كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

ابن قيس فخرجوا في البر عن القيس مالهم القديم المعروف قد نفذ في سبيل المعروف وحديثهم الذي نقلته رجال الزحوف من طرق القنا والسيوف على الحسن من المقاصد موقوف تحمد من صغيرهم وكبيرهم ذابلهم ولدنهم فلله آباء أنجبوهم وامهات ولدنهم
( شم الأنوف من الطراز الأول )
إليهم في الشدائد الاستناد وعليهم في الأزمات المعول ولهم في الوفاء والصفاء والاحتفاء والعناية والحماية والرعاية الخطو الواسع والباع الأطول كانما عناهم بقوله جرول
( أولئك قوم ان بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا اوفوا وإن عقدوا شدوا )
( وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا )
( وتعذلني أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالتي علمت سعد )
وبقوله الوثيق مبناه البليغ معناه
( قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم ... شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا )
يزيحون عن التنزيل كل نازح قاصم وليس له منهم عائب ولا واصم فهم أحق بما قاله في منقر قيس بن عاصم

( لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جوارهم فطن )
حلاهم هذه الغريزة التى ليست باستكراه ولا جعل وامير المؤمنين دام نصره قسيمهم فيها حذو النعل بالنعل ثم هو عليهم وعلى من سواهم بالأوصاف الملوكية مستعل ارفض مزنهم منه عن غيث ملث يمحو آثار اللزبة وانشق غيلهم منه عن ليث ضار متقبض على براثنه للوثبة فقل لسكان الفلا لا تغرنكم أعدادكم وأمدادكم فلا يبالي السرحان المواشي سواء مشى إليها النقرى أو الجفلى بل يصدمهم صدمة تحطم منهم كل عرنين ثم يبتلع بعد أشلاءهم المعفرة ابتلاع التنين فهو هو كما عرفوه وعهدوه وألفوه أخو المنايا وابن جلا وطلاع الثنايا مجتمع أشده قد احتنكت سنه وبان رشده جاد مجد محتزم بحزام الحزم مشمر عن ساعد الجد
( لا يشرب الماء إلا من قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل )
أسدي القلب آدمي الرواء لابس جلد النمر يزوي العناد والنواء
( وليس بشاوي عليه دمامة ... إذا ما سعى يسعى بقوس وأسهم )
( ولكنه يسعى عليه مفاضة ... دلاص كأعيان الجراد المنظم )
فالنجاء النجاء سامعين له طائعين والوحى الوحى لاحقين به خاضعين قبل أن تساقوا إليه مقرنين في الأصفاد ويعيا الفداء بنفائس النفوس والأموال على الفاد حينئذ يعض ذو الجهل والفدامة على يديه حسرة وندامة إذا رأى

أبطال الجنود تحت خوافق الرايات والبنود قد لفحتهم نار ليست بذات خمود وأخذتهم صاعقة مثل صاعقة الذين من قبلهم عاد وثمود زعقات تؤز الكتائب أزا وهمزا محققا للخيل بعد المد المشبع للأعنة همزا وسلا للهندية سلا وهزا للخطية هزا حتى يقول النسر للذئب ( هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ) ثق خليفة الله بذاك في كل من رام أذى رعيتك أو ذاك فتلك عادة الله سبحانه وتعالى في ذوي الشقاق والنفاق الذين يشقون عصا المسلمين ويقطعون طريق الرفاق وينصبون حبائل البغي والفساد في جميع النواحي والآفاق فلن يجعلهم الله عز و جل من الآمنين أنى وكيف وقد أفسدوا وخانوا وهو سبحانه لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي كيد الخائنين وها نحن قد وجهنا إلى كعبة مجدكم وجوه صلوات التقديس والتعظيم بعدما زينا معاطفها باستعطافكم بدر ثناء أبهى من در العقد النظيم منتظمين في سلك أوليائكم متشرفين بخدمة عليائكم ولا فقد عزه ولا عدمها من قصد مثابتكم العزيزة وخدمها وإن المترامي على سنائكم لجدير بحرمتكم واعتنائكم وكل ملهوف تبوأ من كنفكم حصنا حصينا عاش بقية عمره محروسا من الضيم مصونا وقد قيل في بعض الكلام من قعدت به نكاية الأيام أقامته إغاثة الكرام ومولانا أيده الله تعالى ولي ما يزفه إلينا من مكرمة بكر ويصنعه لنا من صنيع حافل يخلد في صحائف حسن الذكر ويروي معنعن حديث حمده وشكره طرس عن قلم عن بنان عن لسان عن فكر وغيره من ينام عن ذلك فيوقظ ويسترسل مع الغفلة حتى يذكر ويوعظ وما عهد منذ وجد إلا سريعا إلى داعي الندي والتكرم بريئا من الضجر بالمطال والتبرم حافظا للجار الذي أوصى النبي بحفظه مستفرغا وسعه في رعيه المستمر ولحظه آخذا من حسن الثناء في جميع الأوقات والآناء بحظه

( فهو من دوحة السنا فرع عز ... ليس يحتاج مجتنيه لهز )
( كفه في الأمحال أغزر وبل ... وذراه في الخوف امنع حرز )
( حلمه يسفر اسمه لك عنه ... فتفهم يامدعي الفهم لغزي )
( لا تسله شيئا ولا تستنله ... نظرة منه فيك تغني وتجزي )
( فنداه هو الفرات الذي قد ... عام فيه الأنام عوم الإوز )
( وحماه هو المنيع الذي ترجع ... عنه الخطوب مرجع عجز )
( فدعوا ذهنه يزاول قولي ... فهو أدرى بما تضمن رمزي )
( دام يحيا بكل صنع ومن ... ويعافى من كل بؤس ورجز )
وكانا به قد عمل على شاكلة جلاله من مد ظلاله وتمهيد حلاله وتلقى ورودنا بحسن تهلله واستهلاله وتأنيسنا بجميل قبوله وإقباله وإيرادنا على حوض كوثره المترع بزلاله والله سبحانه يسعد مقامه العلي ويسعدنا به في حله وارتحاله ومآله وحاله ويؤيد جنده المظفر ويؤيدنا بتأييده على نزال عدوه واستنزاله وهز الذوابل لإطفاء ذباله وهو سبحانه وتعالى المسؤول ان يريه قرة العين في نفسه وأهله وخدامه وامواله وأنظاره وأعماله وكافة شؤونه واحواله وأحق ما نصل بالسلام وأولى على المقام الجليل مقام الخليفة المولى أزكى على خاتمة انبيائه وأرساله سيدنا ومولانا محمد وعلى جميع أصحابه وآله صلاة وسلاما دائمين أبدا موصولين بدوام الأبد واتصاله ضامنين لمجددهما ومرددهما صلاح فاسد أعماله وبلوغ غاية آماله وذلك بمشيئة الله تعالى وإذنه وفضله وإفضاله انتهى

ترجمة محمد العربي كاتب الرسالة عن الوادي آشي
وكاتب هذه الرسالة على لسان السلطان المخلوع قال الوادي آشي في حقه

إنه إمام الصناعة وفارس حلبة القرطاس واليراعة وواسطة عقد البلاغة واليراعة الذي قطف الكمال لما نور ورتب محاسن البديع في درر فقره وطور وغرف من بحر عجاج واقتطف من خاطر وهاج أبو عبدالله محمد بن عبدالله العربي العقيلي وما احسن قوله فيمن قد ظفر به المسلمون
( ألا رب مغرور تنصر ضلة ... فحاق به شؤم الضلال وشره )
( فإن يرتفع عند النصارى بالابتدا ... فكم عندنا من حرف حبل يجره )
وقال الوادي آشي أيضا في موضع آخر ما نصه ولشاعر العصر ومالك زمامي النظم والنثر والفقيه العالم المتقن التمفنن العارف الأوحد النبيه النبيل سيدي محمد العربي وصل الله تعالى رفعة قدره وحرس من غير الأيام أشعة بدره
( الحب في جمهور انواره ... فأين الاخوان والأحباب )
( وأين أين الاجتماعات قد ... تهيأت لهن الاسباب )
( وأين بنت لجبن مهما بدت ... طارت إليها شوقا الباب )
( وأين الألبان لأكوابها ... في برم الأرز تسكاب )
( واللحم بالبسباس قد ألفت ... لطبخه في القدر الاحطاب )
( والعوذ ذو دندنة يطبي ... آثارها للطار دبداب )
( وملح الاصوات قد طورحت ... وجاء معبد وزرياب )
( وفض للهو ختام ولم ... يسد في وجه الهوى باب )
( وقيل للوقار قم قبل أن ... تسلب عنك الآن الاثواب )
( وكل انسان وما يشتهي ... ليس على مناه حجاب )

( مسترسلا ليس له عذل ... كلا ولا عليه رقاب )
( في راحة خلعت أرسانها ... لمثلها تعصر الاعناب )
( فكل بستان قد استأسدت ... فيه النواوير والاعشاب )
( وأطلع التراب أدواحه ... كأنها العرب الاتراب )
( لما تحلت بحلى زهرها ... داخلها بالحسن الاعجاب )
( عرائس ليس لها في سوى ... ماية او ينية خطاب )
( أيام تبدى ثمرات بدا ... في جنباتهن الارطاب )
( كأنه في العين ياقوت أو ... كأنه في الفم جلاب )
( هيهات هيهات أمان لها ... خلب برق لك خلاب )
( ماحوت الرؤوس امثالها ... فكيف تحويهن الاذناب )
( قد عاق عن ذلك دهر به ... تعدم الافراح والاطراب )
( يروم الانسان غلابا له ... والدهر للانسان غلاب )
وقال رحمه الله تعالى لما نزل النصارى لمحاصرة غرناطة
( بالطبل في كل يوم ... وبالنفيز نراع )
( وليس من بعد هذا ... وذاك إلا القراع )
( يارب جبرك يرجو ... من هيض منه الذراع )
( لا تسلبني صبرا ... منه لقلبي ادراع )
وله رحمه الله تعالى في الموشحات اليد الطولى فمن ذلك قوله
( بدر أهل الزمان ... الرفيع القدر )
( لا تزل في أمان ... من كسوف البدر )
وله من أخرى

( هل يصح الأمان ... من شبيه البدر )
( وهو مثل الزمان ... منتم للغدر )
( لم يغر الأغر ... غير غمر جاهل )
( عيشه الحلو مر ... وهو فيه ناهل )
( والصبا الغض مر ... وهو عنه ذاهل )
( مرشف البهرمان ... فوق ثغر الدر )
( طمع للأمان ... باقتراب الدر )
وعارض رحمه الله تعالى بهاتين الموشحتين الموشحة المشهورة
( ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر )
( ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري )
وممن عارض هذه الموشحة ابن أرقم إذ قال
( مبسم البهرمان ... في المحيا الدري )
( صاد قلبي وبان ... وأنا لم أدر )
والإنصاف ان معارضة العربي أحسن من هذه
وله أيضا معارضتان غير ما تقدم الأولى قوله
( بان لي ثم بان ... ذا خدود حمر )
( ينثني مثل بان ... في ثياب خضر )
والثانية قوله
( هل لمرآك ثان ... في سناه الدري )
( أو لحوباي ثان ... عن هواها العذري )

( يا مليحا جلا ... عن محيا جميل )
( همت فيه ولا ... هيمان جميل )
( مل قليلا الى ... من إليك يميل )
( عاشق فيك فان ... كاتم للسر )
( لك منه مكان ... في صميم الصدر )
ومن نظم العربي المذكور لما عرض عليه السلطان رياسة كتابه من قصيدة
( أوجه سعدي انحط عنه اللثام ... أم بدر أفق فض عنه الغمام )
( أم انا في حالي لا عقل لي ... أم حلم قد لاح لي في المنام )
( يالك مرأى من رأى حسنه ... هيج للقلب غراما فهام )
( كأنما اقبس نور البها ... من وجه مولانا الامام الهمام )
( ابن أبي الحسن الأسرى الذي ... قد كان للأملاك مسك الختام )
( ضرغام قد أنجب شبها له ... في صدق بأس ومضاء اعتزام )
( حامى وسامى فأفاعيله ... تنقلها أبناء سام وحام )
( دام له النصر الذي جاءه ... والسيف من طلى أعاديه دام )
( فيا أمير المؤمنين الذي ... له بعروة اليقين اعتصام )
( أبشر بجد مقبل لم يؤل ... إلى انصراف لا ولا لانصرام )
( وعزة لم يفض بنيانها ... إلى انهداد لا ولا لانهدام )
( لله منك ملك جنده ... زهر النجوم وهو بدر التمام )
ومنها
( يطرب من مادحه مثلما ... يطرب قلب الصب سجع الحمام )

( فيفعل الشعر بأعطافه ... ماليس تفعل بهن المدام )
( وإن حكى في حسنه يوسفا ... فمدحه يشبه زهر الكمام )
ومنها
( فداره ليست ببغدادهم ... مع انها تدعى بدار السلام )
ومنها
( أسأله الإعفاء من كل ما ... أعجز عن حمل له والتزام )
ومنها
( مستشفعا له بخير الورى ... محمد عليه أزكى السلام )
ومنها
( وكل انسان وما اختاره ... ورب ذي عذر قد أضحى يلام )
وآخرها
( فالحمد لله على ان غدا ... للشمل بعد الانصداع التئام )
ولنختم هذه الترجمة بقوله
( جز بالبساتين والرياض فما ... أبهج مرئيها واحلاه )
( واعجب بها للنبات ولتك في ... أسفله ناظرا وأعلاه )
( وقدس الله عند ذاك وقل ... سبحانه لا إله إلا هو ) سبحان وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والحمد لله رب العالمين انتهى المجلد الرابع

بسم الله الرحمن الرحيم الباب الأول
في أولية لسان الدين وذكر أسلافه الذين ورث عنهم المجد وارتضع در أخلافه وما يناسب ذلك مما لا يعدل المنصف إلى خلافه
أقول هو الوزير الشهير الكبير لسان الدين الطائر الصيت في المغرب والمشرق المزري عرف الثناء عليه بالعنبر والعبير المثل المضروب في الكتابة والشعر والطب ومعرفة العلوم على اختلاف أنواعها ومصنفاته تخبر عن ذلك ولا ينبئك مثل خبير علم الرؤساء الأعلام الوزير الشهير الذي خدمته السيوف والأقلام وغني بمشهور ذكره عن مسطور التعريف والإعلام واعترف له بالفضل أصحاب العقول الراجحة والأحلام
قال سليل السلاطين الأمير العلامة إسماعيل بن يوسف ابن السلطان القائم بأمر الله محمد الأحمر نزيل فاس رحمه الله في كتابه المسمى بفرائد الجمان فيمن نظمني وإياه الزمان في حق المذكور ما نصه ذو الوزارتين الفقيه الكاتب أبو عبد الله ابن محمد الرئيس الفقيه الكاتب المنتزي ببلدة لوشة عبد الله ابن الفقيه الكاتب القائد سعيد بن عبد الله ابن الفقيه الصالح ولي الله الخطيب سعيد السلماني اللوشي المعروف بابن الخطيب

وقال القاضي ابن خلدون المغربي المالكي رحمه الله في تاريخه الكبير عندما أجرى ذكر لسان الدين ما نصه أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج وعلى وادي شنجيل ويقال شنيل المخترق في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال كان له بها سلك معدود في وزرائها وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام انتهى
وقال غيره إن بيتهم يعرف قديما ببني الوزير وحديثا ببني الخطيب وسعيد جده أول من تلقب بالخطيب وكان من أهل العلم والدين والخير وكذلك سعيد جدهالأقرب كان على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب خيرا صدرا توفي عام ثلاثة وثمانين وستمائة وأبوه عبد الله كان من أهل العلم بالأدب والطب وقرأ على أبي الحسن البلوطي وأبي جعفر ابن الزبير وغيرهما وأجازه طائفة من أهل المشرق وتوفي بطريف عام أحد وأربعين وسبعمائة شهيدا يوم الإثنين السابع من جمادى الأولى من العام المذكور مفقودا ثابت الجأش شكر الله فعله
قلت وما ذكره هؤلاء أكثره مأخوذ من كلامه عند تعريفه رحمه الله بنفسه آخر الإحاطة ولنذكر ملخصه إذ صاحب البيت أدرى بالذي فيه مع ما فيه من الزيادة على ما سبق وهي تتم للطالب أمله وتوفيه
قال رحمه الله يقول مؤلف هذا الديوان تغمد الله خطله في ساعات

أضاعها وشهوة من شهوات اللسان أطاعها وأوقات للإشتغال بما لا يعنيه استبدل بها اللهو لما باعها أما بعد حمد الله الذي يغفر الخطية ويحث من النفس اللجوج المطية فتحرك ركائبها البطية والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد ميسر سبل الخير الوطية والرضى عن آله وصحبه منتهى الفضل ومناخ الطية فإنني لما فرغت من تأليف هذا الكتاب الذي حمل عليه فضل النشاط مع الالتزام لمراعاة السياسة السلطانية والارتباط والتفت إليه فراقني منه صوان درر ومطلع غرر قد تخلدت مآثرهم مع ذهاب أعيانهم وانتشرت مفاخرهم بعد انطواء زمانهم نافستهم في اقتحام تلك الأبواب ولباس تلك الأثواب وقنعت باجتماع الشمل بهم ولو في الكتاب وحرصت على أن أنال منهم قربا وأخذت أعقابهم أدبا وحبا وكما قيل ساقي القوم آخرهم شربا فأجريت نفسي مجراهم في التعريف وحذوت بها حذوهم في بابي النسب والتصريف بقصد التشريف والله سبحانه لا يعدمني وإياهم واقفا يترحم وركاب الاستغفار بمنكبه يزحم عندما ارتفعت وظائف الأعمال وانقطعت من التكسبات حبال الآمال ولم يبق إلا رحمة الله تنتاش النفوس وتخلصها وتعينها بميسم السعادة وتخصصها جعلنا اللهممن حسن ذكره ووقف على التماس ما لديه فكره بمنه
محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن علي بن أحمد السلماني قرطبي الأصل ثم طليطلية ثم لوشية ثم غرناطية يكنى أبا عبد الله

ويلقب من الألقاب المشرقية بلسان الدين
أوليتي يعرف بيتنا في القديم بوزير ثم حديثا بلوشة ببني الخطيب انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية كيحيى بن يحيى الليثي وأمثاله عند وقعة الربض الشهيرة إلى طليطلة ثم تسربوا محومين على وطنهم قبل استيلاء الطاغية عليه فاستقر منهم بالموسطة الأندلسية جملة من النبهاء تضمن منهم ذكر خلق كعبد الرحمن قاضي كورة باغه وسعيد المستوطن بلوشة الخطيب بها المقرون اسمه بالتسويد عند أهلها جاريا مجرى التسمية بالمركب في تاريخ الغافقي وغيره وسكن عقبهم بها وسكن بعضهم منتقرير مملكين إياها مختطين جبل التحصن والمنعة فنسبوا إليها
وكان سعيد هذا من أهل العلم والخير والصلاح والدين والفضل وزكاء الطعمة أوقفني الوزير أبو الحكم ابن محمد المنتقريري وهو بقية هذا البيت وإخباريه على جدار برج ببعض ربى أملاكنا بلوشة تطؤه الطريق المارة من غرناطة إلى إشبيلية وقال كان جدك يذيع بهذا المكان فصولا من العلم ويجهر بتلاوة القرآن فيستوقف الرفاق المدلجة الحنين إلى نغمته والخشوع إلى صدقه فتعرس رحالها لصق جداره وتريح ظهرها موهنا إلى أن يأتي على ورده
وتوفي وقد أصيب بأهله وحرمه عندما تغلب العدو على بلده عنوة في خبر طويل
وقفت على مكتوبات من المتوكل على الله محمد بن يوسف بن هود أمير المسلمين بالأندلس في غرض إعانته والشفاعة إلى الملكة زوج سلطان قشتالة بما يدل على تباهته قديما

ويفيد إثارة عبرة واستقالة عثرة
وتخلف ولده عبد الله جاريا مجراه في التجلد والتمعش من حر النشب والتزيي بالانقباض والتحلي بالنزاهة إلى أن توفي وتخلف ولده سعيدا جدنا الأقرب وكان صدرا خيرا مستوليا على خلال حميدة من خط وتلاوة وفقه وحساب وأدب نافس جيرته بني الطنجالي الهاشميين وتحول إلى غرناطة عندما شعر بعملهم على الثورة واستطلاعهم إلى النزوة التي خضدت الشوكة واستأصلت منهم الشأفة وصاهر بها الأعيان من بني أضحى بن عبد اللطيف الهمداني أشراف جند حمص الداخلين إلى الجزيرة في طليعة بلج بن بشر القشيري ولحقه من جراء منافسيه لما جاهروا السلطان بالخلعان اعتقال أعتبه السلطان بعده وأحظاه على تفئته وولاه الأعمال النبيهة والخطط الرفيعة
حدثني من أثق به قال عزم السلطان على أن يقعد جدك أستاذا لولده فأنفت من ذلك أم الولد إشفاقا عليه من فظاظة كانت فيه
ثم صاهر القواد من بني الجعدالة على أم أبي ومشت إلى زوج السلطان ببنوة الخؤولة فنبه القدر وانفسخت الحظوة وانثال على البيت الرؤساء والقرابة وكان على قوة شكيمته وصلابة مكسره مؤثرا للخمول محبا في الخير حدثني أبي عن أمه قالت قلما تهنأنا نحن وأبوك طعاما حافلا لإيثاره به من كان يكمن بمسجد جواره من أهل الحاجة وأحلاف الضرورة يهجم علينا منهم بكل وارد ويجعل يده مع يده ويشركه في أكيلته ملتذا بموقعها من فؤاده
وتوفي في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وستمائة صهرته الشمس مستسقيا في بعض المحول

وقد استغرق في ضراعته فدلت الحتف على نفسه
وتخلف والدي نابتا في الترف نبت العليق يكنفه رعي أم تجر ذيل نعمة وتحنو منه على واحد تحذر عليه النسيم إذا سرى ففاته لترفه حظ كبير من الاجتهاد وعلى ذلك فقرأ على الخطيب أبي الحسن البلوطي والمقرئ أبي عبد الله ابن مسمغور وأبي جعفر ابن الزبير خاتمة الجلة وكان يفضله
وانتقل إلى لوشة بلد سلفه مخصوصا بلقب الوزارة إلى أن قصدها السلطان أبو الوليد متخطيا إلى الحضرة هاويا إلى ملك البيضة فعضد أمره وأدخله بلده لدواع يطول استقصاؤها ولما تم له الأمر صحب ركابه إلى دار ملكه بشقص عريض من دنياه وكان من رجال الكمال طلق الوجه مع الظرف وتضمن كتاب التاج المحلى والإحاطة رائقا من شعره وفقد في الكائنة العظمى بطريف يوم الإثنين سابع جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ثابت الجأش غير جزوع ولا هيابة حدثني الخطيب بالمسجد الجامع من غرناطة الفقيه أبو عبد الله ابن اللوشي قال كبا بأخيك الطرف وقد غشي العدو وجنحت إلى إردافه فانحدر إليه والدك وصرفني وقال أنا أولى به فكان آخر العهد بهما انتهى
ومما رثي به والد لسان الدين وأخوه ما ذكره في الإحاطة في ترجمة أبي محمد عبد الله الأزدي إذ قال ما نصه ومما كتب إلي فيما أصابني بطريف
( خطب ألم فأذهب الأخ والأبا ... رغما لأنف شاء ذلك أو أبى )
( قدر جرى في الخلق لا يجد امرؤ ... عما به جرت المقادر مهربا )
( إما جزعت له فعذر بين ... قضت الدواهي أن تحل له الحبا )

( لاكان يومهما الكربة فكم وكم ... فيه المجلي والمصلي قد كبا )
( يوم لوى ليانه لم يبق للإسلام ... حد مهند إلا نبا )
( وتجمعت فيه الضلال فقابلت ... فيه الهدى فتفرقت أيدي سبا )
( آها لعز المحتدين صرامة ... لأذل عز المهتدين وأذهبا )
( دهم المصاب فعم إلا أنه ... فيما يخصك ما أمر وأصعبا )
( يا ابن الخطيب خطاب مكترث لما ... قد ألزم البث الألد وأوجبا )
( قاسمتك الشجو المقاسمة التي ... صارت بخالص ما محضتك مذهبا )
( لم لا وأنت لدي سابق حلبة ... تزهى بمن في السابقين تأدبا )
( لا عاد يوم نال منك ولا أتت ... سنة به ما الليل أبدى كوكبا )
( يهني الشهيدين الشهادة إنها ... سبب يزيد من الإله تقربا )
( وردا على دار النعيم وحورها ... كلفا ببرهما يزدن ترحبا )
( فاستغن بالرحمن عمن قد ثوى ... من حزب خير من ارتضى ومن اجتبى )
فأجبته بقولي
( أهلا بمقدمك السني ومرحبا ... فلقد حباني الله منك بما حبا )
( وافيت والدنيا علي كأنها ... سم الخياط وطرف صبري قد كبا )
( والدهر قد كشف القناع ولم يدع ... لي عدة للروع إلا أذهبا )
( صرف العنان إلي غير مدافع ... عني وأثبت دون نصرتي الشبا )
( خطب تأوبني يضيق لهوله ... رحب الفضا وتهي لموقعه الربى )
( لو كان بالورق الصوادح في الدجى ... ما بي لعاق الورق عن أن تندبا )
( فأنرت من ظلماء همي ما دجا ... وقدحت من زند اصطباري ما خبا )

( فكأني لعب الهجير بمهجتي ... وبعثت لي من نفحها نفس الصبا )
( لا كان يومك يا طريف فطالما ... أطلعت للآمال برقا خلبا )
( ورميت دين الله منك بفادح ... عم البسيط مشرقا ومغربا )
( وخصصتني بالرزء والثكل الذي ... أوهى القوى مني وهد المنكبا )
( لا حسن للدنيا لدي ولا أرى ... للعيش بعد أبي وصنوي مأربا )
( لولا التعلل بالرحيل وأننا ... ننضي من الأعمار فيها مركبا )
( فإذا ركضنا للشبيبة أدهما ... حال المشيب به فأصبح أشهبا )
( والملتقى كثب وفي ورد الردى ... نهل الورى من شاء ذلك أو أبى )
( لجريت طوع الحزن دون نهاية ... وذهبت من خلع التصبر مذهبا )
( والصبر أولى ما استكان له الفتى ... رغما وحق العبد أن يتأدبا )
( وإذا اعتمدت الله يوما مفزعا ... لم تلف منه سوى إليه المهربا )

واقعة طريف
وواقعة طريف هذه استشهد فيها جماعة من الأكابر وغيرهم وكان سببها أن سلطان فاس أمير المسلمين أبا الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس برسم الجهاد ونصرة أهلها على عدوهم حسبما جرت بذلك عادة سلفه وغيرهم من ملوك العدوة وشمر عن ساعد الاجتهاد وجر من الجيوش الإسلامية نحو ستين ألفا وجاء إليه أهل الأندلس بقصد الإمداد وسلطانهم ابن الأحمر ومن معه من الأجناد فقضى الله الذي لا مرد لما قدره أن صارت تلك الجموع مكسرة ورجع السلطان أبو الحسن مغلولا وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولا ونجا برأس طمرة

ولجام ولا تسل كيف وقتل جمع من أهل الإسلام ولمة وافرة من الأعلام وأمضى فيهم حكمه السيف وأسر ابن السلطان وحريمه وخدمه ونهبت ذخائره واستولت على الجميع أيدي الكفر والحيف واشرأب العدو الكافر لأخذ ما بقي من الجزيرة ذات الظل الوريف وثبتت قدمه إذ ذاك في بلد طريف وبالجملة فهذه الواقعة من الدواهي المعضلة الداء والأرزاء التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب وقرت بذلك عيون الأعداء ولولا خشية الخروج عن المقصود لأوردت قصتها الطويلة وسردت منها ما يحق لسامعه أن يكثر بكاءه وعويله وقد ألم بها الولي قاضي القضاة ابن خلدون المغربي في كتاب العبر وديوان والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطانالأكبر فليراجعه من أراده في المجلد الثامن من هذا التاريخ الجامع فإنه ذكر حين ساق هذه الكائنة ما يخرس الألسن ويصم المسامع ولله الأمر من قبل ومن بعد

واقعة الربض
وقول لسان الدين رحمه الله في أولية سلفه إنهم انتقلوا مع أعلام الجالية القرطبية إلى آخره أشار بذلك إلى واقعة الربض الشهيرة التي ذكرها ابن حيان في تاريخه الكبير المسمى بالمقتبس في تاريخ الأندلس وقص أمرها غير واحد كابن الفرضي وابن خلدون وملخصها أن أهل ربض قرطبة ثاروا على الأمير الحكم الأموي وفيهم علماء أكابر مثل يحيى بن يحيى الليثي صاحب إمامنا مالك رضي الله عنه وغيره فكانت النصرة للحكم فلما ظفر وقتل من

شاء أجلى من بقي إلى البلاد وبعضم إلى جزيرة إقريطش ببحر الإسكندرية وفي قصتهم طول وليس هذا محلها

والد لسان الدين
وقال لسان الدين رحمه الله أيضا في حق والده ما حاصله عبد الله بن سعيد ابن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي بن السلماني أبو محمد غرناطي الولادة والاستيطان لوشي الأصل طليطلية قرطبية
وقال في الإكليل إن طال الكلام وجمحت الأقلام كنت كما قيل مادح نفسه يقرئك السلام وإن إجحمت فما سديت في الثناء ولا ألحمت وأضعت الحقوق وخفت ومعاذ الله العقوق هذا ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره وجئت بعون الإحسان وأبكاره لما قضيت حقه بعد ولا قلت إلا بالتي علمت سعد فقد كان رحمه الله ذمر عزم ورجل رخاء وأزم تروق أنوار خلاله الباهرة وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة ذكاء يتوقد وطلاقة يحسد نورها الفرقد وكانت له في الأدب فريضة وفي النادرة العذبة منادح عريضة تكلمت يوما بين يديه في مسائل من الطب وأنشدته أبياتا من شعري ورقاعا من إنشائي فتهلل وما برح أن ارتجل
( الطب والشعر والكتابة ... سماتنا في بني النجابة )
( هن ثلاث مبلغات ... مراتبا بعضها الحجابة )

ووقع لي يوما بخطة على ظهر أبيات بعثتها إليه أعرض عليه نمطها
( وردت كما صدر النسيم بسحرة ... عن روضة جاد الغمام رباها )
( وكأنما هاروت أودع سحره ... فيها وآثرها به وحباها )
( مصقولة الألفاظ يبهر حسنها ... فبمثلها افتخر البليغ وباهى )
( فقررت عينا عند رؤية حسنها ... إني أبوك وكنت أنت أباها )
ومن نظمه قوله
( وقالوا قد دنا فاصبر ستشفى ... فترياق الهوى بعد الديار )
( فقلت هبوا بأن الحق هذا ... بقلبي يمموا فبم اصطباري )
وقال
( عليك بالصمت فكم ناطق ... كلامه أدى إلى كلمه )
( إن لسان المرء أهدى إلى ... غرته والله من خصمه )
( يرى صغير الجرم مستضعفا ... وجرمه أكبر من جرمه )
وقال
( أنا بالدهر يا بني خبير ... فإذا شئت علمه فتعالا )
( كم مليك قد ارتعى منه روضا ... لم يدافع عنه الردى ما ارتعى لا )
( كل شيء تراه يفنى ويبقى ... ربنا الله ذو الجلال تعالى )
مولده بغرناطة في جمادى الأولى عام اثنين وسبعين وستمائة وفقد يوم الوقيعة الكبرى بظاهر طريف يوم الإثنين سابع جمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعمائة ورثيته بقصيدة أولها

( سهام المنايا لا تطيش ولا تخطي ... وللدهر كف تسترد الذي تعطي )
( وإنا وإن كنا على ثبج الدنا ... فلا بد يوما أن نحل على الشط )
( تساوى على ورد الردى كل وارد ... فلم يغن رب السيف عن ربة القرط )
( وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى ... ومن أسرع السير الحثيث ومن يبطي )
وهي طويلة
قال ورثاه شيخنا أبو زكريا ابن هذيل بقصيدة يقول فيها
( إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ... إذا قلت أبياتا حسانا من الشعر )
( ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ... وأجريت دمعي لليراع عن الحبر )
( لما كنت أقضي حق صحبته التي ... توخيتها عونا على نوب الدهر )
( رماني عبد الله يوم وداعه ... بداهية دهياء قاصمة الظهر )
( قطعت رجائي حين صح حديثه ... فإن يوف لي دمعي فقد خانني صبري )
( وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ... أبث له همي وأودعه سري )
ومنها
( تولى وأخبار الجلالة بعده ... مؤرجة الأنباء طيبة النشر )
( رضينا بترك الصبر من بعد بعده ... على قدر ما في الصبر من عظم الأجر )
( أتى بفتيت المسك فوق جبينه ... نجيعا يفوق المسك في موقف الحشر )
( لقد لقي الكفار منها بعزمة ... لها لقيته الحور بالبر والبشر )
( تجلت عروسا جنة الخلد في الوغى ... تقول لأهل الفوز لا يغلكم مهري )
( فكان من القوم الذين تبادروا ... إلى العالم الأعلى مع الرفقة الغر )
( تعالوا بنا نسقي الأباطح والربى ... بقطر دموع غالبات على القطر )

( ألا لا تلم عيني لسكب دموعها ... فما سكبت إلا على الماجد الحر )
ومنها
( أإخواننا جدوا فكم جد غيركم ... وسيروا على خف من الحوب والوزر )
( على سفر أنتم لدار تأخرت ... وما الفوز في الأخرى سوى خفة الظهر )
( وما العيش إلا يقظة مثل نومة ... وما العمر إلا كالخيال الذي يسري )
( على الحق أنتم قادمون فشمروا ... فليس لمخذول هنالك من عذر )
وهي طويلة تجاوز الله عنا وعنهم أجمعين انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين رحمه الله

ترجمة أبي بكر ابن عاصم
قلت على منوال كلامه في تحلية أبيه النبيه شيخ الوزير الكاتب الشهير القاضي أبو يحيى ابن عاصم القيسي الأندلسي رحمه الله في وصف أبيه القاضي أبي بكر ابن عاصم صاحب التحفة في علم القضاء وهو محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي الغرناطي قاضي الجماعة الرئيس أبو بكر ونص المحتاج إليه في هذا المحل من كلام ولده قوله رحمه الله إن بسطت القول أو عددت الطول وأحكمت الأوصاف وتوخيت الإنصاف أنفدت الطروس وكنت كما يقول الناس في المثل من مدح العروس وإن أضربت عن ذلك صفحا فلبئسما صنعت ولشر ما أمسكت المعروف ومنعت ولكم من حقوق الأبوة

أضعت ومن ثدي للمعقة رضعت ومن شيطان لغمصة الحق أطعت ولم أرد إلا الإصلاح ما استطعت وإن توسطت واقتصرت وأوجزت واختصرت فلا الحق نصرت ولا أفنان البلاغة هصرت ولا سبيل الرشد أبصرت ولا عن هوى الحسدة أقصرت هذا لو أني أجهدت ألسنة البلاغة فجهدت وأيقظت عيون الإجادة فسهدت واستعرت مواقف عكاظ على ما عهدت لما قررت من الفضل إلا ما به الأعداء قد شهدت ولا استقصيت من المجد إلا ما أوصت به الفئة الشانئة لخلفها الأبتر وعهدت فقد كان رحمه الله علم الكمال ورجل الحقيقة وقارا لا يخف راسيه ولا يعرى كاسيه وسكونا لا يطرق جانبه ولا يرهب غالبه وحلما لا تزل حصاته ولا تهمل وصاته وانقباضها لا يتعدى رسمه ولا يتجاوز حكمه ونزاهة لا ترخص قيمتها ولا تلين عزيمتها وديانة لا تحسر أذيالها ولا يشف سربالها وإدراكا لا يفل نصله ولا يدرك خصله وذهنا لا يخبو نوره ولا ينبو مطروره وفهما لا يخفى فلقه ولا يهزم فيلقه ولا يلحق بحره ولا يعطل نحره وتحصيلا لا يفلت قنيصه ولا يسام حريصه بل لا يحل عقاله ولا يصدأ صقاله وطلبا لا تتحد فنونه ولا تتعين عيونه بل لا تحصر معارفه ولا تقصر مصارفه يقوم أتم قيام على النحو على طريقة متأخري النحاة جمعا بين القياس والسماع وتوجيه الأقوال البصرية واستحضار الشواهد الشعرية واستظهار اللغات والأعربة واستبصار في مذاهب المعربة محليا أجياد تلك الأعاريب من علمي البديع والبيان بجواهر أسلاك ومجليا في آفاق تلك الأساليب من فوائد هذين الفنين زواهر أفلاك إلى ما يتعلق بذلك من قافية للعروض وميزان وما للشعر من بحور وأوزان تضلع بالقراءات أكمل اضطلاع مع التحقيق والاطلاع

