا للنحو واللغة والشعر يفوت من جاراه على حداثة سنة شاعرا مجيدا مرسلا بليغا ورحل مع أبيه إلى المشرق سنة تسع وأربعين وثلاثمائة فسمع بمصر من ابن الورد وابن السكن وحمزة الكناني وغيرهم وسمع أيضا بالبصرة وبغداد كثيرا وخرج إلى أرض فارس فسمع هنالك وجمع كتبا عظيمة وأقام بها إلى أن توفي بأصبهان معتبطا مع الستين وثلاثمائة ومولده بطرطوشة صدر ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ذكره ابن حيان رحمه الله تعالى
99 - ومنهم محمد بن عبدون الجبلي العدوي من أهل قرطبة أدب بالحساب والهندسة ورحل في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة فدخل مصر والبصرة وعني بعلم الطب فمهر فيه ودبر في مارستان الفسطاط ثم رجع

إلى الأندلس في سنة ستين وثلاثمائة فاتصل بالمستنصر بالله وابنه المؤيد بالله وله في التكسير تأليف حسن رحمه الله تعالى
100 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأزدي الفراء القرطبي صحب أبا بكر بن يحيى بن مجاهد واختص به ولطف محله منه وقرأ عليه القرآن ورحل صحبته لأداء فريضة الحج وكان رجلا صالحا كثير التلاوة للقرآن والخشوع إذا قرأ بكى ورتل وبين في مهل ويقول أبو بكر علمني هذه القراءة وحكي أنه سرد الصوم اثنتي عشرة سنة قبل موت ابن مجاهد مفطرا كل ليلة وقت الإفطار ثم تمادى على ذلك بعد موته مفطرا عقب العشاء الآخرة لالتزامه الصلاة من المغرب إليها تزيدا من الخير واجتهادا في العمل
101 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن صالح المعافري الأندلسي رحل إلى المشرق فسمع خيثمة بن سليمان وأبا سعيد بن الأعرابي وإسماعيل بن محمد الصفار وبكر بن حماد التاهرتي وغيرهم روى عنه أبو عبد الله الحاكم وقال اجتمعنا بهمذان سنة إحدى وأربعين يعني وثلاثمائة فتوجه منها إلى أصبهان وكان قد سمع في بلاده وبمصر من أصحاب يونس وبالحجاز وبالشام وبالجزيرة من أصحاب علي بن حرب وببغداد وورد نيسابور في ذي الحجة سنة إحدى وأربعين فسمع الكثير ثم خرج إلى مرو ومنها إلى بخارى فتوفي بها في رجب من سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وروى عنه أيضا أبو القاسم بن حبيب النيسابوري وغيرهما ذكره ابن عساكر وأسند إليه قوله
( ودعت قلبي ساعة التوديع ... وأطعت قلبي وهو غير مطيعي )
( إن لم أشيعهم فقد شيعتهم ... بمشيعين تنفسي ودموعي )

وذكره ابن الفرضي وقال إنه استوطن بخارى وجعل وفاته بها سنة ثمان وسبعين والأول قول الحاكم وهو أصح
102 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى السرقسطي روى عن الباجي وابن عبد البر ورحل حاجا فقدم دمشق وحدث بها عن شيوخه الأندلسيين وعن أبي حفص عمر بن أبي القاسم بن أبي زيد القفصي وذكره ابن عساكر وقال سمع عنه أبو محمد الأكفاني وحكى عنه تدليسا ضعفه به وتوفي سنة 477
103 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عيسى بن بقاء الأنصاري من بلاد الثغر الشرقي أخذ القراءات عن أبي داود سليمان بن نجاح ورحل حاجا فقدم دمشق وأقرأ بها القرآن بالسبع وأخذ عنه جماعة من أهلها وكان شيخا فاضلا حافظا للحكايات قليل التكلف في اللباس ذكره ابن عساكر وقال رأيته وسمعته ينشد قصيدة يوم خرج الناس للمصلى للاستسقاء على المنبر أولها
( أستغفر الله من ذنبي وإن كبرا ... وأستقل له شكري وإن كثرا )
وكان يسكن في دار الحجارة ويقرئ بالمسجد الجامع
ولد في الثاني والعشرين من شعبان سنة أربع وخمسين وأربعمائة وتوفي يوم الأربعاء عند صلاة العصر ودفن يوم الخميس لصلاة الظهر الثاني من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ودفن في مقابر الصحابة بالقرب من قبر أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال وشهدت أنا غسله والصلاة عليه

ودفنه وذكره السلفي محمد
104 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر بن علي بن عيسى الأنصاري الخزرجي من أهل دانية سمع كتاب التقصي لابن عبد البر ولقي أبا الحسن الحصري ثم خرج حاجا فقدم دمشق سنة أربع وخمسمائة وأقام بها مدة يقرىء العربية وكان شديد الوسوسة في الوضوء
ذكره ابن عساكر وقال أنشدني أخي أبو الحسين هبة الله بن الحسن الفقيه قال أنشدنا ابن طاهر الأندلسي بدمشق قال أنشدني الحصري لنفسه
( يموت من في الأنام طرا ... من طيب كان أو خبيث )
( فمستريح ومستراح ... منه كما جاء في الحديث )
قال وأنشدني الحصري لنفسه
( لو كان تحت الأرض أو فوق الذرى ... حر أتيح له العدو ليوذى )
( فاحذر عدوك وهو أهون هين ... إن البعوضة أردت النمروذا )
105 - ومنهم محمد بن أبي سعيد الفرج بن عبد الله البزار من أهل سرقسطة لقي بدانية الحصري وسمع منه بعض منظومه ورحل حاجا فأدى الفريضة ودخل العراق فسمع من جماعة وأجازوا له منهم ابن خيرون والحميدي وأبو زكريا التبريزي والمبارك بن عبد الجبار وثابت بن بندار وهبة الله بن الأكفاني وغيرهم ونزل الإسكندرية وحدث بها وأخذ الناس عنه وتوفي هنالك وأنشد للحصري

( الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن اللمس ومن لين )
( صلد تشكى الرجل منه الوجى ... وإثمد يجعل في الأعين )
وروى عنه ابن الحضرمي وابن جارة وغيرهما
106 - ومنهم أبو بكر محمد بن الحسين الشهير بالميورقي لأن أصله منها وسكن غرناطة وروى عن أبي علي الصدفي ورحل حاجا فسمع بمكة من أبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم النهاوندي في شوال وذي القعدة من سنة 517 وبالإسكندرية من أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن بن مشرف وأبي بكر الطرطوشي وغيرهم وعاد إلى الأندلس بعد مدة طويلة فحدث في غير ما بلد لتجوله وكان فقيها ظاهريا عارفا بالحديث وأسماء الرجال متقنا لما رواه يغلب عليه الزهد والصلاح روى عنه أبو عبد الله النميري الحافظ ويقول فيه الأزدي تدليسا لأن الأنصار من الأزد وأبو بكر بن رزق وأبو عبد الله بن عبد الرحيم وابنه عبد المنعم وسواهم وصار أخيرا إلى بجاية هاربا من صاحب المغرب حينئذ بعد أن حمل إليه هو وأبوه العباس بن العريف وأبو الحكم بن برجان وحدث هنالك وسمع منه في سنة 537 رحمه الله تعالى
107 - ومنهم أبو الحسن محمد بن عبد الرحمن بن الطفيل العبدي الإشبيلي ويعرف بابن عظيمة أخذ القراءات عن أبي عبد الله السرقسطي

وروى عن أبي عبد الله الخولاني وأبي عبد الله بن فرج وأبي علي الغساني وأبي داود المقرىء وأبي جعفر بن عبد الحق وأبي الوليد بن طريف ورحل حاجا فروى بمكة عن رزين بن معاوية ثم بالإسكندرية عن ابن الحضرمي أبي عبد الله محمد بن منصور وأبي الحسن بن مشرف الأنماطي وبالمهدية عن المازري وكانت رحلته مع أبي علي منصور بن الخير الأحدب للقاء أبي معشر الطبري فبلغهما نعيه بمصر فلما قفلا من حجهما قعد منصور يقول قرأت على أبي معشر واقتصر أبو الحسن في تصدره للإقراء على التحديث عمن لقي فعرف مكانه من الصدق والعدالة وولي الصلاة ببلده وتقدم في صناعته واشتهر بها وتلاه أهل بيته فيها فأخذ عنهم الناس وله أرجوزة في القراءات السبع وأخرى في مخارج الحروف وشرح قصيدة الشقراطسي وله أيضا كتاب الفريدة الحمصية في شرح القصيدة الحصرية وإليه وإلى بنيه بعده كانت الرياسة في هذا الشأن ومن جلة الرواة عنه أبو بكر بن خير قرأ عليه الشهاب للقضاعي وأجاز له جميع رواياته وتواليفه في رجب سنة 536 وتوفي في حدود الأربعين وخمسمائة وروى عنه أبو الضحاك الفزاري
108 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عيسى بن هشام بن جراح الخزرجي من أهل جيان ويعرف بالبغدادي لطول سكناه إياها روى عن أبي علي الغساني وأبي محمد بن عتاب ورحل حاجا فلقي أبا الحسن الطبري المعروف بالكيا وأبا طالب الزينبي وأبا بكر الشاشي

وغيرهم وكان فقيها مشاورا حدث عنه أبو عبد الله النميري وأبو محمد بن عبيد الله وأبو عبد الله بن حميد وأبو القاسم عبد الرحيم بن الملجوم وغير واحد وتوفي بفاس سنة 546
109 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن علي بن ياسر الأنصاري الجياني ونزل حلب يكنى أبا بكر رحل إلى المشرق وأدى الفريضة وقدم دمشق قبل العشرين وخمسمائة وسكن قنطرة سنان منها وكان يعلم القرآن ويتردد إلى أبي عبد الله نصر الله بن محمد يسمع الحديث منه ثم رحل صحبة أبي القاسم بن عساكر صاحب تاريخ الشام إلى بغداد سنة عشرين وكان زميله فسمع بها معه من هبة الله بن الحصين وغيره ثم خرج إلى خراسان فسمع بها من حمزة الحسيني وأبي عبد الله الفراوي وأبي القاسم الشحامي وغيرهم وسمع ببلخ جماعة منهم أبو محمد الحسن بن علي الحسيني وأبو النجم مصباح بن محمد المسكي وغيرهما وبلغ الموصل فأقام بها مدة يسمع منه ويؤخذ عنه ثم انتهى إلى حلب فاستوطنها وسلمت إليه خزانة الكتب النورية وأجريت عليه جراية وكان فيه عسر في الرواية والإعارة معا ووقف كتبه على أصحاب الحديث وله عوال مخرجة من حديثه ساوى بها بعض شيوخه البخاري ومسلما وأبا داود والترمذي والنسائي روى عنه أبو حفص الميانشي وأبو المنصور مظفر بن سوار اللخمي وأبو محمد عبد الله بن علي بن سويدة وابن أبي السنان وغيرهم
ذكره ابن عساكر في تاريخه وقال سمعت منه ومات بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة على ما بلغني

وقال ابن نقطة حدث عن جماعة منهم أبو القاسم سهل بن إبراهيم النيسابوري وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الهمداني حدثنا عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الحلبي وأخوه أبو العباس أحمد وحكي عن الحسن بن هبة الله بن صصرى أنه توفي بحلب في جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وخمسمائة كما تقدم وقد بلغ السبعين قاله ابن الأبار
110 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة مرسي سكن شاطبة ودار سلفه بلنسية سمع أبا علي الصدفي واختص به وأكثر عنه وإليه صارت دواوينه وأصوله العتاق وأمهات كتبه الصحاح لصهر كان بينهما وسمع أيضا أبا محمد بن أبي جعفر ولازم حضور مجلسه للتفقه به وحمل ما كان يرويه ورحل إلى غرب الأندلس فسمع أبا محمد بن عتاب وأبا بحر الأسدي وأبا الوليد بن رشد وأبا عبد الله الخولاني وأبا عبد الله بن الحاج وأبا بكر العربي وغيرهم وكتب إليه أبو عبد الله الخولاني وأبو الوليد بن طريف وأبو الحسن بن عفيف وأبو القاسم بن صواب وأبو محمد بن السيد وغيرهم ثم رحل إلى المشرق سنة عشرين وخمسمائة فلقي بالإسكندرية أبا الحجاج بن نادر الميورقي وصحبه وسمع منه وأخذ عنه الفقه وعلم الكلام وأدى فريضة الحج في سنة إحدى وعشرين ولقي بمكة أبا الحسن رزين بن معاوية العبدري إمام المالكية بها وأبا محمد بن صدقة المعروف بابن غزال من أصحاب كريمة المروزية فسمع منهما وأخذ عنهما وروى عن أبي الحسن علي بن سند بن عياش الغساني ما حمل عن أبي حامد الغزالي من تصانيفه ثم انصرف إلى ديار مصر فصحب ابن نادر إلى حين وفاته بالإسكندرية ولقي أبا طاهر بن عوف وأبا عبد الله بن مسلم القرشي وأبا طاهر السلفي وأبا

زكريا الزناتي وغيرهم فأخذ عنهم وكان قد كتب إليه منها أبو بكر الطرطوشي وأبو الحسن بن مشرف الأنماطي ولقي في صدره بالمهدية أبا عبد الله المازري فسمع منه بعض كتاب المعلم وأجاز له باقيه وعاد إلى مرسية في سنة ست وعشرين
وقد حصل في رحلته علوما جمة ورواية فسيحة وكان عارفا بالسنن والآثار مشاركا في علم القرآن وتفسيره حافظا للفروع بصيرا باللغة والغريب ذا حظ من علم الكلام مائلا إلى التصوف مؤثرا له أديبا بليغا خطيبا فصيحا ينشىء الخطب مع الهدي والسمت والوقار والحلم جميل الشارة محافظا على التلاوة بادي الخشوع راتبا على الصوم وولي خطة الشورى بمرسية مضافة إلى الخطبة بجامعها وأخذ في إسماع الحديث وتدريس الفقه ثم ولي القضاء بها بعد انقراض دولة الملثمين ونقل إلى قضاء شاطبة فاتخذها وطنا وكان يسمع الحديث بها وبمرسية وبلنسية ويقيم الخطب أيام الجمع في جوامع هذه الأمصار الثلاثة متعاقبا عليها وقد حدث بالمرية وهناك أبو الحسن بن موهب وأبو محمد الرشاطي وغيرهما وسمع منه أبو الحسن بن هذيل جامع الترمذي وألف كتابه شجرة الوهم المترقية إلى ذروة الفهم ولم يسبق إلى مثله وليس له غيره وجمع فهرسة حافلة
ووصفه غير واحد بالتفنن في العلوم والمعارف والرسوخ في الفقه وأصوله والمشاركة في علم الحديث والأدب
وقال ابن عياد في حقه إنه كان صليبا في الأحكام مقتفيا للعدل حسن الخلق والخلق جميل المعاملة لين الجانب فكه المجالسة ثبتا حسن الخط من أهل الإتقان والضبط وحكي أنه كانت عنده أصول حسان

بخط عمه مع الصحيحين بخط الصدفي في سفرين قال ولم يكن عند شيوخنا مثل كتبه في صحتها وإتقانها وجودتها ولا كان فيهم من رزق عند الخاصة والعامة من الحظوة والذكر وجلالة القدر ما رزقه
وذكره أبو سفيان أيضا وأبو عمر بن عات ورفعوا جميعا بذكره
وتوفي بشاطبة مصروفا عن قضائها آخر ذي الحجة سنة خمس وستين وخمسمائة ودفن أول يوم من سنة ست وستين وخمسمائة وفن بالروضة المنسوبة إلى أبي عمر بن عبد البر ومولده في رمضان سنة 496
111 - ومنهم محمد بن إبراهيم بن وضاح اللخمي من أهل غرناطة ونزل جزيرة شقر يكنى أبا القاسم وأخذ القراءة عن أبي الحسن بن هذيل وسمع منه كثيرا ورحل حاجا فأدى الفريضة وأخذ القراءات بمكة عن أبي علي بن العرجاء في سنة ست وأربعين وخمسمائة وسنة سبع بعدها وحج ثلاث حجات ودخل بغداد وأقام في رحلته نحوا من تسعة أعوام وقفل إلى الأندلس فنزل جزيرة شقر من أعمال بلنسية وأقرأ بها القرآن نحوا من أربعين سنة لم يأخذ من أحد أجرا ولا قبل هدية وولي الصلاة والخطبة بجامعها وكان رجلا صالحا زاهدا يشار إليه بإجابة الدعوة معروفا بالورع والانقباض وتوفي في صفر سنة 587
112 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن التجيبي نزيل تلمسان من أهل لقنت عمل مرسية وسكن أبوه أوريوله رحل إلى

المشرق فأدى الفريضة وأطال الإقامة هنالك واستوسع في الرواية وكتب العلم عن جماعة كثيرة أزيد من مائة وثلاثين من أعيانهم المشرقيين أبو طاهر السلفي صحبه واختص به وأكثر عنه وحكى أنه لما ودعه في قفوله إلى المغرب سأله عما كتب عنه فأخبره أنه كتب كثيرا من الأسفار ومئين من الأجزاء فسر بذلك وقال له تكون محدث المغرب إن شاء الله تعالى قد حصلت خيرا كثيرا قال ودعا لي بطول العمر حتى يؤخذ عني ما أخذت عنه وقد جمع في أسماء شيوخه على حروف المعجم تأليفا مفيدا أكثر فيه من الآثار والحكايات والأخبار وقفل من رحلته وله أربعون حديثا في المواعظ وأخرى في الفقر وفضله وثالثة في الحب في الله تعالى ورابعة في فضل الصلاة على النبي ومسلسلاته في جزء وكتاب فضائل الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان وكتاب فضل عشر ذي الحجة وكتاب مناقب السبطين وكتاب الفوائد الكبرى مجلد و الفوائد الصغرى جزء وكتاب الترغيب في الجهاد خمسون بابا في مجلد وكتاب المواعظ والرقائق أربعون مجلسا سفران وكتاب مشيخة السلفي وغير ذلك
ومولده بلقنت الصغرى في نحو الأربعين وخمسمائة وتوفي سنة عشر وستمائة رحمه الله تعالى
113 - ومنهم الشيخ الأكبر ذو المحاسن التي تبهر سيدي محيي الدين بن عربي محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الحاتمي من ولد

عبد الله بن حاتم أخي عدي بن حاتم الصوفي الفقيه المشهور الظاهري ولد بمرسية يوم الإثنين سابع عشر رمضان سنة 560 قرأ القرآن على أبي بكر بن خلف بإشبيلية بالسبع وبكتاب الكافي وحدثه به عن ابن المؤلف أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح الرعيني عن أبيه وقرأ أيضا السبع بالكتاب المذكور على أبي القاسم الشراط القرطبي وحدثه به عن ابن المؤلف وسمع على ابن أبي بكر محمد بن أبي جمرة كتاب التيسير للداني عن أبيه عن المؤلف وسمع على ابن زرقون وأبي محمد عبد الحق الإشبيلي الأزدي وغير واحد من أهل المشرق والمغرب يطول تعدادهم
وكان انتقاله من مرسية لإشبيلية سنة 568 فأقام بها إلى سنة 598 ثم ارتحل إلى المشرق وأجازه جماعة منهم الحافظ السلفي وابن عساكر وأبو الفرج بن الجوزي ودخل مصر وأقام بالحجاز مدة ودخل بغداد والموصل وبلاد الروم ومات بدمشق سنة 638 ليلة الجمعة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر ودفن بسفح قاسيون وأنشدني لنفسه مؤرخا وفاته الشيخ محمد بن سعد الكلشني سنة 1037 حفظه الله تعالى
( إنما الحاتمي في الكون فرد ... وهو غوث وسيد وإمام )
( كم علوم أتى بها من غيوب ... من بحار التوحيد يا مستهام )
( إن سألتم متى توفي حميدا ... قلت أرخت مات قطب همام )
وقال ابن الأبار هو من أهل المرية وقال ابن النجار أقام بإشبيلية

إلى سنة 598 ثم دخل بلاد المشرق وقال ابن الأبار إنه أخذ عن مشيخة بلده ومال إلى الآداب وكتب لبعض الولاة ثم رحل إلى المشرق حاجا ولم يعد بعدها إلى الأندلس وقال المنذري ذكر أنه سمع بقرطبة من أبي القاسم بن بشكوال وجماعة سواه وطاف البلاد وسكن بلاد الروم مدة وجمع مجاميع في الطريقة وقال ابن الأبار إنه لقيه جماعة من العلماء والمتعبدين وأخذوا عنه وقال غيره إنه قدم بغداد سنة 608 وكان يومأ إليه بالفضل والمعرفة والغالب عليه طرق أهل الحقيقة وله قدم في الرياضة والمجاهدة وكلام على لسان أهل التصوف ووصفه غير واحد بالتقدم والمكانة من أهل هذا الشأن بالشام والحجاز وله أصحاب وأتباع
ومن تآليفه مجموع ضمنه منامات رأى فيها النبي وما سمع منه ومنامات قد حدث بها عمن رآه قال ابن النجار وكان قد صحب الصوفية وأرباب القلوب وسلك طريق الفقر وحج وجاور وكتب في علم القوم وفي أخبار مشايخ المغرب وزهادها وله أشعار حسنة وكلام مليح اجتمعت به في دمشق في رحلتي إليها وكتبت عنه شيئا من شعره ونعم الشيخ هو ذكر لي أنه دخل بغداد سنة 601 فأقام بها اثني عشر يوما ثم دخلها ثانيا حاجا مع الركب سنة 608 وأنشدني لنفسه
( أيا حائرا ما بين علم وشهوة ... ليتصلا ما بين ضدين من وصل )
( ومن لم يكن يستنشق الريح لم يكن ... يرى الفضل للمسك الفتيق على الزبل )
وسألته عن مولده فقال ليلة الاثنين 17 رمضان سنة 560 بمرسية من بلاد الأندلس انتهى

