كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

لمكان الصميل منه زحف حينئذ عبد الرحمن الداخل وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة فانكشف يوسف ونجا إلى غرناطة فتحصن بها واتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله ثم رغب إليه يوسف في الصلح فعقد له على أن يسكن قرطبة ثم أقفله معه ثم نقض يوسف عهده وخرج سنة إحدى وأربعين ومائة ولحق بطليطلة واجتمع إليه زهاء عشرين ألفا من البربر وقدم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني وكان وفد عليه من المشرق وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر فلما دخلت المسودة أرض مصر خرج عبد الملك يؤم الأندلس في عشرة رجال من قومه مشهورين بالبأس والنجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين فعقد له على إشبيلية ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور وسار يوسف إليهما وخرجا إليه ولقياه وتناجز الفريقان فكانت الدائرة على يوسف وأبعد المفر واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة واحتز رأسه وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره واستقر بقرطبة وثبت قدمه في الملك وبنى المسجد الجامع والقصر بقرطبة وأنفق فيه ثمانين ألف دينار ومات قبل تمامه وبنى مساجد ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق وكان يدعو للمنصور ثم قطع دعوته ومهد الدولة بالأندلس واثل بها الملك العظيم لبني مروان والسلطان العزيز وجدد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها واستلحم الثوار عليه على كثرتهم في النواحي وقطع دعوة آل العباس من منابر الأندلس وسد المذاهب منهم دونها وهلك سنة ثنتين وسبعين ومائة وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس وكان أو جعفر المنصور

لما رأى أنه فعل بالأندلس ما فعل وما ركب إليها من الأخطار وأنه نهد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا أنصار فغلب أهلها على أمرهم وتناول الملك من أيديهم بقوة شكيمة ومضاء عزم حتى انقاد له الأمر وجرى على اختياره وأورثه عقبه وكان يسمى بالأمير وعليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدبا مع الخلافة بمقر الإسلام ومنتدى العرب حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر وهو ثامن بني امية بالأندلس فتسمى بأمير المؤمنين على ما سنذكره لما رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة وغلبة الأعاجم عليهم وكونهم لم يتركوا لهم غير الاسم وتوارث التقليب بأمير المؤمنين بنو عبد الرحمن الناصر واحدا بعد واحد
وقال ابن خلدون وكان لبني عبد الرحمن الداخل بالعدوة الأندلسية ملك ضخم ودولة متسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الجلالقة واستفحل سلطانهم وعمد فرويلة بن أذفونش ملكهم إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها وملكها من أيديهم فملك مدينة لك وبرتقال وسمورة وشلمنقة وقشتالة وشقوبية وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر آخر الدولة ثم استعادوها بعده فيما استعادوه من بلاد الأندلس واستولوا على جميعها حسبما يذكر ولله سبحانه الأمر انتهى
وخاطب عبد الرحمن قارله ملك الإفرنج وكان من طغاة الإفرنج بعد أن تمرس به مدة فأصابه صلب المكسر تام

المداراة ودعاه إلى المصاهرة والسلم فأجابه للسلم ولم تتم المصاهرة
قال ابن حيان ألفى الداخل الأندلس ثغرا قاصيا غفلا من حلية الملك عاطلا فأرهف أهلها بالطاعة السلطانية وحنكهم بالسيرة الملوكية وأخذهم بالآداب فأكسبهم عما قليل المروءة وأقامهم على الطريقة وبدأ فدون الدواوين ورفع الأواوين وفرض الأعطية وعقد الألوية وجند الأجناد ورفع العماد وأوثق الأوتاد فأقام للملك آلته وأخذ للسلطان عدته فاعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه وتحاموا حوزته ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس واستقل له الأمر فيها فلذلك ما ظل عدوه أبو جعفر المنصور بصدق حسه وبعد غوره وسعة إحاطته يسترجح عبد الرحمن كثيرا ويعد له بنفسه ويكثر ذكره ويقول لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذي الفذ في جميع شؤونه وعدمه لأهله ونشبه وتسليه عن جميع ذلك ببعد مرقى همته ومضاء عزيمته حتى قذف نفسه في لجج المهالك لابتناء مجده فاقتحم جزيرة شاسعة المحل نائية المطمع عصبية الجند ضرب بين جندها بخصوصيته وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته واستمال قلوب رعيتها بقضية سياسته حتى انقاد له عصيهم وذل له أبيهم فاستولى فيها على أريكته ملكا على قطعته قاهرا لأعدائه حاميا لذماره مانعا لحوزته خالطا الرغبة إليه بالرهبة منه إن ذلك لهو الفتى كل الفتى لا يكذب مادحه وجعل ابن حيان من النوادر العجيبة موافقة عبد الرحمن هذا لأبي

على الكبائر والقساوة وأن أم كل واحد منهما بربرية
وكان الداخل يقعد للعامة ويسمع منهم وبنظر بنفسه فيما بينهم ويتوصل إليه من أراده من الناس فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه
وفي كتاب ابن زيدون أنه كان أصهب حفيف العارضين بوجهه خال طويل القامة نحيف الجسم له ضفيرتان أعور أخشم والأخشم الذي لا يشم وكان يلقب بصقر قريش لكونه تغرب وقطع البر والبحر وأقام ملكا قد أدبر وحده
ولما ذكر الحجاري أنه أعور قال ما أنشد فيه إلا قول امرىء القيس
( لكن عوير وفى بذمته ... لا عور شانه ولا قصر )
وقال ابن خلدون وفي سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث الي حصبي من إفريقية إلى الأندلس ونزل بباجة الأندلس داعيا لأبي جعفر المنصور واجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي إشبيلية فقاتله أياما ثم انهزم العلاء وقتل في سبعة آلاف من أصحابه وبعث عبد الرحمن برؤوس كثير منهم إلى القيروان ومكة فألقيت في أسواقها سرا ومعها اللواء الأسود وكتاب المنصور للعلاء فارتاع المنصور لذلك وقال ما هذا إلا شيطان والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر أو كلاما هذا معناه

وكثرت ثورة رؤساء العرب بالأندلس على عبد الرحمن الداخل ونافسوه ملكه ولقي منهم خطوبا عظيمة وكانت العاقبة له واستراب في آخر أمره بالعرب لكثرة من قام عليه منهم فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم واتخاذ الموالي ثم غزا بلاد الإفرنج والبشكنس ومن وراءهم ورجع بالظفر وكان في نيته أن يجدد دولة بني مروان بالمشرق فمات دون ذلك الأمل وكانت مدة ملكه ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر إذ دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة ومات سنة اثنتين وسبعين وقيل إحدى وسبعين ومائة في خلافة الرشيد وأمه أم ولد بربرية اسمها راح ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة بدير حنا من أرض دمشق وقيل بالعلياء من تدمر ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثماني عشرة عن إحدى وعشرين سنة وكفله وإخوته جدهم هشام ووهب لعبدالرحمن هذا جميع الأخماس التي اجتمعت للخلفاء بالأندلس واقطعه أياها ووجه لحيازتها من الشام سعيد بن أبي ليلى وقيل إنه لما قصد المغرب من فلسطين خرج معه أربعة بدر مولى أبيه وأبو شجاع وزياد وعمرو وقيل إن بدرا لحقه ولم يخرج معه فالله أعلم وخلف من الولد عشرين منهم أحد عشر رجلا وتسع إناث
وحكى غير واحد أنه لما هرب من الشام إلى إفريقية قاصدا الأندلس نزل بمغيلة فصار بها عند شيخ من رؤساء البربر يدعى وانسوس ويكنى أبا قرة فاستتر عنده وقتا ولحق به بدر مولى أبيه بجوهر وذهب أنفذته أخته إليه فلما دخل الأندلس واستتب أمره به سار إليه أبو قرة وانسوس البربري فأحسن إليه وحظي عنده وأكرم زوجته تكفات البربرية التي خبأته تحت ثيابها عندما فتشت رسل ابن حبيب بيتها عنه فقال لها عبد الرحمن مداعبا حين استظلت بظله في الأندلس لقد عذبتني بريح إبطيك يا تكفات على ما كان بي من

كان والله يا سيدي منك خرج ولم تشعر به من فرط فزعك فاستظرف جوابها وأغض عن مواجهتها بمثل ذلك وهذا من آفات المزاح
ومن محاسنه أنه أدار السور بقرطبة رحمه الله تعالى

هشام بن عبد الرحمن
وتولى الملك بعده ابنه هشام بعهد منه إليه وأمه أم ولد اسمها حلل وأفضى إليه الملك وهو بماردة وال عليها وكان أبوه يوليه في صباه ويرشحه للأمر وكان الداخل كثيرا ما يسأل عن ابنيه سليمان وهشام فيذكر له أن هشاما إذا حضر مجلسا امتلأ أدبا وتاريخا وذكر لأمور الحرب ومواقف الأبطال وما أشبه ذلك وإذا حضر سليمان مجلسا امتلأ سخفا وهذيانا فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان وقال يوما لهشام لمن هذا الشعر
( وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ون خاله أو من يزيد ومن حجر )
( سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذ صحا وإذا سكر )
فقال له يا سيدي لامرىء القييس ملك كندة وكأنه قاله في الأمير أعزه الله فضمه إليه استحسانا بما سمع منه وأمر له بإحسان كثير وزاد في عينه ثم قال لسليمان على انفراد لمن هذا الشعر وأنشده البيتين فقال لعلهما لأحد أجلاف العرب أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب فأطرق عبد الرحمن وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية
ولما ولي هشام أشخص المنجم