فيقنع ابن الباذش من إقناعه ويشرح لابن شريح ما أشكل من أوضاعه ويقصر عن رتبته الداني ويحوز صدر المنصة من حرز الأماني ويشارك في المنطق وأصول الفقه والعدد والفرائض والأحكام مشاركة حسنة ويتقدم في الأدب نظما ونثرا وكتبا وشعرا إلى براعة الخط وإحكام الرسم وإتقان بعض الصنائع العملية كتفسير الكتب وتنزيل الذهب وغيرهما نشأ بالحضرة العلية لا يغيب عن حلقات المشيخة ولا يريم عن مظان الاستفادة ولا يفتر عن المطالعة والتقييد ولا ينسألم من المناظرة والتحصيل مع المحافظة التي لا تنخرم ولا تنكسر والمفاوضة في الأدب ونظم القريض والفكاهة التي لا تقدح في وقار انتهى ملخصا
وقد أطال في تعريفه بأوراق عدة ثم قال مولده في الربع الثالث من يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى من عام ستين وسبعمائة كما نقلته من خط ابنه ثم قال وله مسائل متعددة في فنون شتى ضمنها كل سديد من البحث وصحيح النظر وأما كتبه فالدر النفيس والياقوت الثمين والروض الأنف والزهر النضير نصاعة لفظ وأصالة غرض وسهولة تركيب ومتانة أسلوب انتهى
ثم ذكر مشيخته وأطال ثم سرد تآليفه الأرجوزة المسماة بتحفة الحكام والأرجوزة المسماة بمهيع الوصول في علم الأصول أصول الفقه والأرجوزة الصغرى المسماة بمرتقى الوصول للأصول كذلك والأرجوزة المسماة بنيل المنى في اختصار الموافقات والقصيدة المسماة بإيضاح المعاني في القراءات الثماني والقصيدة المسماة بالأمل المرقوب في قراءة يعقوب والقصيدة المسماة بكنز المفاوض في علم الفرائض والأرجوزة المسماة بالموجز في النحو حاذى بها رجز ابن مالك في غرض البسط له والمحاذاة لقصده والكتاب المسمى بالحدائق في أغراض شتى من الآداب والحكايات
توفي بين العصر والمغرب يوم الخميس حادي عشر شوال عام تسعة وعشرين

وثمانمائة انتهى كلام الوزير ابن عاصم وإنما ذكرته لأن أهل الأندلس يقولون في حقه إنه ابن الخطيب الثاني ولولا خوف الإطالة لذكرت بعض إنشائه ونظمه فإنه في الذروة العليا وقد ذكرت جملة من ذلك في أزهار الرياض في أخبار عياض ومايناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض
ولنرجع إلى الترجمة المقصودة فنقول والسلماني نسبة إلى سلمان بإسكان اللام على الصحيح قال ابن الأثير والمحدثون يفتحون اللام وسلمان حي من مراد من عرب اليمن القحطانيين دخل الأندلس منهم جماعة من الشأم وسلف لسان الدين رحمه الله تعالى ينتسبون إليهم كما سبق في كلامه وهو مشهور إلى الآن بالمغرب بابن الخطيب السلماني ولذلك خاطبه شيخه شيخ الكتاب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب حين حل مالقة بقوله
( أيا كتابي إذا ما جئت مالقة ... دار الكلام من مثنى ووحدان )
( فلا تسلم على ربع لذي سلم ... بها وسلم على ربع لسلمان )
فأجابه لسان الدين رحم الله تعالى الجميع بقوله
( يا ليت شعري هل يقضي تألفنا ... ويثني الشوق عن غاياته الثاني )
( أو هل يحن على نفسي معذبها ... أو هل يرق لقلبي قلبي الثاني )

عبد العزيز الفشتالي ونونيته
وعلى ذكر نسبة ابن الخطيب لسلمان فقد تذكرت هنا بيتا أنشدنيه لنفسه صاحبنا الوزير الشهير الكبير البليغ صاحب القلم الأعلى سيدي أبو فارس عبد العزيز الفشتالي صب الله تعالى عليه شآبيب رحماه من قصيدة نونية مدح

بها سيد الوجود وتخلص إلى مدح مولانا السلطان المنصور بالله أبي العباس أحمد الحسني أمير المؤمنين صاحب المغرب رحمه الله تعالى وهو
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
وأراد كما أخبرني ببيت سلمان القبيلة التي منها لسان الملة والدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى أشار إلى ولاء الكتابة للخلافة كما كان لسان الدين السلماني رحمه الله تعالى كذلك وفيه مع ذلك تورية بسلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه
وقد رأيت أن أسرد هنا هذه القصيدة الفريدة لبلاغتها التي بذت شعراء اليتيمة والخريدة ولأن شجون الحديث الذي جر إليها شوقني إلى معاهدي المغربية التي أكثر البكاء عليها بحضرة المنصور بالله الإمام سقى الله تعالى عهادها صوب الغمام حيث الشباب غض يانع والمؤمل لم يحجبه مانع والسلطان عارف بالحقوق والزمان وهو أبو الورى لم يشب بره بالعقوق والليالي مسالمة غير رامية من البين بنبال والغربة الجالبة للكربة لم تخطر ببال ورؤساء الدولة الحسنية السنية ساعون فيما يوافق الغرض ويلائم والأيام ثغورها بواسم وأوقاتها أعياد ومواسم وأفراح وولائم فلله فيها عيش ما نسيناه وعز طالما اقتبسنا نور الهدى من طورسيناه
( مضى ما مضى من حلو عيش ومره ... كأن لم يكن إلا كأضغاث أحلام )
وهذا نص القصيدة
( هم سلبوني الصبر والصبر من شاني ... وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني )
( وهم أخفروا في مهجتي ذمم الهوى ... فلم يثنهم عن سفكها حبي الجاني )

( لئن أترعوا من قهوة البين أكؤسي ... فشوقهم أضحى سميري وندماني )
( وإن غادرتني بالعراء حمولهم ... لقى إن قلبي جاهد إثر أظعاني )
( قف العيس واسأل ربعهم أية مضوا ... أللجزع ساروا مدلجين أم البان )
( وهل باكروا بالسفح من جانب اللوى ... ملاعب آرام هناك وغزلان )
( وأين استقلوا هل بهضب تهامة ... أناخوا المطايا أم على كثب نعمان )
( وهل سال في بطن المسيل تشوقا ... نفوس ترامت للحمى قبل جثمان )
( وإذ زجروها بالعشي فهل ثنى ... أزمتها الحادي إلى شعب بوان )
( وهل عرسوا في دير عبدون أم سروا ... يؤم بهم رهبانهم دير نجران )
( سروا والدجى صبغ المطارف فانثنى ... بأحداجهم شتى صفات وألوان )
( وأدلج في الأسحار بيض قبابهم ... فلحن نجوما في معارج كثبان )
( لك الله من ركب يرى الأرض خطوة ... إذا زمها بدنا نواعم أبدان )
( أرحها مطايا قد تمشي بها الهوى ... تمشي الحميا في مفاصل نشوان )
( ويمم بها الوادي المقدس بالحمى ... به الماء صدا والكلا نبت سعدان )
( وأهد حلول الحجر منه تحية ... تفاوح عرفا ذاكي الرند والبان )
( لقد نفحت من شيح يثرب نفحة ... فهاجت مع الأسحار شوقي وأشجاني )
( وفتت منها الشرق في الغرب مسكة ... سحبت بها في أرض دارين أرداني )
( وأذكرني نجدا وطيب عراره ... نسيم الصبا من نحو طيبة حياني )
( أحن إلى تلك المعاهد إنها ... معاهد راحاتي وروحي وريحاني )
( وأهفو مع الأشواق للوطن الذي ... به صح لي أنسي الهني وسلواني )
( وأصبوا إلى أعلام مكة شائقا ... إذ لاح برق من شمام وثهلان )
( أهيل الحمى ديني على الدهر زورة ... أحث بها شوقا لكم عزمي الواني )
( متى يشتفي جفني القريح بلحظة ... تزج بها في نوركم عين إنساني )

( ومن لي بأن يدنو لقاكم تعطفا ... ودهري عني دائما عطفة ثاني )
( سقى عهدهم بالخيف عهد تمده ... سوافح دمع من شؤوني هتان )
( وأنعم في شط العقيق أراكة ... بأفيائها ظل المنى والهوى داني )
( وحيا ربوعا بين مروة والصفا ... تحية مشتاق بها الدهر حيران )
( ربوعا بها تتلو الملائكة العلا ... أفانين وحي بين ذكر وقرآن )
( وأول أرض باكرت عرصاتها ... وطرزت البطحا سحائب إيمان )
( وعرس فيها للنبوة موكب ... هو البحر طام فوق هضب وغيطان )
( وأدى بها الروح الأمين رسالة ... أفادت بها البشرى مدائح عنوان )
( هنالك فض ختمها أشرف الورى ... وفخر نزار من معد بن عدنان )
( محمد خير العالمين بأسرها ... وسيد أهل الأرض م الإنس والجان )
( ومن بشرت في بعثه قبل كونه ... نوامس كهان وأخبار رهبان )
( وحكمة هذا الكون لولاه ما سمت ... سماء ولا غاضت طوافح طوفان )
( ولا زخرفت من جنة الخلد أربع ... تسبح فيها أدم حور وولدان )
( ولا طلعت شمس الهدى غب دجية ... تجهم من ديجورها ليل كفران )
( ولا أحدقت بالمذنبين شفاعة ... يذود بها عنهم زباني نيران )
( له معجزات أخرست كل جاحد ... وسلت على المرتاب صارم برهان )
( له انشق قرص البدر شقين وارتوى ... بماء همى من كفه كل ظمآن )
( وأنطقت الأصنام نطقا تبرأت ... إلى الله فيه زخارف ميان )
( دعا سرحة عجما فلبت وأقبلت ... تجر ذيول الزهر ما بين أفنان )

( وضاءت قصور الشام من نوره الذي ... على كل أفق نازح القطر أو داني )
( وقد بهج الأنوا بدعوته التي ... كست أوجه الغبراء بهجة نيسان )
( وإن كتاب الله أعظم آية ... بها افتضح المرتاب وابتأس الشاني )
( وعدي على شأو البليغ بيانه ... فهيهات منه سجع قس وسحبان )
( نبي الهدى من أطلع الحق أنجما ... محا نورها أسداف إفك وبهتان )
( لعزتها ذل الأكاسرة الألى ... هم سلبوا تيجانها آل ساسان )
( وأحرز للدين الحنيفي بالظبى ... تراث الملوك الصيد من عهد يونان )
( ونقع من سمر القنا السم قيصرا ... فجرعه منه مجاجة ثعبان )
( وأضحت ربوع الكفر والشك بلقعا ... يناغي الصدى فيهن هاتف شيطان )
( وأصبحت السمحا ترف نضارة ... ووجه الهدى بادي الصباحة للراني )
( أيا خير أهل الأرض بيتا ومحتدا ... وأكرم كل الخلق عجم وعربان )
( فمن للقوافي أن تحيط بوصفكم ... ولو ساجلت سبقا مدائح حسان )
( إليك بعثناها أماني أجدبت ... لتسقى بمزن من أياديك هتان )
( أجرني إذا أبدى الحساب جرائمي ... وأثقلت الأوزار كفة ميزاني )
( فأنت الذي لولا وسائل عزه ... لما فتحت أبواب عفو وغفران )
( عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وماست على كثبانها ملد قضبان )
( وحمل في جيب الجنوب تحية ... يفوح بمسراها شذا كل توقان )
( إلى العمرين صاحبيك كليهما ... وتلوهما في الفضل صهرك عثمان )
( وحيا عليا عرفها وأريجها ... ووالى على سبطيك أوفر رضوان )

( إليك رسول الله صممت عزمة ... إذا أزمعت فالشحط والقرب سيان )
( وخاطبت مني القلب وهو مقلب ... على جمرة الأشواق فيك فلباني )
( فيا ليت شعري هل أزم قلائصي ... إليك بدارا أو أقلقل كيراني )
( وأطوي أديم الأرض نحوك راحلا ... نواجي المهارى في صحاصح قيعان )
( يرنحها فرط الحنين إلى الحمى ... إذا غرد الحادي بهن وغناني )
( وهل تمحون عني خطايا افترفتها ... خطا لي في تلك البقاع وأوطان )
( وماذا عسى يثني عناني وإن لي ... بآلك جاها صهوة العز أمطاني )
( إذا ند عن زوارك البأس والعنا ... فجود ابنك المنصور أحمد أغناني )
( عمادي الذي أوطا السماكين أخمصا ... وأوفى على السبع الطباق فأدناني )
( متوج أملاك الزمان وإن سطا ... أحل سيوفا في معاقد تيجان )
( وقاري أسود الغاب بالصيد مثلها ... إذا اضطرب الخطي من فوق جدران )
( هزبر إذا زار البلاد زئيره ... تضاءل في أخياسها أسد خفان )
( وإن أطلعت غيم القتام جيوشه ... وأرزم في مركومه رعد نيران )
( صببن على أرض العداة صواعقا ... أسلن عليهم بحر خسف ورجفان )
( كتائب لو يعلون رضوى لصدعت ... صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان )
( عديد الحصى من كل أروع معلم ... وكل كمي بالرديني طعان )
( إذا جن ليل الحرب عنهم طلى العدا ... هدتهم إلى أوداجها شهب خرصان )
( من اللاء جرعن العدا غصص الردى ... وعفرن في وجه الثرى وجه بستان )
( وفتحن أقطار البلاد فأصبحت ... تؤدي الخراج الجزل أملاك سودان )

( إمام البرايا من علي نجاره ... ومن عترة سادوا الورى آل زيدان )
( دعائم إيمان وأركان سؤدد ... ذوو همم قد عرست فوق كيوان )
( هم العلويون الذين وجوههم ... بدور إذا ما أحلكت شهب أزمان )
( وهم آل بيت شيد الله سمكه ... على هضبة العلياء ثابت أركان )
( وفيهم فشا الذكر الحكيم وصرحت ... بفضلهم آيات ذكر وفرقان )
( فروع ابن عم المصطفى ووصيه ... فناهيك من فخرين قربى وقربان )
( ودوحة مجد معشب الروض بالعلا ... يجود بأمواه الرسالة ريان )
( بمجدهم الأعلى الصريح تشرفت ... معد على العرباء عاد وقحطان )
( أولئك فخري إن فخرت على الورى ... ونافس بيتي في الولا بيت سلمان )
( إذا اقتسم المداح فضل فخارهم ... فقسمي بالمنصور ظاهر رجحان )
( إمام له في جبهة الدهر ميسم ... ومن عزه في مفرق الملك تاجان )
( سما فوق هامات النجوم بهمة ... يحوم بها فوق السموات نسران )
( وأطلع في أفق المعالي خلافة ... عليها وشاح من علاه وسمطان )
( إذا ما احتبى فوق الأسرة وارتدى ... على كبرياء الملك نخوة سلطان )
( توسمت لقمان الحجي وهو ناطق ... وشاهدت كسرى العدل في صدر إيوان )
( وإن هزه حر الثناء تدفقت ... أنامله عرفا تدفق خلجان )
( أيا ناظر الإسلام شم بارق المنى ... وباكر لروض في ذرا المجد فينان )
( قضى الله في علياك أن تملك الدنا ... وتفتحها ما بين سوس وسودان )
( وأنك تطوي الأرض غير مدافع ... فمن أرض سودان إلى أرض بغدان )
( وتملؤها عدلا يرف لواؤه ... على الهرمين أو على رأس غمدان )
( فكم هنأت أرض العراق بك العلا ... ووافت بك البشرى لأطراف عمان )
( فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم ... أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان )

( ولو نشر الأملاك دهرك أصبحت ... عيالا على علياك أبناء مروان )
( وشايعك السفاح يقتاد طائعا ... برايته السوداء أهل خراسان )
( فما المجد إلا ما رفعت سماكه ... على عمدي سمر الطوال ومران )
( وهاتيك أبكار القوافي جلبتها ... تغار لهن الحور في دار رضوان )
( أتتك أمير المؤمنين كأنها ... لطائم مسك أو خمائل بستان )
( تعاظمن حسنا أن يقال شبيهها ... فرائد در أو قلائد عقيان )
( فلا زلت للدنيا تحوط جهاتها ... وللدين تحميه بملك سليمان )
( ولا زلت بالنصر العزيز مؤزرا ... تقاد لك الأملاك في زي عبدان )

نونية أبي الفتح التونسي
انتهت القصيدة التي في تغزلها شرح الحال وإعراب عما في ضمير الغربة والارتحال ولنعززها بأختها في البحر والروي قصيدة القاضي الشهير الذكر الأديب الذي سلبت النهى كواعب شعره إذ أبرزها من خدور الفكر الشيخ الإمام سيدي أبو الفتح محمد بن عبد السلام المغربي التونسي نزيل دمشق الشام صب الله على ضريحه سجال الرحمة والإنعام فإنها نفث مصدور غريب وبث معذور أريب فارق مثلي أوطانه وما سلاها وقرأ آيات الشجو وتلاها وتمنى أن يجود له الدهر برؤية مجتلاها وهي قوله رحمه الله وأنشأها بدمشق عام واحد وخمسين وتسعمائة
( سلوا البارق النجدي عن سحب أجفاني ... وعما بقلبي من لواعج نيران )
( ولا تسألوا غير الصبا عن صبابتي ... وشدة أشواقي إليكم وأشجاني )
( فما لي سواها من رسول إليكم ... سريع السرى في سيره ليس بالواني )

( فيا طال بالأسحار ما قد تكلفت ... بإنعاش محزون وإيقاظ وسنان )
( وتنفيس كرب عن كثيب متيم ... يحن إلى أهل ويصبو لأوطان )
( فلله ما أذكى شذا نسمة الصبا ... صباحا إذا مرت على الرند والبان )
( وسارت مسير الشمس وهنا فأصبحت ... من الشرق نحو الغرب تجري بحسبان )
( وقد وقفت بالشام وقفة حامل ... نوافج مسك من ظباء خراسان )
( لترتاض في تلك الرياض هنيئة ... وتزداد من أزهارها طيب أردان )
( وما غربت حتى تضاعف نشرها ... بواسطتي روح هناك وريحان )
( فكم نحوكم حملتها من رسالة ... مدونة في شرح حالي ووجداني )
( وناشدتها بالله إلا تفضلت ... بتبليغ أحبابي السلام وجيراني )
( تحية مشتاق إلى ذلك الحمى ... وسكانه والنازحين بأظعان )
( سقى الله هاتيك الديار وأهلها ... سحائب تحكي صوب مدمعي القاني )
( وحيا ربوع الحي من خير بلدة ... تخيرها قدما أفاضل يونان )
( هي الحضرة العليا مدينة تونس ... أنيسة إنسان رآها بإنسان )
( لها الفخر والفضل المبين بما حوت ... من الأنس والحسن المنوط بإحسان )
( لقد حل منها آل حفص ملوكها ... مراتب تسمو فوق هامة كيوان )
( وسادوا بها كل الملوك وشيدوا ... بها من مباني العز أفخر بنيان )
( وكان لهم فيها بهاء وبهجة ... وحسن نظام لا يعاب بنقصان )
( وكان لهم فيها عساكر جمة ... تصول بأسياف وتسطو بمران )
( وجيوش وفرسان يضيق بها الفضا ... ويحجم عنها الفرس من آل ساسان )
( وكان لأهليها المفاخر والعلا ... وكان بها حصنا أمان وإيمان )
( وكان على الدنيا جمال بحسنها ... وحسن بنيها من ملوك وأعيان )
( وكانت لطلاب المعارف قبلة ... لما في حماها من أئمة عرفان )
( وكان لأهل العلم فيها وجاهة ... وجاه وعز مجده ليس بالفاني )
( وكان بواديها المقدس فتية ... تقدس باريها بذكر وقرآن )

( ومن أدباء النظم والنثر معشر ... تفوق بناديها بلاغة سحبان )
( وكانت على الأعداء في حومة الوغى ... تطول بأبطال وتسطو بشجعان )
( وما برحت فيها محاسن جمة ... وفي كل نوع أهل حذق وإتقان )
( إلى أن رمتها الحادثات بأسهم ... وسلت عليها سيف بغي وعدوان )
( فما لبثت تلك المحاسن أن عفت ... وأقفر ربع الأنس من بعد سكان )
( وشتت ذاك الشمل من بعد جمعه ... كما انتثرت يوما قلائد عقيان )
( فأعظم برزء خص خير مدينة ... وخير أناس بين عجم وعربان )
( لعمري لقد كادت عليها قلوبنا ... تضرم من خطب عراها بنيران )
( وقد عمنا غم بعظم مصابها ... وإن خصني منه المضر بجثماني )
( وما بقيت فيما علمناه بلدة ... من الشرق إلا ألبست ثوب أحزان )
( فصبرا أخي صبرا على المحنة التي ... رمتك بها الأقدار ما بين إخوان )
( فما الدهر إلا هكذا فاصطبر له ... رزية مال أو تفرق خلان )
( أأحبابنا إن فرق الدهر بيننا ... وطال مغيبي عنكم منذ أزمان )
( فإني على حفظ الوداد وحقكم ... مقيم وما هجر الأحبة من شاني )
( ووالله والله العظيم ألية ... على صدقها قامت شواهد برهان )
( لقد زاد وجدي واشتياقي إليكم ... وبرح بي طول البعاد وأضناني )
( فلا تحسبوا أني تسليت بعدكم ... بشيء من الدنيا وزخرفها الفاني )
( ولا أنني يوما تناسيت عهدكم ... بحال ولا أن التكاثر ألهاني )
( ولا راقني روض ولا هش مسمعي ... لنغمة أطيار ورنة عيدان )
( ولا حل في فكري سواكم بخلوة ... ولا جلوة ما بين حور وولدان )
( ولا اختلجت يوما ضمائر مهجتي ... لغيركم في سر سري وإعلاني )
( ولو لم أسل النفس بالقرب واللقا ... لأدرج جسمي في مقاطع أكفاني )

( فما أنا في عودي إليكم بآيس ... فما اليأس إلا من علامة كفران )
( عليكم سلام الله في كل ساعة ... تحية صب لا يدين بسلوان )
( مدى الدهر ما ناحت مطوقة وما ... تعاقب بين الخافقين الجديدان )

نونية ابن الخطيب
ولصاحب الترجمة لسان الدين ابن الخطيب قصيدة طنانة بهذا الوزن والقافية مدح بها السلطان أبا سالم المريني حين فتح تلسمان وقد رأيت إيرادها في هذا الباب لما اشتمل عليه آخرها من شرح أمر الإغتراب الذي حير الألباب وللمناسبة أسباب لا تخفى على من له فكر مصيب وكل غريب للغريب نسيب وهي
( أطاع لساني في مديحك إحساني ... وقد لهجت نفسي بفتح تلمسان )
( فأطلعتها تفتر عن شنب المنى ... وتسفر عن وجه من السعد حياني )
( كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا ... وجف بخد الورد عارض نيسان )
( كما صفقت ريح الشمال شمولها ... فبان ارتياح السكر في غصن البان )
( تهنيك بالفتح لذي معجزاته ... خوارق لم تذخر سواك لإنسان )
( خففت إليها والجفون ثقيلة ... كما خف شثن الكف من أسد خفان )
( وقدت إلى الأعداء فيها مبادرا ... ليوث رجال في مناكب عقبان )
( تمد بنود النصر منهم ظلالها ... على كل مطعام العشيات مطعان )
( جحاجحة غر الوجوه كأنما ... عمائمهم فيها معاقد تيجان )
( أمدك فيها الله بالملإ العلا ... فجيشك مهما حقق الأمر جيشان )

( لقد جليت منك البلاد لخاطب ... لقد جنيت منك الغصون إلى جاني )
( لقد كست الإسلام بيعتك الرضى ... وكانت على أهليه بيعة رضوان )
( ولله من ملك سعيد ونصبة ... قضى المشتري فيها بعزلة كيوان )
( وسجل حكم العدل بين بيوتها ... وقوفا مع المشهور من رأي يونان )
( فلم تخش سهم القوس صفحة بدرها ... ولم تشك فيها الشمس من بخس ميزان )
( ولم يعترض مبتزها قطع قاطع ... ولا نازعت نوبهرها كف عدوان )
( تولى اختيار الله حسن اختيارها ... فلم يحتج الفرغان فيها لفرغان )
( ولا صرفت فيها دقائق نسبة ... ولو خفقت فيها طوالع بلدان )
( وجوه القضايا في كمالك شأنها ... وجوب إذا خصت سواك بإمكان )
( ومن قاس منك الجود بالبحر والحيا ... فقد قاس تمويها قياس سفسطاني )
( وطاعتك العظمى بشارة رحمة ... وعصيانك المحذور نزغة شيطان )
( وحبك عنوان السعادة والرضى ... ويعرف مقدار الكتاب بعنوان )
( ودين الهدى جسم وذاتك روحه ... وكم وصلة ما بين روح وجثمان )
( تضن بك الدنيا ويحرسك العلا ... كأنك منها بين لحظ وأجفان )
( بنيت على أساس أسلافك العلا ... فلا هدم المبني ولا عدم الباني )
( وصاحت بك العليا فلم تك غافلا ... ونادت بك الدنيا فلم تك بالواني )
( ولم تك في خوض البحار بهائب ... ولم تك في نيل الفخار بكسلان )
( لقد هز منك العزم لما انتضيته ... ذوائب رضوى أو مناكب ثهلان )
( ولله عينا من رآها محلة ... هي الحشر لا تحصى بعد وحسبان )
( وتنور عزم فار في إثر دعوة ... يعم الأقاصي والأدانى بطوفان )
( عجائب أقطار ومألف شارد ... وأفلاذ آفاق وموعد ركبان )
( إذا ما سرحت اللحظ في عرصاتها ... تبلد منك الذهن في العالم الثاني )
( جنى حان والنصر العزيز اهتصاره ... إذا انتظمت بالقلب منها جناحان )

( فمن سحب لاحت بها شهب القنا ... ومن كثب بيض بدت فوق كثبان )
( مضارب في البطحاء بيض قبابها ... كما قلبت للعين أزهار سوسان )
( وما إن رأى الراءون في الدهر قبلها ... قرارة عز في مدينة كتان )
( تفوت التفات الطرف حال اقتبالها ... كأنك قد سخرت جن سليمان )
( فقد أطرقت من خوفها كل بيعة ... وطأطأ من إجلالها كل إيوان )
( وقد ذعرت خولان بين بيوتها ... غداة بدت منها البيوت بخولان )
( فلو رميت مصر بها وصعيدها ... لأضحت خلاء بلقعا بعد عمران )
( ولو يممت سيف بن ذي يزن لما ... تقرر ذاك السيف في غمد غمدان )
( تراع بها الأوثان في أرض رومة ... إذا خيمت شرقا على طرق أوثان )
( وتجفل إجفال النعامي ببرقة ... ليوث الشرى ما بين ترك وعربان )
( وعرضا كيوم العرض أذهل هوله ... عياني وأعياني تعدد أعيان )
( وجيشا كقطع الليل للخيل تحته ... إذا صهلت مفتنة رجع ألحان )
( فيومض من بيض الظبي ببوارق ... ويقذف من سمر الرماح بشهبان )
( ويمطر من ودق السهام بحاصب ... سحائبه من كل عوجاء مرنان )
( وجردا إذا ما ضمرت يوم غاية ... تعجبت من ريح تقاد بأرسان )
( تسابق ظلمان الفلاة بمثلها ... وتذعر غزلان الرمال بغزلان )
( ودون مهب العزم منك قواضب ... أبي النصر يوما أن تلم بأجفان )
( نظرت إليها والنجيع لباسها ... فقلت سيوف أم شقائق نعمان )
( تفتح وردا خدها حين جردت ... ولا ينكر الأقوام خجلة عريان )
( كأن الوغى نادت بها لوليمة ... قد احتفلت أوضاعها منذ أزمان )
( فإن طعمت بالنصر كان وضوءها ... نجيعا ووافاها الغبار بأشنان )
( لقد خلصت لله منك سجية ... جزاك على الإحسان منك بإحسان )
( فسيفك للفتح المبين مصاحب ... وعزمك والنصر المؤزر إلفان )
( فرح واغد للرحمن تحت كلاءة ... وسرحان في غاب العدا كل سرحان )

( ودم المنى تدني إليك قطافها ... ميسر أوطار ممهد أوطان )
( وكن واثقا بالله مستنصرا به ... فسلطانه يعلو على كل سلطان )
( كفاك العدا كاف لملكك كافل ... فضدك نضو ميت بين أكفان )
( رضى الوالد المولى أبيك عرفته ... وقد أنكر المعروف من بعد عرفان )
( فكم دعوة أولاك عند انتقاله ... إلى العالم الباقي من العالم الفاني )
( فعرفت في السراء نعمة منعم ... وألحفت في الضراء رحمة رحمان )
( عجبت لمن يبغي الفخار بدعوة ... مجردة من غير تحقيق برهان )
( وسنة إبراهيم في الفخر قد أتت ... بكل صحيح عن علي وعثمان )
( ومن مثل إبراهيم في ثبت موقف ... إذا ما التقى في موقف الحرب صفان )
( إذا هم لم يلفت بلحظة هائب ... وإن من لم ينفث بلفظه منان )
( فصاحة قس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو تحت حكمة لقمان )
( شمائل ميمون النقيبة أروع ... له قصبات السبق في كل ميدان )
( محبته فرض على كل مسلم ... وطاعته في الله عقدة إيمان )
( هنيئا أمير المسلمين بنعمة ... حبيت بها من مطلق الجود منان )
( لزينت أجياد المنابر بالتي ... أتاح لها الرحمن في آل زيان )
( قلائد فتح هن لكن قدرها ... ترفع أن يدعى قلائد عقيان )
( أمولاي حبي في علاك وسيلتي ... ولطفك بي دأبا بمدحك أغراني )
( أياديك لا أنسى على بعد المدى ... نعوذ بك اللهم من شر نسيان )
( فلا جحد ما خولتني من سجيتي ... ولا كفر نعماك العميمة من شاني )
( ومهما تعجلت الحقوق لأهلها ... فإنك مولاي الحقيق وسلطاني )
( وركني الذي لما نبا بي منزلي ... أجاب ندائي بالقبول وآواني )
( وعالج أيامي وكانت مريضة ... بحكمة من لم ينتظر يوم بحران )
( فأمنني الدهر الذي قد أخافني ... وجدد لي السعد الذي كان أبلاني )

( وخولني الفضل الذي هو أهله ... وشيكا وأعطاني فأفعم أعطاني )
( تخونني صرف الحوادث فانثنى ... يقبل أرداني ومن بعد أرداني )
( وأزعجني من منشئي ومبوئي ... ومعهد أحبابي ومألف جيراني )
( بلادي التي فيها عقدت تمائمي ... وجم بها وفري وجل بها شاني )
( تحدثني عنها الشمال فتنثني ... وقد عرفت مني شمائل نشوان )
( وآمل أن لا أستفيق من الكرى ... إذا الحلم أوطاني بها تراب أوطاني )
( تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان )
( وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني )
( وكانت وقد حم القضاء صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعواني )
( فلولاك بعد الله يا ملك العلا ... وقد فت ما ألفيت من يتلافاني )
( تداركت مني بالشفاعة منعما ... بريئا رماه الدهر في موقف الجاني )
( فإن عرف الأقوام حقك وفقوا ... وإن جهلوا باءوا بصفقة خسران )
( وإن خلطوا عرفا بنكر وقصروا ... وزنت بقسطاس قويم وميزان )
( وحرمة هذا اللحد يأبى كمالها ... هضيمة رد أو حطيطة نقصان )
( وقد نمت عن أمري ونبهت همة ... تحدق من علو إلى صرح هامان )
( إذا دانت الله النفوس وأملت ... إقالة ذنب أو إنالة غفران )
( فمولاك يا مولاي قبلة وجهتي ... وعهدة إسراري وحجة إعلاني )
( وقفت على مثواه نفسي قائما ... بترديد ذكر أو تلاوة قرآن )
( ولو كنت أدري فوقها من وسيلة ... إلى ملكك الأرضى لشمرت أرداني )
( وأبلغت نفسي جهدها غير أنني ... طلابي ما بعد النهاية أعياني )
( قرأت كتاب الحمد فيك لعاصم ... فصح أدائي واقتدائي وإتقاني )

( فدونكها من بحر فكري لؤلؤا ... يفصل من حسن النظام بمرجان )
( وكان رسول الله بالشعر يعتني ... وكم حجة في شعر كعب وحسان )
( ووالله ما وفيت قدرك حقه ... ولكنه وسعي ومبلغ إمكاني )

رسالة لسان الدين إلى أبي سالم
وكتب لسان الدين رحمه الله قبل هذه القصيدة نثرا من إنشائه يخاطب به السلطان أبا سالم المذكور وذلك أنه ورد على لسان الدين وهو بشالة سلا كتاب السلطان المذكور بفتح تلمسان وكان وروده يوم الخميس سابع عشر شعبان عام واحد وستين وسبعمائة ونص ما كتب به لسان الدين
مولاي فتاح الأقطار والأمصار فائدة الأزمان والأعصار أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار قدوة أولي الأيدي والأبصار ناصر الحق عند قعود الأنصار مستصرخ الملك الغريب من وراء البحار مصداق دعاء الأب المولى في الأصائل والأسحار أبقاكم الله سبحانه لا تقف إيالتكم عند حد ولا تحصى فتوحات الله تعالى عليكم بعد ولا تفيق اعداؤكم من كد ميسرا على مقامكم ما عسر على كل أب كريم وجد عبدكم الذي خلص إبريز عبوديته لملك ملككم المنصور المعترف لأدنى رحمة من رحماتكم بالعجز عن شكرها والقصور الداعي إلى الله سبحانه أن يقصر عليكم سعادة العصور ويذلل بعز طاعتكم أنف الأسد الهصور ويبقى الملك في عقبكم وعقب عقبكم إلى يوم ينفخ فيه الصور فلان من الضريح المقدس بشالة وهو الذي تعددت على المسلمين حقوقه وسطع نوره وتلألأ شروقه وبلغ مجده السماء لما بسقت فروعه ووشجت عروقه وعظم ببيوتكم فخره فما فوق البسيطة فخر يفوقه حيث الجلال قد رست هضابه والملك قد كسيت بأستار الكعبة الشريفة قبابه والبيت العتيق قد ألحفت الملاحف الإمامية أثوابه والقرآن العزيز ترتل أحزابه

والعمل الصالح يرتفع إلى الله ثوابه والمستجير يخفي بالهيبة سؤاله فيجهر بنعرة العز جوابه وقد تفيأ من أوراق الذكر الحكيم حديقة وخميلة أنيقة وحط بجودي الجود نفسا في طوفان العز غريقة والتحف رفرف الهيبة التي لا تهتدي النفس فيها إلا بهداية الله تعالى طريقة واعتز بعزة الله وقد توسط جيش الحرمة المرينية حقيقة إذ جعل المولى المقدس المرحوم أبا الحسن مقدمة وأباه وجده سيقة يرى بركم بهذا اللحد الكريم قد طنب عليه من الرضى فسطاطا وأعلق به يد العناية المرينية اهتماما واغتباطا وحرر له أحكام الحرمة نصا جليا واستنباطا وضمن له حسن العقبى التزاما واشتراطا وقد عقد البصر بطريقة رجمتكم المنتظرة المرتقبة ومد اليد إلى لطائف شفاعتكم التي تتكفل بعتق المال كما تكفلت بعتق الرقبة وشرع في المراح بميدان نعمتكم بعد اقتحام هذه العقبة لما شنفت الأذن البشرى التي لم يبق طائر إلا سجع بها ولا شهاب دجنة إلا اقتبس من نورها واقتدح ولا إلا انشرح ولا غصن عطف إلا مرح بشرى الفتح القريب وخبر النصر الصحيح الحسن الغريب فتح تلمسان الذي قلد المنابر عقود الابتهاج ووهب الإسلام منيحة النصر غنية عن الانتهاج وألحف الخلق ظلا ممدودا وفتح باب الحج وكان مسدودا وأقر عيون أولياء الله الذين يذكرون الله قياما وقعودا وأضرع بسيف الحق جباها أبية وخدودا وملككم حق أبيكم الذي أهان عليه الأموال وخاض من دونه الأهوال وأخلص فيه الضراعة والسؤال من غير كد يغمز عطف المسرة ولا جهد يكدر صفو النعم الثرة ولا حصر ينفض به المنجنيق ذؤابته ويظهر بتكرار الركوع إنابته
فالحمد لله الذي أقال العثار ونظم بدعوتكم الإنتثار وجعل ملككم يجدد الآثار ويأخذ الثار والعبد يهنئ مولاه بما أنعم الله تعالى به عليه وأولاه فإذا أجال العبيد قداح السرور فللعبد المعلى والرقيب إذا استهموا حظوظ الجذل فلي القسم الوافر والنصيب وإذا اقتسموا فريضة شكر الله فلي الحظ