وقال ابن مسدي إنه كان جميل الجملة والتفصيل محصلا لفنون العلم أخص تحصيل وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق والتقدم الذي لا يسبق سمع ببلاده من ابن زرقون والحافظ ابن الجد وأبي الوليد الحضرمي وبسبتة من أبي محمد بن عبد الله وقدم عليه إشبيلية أبو محمد عبد المنعم بن محمد الخزرجي فسمع منه وأبو جعفر بن مصلي وذكر أنه لقي عبد الحق الإشبيلي وفي ذلك عندي نظر انتهى
قلت لا نظر في ذلك فإن سيدي الشيخ محيي الدين ذكر في إجازته للملك المظفر غازي بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ما معناه أو نصه ومن شيوخنا الأندلسيين أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي رحمه الله تعالى حدثني بجميع مصنفاته في الحديث وعين لي من أسمائها تلقين المهتدي والأحكام الكبرى والوسطى والصغرى وكتاب التهجد وكتاب العاقبة ونظمه ونثره وحدثني بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم عن أبي الحسن شريح بن محمد بن شريح عنه انتهى
وقال إن الحافظ السلفي أجاز له انتهى قال بعض الحفاظ وأحسبها الإجازة العامة
وكان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات وكان دفنه يوم الجمعة بجبل قاسيون واتفق أنه لما أقام ببلاد الروم زكاه ذات يوم الملك فقال هذا تذل له الأسود أو كلاما هذا معناه فسئل عن ذلك فقال خدمت بمكة بعض الصلحاء فقال لي يوما الله يذل لك أعز خلقه وأمر له ملك الروم مرة بدار تساوي مائة ألف درهم فلما نزلها وأقام بها مر به في بعض الأيام سائل فقال له شيء لله فقال ما لي غير هذه الدار خذها لك فتسلمها السائل وصارت له

وقال الذهبي في حقه إن له توسعا في الكلام وذكاء وقوة خاطر وحافظة وتدقيقا في التصوف وتواليف جمة في العرفان لولا شطحه في كلامه وشعره ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته فيرجى له الخير انتهى
وقال القطب اليونيني في ذيل مرآة الزمان عن سيدي الشيخ محيي الدين - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - أنه كان يقول إني أعرف اسم الله الأعظم وأعرف الكيمياء انتهى
وقال ابن شودكين عنه إنه كان يقول ينبغي للعبد أن يستعمل همته في الحضور في مناماته بحيث يكون حاكما على خياله يصرفه بعقله نوما كما كان يحكم عليه يقظة فإذا حصل للعبد هذا الحضور وصار خلقا له وجد ثمرة ذلك في البرزخ وانتفع به جدا فليهتم العبد بتحصيل هذا القدر فإنه عظيم الفائدة بإذن الله تعالى
وقال إن الشيطان ليقنع من الإنسان بأن ينقله من طاعة إلى طاعة ليفسخ عزمه بذلك
وقال ينبغي للسالك أنه متى حضر له أنه يعقد على أمر ويعاهد الله تعالى عليه أن يترك ذلك الأمر إلى أن يجيء وقته فإن يسر الله تعالى فعله فعله وإن لم ييسر الله فعله يكون مخلصا من نكث العهد ولا يكون متصفا بنقض الميثاق

ومن نظم الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى - قوله
( بين التذلل والتدلل نقطة ... فيها يتيه العالم النحرير )
( هي نقطة الأكوان إن جاوزتها ... كنت الحكيم وعلمك الإكسير )
وقوله أيضا رحمه الله
( يا درة بيضاء لاهوتية ... قد ركبت صدفا من الناسوت )

( جهل البسيطة قدرها لشقائهم ... وتنافسوا في الدر والياقوت )
وحكى العماد بن النحاس الأطروش أنه كان في سفح جبل قاسيون على مستشرف وعنده الشيخ محيي الدين والغيث والسحاب عليهم ودمشق ليس عليها شيء قال فقلت للشيخ أما ترى هذه الحال فقال كنت بمراكش وعندي ابن خروف الشاعر يعني أبا الحسن علي بن محمد القرطبي القبذاقي وقد اتفق الحال مثل هذه فقلت له مثل هذه المقالة فأنشدني
( يطوف السحاب بمراكش ... طواف الحجيج ببيت الحرم )
( يروم نزولا فلا يستطيع ... لسفك الدماء وهتك الحرم )
وحكى المقريزي في ترجمة سيدي عمر بن الفارض - أفاض الله علينا من أنواره - أن الشيخ محيي الدين بن العربي بعث إلى سيدي عمر يستأذنه في شرح التائية فقال كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها انتهى
وقال بعض من عرف به إنه لما صنف الفتوحات المكية كان يكتب كل يوم ثلاث كراريس حيث كان وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة فما ادخر منها شيئا وقيل إن صاحب حمص رتب له كل يوم مائة درهم وابن الزكي كل يوم ثلاثين درهما فكان يتصدق بالجميع واشتغل الناس بمصنفاته ولها ببلاد اليمن والروم صيت عظيم وهو من عجائب الزمان وكان يقول أعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب
ومن نظمه

( حقيقتي همت بها ... وما رآها بصري )
( ولو رآها لغدا ... قتيل ذاك الحور )
( فعندما أبصرتها ... صرت بحكم النظر )
( فبت مسحورا بها ... أهيم حتى السحر )
( يا حذري من حذري ... لو كان يغني حذري )
( والله ما هيمني ... جمال ذاك الخفر )
( في حسنها من ظبية ... ترعى بذات الخمر ) إذا رنت أو عطفت ... تسبي عقول البشر )
( كأنما أنفاسها ... أعراف مسك عطر )
( كأنها شمس الضحى ... في النور أو كالقمر )
( إن أسفرت أبرزها ... نور صباح مسفر )
( أو سدلت غيبها ... سواد ذاك الشعر )
( يا قمرا تحت دجى ... خذي فؤادي وذري )
( عيني لكي أبصركم ... إذ كان حظي نظري )
وقال الخويي قال الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي رضي الله تعالى عنه رأيت بعض الفقهاء في النوم في رؤيا طويلة فسألني كيف حالك مع أهلك فقلت
( إذا رأت أهل بيتي الكيس ممتلئا ... تبسمت ودنت مني تمازحني )
( وإن رأته خليا من دراهمه ... تجهمت وانثنت عني تقابحني )
فقال لي صدقت كلنا ذلك الرجل
وذكر الإمام العالم بالله تعالى لسان الحقيقة وشيخ الطريقة صفي الدين

حسين بن الإمام العلامة جمال الدين أبي الحسن علي ابن الإمام مفتي الأنام كمال الدين أبي منصور ظافر الأزدي الأنصاري رضي الله تعالى عنه في رسالته الفريدة المحتوية على من رأى من سادات مشايخ عصره بعد كلام ما صورته ورأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي وكان من أكبر علماء الطريق جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وفر له من العلوم الوهبية ومنزلته شهيرة وتصانيفه كثيرة وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا لا يكترث بالوجود بالوجود مقبلا كان أو معرضا وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرار إخاء ورفقة في السياحات رضي الله تعالى عنهما في الآصال والبكرات ومن نظم سيدي الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله
( يا من يراني ولا أراه ... كم ذا أراه ولا يراني )
قال رحمه الله تعالى قال لي بعض إخواني لما سمع هذا البيت كيف تقول إنه لا يراك وأنت تعلم أنه يراك فقلت له مرتجلا 7
( يا من يراني مجرما ... ولا أراه آخذا )
( كم ذا أراه منعما ... ولا يراني لائذا )
قلت من هذا وشبهه تعلم أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى مؤول وأنه لا يقصد ظاهره وإنما له محامل تليق به وكفاك شاهدا هذه الجزئية الواحدة فأحسن الظن به ولا تنتقد بل اعتقد وللناس في هذا المعنى كلام كثير والتسليم أسلم والله سبحانه بكلام أوليائه أعلم
ومن النظم المنسوب لمحاسن الشيخ سيدي محيي الدين رضي الله تعالى عنه في ضابط ليلة القدر

( وإنا جميعا إن نصم يوم جمعة ... ففي تاسع العشرين خذ ليلة القدر )
( وإن كان يوم السبت أول صومنا ... فحادي وعشرين اعتمده بلا عسر )
( وإن كان صوم الشهر في أحد فخذ ... ففي سابع العشرين ما شئت فاستقري )
( وإن هل بالاثنين فاعلم بأنه ... يواتيك نيل الوجد في تاسع العشر )
( ويوم الثلاثا إن بدا الشهر فاعتمد ... على خامس العشرين فاعمل بها تدري )
( وفي الأربعا إن هل يا من يرومها ... فدونك فاطلب وصلها سابع العشر )
( ويوم خميس إن بدا الشهر فاجتهد ... ففي ثالث العشرين تظفر بالنصر )
( وضابطها بالقول ليلة جمعة ... توافيك بعد النصف في ليلة الوتر )
قلت لست على يقين من نسبة هذا النظم إلى الشيخ رحمه الله تعالى فإن نفسه أعلى من هذا النظم ولكني ذكرته لما فيه من الفائدة ولأن بعض الناس نسبه إليه فالله تعالى أعلم بحقيقة ذلك ومما نسبه إليه رحمه الله تعالى غير واحد قوله
( قلبي قطبي وقالبي أجفاني ... سري خضري وعينه عرفاني )
( روحي هرون وكليمي موسى ... نفسي فرعون والهوى هاماني )
وذكر بعض الثقات أن هذين البيتين يكتبان لمن به القولنج في كفه ويلحسهما فإنه يبرأ بإذن الله تعالى قال وهو من المجربات
وقد تأول بعض العلماء قول الشيخ رحمه الله تعالى بإيمان فرعون أن مراده بفرعون النفس بدليل ما سبق وحكى في ذلك حكاية عن بعض الأولياء ممن كان ينتصر للشيخ رحمه الله تعالى

وولد للشيخ محيي الدين - رحمه الله تعالى - ابنه محمد المدعو سعد الدين بملطية في رمضان سنة 618 وسمع الحديث ودرس وقال الشعر الجيد
وله ديوان شعر مشهور وتوفي بدمشق سنة 656 سنة دخل هولاكو بغداد وقتل الخليفة المستعصم ودفن المذكور عند والده بسفح قاسيون وكان قدم القاهرة وسكن حلبا ومن شعره
( لما تبدى عارضاه في نمط ... قيل ظلام بضياء اختلط )
( وقيل سطر الحسن في خديه خط ... وقيل نمل فوق عاج انبسط )
( وقيل مسك فوق ورد قد نقط ... وقال قوم إنها اللام فقط حكاية عن ابن جزى )
قلت تذكرت بهذا ما قاله الكاتب أبو عبد الله بن جزي الأندلسي كاتب سلطان المغرب أبي عنان حين تنازع الكتاب أرباب الأقلام والرؤساء أصحاب السيوف في تشبيه العذار وقالت كل فرقة لا نشبهه إلا بما هو مناسب لصنعتنا فلما فرغوا قال ابن جزي
( أتى أولو الكتب والسيف الأولى عزموا ... من بعد سلمي على حربي وإسلامي )

( بكل معنى بديع في العذار على ... ما تقتضي منهم أفكار أحلامي )
( فقال ذو الكتب لا أرضى المحارب في ... تشبيهه لا وأنقاسي وأقلامي )
( وقال ذو الحرب لا أرضى الكتائب في ... تشبيهه ومظلاتي وأعلامي )
( فقلت أجمع بين المذهبين معا ... باللام فاستحسنوا التشبيه باللام )
وهذه الغاية التي لا تدرك مع البديهة ولزوم ما لا يلزم
رجع - ومن نظم سعد الدين قوله
( سهري من المحبوب أصبح مرسلا ... وأراه متصلا بفيض مدامع )
( قال الحبيب بأن ريقي نافع ... فاسمع رواية مالك عن نافع )
ومن نظمه أيضا قوله
( وقالوا قصير شعر من قد هويته ... فقلت دعوني لا أرى منه مخلصا )
( محياه شمس قد علت غصن قده ... فلا عجب للظل أن يتقلصا )
وقوله
( ورب قاض لنا مليح ... يعرب عن منطق لذيذ )
( إذا رمانا بسهم لحظ ... قلنا له دائم النفوذ )
وقوله
( لك والله منظر ... قل فيه المشارك )
( إن يوما تكون فيه ... ليوم مبارك )

ومن نظمه أيضا ما كتب به إلى أخيه عماد الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي أفاض الله تعالى علينا من فتوحاته قوله
( ما للنوى رقة ترثي لمكتئب ... حران في قلبه والدمع في حلب )
( قد أصبحت حلب ذات العماد بكم ... وجلق إرم هذا من العجب )
وتوفي الشيخ عماد الدين بالصالحية سنة 667 ودفن بسفح قاسيون عند والده بتربة القاضي ابن الزكي رحم الله تعالى الجميع
وابن الزكي أيضا محيي الدين
ومن نظم سعد الدين المذكور في وسيم رآه بالزيادة في دمشق
( يا خليلي في الزيادة ظبي ... سلبت مقلتاه جفني رقاده )
( كيف أرجو السلو عنه وطرفي ... ناظر حسن وجهه في الزياده )
وله
( علقت صوفيا كبدر الدجى ... لكنه في وصلي الزاهد )
( يشهد وجدي بغرامي له ... فديت صوفيا له شاهد )
وله أيضا
( صبوت إلى حريري مليح ... تكرر نحو منزله مسيري )
( أقول له ألا ترثي لصب ... عديم للمساعد والنصير )
( أقام ببابكم خمسين شهرا ... فقال كذا مقامات الحريري )
وله
( وغزال من اليهود أتاني ... زائرا من كنيسه أو كناسه )

( بت أجني الشقيق من وجنتيه ... وأشم العبير من أنفاسه )
( واعتنقنا إذ لم نخف من رقيب ... وأمنا الوشاة من حراسه )
( من رآني يظنني لنحولي ... واصفراري علامة فوق راسه )
وله
( لي حبيب بالنحو أصبح مغرى ... فهو مني بما أعانيه أدرى )
( قلت ماذا تقول حين تنادي ... يا حبيبي المضاف نحوك جهرا )
( قال لي يا غلام أو يا غلامي ... قلت لبيك ثم لبيك عشرا )
وله أيضا
( ساءلتني عن لفظة لغوية ... فأجبت مبتدئا بغير تفكر )
( خاطبتني متبسما فرأيتها ... من نظم ثغرك في صحاح الجوهري )
وله
( وعلمت أن من الحديد فؤاده ... لما انتضى من مقلتيه مهندا )
( آنست من وجدي بجانب خده ... نارا ولكن ما وجدت بها هدى )

رجع إلى الشيخ محيي الدين
وقال الشيخ محيي الدين - أفاض الله تعالى علينا من أنواره وكسانا بعض حلل أسراره - إنه بلغني في مكة عن امرأة من أهل بغداد أنها تكلمت في بأمور عظيمة فقلت هذه قد جعلها الله تعالى سببا لخير وصل إلي فلأكافئنها وعقدت في نفسي أن أجعل جميع ما اعتمرت في رجب لها ففعلت ذلك فلما كان الموسم استدل علي رجل غريب فسأله الجماعة عن قصده فقال رأيت بالينبع في الليلة التي بت فيها كأن آلافا من الإبل أوقارها المسك والعنبر والجوهر

فعجبت من كثرته ثم سألت لمن هو فقيل هو لمحمد بن عربي يهديه إلى فلانة وسمى تلك المرأة ثم قال وهذا بعض ما تستحق قال سيدي ابن عربي فلما سمعت الرؤيا واسم المرأة ولم يكن أحد من خلق الله تعالى علم مني ذلك علمت أنه تعريف من جانب الحق وفهمت من قوله إن هذا بعض ما تستحق أنها مكذوب عليها فقصدت المرأة وقلت اصدقيني وذكرت لها ما كان من ذلك فقالت كنت قاعدة قبالة البيت وأنت تطوف فشكرك الجماعة الذين كنت فيهم فقلت في نفسي اللهم إني أشهدك أني قد وهبت له ثواب ما أعمله في يوم الاثنين وفي يوم الخميس وكنت أصومهما وأتصدق فيهما قال فعلمت أن الذي وصل مني إليها بعض ما تستحق فإنها سبقت بالجميل والفضل للمتقدم
ومن نظم الشيخ محيي الدين بن عربي رحمه الله تعالى
( يا غاية السؤل والمأمول يا سندي ... شوقي إليك شديد لا إلى أحد )
( ذبت اشتياقا ووجدا في محبتكم ... فآه من طول شوقي آه من كمدي )
( يدي وضعت على قلبي مخافة أن ... ينشق صدري لما خانني جلدي )
( ما زال يرفعها طورا ويخفضها ... حتى وضعت يدي الأخرى تشد يدي )
وحكى سبط ابن الجوزي عن الشيخ محيي الدين أنه كان يقول إنه يحفظ الاسم الأعظم ويقول إنه يعرف السيميا بطريق التنزل لا بطريق التكسب انتهى والله تعالى أعلم والتسليم أسلم
ومن نظم الشيخ محيي الدين قوله
( ما فاز بالتوبة إلا الذي ... قد تاب قدما والورى نوم )
( فمن يتب أدرك مطلوبه ... من توبة الناس ولا يعلم )
وله رحمه الله تعالى من المحاسن ما لا يستوفى

وأنشدني لنفسه بدمشق صاحبنا الصوفي الشيخ محمد بن سعد الكلشني - حفظه الله تعالى - قوله شيخنا الحاتمي . . . ( الأبيات ) وأنشدني لنفسه :
( أمولاي محيي الدين أنت الذي بدت ... علومك في الآفاق كالغيث مذ همى )
( كشفت معاني كل علم مكتم ... وأوضحت بالتحقيق ما كان مبهما )
وبالجملة فهو حجة الله الظاهرة وآيته الباهرة ولا يلتفت إلى كلام من تكلم فيه ولله در السيوطي الحافظ فإنه ألف تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي ومقام هذا الشيخ معلوم والتعريف به يستدعي طولا وهو أظهر من نار على علم
وكان بالمغرب يعرف بابن العربي بالألف واللام واصطلح أهل المشرق على ذكره بغير ألف ولام فرقا بينه وبين القاضي أبي بكر بن العربي
وقال ابن خاتمة في كتابه مزية المرية ما نصه محمد بن علي بن محمد الطائي الصوفي من أهل إشبيلية وأصله من مرسية يكنى أبا بكر ويعرف بابن العربي وبالحاتمي أيضا أخذ عن مشيخة بلده ومال إلى الآداب وكتب لبعض الولاة بالأندلس ثم رحل إلى المشرق حاجا فأدى الفريضة ولم يعد بعدها إلى الأندلس وسمع الحديث من أبي القاسم الحرستاني ومن غيره وسمع صحيح مسلم من الشيخ أبي الحسن بن أبي نصر في شوال سنة 606 وكان يحدث بالإجازة العامة عن أبي طاهر السلفي ويقول بها وبرع في علم التصوف وله في ذلك تواليف كثيرة منها الجمع والتفصيل في حقائق التنزيل و الجذوة المقتبسة والخطرة المختلسة وكتاب كشف المعنى في تفسير الأسماء الحسنى وكتاب المعارف الإلهية وكتاب الإسر

إلى المقام الأسرى وكتاب مواقع النجوم ومطالع أهلة أسرار العلوم وكتاب عنقاء مغرب في صفة ختم الأولياء وشمس المغرب وكتاب في فضائل مشيخة عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي والرسالة الملقبة بمشاهد الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية في كتب أخر عديدة وقدم على المرية من مرسية مستهل شهر رمضان سنة خمس وتسعين وخمسمائة وبها ألف كتابه الموسوم بمواقع النجوم انتهى
ولا خفاء أن مقام الشيخ عظم بعد انتقاله من المغرب وقد ذكر رحمه الله تعالى في بعض كتبه أن مولده بمرسية
وفي الكتاب المسمى بالاغتباط بمعالجة ابن الخياط تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الشيرازي الفيروزابادي الصديقي صاحب القاموس قدس الله تعالى روحه الذي ألفه بسبب سؤال سئل فيه عن الشيخ سيدي محيي الدين بن عربي الطائي قدس الله تعالى سره العزيز في كتبه المنسوبة إليه ما صورته
ما تقول السادة العلماء شد الله تعالى بهم أزر الدين ولم بهم شعث المسلمين في الشيخ محيي الدين بن عربي في كتبه المنسوبة إليه كالفتوحات والفصوص هل تحل قراءتها وإقراؤها ومطالعتها وهل هي الكتب المسموعة المقروءة أم لا أفتونا مأجورين جوابا شافيا لتحوزوا جميل الثواب من الله الكريم الوهاب والحمد لله وحده
فأجابه بما صورته الحمد لله اللهم أنطقنا بما فيه رضاك الذي أعتقده في حال المسؤول عنه وأدين الله تعالى به أنه كان شيخ الطريقة حالا وعلما وإمام الحقيقة حقيقة ورسما ومحيي رسوم المعارف فعلا واسما
( إذا تغلغل فكر المرء في طرف ... من بحره غرقت فيه خواطره )
وهو عباب لا تكدره الدلاء وسحاب لا تتقاصر عنه الأنواء وكانت

دعواته تخترق السبع الطباق وتفترق بركاته فتملأ الآفاق وإني أصفه وهو يقينا فوق ما وصفته وناطق بما كتبته وغالب ظني أني ما أنصفته
( وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن العدل عدوانا )
( والله والله والله العظيم ومن ... أقامه حجة للدين برهانا )
( بأن ما قلت بعض من مناقبه ... ما زدت إلا لعلي زدت نقصانا )
وأما كتبه ومصنفاته فالبحار الزواخر التي لجواهرها وكثرتها لا يعرف لها أول ولا آخر ما وضع الواضعون مثلها وإنما خص الله سبحانه بمعرفة قدرها أهلها ومن خواص كتبه أن من واظب على مطالعتها والنظر فيها وتأمل ما في مبانيها انشرح صدره لحل المشكلات وفك المعضلات وهذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصه الله تعالى بالعلوم اللدنية الربانية ووقفت على إجازة كتبها للملك المعظم فقال في آخرها وأجزته أيضا أن يروي عني مصنفاتي ومن جملتها كذا وكذا حتى عد نيفا وأربعمائة مصنف منها التفسير الكبير الذي بلغ فيه إلى تفسير سورة الكهف عند قوله تعالى ( وعلمناه من لدنا علما ) [ الكهف 65 ] وتوفي ولم يكمل وهذا التفسير كتاب عظيم كل سفر بحر لا ساحل له ولا غرو فإنه صاحب الولاية العظمى والصديقية الكبرى فيما نعتقد وندين الله تعالى به وثم طائفة في الغي حائفة يعظمون عليه النكير وربما بلغ بهم الجهل إلى حد التفكير وما ذاك إلا لقصور أفهامهم عن إدراك مقاصد أقواله وأفعاله ومعانيها ولم تصل أيديهم لقصرها إلى اقتطاف مجانيها
( علي نحت القوافي من معادنها ... وما علي إذا لم تفهم البقر )
هذا الذي نعلم ونعتقد وندين الله تعالى به في حقه والله سبحانه وتعالى أعلم وصورة استشهاده كتب محمد الصديقي الملتجىء إلى حرم الله تعالى