إلى قرطبة وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقا وإصابة فلما اتاه خلا به وقال له يا ضبي لست أشك أنه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم يدع تجديد النظر فيه فأنشدك الله إلا ما نبأتنا بما ظهر لك فيه فلجلج وقال أعفني أيها الأمير فإني ألممت به ولم أحقق النظر فيه لجلالته في نفسي فقال له قد أجلتك لذلك فتفرغ للنظر فيما بقي عليك منه ثم أحضره بعد أيام فقال إن الذي سألتك عنه جد مني مع أني والله ما أثق بحقيقته إذ كان من غيب الله الذي استأثر به ولكني أحب أن أسمع ما عندك فيه فالنفس طلعة وألزمه الصلة أو العقوبة فقال أعلم أيها الأمير أنه سوف يستقر ملكك سعيدا جدك قاهرا لمن عاداك إلا أن مدتك فيه فيما دل عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال يا ضبي ما أخوفني أن يكون النذير كلمني بلسانك والله لو أن هذه المدة كانت في سجدة لله تعالى لقلت طاعة له ووصله وخلع عليه وزهد في الدنيا والتزم أفعال البر
ومن حكاياته في الجود أنه كان قاعدا لراحته في علية على النهر في حياة والده فنظر إلى رجل من قدماء صنائعه من أهل جيان قد أقبل يوضع السير في الهاجرة فأنكر ذلك وقدر شرا وقع به من قبل أخيه سليمان وكان واليا على جيان فأمر بإدخاله عليه فقال له مهيم يا كناني فلأمر ما جئت وما أحسبك إلا مزعجا لشيء دهمك فقال نعم يا سيدي قتل رجل من قومي رجلا خطأ فحملت الدية على

علي من بنيهم خاصة وقصدني أخوك بالاعتداء إذ عرف مكاني منك فمد هشام يده إلى جارية كانت وراء الستر وقطع قلادة عقد نفيس كان في نحرها وقال له دونك هذا العقد يا كناني وشراؤه علي ثلاثة آلاف دينار فلا تخدعن عنه وبعه وأد عن نفسك وعن قومك ولا تمكن الرجل من اهتضامك فقال يا سيدي لم آتك مستجديا ولا لضيق المال عما حملته ولكني لما اعتمدت بظلم صراح أحببت أن يظهر علي عز نصرك وأثر ذبك وامتعاضك فأتمجد بذلك عند من يحسدني على الانتماء إليك فقال هشام فما وجه ذلك فقال أن تكتب إلى أخيك في الإمساك عني والقيام بذمتك لي فقال أمسك العقد وركب من حينه إلى والده الداخل واستأذن عليه فيوقت أنكره فانزعح وقال ما أتى بأبي الوليد في هذا الوقت إلا أمر مقلق ائذنوا له فلما دخل سلم عليه ومثل قائما بين يديه فقال له اجلس يا هشام فقال أصلح الله الأمير سيدي وكيف جلوسي بهم وذل مزعج وحق لمن قام مقامي أن لا يجلس إلا مطمئنا ولن يقعدني إلا طيب نفسي بإسعاف الأمير لحاجتي وإلا رجعت على عقبي فقال له حاش لك من انقلابك خائبا فاقعد مجابا مشفعا فجلس فقال له أبوه فما الحدث المقلق فأعلمه فأمر بحمل الدية عنه وعن عشيرته من بيت المال فسر هشام وأطنب في الشكر وكتب الأمير إلى ولده سليمان في ترك التعرض لهذا الكناني
ولما دخل الكناني لوداع هشام قال له يا سيدي قد تجاوزت بك حد الأمنية وبلغت غاية النصر وقد أغنى الله عن العقد المبذول بين يدي العناية الكريمة فتعيده إلى صاحبته فأبى من ذلك وقال لا سبيل إلى رجوعه إلينا
وكان

من ثقاته إلى الكور فيسألون الناس عن سير عماله ويخبرونه بحقائقها فإذا انتهى إليه حيف من احدهم أوقع به وأسقطه وأنصف منه ولم يستعمله بعد ولما وصفه زياد بن عبد الرحمن لمالك بن أنس قال ليت أن الله تعالى زين موسمنا بمثل هذا
وفي أيامه فتحت أربونة الشهيرة واشترط على المعاهدين من أهل جليقية من صعاب شروطه انتقال عدد من أحمال التراب من سور اربونة المفتتحة يحملونها إلى باب قصره بقرطبة وبنى منه المسجد الذي قدام باب الجنان وفضلت منه فضلة بقيت مكومة
وقاسى مع المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروبا ثم كانت الدائرة له وقصد إلى بلاد الحرب غازيا وقصد ألبة والقلاع فلقي العدو وظفر بهم وفتح الله عليه سنة خمس وسبعين وبعث العساكر إلى جليقية مع يوسف بن بخت فلقي ملكها برمند وهزمه وأثخن في العدو
وفي سنة ست وسبعين بعث وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدو فبلغ ألبة والقلاع فأثخن في نواحيها ثم بعثه في العساكر سنة سبع وسبعين إلى

عبد الملك في بلاد الكفار وهزمهم ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع سنة ثمان وسبعين ومع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد جليقية فانتهى إلى استرقة فجمع له ملك الجلالقة واستمد بملك البشكنس ثم خام عن اللقاء ورجع أدراجه واتبعه عبد الملك وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك وأثخنوا في البلاد واعترضتهم عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ثم خرجوا سالمين ظافرين
ومن محاسنه أنه جدد القنطرة التي يضرب بها المثل بقرطبة كما سبق وكان بناها السمح الخولاني عامل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فأحكم هشام بناءها إلى الغاية وقال يوما لأحد وزرائه ما يقول أهل قرطبة فقال يقولون ما بناها الأمير إلا ليمضي عليها إلى صيده وقنصه فآلى هشام على نفسه أن لا يسلك عليها فلم يمر عليها بعد ووفى بما حلف عليه
ومن محاسنه أيضا إكمال بناء الجامع بقرطبة وكان أبوه شرع فيه ومن محاسنه أنه أخرج المصدق لإخذ الزكاة على الكتاب والسنة رحمه الله
ثم توفي سنة ثمانين ومائة لسبع سنين وتسعة أشهر من إمارته وقيل لثمان وكان من أهل الخير والصلاح كثير الغزو والجهاد وعمره أربعون سنة وأربعة أشهر وولد في شوال سنة 139
الحكم بن هشام

الخيل واستفحل ملكه وباشر الأمور بنفسه وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عميه اغتنم العدو الكافر الفرصة في بلاد المسلمين وقصدوا برشلونه فملكوها سنة خمس وثمانين وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها وبعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة فأثخنوا فيها وخالفهم العدو إلى المضايق فرجع على التعبية وظفر بهم وخرج إلى بلاد الإسلام ظافرا
وكانت له الواقعة الشهيرة مع أهل الربض من قرطبة لأنه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذاته فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة مثل يحيى ابن يحيى الليثي صاحب مالك وأحد رواة الموطأ عنه وطالوت الفقيه وغيرهما فثاروا به وخلعوه وبايعوا بعض قرابته وكانوا بالربض الغربي من قرطبة وكان محلة متصلة بقصره فقاتلهم الحكم فغلبهم وافترقوا وهدم دورهم ومساجدهم ولحقوا بفاس من أرض العدوة وبالإسكندرية من أرض المشرق ونزل بها جمع منهم ثم ثاروا بها فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون بن الرشيد وغلبهم وأجازهم إلى جزيرة أقريطش فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم

وكانت في أيام الحكم حروب وفتن مع الثوار المخالفين له من أهل طليطلة وغيرهم
وفي سنة ثنتين وتسعين جمع لذريق بن قارله ملك الفرنج جموعه وسار إلى حصار طرسونة فبعث الحكم ابنه عبدالرحمن في العساكر فهزمه ففتح الله على المسلمين وعاد ظافرا
ولمأ كثر عيث الفرنج في الثغور بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست وتسعين فافتتح الثغور والحصون وخرب النواحي وأثخن في القتل والسبي والنهب وعاد إلى قرطبة ظافرا
وفي سنة مائتين بعث العساكر مع ابن مغيث إلى بلاد الفرنج فخرب وهدم عدة حصون وأقبل عليه أليط ملك الجلالقة في جموع عظيمة وتنازلوا على نهر واقتتلوا عليه أياما ونال المسلمون منهم أعظم النيل وأقاموا كذلك ثلاث عشرة ليلة ثم كثرت الأمطار ومد النهر وقفل المسلون ظافرين ظاهرين
وهو أول من جند الأجناد واتخذ العدة وكان أفحل بني امية بالأندلس وأشدهم إقداما ونجدة وكان يشبه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العباس في شدة الملك وتوطيد الدولة وقمع الأعداء وكان يؤثر الفقيه زياد بن عبد الرحمن وحضر

إليه كتابا كره وصوله فأمر بقطع يده فقال له زياد أصلح الله الأمير فإن مالك بن أنس حدثني في خبر رفعه أن من كظم غيظا يقدر على إنفاذه ملأه الله تعالى أمنا وإيمانا يوم القيا مة فأمر أن يمسك عن الخادم ويعفى عنه فسكن غضبه وقال آلله إن مالكا حدثك بهذا فقال زياد ألله إن مالكا حدثني بهذا
وكانت المجاعة الشديدة سنة سبع وتسعين ومائة فأكثر فيها مواساة أهل الحاجات وفي ذلك يقول عباس بن ناصح الجزيري فيه
( نكد الزمان فآمنت أيامه ... من أن يكون بعصره عسر )
( ظلع الزمان بأزمة فجلا له ... تلك الكريهة جوده الغمر )
وكان نقش خاتمه بالله يثق الحكم ويعتصم
وذكور ولده عشرون وإناثهم عشرون وأمه جارية اسمها زخرف وكان أسمر طوالا أشم نحيفا
ومدة ملكه ست وعشرون سنة سامحه الله
وقال غير واحدا إنه أول من جعل للملك بأرض الأندلس أبهة واستعد بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف منهم ثلاثة آلاف فارس وألفا راجل
ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته ومولده سنة 154
وقال ابن خلدون وغيره واحدا إنه أول من جند بالأندلس الأجناد