والتعصيب لتضاعف أسباب العبودية قبلي وترادف النعم التي عجز عنها قولي وعملي وتقاصر في ابتغاء مكافأتها وجدي وإن تطاول أملي فمقامكم المقام الذي نفس الكربة وآنس الغربة ورعى الوسيلة والقربة وأنعش الأرماق وفك الوثاق وأدر الأرزاق وأخذ على الدهر بالاستقالة العهد والميثاق
وإن لم يباشر العبد اليد العالية بهذا الهناء ويمثل بين يدي الخلافة العظيمة السنا والسناء ويمد بسبب اليد إلى تلك السماء فقد باشر به اليد التي يحن مولاي لتذكر تقبيلها ويكمل فروض المجد بتوفية حقوقها الأبوية وتكميلها ووقفت بين يدي ملك الملوك الذي أجال عليها القداح ووصل في طلب وصالها بالمساء الصباح وكان فتحه إياها أبا عذرة الافتتاح وقلت يهنيك يا مولاي رد ضالتك المنشودة وجبر لقطعتك المعرفة المشهودة ورد أمتك المودودة فقد استحقها وارثك الأرضى وسيفك الأمضى وقاضي دينك وقرة عينك مستنفذ دارك من يد غاصبها وراد رتبتك إلى مناصبها وعامر المثوى الكريم وساتر الأهل والحريم مولاي هذه تلمسان قد طاعت وأخبار الفتح على ولدك الحبيب إليك قد شاعت والأمم إلى هنائه قد تداعت وعدوك وعدوه قد شردته المخافة وانضاف إلى عرب الصحراء فخفضته الإضافة وعن قريب تتحكم فيه يد احتكامه وتسلمه السلامة إلى حمامه فلتطب يا مولاي نفسك وليستبشر رمسك فقد نمت بركتك وزكا غرسك نسأل الله أن يورد على ضريحك من أنباء نصره ما تفتح له أبواب السماء قبولا ويترادف إليك مددا موصولا وعددا آخرته خير لك من الأولى ويعرفه بركة رضاك ظعنا وحلولا ويضفي عليك منه سترا مسدولا
ولم يقنع العبد بخدمة النثر حتى أجهد القريحة التي ركضها الدهر فأنضاها واستشفها الحادث الجلل فتقضاها فلفق من خدمة المنظوم ما يتغمد حلمكم تقصيره ويكون إغضاؤكم إذا لقي معرة العتب وليه ونصيره وإحالة مولاي

على الله في نفسي جبرها ووسيلة عرفها مجده فما أنكرها وحرمة بضريح مولاي والده شكرها ويطلع العبد منه على كمال أمله ونجح عمله وتسويغ مقترحه وتتميم جذله
( أطاع لساني في مديحك إحساني ... )
إلى آخر القصيدة التي تقدمت

نونية الفقيه عمر الزجال
وحيث اقتضت المناسبة جلب هذه النونيات فلنضف إليها قصيدة أديب الأندلس الفقيه عمر صاحب الأزجال إذ هو من فرسان هذا المجال وقد وطأ لها بنثر وجعل الجميع مقامة ساسانية سماها تسريح النصال إلى مقاتل الفصال ونصها يا عماد السالكين ومحط المستفيدين والمتبركين وثمال الضعفاء والمساكين والمتروكين في طريقك يتنافس المتنافس وعلى أعطافك تزهى العباءات وتروق الدلافس وبكتابك تحيا جوامد الأفهام وبمذبتك تشرد ذباب الأوهام وفي زنبيلك يدس التالد والطارف وبعصاك يهش على بدائع المعارف الله الله في سالك ضاقت عليه المسالك وشاد رمي بإبعاد أدركته متاعب الحرفة وأقيم من صف أهل الصفة فلا يجد نشاطا على ما يتعاطى ولا يلقى اغتباطا إن حل زاوية أو نزل رباطا أقصي عن أهل القرب والتخصيص وابتلى بمثل حالة برصيص فأحيل عليك وتوقفت إقالته على

توبة بين يديك فكاتبك استدعاء واستوهب منك هداية ودعاء ليسير على ما سويت ويتحمل عنك أشتات ما رويت فيلقى الأكفاء الظرفاء عزيزا ويباهي بك كل من خاطبك مستجيزا فاصرف إلي محيا الرضى وعد من إيناسك للعهد الذي مضى ولا تلقى معرضا ولا معرضا وأصخ لي سمعك كما قدر الله تعالى وقضى
( تعال نجددها طريقة ساسان ... نعض عليها ما توالى الجديدان )
( ونصرف إليها من مثار عزائم ... ونحلف عليها من مؤكد أيمان )
( ونعقد على حكم الوفاء هواءنا ... لنأمن من أقوال زور وبهتان )
( ونقسم على أن لا نصدق واشيا ... يروح ويغدو بين إثم وعدوان )
( يطوف حوالينا ليفسد بيننا ... بمنطق إنسان وخدعة شيطان )
( على أننا من عالم كلما بدا ... تعوذ منه عالم الإنس والجان )
( وحاشاك أن تلقي على الصلح معرضا ... إلى الصلح آلت حرب عبس وذبيان )
( وإني أهمتني شؤون كثيرة ... وصلحت أولى ما أقدم من شاني )
( فأنت إمامي إن كلفت بمذهب ... وأنت دليلي إن صدعت ببرهان )
( سأرعاك في أهل العباءات كلما ... رأيتك في أهل الطيالس ترعاني )
( ويا لابسي تلك العباءات إنها ... لباس إمام في الطريقة دهقان )
( تفرقت الألوان منها إشارة ... بأنك تأتي من حلاك بألوان )
( ويا بأبي الفصال شيخ طريقة ... خلوب لألباب لعوب بأذهان )
( إذا جاء في الثوب المحبر خلته ... زنيبيرة قد مد منها جناحان )
( فما تأمن الأبدان آفة لسعها ... وإن أقبلت في سابغات وأبدان )
( سأدعوك في حالات كيدي وكديتي ... بشيخي ساسان وعمي هامان )

( فإن كان في الأنساب منا تباين ... فما تنكر الآداب أنا نسيبان )
( ألا فادع لي في جنح ليلك دعوة ... لتنجح آمالي ويرجح ميزاني )
( لك الطائر الميمون في كل وجهة ... سريت إليها غير نكس ولا واني )
( فكم من فقير بائس قد عرفته ... فرفت عليه نعمة ذات أفنان )
( وكم من رفيع الحياة واليت أنسه ... فعاش قرير العين مرتفع الشان )
( فلو كنت للفتح بن خاقان صاحبا ... لما خانه المقدور في ليلة الخان )
( ولو كنت للصابي صديقا ملاطفا ... لما قبلت فيه مقالة بهتان )
( ولو كنت من عبد الحميد مقربا ... لما هزم السفاح أشياع مروان )
( ولو كنت قد أرسلتها دعوة على ... أبي مسلم ما حاز أرض خراسان )
( ولو كنت في يوم الغبيط مراسلا ... لبسطام لم تهزم به آل شيبان )
( ولو كنت في حرب الأمين لطاهر ... لما هام في يوم اللقاء ابن ماهان )
( ولو كنت في مغزى أبي يوسف لما ... رماه بغدر عبده في تلمسان )
( ولو أن كسرى يزدجرد عرفته ... لما لاح مقتولا على يد طحان )
( ولو أن لذريقا وطئت بساطه ... لما أثرت فيه مكيدة اليان )
( وفيما مضى في فاس أوضح شاهد ... غني لدينا عن بيان وتبيان )
( ولما اعتنى منك السعيد بكاتب ... رأى ما ابتغى من عز ملك وسلطان )
( فلا تنسني من أهل ودك إنني ... أخاف الليالي أن تطول فتنساني )

( ولا خير إن تجعل كفاء قصيدتي ... كفاء ابن دراج على مدح خيران )
( فجد بدنانير ولا تكن التي ... ألم بها الكندي في شعب بوان )
( فجودك فينا الغيث في رمل عالج ... وفضلك فينا الخبز في دار عثمان )
( وما زلت من قبل السؤال مقابلا ... مرادي بإحساب وقصدي بإحسان )
( ولا تنس أياما تقضت كريمة ... بزاوية المحروق أو دار همدان )
( وتأليفنا فيها لقبض إتاوة ... وإغرام مسنون وقسمة حلوان )
( وقد جلس الطرقون بالبعد مطرقا ... يقول نصيبي أو أبوح بكتمان )
( عريفي يلحاني إذا ما أتيته ... ولم أنصرف عنكم بواجب ألحان )
( وقد جمعت تلك الطريقة عندنا ... أئمة حساب وأعلام كهان )
( إذا استنزلوا الأرواح باسم تبادرت ... طوائف ميمون وأشياع برقان )
( وإن بخروا عند الحلول تأرجت ... مباخرهم عن زعفران ولوبان )
( وإن فتحوا الدارات في رد آبق ... ثنت عزمه أوهام خوف وخذلان )
( فيحسب أن الأرض حيث ارتمت به ... ركائبه سرعان رجل وركبان )
( وقد عاشرتنا أسرة كيموية ... أقامت لدينا في مكان وإمكان )
( فلله من أعيان قوم تألفوا ... على عقد سحر أو على قلب أعيان )

( ونحن على ما يغفر الله إنما ... نروح ونغدو من رباط إلى خان )
( مع الصبح نصفيها عباءة صفة ... وبالليل نلويها زنانير رهبان )
( أتذكر في سفح العقاب مبيتكم ... ثمانين شخصا من إناث وذكران )
( لديكم من الألوان ما لم يجئ به ... طهور ابن ذنون ولا عرس بوران )
( وكم شائق منكم إلى عقد تكة ... وكم هائم فيكم على حل هميان )
( فأطفأت قنديل المكان تعمدا ... وأومأت فانقضوا كأمثال عقبان )
( وناديت في القوم الركوب فأسرعوا ... فريق لنسوان وقوم لذكران ) فأقسم بالأيمان لولا تعففي ... عن السوء لانحلت عقيدة إيماني )
( فعد للذي كنا عليه فإن لي ... على الغير إن صاحبته حقد غيران )
( فمن يوم إذا صيرت ودي جانبا ... وأعرضت عني ما تناطح عنزان )
( ولا روت الكتاب بعد نفارنا ... محاورة من ثعلبان لسرحان )
( وما هو قصدي منك إلا إجازة ... تخولني التفضيل ما بين خلاني )
( وإنك إن سخرت لي وأجزتني ... لنعم ولي صان ودي وجازاني )
( ولم لا ترويني وأنت أجل من ... سقاني من قبل الرحيق فرواني )
( ألا فأجزني يا إمام بكل ما ... رويت لمدغليس أو لابن قزمان )
( ولا تنس للدباغ نظما عرفته ... فإنكما في ذلك النظم سيان )
( ومزدوجات ينسبون نظامها ... إلي ابن شجاع في مديح ابن بطان )
( وألم بشيء من خرافات عنتر ... وألمع ببعض من حكايات سوسان )

( وإن كنت طالعت اليتيمة واسني ... بلامية في الفحش من نظم واساني )
( أجزني بكشف الدك أرضى وسيلة ... وخير جليس في بساط ودكان )
( وناولني المصباح فهو لغربتي ... ميسر أغراضي ورائد سلواني )
( وألحق به شمس المعارف إنني ... أسائل عن إسناده كل إنسان )
( وقد كنت قبل اليوم عرفتني به ... ولكنني أنسيته بعد عرفان )
( ولا بد يا أستاذ من أن تجيزني ... ببدء ابن سبعين وفصل ابن رضوان )
( وكتب ابن أحلى كيف كانت فإنها ... لوزن دقيق القوم أكرم ميزان )
( ولا تنس ديوان الصبابة والصفا ... لإخوان صدق في الصبا خير إخوان )
( وزهر رياض في صفوف أضاحك ... وجبذ كساء في مكايد نسوان )
( كذاك فناولني كتاب حبائب ... وزدني تعريفا بها وببرجان )
( ولي أمل في أن أروى رسالة ... مضمنة أخبار حي بن يقظان )
( وحبس على الكوز والكاس والعصا ... فإنك مثر من عصى وكيزان )
( وصير لي الدلفاس أرفع لبسة ... فقد جل قدري عن حرير وكتان )
( وقد رق طبعي واعترتني خشية ... تكاد بها روحي تفارق جثماني )
( وخل مفاتيح الطريقة في يدي ... وسوغ لهم حكمي مزيدي ونقصاني )
( فإني لم أخدمك إلا بنية ... وإني لم أتبعك إلا بإحسان )

( فكن لي بالأسرار أفصح معلن ... فإني قد أخلصت سري وإعلاني )
وليس قصدي علم الله بجلب هذه القصيدة ما فيها من المجون بل ما فيها من التلميحات التي يرغب في مثله أهل الأدب والحديث شجون على أن أمثال هؤلاء الأعلام لا يقصدون بمثل هذا الكلام إلا مجرد الإحماض فينبغي أن ينظر كلامهم الواقف عليه بعين الإغضاء عن النقد والإغماض ولا يبادر بالإعتراض من لم يعلم في الأصول برهان القطع والإفتراض والله سبحانه المسؤول في التجاوز عن الزلات والنجاة من الأمور المضلات فعفوه سبحانه وراء جميع ذلك والله تعالى المطلع على أسرار الضمائر والخبير بما هنالك لا رب غيره ولا خير إلا خيره

نونية ابن زمرك
وحيث ذكرنا هذه القصائد النونية التي اتفق فيها البحر والروي وجرت من البلاغة على النهج السوي فلا بأس أن نعززها بقصيدة الرئيس الوزير أبي عبد الله ابن زمرك سامحه الله تعالى وهي قصيدة ميلادية أنشدها سلطان الأندلس عام خمسة وستين وسبعمائة ونجعلها مكفرة لما مر في قصيدة الفقيه عمر من المجون ومبلغه للناظرين في هذا التأليف ما يرجون والحديث شجون وهي قوله
( لعل الصبا إن صافحت روض نعمان ... تؤدي أمان القلب عن ظبية البان )
( وماذا على الأرواح وهي طليقة ... لو احتملت أنفاسها حاجة العاني )
( وما حال من يستودع الريح سره ... ويطلبها وهي النموم بكتمان )
( وكالطيف أستقريه في سنة الكرى ... وهل تنقع الأحلام غلة ظمآن )

( أسائل عن نجد ومرمى صبابتي ... ملاعب غزلان الصريم بنعمان )
( وأبدي إذا ريح الشمال تنفست ... شمائل مرتاح المعاطف نشوان )
( عرفت بهذا الحب لم أدر سلوة ... وإني لمسلوب الفؤاد بسلوان )
( فيا صاحبي نجواي والحب غاية ... فمن سابق جلى مداه ومن واني )
( وراءكما ما اللوم يثني مقادتي ... فإني عن شأن الملامة في شان )
( وإني وإن كنت الأبي قيادة ... ليأمرني حب الحسان وينهاني )
( وما زلت أرعى العهد فيمن يضيعه ... وأذكر إلفي ما حييت وينساني )
( فلا تنكرا ما سامني مضض الهوى ... فمن قبل ما أودى بقيس وغيلان )
( لي الله إما أومض البرق في الدجى ... أقلب تحت الليل مقلة وسنان )
( وإن سل من غمد الغمام حسامه ... برى كبدي الشوق الملم وأضناني )
( تراءى بأعلام الثنية باسما ... فأذكرني العهد القديم وأبكاني )
( أسامر نجم الأفق حتى كأننا ... وقد سدل الليل الرواق حليفان )
( ومما أناجي الأفق أعديه بالجوى ... فأرعى له سرح النجوم ويرعاني )
( ويرسل صوب القطر من فيض أدمعي ... ويقدح زند البرق من نار أشجاني )
( وضاعف وجدي رسم دار عهدتها ... مطالع شهب أو مراتع غزلان )
( على حين شرب الوصل غير مصرد ... وصفو الليالي لم يكدر بهجران )
( لئن أنكرت عيني الطلول فإنها ... تمت إلى قلبي بذكر وعرفان )
( ولم أر مثل الدمع في عرصاتها ... سقى تربها حين استهل وأظماني )
( ومما شجاني أن سرى الركب موهنا ... تقاد به هوج الرياح بأرسان )
( غوارب في بحر السراب تخالها ... وقد سبحت فيه مواخر غربان )
( على كل نضو مثله فكأنما ... رمى منهما صدر المفازة سهمان )
( ومن زاجر كوماء مخطفة الحشا توسد منها فوق عوجاء مرنان )
( نشاوى غرام يستميل رؤوسهم ... من النوم والشوق المبرح سكران )
( أجابوا نداء البين طوع غرامهم ... وقد تبلغ الأوطار فرقة أوطان )

( يؤمون من قبر الشفيع مثابة ... تطلع منها جنة ذات أفنان )
( إذا نزلوا من طيبة بجواره ... فأكرم مولى ضم أكرم ضيفان )
( بحيث علا الإيمان وامتد ظله ... وزان حلى التوحيد تعطيل أوثان )
( مطالع آيات مثابة رحمة ... معاهد أملاك مظاهر إيمان )
( هنالك تصفو للقبول موارد ... يسقون منها فضل عفو وغفران )
( هناك تؤدي للسلام أمانة ... يحييهم عنها بروح وريحان )
( يناجون عن قرب شفيعهم الذي ... يؤمله القاصي من الخلق والداني )
( لئن بلغوا دوني وخلفت إنه ... قضاء جرى من مالك الأرض ديان )
( وكم عزمة مليت نفسي صدقها ... وقد عرفت مني مواعد ليان )
( إلى الله نشكوها نفوسا أبية ... تحيد عن الباقي وتغتر بالفاني )
( ألا ليت شعري هل تساعدني المنى ... فأترك أهلي في رضاه وجيراني )
( وأقضي لبانات الفؤاد بأن أرى ... أعفر خدي في ثراه وأجفاني )
( إليك رسول الله دعوة نازح ... خفوق الحشا رهن المطامع هيمان )
( غريب بأقصى الغرب قيد خطوة ... شباب تقضى في مراح وخسران )
( يجد اشتياقا للعقيق وبانه ... ويصبو إليها ما استجد الجديدان )
( وإن أومض البرق الحجازي موهنا ... يردد في الظلماء أنه لهفان )
( فيا مولى الرحمى ويا مذهب العمى ... ويا منجي الغرقى ويا منقذ العاني )
( بسطت يد المحتاج يا خير راحم ... وذنبي ألجاني إلى موقف الجاني )
( وسيلتي العظمى شفاعتك التي ... يلوذ بها عيسى وموسى بن عمران )
( فأنت حبيب الله خاتم رسله ... وأكرم مخصوص بزلفى ورضوان )
( وحسبك ان سماك أسماءه العلا ... وذاك كمال لا يشاب بنقصان )
( وأنت لهذا الكون علة كونه ... ولولاك ما امتاز الوجود بأكوان )
( ولولاك للأفلاك لم تجل نيرا ... ولا قلدت لباتهن بشهبان )
( خلاصة صفو المجد من آل هاشم ... ونكتة سر الفخر من آل عدنان )

( وسيد هذا الخلق من نسل آدم ... وأكرم مبعوث إلى الإنس والجان )
( وكم آية أطلعت في أفق الهدى ... يبين صباح الرشد منها ليقظان )
( وما الشمس يجلوها النهار لمبصر ... بأجلى ظهورا أو بأوضح برهان )
( وأكرم بآيات تحديتنا بها ... ولا مثل آيات لمحكم فرقان )
( وماذا عسى يثني البليغ وقد أتى ... ثناؤك في وحي كريم وقرآن )
( فصلى عليك الله ما انسكب الحيا ... وما سجعت ورقاء في غصن البان )
( وأيد مولانا ابن نصر فإنه ... لأشرف من ينمي لملك وسلطان )
( أقام كما يرضيك مولدك الذي ... به سفر الإسلام عن وجه جذلان )
( سمى رسول الله ناصر دينه ... معظمه في حال سر وإعلان )
( ووارث سر المجد من آل خزرج ... وأكرم من تنمي قبائل قحطان )
( ومرسلها ملء الفضاء كتائبا ... تدين لها غلب الملوك بإذعان )
( حدائق خضر والدروع غدائر ... وما أنبتت إلا ذوابل مران )
( تجاوب فيها الصاهلات وترتمي ... جوانبها بالأسد من فوق عقبان )
( فمن كل خوار العنان قد ارتمى ... به كل مطعام العشيات مطعان )
( وموردها ظمأى الكعوب ذوابلا ... ومصدرها من كل أملد ريان )
( ولله منها والربوع مواحل ... غمام ندى كفت بها المحل كفان )
( إذا أخلف الناس الغمام وأمحلوا ... فإن نداه والغمام لسيان )
( إمام أعاد الملك بعد ذهابه ... إعادة لا نابي الحسام ولا واني )
( فغادر أطلال الضلال دوارسا ... وجدد للإسلام أرفع بنيان )
( وشيدها والمجد يشهد دولة ... محافلها تزهى بيمن وإيمان )
( وراق من الثغر الغريب ابتسامة ... وهز له الإسلام أعطاف مزدان )
( لك الخير ما أسنى شمائلك التي ... يقصر عن إدراكها كل إنسان )

( ذكاء إياس في سماحة حاتم ... وإقدام عمرو في بلاغة سحبان )
( أمولاي ما أسنى مناقبك التي ... هي الشهب لا تحصى بعد وحسبان )
( فلا زلت يا غوث البلاد وأهلها ... مبلغ أوطار ممهد أوطان )
ولابن زمرك المذكور ترجمة نأتي بها في هذا التأليف إن شاء الله تعالى في محلها وهو من تلامذة لسان الدين ومن عداد خدامه فحين نبا به الزمان وتعوض الخوف بعد الأمان كان أحد الساعين في قتله كما سنذكره وصرح بذمه وهجوه بعد أن كان ممن يشكره وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها حيث دارت ويسيرون حيث سارت ويشربون من الكأس التي أدارت وقد تولى المذكور الوزارة عوضا عن ابن الخطيب وصدح طير عزه بعده على فنن من الإقبال رطيب ثم آل الأمر به إلى القتل كما سعى في قتل لسان الدين وكان الجزاء له من جنس عمله والمرء يدان بما كان به يدين وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة فإنه لا يتعاظمه ذنب وليس للكل غيره من رب
رجع إلى ما كنا بسبيله وأما لوشة التي ينسب إليها لسان الدين فقد تقدم من كلام ابن خلدون أنها على مرحلة من حضرة غرناطة في الشمال من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج وقد أجرى ذكرها لسان الدين في الإحاطة وقال إنها بنت الحضرة يعني غرناطة وقال ذلك في

ترجمة ابن مرج الكحل
ولنذكر الترجمة بكمالها تتميما للغرض فنقول
ترجمة ابن مرج الكحل
قال رحمه الله ما نصه محمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم من

أهل جزيرة شقر يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن مرج الكحل
حاله كان شاعرا مفلقا غزلا بارع التوليد رقيق الغزل وقال الأستاذ أبو جعفر شاعر مطبوع حسن الكتابة ذاكر للأدب متصرف فيه قال ابن عبد الملك وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات ظهرت فيها إجادته وكان مبتذل اللباس على هيئة أهل البادية ويقال إنه كان أميا
من أخذ عنه روى عنه أبو جعفر ابن عثمان الوراد وأبو الربيع ابن سالم وأبو عبد الله ابن الأبار وابن عسكر وابن أبي البقاء وأبو محمد ابن عبد الرحمن ابن برطلة وأبو الحسن الرعيني
شعره ودخوله غرناطة قال في عشية بنهر الغنداق من خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة والمحسوب من دخلها أنه دخل إلبيرة وقد قيل إن نهر الغنداق من أحواز برجة وهذا الخلاف داع لذكره
( عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثر )
( ولتغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتي أحوى المراشف أحور )
( وعشية كم كنت أرقب وقتها ... سمحت بها الأيام بعد تعذر )
( فلنا بهذا ما لنا في روضة ... تهدي لناشقها شميم العنبر )
( والدهر من ندم يسفه رأيه ... فيما مضى فيه بغير تكدر )
( والورق تشدو والأراكة تنثي ... والشمس ترفل في قميص أصفر )
( والروض بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر )
( والنهر مرقوم الأباطح والربى ... بمصندل من زهرة ومعصفر )
( وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسل على بساط أخضر )
( وكأنما ذاك الحباب فرندة ... مهما طفا في صفحة كالجوهر )

( وكأنه وجهاته محفوفة ... بالآس والنعمان خد معذر )
( نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم يشعر )
( ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك المنظر )
ولا خفاء ببراعة هذا الشعر وقال منها
( أرأت جفونك مثله من منظر ... ظل وشمس مثل خد معذر )
( وجداول كأراقم حصباؤها ... كبطونها وحبابها كالأظهر )
وهذا تتميم عجيب لم يسبق إليه ثم قال منها
( وقرارة كالعشر بين خميلة ... سالت مذانبها بها كالأسطر )
( فكأنها مشكولة بمصندل ... من يانع الأزهار أو بمعصفر )
( أمل بلغناه بهضب حديقة ... قد طرزته يد الغمام الممطر )
( فكأنه والزهر تاج فوقه ... ملك تجلى في بساط أخضر )
( راق النواظر منه رائق منظر ... يصف النضارة عن جنان الكوثر )
( كم قاد خاطر خاطر مستوفز ... وكم استفز جماله من مبصر )
( لو لاح لي فيما تقادم لم أقل ... عرج بمنعرج الكثيب الأعفر )
قال أبو الحسن الرعيني وأنشدني لنفسه
( وعشية كانت قنيصة فتية ... ألفوا من الأدب الصريح شيوخا )
( فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ... من الإنحناء إلى الوقوع فخوخا )
( شملتهم آدابهم فتجاذبوا ... سر السرور محدثا ومصيخا )
( والورق قرأ سورة الطرب التي ... ينسيك منها ناسخ منسوخا )

( والنهر قد صفحت به نارنجة ... فتيممت من كان فيه منيخا )
( فتخالهم خلل السماء كواكبا ... قد قارنت بسعودها المريخا )
( خرق العوائد في السرور نهارهم ... فجعلت أبياتي له تاريخا )
ومن أبياته في البديهة قوله
( وعندي من مراشفها حديث ... يخبر أن ريقتها مدام )
( وفي أجفانها السكرى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمام )
( تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عنت لمقلتي الخيام )
( وأشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنت حمام )
ومن قصيدة
( عذيري من الآمال خابت قصودها ... ونالت جزيل الحظ منها الأخابث )
( وقالوا ذكرنا بالغنى فأجبتهم ... خمولا وما ذكر مع البخل ماكث )
( يهون علينا أن يبيد أثاثنا ... وتبقى علينا المكرمات الأثائث )
( وما ضر أصلا طيبا عدم الغنى ... إذا لم يغيره من الدهر حادث )
وله يتشوق إلى عمرو بن أبي غياث
( أيا عمرو متى تقضي الليالي ... بلقياكم وهن قصصن ريشي )
( أبت نفسي هوى إلا شريشا ... ويا بعد الجزيرة من شريش )
وله من قصيدة
( طفل المساء وللنسيم تضوع ... والأنس يجمع شملنا ويجمع )
( والزهر يضحك من بكاء غمامة ... ريعت لشيم سيوف برق تلمع )

( والنهر من طرب يصفق موجه ... والغصن يرقص والحمامة تسجع )
( فانعم أبا عمران واله بروضة ... حسن المصيف بها وطاب المربع )
( يا شادن البان الذي دون النقا ... حيث التقى وادي الحمى والأجرع )
( الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع )
( إن غاب نور الشمس لسنا نتقي ... بسناك ليل تفرق يتطلع )
( أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع )
( فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
وقال
( ألا بشروا بالصبح من كان باكيا ... أضر به الليل الطويل مع البكا )
( ففي الصبح للصب المتيم راحة ... إذا الليل أجرى دمعه وإذا شكا )
( ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ... فلم يزل الكافور للدم ممسكا )
ومن بديع مقطوعاته قوله
( مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك )
( أنت لا تدركه متبعا ... فإذا وليت عنه تبعك )
وقال
( دخلتم فأفسدتم قلوبا بملكها ... فأنتم على ما جاء في سورة النمل )
( وبالجود والإحسان لم تتخلقوا ... فأنتم على ما جاء في سورة النحل )

وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور رأيت لابن مرج الكحل مرجا أحمر قد أجهد نفسه في خدمته فلم ينجب فقلت
( يا مرج كحل ومن هذي المروج له ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل )
( ما حمرة الأرض من طيب ومن كرم ... فلا تكن طمعا في رزقها العجل )
( فإن من شأنها إخلاف آملها ... فما تفارقها كيفية الخجل )
فقال مجيبا
( يا قائلا إذ رأى مرجي وحمرته ... ما كان أحوج هذا المرج للكحل )
( هو احمرار دماء الروم سيلها ... بالبيض من مر من آبائي الأول )
( أحببته أن حكى من قد فتنت به ... في حمرة الخد أو إخلافه أملي )
وفاته توفي ببلده يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول عام أربعة وثلاثين وستمائة ودفن في اليوم بعده
انتهى ما في الإحاطة في شأن ابن مرج الكحل
وكتب أبو الحسن علي بن لسان الدين على أول ترجمته ما نصه شاعر جليل القدر من مشايخ شعراء الأندلس من أهل بلنسية وسكن جزيرة شقر
وكتب على قوله والنهر مرقوم الأباطح ما صورته لم يصف أحد النهر بأرق ديباجة ولا أظرف من هذا الإمام رحمة الله عليه انتهى كلام ابن لسان الدين

رائية شمس الدين الكوفي
قلت وما رأيت رائية تقرب من التي لابن مرج الكحل السابقة التي أولها

عرج بمنعرج الكثيب الأعفر إلا رائية شمس الدين الكوفي الواعظ وهي قوله
( روح الزمان هو الربيع فبكر ... وانهض إلى اللذات غير منكر )
( هذا الربيع يبيع من لذاته ... أصناف ما تهوي فأين المشتري )
( فافرح به فلفرحة بقدومه ... رفل الشقائق في القباء الأحمر )
( والكون مبتهج وخفاق الصبا ... يحيي القلوب بنشره المتعطر )
( والغيم يبكي والأقاحي باسم ... لبكائه كتبسم المستبشر )
( والسرو إن عبث النسيم فهز أعطاف ... الغصون يميس ميس موقر )
( وكأنما القداح فستق فضة ... يهدي إليك أريج مسك أذفر )
( وكأنما المنثور في أثوابه ... ألوان ياقوت أنيق المنظر )
( وترى البهار كعاشق متخوف ... متشوق باد بوجه أصفر )
( وكأنما النارنج في أوراقه القنديل ... والأوراق شبه مسحر )
( وكأنما الخشخاش قوم جاءهم ... خبر يسرهم بطيب المخبر )
( فثنوا ملابسهم لفرط سرورهم ... كي يخلعوا فرحا بقول المخبر )
( فتعلقت أذيالها بأكفهم ... وتعلقت أزياقها بالمنحر )
( والطل من فوق الرياض كأنه ... درر نثرن على بساط أخضر )
( وترى الربى بالنور بين متوج ... ومدملج ومخلخل ومسور )
( ورياضها بالزهر بين مقرطق ... ومطوق وممنطق ومزنر )
( والورد بين مضعف ومشنف ... ومكتف وملطف لم يهصر )
( والزهر بين مفضض ومذهب ... ومرصع ومدرهم ومدنر )
( والنثر بين مطيب وممسك ... ومعطر ومصندل ومعنبر )
( والورق بين مرجع وموجع ... ومفجع ومسجع في منبر )
( ومغرد ومردد ومعدد ... ومبدد في الخد ماء المحجر )

ولكن قصيدة ابن مرج الكحل أعذب مذاقا وكل منهما لم يقصر رحمهما الله تعالى فلقد أجادا فيما قالاه إلى الغاية وليس الخبر كالعيان

عود إلى ابن مرج الكحل
ومن نظم ابن مرج الكحل قوله
( الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع )
( أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلا من الظلماء ما يتوقع )
( فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
ولمح بهذه الأبيات إلى قول الرصافي الأندلسي البلنسي يخاطب من اسمه موسى بقصيدة أولها
( ما مثل موضعك ابن رزق موضع ... زهر يرف وجدول يتدفع )
ومنها
( وعشية لبست ثياب شحوبها ... والجو بالغيم الرقيق مقنع )
( بلغت بنا أمد السرور تألفا ... والليل نحو فراقنا يتطلع )
( فابلل بها ريق الغبوق فقد أتى ... من دون قرص الشمس ما يتوقع )
( سقطت ولم يملك نديمك ردها ... فوددت يا موسى لو أنك يوشع )
قلت ومن نثر ابن مرج الكحل المذكور ما كتبه إلى أديب الأندلس أبي بحر صفوان بن إدريس مراجعا له بعد نظم ونص الجميع

( يا من تبوأ في العلياء منزلة ... جداه قد أسساها أي تأسيس )
( لم يتركا في العلا حظا لملتمس ... سيان هذا وهذاك ابن إدريس )
( وافى كتابكم فارتد لي جذلي ... واعتضت من فرط أشواقي بتأنيس )
( وللنوى لوعة تطفو فيطفئها ... مسك المداد وكافور القراطيس )
حرس الله سناءك وسناك وأظفر يمناك بمناك ودي الأسلم كما تعلم وعهدي الأقدم لم تزل له قدم وأنا دام عزكم إن اتفق معكم انتسابا فلم أتفق في شأو الأدب باعا ولا قاربتكم طباعا وانطباعا بل بذلك الإتفاق تشرفت وسموت إلى ذروة العلا واستشرفت وأقررت بذلك الفضل واعترفت وكرعت في مناهله واغترفت ولقد وافى كتابكم فقلت لقد نثر الدر من فيه وبلغ نفسي مما كانت تنويه من التنويه
( حديث لو أن الميت نودي ببعضه ... لأصبح حيا بعدما ضمه القبر )
ولولا ما طالعني وجه من رضاكم وسيم وسقاني مزن اهتبالكم ما أروى به وأسيم وحياني منكم روض ونسيم لما ساعدني الفكر بقسيم لا زلتم في ظل من العيش وارف مرتدين رداء المعارف والسلام انتهى

رسالة صفوان إلى ابن مرج الكحل
وكانت مخاطبة صفوان له التي أجاب عنها بما نصه
( يا قاطع البيد يطويها وينشرها ... إلى الجزيرة ينضي بدن العيس )
( الثم بها عن أخي حب وذي كلف ... يد العلا والقوافي وابن إدريس )
وأبلغها إليه تحية كالمسك صدرا ووردا وكالماء الزلال عذوبة وبردا يسري بها إلى دار ابن نسيم ويسفر منها بجزيرة شقر وجه وسيم وهي وإن

كانت تذيب المسك خجلا وتستفز بصوتها وجلا فما هي إلا خائفة تترقب وسافرة تكاد تتنقب تمشي على استحياء وتعثر من التقصير في ذيل إعياء هذا لأنها جلبت إلى هجر تمرا وإلى شبام وبيت رأس خمرا ولكن على المجد أن يبدي في قبول عذرها ويعيد لعلمه أنه يتيمم ممن لم يجد إلا الصعيد فله الفضل أن لا يلفحها بنار النقد ولا يعرضها على ما هنالك من الحل والعقد والله يبقي ذكره في مقلة الأدب حورا وفي قلب الحسود خورا ويديمه والقوافي طوع قريحته والأغراض الجميلة ملء تعريضته وتصريحته وزهر البيان تطلع في سماء جنانه وزهر التبيان يونع في أنداء جنانه وعذرا إليه فإني كتبت والحامل يمسك زمامه ويلتفت في البيداء أمامه والسلام

خطبة نكاح من إنشاء صفوان
ومن إنشاء صفوان خطبة نكاح نصها الحمد لله الذي تطول بالإحسان من غير جزاء ولا ثواب والبس المخلوقات من فواضله سوابغ المطارف وكواسي الأثواب وجاءوا على أقدام الرجاء إلى محال نوافله فوجدوها مفتحة لهم الأبواب وسألوه كفاية المؤنة فكان الفعل بدل القول والإسعاف بدل الجواب خلق البرية من غير افتقار ولا اضطرار ونقلهم من الطفولية إلى غيرها نقل البدر من التمام إلى السرار وشرف هذه الطبقة الإنسانية فرزقها الإدراكات العقلية والإبانات اللسانية فضرب سرادق اعتنائه عليها وأنشأها من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ومع صنعه الرفيق بهم اللطيف وتنويهه الحاف بأرجائهم المطيف رزقهم أحسن الصور الحيوانية وأجملها وأتاح لهم أتم أقسام الاعتناء وأكملها وبعث إليهم الرسل صلوات الله عليهم صنعا منه جميلا وربا للصنيعة لديهم وتكميلا فبشروا وأنذروا وأمنوا وحذروا وباينوا بين الحرام والحلال مباينة إدراك البصير بين الكدر والزلال ودلوا على السمت الأهدى