عفا الله عنه
وأما احتجاجه بقول شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام شيخ مشايخ الشافعية فغير صحيح بل كذب وزور فقد روينا عن شيخ الإسلام صلاح الدين العلائي عن جماعة من المشايخ كلهم عن خادم الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه قال كنا في مجلس الدرس بين يدي الشيخ عز الدين بن عبد السلام فجاء في باب الردة ذكر لفظة الزنديق فقال بعضهم هل هي عربية أو عجمية فقال بعض الفضلاء إنما هي فارسية معربة أصلها زن دين أي على دين المرأة وهو الذي يضمر الكفر ويظهر الإيمان فقال بعضهم مثل من فقال آخر إلى جانب الشيخ مثل ابن عربي بدمشق فلم ينطق الشيخ ولم يرد عليه قال الخادم وكنت صائما ذلك اليوم فاتفق أن الشيخ دعاني للإفطار معه فحضرت ووجدت منه إقبالا ولطفا فقلت له يا سيدي هل تعرف القطب الغوث الفرد في زماننا فقال مالك ولهذا كل فعرفت أنه يعرفه فتركت الأكل وقلت له لوجه الله تعالى عرفني به من هو فتبسم رحمه الله تعالى وقال لي الشيخ محيي الدين بن عربي فأطرقت ساكتا متحيرا فقال مالك فقلت يا سيدي قد حرت قال لم قلت أليس اليوم قال ذلك الرجل إلى جانبك ما قال في ابن عربي وأنت ساكت فقال اسكت ذلك مجلس الفقهاء هذا الذي روي لنا بالسند الصحيح عن شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام
وأما قول غيره من أضراب الشيخ عز الدين فكثير كان الشيخ كمال الدين الزملكاني من أجل مشايخ الشام أيضا يقول ما أجهل هؤلاء ! ينكرون على الشيخ محيي الدين بن عربي لأجل لأجل كلمات وألفاظ وقعت في كتبه قد قصرت أفهامهم عن درك معانيها فليأتوني لأحل لهم مشكله وأبين لهم مقاصده بحيث يظهر لهم الحق ويزول عنهم الوهم
وهذا القطب سعد الدين الحموي سئل عن الشيخ محيي الدين بن عربي لما

رجع من الشام إلى بلاده كيف وجدت ابن عربي فقال وجدته بحرا زخارا لا ساحل له
وهذا الشيخ صلاح الدين الصفدي له كتاب جليل وضعه في تاريخ علماء العالم في مجلدات كثيرة وهي موجودة في خزانة السلطان تنظر في باب الميم ترجمة محمد بن عربي لتعرف مذاهب أهل العلم الذين باب صدورهم مفتوح لقبول العلوم اللدنية والمواهب الربانية
وقوله في شيء من الكتب المصنفة كالفصوص وغيره إنه صنفه بأمر من الحضرة الشريفة النبوية وأمره بإخراجه إلى الناس قال الشيخ محيي الدين الذهبي حافظ الشام ما أظن المحيي يتعمد الكذب أصلا وهو من أعظم المنكرين وأشدهم على طائفة الصوفية
ثم إن الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى كان مسكنه ومظهره بدمشق وأخرج هذه العلوم إليهم ولم ينكر عليه أحد شيئا من ذلك وكان قاضي القضاة الشافعية في عصره شمس الدين أحمد الخويي يخدمه خدمة العبيد وقاضي القضاة المالكية زوجه بابنته وترك القضاء بنظرة وقعت عليه من الشيخ
وأما كراماته ومناقبه فلا تحصرها مجلدات وقول المنكرين في حق مثله غثاء وهباء لا يعبأ به والحمد لله تعالى انتهى ما نقلته من كلام العارف بالله تعالى سيدي عبد الوهاب الشعراني رضي الله تعالى عنه
وقد حكى الشيخ رضي الله تعالى عنه عن نفسه في كتبه ما يبهر الألباب وكفى بذلك دليلا على ما منحه الله الذي يفتح لمن شاء الباب وقد اعتنى بتربته بصالحية دمشق سلاطين بني عثمان نصرهم الله تعالى على توالي الأزمان ! وبنى عليه السلطان المرحوم سليم خان المدرسة العظيمة ورتب له الأوقاف وقد زرت قبره وتبركت به مرارا ورأيت لوائح الأنوار عليه

ظاهرة ولا يجد منصف محيدا إلى إنكار ما يشاهد عند قبره من الأحوال الباهرة وكانت زيارتي له بشعبان ورمضان وأول شوال سنة 1037
وقال في عنوان الدراية إن الشيخ محيي الدين كان يعرف بالأندلس بابن سراقة وهو فصيح اللسان بارع فهم الجنان قوي على الإيراد كلما طلب الزيادة يزاد رحل إلى العدوة ودخل بجاية في رمضان سنة 597 وبها لقي أبا عبد الله العربي وجماعة من الأفاضل ولما دخل بجاية في التاريخ المذكور قال رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما بقي منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية ثم لما كملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها ثم عرضت رؤياي هذه على من قصها على رجل عارف بالرؤيا بصير بها وقلت للذي عرضتها عليه لا تذكرني فلما ذكر الرؤيا استعظمها وقال هذا هو البحر الذي لا يدرك قعره صاحب هذه الرؤيا يفتح الله تعالى له من العلوم العلوية وعلوم الأسرار وخواص الكواكب ما لا يكون فيه أحد من أهل زمانه ثم سكت ساعة وقال إن كان صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة فهو ذاك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها
ثم قال صاحب العنوان ما ملخصه إن الشيخ محيي الدين رحل إلى المشرق واستقرت به الدار وألف تواليفه وفيها ما فيها إن قيض الله تعالى من يسامح ويتأول سهل المرام وإن كان ممن ينظر بالظاهر فالأمر صعب وقد نقد عليه أهل الديار المصرية وسعوا في إراقة دمه فخلصه الله تعالى على يد الشيخ أبي الحسن البجائي فإنه سعى في خلاصه وتأول كلامه ولما وصل إليه بعد خلاصه قال له الشيخ رحمه الله تعالى كيف يحبس من حل منه اللاهوت في الناسوت فقال له يا سيدي تلك شطحات في محل سكر ولا عتب على سكران
وتوفي الشيخ محيي الدين في نحو الأربعين وستمائة وكان يحدث بالإجازة العامة عن السلفي رحمه الله تعالى انتهى

ومن موشحات الشيخ محيي الدين رضي الله تعالى عنه قوله
( سرائر الأعيان ... لاحت على الأكوان ... للناظرين )
( والعاشق الغيران ... من ذاك في بحران ... يبدي الأنين ) دور
( يقول والوجد ... أضنا ه والبعد ... قد حيره )
( لما دنا البعد ... لم أدر من بعد ... من غيره )
( وهيم العبد ... والواحد الفرد ... قد خيره )
( في البوح والكتمان ... والسر والإعلان ... في العالمين )
( أنا هو الديان ... يا عابد الأوثان ... أنت الضنين )
( كل الهوى صعب ... على الذي يشكو ذل الحجاب )
( يا من له قلب ... لو أنه يذكو ... عند الشباب )
( قربه الرب ... لكنه إفك ... فانو المتاب )
( وناد يا رحمن ... يا بر يا منان ... إني حزين )
( أضناني الهجران ... ولا حبيب دان ... ولا معين )
( فنيت بالله ... عما تراه العين ... من كونه )
( في موقف الجاه ... وصحت أين الأين ... في بينه )
( فقال يا ساهي ... عاينت قط عين ... بعينه )
( أما ترى غيلان ... وقيس أو من كان ... في الغابرين )
( قالوا الهوى سلطان ... إن حل بالإنسان ... أفناه دين )

( كم مرة قالا ... أنا الذي أهوى ... من هو أنا )
( فلا أرى حالا ... ولا أرى شكوى ... إلا الفنا )
( لست كمن مالا ... عن الذي يهوى ... بعد الجنى )
( ودان بالسلوان ... هذا هو البهتان ... للعارفين )
( سلوهم ما كان ... عن حضرة الرحمن ... والآفكين )
( دخلت في بستان الأنس ... والقرب ... كمكنسه )
( فقام لي الريحان ... يختال بالعجب ... في سندسه )
( أنا هو يا إنسان ... مطيب الصب ... في مجلسه )
( جنان يا جنان ... اجن من البستان ... الياسمين ) و
( حلل الريحان ... بحرمة الرحمن ... للعاشقين )
وقال الإمام الصفي بن ظافر الأزدي في رسالته رأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف الوحيد محيي الدين بن عربي وكان من أكبر علماء الطريق جمع بين سائر العلوم الكسبية وما وفر له من العلوم الوهبية ومنزلته شهيرة وتصانيفه كثيرة وكان غلب عليه التوحيد علما وخلقا وحالا لا يكترث بالوجود مقبلا كان أو معرضا وله علماء أتباع أرباب مواجيد وتصانيف وكان بينه وبين سيدي الأستاذ الحرار إخاء ورفقة في السياحات رضي الله تعالى عنهما انتهى
وذكر الإمام سيدي عبد الله بن سعد اليافعي اليمني في الإرشاد أنه اجتمع مع الشهاب السهروردي فأطرق كل واحد منهما ساعة ثم افترقا من غير كلام فقيل للشيخ ابن عربي ما تقول في السهروردي فقال مملوء سنة من قرنه إلى قدمه وقيل للسهروردي ما تقول في الشيخ محيي

الدين فقال بحر الحقائق 9
ثم قال اليافعي ما ملخصه إن بعض العارفين كان يقرأ عليه كلام الشيخ ويشرحه فلما حضرته الوفاة نهى عن مطالعته وقال إنكم لا تفهمون معاني كلامه ثم قال اليافعي وسمعت أن العز بن عبد السلام كان يطعن عليه ويقول هو زنديق فقال له بعض أصحابه أريد أن تريني القطب أو قال وليا فأشار إلى ابن عربي فقال له فأنت تطعن فيه فقال أصون ظاهر الشرع أو كما قال
وأخبرني بهذه الحكاية غير واحد من ثقات مصر والشام ثم قال وقد مدحه وعظمه طائفة كالنجم الأصبهاني والتاج بن عطاء الله وغيرهما وتوقف فيه طائفة طعن فيه آخرون وليس الطاعن فيه بأعلم من الخضر عليه السلام إذ هو أحد شيوخه وله معه اجتماع كثير
ثم قال وما ينسب إلى المشايخ له محامل الأول أنه لم تصح نسبته إليهم الثاني بعد الصحة يلتمس له تأويل موافق فإن لم يوجد له تأويل في الظاهر فله تأويل في الباطن لم نعلمه وإنما يعلمه العارفون الثالث أن يكون ذلك صدر منهم في حال السكر والغيبة والسكران سكرا مباحا غير مؤاخذ ولا مكلف انتهى ملخصا
وممن ذكر الشيخ محيي الدين الإمام شمس الدين محمد بن مسدي في معجمه البديع المحتوي على ثلاث مجلدات وترجمه ترجمة عظيمة مطولة أذكر منها أنه قال إنه كان ظاهري المذهب في العبادات باطني النظر في الاعتقادات خاض بحر تلك العبارات وتحقق بمحيا تلك الإشارات وتصانيفه تشهد له عند أولي البصر بالتقدم والإقدام ومواقف النهايات في مزالق الأقدام ولهذا ما ارتبت في أمره والله تعالى أعلم بسره انتهى
ونقلت من خط ابن علوان التونسي رحمه الله تعالى قال الشيخ محيي الدين

( بالمال ينقاد كل صعب ... من عالم الأرض والسماء )
( يحسبه عالم حجابا ... لم يعرفوا لذة العطاء )
( ولولا الذي في النفوس منه ... لم يجب الله في الدعاء )
( لا تحسب المال ما تراه ... من عسجد مشرق لراء )
( بل هو ما كنت يا بني ... به غنيا عن السواء )
( فكن برب العلا غنيا ... وعامل الخلق بالوفاء )
وقال
( نبه على السر ولا تفشه ... فالبوح بالسر له مقت )
( على الذي يبديه فاصبر له ... واكتمه حتى يصل الوقت )
وقال
( قد ثاب غلماننا علينا ... فما لنا في الوجود قدر )
( أذنابنا صيرت رؤوسا ... مالي على ما أراه صبر )
( هذا هو الدهر يا خليلي ... فمن يقاسيه فهو قهر )
ونظم الشيخ محيي الدين هو البحر الذي لا ساحل له
ولنختم ما أوردنا منه بقوله
( يا حبذا المسجد من مسجد ... وحبذا الروضة من مشهد )
( وحبذا طيبة من بلدة ... فيها ضريح المصطفى أحمد )
( صلى عليه الله من سيد ... لولاه لم نفلح ولم نهتد )
( قد قرن الله به ذكره ... في كل يوم فاعتبر ترشد )
( عشر خفيات وعشر إذا ... أعلن بالتأذين في المسجد )
( فهذه عشرون مقرونة ... بأفضل الذكر إلى الموعد )

114 - ومنهم الصوفي الشهير أبو الحسن علي الششتري وهو علي بن عبد الله النميري عروس الفقهاء وإمير المتجردين وبركة لابسي الخرقة وهو من قرية ششتر من عمل وادي آش وزقاق الششتري معلوم بها وكان مجودا للقرآن قائما عليه عارفا بمعانيه من أهل العلم والعمل جال الآفاق ولقي المشايخ وحج حجات وآثر التجرد والعبادات وذكره القاضي أبو العباس الغبريني في عنوان الدراية فقال الفقيه الصوفي من الطلبة المحصلين والفقراء المنقطعين له علم بالحكمة ومعرفة بطريق الصوفية وتقدم في النظم والنثر على طريقة التحقيق وأشعاره وموشحاته وأزجاله الغاية في الانطباع
أخذ عن القاضي محيي الدين محمد بن إبراهيم بن الحسن بن سراقة الأنصاري الشاطبي وغيره من أصحاب السهروردي صاحب عوارف المعارف واجتمع بالنجم بن إسرائيل الدمشقي سنة 650 وخدم أبا محمد بن سبعين وتلمذ له وكان ابن سبعين دونه في السن لكن اشتهر باتباعه وعول على ما لديه حتى صار يعبر عن نفسه في منظوماته وغيرها بعبد ابن سبعين وقال له لما لقيه - يريد المشايخ - إن كنت تريد الجنة فسر إلى أبي مدين وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلي ولما مات أبو محمد انفرد بعده بالرئاسة والإمامة على الفقراء المتجردين فكان يتبعه في أسفاره ما ينيف على أربعمائة فقير فينقسمهم الترتيب في وظائف خدمته صنف كتبا منها كتاب العروة الوثقى في بيان السنن وإحصاء العلوم وما يجب على المسلم أن يعمله ويعتقده إلى وفاته وله كتاب المقاليد الوجودية في أسرار الصوفية و الرسالة القدسية في توحيد العامة والخاصة و المراتب

الإيمانية والإسلامية والإحسانية و الرسالة العلمية وغير ذلك وله ديوان شعر مشهور ومن نظمه قوله رحمه الله تعالى
( لقد تهت عجبا بالتجرد والفقر ... فلم أندرج تحت الزمان ولا الدهر )
( وجاءت لقلبي نفحة قدسية ... فغبت بها عن عالم الخلق والأمر )
( طويت بساط الكون والطي نشره ... وما القصد إلا الترك للطي والنشر )
( وغمضت عين القلب غير مطلق ... فألفيتني ذاك الملقب بالغير )
( وصلت لمن لم تنفصل عنه لحظة ... ونزهت من أعني عن الوصل والهجر )
( وما الوصف إلا دونه غير أنني ... أريد به التشبيب عن بعض ما أدري )
( وذلك مثل الصوت أيقظ نائما ... فأبصر أمرا جل عن ضابط الحصر )
( فقلت له الأسماء تبغي بيانه ... فكانت له الألفاظ سترا على ستر )
وقال
( من لامني لو أنه قد أبصرا ... ما ذقته أضحى به متحيرا )
( وغدا يقول لصحبه إن أنتم ... أنكرتم ما بي أتيتم منكرا )
( شذت أمور القوم عن عاداتهم ... فلأجل ذاك يقال سحر مفترى )
وقال وهي من أشهر ما قال
( أرى طالبا منا الزيادة لا الحسنى ... بفكر رمى سهما فعدى به عدنا )
( وطالبنا مطلوبنا من وجودنا ... نغيب به عنا لدى الصعق إن عنا )
وهي طويلة مشهورة بالشرق والغرب وقد شرحها شيخ شيوخ شيوخنا

العارف بالله تعالى سيدي أحمد زروق نفعنا الله تعالى ببركاته وأشار ابن الخطيب في الإحاطة إلى أنها لا تخلو عن شذوذ من جهة اللسان وضعف في العربية قال ومع ذلك فهي غريبة المنزع أشار فيها إلى مراتب الأعلام من أهل هذه الطريقة وكأنها مبنية على كلام شيخه الذي خاطبه به عند لقائه حسبما قدمناه إذ الحسنى الجنة والزيادة مقام النظر وقوله فيها
( وأظهر منها الغافقي لنا جنى ... وكشف عن أطواره الغيم والدجنا ) هو شيخه أبو محمد بن سبعين لأنه مرسي الأصل غافقيه
ولما وصل الششتري من الشام إلى ساحل دمياط وهو مريض مرض موته نزل قرية بساحل البحر الرومي فقال ما اسم هذه القرية فقيل الطينة فقال حنت الطينة إلى الطينة وأوصى أن يدفن بمقبرة دمياط إذ الطينة بمفازة وأقرب المدن إليها دمياط فحمله الفقراء على أعناقهم إلى دمياط
وكانت وفاته يوم الثلاثاء سابع عشر صفر سنة 668 فدفن بدمياط رحمه الله تعالى ورضي عنه
115 - ومنهم سيدي أبو الحسن علي بن أحمد الحرالي الأندلسي وحرالة قرية من أعمال مرسية غير أنه ولد بمراكش وأخذ بالأندلس عن أبي الحسن بن خروف وغير واحد ورحل إلى المشرق فأخذ عن أبي عبد الله القرطبي إمام الحرم وغيره ولقي جلة من المشايخ شرقا وغربا
وهو إمام ورع صالح زاهد كان بقية السلف وقدوة الخلف وقد زهد في الدنيا وتخلى عنها وأقام في تفسير الفاتحة نحوا من ستة أشهر يلقي في التعليل قوانين تتنزل في علم التفسير منزلة أصول الفقه من الأحكام حتى من الله تعالى ببركات ومواهب لا تحصى وعلى أحكام تلك القوانين

وضع كتابه مفتاح اللب المقفل على فهم القرآن المنزل وهو ممن جمع العلم والعمل وصنف في كثير من الفنون كالأصلين والمنطق والطبيعيات والإلهيات وكان يقرىء النجاة لابن سينا فينقضه عروة عروة وكان من أعلم الناس بمذهب مالك ولما ظن فقهاء عصره أنه لا يحسن المذهب لاشتغاله بالمعقولات أقرأ التهذيب وأبدى فيه الغرائب وبين مخالفته للمدونة في بعض المواضع ووقع بينه وبين الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيء وطلب عز الدين أن يقف على تفسيره فلما وقف عليه قال أين قول مجاهد أين قول فلان وفلان وكثر القول في هذا المعنى ثم قال يخرج من بلادنا إلى وطنه يعني الشام فلما بلغ كلامه الشيخ قال هو يخرج وأقيم أنا فكان كذلك وله عدة مؤلفات في الفنون وقال رحمه الله تعالى أقمت ملازما لمجاهدة النفس سبعة أعوام حتى استوى عندي من يعطيني دينارا ومن يزدريني وأصبح - رحمه الله تعالى - ذات يوم ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم وكانت أم ولده جارية تسمى كريمة وكانت سيئة الخلق فاشتدت عليه في الطلب وقالت له إن الأصاغر لا شيء لهم فقال الآن يأتي من قبل الوكيل ما نتقوت به فبينما هم كذلك وإذا بالحمال يضرب الباب ومعه قمح فقال لها يا كريمة ما أعجلك ! هذا الوكيل بعث بالقمح فقالت ومن يصنعه فأمر فتصدق به ثم قال لها يأتيك ما هو أحسن منه فانتظرت يسيرا وبدا لها فتكلمت بما لا يليق فبينما هم كذلك وإذا بحمال سميذ فقال لها هذا السميذ أيسر وأسهل من القمح فلم يقنعها ذلك فأمر أيضا بصدقته فلما تصدق به زادت في المقال وإذا برجل على رأسه طعام فقال لها يا كريمة قد كفيت المؤونة هذا الوكيل قد علم بحالك
ومن كراماته أن بعض طلبته اجتمعوا في نزهة وأخذوا حليا من زينة النساء فزينوا به بعض أصحابهم فلما انقضى ذلك واجتمعوا بمجلس الشيخ صار الذي كان في يده الحلي يتحدث ويشير بيده فقال الشيخ يد يجعل