والمرتزقة وجمع الأسلحة والعدد واستكثر من الخدم والحواشي والحشم وارتبط الخيول على بابه واتخذ المماليك وكان يسميهم الخرس لعجمتهم وحكى في عدتهم ما تقدم ثم قال وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس وكان يباشر الأمور بنفسه ويقرب الفقهاء والعلماء والصالحين وهو الذي وطأ الملك لعقبه بالأندلس انتهى
وكان له فيما حكى غير واحد ألفا فرس مرتبطة على شاطىء النهر بقبلي قصره يجمعها داران وهو القائل لما قتل أهل الربض وهدم ديارهم وحرثها
( رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعا ... وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا )
( فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضي السيف دارعا )
( تنبيك أني لم أكن في قراعهم ... بوان وقدما كنت بالسيف قارعا )
( وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدرت ومصارعا
( فهذي بلادي إنني قد تركتها ... مهادا ولم أترك عليها منازعا )
وقال ابن حزم في حقه إنه كان من المهاجرين بالمعاصي السافكين للدماء ولذلك قام عليه الفقهاء والصلحاء وقال غيره إنه تنصل أخيرا وتاب سامحه الله
ومن نظمه قول متغزلا
( قضب من البان

ومنها
( من لي بمقتضبات الروح من بدني ... يغصبنني في الهوى عزي وسلطاني ) وقيل إنه كان يمسك أولاد الناس ويخصيهم ونقلت عنه أمور ولعله تاب منها كما قدمنا والله أعلم بحقيقة أمره
ومن بديع أخبار الحكم أن العباس الشاعر توجه إلى الثغر فلما نزل بوادي الحجارة سمع امرأة تقول واغوثاه بك يا حكم لقد أهملتنا حتى كلب العدو علينا فأيمنا وأيتمنا فسألها عن شأنها فقالت كنت مقبلة من البادية في رفقة فخرجت علينا خيل عدو فقتلت وأسرت فصنع قصيدته التي أولها
( تململت في وادي الحجارة مسهرا ... أراعي نجوما ما يردن تغورا )
( إليك أبا العاصي نضيت مطيتي ... تسير بهم ساريا ومهجرا )
( تدارك نساء العالمين ينصرة ... فإنك أحرى أن تغيث وتنصرا )
فلما دخل عليه أنشده القصيدة ووصف له خوف الثغر واستصراخ المرأة باسمه فأنف ونادى في الحين بالجهاد والاستعداد فخرج بعد ثلاث إلى وادي الحجارة ومعه الشاعر وسأل عن الخيل التي أغارت من أي أرض العدو كانت فاعلم بذلك فغزا تلك الناحية وأثخن فيها وفتح الحصون وخرب الديار وقتل عددا كثيرا وجاء إلى وادي الحجارة فأمر بإحضار المرأة وجميع من أسر له أحد في تلك البلاد فأحضر فأمر بضرب رقاب الأسرى بحضرتها وقال للعباس سلها هل أغاثها الحكم فقالت المرأة وكانت نبيلة والله لقد شغى الصدور وأنكى العدو وأغاث الملهوف فأغاثه

فارتاح لقولها وبدا السرور في وجهه وقال
( ألم تر يا عباس أني أجبتها ... على البعد أقتاد الخميس المظفر )
( فأدركت أوطارا وبردت غلة ... ونفست مكروبا وأغنيت معسرا )
فقال عباس نعم جزاك الله خيرا عن المسلمين وقبل يده
ومما عيب به أنه قتل الفقيه أبا زكريا يحيى بن مضر القيسي وكان قدوة في الدين والورع سمع من سفيان ومالك بن أنس وروى عنه مالك وقال حدثنا يحيى بن مضر عن سفيان الثوري أن الطلح المنضود هو الموز وكان قتل المذكور مع جماعة من العلماء وغيرهم

عبد الرحمن بن الحكم
وقام بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن بعهد منه إليه ثم لأخيه المغيرة بعده فغزا عبد الرحمن لأول ولايته إلى جليقية وأبعد وأطال المغيب وأثخن في امم النصرانية هنالك ورجع
وقدم عليه سنة ست ومائتين زرياب المغني من العراق وهو مولى المهدي ومتعلم إبراهيم الموصلي واسمه علي بن نافع فركب بنفسه لتلقيه على ما حكاه ابن خلدون وبالغ في إكرامه وأقام عنده بخير حال وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلف أولادا فخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته
وفي سنة

والقلاع فخرب كثيرا من البلاد وانتسفها وفتح كثيرا من حصونهم وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين وانصرف ظافرا
وفي سنة أربع وعشرين بعث قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو ألبة والقلاع فسار ولقي العدو فهزمهم وأكثر القتل والسبي ثم خرج لذريق ملك الجلالقة وأغار على مدينة سالم بالثغر فسار إليه فرتون بن موسى وقاتله فهزمه وأكثر القتل والسبي في العدو والاسر ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه وهدمه ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقية فدوخها وافتتح عدة حصون منها وجال في أرضهم ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم
وفي سنة ست وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة وانتهوا إلى أرض بريطانية وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطليلة ولقيهم العدو فصبر حتى هزم الله عدوهم وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود
وفي سنة تسع وعشرين بعث ابنه محمدا بالعساكر وتقدم إلى بنبلونة فأوقع بالمشركين عندها وقتل غرسية صاحبها وهو من أكبر ملوك النصارى
وفي ايامه ظهر المجوس ودخلوا إشبيلية فارسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع

فهزموهم بعد مقام صعب ثم جاءت العساكر مددا من قرطبة فقاتلهم المجوس فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم وأحرقوها ورحل المجوس إلى شذونة فأقاموا عليها يومين وغنموا بعض الشيء ووصلت مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية فأقلع المجوس إلى لبلة وأغاروا وسبوا ثم إلى باجة ثم أشبونة ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة وسكنت البلاد وذلك سنة ثلاثين وتقدم عبد الرحمن بإصلاح ما خربوه من البلاد وأكثف حاميتها
وفي سنة إحدى وثلاثين بعث العساكر إلى جليقية فدوخوها وحاصروا مدينة ليون ورموها بالمجانيق وهرب اهلها عنها وتركوها فغنم المسلمون ما فيها وأحرقوها وأرداوا هدم سورها فلم يقدروا عليه لأن عرضه كان سبعة عشر ذراعا فثلموا فيه ثلمة ورجعوا
ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم في العساكر إلى بلاد برشلونة فعاث في نواحيها وأجاز الدروب التي تسمى البرت إلى بلاد الفرنجة فدوخها فتلا وأسرا وسبيا وحاصر مدينتها العظمى جرندة وعاث في نواحيها وقفل
وقد كان ملك القسطنطينية من ورائهم توفلس بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية يطلب مواصلته ويرغبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم حتى إنه ذكرهما له في كتابه له وعبر عنهما بابني مراجل وماردة فكافأه الأمير عبد الرحمن عن الهدية وبعث إليه يحيى الغزال من كبار أهل الدولة وكان مشهورا

بينهما الوصلة وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس
ويعرف الأمير عبد الرحمن بالأوسط لأن الأول عبد الرحمن الداخل والثالث عبد الرحمن الناصر
ثم توفي عبد الرحمن الاوسط سنة ثمان وثلاثين ومائتين بربيع الآخر لإحدى وثلاثين سنة من إمارته ومولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة
وكان عالما بعلوم الشريعة والفلسفة وكانت أيامه أيام هدوء وسكون وكثرت الأموال عنده واتخذ القصور والمتنزهات وجلب إليها المياه من الجبال وجعل لقصره مصنعا اتخذه الناس شريعة وأقام الجسور وبنيت في أيامه الجوامع بكور الأندلس وزاد في جامع قرطبة رواقين ومات قبل أن يستتمه فأتمه ابنه محمد بعده وبنى بالأندلس جوامع كثيرة ورتب رسوم المملكة واحتجب عن العامة
وعدد ولده مائة وخمسون من الذكور وخمسون من الإناث ونقش خاتمه عابد الرحمن بقضاء الله راض وفي ذلك قيل
( خاتم للملك أضحى

وهو أول من أحدث هذا النقش وبقي وراثة لمن بعده من ولده قال ابن سعيد وفي أيامه انتهى مال الجباية إلى ألف ألف دينار في السنة وكان قبل لا يزيد على ستمائة ألف وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما يخالف هذا فليراجع والله أعلم
ومن توقيعاته من لم يعرف وجه طلبه فالحرمان أولى به ومن شعر عبد الرحمن المذكور قوله
( ولقد تعارض أوجه لأوامر ... فيقودها التوفيق نحو صوابها )
( والشيخ إن يحو النهي بتجارب ... فشباب رأي القوم عند شبابها )
وفي زيادته في جامع قرطبة بقول ابن المثنى رحمه الله تعالى
( بنيت لله خير بيت ... يخرس عن وصفه الأنام )
( حج إليه بكل أوب ... كأنه المسجد الحرام )
( كأن محرابه إذا ما ... حف به الركن والمقام )
وقال آخر
( بنى مسجدا لله لم يك مثله ... ولا مثله لله في الأرض مسجد )
( سوى ما ابتنى الرحمن والمسجد الذي ... بناه نبي المسلمين محمد )
( له عمد حمر وخضر كأنما ... تلوح يواقيت بها وزبرجد )
( ألا يا أمين الله لا زلت سالما ... ولا زلت في كل الأمور تسدد )
( فيا ليتنا نفديك من كل حادث ... وأنك