ونصبوا أعلام التوفيق والهدى ولم يدعوا شيئا سدى بل توازنت بهم مقادير الأقوال والأعمال وكانت إشاراتهم ثمال الهدايا وأي ثمال فآب كل متسحب إلى الارتباط وشد كل موفق على الاعتلاق بحالهم يد الاغتباط فصلوات الله الزاكية عليهم ونوافح رحمته النامية تغدو وتروح إليهم وأتم الصلاة والسلام على علم أولئك الأعلام الداعي على بصيرة إلى دار السلام السراج المنير المبشر النذير محمد وعلى آله وصحبه صلاة تؤول بهم إلى فسيح رضوانه ورحبه بعثه الله رحمة للعالمين عامة وأرسله نعمة للناس موفورة تامة فأخذ بحجز مصدقيه عن التهافت في مداحض الأقدام والتتابع في مزلات الجرأة على العصيان والإقدام فأقام الحجة وأوضح المحجة ودل على المقامات التي تمحض الأولياء وأفصح عن الكرامات التي تنقذ الأتقياء وقال وأهلا به من قائل تناكحوا فإني مكاثر بكم الأنبياء حرصا منه على الزيادة في أهل الإسلام والنماء ودفعا في صدر الباطل بواضح الحق الصادع غيهب الظلماء وحض على ذات الدين الحصان وأغرى بالإعتصام والإحصان ونصب أعلام النكاح مشيدة المباني وجاء بها سنة عذبة المجاني وقال من تزوج فقد كمل نصف دينه فليتق الله في النصف الثاني وأمر بالنكاح الذي توافقت فيه الطبيعة والشريعة ولبته النفوس وهي سريعة وأخصبت به ربوة التناسل فهي مروضة مريعة وسدت به عن اتباع الهوى وارتكاب المحارم الذريعة وحفظت به الأنسال والأنساب وفاض به نهر الالتئام السلسال المنساب إذ لا سبيل لأن يستغني بذاته من كان أسير هواه ومأمور لذاته وإنما الانفراد والاستغنا لمن له الكمال والغنى ولا يجوز أن يتعاقب عليه الإنى لا إله إلا هو له السناء والسنا وإن فلانا لما ارتقت همته إلى اتباع الصالحات وسمت ووسمته النجابة من أعلامها اللائحة بما وسمت رأى أن الاعتصام بالنكاح أولى ما حمى به

دينه ووقاه وأهم ما رفع إليه اعتناءه ورقاه فخطب إلى فلان ابنته فلانة خطبة تضافر فيها اليمن والقبول ونفحت بها شمال من الجد المصمم وقبول وارتقى بها إلىاللوح المحفوظ والديوان المكنون عمل مقبول فتلقى فلان خطبته بالإجابة لماتوسم فيه من مخايل النجابة حرصا منه على المساعدة والعون واغتباطا بمياسرة أهل الرشد والصون وانعقد النكاح بينهما على بركة الله التي يتضاعف بها العدد القليل ويتزيد ويمنه الذي ينتهض به من اعتمده ويتأيد وحسن توفيقه الذي يرتبط به من أخلص ضميره ويتقيد على أن أصدقها كذا تزوجها بكلمة الله التي علت الكلمات وبهرتها وعلى سنة نبيه التي أحيت الحنيفية وأظهرتها وأنفت الملة من ارجاس الجاهلية وطهرتها وهداية مهدية التي غلبت الأباطل وقهرتها ولتكون عنده بأمانة الله التي هي جنة واعتصام وعهدته للزوجات على أزواجهن التي ليس لعروتها انفصام وعلى إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وتسلسل في ميدان التناصف وأرسان وله عليها من حسن العشرة التي هي بحقيق الإتفاق عائدة مثل ذلك ودرجة زائدة والله تعالى يمهد لهما مهاد نعمته الوثير ويخلف منهما الطيب الكثير ويرزقهما التوفيق الباعث لطول المرافقة المثير بمنه ونعمته

من رسالة عتاب لصفوان
وله رحمة الله من رسالة عتاب أدام الله سبحانه مدة الأخ الذي أستديم إخاءه وإن واجهتني زعازعه أرتقب رخاءه وتجاوزت عن يومه لأمسه وأغضيت عن ظلامه لشمسه إناء واعتناء وإنذارا وإعذارا ورحم الله من اعتمد على الأفهام وعصى أوامر الأوهام ورأى الخليفة في المعقول لا في المختلق المنقول وبعد فإنه وصل كلامك بل ملامك وكتابك بل عتابك ورسالتك بل بسالتك أسمعتني بألفاظك العذاب سوء العذاب وأريتني لمعان

الحسام من فقرك الوسام
وقال صفوان رحمه الله اجتمعت مع ابن مرج الكحل يوما فاشتكى إلي ما يجد لفراقي وأطال عتب الزمان في إشآمه وإعراقي فقلت إذا تفرقنا والنفوس مجتمعة فما يضر أن الجسوم للرحيل مزمعة ثم قلت له
( أنت مع العين والفؤاد ... دنوت أو كنت ذا بعاد )
فقال وهو من بارع الإجازة
( وأنت في القلب في السويدا ... وأنت في العين في السواد )
وإذ جرى ذكر صفوان فلا حرج أن نترجمه فنقول

ترجمة صفوان
قال في الإحاطة ما ملخصه صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي المرسي أبو بحر كان أديبا حسيبا ممتعا من الظرف ريان من الأدب حافظا سريع البديهة ترف النشأة على تصاون وعفاف جميلا سريا ممن تساوى حظه في النظم والنثر على تباين الناس في ذلك روى عن أبيه وخاله وابن عم أبيه القاضي أبي القاسم ابن إدريس وأبي بكر ابن مغاور وأبي رجال ابن غلبون وأبي العباس ابن مضا سمع عليه صحيح مسلم وأبي القاسم ابن حبيش وابن حوط الله وأبي الوليد ابن رشد وأجاز له ابن بشكوال وروى عنه أبو إسحاق اليابري وأبو الربيع ابن البني وأبو عبد الله ابن أبي البقاء وأبو عمر ابن سالم وابن عيشون وله تواليف أدبية

منها زاد المسافر وكتاب الرحلة وكتاب العجالة سفران يتضمنان من نظمه ونثره أدبا لا كفاء له وانفرد من تأبين الحسين وبكاء أهل البيت بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة
ثم سرد لسان الدين جملة من نظمه إلى أن قال وقال في غرض الرصافي من وصف بلده وذكر إخوانه يساجله في الغرض والروي عقب رسالة سماها طراد الجياد في الميدان وتنازع اللدات والأخدان في تقديم مرسية على غيرها من البلدان
( لعل رسول البرق يغتنم الأجرا ... فينثر عني ماء عبرته نثرا )
( معاملة أربي بها غير مذنب ... فأقضيه دمع العين عن نقطة بحرا )
( ليسقي من تدمير قطرا محببا ... يقر بعين القطر أن تشرب القطرا )
( ويرضعه ذوب اللجين وإنما ... توفيه عيني من مدامعها تبرا )
( وما ذاك تقصيرا بها غير أنه ... سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا )
( خليلي قوما فاحسبا طرق الصبا ... مخافة أن يحمى بزفرتي الحرى )
( فإن الصبا ريح علي كريمة ... بآية ما تسري من الجنة الصغرى )
( خليلي أعني أرض مرسية المنى ... ولولا توخي الصدق سميتها الكبرى )
( محلي بل جوى الذي عبقت به ... نواسم آدابي معطرة نشرا )
( ووكري الذي منه درجت فليتني ... فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا )
( وما روضة الخضراء قد مثلت بها ... مجرتها نهرا وأنجمها زهرا )
( بأبهج منها والخليج مجرة ... وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا )
( وقد أسكرت أعطاف أغصانها الصبا ... وما كنت أعتد الصبا قبلها خمرا )

( هنالك بين الغصن والقطر والصبا ... وزهر الربى ولدت آدابي الغرا )
( إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلم نظام النثر من ههنا شعرا )
( وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى ... تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا )
( فوائد أسحار هناك اقتبستها ... ولم أر روضا غيره يقرئ السحرا )
( كأن هزيز الريح يمدح روضها ... فتملأ فاه من أزاهرها درا )
( أيا زنقات الحسن هل فيك نظرة ... من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا )
( فأنظر من هذي لتلك كأنما ... أغير إذ غازلتها أختها الأخرى )
( هي الكاعب الحسناء تمم حسنها ... وقدت لها أوراقها حللا خضرا )
( إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ... وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا )
( وقامت بعرس الأنس قينة أيكها ... أغاريدها تسترقص الغصن النضرا )
( فقل في خليج يلبس الحوت درعه ... ولكنه لا يستطيع بها نصرا )
( إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ... كصفحة سيف وسمها قبعة صفرا )
( وإن لاح فيها البدر شبهت متنه ... بشط لجين ضم من ذهب عشرا )
( وفي جرفي روض هناك تجافيا ... بنهر يود الأفق لو زاره فجرا )
( كأنهما خلا صفاء تعاتبا ... وقد بكيا من رقة ذلك النهرا )
( وكم لي بأبيات الحديد عشية ... من الأنس ما فيه سوى أنه مرا )
( عشايا كأن الدهر غض بحسنها ... فأجلت بساط البرق أفراسها الشقرا )
( عليهن أجري خيل دمعي بوجنتي ... إذا ركبت حمرا ميادينها الصفرا )

( أعهدي بالغرس المنعم دوحة ... سقتك دموعي إنها مزنة شكرا )
( فكم فيك من يوم أغر محجل ... تقضت أمانيه فخلدتها ذكرا )
( على مذنب كالبحر من فرط حسنه ... تود الثريا أن يكون لها نحرا )
( سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ... نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا )
( وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ... لما فارقت عيني وجوههم الزهرا )
( ولو كنت أقضي حق نفسي ولم أكن ... لما بت أستحلي فراقهم المرا )
( وما اخترت هذا البعد إلا ضرورة ... وهل تستجيز العين أن تفقد الشفرا )
( قضى الله أن تنأى بي الدار عنهم ... أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا )
( ووالله لو نلت المنى ما حمدتها ... وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا )
( أيأنس باللذات قلبي ودونهم ... مرام يجد الكرب في طيها شهرا )
( ويصحب هادي الليل راء حروفه ... وصادا ونونا قد تقوس واصفرا )
( فديتهم بانوا وضنوا بكتبهم ... فلا خبرا منهم لقيت ولا خبرا )
( ولولا علا هماتهم لعتبتهم ... ولكن عراب الخيل ولا تحمل الزجرا )
( ضربت غبار البيد في مهرق السرى ... بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا )
( وحققت ذاك الضرب جمعا وعدة ... وطرحا وتجميلا فأخرج لي صفرا )
( كأن زماني حاسب متعسف ... يطارحني كسرا وما يحسن الجبرا )
( فكم عارف بي وهو يحسن رتبتي ... فيمدحني سرا ويشتمني جهرا )
( لذلك ما أعطيت نفسي حقها ... وقلت لسرب الشعر لا ترم الفكرا )
( فما برحت فكري عذارى قصائدي ... ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا )
( ولست وإن طاشت سهامي بآيس ... فإن مع العسر الذي يتقى يسرا )

وقال يراجع أبا الربيع ابن سالم عن أبيات مثلها
( سقى مضرب الخيمات من علمي نجد ... أسح غمامي أدمعي والحيا الرغد )
( وقد كان في دمعي كفاء وإنما ... يجففها ما بالضلوع من الوقد )
( فإن فترت نار الضلوع هنيهة ... فسوف ترى تفجيره للحيا العد )
( وإن ضن صوب المزن يوما فأدمعي ... تنوب كما ناب الجميع عن الفرد )
( وإن هطلا يوما بساحتها معا ... فأرواهما ما صاب من منتهى الود )
( أرى زفرتي تذكي ودمعي ينهمي ... نقيضين قاما بالصلاء وبالورد )
( فهل بالذي أبصرتم أم سمعتم ... غمام بلا أفق وبرق بلا رعد )
( لي الله كم أهذي بنجد وأهلها ... وما لي بها إلا التوهم من عهد )
( وما بي إلى نجد نزوع ولا وهدى ... خلا أنهم شنوا القوافي على نجد )
( وجاءوا بدعوى حسن الشعر زورها ... فصارت لهم في مصحف الحب كالحمد )
( شغلنا بأبناء الزمان عن الهوى ... وللدرع وقت ليس يحسن للبرد )
( إلى الله أشكو ريب دهر يغص بي ... نوائبه قد ألجمت ألسن العد )
( لقد صرفت حكم الفؤاد إلى الهوى ... كما فوضت أمر الجفون إلى السهد )
( أما تتوقى ويحها أن أصيبها ... بدعوة مظلوم على جورها يعدي )
( أما راعها أن زحزحت عن أكارم ... فراقهم دل القلوب على حدي )
( أعاتبها فيهم فتزداد قسوة ... أجدك هل عاينت للحجر الصلد )
( أما علمت أن القساوة نافرت ... طباع بني الآداب إلا من الرد )
( إذا وعدت يوما بتأليف شملنا ... فألمم بعرقوب وما سن من وعد )
( وإن عاهدت أن لا تؤلف بيننا ... تذكرت آثار السموأل في العهد )
( خليلي أعني الظم والنثر أرسلا ... جياد كما في حلبة الشكر والحمد )
( قفا ساعداني إنه حق صاحب ... بريء جمام الكتم من كدر الحقد )

( بآية ما قيدتما ألسن الورى ... بذكري فيا ويح الكناني والكندي )
( فأين بياني أو فأين فصاحتي ... إذا لم أعد ذكر الأكارم أو أبدي )
( فيا خاطري وف الثناء حقوقه ... وصغه كما قالوا سوار على زند )
( ولا تلزمني بالتكاسل حجة ... تشببها نار الحياء على خدي )
( ثكلت القوافي وهي أبناء خاطري ... وغيبها الإقحام عني في لحد )
( لئن لم أصغ زهر النجوم قلادة ... وآت ببدر التم واسطة العقد )
( إلى أن يقول السامعون لرفقتي ... نعم طار ذاك السقط عن ذلك الزند )
( أحيي برياها جناب ابن سالم ... فيقرع فيه الباب في زمن الورد )
وهي طويلة
ومن مقطوعات قوله
( يا قمرا مطلعه أضلعي ... له سواد القلب فيها غسق )
( وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لونها عن شفق )
( ملكتني في دولة من صبا ... وصدتني في شرك من حدق )
( عندي من حبك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق )
وقال
( قد كان لي قلب فلما فارقوا ... سوى جناحك للغرام وطارا )
( وجرت سحاب للدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا )
( ومن العجائب أن فيض مدامعي ... ماء ويثمر في ضلوعي نارا )
وشعره الرمل والقطر كثرة فلنختمه بقوله
( قالوا وقد طال بي مدى خطئي ... ولم أزل في تجرمي ساهي )

( أعددت شيئا ترجو النجاة به ... فقلت أعددت رحمة الله )
وكتب يهنئ قاضي الجماعة أبا القاسم ابن بقي برسالة منها لأن محله دام عمره وامتثل نهيه الشرعي وأمره أعلى رتبة وأكرم محلا من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى كيف يهنأ بالقعود لسماع دعاوي الباطل والمعاناة لإنصاف الممطول من الماطل والتعب في المعادلة بين ذوي المجادلة أما لو علم المتشوفون إلى خطة الأحكام المستشرفون إلى ما لها من التبسط والاحتكام ما يجب لها من اللوازم والشروط الجوازم كبسط الكنف ورفع الجنف والمساواة بين العدو ذي الذنب والصاحب بالجنب وتقديم ابن السبيل على ذي الرحم والقبيل وإيثار الغريب على القريب والتوسع في الأخلاق حتى لمن ليس له من خلاق إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه واستعمل خلقه الفاضل أدناه وأقصاه لجعلوا خمولهم مأمولهم وأضربوا عن ظهورهم فنبذوه وراء ظهورهم اللهم إلا من أوتي بسطة في العلم ورسا طودا في ساحة الحلم وتساوي ميزانه في الحرب والسلم وكان كمولانا في المماثلة بين أجناس الناس فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر لا للتعنيف والزجر ويتولاها للثواب لا للغلظة في رد الجواب ويأخذها لحسن الجزاء لا لقبيح الاستهزاء ويلتزمها لجزيل الذخر لا للإزراء والسخر فإذا كان كذلك وسلك المتولي هذه المسالك وكان مثل قاضي الجماعة ولا مثل له ونفع الحق به علله ونقع غلله فيومئذ تهنى به خطة القضاء وتعرف ما الله تعالى عليها من اليد البيضاء
ورحل إلى مراكش في جهاز بنت بلغت التزويج وقصد دار الإمارة مادحا

فما تيسر له شيء من أمله ففكر في خيبة قصده وقال لو كنت أملت الله سبحانه ومدحت نبيه وآل بيته الطاهرين لبلغت أملي بمحمود عملي ثم استغفر الله تعالى من اعتماده في توجهه الأول وعلم أن ليس على غير الثاني معول فلم يك إلا أن صرف نحو هذا المقصد همته وأمضى فيه عزمته وإذا به قد وجه إليه فأدخل على الخليفة فسأله عن مقصده فأخبره مفصحا به فأنفذه وزاده عليه وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله في النوم يأمر بقضاء حاجته فانفصل موفى الأغراض واستمر في مدح أهل البيت عليهم السلام حتى اشتهر بذلك وتوفي سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وسنه دون الأربعين وصلى عليه أبوه فإنه كان بمكان من الفضل والدين رحم الله تعالى الجميع انتهى كلام ابن الخطيب في حق المذكور ملخصا
ولا بأس أن نزيد عليه ما حضر فنقول قال ابن سعيد وغيره ولد صفوان سنة ستين وخمسمائة أو في التي بعدها قال وديوان شعره مشهور بالمغرب انتهى
ومن نظمه قوله
( أومض ببرق الأضلع ... واسكب غمام الأدمع )
( واحزن طويلا واجزع ... فهو مكان الجزع )
( وانثر دماء المقلتين ... تألما على الحسين )
( وابك بدمع دون عين ... إن قل فيض الأدمع )
وهذا من قصيدة عارض بها الحريري في قوله
( خل ادكار الأربع ... )
وله أيضا مطلع قصيدة فيه

( يا عين سحي ولا تشحي ... ولو بدمع بحذف عين )
وقال ابن الأبار توفي صفوان بمرسية ليلة الإثنين السادس عشر من شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وثكله أبوه وصلى عليه وهو دون الأربعين إذ مولده سنة إحدى وستين وخمسمائة وكان من جلة الكتاب البلغاء ومهرة الأدباء الشعراء ناقدا فصيحا مدركا جليل القدر متقدما في النظم والنثر ممن جمع ذلك وله رسائل بديعة وقصائد جليلة وخصوصا في مراثي الحسين رضي الله تعالى عنه

رثاء ناهض الوادي آشي للحسين
وقد تذكرت هنا قول ناهض بن محمد الأندلسي الوادي آشي في رثاء الحسين رضي الله تعالى عنه
( أمرنة سجعت بعود أراك ... قولي مولهة علام بكاك )
( أجفاك إلفك أم بليت بفرقة ... أم لاح برق بالحمى فشجاك )
( لو كان حقا ما ادعيت من الجوى ... يوما لما طرق الجفون كراك )
( أو كان روعك الفراق إذا لما ... ضنت بماء جفونها عيناك )
( ولما ألفت الروض يأرج عرفه ... وجعلت بين فروعه مغناك )
( ولما اتخذت من الغصون منصة ... ولما بدت مخضوبة كفاك )
( ولما ارتديت الريش بردا معلما ... ونظمت من قزح سلوك طلاك )
( لو كنت مثلي ما أفقت من البكا ... لا تحسبي شكواي من شكواك )
( إيه حمامة خبريني إنني ... أبكي الحسين وأنت ما أبكاك )
( أبكي قتيل الطف فرع نبينا ... أكرم بفرع للنبوة زاكي )
( ويل لقوم غادروه مضرجا ... بدمائه نضوا صريع شكاك )

( متعفرا قد مزقت أشلاؤه ... فريا بكل مهند فتاك )
( أيزيد لو راعيت حرمة جده ... لم تقتنص ليث العرين الشاكي )
( أو كنت تصغي إذ نفرت بثغره ... قرعت صماخك أنه المسواك )
( أتروم ويك شفاعة من جده ... هيهات لا ومدبر الأفلاك )
( ولسوف تنبذ في جهنم خالدا ... ما الله شاء ولات حين فكاك )
وتوفي ناهض المذكور بوادي آش سنة 615
رجع إلى أخبار صفوان بن إدريس رحمه الله تعالى فنقول ومن شعر صفوان قوله
( قلنا وقد شام الحسام مخوفا ... رشأ بعادية الضراغم عابث )
( هل سيفه من طرفه أم طرفه ... من سيفه أم ذاك طرف ثالث )
وقوله
( غيري يروع بسيفه ... رشأ تشاجع ساخرا )
( إن كف عني طرفه ... فالسيف أعف ناصرا )
وقال صفوان المذكور رحمه الله تعالى حييت بعض أصحابنا بزهرة سوسن فقال
( حيا بسوسنة أبو بحر ... ) فقلت مجيزا
( نضراء تفضح يانع الزهر ... )
( عجبا لها لم تذوها يده ... من طول ما مكث على الصدر )

وقال أيضا ماشيت الوزير الكاتب أبا محمد ابن حامد يوما فاتفق أن قال لأمر تذكره
( بين الكثيب ومنبت السدر ... ريم غدا مثواه في صدري )
فقلت أجيزه
( لوشاحه قلم بلا ألم ... ولقرطه خفق بلا ذعر )
( لو كنت قد أنصفت مقتله ... برأت هاروتا من السحر )
( أو كنت أقضي حق مرشفه ... أعرضت لا ورعا عن الخمر )
وناولته يوما وردة مغلقة فقال
( ومحمرة تختال في ثوب سندس ... كوجنة محبوب أطل عذاره )
فقلت أجيزه
( كتطريف كف قد أحاطت بنانها ... بقلب محب ليس يخبو أواره )
وقال رآني الوزير أبو إسحاق وأنا أقيد أشعارا من ظهر دفتر فقال
( ما الذي يكتب الوزير ... )
قلت
( بدائع ما لها نظير ... )
فقال
( در ولكنه نظيم ... من خير أسلاكه السطور )
فقلت
( من أظهر الكتب أقتنيها ... وخل ما تحتوي البحور )
( بتلك تزهو النحور لكن ... بهذه تزدهي الصدور )

ولكن الإنصاف واجب هو قال المعنى الأخير نثرا وأنا سبكته نظما
وقال جلسنا بعض العشايا بالولجة خارج مرسية والنسيم يهب على النهر فقال أبو محمد ابن حامد
( هب النسيم وماء النهر يطرد ... )
فقلت على جهة المداعبة لا الإجازة
( ونار شوقي في الأحشاء تتقد ... )
فقال أبو محمد ما الذي يجمع بين هذا العجز وذاك الصدر فقلت أنا أجمع بينهما ثم قلت
( فصاغ من مائة درعا مفضضة ... وزاد قلبي وقدا للذي يجد )
( وإنما شب أحشائي لحاجته ... إذ ليس دون لهيب يصنع الزرد )
وخطرنا بلقنت على ثمرة تهزها الريح فقال أبو محمد
( وسرحة كاللواء تهفو ... بعطفها هبة الرياح )
فقلت
( كأن أعطافها سقتها ... كف النعامى كؤوس راح )
فقال
( إذا انتحاها النسيم هزت ... أعطافها هزة السماح )
فقلت
( كأن أغصانها كرام ... تقابل الضيف بارتياح )

ولصفوان رحمه الله
( تحية الله وطيب السلام ... على رسول الله خير الأنام )
( على الذي فتح باب الهدى ... وقال للناس ادخلوا بالسلام )
( بدر الهدى غيم الندى والسدى ... وما عسى أن يتناهى الكلام )
( تحية تهزأ أنفاسها ... بالمسك لا أرضى بمسك الختام )
( تخصه مني ولا تنثني ... عن أهله الصيد السراة الكرام )
( وقدرهم أرفع لكنني ... لم ألف أعلى لفظة من كرام )
وقال
( يقولون لي لما ركبت بطالتي ... ركوب فتى جم الغواية معتدي )
( أعندك شيء ترتجي أن تناله ... فقلت نعم عندي شفاعة أحمد )
وشرف وكرم ومجد وعظم وبارك وأنعم ووالي وكمل وأتم

الباب الثاني
في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجن على عادته في مصافاته ومنافاته وارتباكه في شباكه وما لقي من إحن الحاسد ذي المذهب الفاسد ومحن الكائد المستأسد وآفاته وذكر قصوره وأمواله وغير ذلك من أحواله في تقلباته عندما قابله الزمان بأهواله في بدئه وإعادته إلى وفاته
أقول كان مولد الوزير لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله كما في الإحاطة في الخامس والعشرين من شهر رجب عام ثلاثة عشر وسبعمائة وقال الرئيس الأمير أبو الوليد ابن الأحمر رحمه الله نشأ لسان الدين ابن الخطيب على حالة حسنة سالكا سبيل أسلافه فقرأ القرآن على المكتب الصالح أبي عبد الله ابن عبد المولى العواد تكتبا ثم حفظا ثم تجويدا ثم قرأ القرآن أيضا على أستاذ الجماعة أبي الحسن القيجاطي وقرأ عليه العربية وهو أول من انتفع به وقرأ على الخطيب أبي القاسم ابن جزي ولازم قراءة العربية والفقه والتفسير على الشيخ الإمام أبي عبد الله ابن الفخار البيري شيخ النحويين لعهده وقرأ على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر وتأدب بالرئيس أبي الحسن ابن الجياب وروى عن كثير من الأعيان وسرد ابن الأحمر المذكور هنا جملة أعلام من مشايخ لسان الدين سيأتي ذكرهم إن شاء الله تعالى ثم قال وأخذ الطب والتعاليم وصناعة التعديل عن الإمام أبي زكريا يحيى بن هذيل ولازمه انتهى

وقال بعضهم في حق لسان الدين هو الوزير العلامة المتحلي بأجمل الشمائل وأفضل المناقب المتميز في الأندلس بأرفع المراقي وأعلى المراتب علم الأعلام ورئيس أرباب السيوف والأقلام جامع أشتات الفضائل والمربي بحسن سياسته وعظيم رياسته على الأواخر والأوائل حائز رتبة رياسة السيف والقلم والقائم بتدبير الملك على أرسخ قدم صاحب القلم الأعلى الوارد من البراعة المنهل الأحلى صاحب الأحاديث التي لا تمل على كثرة ما تتلى والمحاسن التي صورها على منصة التنويه تجلى انتهى
وقال لسان الدين في الإحاطة بعد ذكر سلفه رحمهم الله تعالى ما ملخصه وخلفني يعني أباه عبد الله عالي الدرجة شهير الخطة مشمولا بالقبول مكنوفا بالعناية فقلدني السلطان سره ولما يستكمل الشباب ويجتمع السن معززة بالقيادة ورسوم الوزارة واستعملني في السفارة إلى الملوك واستناني بدار ملكه ورمى إلي يدي بخاتمه وسيفه وائتمنني على صوان حضرته وبيت ماله وسجوف حرمه ومعقل امتناعه ولما هلك السلطان ضاعف ولده حظوتي وأعلى مجلسي وقصر المشورة على نصحي إلى أن كانت عليه الكائنة فاقتدى في أخوه المتغلب على الأمر به فسجل الاختصاص وعقد القلادة ثم حمله أهل الشحناء من أهل أعوان ثورته على القبض علي فكان ذلك وتقبض علي ونكث ما أبرم من أماني واعتقلت بحال ترفيه وبعدأن كسبت المنازل والدور واستكثر من الحرس وختم على الأعلاق وأبرد إلى ما ناء واستؤصلت نعمة لم تكن بالأندلس من ذوات النظائر ولا ربات

الأمثال في تبحر الغلة وفراهة الحيوان وغبطة العقار ونظافة الآلات ورفعة الثياب واستجادة العدة ووفور الكتب إلى الآنية والفرش والماعون والزجاج والطيب والذخيرة والمضارب والأبنية واكتسحت السائمة وثيران الحرث وظهر الحمولة وقوام الفلاحة والخيل فأخذ ذلك البيع وتناهبتها الأسواق وصاحبها البخس ورزأتها الخونة وشمل الخاصة والأقارب الطلب واستخلصت القرى وأعملت الحيل وطوقت الذنوب وأمد الله تعالى بالعون وأنزل السكينة وانصرف اللسان إلى ذكر الله تعالى وتعلقت الآمال به وطبقت نكبة مصحفية مطلوبها الذات وسببها المال حسبما قلت عند إقالة العثرة والخلاص من الهفوة
( تخلصت منها نكبة مصحفية ... لفقداني المنصور من آل عامر )
ووصلت الشفاعة في مكتتبة بخط ملك المغرب وجعل خلاصي شرطا في العقدة ومسالمة الدولة فانتقلت صحبة سلطاني المكفور الحق إلى المغرب وبالغ ملكه في بري منزلا رحبا وعيشا خفضا وإقطاعا جما وجراية ما وراءها مرمى وجعلني بمجلسه صدرا ثم أسعف قصدي في تهيؤ الخلوة بمدينة سلا منوه الصكوك مهنأ القرار متفقدا باللها والخلع مخول العقار موفور الحاشية مخلي بيني وبين إصلاح معادي إلى أن رد الله تعالى على السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ملكه وصير إليه حقه فطالبني بوعد ضربته وعمل في القدوم عليه بولده أحكمته ولم يوسعني عذرا ولا فسح في الترك مجالا فقدمت عليه بولده وقد ساءه بإمساكه رهينة ضده ونغص مسرة الفتح بعده على كل حال من التقشف

والزهد فيما بيده وعزف عن الطمع في ملكه وزهد في رفده حسبما قلت من بعض المقطوعات
( قالوا لخدمته دعاك محمد ... فأنفتها وزهدت في التنويه )
( فأجبتهم أنا والمهيمن كاره ... في خدمة المولى محب فيه )
عاهدت الله تعالى على ذلك وشرحت صدري للوفاء به وجنحت إلى الانفصال لبيت الله الحرام نشيدة أملي ومرمى نيتي وعملي فعلق بي وخرج لي عن الضرورة وأراني أن موازرته أبر القرب وراكنني إلى عهد بخطه فسح لعامين أمد الثواء واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة وأشهد من حضر من العلية ثم رمى إلي بعد ذلك بمقاليد رأيه وحكم عقلي في اختيارات عقله وغطى من جفائي بحلمه وحثا في وجوه شهواته تراب زجري ووقف القبول على وعظي وصرف هواي في التحول ثانيا وقصدي واعترف بقبول نصحي فاستعنت الله تعالى وعاملت وجهه فيه من غير تلبس بجراية ولا تشبث بولاية مقتصرا على الكفاية حذرا من النقد خامل المركب معتمدا على المنسأة مستمشيا بخلق النعل راضيا بغير النبيه من الثوب مشفقا من موافقة الغرور هاجرا للزخرف صادعا بالحق في أسواق الباطل كافا عن السخال براثن السباع ثم صرفت الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة بكر الحسنات بهذه الخطة بل بالجزيرة فيما سلف من المدة فتأتي بمنه الله تعالى من صلاح السلطان وعفاف الحاشية والأمن ورم الثغور وتثمير الجباية وإنصاف الحماة والمقاتلة ومقارعة الملوك المجاورة في إيثار المصلحة الدينية والصدعفوق المنابر ضمانا من السلطان بترياق سم الثورة وإصلاح بواطن الخاصة والعامة ما الله تعالى المجازي عليه والمعوض

من سهر خلعته على أعطافه وخطر اقتحمته من أجله لا للثريد الأعفر ولا للجرد تمرح في الأرسان ولا للبدر تثقل للأكتاد فهو الذي لا يضيع عمل من عمل ذكر أو أنثى سبحانه وتعالى ومع ذلك فلم أعدم الاستهداف للشرور والاستغراض للمحذور والنظر الشزر المنبعث من خزر العيون شيمة من ابتلاه الله تعالى بسياسة الدهماء ورعاية سخطة أرزاق السماء وقتلة الأنبياء وعبدة الأهواء ممن لا يجعل لله تعالى إرادة نافذة ولا مشيئة سابقة ولا يقبل معذرة ولا يجمل في الطلب ولا يتلبس مع الله بأدب ربنا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا والحال إلى هذا العهد وهو منتصف عام وستين وسبعمائة على ما ذكرته أداله الله بحال السلامة وبفيأة العافية والتمتع بالعبادة وربك يخلق ما يشاء ويختار
( وعلي أن أسعى وليس ... علي إدراك النجاح )
ولله سبحانه فينا علم غيب نحن صائرون إليه ألحفنا الله لباس التقوى وختم لنا بالسعادة وجعلنا في الآخرة من الفائزين نفثت عن بث وتأوهت عن حمى ليظهر بعد المنقلب قصدي ويدل مكتتبي على عقدي انتهى وجله بلفظه
وكان رحمه الله تعالى عارفا بأحوال الملوك سريع الجواب حاضر الذهن حاد النادرة ومن حكاياته في حضور الجواب ما حكاه عن نفسه قال حضرت يوما بين يدي السلطان أبي عنان في بعض وفاداتي عليه لغرض الرسالة وجرى ذكر بعض أعدائه فقلت ما أعتقده في إطراء ذلك العدو وما عرفته

من فضله فأنكر علي بعض الحاضرين ممن لا يحطب إلا في حبل السلطان فصرفت وجهي وقلت أيدكم الله تحقير عدو السلطان بين يديه ليس من السياسة في شيء بل غير ذلك أحق وأولى فإن كان السلطان غالب عدوه كان قد غلب غير حقير وهو الأولى بفخره وجلالة قدره وإن غلبه العدو لم يغلبه حقير فيكون أشد للحسرة وآكد للفضيحة فوافق رحمه الله تعالى على ذلك واستحسنه وشكر عليه وخجل المعترض انتهى
وكان رحمه الله تعالى مبتلي بداء الأرق لا ينام من الليل إلا النزر اليسير جدا وقد قال في كتابه الوصول لحفظ الصحة في الفصول العجب مني مع تأليفي لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله في الطب وعملي ذلك لا أقدر على مداواة داء الأرق الذي بي أو كما قال ولذا يقال له ذو العمرين لأن الناس ينامون في الليل وهو ساهر فيه ومؤلفاته ما كان يصنف غالبها إلا بالليل وقد سمعت بالمغرب بعض الرؤساء يقول لسان الدين ذو الوزارتين وذو العمرين وذو الميتتين وذو القبرين انتهى وسيأتي ما يعلم منه معنى الأخيرين

التعريف بالسلطان أبي الحجاج
وقد عرف رحمه الله تعالى بالسلطان أبي الحجاج في الإحاطة فقال ما حاصله يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن يوسف بن نصر الأنصاري الخزرجي أمير المسلمين بالأندلس أبو الحجاج تولى الملك بعد أخيه بوادي السقائين من ظاهر الخضراء ضحوة يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة وسنه خمسة عشر يوما وثمانية أشهر أمه أم ولد وكان له ثلاثة أولاد كبيرهم محمد أمير المسلمين من بعده وتلوه