فيها الحلي لا يشار بها في الميعاد
ومنها أنه أصاب الناس جدب ببجاية فأرسل إلى داره من يسوق ماء إلى الفقراء فامتنعت كريمة ونهرت رسله فسمع كلامها فقال للرسول قل لها يا كريمة والله لأشربن من ماء المطر الساعة فرمق السماء بطرفه ودعا الله سبحانه وتعالى ورفع يده به وشرع المؤذن في الأذان ولم يختم المؤذن أذانه حتى كان المطر كأفواه القرب وتوفي رحمه الله تعالى بحماة من بلاد الشام سنة سبع وثلاثين وستمائة انتهى ملخصا من عنوان الدراية للغبريني ووقع للذهبي في حقه كلام على عادته في الحط على هذه الطائفة ثم قال ورأيت شيخنا المجد التونسي يتغالى في تفسيره ورأيت غير واحد معظما له وقوما تكلموا في عقيدته وكان نازلا عند قاضي حماة البارزي وقال لنا شرف الدين البارزي تزوج بحماة وكانت زوجته تشتمه وتؤذيه وهو يتبسم وإن رجلا راهن جماعة على أن يحرجه فقالوا لا تقدر فأتى وهو يعظ وصاح وقال له أنت أبوك كان يهوديا وأسلم فنزل من الكرسي فاعتقد الرجل أنه غضب وأنه تم له ما رامه حتى وصل إليه فخلع مرطيه عليه وأعطاه إياهما وقال له بشرك الله بالخير لأنك شهدت لأبي أنه كان مسلما انتهى
وظاهر كلام الغبريني أن تفسير الشيخ الحرالي كامل وقال بعض إنه لم يكمل وهو تفسير حسن وعليه نسج البقاعي مناسباته وذكر أن الذي وقف عليه منه من أول القرآن إلى قوله في سورة آل عمران ( كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا ) [ آل عمران 37 ]

وكلام الذهبي في الشيخ يرده كلام الغبريني إذ هو أعرف به والله تعالى أعلم
وحكى الغبريني أنه أنشد بين يديه الزجل المشهور
( جنان يا جنان ... اجن من البستان ... الياسمين )
( واترك الريحان ... بحرمة الرحمن ... للعاشقين )
فسأل بعض عن معناه فقال بعض الحاضرين أراد به العذار وقال آخر إنما أشار إلى دوام العهد لأن الأزهار كلها ينقضي زمانها إلا الريحان فإنه دائم فاستحسن الشيخ هذا أو وافق عليه
116 - ومنهم ولي الله العارف به الشيخ الشهير الكرامات الكبير المقامات سيدي أبو العباس المرسي نفعنا الله تعالى به وهو من أكابر الأولياء صحب سيدي الشيخ - الفرد القطب الغوث الجامع سيدي أبا الحسن الشاذلي أعاد الله تعالى علينا من بركاته وخلفه بعده وكان قدم من الأندلس من مرسية وقبره بالإسكندرية مشهور بإجابة الدعوات وقد زرته مرارا كثيرة ودعوت الله عنده بما أرجو قبوله
وقد عرف به الشيخ العارف بالله ابن عطاء الله في كتابه لطائف المنن في مناقب الشيخ سيدي أبي العباس وشيخه سيدي أبي الحسن رضي الله تعالى عنهما
وقال الصفدي في الوافي أحمد بن عمر بن محمد الشيخ الزاهد الكبير العارف أبو العباس الأنصاري المرسي وارث شيخه الشاذلي تصوفا الأشعري معتقدا

توفي بالإسكندرية سنة 686 ولأهل مصر ولأهل الثغر فيه عقيدة كبيرة وقد زرته لما كنت بالإسكندرية سنة 738 قال ابن عرام سبط الشاذلي ولولا قوة اشتهاره وكراماته لذكرت له ترجمة طويلة كان من الشهود بالثغر انتهى وكان سيدي أبو العباس يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله تعالى حتى إنه ربما دخل عليه مطيع فلا يحتفل به وربما دخل عليه عاص فأكرمه لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثر لعمله ناظر لفعله وذلك العاصي دخل بكسر معصيته وذلة مخالفته وكان شديد الكراهة للوسواس في الصلاة والطهارة ويثقل عليه شهود من كان على صفته وذكر عنده يوما شخص بأنه صاحب علم وصلاح إلا أنه كثير الوسوسة فقال وأين العلم العلم هو الذي ينطبع في القلب كالبياض في الأبيض والسواد في الأسود
وله كلام بديع في تفسير القرآن العزيز فمن ذلك أنه قال قال الله سبحانه وتعالى ( الحمد لله رب العالمين ) [ الفاتحة 2 ] علم الله عجز خلقه عن حمده فحمد نفسه بنفسه في أزله فلما خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده فقال ( الحمد لله رب العالمين ) أي الحمد الذي حمد به نفسه بنفسه هو له لا ينبغي أن يكون لغيره فعلى هذا تكون الألف واللام للعهد وقال في قوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) إياك نعبد شريعة وإياك نستعين حقيقة إياك نعبد إسلام وإياك نستعين إحسان إياك نعبد عبادة وإياك نستعين عبودية إياك نعبد فرق وإياك نستعين جمع وله في هذا المعنى وغيره كلام نفيس يدل على عظيم ما منحه الله سبحانه من العلوم اللدنية وقال رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى ( اهدنا الصراط المستقيم ) بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل وهذا

الجواب ذكره ابن عطية في تفسيره وبسطه الشيخ رضي الله تعالى عنه فقال عموم المؤمنين يقولون ( اهدنا الصراط المستقيم ) معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل فإنهم حصل لهم التوحيد وفاتهم درجات الصالحين والصالحون يقولون ( اهدنا الصراط المستقيم ) معناه نسألك التثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل لأنهم حصل لهم الصلاح وفاتهم درجات الشهداء والشهيد يقول ( اهدنا الصراط المستقيم ) أي بالتثبيت فيما هو حاصل والإرشاد لما ليس بحاصل فإنه حصلت له درجة الشهادة وفاته درجة الصديقية والصديق كذلك يقول ( اهدنا الصراط المستقيم ) إذ حصلت له درجة الصديقية وفاتته درجة القطب والقطب كذلك يقول ( اهدنا الصراط المستقيم ) فإنه حصلت له رتبة القطبانية وفاته علم إذا شاء الله تعالى أن يطلعه عليه أطلعه
وقال رضي الله تعالى عنه الفتوة الإيمان قال الله سبحانه وتعالى ( إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ) [ الكهف 13 ] وقال رضي الله تعالى عنه في قوله سبحانه وتعالى حاكيا عن الشيطان ( ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم . . . ) الآية [ الأعراف 17 ] ولم يقل من فوقهم ولا من تحتهم لأن فوقهم التوحيد وتحتهم الإسلام وقال رضي الله تعالى عنه التقوى في كتاب الله عز و جل على أقسام تقوى النار قال الله سبحانه وتعالى ( واتقوا النار ) [ آل عمران 131 ] وتقوى اليوم قال الله تعالى ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) [ البقرة 281 ] وتقوى الربوبية قال الله تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم ) [ الحج 1 لقمان 23 ] وتقوى الألوهية ( واتقوا الله ) المائدة : 47811 وتقوى الإنية ( واتقون يا أولي الألباب ) [ البقرة الآية 197 ] وقال رضي الله تعالى عنه في قول رسول الله " أنا سيد ولد آدم ولا فخر " أي لا أفتخر بالسيادة وإنما الفخر لي بالعبودية لله وكان كثيرا ما ينشد

( يا عمرو ناد عبد زهراء ... يعرفه السامع والرائي )
( لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي )
وقال رضي الله تعالى عنه في قول سمنون المحب
( ليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني )
الأولى أن يقول فكيفما شئت فاعف عني إذ طلب العفو أولى من طلب الاختبار
وقال رضي الله تعالى عنه الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة والعارف جاء من الآخرة إلى الدنيا وقال رضي الله تعالى عنه العارف لا دنيا له لأن دنياه لآخرته وآخرته لربه وقال الزاهد غريب في الدنيا لأن الآخرة وطنه والعارف غريب في الآخرة قال بعض العارفين معنى الغربة في كلام الشيخ رضي الله تعالى عنه أن الزاهد يكشف له عن ملك الآخرة فتبقى الآخرة موطن قلبه ومعشش روحه فيكون غريبا في الدنيا إذ ليست وطنا لقلبه عاين الآخرة فأخذ قلبه فيما عاين من ثوابها ونوالها وفيما شهد من عقوبتها ونكالها فتغرب في هذه الدار وأما العارف فإنه غريب في الآخرة إذ كشف له عن صفات معروفة فأخذ قلبه فيما هناك فصار غريبا في الآخرة لأن سره مع الله تعالى بلا أين فهؤلاء العباد تصير الحضرة معشش قلوبهم إليها يأوون وفيها يسكنون فإن تنزلوا إلى سماء الحقوق أو أرض الخصوص فبالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين فلم ينزلوا إلى الخصوص لشهوة ولم يصعدوا إلى الحقوق بسوء الأدب والغفلة بل كانوا في ذلك كله بآداب الله تعالى وآداب رسله وأنبيائه متأدبين وبما اقتضى منهم مولاهم عاملين رضي الله تعالى عنهم ونفعنا بهم آمين

وكلام سيدي الشيخ أبي العباس رضي الله تعالى عنه بحر لا ساحل له وكراماته كذلك وليراجع كتاب تلميذه ابن عطاء الله فإن فيه من ذلك ما يشفي ويكفي وما بقي أكثر ومن كراماته رضي الله تعالى عنه أنه عزم عليه إنسان وقدم إليه طعاما يختبره به فأعرض عنه ولم يأكله ثم التفت إلى صاحب الطعام وقال له إن الحارث المحاسبي رضي الله تعالى عنه كان في أصبعه عرق إذا مد يده إلى طعام فيه شبهة تحرك عليه وأنا في يدي سبعون عرقا تتحرك علي إذا كان مثل ذلك فاستغفر صاحب الطعام واعتذر إلى الشيخ رضي الله تعالى عنه ونفعنا به
117 - ومنهم أبو إسحاق الساحلي المعروف بالطويجن - بضم الطاء المهملة وفتح الواو وسكون الياء التحتية وكسر الجيم وقيل بفتحها - العالم المشهور والصالح المشكور والشاعر المذكور من أهل غرناطة من بيت صلاح وثروة وأمانة وكان أبوه أمين العطارين بغرناطة وكان مع أمانته من أهل العلم فقيها متفننا وله الباع المديد في الفرائض
وأبو إسحاق هذا كان في صغره موثقا بسماط شهود غرناطة وارتحل عن الأندلس إلى المشرق فحج ثم سار إلى بلاد السودان فاستوطنها ونال جاها مكينا من سلطانها وبها توفي رحمه الله تعالى انتهى ملخصا من كلام الأمير ابن الأحمر في كتابه نثير الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان
وقال أبو المكارم منديل بن آجروم حدثني من يوثق بقوله أن أبا إسحاق الطويجن كانت وفاته يوم الاثنين 27 جمادى الأخيرة سنة 747 بتنبكتو

موضع بالصحراء من عمالة مالي رحمه الله تعالى ثم ضبط الطويجن بكسر الجيم قال وبذلك ضبطه بخط يده رحمه الله تعالى قال ومن نسبه للساحلي فإنه نسبه لجده للأم انتهى
118 - ومنهم الشيخ الأديب الفاضل المعمر ضياء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف بن عفيف الخزرجي الساعدي من أهل غرناطة ويشهر بالخزرجي مولده ببيغة رحل عن الأندلس قديما واستقر أخيرا بالإسكندرية وبها لقيه الحافظ ابن رشيد غير مرة وقد أطال في رحلته في ترجمته إلى أن قال وذكرنا صاحبنا أبو حيان وهو أحد من أخذ عنه ولقيه فقال تلا القرآن بالأندلس على أبي الوليد هشام بن واقف المقرىء وسمع بها من أبي زيد الفازازي العشرينيات وسمع بمكة من شهاب الدين السهروردي صاحب عوارف المعارف وتلا بالإسكندرية على أبي القاسم بن عيسى ولا يعرف له نظم في أحد من العالم إلا في مدح رسول الله ومن شعره يعارض الحريري
( أهن لأهل البدع ... والهجر والتصنع ... ودن بترك الطمع )
( ولذ بأهل الورع ... )
( وعد عن كل بذي ... لم يكترث بالنبذ ... والهج ببر جهبذ )
( وعالم متضع ... )
( واندب زمانا قد سلف ... ولم تجد منه خلف ... وابعث بأنواع الأسف )
( رسائل التضرع ... )

وهي طويلة فلتراجع ترجمته في ملء العيبة لابن رشيد رحمه الله تعالى
119 - ومنهم الفقيه الجليل العارف النبيل الحاذق الفصيح البارع أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر الشهير بابن سبعين العكي المرسي الأندلسي ويلقب من الألقاب المشرقية بقطب الدين
قال الشيخ المؤرخ ابن عبد الملك درس العربية والآداب بالأندلس ثم انتقل إلى سبتة وانتحل التصوف وعكف برهة على مطالعة كتبه والتكلم على معانيها فمالت إليه العامة ثم رحل إلى المشرق وحج حججا وشاع ذكره وعظم صيته وكثر أشياعه وصنف أوضاعا كثيرة تلقوها منه ونقلوها عنه ويرمى بأمور الله تعالى أعلم بها وبحقيقتها وكان حسن الأخلاق صبورا على الأذى آية في الإيثار انتهى وقال غير واحد إن أغراض الناس فيه متباينة بعيدة عن الاعتدال فمنهم المرهق المكفر ومنهم المقلد المعظم الموقر وحصل بهذين الطرفين من الشهرة والاعتقاد والنفرة والانتقاد ما لم يقع لغيره والله تعالى أعلم بحقيقة أمره ولما ذكر الشريف الغرناطي عنه أنه كان يكتب عن نفسه ابن يعني الدارة التي هي كالصفر وهي في بعض طرق المغاربة في حسابهم سبعون وشهر لذلك بابن دارة - ضمن فيه البيت المشهور
( محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا ... )

حسبما ذكره الشريف في شرح مقصورة حازم وقد طال عهدي به فليراجعه من ظفر به وقال صاحب درة الأسلاك في سنة 669 ما صورته وفيها توفي الشيخ قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن سبعين المرسي صوفي متفلسف متزهد متقشف يتكلم على طريق أصحابه ويدخل البيت ولكن من غير أبوابه شاع أمره واشتهر ذكره وله تصانيف وأتباع وأقوال يميل إليها بعض القلوب وتملها بعض الأسماع وكانت وفاته بمكة المشرفة عن نحو خمسين سنة تغمده الله تعالى برحمته انتهى وقال بعض الأعلام في حق ابن سبعين إنه كان رحمه الله تعالى عزيز النفس قليل التصنع يتولى خدمة الكثير من الفقراء والسفارة أصحاب العبادات والدفافيس بنفسه ويحفون به في السكك ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء كثر عليه التأويل ووجهت لألفاظه المعاريض وفليت موضوعاته وتعاورته الوحشة وجرت بينه وبين الكثير من أعلام المشرق والمغرب خطوب يطول ذكر ووقع في رسالة لبعض تلامذة ابن سبعين المذكور وأظن اسمه يحيى

بن أحمد بن سليمان وسماها بالوراثة المحمدية والفصول الذاتية ما صورته فإن قيل ما الدليل على أن هذا الرجل الذي هو ابن سبعين هو الوارث المشار إليه قلنا عدم النظير واحتياج الوقت إليه وظهور الكلمة المشار إليها عليه ونصيحته لأهل الملة ورحمته المطلقة للعالم المطلق ومحبته لأعدائه وقصده لراحتهم مع كونهم يقصدون أذاه وعفوه عنهم مع قدرته عليهم وجذبهم إلى الخير مع كونهم يطلبون هلاكه وهذه كلها من علامات الوراثة والتبعية المحضة التي لا يمكن أحدا أن يتصف بها إلا بمجد أزلي وتخصيص إلهي وها أنا أصف لك بعض ما خصه الله سبحانه وتعالى به من الأمور التي هي خارقة للعادة ونلغي عن الأمور الخفية التي لا نعلمها ونقصد الأمور الظاهرة التي نعلمها والتي لا يمكن أحدا أن يستريب فيها إلا من أصمه الله تعالى وأعماه ولا يجحدها إلا حسود قد أتعب الله تعالى قلبه وأنساه رشده ونعوذ بالله ممن عاند من الله تعالى مساعده ومؤيده وهو معه بنصره وعونه فما أتعب معانده وما أسعد موادده وما أكبت مرادده فنبدأ بذكر ما وعدنا فنقول أول ما ذكر في شرفه واستحقاقه لما ذكرنا كونه خلقه الله تعالى من أشرف البيوت التي في بلاد المغرب وهم بنو سبعين قرشيا هاشميا علويا وأبواه وجدوده يشار إليهم ويعول في الرئاسة والحسب والتعين عليهم والثاني كونه من بلاد المغرب والنبي عليه الصلاة و السلام قال " لا يزال أهل المغرب ظاهرين إلى قيام الساعة " وما ظهر من بلاد المغرب رجل أظهر منه فهو المشار إليه بالحديث ثم نقول أهل المغرب أهل الحق وأحق الناس بالحق وأحق المغرب بالحق علماؤه لكونهم القائمين بالقسط وأحق علمائه بالحق محققهم وقطبهم الذي يدور الكل عليه ويعول في مسائلهم ونوازلهم السهلة والعويصة عليه فهو حق المغرب والمغرب حق الله تعالى والملة حق العالم فهو المشار إليه بالوراثة ثم نقول أهل المغرب ظاهرون على الحق

أي على الدين والحق سر الدين والمحقق سر الحق فالمحقق سر الدين فهو المشار إليه بالوراثة ثم نقول أهل الله خير العالم وأهل الحق هم خير أهل الله والمحقق خير أهل الحق فالمحقق خير العالم فهو المشار إليه ثم نقول انظر في بدايته وحفظ القديم له في صغره وضبطه له من اللهو واللعب وإخراجه من اللذة الطبيعية التي هي في جبلة البشرية وتركه للرئاسة العرضية المعول عليها عند العالم مع كونه وجدها في آبائه وهي الآن في إخوته وخروجه عن الأهل والوطن الذي قرنه الحق مع قتل الإنسان نفسه وانقطاعه إلى الحق انقطاعا صحيحا تعلم تخصيصه وخرقه للعادة ثم انظر في تأيده وفتحه من الصغر وتأليف كتاب بدء العارف وهو ابن خمس عشرة سنة وفي جلالة هذا الكتاب وكونه يحتوي على جميع الصنائع العلمية والعملية وجميع الأمور السنية والسنية تجده خارقا للعادة وفي نشأته في بلاد الأندلس ولم يعلم له كثرة نظر وظهوره فيها بالعلوم التي لم تسمع قط تعلم أنه خارق للعادة وفي تواليفه واشتمالها على العلوم كلها ثم انفرادها وغرابتها وخصوصيتها بالتحقيق الشاذ عن أفهام الخلق تعلم بأنه مؤيد بروح القدس وفي شجاعته وقوة توكله في عزمه ونصره لصنائعه وظهور حجته على خصمائه وإقامة حقه وبرهانه وفصاحة كلامه وبيان سلطانه تعلم أن ذلك بقوة إلهية وعناية ربانية وفي امتحان أهل المغرب له واجتماعهم عليه في كل بلد معتبر للمناظرة ويظهر الله تعالى حجته ويقمع خصمه ويكبت عدوه ويعجز معارضه ويفحم معترضه وفي غيرة الحق عليه وهلاك من تعرض بالأذى إليه - يعلم العاقل المخصوص أنه عند الله مخصوص وفي خلقه وقهره لقواه النزوعية والغضبية وإسلام قرينه وجلالة قوته الحافظة التي لا تنسى شيئا والمفكرة التي تتصور الذوات المجردة والمعلومة أسر عين الطيف

وكذلك الذاكرة وسرعة ظهوره وانتشار رايته واستجلاب ثنائه في الجهات كلها وبالجملة جميع ما ذكرت هو فيه خارق للعادة البشرية ومعجز لمعارضه من كل الجهات ولولا خوف التطويل لكنت أفصل كل صفة ذكرت فيه بالكلام الصناعي ونقيم الأدلة القطعية على تعجيزها ولكن أعطيت الأنموذج وعرفت أن النبيه يمعن فكره ويجد ذلك كما قلته
وبالجملة جميع جزئياته إذا تؤملت توجد خارقة للعادة وتشهد لها ماهية الوجود بالتخصيص فصح أنه هو المشار إليه والمعول في جملة الأمور عليه وإنما أعطيت الأمر المشهور وتركت ما يعلم منه من خرق العوائد في ظهور الطعام والشراب والسمن والتمر وأخذ الدراهم من الكون وإخباره عن وقائع قبل وقوعها بسنين كثيرة وظهرت كما أخبر فصح أنه هو المذكور انتهى ما تعلق به الغرض مما في الرسالة في شأن الشيخ ابن سبعين وقد ذكر غير واحد من المؤرخين - ومنهم لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة كما سيأتي قريبا - أن ابن سبعين عاقه الخوف من أمير المدينة عن القدوم إليها فعظم عليه بذلك الحمل وقبحت الأحدوثة عنه انتهى لكن قال شهاب الدين بن أبي حجلة التلمساني الأديب الشهير وهو صاحب كتاب السكردان وديوان الصبابة ومنطق الطير والاعتراض على العارف بالله تعالى ابن الفارض ما معناه أخبرني الشيخ الصالح أبو الحسن بن برغوش التلمساني شيخ المجاورين بمكة وكانت له معرفة تامة بهذا الرجل أنه صده عن زيارة رسول الله أنه كان إذا قرب من باب من أبواب مسجد المدينة على ساكنها الصلاة والسلام يهرق منه دم كدم الحيض والله تعالى أعلم بحقيقة أمره انتهى وقال غيره نعم زار النبي مستخفيا على طريق المشاة حدث بذلك أصهاره بمكة انتهى