وكان كثير الميل للنساء وولع بجاريته طروب وكلف بها كلفا شديدا وهي التي بنى عليها الباب ببدر المال حين تجنت عليه وأعطاها حليا قيمته مائة ألف دينار فقيل له إن مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك فقال إن لا بسه أنفس منه خطرا وأرفع قدرا وأكرم جوهرا وأشرف عنصرا وفيها يقول
( إذا ما بدت لي شمس النهار ... طالعة ذكرتني طروبا )
( أنا ابن الميامين من غالب ... أشب حروبا وأطفي حروبا )
وخرج غازيا إلى جليقية فطالت غيبته فكتب إليها
( عداني عنك مزار العدا ... وقودي إليهم سهاما مصيبا )
( فكم قد تخطيت من سبسب ... ولاقيت بعد دروب دروبا )
( ألاقي بوجهي سموم الهجير ... إذ كان منه الحصى أن يذودا )
( تدارك بي الله دين الهدى ... فأحييته وأمت الصليبا )
( وسرت إلى الشرك في جحفل ... ملأت الحزون به والسهوبا )
وساق بعض المؤرخين قصة طروب هذه بقوله إن السلطان المذكور أغضها فهجرته وصدت عنه وأبت أن تأتيه ولزمت مقصورتها فاشتد قلقه لهجرها وضاق ذرعه من شوقها وجهد أن يترضاها بكل وجه فاعياه ذلك فأرسل من خصيانه من يكرهها على الوصول إليه فأغلقت باب مجلسها في وجوههم وآلت أن لا تخرج إليهم طائعة ولو انتهى الأمر إلى القتل فانصرفوا إليه وأعلموه بقولها واستأذنوه في كسر الباب عليها فنهاهم وأمرهم بسد الباب عليها من خارجه ببدر الدراهم ففعلوا وبنوا عليها بالبدر وأقبل حتى وقف بالباب وكلمها مسترضيا راغبا في

فأجابت وفتحت الباب فانهالت البدر في بيتها فأكبت على رجله تقبلها وحازت المال وكانت تبرم الأمور مع نصر الخصي فلا يرد شيئا مما تبرمه
وأحب أخرى اسمها مدثرة فأعتقها وتزوجها وأخرى كذلك اسمها الشفاء وأما جاريته قلم فكانت أديبة حسنة الخط راوية للشعر حافظة للأخبار عالمة بضروب الأدب وكان مولعا بالسماع مؤثرا له على جميع لذاته وله أخبار كثيرة رحمه الله

محمد بن عبد الرحمن
ولما مات ولي ابنه محمد فبعث لأول ولايته عساكر مع موسى بن موسى صاحب تطيلة فعاث في نواحي ألبة والقلاع وفتح بعض حصونها ورجع وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها فعاثوا فيها وفتحوا حصونا من برشلونة ورجعوا
ولما استمد أهل طليطلة المخالفون من أهل بلاد الأمير محمد عليه بملكي جليقية والبشكنس لقيهم الأمير محمد على وادي سليطة وقد أكمن لهم فأوقع بهم وبلغت عدة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفا
وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس وعاثوا في

فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين واستشهد جماعة من المسلمين
وفي سنة سبع وأربعين أغزى محمد إلى نواحي بنبلونة وصاحبها حينئذ غرسية بن ونقه وكان يظاهر أردون بن أذفنش فعاث في نواحي بنبلونة ورجع وقد دوخها وفتح كثيرا من حصونها وأسر فرتون ابن صاحبها فبقي أسيرا بقرطبة عشرين سنة
ثم بعث سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها وجمع لذريق للقائهم فلقيهم وانهزم وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر فكان فتحا لا كفاء له
ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة فأثخن وخرب
وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب وفي السنة التي بعدها إلى بلاد بنبلونة فدوخها ورجع
وفي سنة ثمان وستين أغزاه أيضا إلى دار الحرب فعاث في نواحيها وفتح حصونا
وفي أيام الأمير محمد خربت ماردة وهدمت ولم يبق لها أثر
وذكر بعضهم أنه رأى بالمشرق هذه الأبيات قبل أن تخرب ماردة بأعوام ولم يعلم قائلها وذلك سنة 254
( ويل لماردة التي مردت ... وتكبرت عن عدوة النهر )
( كانت ترى لهم بها زهر ... فخلت من الزهرات كالقفر

ثم توفي الأمير محمد في شهر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين لخمس وثلاثين سنة من إمارته ومولده سنة سبع ومائتين

المنذر بن محمد
وولي بعده ابنه المنذر ولم تطل مدته وأقام في الملك سنتين إلا نصف شهر وتوفي منتصف صفر سنة خمس وسبعين ومائتين وفيه قيل
( بالمنذر بن محمد ... صلحت بلاد الأندلس )
عبد الله بن محمد
ثم ولي أخوه عبد الله قال ابن خلدون كان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار مائة ألف للجيوش ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض ومائة ألف ذخيرة ووفرا فأنفق الوفر حين اضطربت عليه نواحي الأندلس بالثوار والمتغلبين في تلك السنين وقل الخراج انتهى
ومن نظم الأمير عبد الله قوله
( يا مهجة المشتاق ما أوجعك ... ويا أسير الحب ما أخشعك )
( ويا رسول العين من لحظها ... بالرد والتبليغ ما أسرعك )
( تذهب بالسر فتأتي به ... في مجلس يخفى على من

وهذه الأبيات عنوان فضله وبراعة استهلال نبله
وكان الوزراء يطالعون بآرائهم الخليفة في بطاقة فطالعه وزيره النضر بن سلمة برأيه في أمر في ورقة فلما وقف عليها لم يعجبه ذلك الرأي فكتب
( أنت يا نضر آبده ... ليس ترجى لفائدة )
( إنما أنت عدة ... لكنيف ومائدة )
وتوفي الأمير عبد الله سنة ثلاثمائة ومدة ملكه نحو من خمس وعشرين سنة

عبد الرحمن الناصر
وولي حافده عبد الرحمن الناصر ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرف وكانت ولايته من الغريب لأنه كان شابا وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون فتصدى إليها واحتازها دونهم ووجد الأندلس مضطربة بالمخالفين مضطرمة بنيران المتغلبين فأطفأ تلك النيران واستنزل أهل العصيان واستقامت له الأندلس في سائر جهاتها بعد نيف وعشرين سنة من أيامه ودامت أيامه نحو خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أمية بتلك الناحية وهو أول من تسمى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق واستبد موالي الترك على بني العباس وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة فتلقب بألقاب الخلافة وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب إلى أن هزم عام

المسلمين فقعد عن الغزو بنفسه وصار يردد الصوائف في كل سنة فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الإفرنج ما لم يطؤوه قبل في أيام سلفه ومدت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يعن في مرضاته ووصل إلى سدته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية فقبلوا يده والتمسوا رضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة قفل الفرضة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة وثلاثمائة وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة والبربر وأجاز إليه الكثير منهم كما يعلم من أخباره وبدأ أمره أول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا انتهى كلام ابن خلدون
وفيه يقول ابن عبد ربه صاحب العقد يوم تولى الملك
( بدا الهلال جديدا ... والملك غض جديد )
( يا نعمة الله زيدي ... إن كان فيك مزيد )
( إن كان للصوم فطر ... فأنت للدهر عيد )
وأراد بأول الأبيات أنه ولي مستهل ربيع الأول كما علم
وما أشار إليه ابن خلدون في غزوة الخندق فصله المسعودي فقال بعد أن أجرى ذكر مخالفة أمية بن إسحاق على الناصر ودخوله أرض النصارى ودلالته إياهم على عورات المسلمين ما ملخصه وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس

سمورة دار الجلالقة وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون وكانت الوقعة بينه وبين رذمير ملك الجلالقة في شوال سنة 327 بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر بثلاثة أيام فكانت للمسلمين عليهم ثم ثابوا بعد أن حوصروا وألجئوا إلى المدينة فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفا وقيل إن الذي منع رذمير من طلب من نجا من المسلمين أمية بن إسحاق وخوفه الكمين ورغبة فيما كان في عسكر المسلمين من الأموال والعدة والخزائن ولولا ذلك لأتى على جميع المسلمين ثم إن أمية استأمن بعد ذلك إلى عبد الرحمن وتخلص من رذمير وقبله عبد الرحمن أحسن قبول وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز عساكر مع عدة من قواده إلى الجلالقة فكانت لهم بهم عدة حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية ورذمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت وهو سنة 332 انتهى
وقال في موضع آخر ما ملخصه إن عبد الرحمن غزا في أزيد من مائة ألف من الناس فنزل على دار مملكة الجلالقة وهي مدينة سمورة وعليها سبعة أسوار من أعجب البنيان قد أحكمته الملوك السالفة وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة وافتتح منها سورين ثم إن أهلها ثاروا على المسلمين فقتلوا منهم ممن أدركه الإحصاء وممن عرف أربعين ألفا وقيل خمسين ألفا وكانت للجلالقة والبشكنس على المسلمين انتهى كلام المسعودي
رجع إلى أخبار الناصر فنقول إن الناصر رحمه الله كان له نظم ومما نسب إليه بعضهم قوله
( لا يضر الصغير

( كم مقيم فازت يداه بغنم ... لم تنله بالركض كف مغير )
هكذا ألفيت البيتين منسوبين إليه بخط بعض الأكابر ثم كتب بأثره ما نصه الصحيح أنهما لغيره والله أعلم انتهى