أخوه إسماعيل محجوره وثالثهم قيس شقيق إسماعيل وذكر لسان الدين أنه وزر له بعد شيخه ابن الجياب وتولى كتابة سره مضافة إلى الوزارة في أخريات شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة انتهى وقد علم أنه وزر بعده لابنه محمد كما تقدم ويأتي وأما إسماعيل بن أبي الحجاج فهو الذي تغلب على الأمر وانتهز الفرصة في ملك أخيه محمد كما تقدم وفيه وفي أخيه قيس حين قتلا يقول لسان الدين
( بإسماعيل ثم أخيه قيس ... )
البيتين
وقد ذكر أيضا رحمه الله تعالى حكاية وفاة السلطان أبي الحجاج ما محصله أنه هجم عليه رجل من عداد الممرورين وهو في الركعة الأخيرة من صلاة عيد الفطر عام خمسة وخمسين وسبعمائة فطعنه بخنجر وقبض عليه واستفهم فتكلم بكلام مخلط واحتمل إلى منزله على فوت لم يستقر به إلا وقد قضى وأخرج قاتله إلى الناس فقتل لحينه وأحرق بالنار ودفن عشية اليوم المذكور في مقبرة قصره ضجيع والده وولي أمره ولده محمد ورثيته في غرض ناء عن الجزالة مختار ولده
( العمر نوم والمنى أحلام ... ماذا عسى أن يستمر مقام )
( وإذا تحققنا لشيء بدأة ... فله بما تقضي العقول تمام )
( والنفس تجمح في مدى آمالها ... ركضا وتأبى ذلك الأيام )
( من لم يصب في نفسه فمصابه ... بحبيبه نفذت بذا الأحكام )
( بعد الشبيبة كبرة ووراءها ... هرم ومن بعد الحياة حمام )
( ولحكمة ما أشرقت شهب الدجى ... وتعاقب الإصباح والإظلام )
( دنياك يا هذا محلة نقلة ... ومناخ ركب ما لديه مقام )
( هذا أمير المسلمين ومن به ... وجد السماح وأعدم الإعدام )

( سر الأمانة والخلافة يوسف ... غيث الملوك وليثها الضرغام )
( قصدته عادية الزمان فأقصدت ... والعز سام والخميس لهام )
( فجعت به الدنيا وكدر شربها ... وشكا العراق مصابه والشام )
( أسفا على الخلق الجميل كأنما ... بدر الدجنة قد جلاه تمام )
( أسفا على العمر الجديد كأنه ... زهو الحديقة زهرة بسام )
( أسفا على الخلق الرضى كأنه ... زهر الرياض هما عليه غمام )
( أسفا على الوجه الذي مهما بدا ... طاشت لنور جماله الأفهام )
( يا ناصر الثغر الغريب وأهله ... والأرض ترجف والسما قتام )
( يا صاحب الصدقات في جنح الدجى ... والناس في فرش النعيم نيام )
( يا حافظ الحرم الذي بظلاله ... ستر الأرامل واكتسى الأيتام )
( مولاي هل لك للقصور زيارة ... بعد انتزاح الدار أو إلمام )
( مولاي هل لك للعبيد تذكر ... حاشاك أن ينسى لديك ذمام )
( يا واحد الآحاد والعلم الذي ... خفقت بعزة نصره الأعلام )
( وافاك أمر الله حين تكاملت ... فيك النهى والجود والإقدام )
( ورحلت عنا الركب خير خليفة ... أثنى عليك الله والإسلام )
( نعم الطريق سلكت كان رفيقه ... والزاد فيه تهجد وصيام )
( وكسفت يا شمس المحاسن ضحوة ... فاليوم ليل والضياء ظلام )
( وسقاك عيد الفطر كأس شهادة ... فيها من الأجل الوحي مدام )
( وختمت عمرك بالصلاة فحبذا ... عمل كريم سعيه وختام )
( مولاي كم هذا الرقاد إلى متى ... بين الصفائح والتراب تنام )
( أعد التحية واحتسبها قربة ... إن كان يمكنك الغداة كلام )
( تبكي عليك مصانع شيدتها ... بيض كما تبكي الهديل حمام )
( تبكي عليك مساجد عمرتها ... فالناس فيها سجد وقيام )

( تبكي عليك خلائق أمنتها ... بالسلم وهي كأنها أنعام )
( عاملت وجه الله فيما رمته ... منها فلم يبعد عليك مرام )
( لو كنت تفدى أو تجار من الردى ... بذلت نفوس من لدنك كرام )
( لو كنت تمنع بالصوارم والقنا ... ما كان ركنك بالغلاب يرام )
( لكنه أمر الإله وما لنا ... إلا رضى بالحكم واستسلام )
( والله قد كتب الفناء على الورى ... وقضاؤه جفت به الأقلام )
( نم في جوار الله مسرورا بما ... قدمت يوم تزلزل الأقدام )
( واعلم بأن سليل ملكك قد غدا ... في مستقر علاك وهو إمام )
( ستر تكنف منه من خلفته ... ظل ظليل فهو ليس يضام )
( كنت الحسام وصرت في غمد الثرى ... ولنصر ملكك سل منه حسام )
( خلفت أمة أحمد لمحمد ... فقضت بسعد الأمة الأحكام )
( فهو الخليفة للورى في عهده ... ترعى العهود وتوصل الأرحام )
( أبقى رسومك كلها محفوظة ... لم ينتثر منها عليك نظام )
( العدل والشيم الكريمة والتقى ... والدار والألقاب والخدام )
( حسبي بأن أغشي ضريحك لاثما ... وأقول والدمع السفوح سجام )
( يا مدفن التقوى ويا مثوى الهدى ... مني عليك تحية وسلام )
( أخفيت من حزني عليك وفي الحشا ... نار لها بين الضلوع ضرام )
( ولو أنني أديت حقك لم يكن ... لي بعد فقدك في الوجود مقام )
( وإذا الفتى أدى الذي في وسعه ... وأتى بجهد ما عليه ملام )
قال لسان الدين وكتبت في بعض معاهده
( غبت فلا عين ولا مخبر ... ولا انتظار منك مرقوب )
( يا يوسف أنت لنا يوسف ... وكلنا في الحزن يعقوب )

انتهى ورحم الله تعالى الجميع بمنه وقد قدمنا ما كتبه لسان الدين على لسان سلطانه إلى السلطان أبي عنان في شأن قتل السلطان أبي الحجاج في الباب الثامن من القسم الأول

الغني ولسان الدين يلجآن للمغرب
وقال لسان الدين في كتابه اللمحة البدرية في الدولة النصرية في ذكر ما يتعلق بخلع سلطانه وقيام أخيه عليه وفي خلال ذلك ما نصه كان السلطان أبو عبد الله عند تصير الأمر إليه قد ألزم أخاه إسماعيل قصرا من قصور أبيه بجوار داره مرفها عليه متممة وظائفه له وأسكن معه أمه وأخواته منها وقد استأثرت يوم وفاة والده بمال جم من خزائنه الكائنة في بيتها فوجدت السبيل إلى السعي لولدها فجعلت تواصل زيارة ابنتها التي عقد لها الوالد مع ابن عمه الرئيس أبي عبد الله ابن الرئيس أبي الوليد ابن الرئيس أبي عبد الله المبايع له بأندرش ابن الرئيس أبي سعيد جدهم الذي تجمعهم جرثومته وشمر الصهر المذكور عن ساعد عزمه وجده وهو ما هو من الإقدام ومداخلة ذؤبان الرجال واستعان بمن آسفته الدولة وهفت به الأطماع فتألف منهم زهاء مائة قصدوا جهة من جهات القلعة متسنمين شفا صعب المرتقى واتخذوا آلة تدرك ذروته لقعود بنية كانت به عن التمام وكبسوا حرسيا بأعلاه بما اقتضى صماته فاستووا به ونزلوا إلى القلعة سحور الليلة الثامنة والعشرين من شهر رمضان عام ستين وسبعمائة فاستظهروا بالمشاعل والصراخ وعالجوا دار الحاجب رضوان ففضوا أغلاقها ودخلوها فقتلوه بين أهله وولده وانتهبوا ما اشتملت عليه داره وأسرعت طائفة مع الرئيس الصهر فاستخرجت الأمير المعتقل إسماعيل وأركبته وقرعت

الطبول ونودي بدعوته وقد كان أخوه السلطان متحولا بولده إلى سكنى الجنة المنسوبة للعريف لصق داره وهي المثل المضروب في الظل الممدود والماء المسكوب والنسيم البليل يفصل بينهما وبين معقل الملك السور المنيع والخندق المصنوع فما راعه إلا النداء والعجيج وأصوات الطبول وهب إلى الدخول إلى القلعة فألفاها قد أخذت دونه شعابها كلها ونقابها وقذفته الحراب ورشقته السهام فرجع أدراجه وسدده الله تعالى في محل الحيرة ودس له عرق الفحول من قومه فامتطى صهوة فرس كان مرتبطا عنده وصار لوجهه فأعيا المتبع وصبح مدينة وادي آش ولم يشعر حافظ قصبتها إلا به وقد تولج عليها فالتف به أهلها وأعطوه صفقتهم بالذب عنه فكان أملك بها وتجهزت الحشود إلى منازلته وقد جدد أخوه المتغلب على ملكه عقد السلم مع طاغية قشتالة باحتياجه إلى سلم المسلمين لجراء فتنة بينه وبين البرجلونيين من أمته واغتبط به أهل المدينة فذبوا عنه ورضوا بهلاك نعمتهم دونه واستمرت الحال إلى يوم عيد النحر من عام التاريخ ووصله رسول صاحب المغرب مستنزلا عنها ومستدعيا إلى حضرته لما عجز عن إمساكها وراسل ملك الروم فلم يجد عنده من معول فانصرف ثاني يوم عيد النحر المذكور وتبعه الجمع الوافر من أهل المدينة خيلا ورجلا إلى مربلة من ساحل إجازته وكان وصوله إلى مدينة فاس مصحوبا من البر والكرامة بما لا يزيد عليه في السادس من شهر محرم فاتح عام أحد وستين وسبعمائة وركب السلطان للقائه ونزل إليه عندما سلم عليه وبالغ في الحفاية به وكنت قد ألحقت به مفلتا من شرك النكبة التي استأصلت المال وأوهمت سوء الحال بشفاعة السلطان أبي سالم قدس الله روحه فقمت بين يديه في الحفل المشهود يومئذ وأنشدته

( سلا هل لديها من مخبره ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به الزهر )
( وهل باكر الوسمي دارا على اللوى ... عفت آيها إلا التوهم والذكر )
( بلادي التي عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر )
( وجوى الذي ربى جناحي وكره ... فها أنا ذا ما لي جناح ولا وكر )
( نبت بي لا عن جفوة وملالة ... ولا نسخ الوصل الهنيء بها هجر )
( ولكنها الدنيا قليل متاعها ... ولذاتها دأبا تزور وتزور )
( فمن لي بقرب العهد منها ودوننا ... مدى طال حتى يومه عندنا شهر )
( ولله عينا من رآنا وللأسى ... ضرام له في كل جانحة جمر )
( وقد بددت در الدموع يد النوى ... وللشوق أشجان يضيق لها الصدر )
( بكينا على النهر الشروب عشية ... فعاد أجاجا بعدنا ذلك النهر )
( أقول لأظعاني وقد غالها السرى ... وآنسها الحادي وأوحشها الزجر )
( رويدك بعد العسر يسر أن أبشري ... بإنجاز وعد الله قد ذهب العسر )
( ولله فينا سر غيب وربما ... أتى النفع من حال أريد بها الضر )
( وإن تخن الأيام لم تخن النهى ... وإن يخذل الأقوام لم يخذل الصبر )
( وإن عركت مني الخطوب مجربا ... نقابا تساوى عنده الحلو والمر )
( فقد عجمت عودا صليبا على الردى ... وعزما كما تمضي المهندة البتر )
( إذا أنت بالبيضاء قررت منزلي ... فلا اللحم حل ما حييت ولا الظهر )
( زجرنا بإبراهيم برء همومنا ... فلما رأينا وجهه صدق الزجر )
( بمنتجب من آل يعقوب كلما ... دجا الخطب لم يكذب لعزمته فجر )
( تناقلت الركبان طيب حديثه ... فلما رأته صدق الخبر الخبر )
( ندى لو حواه البحر لذ مذاقه ... ولم يتعقب مده أبدا جزر )

( وبأس غدا يرتاع من خوفه الردى ... وترفل في أثوابه الفتكة البكر )
( أطاعته حتى العصم في قنن الربى ... وهشمت إلى تأميله الأنجم الزهر )
( قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر )
( كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر )
( وعذنا بذاك المجد فانصرم الردى ... ولذنا بذاك العزم فانهزم الذعر )
( ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر )
( خلافتك العظمى ومن لم يدن بها ... فإيمانه لغو وعرفانه نكر )
( ووصفك يهدي المدح قصد صوابه ... إذا ضل في أوصاف من دونك الشعر )
( دعتك قلوب المؤمنين وأخلصت ... وقد طاب منها السر لله والجهر )
( ومدت إلى الله الأكف ضراعة ... فقال لهن الله قد قضي الأمر )
( وألبسها النعمى ببيعتك التي ... لها الطائر الميمون والمحتد الحر )
( فأصبح ثغر الثغر يبسم ضاحكا ... وقد كان مما نابه ليس يفتر )
( وأمنت بالسلم البلاد وأهلها ... فلا ظبة تعرى ولا روعة تعرو )
( وقد كان مولانا أبوك مصرحا ... بأنك في أبنائه الولد البر )
( وكنت حقيقا بالخلافة بعده ... على الفور لكن كل شيء له قدر )
( وأوحشت من دار الخلافة هالة ... أقامت زمانا لا يلوح بها البدر )
( فرد عليك الله حقك إذ قضى ... بأن تشمل النعمى وينسدل الستر )
( وقاد إليك الملك رفقا بخلقه ... وقد عدموا ركن الإمامة واضطروا )
( وزادك بالتمحيص عزا ورفعة ... وأجرا ولولا السبك ما عرف التبر )
( وأنت الذي تدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذي ترجى إذا أخلف القطر )
( وأنت إذا جار الزمان محكم ... لك النقض والإبرام والنهي والأمر )
( وهذا ابن نصر قد أتى وجناحه ... مهيض ومن علياك يلتمس الجبر )

( غريب يرجى منك ما أنت أهله ... فإن كنت تبغي الفخر قد جاءك الفخر )
( ففز يا أمير المسلمين ببيعة ... موثقة قد حل عروتها الغدر )
( ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بيا لمرين جاءه العز والنصر )
( وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره ... ففي ضمن ما تأتي به العز والأجر )
( وأنت لها يا ناصر الحق فلتقم ... بحق فما زيد يرجى ولا عمرو )
( فإن قيل مال مالك الدثر وافر ... وإن قيل جيش عندك العسكر المجر )
( يكف بك العادي ويحيا بك الهدى ... ويبني بك الإسلام ما هدم الكفر )
( أعده إلى أوطانه عنك راضيا ... وطوقه نعماك التي ما لها حصر )
( وعاجل قلوب الناس فيه بجبرها ... فقد صدهم عنه التغلب والقهر )
( وهم يرقبون الفعل منك وصفقة ... تحاولها يمناك ما بعدها خسر )
( مرامك سهل لا يؤودك كلفة ... سوى عرض ما إن له في العلا خطر )
( وما العمر إلا زينة مستعارة ... ترد ولكن الثناء هو العمر )
( ومن باع ما يفنى بباق مخلد ... فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر )
( ومن دون ما تبغيه يا ملك الهدى ... جياد المذاكي والمحجلة الغر )
( وراد وشقر واضحات شياتها ... فأجسامها تبر وأرجلها در )
( وشهب إذا ما ضمرت يوم غارة ... مطهمة غارت بها الأنجم الزهر )
( وأسد رجال من مرين مخيفة ... عمائمها بيض وآسالها سمر )
( عليها من الماذي كل مفاضة ... تدافع في أعطافها اللجج الخضر )
( هم القوم إن هبوا لكشف ملمة ... فلا الملتقى صعب ولا المرتقى وعر )
( إذا سئلوا أعطوا وإن نوزعوا سطوا ... وإن واعدوا وفوا وإن عاهدوا بروا )
( وإن مدحوا اهتزوا ارتياحا كأنهم ... نشاوى تمشت في معاطفهم خمر )
( وإن سمعوا العوراء فروا بأنفس ... حرام على هاماتها في الوغى الفر )

( وتبسم ما بين الوشيج ثغورهم ... وما بين قضب الدوح يبتسم الزهر )
( أمولاي غاضت فكرتي وتبلدت ... طباعي فلا طبع يعين ولا فكر )
( ولولا حنان منك داركتني به ... وأحييتني لم تبق عين ولا أثر )
( فأوجدت مني فائتا أي فائت ... وأنشرت ميتا ضم أشلاءه قبر )
( بدأت بفضل لم أكن لعظيمه ... بأهل فجل اللطف وانفرج الصدر )
( وطوقتني النعمى المضاعفة التي ... يقل عليها مني الحمد والشكر )
( وأنت بتتميم الصنائع كافل ... إلى أن يعود الجاه والعز والوفر )
( جزاك الذي أسنى مقامك عصمة ... يفك بها عان وينعش مضطر )
( إذا نحن أثنينا عليك بمدحة ... فهيهات يحصى الرمل أو يحصر القطر )
( ولكننا نأتي بما نستطيعه ... ومن بذل المجهود حق له العذر )
فلا تسأل عن امتعاض وانتفاض وسداد أنحار في التأثر لنا وأغراض والله غالب على أمره
وفي صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر شوال عام اثنين وستين وسبعمائة كان انصرافه إلى الأندلس وقد ألح صاحب قشتالة في طلبه وترجح الرأي على قصده فقعد السلطان بقبة العرض من جنة المصارة وبرز الناس وقد أسمعهم البريح واستحضرت البنود والطبول والآلة وألبس خلعة الملك وقيدت له مراكبه فاستقل وقد التف عليه كل من جلا عن الأندلس من لدن الكائنة في جملة كثيفة ورأى من رقة الناس وإجهاشهم وعلو أصواتهم بالدعاء ما قدم به العهد إذ كان مظنة ذلك سكونا وعفافا وقربا قد ظلله الله برواق الرحمة وعطف عليه وشائج المحبة إلى كونه مظلوم العقد منتزع الحق فتبعته

الخواطر وحميت عليه الأنفس وانصرف لوجهته وهو الآن برندة مستقل بها وبجهاتها ومتعلل بألقاب ومقتنع برسم وقد قام له برسم الوزارة الشيخ القائد أبو الحسن علي بن يوسف ابن كماشة الحضرمي وبكتابته الفقيه أبو عبد الله ابن زمرك وقد استفاض عنه من الحزم والتدرب والتيقظ للأمور والمعرفة بوجوه المصالح ما لا ينكر كان الله لنا وله بفضله انتهى كلام لسان الدين ابن الخطيب في اللمحة البدرية

رسالة للسان الدين عن الغني إلى المنصور بن قلاوون
وقد علمت أنه بعد هذا التاريخ عاد سلطانه إلى حضرة غرناطة واستبد بملك الأندلس وعاد لسان الدين إليه حسبما أحسن سياق ذلك لسان الدين رحمه الله تعالى في كتاب من إنشائه على لسان سلطانه الغني بالله وخاطب به ملك الحرمين مصر والشام السلطان المنصور بن أحمد بن الناصر بن قلاوون وقد ذكرنا منه ما يتعلق بالأندلس في الباب الثاني من القسم الأول وقال بعد ذلك فيما يتعلق بالخلع المذكور ما نصه ولما صير الله إلينا تراثهم الهني وأمرهم السني وبناءهم العادي وملكهم الجهادي أجرانا وله الطول على سننهم ورفع أعلامنا في هضابهم المشرفة وقننهم وحملنا فيهم خير حمل ونظم بنا لهم أي شمل وألبس أيامنا سلما فسح الدارة وأحكم الإدارة وهنأ الإمارة ومكن العمارة وأمن في البحر والبر السيارة والعبارة لولا ما طرقهم فينا من تمحيص أجلي عن تخصيص وتمحض تبره بعد تخليص ومرام عويص نبثكم بثه ونوالي لديكم حثه ونجمع منبثه فإن في الحوادث ذكرا ومعروف الدهر لا يؤمن أن يعود نكرا وشر الوجود

معاقب بخيره والسعيد من اتعظ بغيره والحزم أفضل ما إليه ينتسب وعقل التجربة بالمرانة يكتسب وهو أن بعضا ممن ينسب إلينا بوشائج الأعراق لا بمكارم الأخلاق ويمت إلينا بالقرابة البعيدة لا بالنصبة السعيدة ممن كفلناه يتيما وصناه ذميما شتيما وبوأناه مبوأ كريما بعد أن نشأ حرشوفا دميما وملعونا لئيما ونوهناه من خموله بالولاية ونسخنا حكم تسحبه بآية العناية داخل أخا لنا كنا ألزمناه الاقتصار على قصره ولم نجعل أداة تدل على حصره وسامحناه في كثير من أمره ولم نرتب بزيده ولا عمره واغتررنا برماد علا على جمره فاستدعى له من الصعاليك شيعته كل درب بفك الأغلاق وتسرب أنفاق النفاق وخارق للإجماع والإصفاق وخبير بمكان الخراب ومذاهب الفساق وتسور بهم القلعة من ثلم شرع في سده بعد هده ولم تكمل الأقدار المميزة في ليلة آثرنا مبيتنا ببعض البساتين خارج قصورنا واستنبنا من يضطلع بأمورنا فاستتم الحيلة التي شرعها واقتحم القلعة وافترعها وجدل حرس النوبة وصرعها وكبس محل النائب عنا وجد له ولم ينشب أن جد له واستخرج الأخ البائس فنصبه وشد به تاج الولاية وعصبه وابتز أمرنا وغصبه
وتوهم الناس أن الحادثة على ذاتنا قد تمت والدائرة بنا قد ألمت ولقد همت فخذل الناصر وانقطعت الأواصر وأقدم المتقاصر واقتحمت الأبهاء والمقاصر وتفرقت الأجزاء وتحللت العناصر وفقد من عين الأعيان النور الباصر فأعطوه طاعة معروفة وأصبحت الوجوه إليه مصروفة وركضنا وسرعان الخيل تقفو أثر منجاتنا والظلام يخفيها وتكفي السماء والله يكفيها إلى أن خلصنا إلى مدينة وادي آش خلوص القمر السرار لا نملك إلا نفسا مسلمة لحكم الأقدار ملقية لله مقادة الاختيار مسلوبة بموجب الإستقرار وناصحنا أهل تلك المدينة فعملوا على الحصار واستبصروا في الدفاع عنا أتم الاستبصار ورضوا لبيوتهم المصحرة وبساتينهم المستبحرة

بفساد الحديد وعياث النار ولم يرضوا لجوارهم بالإخفار ولا لنفوسهم بالعار إلى أن كان الخروج عن الوطن بعد خطوب تسبح فيها الأقلام سبحا طويلا الشجون شرحا وتأويلا وتلقي القصص منها على الآذان قولا وجزنا البحر وضلوع موجه إشفاقا علينا تخفق وأكف رياحه حسرة تصفق ونزلنا من جناب سلطان بني مرين على المثوى الذي رحب بنا ذرعه ودل على كرم الأصول فرعه والكريم الذي وهب فأجزل ونزل لنا عن الصهوة وتنزل وخير وحكم ورد على الدهر الذي تهكم واستعبر وتبسم وآلى وأقسم وبسمل وقدم واستركب لنا واستخدم
ولما بدا لمن وراءنا سيئات ما كسبوا وحققوا ما حسبوا وطفا الغثاء ورسبوا ولم ينشب الشقي الخزي أن قتل البائس الذي موه بزيفه وطوقه بسيفه ودل ركب المخافة على خيفه إذ أمن المضعوف من كيده وجعل ضرغامه بازيا لصيده واستقل على أريكته استقلال الظليم على تريكته حاسر الهامة متنفقا بالشجاعة والشهامة مستظهرا بأول الجهالة والجهامة وساءت في محاولة عدو الدين سيرته ولما حصحص الحق انكشفت سريرته وارتابت لجبنه المستور جيرته وفغر عليه طاغية الروم فمه فالتقمه ومد عليه الصليب ذراعه فراعه وشد الكفر عليه يده فما عضده الله ولا أيده وتخرمت ثغور الإسلام بعد انتظامها وشكت إليه باهتضامها وغصت بأشلاء عباد الله وعظامها ظهور أوضامها ووكلت السنة والجماعة وانقطعت من النجح الطماعة واشتدت المجاعة وطلعت شمس دعوتنا من المغرب فقامت عليها الساعة وأجزنا البحر تكاد جهتاه تتقاربان تيسيرا ورياحه لا تعرف في غير وجهتنا مسيرا وكأن ماءه ذوب لقي إكسيرا ونهضنا يتقدمنا الرعب ويتقد منا الدعاء وتجأجئ بنا الإشارة ويحفزنا الاستدعاء

وأقصر الطاغية عن البلاد بعد أن ترك ثغورها مهتومة والإخافة عليها محتومة وطوابعها مفضوضة وكانت بنا مختومة وأخذت الخائن الصيحة فاختبل وظهر تهوره الذي عليه جبل فجمع أوباشه السفلة وأوشابه وبهرجه الذي غش به المحض وشابه وعمد إلى الذخيرة التي صانتها الأغلاق الحريزة والمعاقل العزيزة فملأ بها المناطق واستوعب الصامت والناطق والوشح والقراطق واحتمل عدد الحرب والزينة وخرج ليلا عن المدينة واقتضت آراؤه الفائلة ونعامته الشائلة ودولة بغيه الزائلة أن يقصد طاغية الروم بقضه وقضيضه وأوجه وحضيضه وطويله وعريضه من غير عهد اقتضى وثيقة ولا أمر عرف حقيقته إلا ما أمل اشتراطه من تبديل الكلمة واستئصال الأمة المسلمة فلم يكن إلا أن تحصل في قبضته ودنا من مضجع ربضته واستشار نصحاءه في أمره وحكم الحيلة في جناية غدره وشهره ببلده وتولى قتله بيده وألحق به جميع من أمده في غيه وظاهره على سوء سعيه وبعث إلينا برؤوسهم فنصبت بمسور غدرها وقلدت لبة تلك البنية بشذرها وأصبحت عبرة للمعتبرين وآية للمستبصرين وأحق الله الحق بكلماته وقطع دابر الكافرين
وعدنا إلى أريكة ملكنا كما رجع القمر إلى بيته بعد كيته وكيته أو العقد إلى جيده بعد انتثار فريده أو الطير إلى وكره مفلتا من غول الشرك ومكره ينظر الناس إلينا بعيون لم ترو مذ غبنا من محيا رحمة ولا طشت عليها بعدنا غمامة رحمة ولا باتت للسياسة في ذمة ولا ركنت لدين ولا همة فطوينا بساط العتاب طي الكتاب وعالجنا سطور بالاضطراب وآنسنا نفوس أولي الاقتراف بالاقتراب وسهلنا إلينا واستغفرنا الله لنفسنا ولمن جنى علينا فلا تسألوا عما أثار ذلك من استدراك ندم ورسوخ قدم واستمتاع بوجود بعد عدم فسبحان الذي يمحص ليثيب ويأمر بالدعاء ليجيب وينبه من الغفلة ويهيب ويجتبي إليه من يشاء ويهدي

إليه من ينيب
ورأينا أن نطالع علومكم الشريفة بهذا الواقع تسبيبا للمفاتحة المعتمدة وتمهيدا للموالاة المجددة فأخبار الأقطار مما تنفقه الملوك على أسمارها وترقم ببدائعه هالات أقمارها وتستفيد منه حسن السير والأمان من الغير وتستعين على الدهر بالتجارب وتستدل بالشاهد على الغائب وبلادكم ينبوع الخير وأهله ورواق الإسلام الذي يأوى قريبه وبعيده إلى ظله ومطلع نور الرسالة وأفق الرحمة المنثالة منه تقدم علينا الكواكب تضرب آباط أفلاكها وتتخلل مداريها المذهبة غدائر أحلاكها وتستعلي البدور ثم يدعوها إلى المغرب الحدور وتطلع الشمس متجردة من كمائم ليلها متهادية في دركات ميلها ثم تسحب إلى الغروب فضل ذيلها ومن تلقائكم ورد العلم والعمل وأرعى الهمل
فنحن نستوهب من مظان الأجابة لديكم دعاء يقوم لنا مقام المدد ويعدل منه الشيء بالمال والعدد ففي دعاء المؤمن بظهر الغيب ما فيه مما ورد وإياه سبحانه نسأل أن يدفع عنا وعنكم دواعي الفتن وغوائل المحن ويحملنا على سنن السنن ويلبسنا من تقواه أوقى الجنن وهو سبحانه يصل لأبوتكم ما تستقل لدى قاضي القضاة رسومه فتكتب حقوقه وتكبت خصومه ولا تكلفه الأيام ولا تسومه بفضل الله وعزته وكرمه ومنته والسلام الكريم الطيب المبارك بدءا بعد عود وجودا إثر جود ورحمة الله تعالى وبركاته انتهى
وللسان الدين ابن الخطيب رحمه الله عن سلطانه المذكور كتاب آخر في هذه الكائنة إلى كبير الموحدين أبي محمد عبد الله بن تفراجين ولعلنا نذكره إن

شاء الله تعالى في الباب الخامس من هذا القسم عند تعرضنا لبعض نثر لسان الدين رحمه الله تعالى

نقل عن ابن خلدون في خلع الغني
وقد ساق هذه القضية قاضي القضاة الشهير الكبير ولي الدين عبد الرحمن ابن خلدون الحضرمي رحمه الله تعالى في تاريخه الكبير في ترجمة السلطان الشهير أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني صاحب المغرب مما نصه الخبر عن خلع ابن الأحمر صاحب غرناطة ومقتل رضوان ومقدمه على السلطان لما هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة ونصب ابنه محمد للأمر واستبد عليه رضوان مولى أبيه وكان قد رشح ابنه الأصغر إسماعيل بما ألقى عليه وعلى أمه من محبته فلما عدلوا بالأمر عنه حجبوه ببعض قصورهم وكان له صهر من ابن عمه محمد بن إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فكان يدعوه سرا إلى القيام بأمره حتى أمكنته فرصة في الدولة بخروج السلطان إلى بعض منتزهاته برياضه فصعدسور الحمراء ليلة سبع وعشرين لرمضان من سنة ستين في أوشاب جمعهم من الطغام لثورته وعمد إلى دار الحاجب رضوان فاقتحم عليه الدار وقتله بين حرمه وبناته وقربوا إلى إسماعيل فرسه وركب فأدخلوه القصر وأعلنوا بيعته وقرعوا طبولهم بسور الحمراء وفر السلطان من مكانه بمنتزهه فلحق بوادي آش وغدا الخاصة والعامة على إسماعيل فبايعوه واستبد عليه هذا الرئيس بن عمه فخلعه لأشهر من بيعته واستقل بسلطان الأندلس ولما لحق السلطان أبو عبد الله محمد بوادي آش بعد مقتل حاجبه رضوان واتصل الخبر بالمولى السلطان أبي سالم امتعض لمهلك رضوان وخلع السلطان رعيا لما سلف له في جوارهم وأزعج لحينه أبا القاسم الشريف

من أهل مجلسه لاستقدامه فوصل إلى الأندلس وعقد مع أهل الدولة على إجازة المخلوع من وادي آش إلى المغرب وأطلق من اعتقالهم الوزير الكاتب أبا عبد الله ابن الخطيب كانوا اعتقلوه لأول أمرهم لما كان رديفا للحاجب رضوان وركنا لدولة المخلوع فأوصى المولى أبو سالم إليهم بإطلاقه فأطلقوه ولحق مع الرسول أبي القاسم الشريف بسلطانه المخلوع بوادي آش للإجازة إلى المغرب وأجاز لذي القعدة من سنته وقدم على السلطان بفاس وأجل قدومه وركب للقائه ودخل به إلى مجلس ملكه وقد احتفل ترتيبه وغص بالمشيخة والعلية ووقف وزيره ابن الخطيب فأنشد السلطان قصيدته الرائية يستصرخه لسلطانه ويستحثه لمظاهرته على أمره واستعطف واسترحم بما أبكى الناس شفقة له ورحمة ثم سرد ابن خلدون القصيدة وقد تقدمت
ثم قال بعد ما صورته ثم انفض المجلس وانصرف ابن الأحمر إلى نزله وقد فرشت له القصور وقربت له الجياد بالمراكب الذهبية وبعث إليه بالكسا الفاخرة ورتبت الجرايات له ولمواليه من المعلوجي وبطانته من الصنائع وحفظ عليه رسم سلطانه في الراكب والراجل ولم يفقد من ألقاب ملكه إلا الآلة أدبا مع السلطان واستقر في جملته إلى أن كان من لحاقه بالأندلس وارتجاع ملكه سنة ثلاث وستين ما نحن نذكره انتهى المقصود جلبة من كلام ابن خلدون في هذه الواقعة وفيه بعض مخالفة لكلام لسان الدين السابق في اللمحة البدرية إذ قال فيها إن الثورة عليهم كانت ليلة ثمان وعشرين من رمضان وابن خلدون جعلها ليلة سبع وعشرين منه والخطب سهل وقال في اللمحة إن انصرف السلطان من وادي آش كان ثاني يوم النحر وقال ابن خلدون في ذي القعدة ولعله غلط من الكاتب حيث جعل مكان الحجة القعدة
ورائيه ابن الخطيب التي ذكرها هي من حر كلامه وغرر شعره على

أنه كله غرر إذ جمع فيها المطلوب في ذلك الوقت بأبدع لفظ وأحسن عبارة في ذلك المحفل العظيم ولم نزل نسمع في المذاكرات بالمغرب أنه لما انتهى فيها إلى قوله فقد أنجح المسعى وقد ربح التجر قال له بعض من حضر ولعله أراد الغض منه أحسنت يا وزير فيما قلت وفي وصف الحال والسلطان غير أنه بقي عليك شيء وهو ذكر قرابة السلطان موالينا بني مرين وهم من هم ولا ينبغي السكوت عنهم فارتجل ابن الخطيب حينئذ قوله ومن دون ما تبغيه إلى آخره حتى تخلص لمدح بني مرين أقارب السلطان بما لا مرمى وراءه ثم قال بعد ذلك معتذرا أمولاي غاضت فكرتي إلى آخره وهذا إن صح أبلغ مما وقع لأبي تمام في سينيته حيث قال لا تنكروا ضربي له البيتين لأن أبا تمام ارتجل بيتين فقط ولسان الدين ارتجل تسعة عشر بيتا مع ما هو عليه من الخروج عن الوطن وذهاب الجاه والمال فأين الحال من الحال
وقد كرر ابن خلدون رحمه الله تعالى في تاريخه قضية اعتقال لسان الدين وخلع سلطانه في موضع آخر ولنذكره وإن سبق بعضه لاشتماله على منشإ الوزير لسان الدين وجملة من أحواله إلى قريب من مهلكه فنقول قال رحمه الله تعالى بعد ذكره عبد الله والد لسان الدين وأنه انتقل من لوشة إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام ما محصله ونشأ ابنه محمد هذا يعني لسان الدين ابن الخطيب بغرناطة وقرأ وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه وامتلأ من حول اللسان نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه ونبغ في الشعر والترسيل بحيث لا يجاري فيهما

وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره وملأ الدنيا بمدائحه وانتشرت في الآفاق فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوسا بأبي الحسن ابن الجياب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبد عليه فاستبد ابن الخطيب برياسة الكتاب ببابه مثناه بالوزارة ولقبه بها فاستقل بذلك وصدرت عنه غرائب من الترسيل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة ثم داخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطت فجمع له بها أموالا وبلغ به في المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة معزيا بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين وسبعمائة عدا عليه بعض الزعانف في سجوده للصلاةوطعنه فأشواه وفاظ لوقته وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء وبويع ابنه محمد لوقته وقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالدولة وأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه وجعل ابن الخطيب رديفا لرضوان في أمره ومشاركا في استبداده معه فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة ثم بعثوا الوزير ابن الخطيب سفيرا إلى السلطان أبي عنان منه على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه فلما قدم على السلطان بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شعر قدمه بين يدي نجواه فأذن له وأنشد وهو قائم
( خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجى قمر )

( ودافعت عنك كف قدرته ... ما ليس يسطيع دفعه البشر )
( وجهك في النائبات بدر دجى ... لنا وفي المحل كفك المطر )
( والناس طرا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا )
( وجملة الأمر أنه وطن ... في غير علياك ما له وطر )
( ومن به مذ وصلت حبلهم ... ما جحدوا نعمة ولا كفروا )
( وقد أهمتهم بأنفسهم ... فوجهوني إليك وانتظروا )
فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس وقال له قبل أن يجلس ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم ثم أثقل كاهلهم بالإحسان وردهم بجميع ما طلبوه وقال شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد لم نسمع بسفير قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين ثم ثار بهم محمد الرئيس ابن عم السلطان شركه في جده الرئيس أبي سعيد وتحين خروج السلطان إلى منتزهه خارج الحمراء وتسور دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضوان في بيته فقتله ونصب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقته وكان معتقلا بالحمراء فأخرجه وبايع له وقام بأمره مستبدا عليه وأحس السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان فركب ناجيا إلى وادي آش وضبطها وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودة استحكمت أيام مقامه بالأندلس وكان غالبا على هوى السلطان أبي سالم فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبونا على أهل الأندلس ويكف به عادية القرابة المرشحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب فقبل ذلك منه وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي

آش إليه وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب وحل معتقله فأطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب سلطانه وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتز لقدوم ابن الأحمر وركب في الموكب لتلقيه وأجلسه إزاء كرسيه وأنشد ابن الخطيب قصيدته يستصرخ السلطان لنصره فوعده وكان يوما مشهودا ثم أكرم مثواه وأرغد نزله ووفر أرزاق القادمين مع ركابه وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والإقطاع ثم استيأس واستأذن السلطان في التجوال بجهات مراكش والوقوف على أعمال الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال بإتحافه فتبادروا في ذلك وحصل منه على حظ وعندما مر بسلا إثر قفوله من سفره دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدة روي الراء يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بغرناطة مطلعها
( إن بان منزله وشطت داره ... قامت مقام عيانه أخباره )
( قسم زمانك عبرة أو عبرة ... هذي ثراه وهذه آثاره )
فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه واستقر هو بسلا منتبذا عن سلطانه طول مقامه بالعدوة ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى مكة بالأندلس سنة ثلاث وستين وسبعمائة وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد والقائم بالدولة يومئذ الوزير عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره فسر السلطان لقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وابن أشياخهم قد لحق بالطاغية ملك النصارى في ركاب أبيه عندما أحسن بالشر

من الرئيس صاحب غرناطة وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك وتقلب في مذاهب خدمته وانحرفوا عن الطاغية عندما يئسوا من الفتح على يده فتحولوا عنه إلى ثغور بلادهم وخاطبوا الوزير عمر بن عبد الله في أن يمكنهم من بعض الثغور الغريبة التي لطاعتهم بالأندلس يرتقبون منها الفتح وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله ذمة مرعية وخاصة متأكدة فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله وحملته على أن يرد عليه مدينة رندة إذ هي من تراث سلفه فقبل إشارتي في ذلك وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته وهو المقدم في بطانته ثم غزوا منها مالقة فكانت ركابا للفتح وملكها السلطان واستولى بعدها على دار ملكه بغرناطة وعثمان بن يحيى متقدم القدم في الدولة عريق في المخالصة وله على السلطان دالة واستبداد على هواه فلما وصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده وأعاده إلى مكانه في الدولة من علو يده وقبول إشارته أدركته الغيرة من عثمان ونكر على السلطان الاستكفاء به وأراه التخوف من هؤلاء الأعياص على ملكه فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وسبعمائة وأودعهم المطبق ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بنيه بندمائه وأهل خلوته وانفراد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت به الآمال وغشي بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتفننوا في السعايات فيه وقد هم السلطان

عن قبولها ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب فشمر عن ساعده في التفويض واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ في القبض على ابن عمه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد ابن السلطان يعقوب بن عبدالحق كانوا قد نصبوه شيخا على الغزاة بالأندلس لما أجاز من العدوة بعدما جاس خلالها لطلب الملك وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مرين فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس فأجاز هو ووزيره مسعود ابن ماساي ونزلوا على السلطان المخلوع أعوام سبعة وستين وسبعمائة فأكرم نزلهم وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله فغص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك وتوقع انتقاض أمره منهم ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسر بها في بني مرين فجزع لذلك وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطة على يد سفيره إلى الأندلس وكاتبه أبي يحيى ابن أبي مدين وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماساي فتقبض عليهما واعتقلهما وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية وربما تخيل أن السلطان مال إلى قبولها وأنهم قد أحفظوه عليه فأجمع التحول عن الأندلس إلى المغرب واستأذن السلطان في تفقد الثغور وسار إليها في لمة من فرسانه وكان معه ابنه علي الذي كان خالصة للسلطان وذهب لطيته فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه وسرح إذنه بين يديه فخرج قائد الجبل لتلقيه وقد كان السلطان عبد العزيز

اوعز إليه إليه بذلك وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبته وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسم ثم سار لقصد السلطان فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة بمقامه من تلمسان فاهتزت له الدولة وأركب السلطان خاصته لتلقيه وأحله من مجلسه بمحل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان التنويه والعزة وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى ابن أبي مدين سفيرا إلى صاحب الأندلس في طلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل حالات الأمن والتكرمة ثم أكثر المنافسون له في شأنه وأغروا سلطانه بتتبع عثراته وإبداء ما كان كامنا في نفسه من سقطاته وإحصاء معايبه وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي الحسن ابن الحسن فاسترعاها وسجل عليه بالزندقة وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه وبعث القاضي ابن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الإنتقام منه بتلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه فصم عن ذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يرد وقال لهم هلا انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري ثم وفر الجراية والاقطاع له ولبنيه ولمن جاء من أهل الأندلس في جملته فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين وسبعمائة ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان سار هو في ركاب الوزير أبي بكر ابن غازي القائم بالدولة فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن واغتراس الجنان وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره انتهى

رواية ابن خلدون عن نهاية لسان الدين
وقال ابن خلدون في تاريخه ما صورته كان محمد بن الأحمر المخلوع قد رجع من رندة إلى ملكه بغرناطة في جمادى من سنة ثلاث وستين وقتل له الطاغية عدوة الرئيس المنتزي على ملكهم حين هرب من غرناطة إليه وفاء بعهد المخلوع واستوى على كرسيه واستقل بملكه ولحق به كاتبه وكاتب أبيه محمد بن الخطيب فاستخلصه وعقد له على وزارته وفوض إليه في القيام بملكه فاسولى عليه وملك هواه وكانت عينه ممتدة إلى المغرب وسكناه إلى أن نزلت به آفة في رياسته فكان لذلك يقدم السوابق والوسائل عند ملوكه وكان لأبناء السلطان أبي الحسن كلهم غيرة من ولد عمهم السلطان أبي علي ويخشونهم على أمرهم ولما لحق الأمير عبد الرحمن بن أبي يفلوسن بالأندلس اصطفاه ابن الخطيب واستخلصه لنجواه ورفع في الدولة رتبته وأعلى منزلته وحمل السلطان على أن عقد له على الغزاة المجاهدين من زناتة مكان بني عمه من الأعياص فكانت له آثار في الاضطلاع بها ولما استبد السلطان عبد العزيز بأمره واستقل بملكه وكان ابن الخطيب ساعيا في مرضاته عند سلطانه فدس إليه باعتقال عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ووزيره مسعود بن ماساي وأدار ابن الخطيب في ذلك مكره وحمل السلطان عليهما إلى أن سطا بهما ابن الأحمر واعتقلهما سائر أيام السلطان عبد العزيز وتغير الجو بين ابن الأحمر ووزيره ابن الخطيب وأظلم وتنكر له فنزع عنه إلى عبد العزيز سلطان المغرب سنة ثنتين وسبعين وسبعمائة لما قدم من الوسائل ومهد من السوابق فقبله السلطان وأحله من مجلسه محل الإصطفاء والقرب وخاطب ابن الأحمر في أهله وولده فبعثهم إليه واستقر في جملة السلطان ثم تأكدت العداوة بينه

وبين ابن الأحمر فرغب السلطان عبد العزيز في ملك الأندلس وحمله عليه وتواعدوا لذلك عند رجوعه من تلمسان إلى المغرب ونمى ذلك إلى ابن الأحمر فبعث إلى السلطان عبد العزيز بهدية لم يسمع بمثلها انتقى فيها من متاع الأندلس وماعونها وبغالها الفارهة ومعلوجي السبي وجواريه وأوفد بها رسله يطلب إسلام وزيره ابن الخطيب إليه فأبى السلطان من ذلك ونكره ولما هلك السلطان واستبد الوزير ابن غازي بالأمر تحيز إليه ابن الخطيب وداخله وخاطبه ابن الأحمر بمثل ما خاطب به السلطان عبد العزيز فلج واستنكف عن ذلك وأقبح الرد وانصرف رسوله إليه وقد رهب سطوته فأطلق ابن الأحمر لحينه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن وأركبه الأسطول وقذف به إلى ساحل بطوية ومعه الوزير مسعود بن ماساي ونهض يعني ابن الأحمر إلى جبل الفتح فنازله بعساكره ونزل عبد الرحمن ببطوية
ثم ذكر ابن خلدون كلاما كثيرا تركته لطوله وملخصه أن الوزير أبا بكر ابن غازي الذي كان تحيز إليه ابن الخطيب ولى ابن عمه محمد بن عثمان مدينة سبتة خوفا عليها من ابن الأحمر ونهض هو أعني الوزير إلى منازلة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ببطوية إذ كانوا قد بايعوه فامتنع عليه وقاتله أياما ثم رجع إلى تازا ثم إلى فاس واستولى عبد الرحمن على تازا وبينما الوزير أبو بكر بفاس يدبر الرأي إذ وصله الخبر بأن ابن عمه محمد بن عثمان بايع السلطان أحمد بن أبي سالم وهو المعروف بذي الدولتين وهذه هي دولته الأولى وذلك أن ابن عم الوزير وهو محمد بن عثمان لما تولى سبتة كان ابن الأحمر قد طاول حصار جبل الفتح وأخذ بمخنقة وتكررت المراسلة بينه وبين محمد بن عثمان والعتاب وفاستعتب له وقبح ما جاء به ابن عمه الوزير أبو بكر ابن غازي من الاستغلاظ له في شأن ابن الخطيب وغيره فوجد ابن

الأحمر في ذلك السبيل إلى غرضه وداخله في البيعة لابن السلطان أبي سالم من الأبناء الذين كانوا بطنجة تحت الحوطة والرقبة وأن يقيمه للمسلمين سلطانا ولا يتركهم فوضى وهملا تحت ولاية الصبي الذي لم يبلغ ولا تصح ولايته شرعا وهو السعيد بن أبي فارس الذي بايعه الوزير أبو بكر ابن غازي بتلمسان حين مات أبوه واستبد عليه واختص ابن الأحمر أحمد بن أبي سالم من بين أولئك الأبناء لما سبق بينه وبين أبيه أبي سالم من الموات وكان ابن الأحمر اشترط على محمد بن عثمان وحزبه شروطا منها أن ينزلوا له عن جبل الفتح الذي هو محاصر له وأن يبعثوا إليه جميع أبناء الملوك من بني مرين ليكونوا تحت حوطته وأن يبعثوا إليه بالوزير ابن الخطيب متى قدروا عليه فانعقد أمرهم على ذلك وتقبل محمد بن عثمان شروطه وركب من سبتة إلى طنجة واستدعى أبا العباس أحمد من مكان اعتقاله فبايعه وحمل الناس على طاعته واستقدم أهل سبتة للبيعة وكتابتها فقدموا وبايعوا وخاطب أهل جبل الفتح فبايعوا وأفرج ابن الأحمر عنهم وبعث إليه محمد بن عثمان عن سلطانه بالنزول له عن جبل الفتح وخاطب أهله بالرجوع إلى طاعته فارتحل ابن الأحمر من مالقة إليه ودخله ومحا دولة بني مرين مما وراء البحر وأهدى للسلطان أبي العباس وأمده بعسكر من غزاة الأندلس وحمل إليه مالا للإعانة على أمره ولما وصل الخبر بهذا كله إلى الوزير أبي بكر ابن غازي قامت عليه القيامة وكان ابن عمه محمد بن عثمان كتب إليه يموه بأن هذا عن أمره فتبرأ من ذلك ولاطف ابن عمه أن ينقض ذلك الأمر فاعتل له بانعقاد البيعة لأبي العباس وبينما الوزير أبو بكر ينتظر إجابة ابن عمه إلى ما رامه منه بلغه الخبر بأنه أشخص الأبناء المعتقلين كلهم للأندلس وحصلوا تحت كفالة ابن الأحمر فوجم وأعرض عن ابن عمه ونهض إلى تازا لمحاصرة عبد الرحمن بن أبي يفلوسن فاهتبل في غيبته ابن عمه محمد بن عثمان ملك المغرب ووصله مدد السلطان ابن الأحمر من رجال الأندلس الناشبة نحو ستمائة وعسكر آخر من

الغزاة وبعث ابن الأحمر رسله إلى الأمير عبد الرحمن باتصال اليد مع ابن عمه السلطان أحمد ومظاهرته واجتماعهما على ملك فاس وعقد بينهما الاتفاق على أن يختص عبد الرحمن بملك سلفه فتراضيا وزحف محمد بن عثمان وسلطانه إلى فاس وبلغ الخبر إلى الوزير أبي بكر بمكانه من تازا فانفض معسكره ورجع إلى فاس ونزل بكدية العرائس وانتهى السلطان أبو العباس أحمد إلى زرهون فصمد إليه الوزيربعساكره فاختل مصافه ورجع على عقبه مفلولا وانتهب عسكره ودخل البلد الجديد وجأجأ بالعرب أولاد حسين فعسكروا بالزيتون ظاهر فاس فنهض إليهم الأمير عبد الرحمن من تازا بمن كان معه من العرب الأجلاف وشردهم إلى الصحراء وشارف السلطان أبو العباس أحمد بجموعه من العرب وزناتة إلى ولي دولتهم ونزمار بن عريف بمكانه من قصره الذي اختطه بملوية وأطلعوه على كامن أسرارهم فأشار عليهم بالإجتماع والإتفاق فاجتمعوا بوادي النجا وتحالفوا ثم ارتحلوا إلى كدية العرائس في ذي القعدة من سنة خمس وسبعين وبرز إليهم الوزير بعساكره فانهزمت جموعه وأحيط به وخلص إلى البلد الجديد بعد غص الريق واضطرب معسكر السلطان أبي العباس بكدية العرائس ونزل الأمير عبد الرحمن بإزائه وضربوا على البلد الجديد سياجا بالبناء للحصار وأنزلوا بها أنواع القتال والإرهاب ووصلهم مدد السلطان ابن الأحمر فأحكموا الحصار وتحكموا في ضياع الوزير ابن الخطيب بفاس فهدموها وعاثوا فيها ولما كان فاتح سنة ست وسبعين داخل محمد بن عثمان ابن عمه الوزير أبا بكر في النزول عن البلد الجديد والبيعة للسلطان لكون الحصار قد اشتد به ويئس وأعجزه المال فأجاب واشترط عليهم الأمير عبد الرحمن التجافي له عن أعمال مراكش بدل سجلماسة فعقدوا له على كره وطووا على المكر وخرج الوزير أبو بكر إلى السلطان وبايعه واقتضى عهده بالأمان وتخلية سبيله من الوزارة ودخل السلطان أبو العباس إلى البلد

الجديد سابع المحرم وارتحل الأمير عبد الرحمن يومئذ إلى مراكش واستولى عليها انتهى

رواية ابن الأحمر
وقال حفيد السلطان ابن الأحمر في تاريخه ما صورته لما لحق الرئيس أبو عبد الله ابن الخطيب بالمغرب عام اثنين وسبعين وسبعمائة وكان من وفاة مجيره والمحامي عنه السلطان عبد العزيز ما ألمعنا بذكره شد الوزير أبو بكر ابن غازي يده على ابن الخطيب بانيا على أشد الأشياء ألا يسلمه لمولانا جدنا مع توقع البغضاء واقتدى هذا الوزير بالسلطان عبد العزيز في إعراضه عن العقود الموجهة من الأندلس بالمقذع من موبقات ابن الخطيب ولج في الغلواء وسجل موجبات الوفاء والبواعث من مولانا جدنا تتزايد والأساطيل تتجهز والآراء بالقصد الخطير ينتقي منها الصواب ويتخير حتى خيم مولانا جدنا بظاهر جبل الفتح وكان إذ ذاك راجعا إلى إيالة المغرب فأناخ عليه ككل الجيش وأهمهم ثقل الوطأة ولم يبال مولانا جدنا بما أرسلت آناء الليل وأطراف النهار من شآبيب الأنفاط والجوار من باب الشطائين قريب والخالصة من الثقات مستريب والنجاة من تلك الأهوال من الأمر الغريب ولم يبق بغرناطة من له خلوص ولا من ترامى به همة إلا وأعمل السير الحثيث ولحق بمولانا جدنا لحاق المحب بالحبيب حتى اهل العلم والرجاحة والحلم ولا كالسيد الإمام الأستاذ أبي سعيد قطب الجملة وعميد الملة وهو الذي بلغنا نظمه في هذه الوجهة وعندما ألقى عصا التسيار في الجهة القريبة من أولي العداوة ومن ذلك قصيدته المشهورة التي أولها
( يا جبل الفتح استلمت نفوسنا ... فلا قلب إلا نحو مغناك قد سبق )
( فأرسلت إذ جئناك فينا صواعقا ... تخال بها جو السماء قد انطبق )

وقوله في إجابة السفهاء من الهاتفين بالسور موطئا معجبا رحمة الله تعالى عليه
( وذموا وما يعنون إلا مذمما ... وأنت بحمد الله تدعى محمدا )
وقول حامل اللواء الآتي ذكره في تضاعيف الأسماء
( أما مرامك في عراض البيد ... فمبلغ ما شئت من مقصود )
( والهجر إن ألقته ألسنة العدا ... يأباه فضل مقامك المحمود )
( سحقا لهم سفهاء كل قبيلة ... شذت مقالتهم عن المعهود )
( قد ضلت الأحلام منهم رشدها ... هذا ومنك الحلم غير بعيد )
( مع عزمة لو شئت هدت كل ما ... قد أحكموا من معلم ومشيد )
إلى أن قال الخبر عن اجتماع الأميرين أبي العباس وأبي زيد متصاحبين ومترافقين على استخلاص مدينة فاس من يد الوزير أبي بكر ابن غازي بن الكاس وكتب الرئيس أبو عبد الله ابن زمرك في مخلص هذه الكائنة حث الوزير محمد ابن عثمان السير في وسط عام خمسة وسبعين وسبعمائة وتلاقى بسلطانه أبي العباس مع الأمير أبي زيد عبد الرحمن واستقلا بالطائلة وحصلا من التضييق على السعيد الطفل الصغير وعلى وزيره أبي بكر ابن غازي في متسع الخطة ورحيب ذرع الخلافة وتصالحا عن رضى وتسليم منهما ومن أشياعهما على تسليم السعيد إلى اللحاق بمن كان في طنجة من الأمراء واتصل السلطان عبد الرحمن بمراكش فكان ملكها وجابي أموالها وتملك السلطان أبو العباس مدينة فاس وما إلى البلاد الساحلة وسواها مما يحتوي عليه ملك المدينة البيضاء برا وبحرا
وعبر كاتب الدولة عن المدينة وعن الطفل متملكها بقوله وإلى هذا فقد ارتفع الالتباس واطرد القياس وغير خفي عن ذي عقل سليم وذي تفويض للحق وتسليم أن دار الملك المريني كمامة بلا زهر ورياض بلا نهر إن لم يقتعد كرسيها من يزين جيدها ويجيد حليها وآن أوان البشرى لمن يمتعض

للدين والآن قلادة التقوى منوطة بقلم اعلام الملوك المهتدين ثم ذكر ما يطول من فصول وربما اشتملت على فضول وملخصه مثل ما ذكر ابن خلدون

تتمة الخبر عن نهاية لسان الدين نقلا عن ابن خلدون
ثم ساق قاضي القضاة ابن خلدون بعد ما تقدم جلبه من تاريخه الكلام على محنة لسان الدين ابن الخطيب ووفاته مقتولا رحمه الله تعالى فقال ما صورته ولما استولى السلطان أبو العباس على البلد الجديد دار ملكه فاتح ست وسبعين استقل بسلطانه والوزير محمد بن عثمان مستبد عليه وسليمان بن داود بن أعراب كبير بني عسكر رديفة وقد كان الشرط وقع بينه وبين السلطان ابن الأحمر عندما بويع بطنجة على نكبة الوزير ابن الخطيب وإسلامه إليه لما نمي إليه عنه أنه كان يغري السلطان عبد العزير بملك الأندلس فلما زحف السلطان أبو العباس من طنجة ولقيه أبو بكر ابن غازي بساحة البلد الجديد فهزمه السلطان ولازمه بالحصار أوى معه ابن الخطيب إلى البلد الجديد خوفا على نفسه فلما استولى السلطان على البلد أقام أياما ثم أغراه سليمان بن داود بالقبض على ابن الخطيب فقبضوا عليه وأودعوه السجن وطيروا بالخبر إلى السلطان ابن الأحمر وكان سليمان بن داود شديد العداوة لابن الخطيب لما كان سليمان قد بايعه السلطان ابن الأحمر على مشيخة الغزاة بالأندلس متى أعاده الله تعالى إلى ملكه فلما استقر إليه سلطانه أجاز إليه سليمان سفيرا عن الوزير عمر بن عبد الله ومقتضيا عهده من السلطان فصده الوزير ابن الخطيب عن ذلك محتجا بأن تلك الرياسة إنما هي لأعياص الملك من بني عبد الحق لأنهم يعسوب زناتة فرجع سليمان وأثار حقد ذلك لابن الخطيب ثم جاوز الأندلس لمحل إمارته من جبل الفتح فكانت تقع بينه وبين ابن الخطيب مكاتبات

ينفث كل واحد منهما لصاحبه بما يحفظه مما كمن في صدورهما وحين بلغ خبر القبض على ابن الخطيب إلى السلطان ابن الأحمر بعث كاتبه ووزيره بعد ابن الخطيب وهو أبو عبد الله ابن زمرك فقدم على السلطان أبي العباس وأحضر ابن الخطيب بالمشور في مجلسه الخاصة وعرض عليه بعض كلمات وقعت له في كتابه في المحبة فعظم النكير فيها فوبخ ونكل وامتحن بالعذاب بمشهد ذلك الملأ ثم تل إلى محبسه واشتوروا في قتله بمقتضى تلك المقالات المسجلة عليه وأفتى بعض الفقهاء فيه ودس سليمان بن داود لبعض الأوغاد من حاشيته بقتله فطرقوا السجن ليلا ومعهم زعانفة جاؤوا في لفيف الخدم مع سفراء السلطان ابن الأحمر وقتلوه خنقا قي محبسه وأخرج شلوه من الغد فدفن بمقبرة باب المحروق ثم أصبح من الغد على سافة قبره طريحا وقد جمعت له أعواد وأضرمت عليه نار فاحترق شعره واسود بشره فأعيد إلى حفرته وكان في ذلك انتهاء محنته وعجب الناس من هذه الشنعاء التي جاء بها سليمان واعتدوها من هناته وعظم النكير فيها عليه وعلى قومه وأهل دولته والله الفعال لما يريد
وكان عفا الله تعالى عنه أيام امتحانه بالسجن يتوقع مصيبة الموت فتجهش هواتفه بالشعر يبكي نفسه ومما قال في ذلك رحمه الله تعالى
( بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صموت )
( وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت )
( وكنا عظاما فصرنا عظاما ... وكنا نقوت فها نحن قوت )
( وكنا شموس سماء العلا ... غربن فناحت علينا السموت )
( فكم جدلت ذا الحسام الظبي ... وذو البخت كم جدلته البخوت )

( وكم سيق للقبر في خرقة ... فتي ملئت من كساه التخوت )
( فقل للعدا ذهب ابن الخطيب ... وفات ومن ذا الذي لا يفوت )
( ومن كان يفرح منهم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت )
انتهى كلام ابن خلدون في ديوان العبر

عن ابن حجر
وقال الحافظ ابن حجر في أنباء الغمر بعد أن ذكر ما قدمناه على سبيل الاختصار ما نصه واشتهر أنه يعني لسان الدين نظم حين قدم للقتل الأبيات المشهورة التي يقول فيها
( وقل للعداة مضى ابن الخطيب ... وفات فسبحان من لا يفوت )
( فمن كان يشمت منكم به ... فقل يشمت اليوم من لا يموت )
والصحيح في ذلك ما ذكره صديقه شيخنا ولي الدين ابن خلدون أنه نظم الأبيات المذكورة وهو في السجن لما كان يستشعر من التشديد انتهى
ثم حكى ابن حجر عن بعض الأعيان أن ابن الأحمر وجهه إلى ملك الإفرنج في رسالة فلما أراد الرجوع أخرج له رسالة لابن الخطيب تشتمل على نظم ونثر فلما قرأها قال له مثل هذا كان ينبغي أن لا يقتل ثم بكى حتى بل ثيابه انتهى كلام الحافظ وبعضه بالمعنى فانظر سددك الله تعالى العدو الكافر على هذا العلامة وقتل إخوانه في الإسلام له على حظ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لا رب غيره
تخميس لأبيات لسان الدين
قلت ورأيت بحضرة فاس حاطها الله تعالى تخميسا لهذه الأبيات بديعا

منسوبا إلى بعض بني الصباغ وزاد في الأصل بعض أبيات على ما ذكره ابن خلدون من هذه القطعة والمزيد يشبه نفس لسان الدين ابن الخطيب فلعل ابن خلدون اختصر منها أو لم يقف على الزائد ولنثبت جملته تتميما للمقصود فنقول قال رحمه الله تعالى
( أيا جاهلا غره ما يفوت ... وألهاه حال قليل الثبوت )
( تأمل لمن بعد أنس يقوت ... بعدنا وإن جاورتنا البيوت )
( وجئنا بوعظ ونحن صموت ... )
( لقد نلت من دهرنا رفعة ... تقضت كبرق مضى سرعة )
( فهيهات نرجو لها رجعة ... وأصواتنا سكنت دفعة )
( كجهر الصلاة تلاه القنوت ... )
( بدا لي من العز وجه شباب ... يؤمل سيبي وبأسي يهاب )
( فسرعان مزق ذاك الإهاب ... ومدت وقد أنكرتنا الثياب )
( علينا نسائجها العنكبوت ... )
( فآها لعز تقضى مناما ... منحنا به الجاه قوما كراما )
( وكنا نسوس أمورا عظاما ... وكنا عظاما فصرنا عظاما )
( وكنا نقوت فها نحن قوت ... )

( وكنا لدى الملك حلي الطلى ... فآها عليه زمانا خلا )
( نعوض من جده بالبلى ... وكنا شموس سماء العلا )
( غربنا فناحت علينا السموت ... )
( تعودت بالرغم من صرف الليالي ... وحملت نفسي فوق احتمالي )
( وأيقنت أن سوف يأتي ارتحالي ... ومن كان منتظرا للزوال )
( فكيف يؤمل منه الثبوت ... )
( هو الموت يا ما له من نبا ... يجوز الحجاب إلى من أبى )
( ويألف أخذ سني الحبا ... فكم أسلمت ذا الحسام الظبي )
( وذا البخت كم جدلته البخوت ... )
( هو الموت أفصح عن عجمة ... وأيقظ بالوعظ من خفقة )
( وسلى عن الحزن ذا حرقة ... وكم سيق للقبر في خرقة )
( في ملئت من كساه التخوت ... )
( تقضى زماني بعيش خصيب ... وعندي لذنبي انكسار المنيب )
( وها الموت قد صبت منه نصيبي ... فقل للعدا ذهب ابن الخطيب )
( وفات ومن ذا الذي لا يفوت ... )
( مضى ابن الخطيب كمن قبله ... ومن بعده يقتفي سبله )
( وهذا الردى ناثر شمله ... فمن كان يفرح منهم له )
( فقل يفرح اليوم من لا يموت )

( هو الموت عم فما للعدا ... يسرون بي حين ذقت الردى )
( ومن فاته اليوم يأتي غدا ... سيبلى الجديد إذا ما المدى )
( تتابع آحاده والسبوت ... )
( أخي توخ طريق النجاة ... وقدم لنفسك قبل الممات )
( وشمر بجد لما هو آت ... ولا تغترر بسراب الحياة )
( فإنك عما قريب تموت ... )
وقد ذكرني قوله رحمه الله تعالى فمن كان يفرح منهم له إلى آخره قول بعض العلماء الشاميين
( يا ضاحكا بمن استقل غباره ... سيثور عن قدميك ذاك العثير )
( لا فارس بجنودها منعت حمى ... كسرى ولا للروم خلد قيصر )
( جدد مضت عاد عليه وجرهم ... وتلاه كهلان وعقب حمير )
( وسطا بغسان الملوك وكندة ... فلها دماء عنده لا تثأر )
( لعبت بهم فكأنهم لم يخلقوا ... ونسوا بها فكأنهم لم يذكروا )

فصل في الاعتبار لابن دحية
وما أحسن قول أبي الخطاب ابن دحية الحافظ بعد الكلام ما صورته وأخذت من طريق خوزستان إلى طريق حلوان وقاسيت من الغربة أصناف الألوان ومررت على مدائن كسرى أنوشروان وزرت بها قبر صاحب النبي صلى الله عليه و سلم الزاهد العابد المعمر سلمان وأعملت منها السير والإغذاذ إلى مدينة بغذاذ فنظرت إليها معالم وربوعا وأقمت بها مرة عاما ومرة أسبوعا وأسبوعا وانا أبدي في ندائهم وأعيد والترب قد علا على منازلهم والصعيد وأسأل عن الخلفاء الماضين وأنشد ولسان الحال يجاوبني وينشد

( يا سائل الدار عن أناس ... ليس لهم نحوها معاد )
( مرت كما مرت الليالي ... أين جديس وأين عاد )
بل أين أبو البشر آدم الذي خلقه بيده الكبير المتعال أين الأنبياء من ولده والأرسال أهل النبوة والرسالة والوحي من الله ذي الجلالة أين سيدهم محمد الذي فضله عليهم ذو العزة والجلال وجعله شفيعهم مع أمته والناس في شدائد الأهوال أين القرون الماضية والأجيال أين التبابعة والأقيال أين ملوك همدان أين أولو الأبلق الفرد أو غمدان أين أولو التيجان والأكاليل أين الصيد والبهاليل بل أين النمارذة وأكبرهم نمروذ إبراهيم الخليل أين الفراعنة ومن هو بالسحر عليم الذي منهم فرعون موسى الكليم أين ملك الهدنانية هدد بن بدد الكردي الذي لم يكن غدره بمفيد له ولا مجدي وقد أخبر الحق جل جلاله عنه أنه كان يأخذ كل سفينة غصبا وزعم المؤرخون أنه كان أيضا يملأ القلوب رعبا ويسوم أصحابه قتلا وصلبا مع الطمع في المال وعدم النظر في عقبى المآل أين الفرس وملوكها وعدلها وعدولها أين دارا بن دارا بن بهمان أين اسكندر بن فلبس اليوناني الذي غلبه وملك بلاده في ذلك الزمان وأطاعه جميع ملوك الأقاليم وقدر الله به امتحان الخلق ذلك تقدير العزيز العليم أين كسرى وقيصر غلبهما من الموت الأسد القسور بعد أن أخرجهما من بلادهما أمير المؤمنين أبو حفص عمر لما ظهرت الملة الحنيفية كما ظهرت الشمس وبدا القمر أين أولاد جفنة وملوك غسان أين مماديح زياد وحسان أين هرم بن سنان أين الملاعب بالسنان أين أولاد مضر بن نزار بن معد بن عدنان أين بنو عبد المدان أين أرباب العواصم أين قيس بن عاصم أين العرب العرباء الأمة الفاضلة والجماعة المناضلة أين أولو الباس والحفاظ وذوو الحمية والإحفاظ حيث الوفاء والعهد

والحباء والرفد إلى علو الهمم والوفاء بالذمم والعطاء الجزل والضيف والنزل وهبة الافال والبزل وإنها لا تدين عزا ولا تقاد ولا ترام أنفة ولا تفاد أين قريش المغرورون في الجاهلية بالحي اللقاح والشعب الرقاح أين الماضون من ملوك بني أمية ذوو الألسن الذلق والأوجه الطلق والحمية أين خلفاء بني العباس بن عبد المطلب الذين شرفهم بالأصالة وليس إليهم بالمنجلب ذوو الشرف الشامخ والفخر الباذخ والخلافة السنية الرضية والمملكة العامة المرضية بلغتنا والله وفاتهم ولم يبق ذكرهم وصفاتهم قبض ملك الموت أرواحهم قبضا ولم يترك حراكا ولا نبضا ومزق الدود لحومهم قددا ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا إلا ما كان من أجساد الأنبياء أفضل التسليم فإن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء تكلمت على هذا الحديث وأثبت أنه من الصحيح لا السقيم وخرجت طرقه في كتابي العلم المشهور بعون العزيز الرحيم فما أبعد المرء عن رشده وما أقصاه كم وعظه الدهر وكم وصاه يخلط الحقيقة بالمحال والعاطل بالحال ولا توبة حتى يشيب الغراب ويألف الدم التراب فيا لهفي لبعد الدار وانقضاض الجدار وأنت هامة ليل أو نهار وقاعد من عمرك على شفا جرف هار تقرأ العلم وتدعيه ولا تفهمه ولا تعيه فهو عليك لا لك فأولى لك ثم أولى لك أما آن لليل الغي أن تنجلي أحلاكه ولنظم البغي أن تنتثر أسلاكه وأن يستفظع الجاني جناه ويأسف على ما اقترفه وجناه وأن يلبس عهاده بتا ويطلق الدنيا بتا ويفر منها فرار الأسد ويتيقن أنه لا بد من مفارقة الروح الجسد نبهنا الله تعالى من سنات غفلاتنا وحسن ما ساء من صنائعنا الذميمة وسلاتنا وجعل التقوى أحصن عددنا وأوثق آلاتنا اللهم إليك المآب وبيدك المتاب قد واقعنا الخطايا

وركبنا الاجرام رواحل ومطايا فتب علينا أجمعين وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين الطائعين وصلى الله على سيد ولد آدم محمد شفيعنا يوم القيامة وصاحب الحوض المورود والمقام المحمود والكرامة وعلى آله الطاهرين وأصحابه أهل الرضوان المنتخبين وسلام الله عليه وعليهم إلى يوم الدين انتهى وهو آخر كتابه النبراس في تاريخ بني العباس وذكرته بطوله لمناسبته
قلت وقد سلكت هذا المنحى نظما في خطبة هذا الكتاب كما مر وللسان الدين رحمه الله تعالى كلام قريب من هذا سيأتي في نثره إن شاء الله تعالى
وأقول إني قد تذكرت هنا قول القائل
( نطوي سبوتا وآحادا وننشرها ... ونحن في الطي بين السبت والأحد )
( فعد ما شئت من سبت ومن أحد ... لا بد أن يدخل المطوي في العدد )
وقول آخر
( ألم تر أن الدهر يوم وليلة ... يكران من سبت عليك إلى سبت )
( فقل لجديد العيش لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل لا بد من شت )

نبذة عن أعداء لسان الدين
واعلم أن لسان الدين لما كانت الأيام له مسالمة لم يقدر أحد أن يواجهه بما يدنس معاليه أو يطمس معالمه فلما قلبت الأيام له ظهر مجنها وعاملته بمنعها بعد منحها ومنها أكثر أعداؤه في شأنه الكلام ونسبوه إلى الزندقة والانحلال من ربقة الإسلام بتنقص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام والقول بالحلول والإتحاد والإنخراط في سلك أهل الإلحاد وسلوك مذاهب الفلاسفة في الاعتقاد وغير ذلك مما أثاره الحقد والعداوة والانتقاد مقالات نسبوها

إليه خارجة عن السنن السوي وكلمات كدروا بها منهل علمه الروي ولا يدين بها ويفوه إلا الضال الغوي والظن أن مقامه رحمه الله تعالى من لبسها بري وجنابه سامحه الله تعالى عن لبسها عري وكان الذي تولى كبر محنته وقتله تلميذه أبو عبد الله ابن زمرك الذي لم يزل مضمرا لخلته فلقد وقفت على خط ابن لسان الدين على أنه تسبب في قتل لسان الدين ابيه وسيأتي الإلماع والإلمام بابن زمرك المذكور في تلامذة لسان الدين مع أنه أعني لسان الدين حلاه في الإحاطة أحسن الحلى وصدقه فيما انتحله من أوصاف العلا وقد سبق في كلام ولي الدين ابن خلدون أنه قدم على السلطان أبي العباس أحمد المريني في شأن الوزير ابن الخطيب وأخرج إلى مجلس الخاصة وامتحن والمجالس بالأعيان غاصة ولا حول ولا قوة إلى بالله
ومن أعدائه الذين باينوه بعد أن كانوا يسعون في مرضاته سعي العبيد القاضي أبو الحسن ابن الحسن النباهي فكم قبل يده ثم جاهره بعد انتقال الحال وجد في أمره مع ابن زمرك حتى قتل لسان الدين وانقضت دولته فسبحان من لا يتحول ملكه ولا يبيد
وقد سبق فيما جلبناه من كلام ابن خلدون أن القاضي ابن الحسن قدم على السلطان عبد العزيز في شأن لسان الدين والانتقام منه بسبب تلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه بمقتضاها فأبى السلطان من ذلك وقال هلا فعلتم أنتم ذلك حين كان عندكم وامتنع لذمته أن يخفره فلما أراد الله بنفوذ الأمر وعدم نفع زيد وعمرو توفي السلطان عبد العزيز واختلت الأحوال واضطربت بالمغرب نيران الأهوال فقدم في شأنه الوزير الكاتب ابن زمرك خادمه الذي رباه وصنيعته فكان ما كان مما سبق به الإلمام