وقال لسان الدين أما شهرته ومحله من الإدراك والآراء والأوضاع والأسماء والوقوف على الأقوال والتعمق في الفلسفة والقيام على مذاهب المتكلمين فما يقضى منه العجب وقال الشيخ أبو البركات بن الحاج البلفيقي رحمه الله تعالى حدثني بعض أشياخنا من أهل المشرق أن الأمير أبا عبد الله بن هود سالم طاغية النصارى فنكث به ولم يف بشرطه فاضطره ذلك إلى مخاطبة القس الأعظم برومية فوكل أبا طالب بن سبعين أخا أبي محمد عبد الحق بن سبعين في التكلم عنه والاستظهار بين يديه قال فلما بلغ ذلك الشخص رومية وهو بلد لا يصل إليه المسلمون ونظر إلى ما بيده وسئل عن نفسه فأخبر بما ينبغي كلم ذلك القس من دنا منه بكلام معجم ترجم لأبي طالب بما معناه اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه انتهى وقال غير واحد اشتهرت عنه أشياء كثيرة الله تعالى أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه منها فمنها قوله - فيما زعموا - وقد جرى ذكر الشيخ ولي الله سيدي أبي مدين نفعنا الله تعالى ببركاته شعيب عبد عمل ونحن عبيد حضرة وممن حكى هذا لسان الدين في الإحاطة وقد ذكر ابن خلدون في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان المستنصر بالله تعالى أبي عبد الله محمد ابن السلطان زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك إفريقية وما إليها أن أهل مكة بايعوه وخطبوا له بعرفة وأرسلوا له بيعتهم

وهي من إنشاء ابن سبعين وسردها ابن خلدون بجملتها وهي طويلة وفيها من البلاغة والتلاعب بأطراف الكلام ما لا مطمح وراءه غير أنه يشير فيها إلى أن المستنصر هو المهدي المبشر به في الأحاديث الذي يحثو المال ولا يعده وحمل حديث مسلم وغيره عليه وذلك ما لا يخفى ما فيه فليراجع كلام ابن خلدون في محله ولابن سبعين من رسالة سلام عليك ورحمة الله سلام عليك ثم سلام مناجاتك سلام الله ورحمة الله الممتدة على عوالمك كلها السلام عليك يا أيها النبي ورحمة الله تعالى وبركاته وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك وكصلاة أعز ملائكتك من حيث حقيقتك وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته السلام عليك يا حبيب الله السلام عليك يا قياس الكمال ومقدمة العلم ونتيجة الحمد وبرهان المحمود ومن إذا نظر الذهن إليه قرأ ( نعم العبد ) [ سورة ص 30 ] السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء وأسرار مشروطات الأذكياء الأتقياء السلام عليك يا من جاوز في السموات مقام الرسل والأنبياء وزادك رفعة واستعلاء على ذوات الملإ الأعلى وذكر قوله تعالى ( سبح اسم ربك الأعلى ) [ الأعلى 1 ]
وقال بعضهم عند إيراده جملة من رسائله التي منها هذه إنها تشتمل على ما يشهد له بتعظيم النبوة وإيثار الورع انتهى وقال بعض العلماء الأكابر عند تعرضه لترجمة الشيخ ابن سبعين المترجم به ما نصه ببعض اختصار هو أحد المشايخ المشهورين بسعة العلم وتعدد المعارف وكثرة التصانيف ولد سنة 614 ودرس العربية والأدب بالأندلس ونظر في العلوم العقلية وأخذ عن أبي إسحاق بن دهاق وبرع في طريقه وجال في البلاد وقدم القاهرة ثم حج واستوطن مكة وطار صيته وعظم أمره وكثر أتباعه حتى إنه تلمذ له أمير مكة فبلغ من التعظيم الغاية وله كتاب الدرج وكتاب السفر وكتاب الأبوية اليمنية وكتاب الكد

وكتاب الإحاطة ورسائل كثيرة في الأذكار وترتيب السلوك والوصايا والمواعظ والغنائم
ومن شعره
( كم ذا تموه بالشعبين والعلم ... والأمر أوضح من نار على علم )
( وكم تعبر عن سلع وكاظمة ... وعن زرود وجيران بذي سلم )
( ظللت تسأل عن نجد وأنت بها ... وعن تهامة هذا فعل متهم )
( في الحي حي سوى ليلى فتسأله ... عنها سؤالك وهم جر للعدم )
ونشأ رحمه الله تعالى ترفا مبجلا في ظل جاه ونعمة لم تفارق معها نفسه البأو وكان وسيما جميلا ملوكي البزة عزيز النفس قليل التصنع وكان آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده رحمه الله تعالى وقال في الإحاطة للناس في أمره اختلاف بين الولاية وضدها ولما وجه إلى كلامه سهام الناقدين قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والخوض في تلك البحار والاطلاع وساءت منهم في الممازجة له السيرة فانصرفوا عنه مكلومين يبذرون عنه في الآفاق من سوء القالة ما لا شيء فوقه وجرت بينه وبين أعلام المشرق خطوب ثم نزل مكة وعاقه الخوف من أمير المدينة

المعظمة عن الدخول إليها إلى أن توفي فعظم بذلك الحمل عليه
وقبحت الأحدوثة عنه ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية - وكانت جملة من المسائل الحكمية وجهها علماء الروم تبكيتا للمسلمين - انتدب للجواب المقنع عنها على فتاء من سنه وبديهة من فكرته رحمه الله تعالى انتهى وقال بعض من عرف به إنه من أهل مرسية وله علم وحكمة ومعرفة ونباهة وبراعة وفصاحة وبلاغة وقال في عنوان الدراية رحل إلى العدوة وسكن ببجاية مدة ولقي من أصحابنا ناسا وأخذوا عنه وانتفعوا به في فنون خاصة له مشاركة في معقول العلوم ومنقولها وله فصاحة لسان وطلاقة قلم وفهم جنان وهو أحد الفضلاء وله أتباع كثيرة من الفقراء ومن عامة الناس وله موضوعات كثيرة هي موجودة بأيدي أصحابه وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبجد وله تسميات مخصوصة في كتبه من نوع الرموز وله تسميات ظاهرة هي كالأسامي المعهودة وله شعر في التحقيق وفي مراقي أهل الطريق وكتابته مستحسنة في طريق الأدباء وله من الفضل والمزية ملازمته لبيت الله الحرام والتزامه الاعتمار على الدوام وحجه مع الحجاج في كل عام وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام ولقد مشى به للمغاربة في الحرم الشريف حظ لم يكن لهم في غير مدته وكان أهل مكة يعتمدون على أقواله ويهتدون بأفعاله
توفي رحمه الله تعالى يوم الخميس تاسع شوال سنة 669 انتهى ببعض اختصار

وذكر رحمه الله تعالى في ترجمة تلميذه الشيخ أبي الحسن الششتري السابق الذكر أن أكثر الطلبة يرجحونه على شيخه أبي محمد بن سبعين وإذا ذكر له هذا يقول إنما ذلك لعدم اطلاعهم على حال الشيخ وقصور طباعهم ومن تآليف ابن سبعين الفتح المشترك رجع إلى الششتري
ومما حكاه صاحب عنوان الدراية في ترجمة الششتري - مما لم نذكره في ترجمته الماضية ورأينا ذكره هنا تبركا أن الششتري كان في بعض أسفاره في البرية وكان رجل من أصحابه قد أسر فسمعه الفقراء يقول إلينا يا أحمد فقيل له من أحمد الذي ناديته يا سيدي في هذه البرية فقال لهم من تسرون به غدا إن شاء الله تعالى فلما كان من الغد ورد الشيخ وأصحابه بلدة قابس فعند دخولهم إذا بالرجل المأسور فقال الشيخ للفقراء هنيئا لنا باقتحام العقبة صافحوا أخاكم المنادى به ومن مناقبه - نفع الله تعالى به - أنه لما نزل بلدة قابس برباط البحر المعروف بمسجد الصهريج جاءه الشيخ الصالح أبو إسحاق الزرناني نفع الله تعالى به بجميع أصحابه برسم الزيارة فوافق وصوله وصول الشيخ الصالح الفاضل الولي أبي عبد الله الصنهاجي - نفع الله تعالى به - مع جملة أصحابه للزيارة فوجدوا الشيخ أبا الحسن قد خرج إلى موضع بخارج المدينة برسم الخلوة فجلسوا لانتظاره فلم يكن إلا قليل إذ أقبل الشيخ على هيئة معتبر متفكر فلما دخل الرباط سلم على الواصلين برسم الزيارة وحيا المسجد وأقبل على الفقراء وأثر العبرة على وجنته فقال ائتوني بمداد

فلما أحضر بين يديه تأوه تأوها شديدا كاد أن يحرق بنفسه جليسه وجعل يكتب فى لوح هذه الأبيات
( لا تلتفت بالله يا ناظري ... لأهيف كالغصن الناضر )
( يا قلب واصرف عنك وهم البقا ... وخل عن سرب حمى حاجر )
( ما السرب والبان وما لعلع ... ما الخيف ما ظبي بني عامر )
( جمال من سميته داثر ... ما حاجة العاقل بالداثر )
( وإنما مطلبه في الذي ... هام الورى من حسنه الباهر )
( أفاد للشمس سنى كالذي ... أعاره للقمر الزاهر )
( أصبحت فيه مغرما حائرا ... لله در المغرم الحائر )
وكانوا يوما ببلد مالقة وكثيرا ما يجود عليه القرآن العزيز فقرأ طالب قوله تعالى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) فقال معجلا رضي الله تعالى عنه وفهم من الآية ما لم يفهم وعلم منها ما لم يعلم
( انظر للفظ أنا يا مغرما فيه ... من حيث نظرتنا لعل تدريه )
( خل ادخارك لا تفخر بعارية ... لا يستعير فقير من مواليه )
( جسوم أحرفه للسر حاملة ... إن شئت تعرفه جرب معانيه )
ودخل عليه شخص ببجاية من أهلها يعرف بأبي الحسن بن علال من أهل الأمانة والديانة فوجده يذاكر بعض أهل العلم فاستحسن منه إيراده للعلم واستعماله للمحاضرة الفهم فاعتقد شياخته وتقديمه ثم نوى أن يؤثر الفقراء من ماله بعشرين دينارا شكرا لله تعالى ويأتيهم بمأكول فلما يسر جيمع ما اهتم به أراد أن يقسمه فيعطيه شطره ويدع الشطر الثاني إلى حين انصراف الشيخ

ليكون للفقراء زادا فلما كان في الليل رأى في منامه النبي ومعه أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما قال الرجل فنهضت إليه بسرور رؤية النبي وقلت يا رسول الله ادع الله تعالى لي فالتفت لأبي بكر رضي الله تعالى عنه وقال يا أبا بكر أعطه فإذا به رضي الله عنه قسم رغيفا كان بيده وأعطاني نصفه ثم أفاق الرجل من منامه وأخذه وجد من هذه الرؤيا المباركة فأيقظ أهله واستعمل نفسه في العبادة فلما كان من الغد سار وأتى الشيخ ببعض الطعام ونصف الدراهم المحتسب بها فلما دفعها للشيخ قال له الشيخ يا علي اقرب فلما قرب قال له يا علي لو أتيت بالكل لأخذت منه الرغيف بكماله انتهى
120 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الشهير بابن غصن الأشبيلي من ولد شداد بن أوس الأنصاري الجزيري نسبة إلى الجزيرة الخضراء الإمام المقري الزاهد عرض على الأستاذ ابن أبي الربيع الموطأ من حفظه وأخذ عنه النحو وكان من أولياء الله تعالى الصالحين وعباده الناصحين آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر قوالا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم عارفا بمتون الحديث وأحكامه فقيها متقنا لمذاهب الأئمة الأربعة والصحابة والتابعين لا يقبل من أحد شيئا مخلصا لله تعالى يتكلم على المنبر على عادة أهل العلم من تعليم المسائل الدينية وأقرأ القرآن بمكة مدة بالقراءات وبالمدينة وبيت المقدس وممن قرأ عليه خليل إمام المالكية بالحرم والشهاب الطبري إمام الحنفية بالحرم وله مصنفات في القراءات منها مختصر الكافي وكتاب في معجزات النبي ومولده سنة 631 تخمينا

( وقفوا عند قبره ساعة الدفن ... وقوفا ضرورة الامتثال )
( ومددنا الأكف نطلب قصرا ... مسكنا للنزيل من ذي الجلال )
( آخر الآي من سبأ الحظ منه ... حظه جاء أول الأنفال )
( يا بيان الإعراب يا جامع الإغراب ... يا مفهما لكل مقال )
( يا فريد الزمان في النظم والنثر ... وفي نقل مسندات العوالي )
( كم علوم بثثتها في أناس ... علموا ما بثثت عند الزوال )
انتهت ملخصة قال الصفدي وما رأيت مرثية في نحوي أحسن منها على طولها انتهى
ودفن ابن مالك بسفح قاسيون بتربة القاضي عز الدين ابن الصائغ وقال العجيسي بتربة ابن جعوان ورثاه الشيخ بهاء الدين بن النحاس بقوله
( قل لابن مالك ان جرت بك أدمعي ... حمرا يحاكيها النجيع القاني )
( فلقد جرحت القلب حين نعيت لي ... وتدفقت بدمائه أجفاني )
( لكن يهون ما أجن من الأسى ... علمي بنقلته إلى رضوان )
( فسقى ضريحا ضمه صوب الحيا ... يهمي به بالروح والريحان )
وابن النحاس المذكور أحد تلامذة ابن مالك وهو القائل يخاطب رضي الدين الشاطبي الأندلسي وقد كلفه أن يشتري له قطرا
( أيها الأوحد الرضي الذي طال ... علاء وطاب في الناس نشرا )
( أنت بحر لا غرو إن نحن وافيناك ... راجين من نداك القطرا )

وتوفي ببيت المقدس آخر سنة 723 رحمه الله تعالى أحمد بن يوسف اللبلي
121 - ومنهم الشيخ الفقيه الأستاذ النحوي التاريخي اللغوي أبو جعفر أحمد بن يوسف الفهوي اللبلي يكنى أبا العباس وأبا جعفر قرأ بالأندلس على مشايخ من أفضلهم الأستاذ أبو علي عمر الشلوبين ثم ارتحل إلى العدوة وسكن بجاية وأقرأ بها مدة وارتحل إلى المشرق فحج ثم رجع إلى حضرة تونس واتخذها وطنا واشتغل بها بالإقراء إلى أن مات كان يتبسط لإقراء سائر كتب العربية وله علم جليل باللغة وله تواليف كثيرة منها على الجمل و شرح الفصيح لثعلب ولم يشذ فيه شيء من فصيح كلام العرب قال الغبريني رحمه الله تعالى ورأيت له تأليفا في الأذكار وله عقيدة في علم الكلام ورأيت له مجموعا سماه الإعلام بحدود قواعد الكلام تكلم فيه على الكلم الثلاث الاسم والفعل والحرف وله تواليف أخر وكان من أساتيذ إفريقية في وقته وممن أخذ عنه واستفيد منه انتهى
وذكر الشيخ أبو الطيب بن علوان التونسي عن والده أحمد التونسي الشهير بالمصري أن للمذكور تأليفا سماه التجنيس وله شرح أبيات الجمل سماه وشي الحلل رفعه للملك المستنصر الحفصي بتونس فدفعه المستنصر للأستاذ أبي الحسن حازم وأمره أن يتعقب عليه ما فيه من خلل وجده فحكى أبو عبد الله القطان المسفر - وكان يخدم حازما - قال كنت يوما بدار أبي الحسن حازم وبين يديه هذا الكتاب فسمعت نقر الباب فخرجت فإذا بالفقيه أبي جعفر فرجعت وأخبرت أبا الحسن فقام مبادرا حتى أدخله وبالغ في بره وإكرامه فرأى الكتاب بين يديه فقال له يا أبا الحسن قال الشاعر

( وعين الرضى عن كل عيب كليلة ... )
فقال له يا فقيه أبا جعفر أنت سيدي وأخي ولكن هذا أمر الملك لا يمكن فيه إلا قول الحق والعلم لا يحتمل المداهنة فقال له فأخبرني بما عثرت عليه قال له نعم فأظهر له مواضع فسلمها أبو جعفر وبشرها وأصلحها بخطه
وأصل هذا اللبلي من لبلة بالأندلس اجتمع في رحلته للمشرق بالقاضي ابن دقيق العيد وكان نحويا فلما دخل عليه اللبلي قال له القاضي خير مقدم ثم سأله بعد حين بم انتصب خير مقدم فقال له اللبلي على المصدر وهو من المصادر التي لا تظهر أفعالها وقد ذكره سيبويه ثم سرد عليه الباب من أوله إلى آخره فإنه كان يحفظ أكثره فأكرمه القاضي وعظمه
ثم قال ابن علوان وذكر والدي أيضا رحمه الله تعالى ومن خطه المبارك نقلت أن الأستاذ أبا جعفر اللبلي المذكور رحمه الله تعالى قرئ عليه يوما قول امرئ القيس
( حي الحمول بجانب العزل ... إذ لا يلائم شكلها شكلي )
فقال لطلبته ما العامل في هذا الظرف يعني إذ فتنازعوا القول فقال حسبكم قرئ هذا البيت على أستاذنا أبي علي الشلوبين فسألنا هذا السؤال وكان أبو الحسن ابن عصفور قد برع واستقل وجلس للتدريس وكان الشلوبين يغض منه فقال لنا إذا خرجتم فاسألوا ذلك الجاهل يعني ابن عصفور فلما خرجنا سرنا إليه بجمعنا ودخلنا المسجد فرأيناه قد دارت به حلقة كبيرة وهو يتكلم بغرائب النحو فلم نجسر على سؤاله لهيبته

وانصرفنا ثم جئنا بعد على عادتنا لأبي علي فنسي حتى قرئ عليه قول النابغة
( فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له ... )
فتذكر وقال ما فعلتم في سؤال ابن عصفور فصدقنا له الحديث فأقسم ألا يخبرنا ما العامل فيه ثم قال اللبلي لطلبته وأنا أقول لكم مثل ذلك فانظروا لأنفسكم قالوا فنظرنا فإذا المسألة مسألة فحص ونظر كلما حكمنا بحكم صدتنا عنه قوانين نحوية حتى مضت مدة طويلة فوفد علينا بتونس المحروسة أحد طلبة ابن أبي الربيع وكان ابن أبي الربيع هذا ساكنا بسبتة وهو أحد طلبة الشلوبين أيضا ومن كبار هذه الطبقة التي نشأت بعده قالوا فتذاكرنا مع هذا الطالب في مسائل نحوية فمرت هذه المسألة في قوله تعالى ( إذ نسويكم برب العالمين ) [ الشعراء 98 ] فقال هذا الطالب إن هذا الظرف وقع موقع لام العلة فعلمنا أن هذا هو الذي أراد الأستاذ أبو علي ثم ناقشنا الطالب وقلنا له إذا جعلته ظرفا فلا بد من العامل وإذا جعلته واقعا موقع الحرف كان هذا على شذوذ قول الكوفيين والذي يجوز عكسه على مذهب الجميع وإنما الأولى أن يقال إذ حرف معناه التعليل تشترك فيه الأسماء والحروف كما اشتركت في عن والله أعلم بغيبه انتهى بن أحمد
122 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر ابن فرح القرطبي قال الحافظ المقريزي وفرح بسكون الراء وقال الحافظ عبد الكريم في حقه إنه كان من عباد الله الصالحين والعلماء العارفين الورعين الزاهدين في الدنيا المشتغلين بما يعنيهم من أمور الآخرة فيما بين توجه وعبادة وتصنيف جمع في تفسير القرآن كتابا خمسة عشر مجلدا وشرح أسماء الله الحسنى في

مجلدين وله كتاب التذكرة في أمور الآخرة في مجلدين وشرح التقصي وله تآليف غير ذلك مفيدة وكان مطرح التكلف يمشي بثوب واحد وعلى رأسه طاقية سمع من الشيخ أبي العباس أحمد بن عمر القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم بعض هذا الشرح وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن حفص اليحصبي وعن الحافظ أبي علي الحسن بن محمد بن محمد البكري وغيرهما وتوفي بمنية ابن خصيب ليلة الاثنين التاسع من شوال سنة 671 ودفن بها رحمه الله تعالى ! وفي تاريخ الكتبي في حقه ما نصه كان شيخا فاضلا وله تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور علمه منها تفسير القرآن مليح إلى الغاية اثنا عشر مجلدا انتهى
وكتب بعض تلامذته على الهامش ما صورته قد أجحف المصنف في ترجمته جدا وكان متقننا متبحرا في العلم انتهى وكتب بعض بأثر هذا الكلام ما نصه قال الذهبي رحل وكتب وسمع وكان يقظا فهما حسن الحفظ مليح النظم حسن المذاكرة ثقة حافظا انتهى وكتب آخر أثر ذلك الكلام ما صورته مشاحة شيخنا للمصنف في هذه العبارة مالها فائدة فإن الذهبي قال في تاريخ الإسلام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الإمام القرطبي إمام متفنن متبحر في العلم له تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور عقله وفضله ثم ذكر موته وقال بعده وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الركبان وله الأسنى في شرح الأسماء الحسنى و التذكرة وأشياء تدل على إمامته وذكائه وكثرة اطلاعه انتهى وكتب آخر بآثر هذا الكلام ما نصه غفر الله لك ! إذا كان الذهبي ترجمه بما ذكرت وهو والله فوق ذلك فكيف تقول إن مشاحة شيخك لا فائدة فيها وتسيء الأدب معه

وتقول إن كلامه لا فائدة فيه فالله 9 يستر عليك انتهى
123 - ومنهم أبو القاسم ابن حاضر الجزيري الخزرجي محمد بن أحمد من جزيرة شقر قدم مصر وسكن قوص بعد ما كان من عدول بلنسية وكان فصيحا عالما بصناعة التوريق وله نظم لم يحضرني الآن شيء منه ومات بالقاهرة سنة تسع وثلاثين وستمائة رحمه الله تعالى
124 - ومنهم أبو القاسم التجيبي محمد بن أحمد التجيبي من أهل بلش قرأ على ابن مفرج وابن أبي الأحوص ورحل فاستوطن القاهرة وكان شيخا فاضلا خيرا له أدب وشعر منه قوله من أبيات
( أحوى الجفون له رقيب أحول ... الشيء في إدراكه شيئان )
( يا ليته ترك الذي أنا مبصر ... وهو المخير في الغزال الثاني )
ولد ببلش سنة 623 وتوفي بالحسينية خارج القاهرة سلخ المحرم سنة 695 وممن روى عنه نحوي الزمان أثير الدين ابو حيان وغيره رحم الله تعالى الجميع
125 - ومنهم أبو بكر الخزرجي محمد بن أحمد بن حسن وقيل محمد بن عيسى المالقي المالكي قال الشريف أبو القاسم إنه كان أحد الزهاد الورعين وعباد الله المتقين مشتغلا بنفسه متخليا عما في أيدي الناس يأكل من كسب يده ولا يقبل لأحد شيئا مع وجد وعمل وفضل وأدب