هدية ابن شهيد للناصر
وكان الناصر رحمه الله قد استحجب موسى بن محمد بن حدير واستوزر عبد الملك بن جهور وأحمد بن عبد الملك بن شهيد وأهدى له ابن شهيد هديته المشهورة المتعددة الأصناف وقد ذكرها ابن حيان وابن خلدون وغيرهما من المؤرخين قال ابن خلدون وهي مما يدل على ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها وكان ذلك سنة سبع وعشرين وثلاثمائة لثمان خلون من شهر جمادى الأولى وهي هدية عظيمة الشأن اشتهر ذكرها إلى الآن واتفق على أنه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها وقد أعجبت الناصر وأهل مملكته جميعا وأقروا أن نفسا لم تسمح بإخراج مثلها ضربة عن يدها وكتب معها رسالة حسنة بالاعتراف للناصر بالنعمة والشكر عليها استحسنها الناس وكتبوها وزاد الناصر وزيره هذا خطوة واختصاصا وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعا وأضعف له رزق الوزارة وبلغه ثمانين ألف دينار أندلسية وبلغ مصروفه إلى ألف دينار وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق فسماه ذا الوزارتين لذلك وكان أول من تسمى لذلك بالأندلس امتثالا لاسم صاعد بن مخلد وزير بني العباس ببغداد وأمر بتصدير فراشه في البيت وتقديم اسمه في

وتفسير هديته المذكورة على ما ثبت في كتاب ابن خلدون على ما يفسر خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين وأربعمائة رطل من التبر ومصارفة خمسة وأربعون ألف دينار من سبائك الفضة في مائتي بدرة واقتصر ابن الفرضي على خمسمائة ألف دينار فقط واثنا عشر رطلا من العود الهندي الذي يختم عليه كالشمع ومائة وثمانون رطلا من العود المتخير ومائة رطل من العود الشبه المنتقى هكذا ذكره ابن خلدون
وقال ابن الفرضي مستندا إلى الكتاب الذي وجهه ابن شهيد مع الهدية إن العود الغالي من ذلك أربعمائة رطل منها في قطعة واحدة مائة وثمانون رطلا
وقال ابن خلدون ومائة أوقية من المسك الذكي المفضل في جنسه انتهى
وقال ابن الفرضي نقلا عن الكتاب المصحوب مع الهدية إن المسك مائتا أوقية وثانتا عشرة أوقية ومن العنبر الأشهب الباقي على خلقته بغير صناعة خمسمائة أوقية منها قطعة عجيبة ململمة الشكل وزن مائة أوقية هكذا في تاريخ ابن خلدون
وفي ابن الفرضي أن الكل مائة أوقية وأن هذه القطعة أربعون أوقية ومن الكافور المرتفع النقي الذكي ثلاثمائة أوقية
قال ابن خلدون ومن اللباس ثلاثون شقة من الحرير المختم المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء المختلف الألوان والصنائع وعشرة أفرية من عالي جلود الفنك الخراسانية
وخالفه ابن الفرضي إذ قال ومن أنواع الثياب ثلاثون شقة خنج خاصية للباسه

عالي الفنك منها سبعة بيض خراسانية وثلاث ملونة وستة مطارف عراقية خاصية له وثمان وأربعون ملحفة زهرية لكسوته ومائة ملحفة زهرية لرقاده
ولم يذكر ابن خلدن وابن الفرضي أعرف لا سيما وقد استند إلى كتاب المهدي وصاحب البيت أدرى
قال ابن خلدون وعشرة قناطير شد فيها مائة جلد سمور وقاله ابن الفرضي أيضا وزاد ابن خلدون وستة من السرادقات العراقية وثمانية وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب ثم قالا معا وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول وألف رطل من لون الحرير المنتقى للاستغزال وزاد ابن خلدون وثلاثون شقة من الفريون لسروج الهبات وزاد ابن الفرضي في الحرير المذكور قيل إنه قبضه منه صاحب الطراز ولم يأت به مع الهدية وإنما دفعه لصاحب الطراز وأثبته في الدفتر قالا وثلاثون بساطا من الصوف مختلفة الصناعات طول كل بساط منها عشرون ذراعا وقال ابن خلدون منتقاة مختلفة الألوان قالا ومائة قطعة مصليات من وجوه الفرش المختلفة زاد ابن الفرضي الصناعات من جنس البسط قالا وخمسة عشر نخا من عمل الخز المقطوع شطرها قال ابن الفرضي وسائرها من جنس البسط الوجوه قال ابن خلدون ومن السلاح والعدة ثمانمائة من التجافيف المزينة أيام البروز والمواكب وقال ابن الفرضي مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها قالا وألف ترس سلطانية ومائة ألف سهم زاد ابن خلدون من النبال البارعة الصنعة قال ابن خلدون ومن الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب المتخيرة لركاب السلطان فائقة النعوت وقال ابن الفرضي ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب المتخيرة لركابه خمسة عشر فرسا وخمس

مجالس سروجها خز عراقي وثمانون فرسا مما يصلح للوصفاء والحشم وقال ابن خلدون مائة فرس من الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات وقال ابن الفرضي وخمسة أبغل عالية الركاب وقال ابن خلدون وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خز جعفري عراقي قالا ومن الرقيق أربعون وصيفا وعشرون جارية من متخير الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم وقال ابن خلدون في الجواري متخيرات بكسوتهن وزينتهن وقال ابن خلدون ومن سائر الأصناف قرية تغل آلافا من أمداد الزرع ومن الصخر للبنيان ما أنفق عليه في عام واحد وثمانون ألف دينار وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه وأقومه قيمتها خمسون ألف دينار انتهى
وقال ابن الفرضي نقلا عن كتاب ابن شهيد المصحوب مع الهدية عندما ذكر الرقيق ما صورته وكان قد أمرني أيده الله بابتياعهم من مال الأخماس فابتعتهم من نعمته عندي وصيرتهم من بعثي ومع ذلك عشر قناطير سكر طبرزذ لا سحاق فيه
وفي آخر الكتاب ولما علمت تطلع مولاي أيده الله تعالى إلى قرية لذكرها كذا بالقنبانية المنقطعة الغرس في شرقها وترداده أيده الله تعالى لذكرها لم أهنأ بعيش حتى أعلمت الحيلة في ابتياعها بأحوازها وأكتب وكيله ابن بقية الوثيقة فيها باسمه وضمها إلى ضياعه وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر جيان عندما اتصل بي من وصفه لها وتطلعه إليها فما زلت أتصدى لمسرته بها حتى ابتعتها الآن باحوازها وجميع منازلها

كله الوكيل ابن بقية وصار في يده له ابقاه الله سبحانه وأرجو أنه سيرفع فيها في هذه السنة آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى ولما علمت نافذ عزمه أبقاه الله تعالى في البنيان وكلفه به وفكرت في عدد الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنيانها مد الله تعالى في عمره وأوفى بها على أقصى أمله علمت أن أسه وقوامه الصخر والاستكثار منه فأثارت لي همتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدك اللذان يبعثان ما لا يتوهم عليه حيلة أقيم لك فيها بعام واحد ما كان يقوم على يدي عبدك ابن عاصم في عشرين عاما وينتهي تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفا أعجل شأنه في عام سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان قبلا إن شاء الله تعالى وكذلك ما ثاب إلي في أمر الخشب لهذه المنية المكرمة فإن ابن خليل عبدك المجتهد الدؤوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه إلى ثلاثمائة ألف عود ونيف على عشرين ألف عود على أنه لا يدخل منه في السنة إلا نحو الألفي عود ففتح لي سعدك رأيا أقيم له بتمامه جميع هذا الخشب العام على كماله بورود الجليبة لوقتها وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفا والستين ألفا انتهى

عود إلى أخبار الناصر
ومن غريب ما يحكى عن أمير المؤمنين الناصر المذكور أنه أراد الفصد فقعد بالبهو في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء واستدعى الطبيب لذلك وأخذ الطبيب الآلة وجس يد الناصر فبينما هو إذ أطل زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس وأنشد
( أيها الفاصد رفقا ... بامير المؤمنينا

( إنما تفصد عرقا ... فيه محيا العالمينا )
وجعل يكرر ذلك المرة بعد المرة فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف وسر به غاية السرور وسأل عمن اهتدى إلى ذلك وعلم الزرزور فذكر له أن السيدة الكبرى مرجانة أم ولده ولي عهده الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك وأعدته لذلك الأمر فوهب لها ما ينيف على ثلاثين ألف دينار
وذكر ابن بسام أن أبا عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك الوزير أهدى له غلام من النصارى لم تقع العيون على شبهه فلمحه الناصر فقال لابن شهيد أنى لك هذا قال هو من عند الله فقال له الناصر تتحفوننا بالنجوم وتستأثرون بالقمر فاستعذر واحتفل في هدية بعثها مع الغلام وقال يا بني كن مع جملة ما بعثت به ولولا الضرورة ما سمحت بك نفسي وكتب معه هذين البيتين
( أمولاي هذا البدر سار لأفقكم ... وللأفق أولى بالبدور من الأرض )
( أرضيكم بالنفس وهي نفيسة ... ولم أر قبلي من بمهجته يرضي )
فحسن ذلك عند الناصر وأتحفه بمال جزيل وتمكنت عنده مكانته ثم إنه بعد ذلك أهديت إليه جارية من أجمل نساء الدنيا فخاف أن ينهى ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة الغلام فاحتفل في هدية أعظم من الأولى وبعثها معها وكتب له
( أمولاي هذي الشمس والبدر أولا ... تقدم كيما يلتقي