وقد ذكرنا في الباب الأول قول لسان الدين رحمه الله تعالى في قصيدته النونية
( تلون إخواني علي وقد جنت ... علي خطوب جمة ذات ألوان )
( وما كنت أدري قبل أن يتنكروا ... بأن خواني كان مجمع خواني )
( وكانت وقد حم القضاء صنائعي ... علي بما لا أرتضي شر أعوان )
ولقد صدق رحمه الله تعالى على أنه قال هذه القصيدة في النكبة الأولى التي انتقل فيها مع سلطانه إلى المغرب كما مر مفصلا وكأنه عبر عن هذه المحنة الأخيرة التي ذهبت فيها نفسه على يد صنائعه الكاتب ابن زمرك والقاضي ابن الحسن سامح الله الجميع
ويرحم الله أبا إسحاق التلمساني صاحب الرجز في الفرائض حيث يقول
( الغدر في الناس شيمة سلفت ... قد طال بين الورى تصرفها )
( ما كل من قد سرت له نعم ... منك يرى قدرها ويعرفها )
( بل ربما أعقب الجزاء بها ... مضرة عز عنك مصرفها )
( أما ترى الشمس كيف تعطف بالنور ... على البدر وهعو يكسفها )
وقال لسان الدين بعد ذكره أن ملك النصارى دون جانجه بن دون الفنش استنصر على أبيه بالسلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني ولاذ به ورهن عنده تاجه ذخيرة النصارى ولقيه بصخرة عباد من أحواز رندة فسلم عليه ويقال إن أمير المسلمين لما فرغ من ذلك طلب بلسان زناتة الماء ليغسل يده به من قبلة الفنش أو مصافحته ما نصه والشيء بالشيء يذكر فأثبت حكاية اتفقت لي بسبب ذلك أستدعي بها الدعاء ممن يحسن عنده موقعها وهي أن اليهودي الحكيم ابن زرزار على عهد ملك النصارى حفيد هذا الفنش

المذكور وصل إلينا بغرناطة في بعض حوائجه ودخل إلي بدار سكناي مجاور القصر السلطاني بحمراء غرناطة وعندي القاضي اليوم بغرناطة وغيره من أهل الدولة وبيده كتاب من سلطان المغرب محمد بن أبي عبد الرحمن ابن السلطان الكبير المولى أبي الحسن وكان محمد هذا قد فر إلى صاحب قشتالة واستدعى من قبله إلى الملك فسهل له ذلك وشرط عليه ما شاء وربما وصله خطابه بما لم يقنعه في إطرائه فقال لي مولاي السلطان دن بطره يسلم عليك ويقول لك انظر مخاطبة هذا الشخص وكان بالأمس كلبا من كلاب بابه حتى ترى خسارة الكرامة فيه فأخذت الكتاب من يده وقرأته وقلت له أبلغه عني أن هذا الكلام ما جرك إليه إلا خلو بابك من الشيوخ الذين يعرفونك بالكلاب وبالأسود وبمن تغسل الأيدي منهم إذا قبلوها فتعلم من الكلب الذي تغسل اليد منه ومن لا وإن جد هذا الولد هو الذي قبل جدك يده واستدعى الماء لغسل يده منه بمحضر النصارى والمسلمين ونسبة الجد إلى الجد كنسبة الحفيد للحفيد وكونه لجأ إلى بلادك ليس بعار عليه وأنت معرض إلى اللجإ إليه فيكافئك بأضعاف ما عاملته به فقال أبو الحسن المستقضي يبكي ويقبل يدي ويصفني بولي الله وكذلك من حضرني وتوجه إلى المغرب رسولا فقص علي بني مرين خبر ما شاهده مني وسمعه وبالحضرة اليوم ممن تلقى منه ذلك كثير جعل الله تعالى ذلك خالصا لوجهه انتهى
وقد أثنى لسان الدين في الإحاطة على القاضي ابن الحسن المذكور كما سيأتي وقال في ترجمة السلطان ابن الأحمر ما نصه ثم قدم للقضاء الفقيه الحسيب أبا الحسن وهو عين الأعيان بمالقة الخصوص برسم التجلة والقيام بالعقد والحل فسدد وقارب وحمل الكل وأحسن مصاحبة الخطبة والخطة وأكرم المشيخة مع النزاهة ولم يقف في التأتي على غاية فاتفق على رجاحته ولم يقف في عند غاية انتهى وحين أظلم الجو بينه وبين لسان الدين ذكره في الكتيبة الكامنة بما يباين ما سبق ولقبه بالجعسوس

ولم يقنعه ذلك حتى ألف فيه خلع الرسن في وصف القاضي ابن الحسن

كتاب من النباهي إلى لسان الدين
وقد وقفت بفاس المحروسة على كتاب مطول كتبه ابن الحسن للسان الدين بعد تحوله عن الأندلس ونص ما تعلق به الغرض هنا
فشرعتم في الشراء وتشييد البناء وتركتم الاستعداد لهاذم اللذات هيهات هيهات تبنون ما لا تسكنون وتدخرون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة ) النساء 78 فأين المهرب مما هو كائن ونحن إنما نتقلب في قدرة الطالب شرقتم أو غربتم الأيام تتقاضى الدين وتنادي بالنفس الفرارة إلى أين إلى أين ونترك الكلام مع الناقد فيما ارتكبه من تزكية نفسه وعد ما جلبه من مناقبه ما عدا ما هدد به من حديد لسانه خشية اندراجه في نمط من قال فيه رسول الله ( إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه ) ولا غيبة فيمن ألقى جلباب الحياء عن وجهه ونرحمه على ما أبداه أو أهداه من العيوب التي نسبها لأخيه واستراح على قوله بها فيه ونذكره على طريقة نصيحة الدين بالحديث الثابت في الصحيح عن رسول الله وهو قوله ( أتدرون من المفلس ) قالوا المفلس فينا من لا دراهم له ولا متاع فقال إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا فيعطى هذا حسناته وهذا من حسناته فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار ) ويعلم الله أن معنى هذا الحديث الثابت

عن النذير الصادق هو الذي حملني على نصحكم ومراجعتكم في كثير من الأمور منها الإشارة عليكم بإذهاب عين ما كتبتم به في التاريخ وأمثاله فإنكم نفعتم بما وقعتم فيه من الغيبة المحرمة أحياء وأمواتا لغير شيء حصل بيدكم وضررتم نفسكم بما رتبتم لهم من المطالبات بنص الكتاب والسنة قبلكم والرضى بهذه الصفقة الخاسرة أمر بعيد من الدين والعقل وقد قلت لكم غير مرة عن أطراسكم المسودة بما دعوتم إليه من البدعة والتلاعب بالشريعة إن حقها التخريق والتحريق وإن من أطراها لكم فقد خدع نفسه وخدعكم والله الشهيد بأني نصحتكم وما غششتكم وليس هذا القول وإن كان ثقيلا عليكم بمخالف كل المخالفة لما ذنبتم به من تقدم المواجهة بالملاطفة والمعاملة بالمكارمة فليست المداراة بقادحة في الدين بل هي محمودة في بعض الأحوال مستحسنة على ما بينه العلماء إذ هي مقاربة في الكلام أم مجاملة بأسباب الدنيا لصلاحها أو صلاح الدين وإنما المذموم المداهنة وهي بذل الدين لمجرد الدنيا والمصانعة به لتحصيلها ومن خالط للضرورة مثلكم وزايله بأخلاقه ونصحه مخاطبة ومكاتبة واستدل له بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله على صحة مقالته فقد سلم والحمد لله من مداهنته وقام لله تعالى بما يجب عليه في حقكم من التحذير والإنكار مع الإشفاق والوجل
وأكثرتم في كتابكم من المن بما ذكرتم أنكم صنعتم وعلى تقدير الموافقة لكم ليتكم ما فعلتم فسلمنا من المعرة وسلمتم وجل القائل سبحانه ( قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم ) البقرة 263 وقلما شاركتم أنتم في شيء إلا بأغراض حاصلة في يدكم ولأغراض دنيوية خاصة بكم فالملام إذن في الحقيقة إنما هو متوجه إليكم وأما ما أظهرتم بمقتضى حركاتكم وكلامكم من التندم على فراق محلكم والتعلل بأخبار قطركم وأهلكم فتناقض منكم وإن كنتم فيه بغدركم

( أتبكي علي ليلى وأنت تركتها ... فكنت كآت غيه وهو طائع )
( وما كل ما منتك نفسك مخليا ... تلاقي ولا كل له أنت تابع )
( فلا تبكين في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع )
وعلى أن تأسفكم لما وقعتم فيه من الغدر لسلطانكم والخروج لا لضرورة غالبة عن أوطانكم من الواجب بكل اعتبار عليكم سيما وقد مددتم إلى التمتع بغيرها عينيكم ولو لم يكن بهذه الجزيرة الفريدة من الفضيلة إلا ما خصت به من بركة الرباط ورحمة الجهاد لكفاها فخرا على ما يجاورها من سائر البلاد قال رسول الله رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه وقال عليه الصلاة و السلام الروحة يروحها العبد في سبيل الله والغدوة خير من الدنيا وما فيها وعلى كل تقدير فإذا لم يكن يا أخي فراركم من الأندلس إلى الله وحده بالتوبة المكملة والاستغفار مع الانقطاع في أحد المواطن المكرمة المعظمة بالإجماع وهي طيبة أو مكة أو بيت المقدس فقد خسرتم صفقة رحلتكم وتبين أن لغير وجه الله العظيم كانت نية هجرتكم اللهم إلا إن كنتم قد لاحظتم مسألة الرجل الذي قتل مائة نفس وسأل أعلم أهل الأرض فأشار عليه بعد إزماع التوبة بمفارقة المواطن التي ارتكب فيها الذنوب واكتسب بها العيوب فأمر آخر مع أن كلام العلماء في هذا الحديث معروف ويقال لكم من الجواب الخاص بكم فعليكم إذا بترك القيل والقال وكسر حبرة الجدال والقتال وقصر ما بقي من مدة العمر على الاشتغال بصالح الأعمال
ووقعت في مكتوبكم كلمات أوردها النقد في قالب الاستهزاء والازدراء والجهالة بمقادير الأشياء ومنها ريح صرصر وهو لغة القرآن وقاع قرقر وهو لفظ سيد العرب والعجم محمد ثبت في الصحيح في باب التغليظ فيمن لا يؤدي زكاة ماله قيل يا رسول الله والبقر والغنم قال ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان

يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئا تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها الحديث الشهير قال صاحب المعلم بطح لها بقاع قرقر أي ألقي على وجهه والقاع المستوي من الأرض والقرقر كذلك هذا ما حضر الجواب وبقي في مكتوبكم حشو كثير من كلام إقذاع وفحش بعيد من والحياء رأيت من الصواب الإعراض عن ذكره وصون اليد عن الاستعمال فيه والظاهر أنه إنما صدر منكم وأنتم بحال مرض فلا حرج فيه عليكم أنسأ الله تعالى أجلكم ومكن أمنكم وسكن وجلكم ومنه جل اسمه نسأل لي ولكم حسن الخاتمة والفوز بالسعادة الدائمة والسلام الأتم يعتمدكم والرحمات والبركات من كاتبه علي بن عبد الله بن الحسن وفقه الله وذلك بتاريخ أخريات جمادى الأولى من عام ثلاثة وسبعين وسبعمائة
وقيد رحمه الله تعالى في مدرج طي هذا الكتاب ما نصه يا أخي أصلحني الله وإياكم بقي من الحديث شيء من الصواب الخروج عنه لكم إذ هذا أوانه وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيه ما فيه وليكون البناء بعد أن كان على أصل صحيح بحول الله وحاصله أنكم عددتم ما شاركتكم فيه بحسب الأوقات وقطعتم بنسبة المور كلها إلى أنفسكم وإنها إنما صدرت عن أمركم وبإذنكم من غير مشارك في شيء منها لكم ثم مننتم بها المن القبيح المبطل لعمل بركم على تقدير التسليم في فعله لكم ورميتم غيركم بالتقصير في حاله كله طريقة من يبصر القذى في عين أخيه ويدع الجذع في عينه وأقصى ما تسنى للمحب أيام كونكم بالأندلس تقلد كلفة قضاء الجماعة وما كان إلا أن وليتها بقضاء الله وقدره فقد تبين لكل ذي عقل سليم أنه لا موجد إلا الله وأنه إذا كان كذلك كان الخير والشر والطاعة والمعصية حاصلا بإيجاده سبحانه وتخليقه وتكوينه من غير عاضد له على تحصيل مراده ولا معين ولكنه جلت قدرته وعد فاعل الخير بالثواب فضلا منه واوعد فاعل الشر بالعقاب عدلا منه وكأني بكم تضحكون من تقرير هذه المقدمة وما أحوجكم إلى

تأملها بعين اليقين فكابدت أيام تلك الولاية النكدة من النكاية باستحقاركم للقضايا الشرعية وتهاونكم بالأمور الدينية ما يعظم الله به الأجر وذلك في جملة مسائل منها مسألة ابن الزبير المقتول على الزندقة بعد تقضي موجباته على كره منكم ومنها مسألة ابن أبي العيش المثقف في السجن على آرائه المضلة التي كان منها دخوله على زوجه إثر تطليقه إياها بالثلاث وزعمه أن رسول الله أمره مشافهة بالاستمتاع بها فحملتم أحد ناسكم تناول إخراجه من الثقاف من غير مبالاة بأحد ومنها أن أحد الفتيان المتعلقين بكم توجهت عليه المطالبة بدم قتيل وسيق المدعى عليه للذبح بغير سكين فما وسعني ولي الدم وسرحتم الفتى المطلوب على الفور إلى غير ذلك مما لا يسع الوقت شرحه ولا يجمل بي ولا بكم ذكره والمسألة الأخرى أنتم توليتم كبرها حتى جرى فيها القدر بما جرى به من الانفصال والحمد لله على كل حال وأما الرمي بكذا وكذا مما لا علم لنا بسببه ولا عذر لكم من الحق في التكلم به فشيء قلما يقع مثله من البهتان ممن كان يرجو لقاء ربه وكلامكم في المدح والهجو هو عندي من قبيل اللغو الذي نمر به كراما والحمد لله فكثروا أو قللوا من أي نوع شئتم أنتم وما ترضونه لنفسكم وما فهت لكم بما فهت الكلام إلا على جهة الإعلام لا على جهة الانفعال لما صدر أو يصدر من الأقوال والأفعال فمذهبي غير مذهبكم وعندي ما ليس عندكم
وكذلك رأيتكم تكثرون في مخاطباتكم من لفظ الرقية في معرض الإنكار لوجود نفعها والرمي بالمنقصة والحمق لمستعملها ولو كنتم قد نظرتم في شيء من كتب السنة وسير الأمة المسلمة نظر مصدق لما وسعكم إنكار ما أنكرتم وكتبه بخط يدكم فهو قادح كبير في عقيدة دينكم فقد ثبت بالإجماع في سورة الفلق أنها خطاب للنبي وانه المراد بها هو وآحاد

أمته وفي أمهات الإسلام أن رسول الله كان إذا اشتكى رقاه جبريل فقال بسم الله يبريك من كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد ومن شر كل ذي عين وفي الصحيح أيضا أن ناسا من أصحاب رسول الله كانوا في سفر فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فلم يضيفوهم فقالوا هل فيكم راق فإن سيد الحي لديغ أو مصاب فقال رجل من القوم نعم فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرئ الرجل فأعطى قطيعا من غنم الحديث الشهير قال أهل العلم فيه دليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية والطب وتعليم القرآن وهو قول مالك وأحمد والشافعي وأبي ثور وجماعة من السلف وفيه جواز المقارضة وإن كان ضد ذلك أحسن وفي هذا القدر كفاية وما رقيت قط أحدا على الوجه الذي ذكرتم ولا استرقيت والحمد لله وما حملني على تبيين ما بينته الآن لكم في المسألة إلا إرادة الخير التام لجهتكم والطمع في إصلاح باطنكم وظاهركم فإني أخاف عليكم من الإفصاح بالطعن في الشريعة ورمي علمائها بالمنقصة على عادتكم وعادة المستخف ابن هذيل شيخكم منكر علم الجزيئات القائل بعدم قدرة الرب جل اسمه على جميع الممكنات وأنتم قد انتقلتم إلى جوار أناس أعلام قلما تجوز عليهم حفظهم الله المغالطات فتأسركم شهادة العدول التي لا مدفع لكم فيها وتقع الفضيحة والدين النصيحة أعاذنا الله من درك الشقاء وشماتة الأعداء وجهد البلاء
وكذلك أحذركم من الوقوع بما لا ينبغي في الجناب الرفيع جناب سيد المرسلين وقائد الغر المحجلين صلوات الله وسلامه عليه فإنه نقل عنكم في هذا الباب أشياء منكرة يكبر في النفوس بها أنتم تعلمونها وهي التي زرعت في القلوب ما زرعت من بغضكم بعدكم مع استشعار الشفقة والوجل من وجه آخر عليكم ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص ظل السلطنة عنكم لكانت الأمة المسلمة امتعاضا لدينها ودنياها قد برزت بهده الجهات

لطلب الحق منكم فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدول ما صدر عنكم من العيث في الأبشار والأموال وهتك الأعراض وإفشاء الأسرار وكشف الأستار واستعمال المكر والحيل والغدر في غالب الأحوال للشريف والمشروف والخديم والمخدوم ولو لم يكن في الوجود من الدلائل على صحة ما رضيتم به لنفسكم من الاتسام بسوء العهد والتجاوز المحض وكفران النعم والركون إلى ما تحصل من الحطام الزائل إلا عملكم مع سلطانكم مولاكم وابن مولاكم أيده الله بنصره وما ثبت من مقالاتكم السيئة فيه وفي كثير من أهل قطره لكفاكم وصمة لا يغسل دنسها البحر ولا ينسى عارها الدهر فإنكم تركتموه أولا بالمغرب عند تلون الزمان وذهبتم للكدية والأخذ بمقتضى المقامة الساسانية إلى ان استدعاه الملك وتخلصت له بعد الجهد بالأندلس فسقطتم عليه سقوط الذباب على الحلواء وضربتم وجوه رجاله بعضا ببعض حتى خلا لكم الجو وتمكن الأمر والنهي فهمزتم ولمزتم وجمعتم من المال ما جمعتم ثم وريتم بتفقد ثغر الجزيرة الخضراء مكرا منكم فلما بلغتم أرض الجبل انحرفتم عن الجادة وهربتم بأثقالكم الهروب الذي أنكره عليكم كل من بلغه حديثكم أو يبلغه إلى أخر الدهر في العدوتين من مؤمن وكافر وبر وفاجر فكيف يستقيم لكم بعد المعرفة بتصرفاتكم حازم أو يثق بكم في قول أو فعل صالح أو طالح ولو كان قد بقي لكم من العقل ما تتفكرون به في الكيفية التي ختمتم بها عملكم بالأندلس من الزيادة في المغرم وغير ذلك مما لكم وزره ووزر من عمل به بعدكم إلى يوم القيامة حسبما ثبت في الصحيح لحملكم على مواصلة الحزن وملازمة الأسف والندم عى ما أوقعتم فيه نفسكم الأمارة من التورط والتنشب في أشطان الآمال ودسائس الشيطان ونعوذ بالله من شرور الأنفس وسيئات الأعمال
وأما قولكم عن فلان إنه كان حشرة في قلوب اللوز وإن فلانا كان برغوثا في تراب الخمول فكلام سفساف يقال لكم من الجواب عليه وأنتم يا هذا أين كنتم منذ خمسين سنة مثلا خلق الله الخلق لا استظهارا بهم

ولا استكثارا وأنشأهم كما قدر أحوالا واطوارا واستخلفهم في الأرض بعد أمة أمما وبعد عصر أعصارا وكلفهم شرائعه وأحكامه ولم يتركهم هملا وامرهم ونهاهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات 13 وبكل اعتبار فلا نعلم في نمط الطلبة تدريجا كان أسمج من تدريجكم ونبدأ من كذا فإنه كان كذا وأكثر أهل زمانه تحملا وتقللا في نفسه بالنسبة إلى منصبه كان الشيخ أبو الحسن ابن الجياب ولكنه حين علم رحمه الله تعالى من نشأتكم وحالتكم ما علم نبذ مصاهرتكم وصرف عليكم صداقكم وكذلك فعلت بنت جزي زوج الرهيصي معكم حسبما هو مشهور في بلدكم وذكرتم أنكم ما زلتم من أهل الغنى حيث نقرتم بذكر العرض وهو بفتح العين والراء حطام الدنيا على ما حكى أبو عبيد وقال أبو زيد هو بسكون الراء المال الذي لا ذهب فيه ولا فضة وأي مال خالص يعلم لكم أو لأبيكم بعد الخروج من الثقاف على ما كان قد تبقى عنده من مجبى قرية مترايل ثم من العدد الذي برز قبلكم أيام كانت أشغال الطعام بيدكم على ما شهد به الجمهور من أصحابكم وأما الفلاحة التي أشرتم إليها فلا حق لكم فيها إذ هي في الحقيقة لبيت مال المسلمين مع ما بيدكم على ما تقرر في الفقهيات والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ولو قبل من أهل المعرفة بكم بعض ما لديكم من سقطاتكم في القال والقيل ولم يصرف إلى دفع معرتها عنكم وجه التأويل لكانت مسألتكم ثانية لمسألة أبي الخير بل أبي الشر الحادثة أيام خلافة الحكم المسطورة في نوازل أبي الأصبغ ابن سهل فاعلموا ذلك ولا تهملوا إشارتي عليكم قديما وحديثا بلزوم وحضور الجماعات وفعل الخيرات والعمل على التخلص من ( إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) لقمان 33

وقلم في كتابكم أين الخطط المتوارثة عن الآباء والأجداد وقد أذهب الله عنا ببركة الملة المحمدية عيبة الجاهلية في التفاخر بالآباء ولكني أقول لكم على جهة المقابلة لكلامكم إن كانت الإشارة إلى المجيب بهذا فمن المعلوم المتحقق عند أفاضل الناس أنه من حيث الأصالة أحد أماثل قطره قال القاضي أبو عبد الله ابن عسكر وقد ذكر في كتابه من سلفى فلان بن فلان ما نصه وبيته بيت قضاء وعلم وجلالة لم يزالوا يرثون ذلك كابرا عن كابر استقضى جده المنصور ابن أبي عامر وقاله غيره وغيره وبيدي من عهود الخلفاء وصكوك الأمراء المكتتبة بخطوط أيديهم من لدن فتح جزيرة الأندلس وإلى هذا العهد القريب ما تقوم به الحجة القاطعة للسان الحاسد والجاحد والمنة لله وحده وإن كانت الإشارة للغير من الأصحاب في الوقت حفظهم الله فكل واحد منهم إذا نظر إليه بعين الحق وجد أقرب منكم نسبا للخطط المعتبرة وأولى بميراثها بالفرض والتعصيب او مساويا على فرض المسامحة لكم قال رسول الله المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره حرام دمه وماله وعرضه
ونرجع إلى طريقة أخرى فنقول من كان يا فلان من قومكم في عمود نسبكم نبيها مشهورا أو كاتبا قبلكم معروفا أو شاعرا مطبوعا أو رجلا نبيها مذكورا ولو كان يالوشي وكان لكان من الواجب الرجوع إلى التناصف والتواصل والتواضع وترك التحاسد والتباغض والتقاطع إن الله لا ينظر إلى صوركم وأبدانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم وكذلك العجب كل العجب من تسميتكم الخربات التي شرعتم في بنائها بدار السلامة وهيهات هيهات المعروف من الدنيا أنها دار بلاء وجلاء وعناء وفناء ولو لم يكن من الموعظة الواقعة بتلك الدار في الوقت إلا موت سعيدكم عند دخولها لأغناكم عن العلم اليقين بمآلها
وأظهرتم سرورا كثيرا بما قلتم إنكم نلتم حيث أنتم من الشهوات التي

ذكرتم أن منها الإكثار من الأكل والخرق والقعود بإزاء جارية الماء على نطع الجلد والإمساك أولى بالجواب على هذا الفصل فلا خفاء بما فيه من الخسة والخبائث والخبث وبالجملة فسرور العاقل إنما ينبغي أن يكون بما يجمل تقدمه من زاد التقوى للدار الباقية فما العيش كما قال رسول الله إلا عيش الآخرة فقدموا إن قبلتم وصاة الحبيب أو البغيض بعضا عسى أن يكون لكم ولا تخلفوا كلا يكون عليكم هذا الذي قلته لكم وإن كان لدى من يقف من نمطه الكثير فهو باعتبار المكان وما مر من الزمان في حيز اليسير في نفسه قول حق وصدق ومستند أكثره كتاب الله وسنة محمد رسول الله وعلى سائر أنبيائه فاحمدوا الله العلي العظيم على تذكيركم به إذ هو جار مجرى النصيحة الصريحة يسرني الله وإياكم لليسرى وجعلنا ممن ذكر فانتفع بالذكرى والسلام انتهى كلام القاضي ابن الحسن النباهي في كتابه الذي خاطب به لسان الدين رحمه الله تعالى

ظهير من إنشاء لسان الدين بتولية النباهي خطة القضاء
وأين هذا الكلام الذي صدر من ابن الحسن في حقه من إنشاء لسان الدين رحمه الله تعالى في تولي ابن الحسن المذكور القضاء وهو
هذا ظهير كريم انتج مطلوب الاختيار قياسه ودل على ما يرضي الله عز و جل التماسه وأطلع نور العناية الذي يجلو الظلام نبراسه واعتمد بمثابة العدل من عرف بافتراع هضبتها ناسه وألقى بيد المعتمد به زمام الاعتقاد الجميل تروق أنواعه وأجناسه وشيد مبنى العز الرفيع في قبة الحسب المنيع وكيف لا والله بانيه والمجد أساسه أمر به وأمضى العمل بمقتضاه وحسبه أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر أيد الله أوامره وخلد مفاخره لقاضي حضرته العليا وخطيب حمرائه السنية المخصوص لديه بترفيع المزية

المصروف إليه خطاب القضاة بإيالته النصرية قاضي الجماعة ومصرف الأحكام الشرعية المطاعة الشيخ الكذا أبي الحسن ابن الشيخ الكذا أبي محمد ابن الحسن وصل الله سعادته وحرس مجادته وسنى من فضله إرادته عصب منه جبين المجد بتاج الولاية واجال قداح الاختيار حتى بلغ الغاية وتجاوز النهاية ما ألقى منه بيمين عرابة الراية وأحله منه محل اللفظ من المعنى والإعجاز من الآية وحشر إلى مدعاة ترفيعه وجوه البر وأعيان العناية وأنطق بتبجيله ألسن أهل جيله بين الإفصاح والكناية ولما كان له الحسب الأصيل الذي شهدت به ورقات الدواوين والأصالة التي قامت عليها صحاح البراهين والآباء الذين اعتد بمضاء قضائهم الدين وطبق مفاصل الحكم بسيوفهم الحق المبين وازدان بمجالسة وزرائهم السلاطين فمن فارس حكم أو حكيم تدبير وقاض في الأمور الشرعية ووزير أو جامع بينهما جمع سلامة لا جمع تكسير تعدد ذلك واطرد ووجد مشرع المجد عذبا فورد وقصرت النظراء عن مداه فانفرد وفرى الفري في يد الشرع فأشبه السيف البرد وجاء في أعقابهم محييا لما درس بما حقق ودرس جانيا لما بذر السلف المبارك واغترس طاهر النشأة وقورها محمود السجية مشكورها متحليا بالسكينة حالا من النزاهة بالمكانة المكينة ساحبا أذيال الصون بعيدا عن الإتصاف بالفساد من لدن الكون فخطبته الخطط العلية واغتبطت به المجادة الأولية واستعملته دولته التي ترتاد أهل الفضائل للرتب واستظهرت على المناصب بأبناء التقى والحسب والفضل والمجد والأدب ممن يجمع بين الطارف والتالد والإرث والمكتسب فكان معدودا من عدول قضاتها وصدور نبهائها وأعيان وزرائها وأولي آرائها فلما زان الله تعالى خلافته بالتمحيص المتحلي من التخصيص وخلص ملكه الأصيل كالذهب الإبريز بعد التخليص كان ممن

صحب ركابه الطالب للحق بسيف الحق وسلك في مظاهرته أوضح الطرق وجادل من حاده بأمضى من الحداد الذلق واشتهر خبر وفائه في الغرب والشرق وصلى به صلاة السفر والحضر والأمن والحذر وخطب به في الأماكن التي بعد بذكر الله عهدها وخاطب عنه أيده الله تعالى المخاطبات التي حمد قصدها حتى استقل ملكه فوق سريره وابتهج منه الإسلام بأميره وابن أميره ونزل الستر على العباد والبلاد ببركة إيالته ويمن تدبيره وكان الجليس المقرب المحل والحظي المشاور في العقد والحل والرسول المؤتمن على الأسرار والأمين على الوظائف الكبار مزين المجلس السلطاني بالوقار ومتحف الملك بغريب الأخبار وخطيب منبره العالي في الجمعات وقارىء الحديث لديه في المجتمعات
ثم رأى أيده الله تعالى أن يشرك رعيته في نفعه ويصرف عوامل الحظوة على مزيد رفعه مجلس الشارع صلوات الله عليه لإيضاح شرعه وأصله الوثيق وفرعه أعلى الله تعالى قدمه وشكر آلاءه ونعمه قاضيا في الأمور الشرعية وفاصلا في القضايا الدينية بحضرة غرناطة العلية تقديم الإختيار والانتقاء وأبقى له فخر السلف على الخلف والله سبحانه يمتعه بطول البقاء فليتول ذلك عادلا في الحكم مهتديا بنور العلم مسويا بين الخصوم حتى في لحظة والتفاته متصفا من الحلم بأفضل صفاته مهيبا في الدين رؤوفا بالمؤمنين جزلا في الأحكام مجتهدا في الفصل بأمضى حسام مراقبا لله عز و جل في النقض والإبرام
وأوصاه بالمشورة التي تقدح زناد التوفيق والتثبت حتى ينتج قياس التحقيق بارا بمشيخة أهل التوثيق عادلا إلى سعة الأقوال عند المضيق سائرا من مشورة المذهب على أهدى طريق وصية أصدرها له مصدر الذكرى التي تنفع ويعلي الله بها الدرجات ويرفع وإلا فهو عن الوصاة غني وقصده قصد سني والله عز و جل ولي إعانته والحارس من التبعات أكناف ديانته

والكفيل بحفظه من الشبهات وصيانته
وأمر أيده الله تعالى أن ينظر في الأحباس على اختلافها والأوقاف على شتى أصنافها واليتامى التي انسدلت كفالة القضاة على إضعافها فيذود عنها طوارق الخلل ويجري أمورها بما يتكفل لها بالأمل وليعلم أن الله عز و جل يراه وأن فلتات الحكم تعاوده المراجعة في أخراه فيدرع جنة تقواه وسبحان من يقول ( إن الهدى هدى الله )
فعلى من يقف عليه أن يعرف أمر هذا الإجلال صائنا منصبه من الإخلال مبادرا أمره الواجب بالامتثال بحول الله وكتب في الثالث من شهر الله المحرم فاتح عام أربعة وستين وسبعمائة عرف الله سبحانه فيه هذا المقام العي عوارف النصر المبين والفتح القريب بمنه وكرمه فهو المستعان لا رب غيره انتهى

ظهير من إنشائه بتولية ابن زمرك كتابه السر
ونظير هذا ما أنشأه لسان الدين على لسان سلطانه للكاتب أبي عبد الله ابن زمرك حين تولى كتابه السر ونصه
هذا ظهير كريم نصب المعتمد به للأمانة الكبرى ببابه فرفعه وأفرد له متلو العز وجمعه وأوتره وشفعه وقربه في بساط الملك تقريبا فتح له باب السعادة وشرعه وأعطاه لواء القلم الأعلى فوجب على من دون رتبته من أولي صنعته أن يتبعه ورعى له وسيلة السابقة عند استخلاص الملك لما ابتزه الله من يد الغاصب وانتزعه وحسبك من زمام لا يحتاج إلى شيء معه أمر به أمير الله تعالى له وجه العناية أبهى من الصبح الوسيم وأقطعه جناب الإنعام الجسيم وأنشقه آراج الحظوة عاطرة النسيم ونقله من كرسي التدريس والتعليم إلى

مرقى التنويه والتكريم والرتبة التي لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم وجعل أقلامه جيادا لإجالة أمره العلي وخطابه السني في ميدان الأقاليم ووضع في يده أمانة القلم الأعلى جاريا من الطريقة المثلى على المنهج القويم واختصه بمزية على كتاب بابه والتقديم لما كان ناهض الفكر في طلبة حضرته زمن ولم تزل تظهر عليه لأولي التمييز مخايل هذه العناية فإن حضر في حلق العلم جلي في حلبة الحفاظ إلى الغاية وإن نظم أو نثر أتى بالقصائد المصقولة والمخاطبات المنقولة فاشتهر في بلده وغير بلده وصارت أزمة العناية طوع يده بما أوجب له المزية في يومه وغده
وحين رد الله عليه ملكه الذي جبر به جناح الإسلام وزين وجوه الليالي والأيام وأدال الضياء من الإظلام كان ممن وسمه الوفاء وشهره وعجم الملك عود خلوصه وخبره فحمد أثره وشكر ظاهره ومضمره واستصحب على ركابه الذي صحب اليمن سفره وأخلصت الحقيقة نفره وكفل الله ورده وصدره ميمون النقيبة حسن الضريبة صادقا في الأحوال المريبة ناطقا عن مقامه بالمخاطبات العجيبة واصلا إلى المعاني البعيدة بالعبارة القريبة مبرزا في الخدم الغريبة حتى استقام العماد ونطق بصدق الطاعة الحي والجماد ودخلت في دين الله أفواجا العباد والبلاد لله الحمد على نعمه الثرة العهاد وآلائه المتوالية الترداد رعى له أيده الله هذه الوسائل وهو أحق من يرعاها وشكر له الخدم المشكور مسعاها فنص عليه الرتبة الشماء التي خطبها بوفائه وألبسه أثواب اعتنائه وفسح له مجال آلائه وقدمه أعلى الله قدمه كاتب السر وأمين النهي والأمر تقديم الاختيار بعد الاختبار والاغتباط بخدمته الحسنة الآثار وتيمن باستخدامه قبل الحلول بدار الملك والاستقرار وغير ذلك من موجبات الإكبار

فليتول ذلك عارفا بمقداره مقتفيا لآثاره مستعينا بالكتم لأسراره والاضطلاع بما يحمد من أمانته وعفافه ووقاره معطيا هذا الرسم حقه من الرياسة عارفا بأنه أكبر أركان السياسة حتى يتأكد الاغتباط بتقريبه وإدنائه وتتوفر أسباب الزيادة في إعلائه وهو إن شاء الله غني عن الوصاة فهما ثاقبا يهتدي بضيائه وهو يعمل في ذلك أقصى العمل المتكفل ببلوغ الأمل وعلى من يقف عليه من حملة الأقلام والكتاب الأعلام وغيرهم من الكافة والخدام أن يعرفوا قدر هذه العناية الواضحة الأحكام والتقديم الراسخ الأقدام ويوجبوا ما أوجب من البر والإكرام والإجلال والإعظام بحول الله وكتب في كذا انتهى
فانظر صانني الله وإياك من الأغيار وكفانا شر من كفر الصنيعة التي هي على النقص عنوان ومعيار إلى حال الوزير لسان الدين ابن الخطيب مع هذين الرجلين القاضي ابن الحسن والوزير ابن زمرك اللذين تسببا في هلاكه حتى صار أثرا بعد عين مع تنويهه بهما في هذا الإنشاء وغيره وتفيئهما كما هو معلوم ظلال خيره فقابلاه بالغدر وأظهرا عند الإمكان حقد القلب وغل الصدر وسددا لقتله سهاما وقسيا وصيرا سبيل الوفاء نسيا منسيا ولا حول ولا قوة إلا بالله

ظهير ثالث بإضافة الخطابة إلى القضاء للنباهي
ومن إنشاء لسان الدين في حق القاضي ابن الحسن أيضا حيث أضيفت إليه الخطابة إلى القضاء على لسان سلطانه
هذا ظهير كريم أعلى رتبة الاحتفاء اختيارا واختبارا وأظهر معاني الكرامة والتخصيص انتقاء واصطفاء وإيثارا ورفع لواء الجلالة على من اشتمل عليه حقيقة واعتبارا ورقى في درجات العز من طاولها على بهر أنوارا ودينا