ولم يكن في زمانه من اجتمع فيه ما اجتمع له
وقال الحافظ عبد الكريم إنه دخل إشبيلية واشتغل بالعربية على الشلوبين وقرأ القراءات السبع ثم قدم مصر واشتغل بمذهب مالك وكان والده نجارا وكان لا يأكل إلا من كسب يده يخيط الثياب فازدحم الناس عليه تبركا به فترك ذلك وصار يدق القصدير ويأكل منه ويتصدق بما فضل عنه وكان شديد الزهد كثير العبادة لا يسلم يده إلى أحد ليقبلها وجاءه شخص قد زيد عليه في أجرة مسكنه ليشفع إلى صاحب الدار أن لا يقبل الزائد فمضى إلى صاحب الدار وأعطاه الزائد مدة أشهر فعلم بذلك الساكن بعد مدة فقال له يا سيدي ما سألت إلا شفاعة وأنت تزن عني فقال له رجل له دار يأخذ أجرتها يجيء إليه الخزرجي يقطع عليه حقه والله ما يدفع هذا إلا أنا فلم يزل يدفع الزائد إلى أن انتقل الساكن إلى غيره ومات ليلة الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة 651 عن خمس وأربعين سنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى ونفعنا
126 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن خليل بن فرج الهاشمي مولاهم لأن ولاءه لبني العباس من أهل قرطبة ولد في شهر رمضان سنة 322 بقرطبة وسمع بها من وهب بن مسرة وخالد بن سعيد وغيره ورحل فحج وأدرك بمصر ابن الورد وابن رشيق وأبا علي بن السكن ونظراءهم في سنة 349 وعاد إلى بلده وبها مات في شهر رمضان سنة ست وأربعمائة قال ابن بشكوال كان رجلا صالحا فاضلا من أهل الاجتهاد في العبادة مائلا إلى التقشف والزهادة قديم الطلب حسن المذهب متبعا للسنن
127 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن سليمان بن أحمد بن إبراهيم الزهري الأندلسي الإشبيلي ولد بمالقة وطاف الأندلس وطلب العلم وحصل طرفا صالحا من علم الأدب ودخل مصر قبل التسعين وخمسمائة فسمع الحديث بها ودخل الشام وبلاد الجزيرة وقدم بغداد سنة 590 وعمره ثلاثون سنة وأقام بها مدة وسمع من شيوخها كأبي الفرج ابن كليب ونحوه وقرأ ونسخ بخطه وسافر إلى أصبهان وبلاد الجبل وكان فاضلا حسن المعرفة بالأدب يقول الشعر وينشئ المقامات وصنف كتاب البيان والتبيين في أنساب المحدثين ستة أجزاء وكتاب البيان فيها أبهم من الأسماء في القرآن مجلد وكتاب أقسام البلاغة وأحكام الصناعة في مجلدين وكتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي في خمسة عشر مجلدا وكتاب شرح المقامات مجلد وكتاب شرح اليميني في مجلد قال المنذري توفي شهيدا قتله التتار في رجب وقال ابن النجار في سابع عشر رجب سنة 617 رحمه الله تعالى
128 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الأعلى بن القاسم القرطبي المقرىء المعروف بالورشي نسبة إلى قراءة ورش لاشتهاره بها وهو أحد القراء المعروفين قال الحاكم هو من الصالحين المذكورين بالتقدم في علم القرآن سمع بمصر والشام والحجاز والعراقين والجبل وأصبهان وورد نيسابور ودخل خراسان فسمع علي بن المرزبان بأصبهان وبالأهواز عبد الواحد ابن خلف الجنديسابوري وبفارس أحمد بن عبد الرحمن بن الجارود الرقي

وقال ابن النجار قدم بغداد وحدث بها توفي بسجستان في ربيع الأول سنة 393
129 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الباجي اللخمي قال ابن بشكوال مولده في صفر سنة 356 وسمع عن جده ورحل إلى المشرق وقال ابن غلبون في مشيخته إنه كان من أهل العلم والحديث والرواية والحفظ للمسائل قائما بها واقفا عليها قاعدا للشروط محسنا لها عارفا وبيتهم بيت علم ونشأ فيه هو وأبوه وجده وكان جميعهم في الفضل والتقدم على درجاتهم في السن وعلى منازلهم في السبق وكانت رحلته مع أبيه وروايتهما واحدة وشاركه في السماع والرواية عن جده وسمع بمصر من أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن حميد بن زريق المخزومي
وقال ابن بشكوال كان من أجل الفقهاء عندنا دراية ورواية بصيرا بالعقود ومتقدما على أهل الوثائق عارفا بعللها وألف فيها كتابا حسنا وكتابا في السجلات إلى ما جمع فيه من أقوال الشيوخ والمتأخرين مع ما كان عليه من الطريقة المثلى وتوفية العلم حقه من الوفاء والتصون توفي في المحرم سنة 433 لعشرين بقين منه
130 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد العزيز العتبي الأندلسي القرطبي الفقيه المالكي المشهور صاحب العتبية سمع بالأندلس من يحيى بن يحيى وسعيد بن حسان وغيرهما ورحل إلى المشرق فسمع من سحنون وأصبغ بن الفرج وغيرهما وكان حافظا للمسائل جامعا لها عالما بالنوازل وهو الذي جمع المستخرجة من الأسمعة المسموعة غالبا من مالك

ابن أنس وتعرف بالعتبية وأكثر فيها من الروايات المطروحة والمسائل الغريبة الشاذة وكان يؤتى بالمسألة الغريبة الشاذة فإذا سمعها قال أدخلوها في المستخرجة ولذا روى عن ابن وضاح أنه كان يقول المستخرجة فيها خطأ كثير كذا قال ولكن الكتاب وقع عليه الاعتماد من أعلام المالكية كابن رشد وغيره قال ابن يونس توفي بالأندلس سنة 255
والعتبي نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان بن حرب وقيل إلى جد للمذكور يسمى عتبة وقيل إلى ولاء عتبة بن أبي يعيش
131 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن زكريا المعافري المقرىء الفرضي الأديب ولد بالأندلس سنة 591 ونشأ ببلنسية وأقام بالإسكندرية وقرأ القرآن على أصحاب ابن هذيل ونظم قصيدة في القراءات على وزن الشاطبية لكن أكثر أبياتا وصرح فيها بأسماء القراء ولم يرمز كما فعل الشاطبي وكانت له يد في الفرائض والعروض مع معرفة القراءات والأدب
ومن شعره
( إذا ما اشترت بنت أباها فعتقها ... بنفس الشرا شرعا عليها تأصلا )
( وميراثه إن مات من غير عاصب ... ومن غير ذي فرض لها قد تأثلا )
( لها النصف بالميراث والنصف بالولا ... فإن وهب ابنا أو شراه تفضلا )
( فأعتق شرعا ذلك الابن ما لها ... سوى الثلث والثلثان للأخ أصلا )
( وميراثها فيه إذا مات قبلها ... كميراثها في الأب من قبل يجتلى )
( ومولى أبيها ما لها الدهر فيه من ... ولاء ولا إرث مع الأب فاعتلى )
وهذه المسألة ذكر الغزالي في الوسيط أنه قضى فيها أربعمائة قاض وغلطوا وصورتها ابنة اشترت أباها فعتق عليها ثم اشترى الأب ابنا فعتق عليه ثم

اشترى الأب عبدا فأعتقه ثم مات الأب فورثه الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين ثم مات العبد المعتق فلمن يكون ولاؤه وفرضها المالكية على غير هذا الوجه وهي مشهورة
132 - ومنهم محمد بن أحمد بن محمد بن سهل أبو عبد الله الأموي الأندلسي الطليطلي المعروف بالنقاش نزل مصر وقعد للإقراء بجامع عمرو بن العاص وأخذ عنه جماعة وتوفي بمصر سنة 529
133 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد القيسي القبري القرطبي المؤدب رحل من الأندلس سنة 342 فسمع بمصر من أبي محمد ابن الورد وأبي قتيبة مسلم بن الفضل البغدادي وغيره وكان صالحا خيرا مؤدبا سمع من الناس كثيرا وتوفي سنة 362
والقبري بفتح القاف وسكون الباء الموحدة ثم راء مهملة - نسبة إلى قبرة بلد بالأندلس بقرب قرطبة بنحو ثلاثين ميلا
134 - ومنهم جمال الدين أبو بكر الوائلي محمد بن أحمد بن محمد ابن عبد الله بن سجمان الشريشي المالكي ولد بشريش سنة 601 ورحل فسمع بالإسكندرية من ابن عماد الحراني وبدمشق من مكرم بن أبي الصقر وبحلب من أبي البقاء يعيش بن علي النحوي وسمع بإربل وبغداد وأقام بالمدرسة الفاضلية من القاهرة مدة يفيد الناس فتخرج به جماعة وولي مشيخة المدرسة بالقدس ومشيخة الرباط الناصري بالجبل وأقام بدمشق يفتي

ويدرس وكان من العلماء الزهاد كثير العبادة والورع والزهد أحد الأئمة المبرزين المتبحرين في العربية والفقه على مذهب الإمام مالك والتفسير والأصول وصنف كتابا في الاشتقاق وشرح ألفية ابن معطي وأخذ عنه الناس وطلب للقضاء بدمشق فامتنع منه زهدا وورعا وبقي المنصب لأجله شاغرا إلى أن مات برجب سنة 685 ودفن بقاسيون
وسجمان بسين مهملة مضمومة ثم جيم ساكنة بعدها ميم مفتوحة ونون
135 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج القرطبي المعروف والده بالقنتوري وكان جد أبيه مفرج صاحب الركاب للحكم بن عبد الرحمن الداخل وكان أبوه أحمد بن يحيى رجلا صالحا وولد هو سنة 315 وكان سكناه بقرطبة بقرب عين قنت أورية وسمع بقرطبة من قاسم ابن أصبغ كثيرا ومن ابن أبي دليم والخشني ورحل سنة 337 فسمع بمكة من ابن الأعرابي ولزمه حتى مات وسمع بها من جماعة غيره وسمع بجدة والمدينة النبوية على ساكنها الصلاة والسلام ودخل صنعاء وزبيد وعدن وسمع بها من جماعة وسمع بمصر من البرقي صاحب أحمد البزار وسمع من السيرافي وجماعة كثيرة وسمع بغزة وعسقلان وطبرية ودمشق وطرابلس وبيروت وصيدا والرملة وصور وقيسارية والقلزم والفرما والإسكندرية فبلغت عدة شيوخه إلى مائتين وثلاثين شيخا وروى عنه أبو عمر الطلمنكي وجماعة وكتب تاريخ مصر عن مؤلفه أبي سعيد ابن يونس وروى عنه ابن يونس وهو من أقرانه وعاد إلى الأندلس من رحلته سنة 345 واتصل بالحكم المستنصر وصارت له عنده مكانة وألف له عدة كتب واستقضاه على

إستجة ثم على المرية ومات برجب سنة 348
قال الحميدي هو محدث حافظ جليل صنف كتبا في فقه الحديث وفي فقه التابعين فمنها فقه الحسن البصري في سبع مجلدات و فقه الزهري في أجزاء كثيرة وسمع مسند ابن الفرضي وحديث قاسم بن أصبغ
قال ابن الفرضي وكان عالما بالحديث بصيرا برجاله صحيح النقل حافظا جيد الكتابة على كثرة ما جمع
وقال ابن عفيف في حقه إنه كان من أعنى الناس بالعلم وأحفظهم للحديث وأبصرهم بالرجال ما رأيت مثله في هذا الفن من أوثق المحدثين بالأندلس وأصحهم كتبا وأشدهم تعبا لروايته وأجودهم ضبطا لكتبه وأكثرهم تصحيحا لها لا يدع فيها شبهة رحمه الله تعالى
136 - ومنهم أبو عبد الله القيسي الوضاحي محمد بن أحمد بن موسى رحل من المغرب وسمع من السلفي وغيره جملة صالحة ثم عاد إلى الأندلس بعد الحج وسكن المرية مدة وبها مات سنة 539 وقيل في التي بعدها وكان من أظرف الناس وأحسنهم أدبا فقيها فاضلا ثقة ذا فرائد جمة عفيفا معتنيا بالعلم محمد بن أحمد العبدري البلنسي 352 محمد بن أحمد العبدري البلنسي 137 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن موسى بن هذيل العبدري البلنسي ولد سنة 519 وسمع من أبيه وجماعة ورحل حاجا فسمع من السلفي وابن عوف والحضرمي والتنوخي والعثماني وغيرهم

ورجع بعد الحج إلى الأندلس فحدث وكان غاية في الصلاح والورع وأعمال البر وله حظ من علم العبارة ومشاركة في اللغة وكتب بخطه على ضعفه كثيرا رحمه الله تعالى
138 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد بن نوح الإشبيلي ومولده سنة إحدى وثلاثين وستمائة بإشبيلية وجال في بلاد المغرب والمشرق وقرأ على الشيوخ الفضلاء وحصل كثيرا في علم القرآن والأدب وله نظم ونثر وكان كثير التلاوة للقرآن جيد الأداء له وأقام بدمشق حتى مات بها سنة 699 رحمه الله تعالى
139 - ومنهم محمد بن أسباط المخزومي القرطبي روى عن يحيى ابن يحيى وقدم مصر فسمع من الحارث بن مسكين وكان حافظا للفقه عالما توفي سنة 279
140 - ومنهم أبو بكر محمد بن إسحاق الشهير بابن السليم قاضي الجماعة بقرطبة مولده سنة 306 روى عن قاسم بن أصبغ وطبقته ورحل سنة 332 فسمع بمكة من ابن الأعرابي وبمصر من الزبيري وابن النحاس وغيرهما وعاد إلى الأندلس فأقبل على الزهد ودراسة العلم وحدث فسمع منه الناس وكان حافظا للفقه بصيرا بالاختلاف حسن الخط والبلاغة متواضعا وتوفي بجمادى الأولى سنة 367 وسليم بفتح السين مكبرا
141 - ومنهم موسى بن بهيج المغربي الأندلسي الواعظ الفقيه العالم

من أهل المرية نزل مصر يكنى أبا عمران كان من أهل العلم والأدب وله في الزهد وغيره أشعار حملت عنه وحدث المرشاني عنه بمخمسة في الحج وأعماله كلها ولقيه بمصر وقرأها عليه
ولابن بهيج هذا قوله
( إنما دنياك ساعه ... فاجعل الساعة طاعه )
( واحذر التقصير فيها ... واجتهد ما قدر ساعه )
( وإذا أحببت عزا ... فالتمس عز القناعه )
142 - ومنهم أبو عمران موسى بن سعادة مولى سعيد بن نصر من أهل مرسية سمع صهره أبا علي ابن سكرة الصدفي وكانت بنته عند أبي علي ولازمه وأكثر عنه وروى عن أبي محمد بن مفوز الشاطبي وأبي الحسن بن شفيع قرأ عليهما الموطأ ورحل وحج وسمع السنن من الطرطوشي وعني بالرواية وانتسخ صحيحي البخاري ومسلم بخطه وسمعهما على صهره أبي علي وكانا أصلين لا يكاد يوجد في الصحة مثلهما حكى الفقيه أبو محمد عاشر بن محمد أنه سمعا على أبي علي نحو ستين مرة وكتب أيضا الغريبين للهروي وغير ذلك وكان أحد الأفاضل الصلحاء والأجواد السمحاء يؤم الناس في صلاة الفريضة ويتولى القيام بمؤن صهره أبي علي وبما يحتاج إليه من دقيق الأشياء وجليلها وإليه أوصى عند توجهه إلى غزوة كتندة التي فقد فيها سنة أربع عشرة وخمسمائة وكانت له مشاركة في علم اللغة والأدب وقد حدث عنه ابن أخيه القاضي أبو عبد الله محمد بن يوسف بن سعادة بكتاب أدب الكتاب لابن قتيبة وبالفصيح لثعلب

143 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن طاهر الأزدي من أهل وادي آش له رحلة إلى المشرق أدى فيها الفريضة وسمع بدمشق من أبي طاهر الخشوعي مقامات الحريري وابن عساكر وغيرهما ثم قفل إلى بلده انتهى ملخصا من ابن الأبار
وحكى الصفدي أن ابن المستكفي اجتمع بالمتنبي بمصر وروى عنه شيئا من شعره ومما روى عنه أنه قال أنشدني المتنبي لنفسه
( لاعبت بالخاتم إنسانة ... كمثل بدر في الدجى الفاحم )
( وكلما حاولت أخذي له ... من البنان المترف الناعم )
( ألقته في فيها فقلت انظروا ... قد خبت الخاتم في الخاتم )
144 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق أبو عبد الله ابن مالك صاحب التسهيل والألفية وهو جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الإمام العلامة الأوحد الطائي الجياني المالكي حين كان بالمغرب الشافعي حين انتقل إلى المشرق النحوي نزيل دمشق
ولد سنة ستمائة أو في التي بعدها وسمع بدمشق من مكرم وأبي صادق الحسن بن صباح وأبي الحسن السخاوي وغيرهم وأخذ العربية عن غير واحد فممن أخذ عنه بجيان أبو المظفر وقيل أبو الحسن ثابت بن خيار عرف بابن الطيلسان وأبي رزين بن ثابت بن محمد بن يوسف بن خيار الكلاعي

من أهل لبلة وأخذ القراءات عن أبي العباس أحمد بن نوار وقرأ كتاب سيبويه على أبي عبد الله ابن مالك المرشاني وجالس يعيش وتلميذه ابن عمرون وغيره بحلب وتصدر بها لإقراء العربية وصرف همته إلى إتقان لسان العرب حتى بلغ فيه الغاية وأربى على المتقدمين وكان إماما في القراءات وعالما بها وصنف فيها قصيدة دالية مرموزة في قدر الشاطبية وأما اللغة فكان إليه المنتهى فيها
قال الصفدي أخبرني أبو الثناء محمود قال ذكر ابن مالك يوما ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة قال الصفدي وهذا أمر معجز لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين وأخبرني عنه أنه كان إذا صلى في العادلية - لأنه كان إمام المدرسة - يشيعه قاضي القضاة شمس الدين بن خلكان إلى بيته تعظيما له وقد روى عنه الألفية شهاب الدين محمود المذكور ورواها الصفدي خليل عن شهاب الدين محمود قراءة ورواها إجازة عن ناصر الدين شافع بن عبد الظاهر وعن شهاب الدين بن غانم بالإجازة عنهما عنه وأما النحو والتصريف فكان فيهما ابن مالك بحرا لا يشق لجه وأما اطلاعه على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة فكان أمرا عجيبا وكان الأئمة الأعلام يتحيرون في أمره وأما الاطلاع على الحديث فكان فيه آية لأنه كان أكثر ما يستشهد بالقرآن فإن لم يكن فيه شاهد عدل إلى الحديث وإن لم يكن فيه شيء عدل إلى أشعار العرب هذا مع ما هو عليه من الدين والعبادة وصدق اللهجة وكثرة النوافل وحسن السمت وكمال العقل

وأقام بدمشق مدة يصنف ويشتغل بالجامع وبالتربة العادلية وتخرج به جماعة وكان نظم الشعر عليه سهلا رجزه وطويله وبسيطه وصنف كتاب تسهيل الفوائد قال الصفدي ومدحه سعد الدين محمد بن عربي بأبيات مليحة إلى الغاية وهي
( إن الأمام جمال الدين جمله ... رب العلا ولنشر العلم أهله )
( أملى كتابا له يسمى الفوائد لم ... يزل مفيدا لذي لب تأمله )
( وكل مسألة في النحو يجمعها ... إن الفوائد جمع لا نظير له )
قال وفي هذه الأبيات مع حسن التورية فيها ما لا يخلو من إيراد ذكرته في كتابي فض الخاتم انتهى
قلت أجاب العجيسي عن ذلك بأن الأبيات ليست في التسهيل وإنما هي في كتاب له يسمى الفوائد وهو الذي لخصه في التسهيل فقوله في اسم التسهيل تسهيل الفوائد معناه تسهيل هذا الكتاب وذكر أيضا أنه مثل التسهيل في القدر على ما ذكره من وقف عليه وقال وإليه يشير سعد الدين محمد بن عربي بقوله إن الإمام - إلى آخره وسعد الدين ابن الشيخ محيي الدين صاحب الفصوص وغيرها ثم قال العجيسي وذكر غير واحد من أصحابنا أن له كتابا آخر سماه بالمقاصد وضمنها تسهيله فسماه لذلك تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد فعلى هذا لا يصح قول الصفدي إن المدح المذكور في التسهيل إلا بارتكاب ضرب من التأويل انتهى كلام العجيسي قلت وذكر غيره أن قوله في الألفية مقاصد النحو بها محوية إشارة لكتاب المقاصد وتعقب بقوله محوية فإنه لو كان كما ذكر لقال محوي