( قران لعمري بالسعادة قد أتى ... فدم منهما في كوثر وجنان )
( فما لهما والله في الحسن ثالث ... وما لك في ملك البرية ثاني )
فتضاعفت مكانته عنده
ثم إن أحد الوشاة رفع للملك أنه بقي في نفسه من الغلام حرارة وأنه لا يزال يذكره حين تحركه الشمول ويقرع السن على تعذر الوصول فقال للواشي لا تحرك به لسانك وإلا طار رأسك وأعمل الناصر حيلة في أن كتب على لسان الغلام رقعة منها يا مولاي تعلم أنك كنت لي على انفراد ولم أزل معك في نعيم وإني وإن كنت عند الخليفة مشارك في المنزلة محاذر ما يبدو من سطوة الملك فتحيل في استدعائي منه وبعثها مع غلام صغير السن وأوصاه أن يقول من عند فلان وإن الملك لم يكلمه قط إن سأله عن ذلك فلما وقف أبو عامر على تلك الرسالة واستخبر الخادم علم من سؤاله ما كان في نفسه من الغلام وما تكلم به في مجالس المدام فكتب على ظهر الرقعة ولم يزد حرفا
( أمن بعد إحكام التجارب يبتغي ... لدى سقوط الطير في غابة الأسد )
( وما أنا ممن يغلب الحب قلبه ... ولا جاهل ما يدعيه أولو الحسد )
( فإن كنت روحي قد وهبتك طائعا ... وكيف يرد الروح إن فار الجسد )
فلما وقف الناصر على الجواب تعجب من فطنته ولم يعد إلى استماع واش به
ودخل عليه بعد ذلك فقال له كيف خلصت من الشرك فقال لأن عقلي بالهوى غير مشترك فأنعم عليه وزادت محبته عنده

غزوات الناصر
وأخبار الناصر طويلة جدا وقد منح الظفر على الثوار واستنزلهم من معاقلهم حتى صفا له الوقت وكانت له في جهاد العدو اليد البيضاء فمن غزواته أنه غزا سنة ثمان وثلاثمائة إلى جليقية وملكها أردون بن أذفونش فاستنجد بالبشكنس والإفرنجة وظاهر شانجة بن غرسية صاحب بنبلونة أمير البشكنس فهزمهم ووطىء بلادهم ودوخ أرضهم وفتح معاقلهم وخرب حصونهم ثم غزا بنبلونة سنة ثنتي عشرة ودخل دار الحرب ودوخ البسائط وفتح المعاقل وخرب الحصون وأفسد العمائر وجال فيها وتوغل في قاصيتها والعدو يحاذيه في الجبال والأوعار ولم يظفر منه بشيء ثم بعد مدة ظفر ببعض الثوار عليه وكان استمد بالنصارى فقتل الناصر من كان مع الثائر من النصارى أهل ألبة وفتح ثلاثين من حصونهم وبلغه انتفاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في بنبلونة ودوخ أرضها واستباحها ورجع إلى قرطبة ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جليقية فانهزم وأصيب فيها المسلمون وقعد بعدها عن الغزو بنفسه وصار يردد البعوث والصوائف إلى الجهاد وبعث جيوشه إلى المغرب فملك سبتة وفاسا وغيرهما من بلاد المغرب وطار صيته وانتشر ذكره كما سبق ولما هلك غرسية بن شانجة ملك البشكنس قام بامرهم بعده أمه طوطة وكفلت ولده ثم انتفضت على الناصر سنة خمس وعشرين فغزا الناصر بلادها وخرب نواحي بنبلونة وردد عليها كما مر

ثم رحل إلى بنبلونة فجاءته طوطة بطاعتها وعقد لابنها غرسية على بنبلونة ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوخها وخرب حصونها ثم اقتحم جليقية وملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن لقائه ودخل وخشمة فنازله الناصر فيها وهدم برغش وكثيرا من معاقلهم وهزمهم مرارا ورجع ثم كانت بعدها غزوة الخندق السابقة وهابته أمم النصرانية

الوفود على بلاط الناصر
ثم وفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب قسطنطينة وهديته وهو يومئذ قسطنطين واحتفل الناصر لقدومهم في يوم مشهود قال ابن خلدون ركبت في ذلك اليوم العساكر بالسلاح في أكمل شكة وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور وجمل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة ورتب الوزراء والخدمة في مواقفهم ودخل الرسل فهالهم ما رأوه وقربوا حتى أدوا رسالتهم وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل ويعظموا من أمر الإسلام والخلافة ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه وذلة عدوه فاستعدوا لذلك ثم بهرهم هول المجلس فوجموا وشرعوا في القول فارتج عليهم وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق كان في جملة الحكم ولي العهد وندبه لذلك استئثار بفخره فلما وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي من غير استعداد ولا روية وما تقدم

شعرا طويلا ارتجله في ذلك الغرض ففاز بفخر ذلك المجلس وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع وأعجب به الناصر وولاة القضاء بعدها وأصبح من رجالات المعالم وأخباره مشهورة وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان وغيره ثم انصرف هؤلاء الرسل وبعث الناصر معهم هشام بن هذيل بهدية حافلة ليؤكد المودة ويحسن الإجابة ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء وجاءت معه رسل قسطنطين
ثم جاء رسول من ملك الصقالبة وهو يومئذ هوتو ورسول آخر من ملك الألمان ورسول آخر من ملك الإفرنجة وراء البرت وهو يومئذ أوقه ورسول آخر من ملك الإفرنجية بقاصية المشرق وهو يومئذ كدلة واحتفل الناصر لقدومهم وبعث مع رسول الصقالبة ربيعا الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجع بعد سنتين
وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون يطلب السلم فعقد له ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فرذلند قومس مشتيلة في عهده فأذن له في ذلك وأدخل في عهده وكان غرسية بن شانجة قد استولى على جليقية بعد أبيه شانجة بن فرويلة ثم انتض عليه أهل جليقية وتولى كبرهم قومس قشتيلية فرذلند المذكور ومال إلى أردون بن رذمير وكان غرسية بن شانجة حافدا لطوطة ملكة البشكنس فامتعضت

سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك وإعانة حافدها غرسية بن شانجة على ملكه ونصره من عدوه وجاء الملكان معها فاحتفل الناصر لقدومهم وعقد الصلح لشانجة وأمه وبعث العساكر مع غرسية ملك جليقية فرد عليه ملكه وخلع الجلالقة طاعة أردون إليه وبعث إلى الناصر يشكره على فعلته وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك وبما ارتكبه فرذلند قومس قشتيلة في نكثة ووثوبه ويعيره بذلك عند الأمم ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك ولما وصل رسول كلده ملك الإفرنجة بالشرق كما تقدم وصل معه رسول ملك برشلونة وطركونة راغبا في الصلح فأجابه الناصر ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودة فأجيب انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار
ولنفصل بعض ما أجمله فنقول ذكر ابن حيان وغير واحد أن ملك الناصر بالأندلس كان في غاية الضخامة ورفعه الشأن وهادته الروم وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر ولم تبق أمة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية ومن جملتهم صاحب القسطنطينية العظمى فإنه هاداه ورغب في موادعته وكان وصول أرساله في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة وتقدم في كلام ابن خلدون أنها ست وثلاثون فالله أعلم أيهما أصح وتأهب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقوا أعظم تلق وأفخمه وأحسن قبول وأكرمه وأخرج إلى لقائهم ببجانة يحيى بن محمد بن الليث وغيره لخدمة أساب الطريق فلما صاروا بأقرب المحلات من قرطبة خرج إلى لقائهم القواد في العدد والعدة والتعبية فتلقوهم قائدا بعد قائد وكمل اختصاصهم بعد ذلك بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسرا وتماما إبلاغا في الاحتفال بهم

فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه لأن الفتيان حينئذ هم عظماء الدولة لأنهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه وبيدهم القصر السلطاني وأنزلوا بمنية ولي العهد الحكم المنسوبة إلى نصر بعدوة قرطبة في الربض ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة ومن ملابسة الناس طرا ورتب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجوه الحشم فصيروا على باب قصر هذه المنية ستة عشر رجلا لأربع دول لكل دولة أربع منهم ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه فقعد لهم يوم السب لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعودا حسنا نبيلا وقعد عن يمينه ولي العهد من بنيه الحكم ثم عبيد الله ثم عبد العزيز أبو الأصبغ ثم مروان وقعد عن يساره المنذ ثم عبد الجبار ثم سليمان وتخلف عبد الملك لأنه كان عليلا لم يطق الحضور وحضر الوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا ووقف الحجاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك وظللت أبواب الدار وجناياها بظلل الديباج ورفيع الستور فوصل رسل ملك الروم حائرين مما رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون وهو في رق مصبوغ لونا سماويا مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضا مكتوبة بفضة بخط إغريقي أيضا فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها وعلى الكتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل على الوجه الواحد منه صورة المسيح وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده وكان الكتاب بداخل

الملك معمولة من الزجاج الملون البديع وكان الدرج داخل جعبة ملبسه بالديباج وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه قسطنطين ورومانس المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم وفي سطر آخر العظيم الاستحقاق المفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس أطال الله بقاءه ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه وتصف ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه ولي عهده فإعداد من يقوم بذلك من الخطباء ويقدمه أمان نشيد الشعراء فأمر الحكم صنيعة الفقيه محمد بن عبد البر الكسنياني بالتأهب لذلك وإعداد خطبة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة وكان يدعي من القدرة على تأليف الكلام ما ليس في وسع غيره وحضر المجلس السلطاني فلما قام يحاول التكلم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظه بل غشي عليه وسقط إلى الأرض فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي النوادر وهو حينئذ ضيف الخليفة والوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة قم فارقع هذا الوهي فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه صلى الله عليه و سلم هكذا ذكر ابن حيان وغيره وكلام ابن خلدون السابق يقتضي أن القالي هو المأمور بالكلام أولا والمعد لذلك ونحوه في المطمح والخطب سهل ثم انقطع القول بالقالي فوقف ساكتا مفكرا في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه وقال في المطمح إن أبا علي القالي انقطع وبهت وما وصل إلا قطع ووقف ساكتا متفكرا لا ناسيا ولا متذكرا فلما رأى ذلك منذر بن سعيد وكان ممن حضر في زمرة الفقهاء قام من