كرم في الصالحات آثارا وزكا في الأصالة نجارا وخلوصا إلى هذا المقام العلي السعيد الذي راق إظهارا وإضمارا أمر به وأمضاه وأنفذ حكمه ومقتضاه أمير المسلمين عبد الله محمد إلى آخره للشيخ الكذا القاضي العدل الأرضي قاضي الجماعة وخطيب الحضرة العلية المخصوص لدى المقام العلي بالحظوة السنية والمكانة الحفية الموقر الفاضل الحافل الكامل المبرور أبي الحسن ابن الشيخ الفقيه الوزير الأجل الأعز الماجد الأسنى المرفع الأحفل الأصلح المبارك الأكمل الموقر المبرور المرحوم أبي محمد ابن الحسن وصل الله عزته ووالى رفعته ومبرته ووهب له من صلة العناية الربانية أمله وبغيته لما أصبح في صدور القضاة العلماء مشارا إلى جلاله مستندا إلى معرفته المخصوصة بكماله مطرزا على الإفادة العلمية والأدبية بمحاسنه البديعة وخصاله محفوفا مقعد الحكم النبوي ببركة عدالته وفضل خلاله وحل في هذه الحضرة العلية المحل الذي لا يرقاه إلا عين الأعيان ولا يثوي مهاده إلا مثله من أبناء المجد الثابت الأركان ومؤملي العلم الواضح البرهان والمبرزين بالمآثر العلية في الحسن والإحسان وتصدر لقضاء الجماعة فصدرت عنه الأحكام الراجحة الميزان والأنظار الحسنة الأثر والعيان والمقاصد التي وفت بالغاية التي لا تستطاع في هذا الميدان فكم من قضية جلا بمعارفه مشكلها ونازلة مبهمة فتح بإدراكه مقفلها ومسألة عرف نكرتها وقرر مهملها حتى قرت بعدالته وجزالته العيون وصدقت فيه الآمال الناجحة والظنون وكان في تصديره لهذه الولاية العظمى من الخير والخيرة ما عسى أن يكون كان أحق بالتشفيع لولايته وأولى وأجدر بمضاعفة النعم التي لا تزال ترادف على قدره الأعلى فلذلك أصدر له أيده الله هذا الظهير الكريم مشيدا بالترفيع والتنويه ومؤكدا للإحتفاء الوجيه وقدمه أعلى الله قدمه وشكر نعمه خطيبا بالجامع الأعظم من حضرته مضافا ذلك إلى ولايته ورفيع منزلته مرافقا لمن بالجامع الأعظم عمره الله بذكره من علية الخطباء وكبار العلماء وخيار النبهاء الصلحاء فليتداول ذلك في جمعاته

مظهرا في الخطة أثر بركاته وحسناته عاملا على ما يقربه عند الله من مرضاته ويظفره بجزيل مثوباته بحول الله وقوته انتهى
فهذا ثناء لسان الدين المرحوم على القاضي ابن الحسن وإشادته بذكره وبإشارته وتدبيره ولي قضاء القضاة وخطابة الجامع الأعظم بغرناطة وهذان المنصبان لم يكن في الأندلس في ذلك الزمان من المناصب الدينية أجل منهما ولما حصل للسان الدين رحمه الله تعالى ما حصل من النفرة عن الأندلس وإعمال الحيلة في الإنفصال عنها لعلمه أن سعايات ابن زمرك وابن الحسن ومن يعضدهما تمكنت فيه عند سلطانه خلص منها على الوجه الذي قدمناه وشمر القاضي ابن الحسن عن ساعد أذايته والتسجيل عليه بما يوجب الزندقة كما سبق جميعه مفصلا فحينئذ أطلق لسان الدين عنان قلمه في سب المذكور وثلبه وأورد في كتابه الكتيبة الكامنة في أبناء المائة الثامنة من مثالبة ما أنسى ما سطره صاحب القلائد في ابن باجة المعروف بابن الصائغ حسبما نقلنا ذلك أعني كلام الفتح في غير هذا الموضع ولم يقتنع بذلك حتى ألف الكتاب الذي سماه بخلع الرسن كما ألمعنا به فيما سبق والله سبحانه يتجاوز عن الجميع بمنه وكرمه

نماذج من براعة لسان الدين في القدح
واعلم أن لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الغاية في المدح والقدح فتارة على طريق الترسل وطورا على غيرها وقد اقذع وبالغ رحمه الله تعالى في هجو أعدائه بما لا تحتمله الجبال وهو اشد من وقع النبال ومنه ما وصف به الوزير الذي كان استوزره السلطان إسماعيل بن الأحمر الثائر على سلطان ابن الخطيب حسبما سبق الإلمام بذلك والوزير هو إبراهيم بن أبي الفتح الأصلع الغوي إذ قال في المذكور وفي ابن عمه محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح العقرب

الردى بعد كلام ما صورته
وما ظنك برجل مجهول الجد موصوم الأبوة إلى أن قال تنور خبز وبركة مرقة وثعبان حلواء وفاكهة مغي في شح النفس متهالك في مسترذل الطبع عليه العذيوط الغبي ابن عمه بسذاجة زعموا مع كونه قبيح الشكل بشيع الطلعة إلى أن قال وفي العشر الأول من رمضان عام واحد وستين وسبعمائة تقبض على الوزير المشؤوم وابن عمه الغوي الغشوم وولد الغوي مرسل الظفيرة أبعد الناس في مهوى الاغترار يختال في السرق والحيلة سم من سم القوارير وابتلاء من الله لذوي الغيرة يروح نشوان العشيات يرقص بين يديه ومن خلفه عدد من الأخلاف يعاقرون النبيذ في السكك الغاصة وولد العقرب الردي بضده قماءة وتقطبا تنبو عنهما العيون ويبكي منهما الخز كأنهما صمتا عند المحاورة وإظلاما عند اللألاء من أذلاء بني النضير ومهتضمي خيبر فثقفا مليا وبودر بهما إلى ساحل المنكب
قال المخبر فما رأيت منكوبين أقبح شكلا ولا أفقد صبرا من ذينك التيسين الحبقين صلع الرؤوس ضخام الكروش مبهوري الأنفاس متلجلجي الألسنة قد ربت بمحل السيف من عنق كل جبار منهما شحمة أترجية كأنها سنام الحوار لا يثيرون دمعا ولا يستنزلون رحمة ولا يمهدون عذرا ولا يتزودون من كتاب الله آية قد طبع الله على قلوبهم وأخذهم ببغيهم وعجل لهم سوء سعيهم وللحين أركبوهم وجراءهم يعني أولادهم في جفن غزوي تحف بهم المساعير من الرجال واقتفى بهم أثر قرقورة تحمل حاجا إلى الإسكندرية تورية بالقصد فلما لججوا قذف بهم في لجة بعد استخلاص

ما ضبثوا به وتلكأ الأصلع الغوي فأثبت بجراحة أشعر بها هديه واختلط العقرب الردي فنال من جناب الله سخطا وضيقا تعالى الله عن نكيره فكان فرعون هذا الزمان جبروتا وعتوا وميتة عجل الله لهم العذاب وأغرقهم في اليم
فانظر كيف كان عاقبة الظالمين فسبحان من لا تضيع الحقوق مع عدله ولا تنفسخ الآماد منازعة رداء كبريائه مرغم الأنوف وقاطع دابر الكافرين وفي ذلك أقول مستريحا وإن لم يكن علم الله تعالى شاني ولا تكرر في ديواني
( وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق )
ومن أمثالهم من استغضب فلم يغضب فهو حمار والله سبحانه يقول ومن أصدق من الله قيلا ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) الشورى 40 والعفو أقرب للتقوى والقرب والبعد بيده سبحانه وصدرت هذه الكلمة لحين تعرف إجلائهم في الجفن إلى الإسكندرية وبعد ذلك صح هلاكهم
( كن من صروف الردى على حذر ... لا يقبل الدهر عذر معتذر )
( ولا تعول فيه على دعة ... فأنت في قلعة وفي سفر )
( فكل ري يفضي إلى ظمإ ... وكل أمن يدعو إلى غرر )
( كم شامخ الأنف ينثني فرحا ... بال عليه زمانه وخري )
( قل للوزير البليد قد ركضت ... في ربعك اليوم غارة الغير )
( يا ابن أبي الفتح نسبة عكست ... فلا بفتح أتت ولا ظفر )
( وزارة لم يجد مقلدها ... عن شؤمها في الوجود من وزر )
( في طالع النحس حزت رتبتها ... وكل شيء في قبضة القدر )

( أي اختبار لم تأل نصبته ... في جسد للنحوس أو نظر )
( بات له المشتري على غير ... وأحرقت فيه قرصة القمر )
( يا طللا ما عليه من عمل ... يا شجرا ما لديه من ثمر )
( يا مفرط الجهل والغباوة لا ... يحسب إلا من جملة البقر )
( يا دائم الحقد والفظاظة لا ... يفرق ما بين ظالم وبري )
( يا كمد اللون ينطفي كمدا ... من حسد يستطير بالشرر )
( يا عدل سرج يا دن مقتعد ... ملآن من ريبة ومن قذر )
( يا واصلا للجشاء ناشئة الليل ... ورب الضراط في السحر )
( من غير لب ولا مراقبة ... لله في مورد ولا صدر )
( يا خاملا جاهه الفروج يرى ... صهر أولي الجاه فخر مفتخر )
( كانوا نبيطا في الأصل أو حبشا ... ما عنده عبرة بمعتبر )
( يا ناقص الدين والمروءة والعقل ... ومجري اللسان بالهذر )
( يا ولد السحق غير مكتتم ... حديثه يا ابن فاسد الدبر )
( يا بغل طاحونة يدور بها ... مجتهد السير مغمض البصر )
( في أشهر عشرة طحنتهم ... فيا رحى الشؤم والبوار در )
( والله ما كنت يا مشوم ولا ... أنت سوى عرة من العرر )
( ومن أبو الفتح في الكلاب وهل ... لجاهل في الأنام من خطر )
( قد ستر الدهر منك عورته ... وكان لليوم غير مستتر )
( حانوت بز يمشي على فرش ... وثور عرس يختال في حبر )
( لا منة تتقى لمعترك ... ولا لسان يبين عن خبر )
( ولا يد تنتمي إلى كرم ... ولا صفاء يريح من كدر )
( عهدي بذاك الجبين قد ملئت ... غصونه الغبر بالدم الهدر )

( عهدي بذاك القفا الغليظ وقد ... مد لوقع المهند الذكر )
( أهدتك للبحر كف منتقم ... ألقتك للحوت كف مقتدر )
( يا يتم أولادك الصغار ويا ... حيرتهم بعد ذاك في الكبر )
( يا ثكل تلك الصماء أمهم ... وظاعن الموت غير منتظر )
( والله لا نال من تخلفه ... من أمل بعدها ولا وطر )
( والله يا مسخفان لا انتقلت ... رجلك منها إلا إلى سفر )
( ألحفك الله بالهوان ولا ... رعاك فيمن تركت من عرر )
( ما عوقب الليل بالصباح وما ... تقدم البرق عارض المطر )
انتهى وقال موريا بدم الأخوين في شأن سلطان تلك الدولة الذي أضحى أثرا بعد عين
( بإسماعيل ثم أخيه قيس ... تأذن ليل همي بانبلاج )
( دم الأخوين داوى جرح قلبي ... وعالجني وحسبك من علاج )
وهذه تورية بديعة لأن الأطباء يقولون إن من خاصية دم الأخوين النفع من الجراح
وقال رحمه الله تعالى قلت في رأس الغادر بالدولة حين عرض علي
( في غير حفظ الله من هامة ... هام بها الشيطان في كل واد )
( ما تركت حمدا ولا رحمة ... في فم إنسان ولا في فؤاد )
وقال أيضا في تلك الدولة بعد كلام ما نصه
وانتدب قاضيهم الشيخ المتراخي الدبر والفك المنحل العصب والعقدة

المعرق في العمومية المشهور بقبول الرشوة أبو فلان ابن فلان الغريب الاسم والولاية ومفتيهم معدن الرياء والهوادة والبعد عن التخصص والحشمة والمثل في العماه والطرف في التهالك في الحطام فلان البناء المسخر في بناء الحفيرة المستخدم في دار ابنه أجيرا مختضبا بالطين مضايقا في رمق العيشة وحسبك به دليلا على الحياء وفضل البنوة فلفقوا من خيوط العناكب شبهات تقلدوا بها حل العقد الموثق ديدنهم في معارضة صلب الملة بالآراء الخبيثة يتحكم الوقاح منهم في الحكم الذي نزل به شديد القوى على الذي لا ينطق عن الهوى بحسب شهوته تحكمه في غزل أمه إيثارا للعاجل واسترابة بالوعيد ففسخوا النكاح وحللوا محرم البضع للدائل وقد تأذن الله بفسخه وأجرى دمه نقدا قبل دفع فقده سبحانه حكم الحكام وقاهر الظلام وباء مشيخة السوء بلعنة الله وسوء الأحدوثة ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا انتهى
ومن كلامه في نفاضة الجراب وقد ذكر وزير المغرب محمد بن علي ابن مسعود ما ملخصه وإنه مجنون أحول العين وحش النظرة يظن به الغضب في حال الرضى يهيج به المرار فيكمن زمانا خلف كلة مرقده يدخل إليه وعاء الحاجتين خوفا من إصحاره إلى فضاء منزله وتوحشه من أهله وولده إلى أن تضعف سورة المرة فيخف أمره قد باين زوجه مع انسحاب رواق الشبيبة وتوفر داعية الغبطة لحلف جره الوسواس السوداوي نستدفع بالله شر بلائه فاستعان مستوزره منه برأي الفضل بن سهل ويحيى بن خالد وأمثالهما تدارك الله رمق الإسلام بلطفه انتهى

في عتاب ابن أبي رمانة
ولما دخل لسان الدين رحمه الله تعالى مدينة مكناسة الزيتون تأخر قاضيها الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي رمانة عن لقائه يوم وصوله

فكتب إليه ما نصه
( جفا ابن أبي رمانة وجه مقدمي ... ونكب عني معرضا وتحاماني )
( وحجب عني حبه غير جاهل ... بأني ضيف والمبرة من شاني )
( ولكن رآني مغربيا محققا ... وأن طعامي لم يكن حب رمان )
زيارة القاضي أصلحه الله لمثلي ممن لا يخافه ولا يرجوه تجب من وجوه أولها كوني ضيفا ممن لا يعد على الاختبار زيفا ولا تجر مؤانسته حيفا فضلا عن أن تشرع رمحا أو تسل سيفا وثانيها أني أمت إليه من الطلب بنسب بين موروث ومكتسب وقاعدة الفضل قد قررها الحق وأصلها والرحم كما علم تدعو لمن وصلها وثالثها المبدأ في هذا الغرض ولكن الواو لا ترتب إلا بالعرض وهو اقتفاء سنن المولى ايده الله في تأنيسي ووصفه إياي بمقربي وجليسي ورابعها وهو عدة كيسي وهزبر خيسي وقافية تجنيسي ومقام تلويني وتلبيسي مودة رئيس هذا الصنف العلمي ورئيسي فليت شعري ما الذي عارض هذه الأصول الأربعة ورجح مذاهبها المتبعة إلا أن يكون عمل أهل المدينة ينافيها فهذا بحسب النفس ويكفيها وإن تعذر لقاء أو استدعاء وعدم طعام أو وعاء ولم يقع نكاح ولا استرعاء فلم يتعذر عذر يقتضيه الكرم والمنصب المحترم فالجلة إلى التماس الحمد ذات استباق والعرف بين الله والناس باق والغيرة على لسان مثله مفروضة والأعمال معروضة والله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة وإن كان لدى القاضي في ذلك عذر فليفده وأولى الأعذار به أنه لم يقصده والسلام انتهى
ويعني بالمولى السلطان أبا سالم ابن السلطان أبي الحسن المريني وبرئيس

هذا الصنف العلامة الخطيب أبا عبد الله ابن مرزوق رحم الله الجميع

رسالته إلى ابن مرزوق ينصحه برفض الدنيا
ومن كلام لسان الدين رحمه الله تعالى رسالة في أحوال خدمة الدولة ومصائرهم وتنبيههم على النظر في عواقب الرياسة بعيون بصائرهم عبر فيها عن ذوق ووجدان وليس الخبر كالعيان وخاطب بها الإمام الخطيب عين الأعيان سيدي أبا عبد الله ابن مرزوق وكأنه أعني لسان الدين أشار ببعض فصولها إلى نفسه ونطق بالغيب في نكبته التي قادته إلى رمسه وكان ذلك منه عندما أراد التخلي عن خدمة الملوك والتحلي بزينة أهل التصوف والسلوك فلم يرد الله أن تكون مهجته نائية عن ساحة الظلمة خارجة وأراد سامحه الله وغفر له عمرا وأراد الله خارجة وصورة ما قاله رحمه الله تعالى
وأحسست منه يعني ابن مرزوق في بعض كتبه الواردة إلي صاغية إلي الدنيا وحنينا لما بلاه من غرورها فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام بتوفيق الله على أن أخاطبه بهذه الرسالة وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل ويلم بمعرفة مصحفا يدرسه وشعارا يلتزمه وهي
سيدي الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة ولم تختلف في مدحها الأفعال ولا تغايرت الصفات ولا تزال تعترف بها العظام الرفات أطلقك الله من أسر كل الكون كما أطلقك من أسر بعضه وزهدك في سمائه الفانية وفي أرضه وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه اتصل بي الخبر السار من تركك لشأنك وإجناء الله تعالى إياك ثمرة إحسانك وإنجياب ظلام الشدة الحالك عن أفق حالك فكبرت وفي الفرج من بعد الشدة اعتبرت لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يؤمر فيأتمر ويدعوه القضاء فيبتدر إنما هو فيء وظل ليس له من الأمر شيء ونسأله جل وعلا أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا

وبنيها وأول معارج نفسك التي تقربها من الحق وتدنيها وكأني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله تعالى في عالم الإنسان والآلة لبث العدل والإحسان والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان فأقول
ليت شعري ما الذي غبط سيدي بالدنيا وإن بلغ من زبرجها الرتبة العليا ونفرض المثال بحال إقبالها ووصل حبالها وخشوع جبالها وضراعة سبالها ألتوقع المكروه صباحا ومساء وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم البأساء ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤساء الترتب العتب على التقصير في الكتب وضغينة جار الجنب وولوع الصديق بإحصاء الذنب ألنسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري وتطويقك الموبقات وأنت منها عري ألاستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج والأحقاد التي تضبطها ركبة السروج وسرحة المروج ونجوم السماء ذات البروج ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك وصحت إليه فاقتك من حاجة لا يقتضي قضاءها الوجود ولا يكفيها الركوع للملك والسجود ألقطع الزمان بين سلطان يعبد وسهام للغيوب تكبد وعجاجة شر تلبد وأقبوحة تخلد وتؤبد ألوزير يصانع ويداري وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويماري وعورة لا توارى ألمباكرة كل قرن حاسد وعدو مستاسد وسوق للإنصاف والشفقة كاسد وحال فاسد ألوفود تتزاحم بسدتك مكلفة لك غير ما في طوقك فإن لم يقع الإسعاف قلبت عليك السماء من فوقك ألجلساء ببابك لا يقطعون زمان رجوعك وإيابك إلا بقبيح اغتيابك فالتصرفات تمقت والقواطع توقت والألاقي تبث والسعايات تحث والمساجد يشتكي في حلقها البث يعتقدون أن السلطان في يدك بمنزلة الحمار المدبور واليتيم المحجور والأسير المأمور ليس له شهوة ولا غضب ولا أمل في الملك

ولا أرب ولا موجدة لأحد كامنه وللشر ضامنة وليس في نفسه عن رأي نفرة ولا بإزاء ما لا يقبله نزوة ولا طفرة إنما هو جارحة لصيدك وعان في قيدك وآلة لتصرف كيدك وأنك علة حيفه ومسلط سيفه
الشرار يسملون عيون الناس باسمك ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك قد تنخلهم الوجود أخبث ما فيه واختارهم السفيه فالسفيه إذ الخير يستره الله تعالى عن الدول ويخفيه ويقنعه بالقليل فيكفيه فهم يمتاحون بك ويولونك الملامة ويفتحون عليك القول ويسدون طرق السلامة وليس لك في أثناء هذه إلا ما يعوزك مع ارتفاعه ولا يفوتك مع انقشاعه وذهاب صداعه من غذاء يشبع وثوب يقنع وفراش ينيم وخديم يقعد ويقيم وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا ومال من ورائه سوء القضا وجاه يحلق عليه سيف منتضى وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لا تملك واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تهلك فكيف تنسب إلى نبل أو تسير من السعادة في سبل وإن وجدت في القعود بمجلس التحية بعض الأريحية فليت شعري أي شيء زادها او معنى أفادها إلا مباكرة وجه الحاسد وذي القلب الفاسد ومواجهة العدو المستاسد أو شعرت ببعض الإيناس في الركوب بين الناس ما التذت إلا بحلم أو جذبها غير الغرور جاذب إنما راكبك من يحدق إلى الحلية ويستطيل مدة العزة ويرتاب إذا حدثت بخبرك ويتتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك ويمنعك من مسايرة أنيسك ويحتال على فراغ كيسك ويضمر الشر لك ولرئيسك وأي راحة لمن لا يباشر قصده ويمشي إذا شاء وحده
ولو صح في هذه الحال لله تعالى حظ وهبه زهيدا وعين الرشد عملا حميدا لساغ الصاب وخفت الأوصاب وسهل المصاب لكن الوقت أشغل والفكر أوغل والزمن قد عمرته الحصص الوهمية واستنفدت منه الكمية أما ليله ففكر أو نوم وعتب بجزاء الضرائر ولوم وأما يومه فتدبير

وقبيل ودبير وأمور يعيا بها ثبير وبلاء مبير ولغط لا يدخل فيه حكم كبير وأنا بمثل ذلك خبير ووالله يا سيدي ومن فلق الحب وأخرج الأب وذرأ من مشى ومن دب وسمى نفسه الرب لو تعلق المال الذي يجره هذا القدح ويوري سقيطه هذا القدح بأذيال الكواكب وزاحمت البدر بدره بالمناكب لما ورثه عقب ولا خلص به محتقب ولا فاز به سافر ولا منتقب والشاهد الدول والمشائيم الأول
فأين الرباع المقتناة وأين الديار المبتناة وأين الحوائط المغترسات وأين الذخائر المختلسات وأين الودائع المؤملة وأين الأمانات المحملة تأذن الله بتتبيرها وإدناء نار التبار من دنانيرها فقلما تلقى أعقابهم إلا أعراء الظهور مترمقين لجرايات الشهور متعللين بالهباء المنثور يطردون من الأبواب التي حجب عنها آباؤهم وعرف منها إباؤهم وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم ولم تسامحهم الأيام إلا في إرث محرر أو حلال مقرر وربما محقه الحرام وتعذر منه المرام
هذه أعزك الله حال قبولها مع الترفيه ومالها المرغوب فيه وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم وحوت بغي يبتلع ويلتقم ومطبق يحجب الهواء ويطيل في الترب الثواء وثعبان قيد بعض الساق وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق وغيلة يهديها الواقب الغاسق ويجرعها العدو الفاسق فصرف السوق وسلعته المعتادة الطروق مع الأفول والشروق فهل في شيء من هذا مغتبط لنفس حرة أو ما يساوي جرعة حال مرة واحسرتا للأحلام ضلت وللأقدام زلت ويا لها مصيبة جلت
ولسيدي أن يقول حكمت باستثقال الموعظة واستجفائها ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفائها وتناسي عدم وفائها فأقول الطبيب بالعلل أدرى والشفيق بسوء الظن مغرى وكيف لا وأنا أقف على السحاءات بخط يد سيدي

من مطارح الاعتقال ومثاقف النوب الثقال وخلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد ونوشى الأسنة الحداد وحيث يجمل بمثله أن لا يصرف في غير الخضوع لله تعالى بنانا ولا يثني لمخلوق عنانا وأتعرف أنها قد ملأت الجو والدو وقصدت الجماد والبو تقتحم أكف أولي الشمات وحفظة المذمات وأعوان النوب الملمات زيادة في الشقاء وقصدا بريا من الاختيار والانتقاء مشتملة من التجاوز على أغرب من العنقاء ومن النفاق على أشهر من البلقاء فهذا يوصف بالإمامة وهذا يجعل من أهل الكرامة وهذا يكلف الدعاء وليس من أهله وهذا يطلب منه لقاء الصالحين وليسوا من شكله إلى ما أحفظني والله من البحث عن السموم وكتب النجوم والمذموم من العلوم هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتا وأعتقد أن الله قد جعل لزمان الخير والشر ميقاتا وانا لا نملك موتا ولا نشورا ولا حياتا وأن اللوح قد حصر الأشياء محوا وإثباتا فكيف نرجو لما منع منالا أو نستطيع مما قدر إفلاتا أفيدونا ما يرجح العقيدة المتقررة فنتحول إليه وبينوا لنا الحق ونعول عليه
الله الله يا سيدي في النفس المرشحة والذات المحلاة بالفضائل الموشحة والسلف الشهير الخير والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير ودع الدنيا لبنيها فما أوكس حظوظهم وأخس لحوظهم وأقل متاعهم وأعجل إسراعهم وأكثر عناءهم وأقصر آناءهم
( ما ثم إلا ما رأيت ... وربما تعيي السلامة )
( والناس إما جائر ... أوحائر يشكو ظلامه )
( وإذا أردت العز لا ... ترزأ بني الدنيا قلامه )
( والله ما احتقب الحريص ... سوى الذنوب أو الملامة )
( هل ثم شك في المعاد ... الحق أو يوم القيامة )
( قولوا لنا ما عندكم ... أهل الخطابة والإمامة )

وإن رميت بأحجاري وأوجرت المر من أشجاري فوالله ما تلبست اليوم منها بشيء قديم ولاحديث ولا استأثرت بطيب فضلا عن خبيث وما أنا إلا عابر سبيل وهاجر مرعى وبيل ومرتقب وعدا قدر فيه الإنجاز وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد وحاولت المقاطعة حتى بين روحي والجسد الله قلبي ولله الحمد من الطمع والحسد أبق عادة إلا قطعتها ولا جنة للصبر إلا ادرعتها أما اللباس فالصوف وأما الزهد فيما بأيدي الخلق فمعروف وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف ووالله لو علمت أن حالي هذه تتصل وعراها لا تنفصل وأن ترتيبي هذا يدوم ولا يحيرني الوعد المحتوم والوقت المعلوم لمت أسفا وحسبي الله وكفى
ومع هذا يا سيدي فالموعظة تتلقى من لسان الوجود والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم ولا المحمود ولقد أعملت نظري فيما يكافىء عني بعض يدك أو ينتهي في الفضل إلى أمدك فلم أر لك اللدنيا كفاء هذا لو كنت صاحب دنيا وألفيت بذل النفس قليلا لك من غير شرط ولا ثنيا فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفاء لمن لا يثبت عين الصفاء ولا يشيم بارقة الوفاء ولا يعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلي من المتدنسين بها المنهمكين وينظر عوارها القادح بعين اليقين ويعلم أنها المومسة التي حسنها زور وعاشقها مغرور وسرورها شرور تبين لي أنني قد كافيت صنيعتك المتقدمة وخرجت عن عهدتك الملتزمة وامحضت لك النصح الذي يعز بعز الله ذاتك ويطيب حياتك ويحيي مواتك ويريح جوارحك من الوصب وقلبك من النصب ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت ويلاشي عظائمها لديك إذا اختبرت
كل ما تقع عينك عليه فهو حقير قليل وفقير ذليل ولا يفضلك

بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غي أثوابه النبيهة يجردها الغاسل وعروة عزه يفصلها الفاصل وماله الحاضر الحاصل يعيث فيه الحسام القاصل والله ما تعين للخلف إلا ما تعين للسلف ولا مصير المجموع إلا إلى التلف ولا صح من الهياط والمياط والصياح والعياط وجمع القيراط إلى القيراط والاستظهار بالوزعة والأشراط والخبط والخباط والاستكثار والاغتباط والغلو والاشتطاط وبناء الصرح وعمل الساباط ورفع العمد وإدارة الفسطاط إلا أمل يذهب القوة وينسي الآمال المرجوة ثم نفس يصعد وسكرات تتردد وحسرات لفراق الدنيا تتجدد ولسان يثقل وعين تبصر الفراق وتمقل ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) ص 67 ثم القبر وما بعده والله منجز وعيده ووعده فالإضراب الإضراب والتراب التراب
وإن اعتذر سيدي بقلة الجلد لكثرة الولد فهو ابن مرزوق لا ابن رزاق وبيده من التسبب ما يتكفل بإمساك أرماق أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته في كن حجرته لا بل السؤال الذي لا عار عند الحاجة بمعرته السؤال والله أقوم طريقا وأكرم رفيقا من يد تمتد إلى حرام لا يقوم بمرام ولا يؤمن من ضرام أحرقت فيه الحلل وقلبت الأديان والملل وضربت الأبشار ونحرت العشار ولم يصل منه على يدي واسطة السوء المعشار ثم طلب عند الشدة ففضح وبان شؤمه ووضح اللهم طهر منها أيدينا وقلوبنا وبلغنا من الإنصراف إليك مطلوبنا وعرفنا بمن لا يعرف غيرك ولا يسترفد إلا خيرك يا ألله
وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة أو أعمل في اجتلابها إضبارة أو لبس منها شارة أو تشوف لخدمة إمارة أن لا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس ولا يغتروا بسمة ولا خلق ولا لباس فما عدا عما بدا تقضىالعمر في سجن وقيد وعمرو وزيد وضر وكيد وطراد صيد وسعد وسعيد وعبد وعبيد فمتى تظهر الأفكار ويقر القرار وتلازم

الأذكار وتشام الأنوار وتستجلي الأسرار ثم يقع الشهود الذي يذهب معه الإخبار ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ما سواه الفرار وعليه المدار
وحق الحق الذي ما سواه فباطل والفيض الرحماني الذي ربابه الأبد هاطل ما شابت مخاطبتي لك شائبة تريب ولقد محضت لك ما يمحضه الحبيب للحبيب فتحمل جفائي الذي حملت عليه الغيرة ولا تظن بي غيره وإن لم تعذرني مكاشفة سيادتك بهذا النث في الأسلوب الرث فالحق أقدم وبناؤه لايهدم وشأني معروف في مواجهة الجبابرة على حين يدي إلى رفدهم ممدودة ونفسي في النفوس المتهافتة عليهم معدودة وشبابي فاحم وعلى الشهوات مزاحم فكيف بي اليوم مع الشيب ونصح الجيب واستكشاف العيب إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل وسيف العدل في كفي صقيل أعذل أهل الهوى وليست النفوس في القبول سوا ولا لكل مرض دوا وقد شفيت صدري وإن جهلت قدري فاحملني حملك الله تعالى على الجادة الواضحة وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة والسلام
انتهت الرسالة البديعة في بابها الآتية من الموعظة بلبابها ذات النصيحة الصريحة التي يتعين على كل عاقل خصوصا من يريد خدمة الملوك التمسك بأسبابها

تعليقات ابن مرزوق وابن لسان الدين على الرسالة
قلت وقد رأيت بخط الإمام العلامة الخطيب ابن مرزوق على هامش قول لسان الدين أول الكلام وأحسست منه في بعض كتبه إلى آخره ما صورته توهم ما لا يقع بل لما تجلت عني سحب النكبة والامتحان جزمت بالرحلة وعزمت على النقلة ونفرت عن خدمة السلطان وملازمة الأوطان قال ابن

مرزوق والعجب كل العجب أن جميع ما خاطبني به أبقاه الله تعالى تحلى به أجمع وابتلى بما منه حذر كأنه خاطب نفسه وأنذرها بما وقع له فالله تعالى يحسن له الخاتمة والخلاص انتهى
وكتب تحت كلام ابن مرزوق هذا بخطه ابن لسان الدين علي ما نصه صدق والله سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق كان الله تعالى له قاله ولده ابن المؤلف انتهى
قلت وهذا الذي قاله ابن مرزوق كان في حياة ابن الخطيب ولذلك دعا له بالبقاء وبحسن الخاتمة والخلاص وقد أسفر الغيب عن محنته ثم قتله على الوجه الذي وصفه أثناء هذه الرسالة إذ قال وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم وحوت بغي يبتلع ويلتقم ومطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثواء وثعبان قيد يعض الساق وشؤبوب عذاب يمزق الأبشار الرقاق وغيلة يهديها الواقب الغاسق ويجرعها العدو الفاسق فصرف السوق وسلعته المعتادة الطروق مع الأفول والشروق فإنه رحمه الله تعالى حصل له ما ذكر ثم اغتاله ليلا وخنقه في محبسه عدوه الفاسق سليمان بن داود كما تقدمت الإشارة إلى ذلك فالله تعالى يثيبه بهذه الشهادة

مرثية المنجنيقي
وقد تذكرت هنا مرثية ابن صابر المنجنيقي وهي
( هل لمن يرتجي البقاء خلود ... وسوى الله كل شيء يبيد )
( والذي كان من تراب وإن عاش ... طويلا إلى التراب يعود )
( فمصير الأنام طرا لما صار ... إليه آباؤهم والجدود )
( أين حوا أن أين آدم إذ فاتهما ... الملك والثوا والخلود )

( أين هابيل أين قابيل إذ هذا ... لهذا معاند وحسود )
( أين نوح ومن نجا معه بالفلك ... والعالمون طرا فقيد )
( أسلمته الأيام كالطفل للموت ... ولم يغن عمره الممدود )
( أين عاد بل أين جنة عاد ... إرم أين صالح وثمود )
( أين إبراهيم الذي شاد بيت الله ... فهو المعظم المقصود )
( أين إسحاق أين يعقوب أم أين ... بنوه وعدهم والعديد )
( حسدوا يوسفا أخاهم فكادوه ... ومات الحساد والمحسود )
( وسليمان في النبوة والملك ... قضى مثلما قضى داود )
( ذهبا بعدما أطاع لذا الخلق ... وهذا له ألين الحديد )
( وابن عمران بعد آياته التسع ... وشق الخضم فهو صعيد )
( والمسيح ابن مريم وهو روح الله ... كادت تقضي عليه اليهود )
( وقضى سيد النبيين والهادي ... إلى الحق أحمد المحمود )
( وبنوه وآله الطاهرون الزهر ... صلى عليهم المعبود )
( ونجوم السماء منتثرات ... بعد حين وللهواء ركود )
( ولنار الدنيا التي توقد الصخر ... خمود وللمياه جمود )
( وكذا للثرى غداة يقوم الناس ... منها تزلزل وهمود )
( هذه الأمهات نار وترب ... وهواء رطب وماء برود )
( سوف تفنى كما فنينا فلا يبقى ... من الخلق والد ووليد )
( لا الشقي الغوي من نوب الأيام ... ينجو ولا السعيد الرشيد )
( ومتى سلت المنايا سيوفا ... فالموالي حصيدها والعبيد )

العبرة من مراث أخرى
وأما قصيدة ابن عبدون الأندلسي التي رثى بها بني الأفطس وذكر فيها

كثيرا من الملوك الذين أبادهم الدهر وطحنهم برحاه وصيرهم أثرا بعد عين ففيها ما يوقظ النوام وأولها
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وبالجملة فالأمر كما قال ابن الهبارية
( الموت لا يبقي أحد ... ولا والدا ولا ولد )
( مات لبيد ولبد ... وخلد الفرد الصمد )
( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) اللهم اختم لنا بالحسنى وردنا إليك ردا جميلا
وتذكرت هنا أيضا مرثية على روي مرثية المنجنيقي السابقة منها
( أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود )
( بينما هم على الأسرة والأنماط ... أفضت إلى التراب الخدود )
( ثم لم ينقض الحديث ولكن ... بعد ذا الوعد كله والوعيد )
( وأطباء بعدهم لحقوهم ... ضل عنهم سعوطهم واللدود )
( وصحيح أضحى يعود مريضا ... وهو أدنى للموت ممن يعود )
وما أحكم قول السلطان أبي علي ابن السلطان أبي سعيد المريني يخاطب أخاه السلطان أبا الحسن وقد حصره بسجلماسة حتى أخذه قسرا
( فلا يغرنك الدهر الخئون فكم ... أباد من كان قبلي يا أبا الحسن )
( الدهر مذ كان لا يبقي على صفة ... لا بد من فرح فيه ومن حزن )
( أين الملوك التي كانت تهابهم ... أسد العرين ثووا في اللحد والكفن )
( بعد الأسرة والتيجان قد محيت ... رسومها وعفت عن كل ذي حسن )
( فاعمل لأخرى وكن بالله مؤتمرا ... واستعن بالله في سر وفي علن )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24