وأجاب بعضهم بأنه من باب الاستخدام وفيه تعسف رجع - ومن تصانيف ابن مالك الموصل في نظم المفصل وقد حل هذا النظم فسماه سبك المنظوم وفك المختوم ومن قال إن اسمه فك المنظوم وسبك المختوم فقد خالف النقل والعقل ومن كتب ابن مالك كتاب الكافية الشافية ثلاثة آلاف بيت وشرحها والخلاصة وهي مختصر الشافية و إكمال الإعلام بمثلث الكلام وهو مجلد كبير كثير الفوائد يدل على اطلاع عظيم و لامية الأفعال وشرحها و فعل وأفعل و المقدمة الأسدية وضعها باسم ولده الأسد و عدة اللافظ وعمدة الحافظ و النظم الأوجز فيما يهمز و الاعتضاد في الظاء والضاد مجلد و إعراب مشكل البخاري و تحفة المودود في المقصور والممدود وغير ذلك كشرح التسهيل وروى عنه ولده بدر الدين محمد وشمس الدين بن جعوان وشمس الدين بن أبي الفتح وابن العطار وزين الدين أبو بكر المزي والشيخ أبو الحسين اليونيني وأبو عبد الله الصيرفي وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وشهاب الدين محمود وشهاب الدين بن غانم وناصر الدين بن شافع وخلق كثير سواهم
ومن نظمه في الحلبة
( خيل السباق المجلي يقتفيه مصل ... والمسلي وتال قبل مرتاح )
( وعاطف وحظي والمؤمل واللطيم ... والفسكل السكيت يا صاح )
وله من هذه الضوابط شيء كثير وكان يقول عن الشيخ ابن الحاجب إنه أخذ نحوه من صاحب المفصل وصاحب المفصل نحوه صغيرات وناهيك بمن يقول هذا في حق الزمخشري وكان الشيخ ركن الدين بن القوبع يقول إن ابن مالك ما خلى للنحو حرمة
وحكي عنه أنه كان يوما في الحمام وقد اعتزل في مكان يستعمل فيه الموسى فهجم عليه فتى فقال ما تصنع فقال أكنس لك الموضع للقعود قال

بعضهم وهذا مما يستبعد على دين ابن مالك والعهدة على ناقله قال الصفدي ولا يستبعد ذلك من لطف النحاة وطباع أهل الأندلس وتوفي ابن مالك بدمشق سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقال بعضهم من أحسن شعر ابن مالك قوله
( إذا رمدت عيني تداويت منكم ... بنظرة حسن أو بسمع كلام )
فإن لم أجد ماء تيممت باسمكم ... وصليت فرضي والديار أمامي )
( وأخلصت تكبيري عن الغير معرضا ... وقابلت أعلام السوى بسلام )
( ولم أر إلا نور ذاتك لائحا ... فهل تدع الشمس امتداد ظلام )
وقدم - رحمه الله تعالى - القاهرة ثم رحل إلى دمشق وبها مات كما علم
وقال الشرف الحصني يرثيه
( يا شتات الأسماء والأفعال ... بعد موت ابن مالك المفضال )
( وانحراف الحروف من بعد ضبط ... منه في الانفصال والاتصال )
( مصدرا كان للعلوم بإذن الله ... من غير شبهة ومحال )
( عدم النعت والتعطف والتو كيد ... مستبدلا من الأبدال )
( ألم اعتراه أسكن منه ... حركات كانت بغير اعتلال )
( يا لها سكتة لهمز قضاء ... أورثت طول مدة الانفصال )
( رفعوه في نعشه فانتصبنا ... نصب تمييز كيف سير الجبال )
( فخموه عند الصلاة بدل ... فأميلت أسراره للدلال )
( صرفوه يا عظم ما فعلوه ... وهو عدل معرف بالجمال )
( أدغموه في الترب من غير مثل ... سالما من تغير الانتقال )

وابن النحاس المذكور له نظم كثير مشهور بين الناس وهو بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن نصر الحلبي الأصل المعروف بابن النحاس وهو شيخ أبي حيان ولم يأخذ أبو حيان عن ابن مالك وإن عاصره بنحو ثلاثين سنة وقال بعض من عرف بابن مالك إنه تصدر بحلب مدة وأم بالسلطانية ثم تحول إلى دمشق وتكاثر عليه الطلبة وحاز قصب السبق وصار يضرب به المثل في دقائق النحو وغوامض الصرف وغريب اللغات وأشعار العرب مع الحفظ والذكاء والورع والديانة وحسن السمت والصيانة والتحري لما ينقله والتحرير فيه وكان ذا عقل راجح حسن الأخلاق مهذبا ذا رزانة وحياء ووقار وانتصاب للإفادة وصبر على المطالعة الكثيرة تخرج به أئمة ذلك الزمان كابن المنجي وغيره وسارت بتصانيفه الركبان وخضع لها العلماء الأعيان وكان حريصا على العلم حتى إنه حفظ يوم موته ثمانية شواهد وقال بعض الحفاظ حين عرف بابن مالك يقال إن عبد الله في نسبه مذكور مرتين متواليتين وبعض يقول مرة واحدة وهو الموجود بخطه أول شرحه لعمدته وهو الذي اعتمده الصفدي وابن خطيب داريا محمد بن أحمد بن سليمان الأنصاري وعلى كل حال فهو مشهور بجده في المشرق والمغرب وحكى بعضهم أن ولادته سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وعليه عول شيخ شيوخ شيوخنا ابن غازي في قوله
( قد خبع ابن مالك في خبعا ... وهو ابن عه كذا وعى من قد وعى ) وقيل كما تقدم إن مولده سنة ستمائة أو بعدها بجيان الحرير مدينة من مدن الأندلس جبر الله كسرها وهي مفتوحة الجيم وياؤها مشددة تحتانية وتصدر ابن مالك بحماة مدة وانتقد بعضهم على ابن خلكان إسقاطه من تاريخه

مع كونه كان يعظمه إلى الغاية وقدم رحمه الله تعالى لصاحب دمشق قصة يقول فيها عن نفسه إنه أعلم الناس بالعربية والحديث ويكفيه شرفا أن من تلامذته الشيخ النووي والعلم الفارقي والشمس البعلي والزين المزي وغيرهم ممن لا يحصى وكان رحمه الله تعالى كثير المطالعة سريع المراجعة لا يكتب شيئا من محفوظه حتى يراجعه في محله وهذه حالة المشايخ الثقات والعلماء الأثبات ولا يرى إلا وهو يصلي أو يتلو أو يصنف أو يقرأ وكذا كان الشيخ أبو حيان ولكن كان جده في التصنيف والإقراء وحكي أنه توجه يوما مع أصحابه للفرجة بدمشق فلما بلغوا الموضع الذي أرادوه غفلوا عنه سويعة فطلبوه فلم يجدوه ثم فحصوا عنه فوجدوه منكبا على أوراق وأغرب من هذا في اعتنائه بالعلم ما مر أنه حفظ يوم موته عدة أبيات حدها بعضهم بثمانية وفي عبارة بعض أو نحوها لقنه ابنه إياها وهذا مما يصدق ما قيل بقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى فجزاه الله خيرا عن هذه الهمة العلية
وذكر أبو حيان في الجوازم من تذييله وتكميله أنه لم يصحب من له البراعة في علم اللسان ولذا تضعف استنباطاته وتعقباته على أهل هذا الشأن وينفر من المنازعة والمباحثة والمراجعة قال وهذا شأن من يقرأ بنفسه ويأخذ العلم من الصحف بفهمه ولقد طال فحصي وتنقيري عمن قرأ عليه واستند في العلم إليه فلم أجد من يذكر لي شيئا من ذلك ولقد جرى يوما مع صاحبنا تلميذه علم الدين سليمان بن أبي حرب الفارقي الحنفي فقال ذكر لنا أنه قرأ على ثابت بن خيار من أهل بلده جيان وأنه جلس في حلقة

الأستاذ أبي علي الشلوبين نحوا من ثلاثة عشر يوما وثابت بن خيار ليس من أهل الجلالة والشهرة في هذا الشأن وإنما جلالته وشهرته في إقراء القرآن هذا حاصل ما ذكره أبو حيان
قال بعض المحققين وهو العلامة يحيى العجيسي وليس ذلك منه بإنصاف ولا يحمل على مثله إلا هوى النفس وسرعة الانحراف فنفيه المسند عنه والمتبع شهادة نفي فلا تنفع ولا تسمع ويكفي ما سطر في حقه قوله في أثنائه نظم في هذا العلم كثيرا ونثر وجمع باعتكاف على الاشتغال به ومراجعة الكتب ومطالعة الدواوين العربية وطول السن من هذا العلم غرائب وحوت مصنفاته منها نوادر وعجائب وإن منها كثيرا استخرجه من أشعار العرب وكتب اللغة إذ هي مرتبة الأكابر النقاد وأرباب النظر والاجتهاد وقوله في موضع آخر من تذييله لا يكون تحت السماء أنحى ممن عرف ما في تسهيله وقرنه في بحره بمصنف سيبويه فما ينبغي له أن يغمصه ولا أن يحط عليه ولا أن يقع فيما وقع فيه فإنه مما يجرئ على أمثاله الغبي والنبيه والحليم والسفيه وما هذا جزاء السلف من الخلف والدرر من الصدف والجيد من الحشف أو ما ينظر إلى شيخه أبي عبد الله بن النحاس فإنه لا يذكره إلا بأحسن ذكر كما هو أدب خيار الناس ومن كلامه في نقله عنه وهو الثقة فيما ينقل والفاضل حين يقول وإلى تلميذه أبي البقاء الحافظ المصري حيث يقول فيه أعني في أبي حيان
( هو الأوحد الفرد الذي تم علمه ... وسار مسير الشمس في الشرق والغرب )
( ومن غاية الإحسان مبدأ فضله ... فلا غرو أن يسمو على العجم والعرب )
ومن غاية الإحسان في هذا الشأن التصانيف التي سارت بها الركبان في جميع الأوطان واعترف بحسنها الحاضر والبادي والداني والقاصي والصديق والعدو فتلقاها بالقبول والإذعان فسامح الله تعالى أبا حيان فإن

وقال أيضا عند ذكره مصنفات ابن مالك وهي كما قيل غزيرة المسائل ولكنها على الناظر بعيدة الوسائل وهي مع ذلك كثيرة الإفادة موسومة بالإجادة وليست لمن هو في هذا الفن في درجة ابتدائه بل للمتوسط يترقى بها درجة انتهائه انتهى
واعلم أن الألفية مختصرة الكافية كما تقدم وكثير من أبياتها فيها بلفظها ومتبوعه فيها ابن معطي ونظمه أجمع وأوعب ونظم ابن معطي أسلس وأعذب وذكر الصفدي عن الذهبي أن ابن مالك صنف الألفية لولده تقي الدين محمد المدعو بالأسد واعترضه العلامة العجيسي بأن الذي صنفه له عن تحقيق المقدمة الأسدية قال وأما هذه - يعني الألفية - فذكر لي من أثق بقوله أنه صنفها برسم القاضي شرف الدين هبة الله بن نجم الدين عبد الرحيم بن شمس الدين بن إبراهيم بن عفيف الدين بن هبة الله بن مسلم بن هبة الله بن حسان الجهني الحموي الشافعي الشهير بابن البارزي ويقال إن هذه النسبة إلى باب أبرز أحد أبواب بغداد ولكن خفف لكثرة دوره على الألسنة انتهى مختصرا وقال بعض من عرف بابن مالك هو مقيم أود وقاطع لدد ومزين سماء موهت الأصائل ديباجتها وشعشعت البكر زجاجتها وجاءت أيامه صافية من الكدر ولياليه وما بها شائبة من الكبر قد خلقها العشي بردعه وخلفها الصباح بربعه فكان كل متعين حول مسجده وكل عين فاخرة بعسجده هذا وزمر الطلاب وطلبة الأجلاب لا تزال تزجي إليه القلاص وتكثر من سربه الاقتناص كان أوحد وقته في علم النحو واللغة مع كثرة الديانة والصلاح انتهى
وقال بعض المغاربة
( لقد مزقت قلبي سهام جفونها ... كما مزق اللخمي مذهب مالك )
( وصال على الأوصال بالقد قدها ... فأضحت كأبيات بتقطيع مالك )

( نورهم ذا الذي أضا ... أم مع الركب يوشع )
ورأيت مع هذا موشحا آخر لا أدري هل هو لابن زهر أم لا وهو هذا
( فتق المسك بكافور الصباح ... ووشت بالروض أعراف الرياح )
( فاسقنيها قبل نور الفلق ... )
( وغناء الورق بين الورق ... )
( كاحمرار الشمس عند الشفق ... )
( نسج المزج عليها حين لاح ... فلك اللهو وشمس الاصطباح )
( وغزال سامني بالملق ...
( وبرى جسمي وأذكى حرقى ... )
( أهيف مذ سل سيف الحدق ... )
( قصرت عنه أنابيب الرماح ... وثنى الذعر مشاهير الصفاح )
( صار بالدل فؤادي كلفا ... )
( وجفون ساحرات وطفا ... )
( كلما قلت جوى الحب انطفا ... ) أمرض القلب بأجفان صحاح ... وسبى العقل بجد ومزاح )
( يوسفي الحسن عذب المبتسم ... )
( قمري الوجه ليلي اللمم ... )
( عنتري البأس علوي الهمم ... )

( وقلدت إذ ذاك الهوى لمرادها ... كتقليد أعلام النحاة ابن مالك )
( وملكتها رقي لرقة لفظها ... وإن كنت لا أرضاه ملكا لمالك )
( وناديتها يا منيتي بذل مهجتي ... ومالي قليل في بديع جمالك )
ويعني بقوله بتقطيع مالك مالك بن المرحل السبتي رحمه الله تعالى ولما سئل ابن مالك عن قول النبي " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " هل هو بالراء أو بالنون أنكر النون فقيل له إن في الغريبين للهروي رواية بالنون فرجع عن قوله الأول وقال إنما هو بالنون انتهى وقد ذكر في المشارق النون والراء فقال الحور بعد الكور بالراء رواه العذري وابن الحذاء وللباقين بالنون معناه النقصان بعد الزيادة وقيل من الشذوذ بعد الجماعة وقيل من الفساد بعد الصلاح وقيل من القلة بعد الكثرة كار عمامته إذا لفها على رأسه واجتمعت وحارها إذا نقضها فافترقت ويقال حار إذا رجع عن أمر كان عليه ووهم بعضهم رواية النون وقيل معناها رجع إلى الفساد بعد أن كان على خير مما رجع إليه وقال عياض في موضع آخر بعد الحور بعد الكور كذا للعذري والكون للفارسي والسجزي وابن ماهان وقول عاصم في تفسيره حار بعد ما كار وهو روايته ويقال إن عاصما وهم فيه انتهى والسائل لابن مالك عن اللفظة هو ابن خلكان لأن ابن الأثير سأل ابن خلكان عنها فسأل هو ابن مالك رحم الله تعالى الجميع
تعريف بابنه بدر الدين
وقد عرف الحافظ الذهبي بابن مالك في تاريخ الإسلام وذكر فيه ترجمة لولده بدر الدين محمد وأنه كان حاد الذهن ذكيا إماما في النحو وعلم

المعاني والمنطق جيد المشاركة في الفقه والتدريس وأنه تصدر بعد والده للتدريس ومات شابا قبل الكهولة سنة 686 ومن أجل تصانيفه شرحه على ألفية والده وهو كتاب في غاية الإغلاق ويقال إنه نظير الرضي في شرح الكافية وللناس عليه حواش كثيرة رحمهم الله تعالى أجمعين
145 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن طاهر القيسي التدميري ويعرف بالشهيد كان عظيم القدر جدا بالأندلس بعيد الأثر في الخير والصلاح والعلم والنسك والانقطاع إلى الله تعالى وكان من وجوه أهل كورة تدمير ذوي البيوت الرفيعة وبرع بخصاله المحمودة فكان في نفسه فقيها عالما زاهدا خيرا ناسكا متبتلا نشأ على الاستقامة والصلاح والاهتداء والدعة وطلب العلم في حدثان سنه ورحل إلى قرطبة فروى الحديث وتفقه وناظر وأخذ بحظ وافر من علم المسألة والجواب وكان أكثر علمه وعمله الورع والتشدد فيه والتحفظ بدينه ومكسبه ورسخ في علم السنة ثم ارتحل إلى المشرق فمر بمصر حاجا فأقام بالحرمين ثمانية أعوام يتعيش فيها من عمل يده بالنسخ ثم سار إلى العراق فلقي أبا بكر الأبهري وأخذ عنه وأكثر من لقاء الصالحين وأهل العلم ولبس الصوف وقنع وتورع جدا وأعرض عن الشهوات وكان إذا سئم من النسخ الذي جعل قوته منه آجر نفسه في الخدمة رياضة لها فأصبح عابدا متقشفا منيبا مخبتا عالما عاملا منقطع القرين قد جرت منه دعوات مجابة وحفظت له كرامات ظاهرة ثم عاد إلى بلده تدمير سنة ست أو سبع وسبعين وثلاثمائة وبها أبوه أبو الحسام طاهر حيا فنزل خارج مدينة مرسية تورعا عن سكناها وعن الصلاة في جامعها فاتخذ له بيتا سقفه من حطب السدر يأوي إليه واعتمر جنينة بيده يقتات منها وصار يغزو مع المنصور محمد بن أبي عامر ثم تحول من قريته بعد عامين إلى الثغر وواصل

الرباط ونزل مدينة طلبيرة وكان يدخل منها في السرايا إلى بلد العدو فيغزو ويتقوت من سهمانة ويعول على فرس له ارتبطه لذلك وكان له بأس وشدة وشجاعة وثقافة يحدث عنه فيها بحكايات عجيبة إلى أن استشهد مقبلا غير مدبر سنة 379 أو في التي قبلها عن اثنتين وأربعين سنة وأبوه حي رحم الله تعالى الجميع
146 - ومنهم أبو عبد الله القيجاطي محمد بن عبد الجليل بن عبد الله بن جهور مولده سنة 590 بقيجاطة وكتب عنه الحافظ المنذري ومن شعره قوله
( إذا كنت تهوى من نأت عنك داره ... فحسبك ما تلقى من الشوق والبعد )
فيا ويح صب قد تضرم ناره ... ووا حر قلب ذاب من شدة الوجد )
147 - ومنهم أبو عبد الله - ويقال أبو حامد - محمد بن عبد الرحيم المازني القيسي الغرناطي ولد سنة 473 ودخل الإسكندرية سنة 508 وسمع بها من أبي عبد الله الرازي وبمصر من أبي صادق مرشد بن يحيى المديني وأبي الحسن الفراء الموصلي وأبي عبد الله محمد بن بركات بن هلال النحوي وغيرهم وحدث بدمشق وسمع أيضا بها وببغداد وقدمها سنة 556 ودخل خراسان وأقام بها مدة ثم رجع إلى الشام وأقام بحلب سنين وسكن دمشق وكان يذكر أنه رأى عجائب في بلاد شتى ونسبه بعض الناس بسبب ذلك إلى ما لا يليق وصنف في ذلك كتابا سماه تحفة الألباب وكان حافظا عالما أديبا وتكلم فيه الحافظ ابن عساكر وزنه بالكذب وقال ابن النجار ما علمته إلا أمينا

ومن شعره قوله
( تكتب العلم وتلقي في سفط ... ثم لا تحفظ لا تفلح قط ) 3
( إنما يفلح من يحفظه ... بعد فهم وتوق من غلط )
وقوله
( العلم في القلب ليس العلم في الكتب ... فلا تكن مغرما باللهو واللعب )
( فاحفظه وافهمه واعمل كي تفوز به ... فالعلم لا يجتنى إلا مع التعب )
توفي بدمشق في صفر سنة 565
148 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد السلام القرطبي من ذرية أبي ثعلبة الخشني صاحب رسول الله رحل قبل الأربعين ومائتين فحج وسمع بالبصرة من محمد بن بشار وأبي موسى الزمن ونصر ابن علي الجهضمي ولقي أبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي وسمع ببغداد من أبي عبيد القاسم بن سلام وبمكة من محمد بن يحيى العدني وبمصر من سلمة بن شبيب صاحب عبد الرزاق والبرقي وغيرهما وأدخل الأندلس علما كثيرا من الحديث واللغة والشعر وكان فصيحا جزل المنطق صارما أنوفا منقبضا عن السلطان أراده على القضاء فأبى وقال إباية إشفاق لا إباية عصيان فأعفاه وكان ثقة مأمونا وتوفي في رمضان سنة 286 عن ثمان وستين سنة رحمه الله تعالى

149 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن أيمن بن فرج القرطبي سمع من محمد بن وضاح وأكثر عنه وأخذ عن محمد الخشني وقاسم بن أصبغ وإبراهيم بن قاسم بن هلال ورحل سنة 274 فسمع بمصر من المطلب بن شعيب والمقدام بن داود الرعيني وأدرك بالعراق إسماعيل القاضي وعبد الله بن أحمد بن حنبل قال الحميدي حدث بالمغرب وبالمشرق وصنف السنن وممن روى عنه خالد بن سعيد وقال لنا أبو محمد بن حزم مصنف ابن أيمن مصنف رفيع احتوى من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات وتوفي في ذي القعدة سنة 330 بقرطبة رحمه الله تعالى
150 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن ضيفون اللخمي الرصافي القرطبي الحداد سمع بقرطبة من عبد الله بن يونس وقاسم بن أصبغ وحج سنة 339 سنة رد القرامطة الحجر الأسود إلى مكانه وسمع بمكة من ابن الأعرابي وبمصر من ابن الورد وأبي علي بن السكن وعبد الكريم النسائي وغيرهم وسمع بأطرابلس والقيروان من جماعة وكان رجلا صالحا عدلا حدث وكتب عنه الناس وعلت سنه وتوفي بشوال سنة 394 وولد فيما أظن سنة 302 وكانت وفاته بقرطبة وقد اضطرب في أشياء قرئت عليه وممن أخذ عنه الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحم الله تعالى الجميع

151 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الملك الخزرجي السعدي القرطبي روى عن أبي الحسن علي بن هشام وروى عنه أبو القاسم بن بشكوال وقدم مصر وحدث بها وممن سمع منه بهاء بن وردان وأبو الرضى القيسراني في آخرين واستوطن مصر وتوفي سنة 588
152 - ومنهم أبو بكر بن السراج النحوي بتشديد الراء وهو محمد بن عبد الملك بن محمد بن السراج الشنتمري أحد أئمة العربية المبرزين فيها ويكفيه فخرا أنه أستاذ أبي محمد عبد الله بن بري المصري اللغوي النحوي وحدث عن أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد النفطي وقرأ العربية بالأندلس على ابن أبي العافية وابن الأخضر وقدم مصر سنة 515 وأقام بها وأقرأ الناس العربية ثم انتقل إلى اليمن وروى عنه أبو حفص عمر بن إسماعيل وأبو الحسن علي والد الرشيد العطار وله تواليف منها تنبيه الألباب في فضل الإعراب وكتاب في العروض وكتاب مختصر العمدة لابن رشيق وتنبيه أغلاطه قال السلفي كان من أهل الفضل الوافر والصلاح الظاهر وكانت له حلقة في جامع مصر لإقراء النحو وكثيرا ما كان يحضر عندي - رحمه الله تعالى - مدة مقامي بالفسطاط توفي بمصر سنة 549 وقيل سنة خمس وأربعين وقيل خمسين وخمسمائة برمضان والأول أثبت
153 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي بن سعيد العنسي ويكنى أيضا أبا القاسم الغرناطي سمع من الجلة بمصر والإسكندرية ودمشق وبغداد منهم الحراني أبو عبد الله وأبو محمد عبد الصمد