ذاته بدرجة من مرقاته فوصل افتتاح أبي علي لأول خطبته بكلام عجيب ونادى في الإحسان من ذلك المقام كل مجيب يسحه سحا كأنما كان يحفظه قبل ذلك بمدة وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو علي البغدادي فقال أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشكر لنعمائه والصلاة والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبيائه فإن لكل حادثة مقاما ولكل مقام مقال وليس بعد الحق إلا الضلال وإني قد قمت في مقام كريم بين يدي ملك عظيم فأصغوا إلى معشر الملإ بأسماعكم والقنوا عني بأفئدتكم إن من الحق أن يقال للمحق صدقت وللمبطل كذبت وإن الجليل تعالى في سمائه وتقدس بصفاته وأسمائه أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه أن يذكر قومه بأيام الله جل وعز عندهم وفيه وفي رسول الله أسوة حسنة وإني أذكركم بأيام الله عندكم وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمن سربكم ورفعت فرقكم أمير المؤمنين التي لمت شعثكم وأمنت سربكم ورفعت فرقكم بعد أن كنتم قليلا فكثركم ومستضعفين فقواكم ومستنذلين فنصركم ولاه الله رعايتكم وأسند إليه أمامتكم أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق وأحاطت بكم شعل النفاق حتى صرتم في مثل حدقى البعير من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء أنشدكم الله معاشر الملإ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها والسبل مخوفة فأمنها والأموال منتهبة فأحرزها وخصنها ألم تكن البلاد خرابا فعمرها وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته وتلافيه

كلمتكم بعد افتراقها بإمامته حتى أذهب الله عنكم غيظكم وشفى صدوركم وصرتم يدا على عدوكم بعد أن كان بأسكم بينكم ناشدتكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القواد والأجناد حتى باشره بالقوة والمهجة والأولاد والنسوان واعتزل النسان وهجر الأوطان ورفض الدعة وهي محبوبة وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة بطوية صحيحة وعزيمة صريحة وبصيرة ثابتة نافذة ثاقبة وريح هابة غالبة ونصرة من الله واقعة واجبة وسلطان قاهر وجد ظاهر وسيف منصور تحت عدل مشهور متحملا للنصب مستقلا لما ناله في جانب الله من التعب حتى لانت الأحوال بعد شدتها وانكسرت شوكة الفتنةعند حدتها ولم يبق لها غارب إلا جبة ولا نجم لأهلها قرن إلا جذه فأصبحتم بنعمة الله إخوانا وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا حتى تواترت لديكم الفتوحات وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلا ليقضي الله أمرا كان مفعولا ولن يخلف الله وعده ولهذا الأمر ما بعده وتلك أسباب طاهرة بادية تدل على أمور باطنة خافية دليلها قائم وجفنها غير نائم ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) الآية النور 55 وليس في

ولكل نبإ مستقر ولكل أجل كتاب فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه واسألوه المزيد من نعمائه فقد أصبحتم بيمن خلافة أمير المؤمنين أيده الله بالعصمة والسداد وألهمه بخالص التوفيق إلى سبيل الرشاد أحسن الناس حالا وأنعمهم بالا وأعزهم قرارا وأمنعهم دارا وأكثفهم جمعا وأجملهم صنعا لا تهاجون ولا تذادون وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم فإن من نزع يدا من الطاعة وسعى في تفريق الجماعة ومرق من الدين فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها حفظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء وأن بقوام الطاعة تقام الحدود وتوفى العهود وبها وصلت الأرحام ووضحت الأحكام وبها سد الله الخلل وأمن السبل ووطأ الأكناف ورفع الاختلاف وبها طاب لكم القرار واطمأنت بكم الدار فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) الآية النساء 59 وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصنوف الملحدين الساعين في شق عصاكم وتفريق ملاكم الآخذين في مخاذلة دينكم وهتك حريمكم وتوهين دعوة نبيكم صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله

ترجمة منذر بن سعيد البلوطي عن المغرب
وساق ابن سعيد في المغرب هذه الحكاية فقال ما صورته منذر بن سعيد البلوطي قاضي الجماعة بقرطبة خطيب مصقع وله كتب مؤلفة في القرآن والسنة والورع والرد على أهل الأهواء والبدع شاعر بليغ ولد سنة خمس وستين ومائتين وأول سببه في التعلق بعبد الرحمن الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم صاحب قسطنطينية بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه لذكر جلالة مقعده ووصف ما تهيأ له من توطيد الخلافة ورمي ملوك الأمم بسهام بأسه ونجدته وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء ويقدمه أمام إنشاد الشعراء فتقدم الحكم إلى أبي علي البغدادي ضيف الخليفة وأمير الكلام وبحر اللغة أن يقوم فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد ثم انقطع وبهت فما وصل ولا قطع ووقف ساكتا مفكرا فلما رأى ذلك منذر بن سعيد قام قائما بدرجة من مرقاة أبي علي ووصل افتتاحه بكلام عجيب بهر العقو جزالة وملأ الأسماع جلالة ثم ذكر الخطبة كما سبق وقال بعد إيرادها ما صورته فصلب العلج وغلب على قلبه وقال هذا كبير القوم أو كبش القوم وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه وثبات جنانه وبلاغة لسانه وكان الناصر أشهدهم تعجبا منه وأقبل على ابنه الحكم ولم يكن يثبت معرفته فسأله عنه فقال له هذا منذر بن سعيد البلوطي فقال والله لقد احسن ما شاء ولئن أخرني الله بعد لأرفعن من ذكره فضع يدك يا حكم عليه واستخلصه وذكرني بشأنه فما للصنيعة

الجامع بالزهراء ثم توفي محمد بن عيسى القاضي فولاه قضاء الجماعة بقرطبة وأقره على الصلاة بالزهراء
ومن شعره في هذه الواقعة
( مقال كحد السيف وسط المحافل ... فرقت به ما بين حق وباطل )
( بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعد عند رعش الأنامل )
( فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ... ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل )
( وقد حدقت حولي عيون إخالها ... كمثل سهام أثبتت في المقاتل )
( لخير إمام كان أو هو كائن ... لمقتبل أو في العصور الأوائل )
( ترى الناس أفواجا يؤمون بابه ... وكلهم ما بين راج وآمل )
( وفود ملوك الروم وسط فنائه ... مخافة بأس أو رجاء لنائل )
( فعش سالما أقصى حياة مؤملا ... فأنت غياث كل حاف وناعل )
( ستملكها ما بين شرق ومغرب ... إلى درب قسطنطين أو أرض بابل )
انتهى كلام ابن سعيد وهو يؤيد كلام ابن خلدون أن المأمور بالخطبة هو القالي
وذكر أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه لقد أحسن ما شاء فلئن كان حبر خطبته هذه وأعدها مخافة

لبديع من قدرته واحتياطه ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنه لأعجب وأغرب
قال ابن سعيد ولما فرغ منذر من خطبته أنشد
( هذا المقام الذي ما عابه فند ... لكن قائله أزرى به البلد )
( لو كنت فيهم غريبا كنت مطرفا ... لكنني منهم فاغتالني النكد )
ويروى بدل هذا الشطر
( ولا دهاني لهم بغي ولا حسد ... )
( لولا الخلافة أبقى الله حرمتها ... ما كنت أرضى بأرض ما بها أحد )
قلت كأنه عرض بأبي علي القالي وتقديمهم إياه في هذا المقام والله أعلم
ومن نظم منذر بن سعيد قوله
( الموت حوض وكلنا نرد ... لم ينج مما يخافه أحد )
( فلا تكن مغرما برزق غد ... فلست تدري بما يجيء غد )
( وخذ من الدهر ما أتاك به ... ويسلم الروح منك والجسد )
( والخير والشر لا تذعه فما ... في الناس إلا التشنيع والحسد )
وله وقد آذاه شخص فخاطبه بالكنية فقيل له أيؤذيك وأنت تخاطبه بالكنية فقال
( لا تعجبوا من أنني كنيته ... من بعد ما قد سبنا وأذانا )
( فالله قد كنى أبا

ترجمة منذر في المطمح
وقال في المطمح منذر بن سعيد البلوطي آية حركة وسكون وبركة لم تكن معدة ولا تكون وآية سفاهة في تحلم وجهامة ورع في طي تبسم إذا جد وجد وإذا هزل نزل وفي كلتا الحالتين لم ينزل للورع من مرقب ولا اكتسب إثما ولا احتقب ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيام عبد الرحمن وناهيك من عدل أظهر ومن فضل أشهر ومن جور قبض ومن حق رفع ومن باطل خفض وكان مهيبا صليبا صارما غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخارج حق ورفع ظلم واستمر في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله ثم ولي ابنه الحكم فأقره وفي خلافته استعفى مرارا فما أعفي وتوفي بعد ذلك لم يحفظ عنه مدة ولايته قضية جور ولا عدت عليه في حكومته زلة وكان غزير العلم كثير الأدب متكلما بالحق متبينا بالصدق له كتب مؤلفة في السنة والقرآن والورع والرد على أهل الأهواء والبدع وكان خطيبا بليغا وشاعرا محسنا ولد عند ولاية المنذر بن محمد وتوفي سنة 355 ومن شعره في الزهد قوله
( كم تصابى وقد علاك المشيب ... وتعامى عمدا وأنت اللبيب )
( كيف تلهو وقد أتاك نذير ... أن سيأتي الحمام منك قريب )
( يا سفيها قد حان منه رحيل ... بعد ذلك الرحيل يوم عصيب )
( إن للموت سكرة فارتقبها ... لا يداوي إذا أتتك