ابن داود بدمشق وكتب الحديث وعني بالرواية أتم عناية وفقد بأصبهان حين استولى عليها التتار قبل الثلاثين وستمائة
154 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الدفاع بالدال المهملة وقيل بالراء قرطبي سمع عبد الملك بن حبيب ورحل فسمع بمصر من الحارث بن مسكين وغيره وكان زاهدا فاضلا وتوفي سنة 281 رحمه الله تعالى
155 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن عابد المعافري القرطبي ولد بقرطبة سنة 358 ودخل مصر فسمع من أبي بكر بن المهندس وأبي بكر البصري وروى عن أبي عبد الله بن مفرج وأبي محمد الأصيلي وجماعة ولقي الشيخ أبا محمد بن أبي زيد في رحلته سنة 381 فسمع منه رسالته في الفقه وغيرها وحج من عامه ثم عاد من مصر إلى المغرب سنة 382 وكان معتنيا بالأخبار والآثار ثقة فيما رواه وعني به خيرا فاضلا دينا متواضعا متصاونا مقبلا على ما يعنيه صاحب حظ من الفقه وبصر بالمسائل ودعي إلى الشوري بقرطبة فأبى ومات سنة 439 وعابد جده بالباء الموحدة رحم الله تعالى الجميع
156 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سليمان بن عثمان بن هاجد الأنصاري البلنسي أخذ القراءات عن جماعة من أهل بلده وخرج حاجا سنة 571 فجاور بمكة وسمع بها وبالإسكندرية من السلفي وعاد إلى بلده

سنة 596 وحدث وكان من أهل الصلاح والفضل والورع كثير البر ومفاداة الأسرى ويحترف بالتجارة ومولده بعد سنة 530 ومات سنة 598 بمرسية رحمه الله تعالى
157 - ومنهم أبو الوليد محمد بن عبد الله بن محمد بن خيرة القرطبي المالكي الحافظ ولد سنة 479 وأخذ الفقه عن القاضي أبي الوليد بن رشد والحديث عن ابن عتاب وروى الموطأ عن أبي بحر سفيان بن العاص بن سفيان وأخذ الأدب عن أبي الحسين سراج بن عبد الملك بن سراج الأموي وعن مالك بن عبد الله العتبي وخرج من قرطبة في الفتنة بعد ما درس بها وانتفع الناس به في فروع الفقه وأصوله وأقام بالإسكندرية خوفا من بني عبد المؤمن بن علي ثم قال كأني والله بمراكبهم قد وصلت إلى الإسكندرية ثم سافر إلى مصر بعد ما روى عنه السلفي وأقام بها مدة ثم قال والله ما مصر والإسكندرية بمتباعدتين ثم سافر إلى الصعيد وحدث في قوص بالموطأ ثم قال والله ما يصلون إلى مصر ويتأخرون عن هذه البلاد فمضى إلى مكة وأقام بها ثم قال وتصل إلى هذه البلاد ولا تحج ما أنا إلا هربت منه إليه ! ثم دخل اليمن فلما رآها قال هذه أرض لا يتركها بنو عبد المؤمن فتوجه إلى الهند فأدركه وفاته بها سنة 551 وقيل بل مات بزبيد من مدن اليمن وكان من جلة العلماء الحفاظ متقنا متفننا في المعارف كلها جامعا لها كثير الرواية واسع المعرفة حافل الأدب من كبار فقهاء المالكية

يتصرف في علوم شتى حافظا للآداب عارفا بشعراء الأندلس وكان علمه أوفر من منطقه ولم يرزق فصاحة ولا حس إيراد والله اعلم
قال ابن نقطة خيرة بكسر الخاء المعجمة وفتح الياء المنقوطة من تحتها باثنتين
158 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل السلمي المرسي قال ابن النجار ولد بمرسية سنة 570 وقال غيره في التي قبلها وخرج من بلاد المغرب سنة 607 ودخل مصر وسار إلى الحجاز ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنظامية ثم سافر إلى خراسان وسمع بنيسابور وهراة ومرو وعاد إلى بلاد بغداد وحدث بكتاب السنن الكبير للبيهقي عن منصور بن عبد المنعم الفراوي وبكتاب غريب الحديث للخطابي وقدم إلى مصر فحدث بالكثير عن جماعة منهم أم المؤيد زينب وأبو الحسن المؤيد الطوسي وخرج من مصر يريد الشام فمات بين الزعقة والعريش من منازل الرمل في ربيع الأول سنة 655 ودفن بتل الزعقة وكان من الأئمة الفضلاء في جميع فنون العلم من علوم القرآن والحديث والفقه والخلاف والأصلين والنحو واللغة وله فهم ثاقب وتدقيق في المعاني مع النظم والنثر المليح وكان زاهدا متورعا حسن الطريقة متدينا كثير العبادة فقيها مجردا متعففا نزه النفس قليل المخالطة لأوقاته طيب الأخلاق متوددا كريم النفس

قال ابن النجار ما رأيت في فنه مثله وكان شافعي المذهب وله كتاب تفسير القرآن سماه ري الظمآن كبيار جدا وكتاب الضوابط الكلية في النحو وتعليق على الموطأ وكان مكثرا شيوخا وسماعا وحدث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز وكانت له كتب في البلاد التي ينتقل إليها بحيث إنه لا يستصحب كتبا في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه وكان كريما قال أبو حيان أخبرني الشرف الجزائري بتونس أنه كان على رحلة وكان ضعيفا فقال له خذ ما تحت هذه السجادة أو البساط فرفعت ذلك فوجدت تحته نحو من أربعين دينارا ذهبا فأخذتها وقال الجمال اليغموري أنشدني لنفسه بالقاهرة
( قالوا فلان قد أزال بهاءه ... ذاك العذار وكان بدر تمام )
( فأجبتهم بل زاد نور بهائه ... ولذا تضاعف فيه فرط غرامي )
( استقصرت ألحاظه فتكاتها ... فأتى العذار يمدها بسهام )
ومن شعره قوله
( من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتباع المصطفى فيما أتى )
( ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى )
( فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحت فذاك إذا اتبعت هو الهدى )
( ودع السؤال بكم وكيف فإنه ... باب يجر ذوي البصيرة للعمى )
( الدين ما قال النبي وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا )

159 - ومنهم أبو بكر محمد بن عبد الله البنتي الأندلسي الأنصاري قدم مصر وأقام بالقرافة مدة وكان شيخا صالحا زاهدا فاضلا وتوجه إلى الشام فهلك قال الرشيد العطار كان من فضلاء الأندلسيين ونبهائهم ساح في الأرض ودخل بلاد العجم وغيرها من البلاد البعيدة وكان يتكلم بألسنة شتى
ومن شعره قوله
( إذا قل منك السعي فالعزم ناشد ... وكل مكان في مرائك واحد )
( توجه بصدق واتق المين واقتصد ... تجئك رهينات النجاح المقاصد )
والبنتي - بضم الباء وسكون النون - نسبة إلى بنت حصن بالأندلس ويقال بونت بزيادة واو
160 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخولاني الباجي ثم الإشبيلي المعروف بابن القوق سمع بقرطبة من جماعة ورحل إلى المشرق سنة 266 فسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وغيره وبمصر من محمد بن عبد الحكم ومن أخيه سعد وكان فقيها في الرأي حافظا له عاقدا للشروط قال ابن الفرضي كان رجلا صالحا ورعا ثقة وكان خالد بن سعيد قد رحل إليه وسمع منه وكان يقول إذا حدث عنه كان من معادن الصدق توفي سنة 308
161 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللوشي الطبيب اشتغل بالطب وبرع فيه وأقام بمصر مدة وبها مات في عشر الستين وستمائة

162 - ومنهم أبو عبد الله محمد بن عبدون العذري القرطبي رحل سنة 337 فدخل مصر والبصرة وعني بعلم الطب ودبر مارستان مصر ثم رجع إلى الأندلس سنة 360 واتصل بالحكم المستنصر وابنه المؤيد وله في التكسير كتاب حسن قال صاعد تمهر في الطب ونبل فيه وأحكم كثيرا من أصوله وعانى صنعة المنطق معاناة صحيحة وكان شيخه فيه أبو سليمان محمد بن محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني البغدادي وكان قبل أن يتطبب مؤدبا للحساب والهندسة وأخبرني أبو عثمان سعيد الطليطلي أنه لم يلق في قرطبة من يلحق محمد بن عبدون في صناعة الطب ولا يجاريه في ضبطها وحسن دربته فيها وإحكامه لغوامضها رحمه الله تعالى
163 - ومن الراحلين إلى المشرق من أهل الأندلس أبو مروان عبد الملك بن أبي بكر محمد بن مروان بن زهر الإيادي الأندلسي صاحب البيت الشهير بالأندلس رحل المذكور إلى المشرق وتطبب به زمانا وتولى رئاسة الطب ببغداد ثم بمصر ثم القيروان ثم استوطن مدينة دانية وطار ذكره فيها إلى أقطار الأندلس والمغرب واشتهر بالتقدم في علم الطب حتى بز أهل زمانه ومات في مدينة دانية رحمه الله تعالى ووالده محمد بن مروان كان عالما بالرأي حافظا للأدب فقيها حاذقا بالفتوى متقدما فيها متقنا للعلوم فاضلا جامعا للدراية والرواية وتوفي بطلبيرة سنة 422 وهو ابن ست وثمانين سنة حدث عنه جماعة من علماء

الأندلس ووصفوه بالدين والفضل والجود والبذل رحمه الله تعالى
وأما أبو العلاء زهر بن عبد الملك المذكور فقال ابن دحية فيه إنه كان وزير ذلك الدهر وعظيمه وفيلسوف ذلك العصر وحكيمه وتوفي ممتحنا من نغلة بين كتفيه سنة 525 بمدينة قرطبة انتهى وكانت بينه وبين الفتح صاحب القلائد عداوة ولذلك كتب في شأنه إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين ما صورته أطال الله تعالى بقاء الأمير الأجل سامعا للنداء دافعا للتطاول والاعتداء لم ينظم الله تعالى بلبتك الملك عقدا وجعل لك حلا للأمور وعقدا وأوطأ لك عقبا وأصار من الناس لعونك منتظرا ومرتقبا إلا أن تكون للبرية حائطا وللعدل فيهم باسطا حتى لا يكون فيهم من يضام ولا ينال أحدهم اهتضام ولتقصر يد كل معتد في الظلام وهذا ابن زهر الذي أجررته رسنا وأوضحت له إلى الاستطالة سننا لم يتعد من الإضرار إلا حيث انتهيته ولا تمادى على غيه إلا حين لم تنهه أو نهيته ولما علم أنك لا تنكر عليه نكرا ولا تغير له متى ما مكر في عباد الله مكرا جرى في ميدان الأذية ملء عنانه وسرى إلى ما شاء بعدوانه ولم يراقب الذي خلقه وأمد في الحظوة عندك طلقه وأنت بذلك مرتهن عند الله تعالى لأنه مكنك لئلا يتمكن الجور ولتسكن بك الفلاة والغور فكيف أرسلت زمامه حتى جرى من الباطل في كل طريق وأخفق به كل فريق وقد علمت أن خالقك الباطش الغيور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وما تخفى عليه نجواك ولا يستتر عنه تقلبك ومثواك وستقف بين يدي عدل حاكم يأخذ بيد كل مظلوم من ظالم قد علم كل قضية قضاها ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فبم تحتج معي لديه إذا وقفت أنا وأنت بين يديه 1 أترى ابن زهر ينجيك في ذلك

المقام أو يحميك من الانتقام وقد أوضحت لك المحجة لتقوم عليك الحجة والله سبحانه النصير وهو بكل خلق بصير لا رب غيره والسلام انتهى
رسالة للفتح فى غريق
وقد تذكرت هنا بذكر الفتح ما كتبه وقد مات بعض إخوانه غريقا
( أتاني ورحلي بالعراق عشية ... ورحل المطايا قد قطعن بنا نجدا )
( نعي أطار القلب عن مستقره ... وكنت على قصد فأغلطني القصدا )
نعوا والله باسق الأخلاق لا يخلف ورموا قلبي بسهم أصاب صميمه فما أخلف لقد سام الردى منه حسنا وجمالا ووسامة وطوى بطيه نجده وتهامه فعطل منه الندي والندى وأثكل فيه الهدي والهدى كم فل السيوف طول قراعه ودل عليه الضيوف موقد ناره ببقاعه وكم تشوف إليه السرير والمنبر وتصرف فيه الثناء المحبر وكم راع البدر ليلة إبداره وروع العدو في عقر داره وأي فتى غدا له البحر ضريحا وأعدى عليه الحين ماء وريحا فبدل من ظلل على ومفاخر بقعر بحر طامي اللجج زاخر وبدل من صهوات الخيل بلهوات اللجج والسيل غريق حكى مقلتي في دمعها وأصاب نفسي في سمعها ومن حزن لا أستسقي له الغمام فما له قبر تجوده ولا ثرى تروي به تهائمه ونجوده وقد آليت أن لا أودع الريح تحية ولا يورثني هبوبها أريحية فهي التي أثارت في الموج حنقا ومشت عليه خببا وعنقا حتى أعادته كالكثبان وأودعته قضيب بان فيا أسفا لزلال غاض في أجاج ولسلسال فاض عليه بحر عجاج وما كان إلا جوهرا ذهب إلى عنصره وصدفا بان عن عين مبصره لقد آن للحسام أن يغمد فلا يشام وللحمام أن تبكيه بكل أراكة وبشام وللعذارى أن لا يحجبهن الخفر والاحتشام ينحن فتى ما ذرت الشمس

إلا ضر أو نفع ويبكين من لم يدع فقده في العيش من منتفع فكم نعمنا بدنوه ونسمنا نسيم الأنس في رواحه وغدوه وأقمنا بروضة موشية ووقفنا بالمسرات عشية وأدرناها ذهبا سائلة ونظرناها وهي شائلة لم نرم السهر ولم نشم برقا إلا الكأس والزهر ولو غير الحمام زحف إليه جيشه أو غير البحر رجف به ارتجاجه وطيشه لفداه من أسرته كل أروع إن عاجله المكروه تثبطه أو جاءه الشر تأبطه ولكنها المنايا لا تردها الصوارم والأسل ولا تفوتها ذئاب الغضا العسل قد فرقت بين مالك وعقيل وأشرقت بعدهما جذيمة بالحسام الصقيل انتهى
وقد عرفنا بالفتح في غير هذا الموضع فليراجع
رجع إلى بيت بني زهر رحمهم الله تعالى - وأما أبو بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر المذكور فهو عين ذلك البيت وإن كانوا كلهم أعيانا علماء رؤساء حكماء وزراء وقد نالوا المراتب العلية وتقدموا عند الملوك ونفذت أوامرهم قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في المطرب من أشعار أهل المغرب كان شيخنا الوزير أبو بكر بن زهر بمكان من اللغة مكين ومورد من الطلب عذب معين وكان يحفظ شعر ذي الرمة وهو ثلث لغة العرب مع الإشراف على جميع أقوال أهل الطب والمنزلة العلياء عند أصحاب المغرب مع سمو النسب وكثرة الأموال والنشب صحبته زمانا طويلا واستفدت منه أدبا جليلا وأنشد من شعره المشهور قوله
( موسدين على الأكف خدودهم ... قد غالهم نوم الصباح وغالني )

( ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني )
( والخمر تعلم كيف تأخذ ثارها ... إني أملت إناءها فأمالني )
ثم قال ابن دحية وسألته عن مولده فقال ولدت سنة سبع وخمسمائة قال وبلغتني وفاته آخر سنة 595 رحمه الله تعالى انتهى وزعم ابن خلكان أن ابن زهر ألم في الأبيات المذكورة يقول بقول الرئيس أبي غالب عبيد الله بن هبة الله
( عاقرتهم مشمولة لو سالمت ... شرابها ما سميت بعقار )
( ذكرت حقائدها القديمة إذ غدت ... صرعى تداس بأرجل العصار )
( لانت لهم حتى انتشوا وتمكنت ... منهم وصاحت فيهم بالثار )
ومن المنسوب إلى أبي بكر بن زهر قوله في كتاب جالينوس المسمى بحيلة البرء وهو من أجل كتبهم وأكبرها
( حيلة البرء صنعة لعليل ... يترجى الحياة أو لعليله )
( فإذا جاءت المنية قالت ... حيلة البرء ليس في البرء حيله )
( ومن شعره رحمه الله تعالى يتشوق ولدا له صغيرا بإشبيلية وهو بمراكش
ولي واحد مثل فرخ القطاة ... صغير تخلفت قلبي لديه )
( وأفردت عنه
( فيا وحشتا ... لذاك الشخيص وذاك الوجيه )

( تشوقني وتشوقته ... فيبكي علي وأبكي عليه )
( وقد تعب الشوق ما بيننا ... فمنه إلي ومني إليه )
وأخبرني الطبيب الماهر الثقة الصالح العلامة سيدي أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني الأندلسي الأصل الفاسي المولد والنشأة حكيم حضرة السلطان المنصور بالله الحسني صاحب المغرب رضي الله تعالى عنه أن ابن زهر لما قال هذه الأبيات وسمعها أمير المؤمنين يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس أواخر المائة السادسة أرسل المهندسين إلى إشبيلية وأمرهم أن يحتاطوا علما ببيوت ابن زهر وحارته ثم يبنوا مثلها بحضرة مراكش ففعلوا ما أمرهم في أقرب مدة وفرشها بمثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته ثم أمر بنقل عيال ابن زهر وأولاده وحشمه وأسبابه إلى تلك الدار ثم احتال عليه حتى جاء إلى ذلك الموضع فرآه أشبه شيء ببيته وحارته فاحتار لذلك وظن أنه نائم وأن ذلك أحلام فقيل له ادخل البيت الذي يشبه بيتك فدخله فإذا ولده الذي تشوق إليه يلعب في البيت فحصل له من السرور ما لا مزيد عليه ولا يعبر عنه هكذا هكذا وإلا فلا لا
ومن نظم ابن زهر المذكور حيث شاخ وغلب عليه الشيب
( إني نظرت إلى المرآة قد جليت ... فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا )
( رأيت فيها شويخا لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى )
( فقلت أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحل عن هذا المكان 15 متى )

( فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة ... إن الذي أنكرته مقلتاك أتى )
( كانت سليمى تنادي يا أخي وقد ... صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا )
والبيت الأخير ينظر إلى قول الأخطل
( وإذا دعونك عمهن فإنه ... نسب يزيدك عندهن خبالا )
( وإذا دعونك يا أخي فإنه ... أدنى وأقرب خلة ووصالا )
وقال ابن دحية في حقه أيضا والذي انفرد به شيخنا وانقادت لتعليته طباعه وصارت النبهاء فيه من خوله وأتباعه الموشحات وهي زبدة الشعر ونخبته وخلاصة جوهره وصفوته وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق انتهى
ومن مشهور موشحات ابن زهر قوله
( ما للموله ... من سكره لا يفيق )
وهذا مطلع موشح يستعمله أهل المغرب إلى الآن ويرون أنه من أحسن الموشحات

ومن موشحاته قوله
( سلم الأمر للقضا ... فهو للنفس أنفع )
( واغتنم حين أقبلا ... )
( وجه بدر تهللا ... )
( لا تقل بالهموم لا ... )
( كل ما فات وانقضى ... ليس بالحزن يرجع )
( واصطبح بابنة الكروم ... )
( من يدي شادن رخيم ... )
( حين يفتر عن نظيم ... )
( فيه برق قد أومضا ... ورحيق مشعشع )
( أنا أفديه من رشا ... )
( أهيف القد والحشا ... )
( سقي الحسن فانتشى ... )
( مذ تولى وأعرضا ... ففؤادي يقطع )
( من لصب غدا مشوق ... )
( ظل في دمعه غريق ... )
( حين أموا حمى العقيق ... )
( واستقلوا بذي الغضا ... أسفي يوم ودعوا )
( ما ترى حين أظعنا ... )
( وسرى الركب موهنا ... )
( واكتسى الليل بالسنا ... )

( غصني القد مهضوم الوشاح ... مادري الوصل طائي السماح )
( قد بالقد فؤادي هيفا ... )
( وسبى عقلي لما انعطفا ... )
( ليته بالوصل أحيا دنفا ... )
( مستطار العقل مقصوص الجناح ... ما عليه في هواه من جناح )
( يا علي أنت نور المقل ... )
( جد بوصل منك لي يا أملي ... )
( كم أغنيك إذا ما لحت لي ... )
( طرقت والليل ممدود الجناح ... مرحبا بالشمس من غير صباح )
164 - ومنهم أبو الحجاج الساحلي يوسف بن إبراهيم بن محمد بن قاسم بن علي الفهري الغرناطي قال في الإحاطة صدر من صدور حملة القرآن على وتيرة الفضلاء وسنن الصالحين حج ولقي الأشياخ بعد أن قرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير وطبقته ومن نظمه يخاطب الوزير ابن الحكيم وقد أصابته حمى تركت على شفته بثورا
( حاشاك أن تمرض حاشاكا ... قد اشتكى قلبي لشكواكا
( إن كنت محموما ضعيف القوى ... فإنني أحسد حماكا )
( ما رضيت حماك إذ باشرت ... جسمك حتى قبلت فاكا )
قال أبو الحجاج رحمه الله تعالى وكتب إلى شيخنا محمد بن محمد بن عتيق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24