( بأمور المعاد أنت عليم ... فاعملن جاهدا له يا أريب )
( وتذكر يوما تحاسب فيه ... إن من يدكر فسوف ينيب )
( ليس من ساعة من الدهر إلا ... للمنايا بها عليك رقيب )
ولعلنا نذكر شيئا من أحوال منذر في غير هذا الموضع
رجع لأخبار الناصر لدين الله حكى أنه لما أعذر لأولاد ابنه أبي مروان عبيد الله اتخذ لذلك صنيعا عظيما بقصر الزهراء لم يتخلف أحد عنه من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس فتخلف من بينهم المشاور أو إبراهيم وافتقد مكانه لارتفاع منزلته فسأل في ذلك الخليفة الناصر إذا أبو إبراهيم من أكابر علماء المالكية الذين عليهم المدار ووجد الناصر بسبب ذلك على أبي إبراهيم وأمر ابنه ولي العهد الحكم بالكتاب إليه والتفنيد له فكتب إليه الحكم رقعة نسختها بسم الله الرحمن الرحيم حفظك الله وتولاك وسددك ورعاك لما امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي أبقاه الله الأولياء الذين يستعد بهم وجدك متقدما في الولاية متأخرا عن الصلة على أنه قد أنذرك أبقاه الله خصوصا للمشاركة في السرور الذي كان عنده لا أعدمه الله توالي المسرة ثم أنذرت من قبل إبلاغا في التكرمة فكان منك على ذلك كله من التخلف ما ضاقت عليك فيه المعذرة واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليه فأعيت عليك عنك الحجة فعرفني أكرمك الله ما العذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته ومشاهدة السرور الذي سر به ورغب المشاركة في ه لنعرفه أبقاه الله بذلك فتسكن نفسه العزيزة إليه إن شاء الله تعالى فأجابه أبو إبراهيم سلام على الأمير سيدي ورحمة الله قرأت أبقى

سيدي هذا الكتاب وفهمته ولم يكن توقفي لنفسي إنما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقى الله سلطانه لعلمي بمذهبه وسكوني إلى تقواه واقتفائه لأثر سلفه الطيب رضوان الله عليهم فإنهم يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنوها بما يشينها ولا بما يغض منها ويطرق إلى تنقيصها يستعدون بها لدينهم ويتزينون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصادهم فلهذا تخلفت ولعلمي بمذهبه توقفت إن شاء الله تعالى فلما أقرأ الحكم أباه الناصر لدين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق أعجبه واستحسن اعتذاره وزال ما بنفسه عليه
وكان الفقيه أبو إبراهيم المذكور معظما عند الناصر وابنه الحكم وحق لهما أن يعظماه وقد حكى الفقيه أبو القاسم بن مفرج قال كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم رحمه الله تعالى فيمن يختلف إليه للتفقه والرواية فإني لعنده في بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره بجوفي قصر قرطبة ومجلسه حافل بجماعة الطلبة وذلك بين الصلاتين إذ دخل عليه خصي من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحكم فوقف وسلم وقال له يا فقيه أجب أمير المؤمنين أبقاه الله فإن الأمر خرج فيك وها هو اعفقال له سمعا وطاعة لأمير المؤمنين ولا عجلة فارجع إله وعرفه وفقه الله عني أنك وجدتني في بيت منبيوت الله تعالى معي طلاب العلم أسمعهم حديث ابن عمه رسول الله فهم يقيدونه عني وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة فإذا انقضى أمر من اجتمع إلي من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله

شأنه ومضى الخصي يهينم متضاجرا من توقفه فلم يك إلا ريثما أدى جوابه وانصرف سريعا ساكن الطيش فقال له يا فقيه أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله فأصغى إليه وهو يقول لك جزاك الله خيرا عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين وأمتعهم بك وإذا أنت أوعبت فامض إليه راشدا إن شاء الله تعالى وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي فقال له حسن جميل ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدة ويصعب علي ركب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي وباب الصناعة الذي يقرب إلي من أبواب القصر المكرم أحوط وأقرب وأرفق بي فإن رأى أمير المؤمنين أيده الله تعالى أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هون علي المشي وودع جسمي وأحب أن تعود وتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه وكذلك تعود إلي فإني أراك فتى سديدا فكن على الخير معينا ومضى عنه الفتى ثم رجع بعد حين وقال يا فقيه قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله ومنه خرجت إليك وأمرت بملازمتك مذكرا بالنهوض عند فراغك وقال افعل راشدا وجلس الخصي جانبا حتى أكمل أو إبراهيم مجلسه كأفسح ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق فلما انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب وقضى حاجته من لقائه ثم صرفه على ذلك الباب فأعيد إفلاقه على إثر خروجه قال ابن مفرج ولقد تعمدنا في تلك العشية إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهدود إغلاقه بدبر القصر لنرى تجشم الخليفة له فوجدناه كما وصف الخص مفتوح وقد حفه الخدم والأعوان منزعجين ما بين

كناس وفراش متأهبين لانتظار أبي إبراهيم فاشتد عجبنا لذلك وطال تحدثنا عنه انتهى فهكذا تكون العلماء مع الملوك والملوك معهم قدس الله تلك الأرواح
ثم توفي الناصر لدين الله ثاني أو ثالث شهر رمضان من عام خمسين وثلاثمائة أعظم ما كان سلطانه وأعز ما كان الإسلام بملكه
قال ابن خلدون خلف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات انتهى
وقال غير واحد إنه كان يقسم الجباية أثلاثا ثلث للجند وثلث للبناء وثلث مدخر وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار وأما أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان
وحكي أنه وجد بخط الناصر رحمه الله أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا وعدت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوما فاعجب أيها العاقل لهذه الدنيا وعدم صفائها وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها هذا الخليفة الناصر حلف السعود المضروب به المثل في الارتقاء في الدنيا والصعود ملكها خمسين سنة وستة أو سبعة أشهر وثلاثة أيام ولم تصف إلا أربعة عشر يوما فسبحان ذي العزة القائمة والمملكة الدائمة لا إله إلا هو
ومما ينسب للناصر من الشعر

( ما كل شيء فقدت إلا ... عوضني الله منه شيا )
( إني إذا ما منعت خيري ... تباعد الخير من يديا )
( من كان لي نعمة عليه ... فإنها نعمة عليا )

ترجمة أحمد بن عبد الملك بن شهيد
ومما زين الله به دولة الناصر وزراؤه الذين من جملتهم ابن شهيد قال في المطمح أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد مفخر الإمامة وزهر تلك الكمامة وحاجب الناصر عبد الرحمن وحامل الوزارتين على سموهما في ذلك الزمان استقل بالوزارة على ثقلها وتصرف فيها كيف شاء على حد نظرها والتفاف مقلها فظهر على أولئك الوزراء واشتهر مع كثرة النظراء وكانت إمارة عبد الرحمن أسعد إمارة بعد عنها كل نفس بالسوء أمارة فلم يطرقها صرف ولم يرمقها محذور بطرف ففرع الناس فيها هضاب الأماني ورباها ورتعت ظباؤها في ظلال ظباها وهو أسد على براثنه رابض وبطل أبدا على قائم سيفه قابض يروع الروم طيفه ويجوس خلال تلك الديار خوفه ويروى بل يحسم كل آونة سيفه وابن شهيد ينتج الآراء ويلقحها وينقد تلك الأنحاء وينقحها والدولة مشتملة بغنائه متجملة بسنائه وكرمه منتشر على الآمال ويكسو الأولياء بذلك الإجمال وكان له أدب تزخر لججه وتبهر حججه وشعره رقيق لا ينقد ويكاد من اللطافة يعقد فمن ذلك قوله
( ترى البدر منها طالعا فكأنما

( بعيدة مهوى القرط مخطفة الحشا ... ومفعمة الخلخال مفعمة القلب )
( من اللاء لم يرحلن فوق رواحل ... ولا سرن يوما في ركاب ولا ركب )
( ولا أبرزتهن المدام لنشوة وشدو كما تشدو القيان على الشرب )
وكان بينه وبين الوزير عبد الملك بن جهور متولي الأمر معه ومشاركه في التدبير إذا حضر مجتمعه منافسة لم تنفصل لهما بها مداخلة ولا ملابسة وكلاهما يتربص بصاحبه دائرة السوء وبغص به غصص الأفق بالنوء فاجتاز يوما على ربضه ومال إلى زيارته ولم تكن من غرضه فلما استأمر عليه تأخر خروج الإذن إليه فثنى عنانه حنقا من حجابه وضجرا من حجابه وكتب إليه معرضا وكان يلقب بالحمار
( أتيناك لا عن حاجة عرضت لنا ... إليك ولا قلب إليك مشوق )
( ولكننا زرنا بفضل حلومنا ... حمارا تولى برنا بعقوق )
فراجعه ابن جهور يغض منه بما كان يشيع عنه بأن جده أبا هشام كان بيطارا بالشام بقوله
( حجبناك لما زرتنا غير تائق ... بقلب عدو في ثياب صديق )
( وما كان بيطار الشآم بموضع ... يباشر فيه برنا بخليق
ومن شعره قوله يتغزل
( حلفت بمن رمى فأصاب قلبي ... وقلبه علىجمر الصدود )
( لقد أودى تذكره بقلبي ... ولست أشك أن النفس تودي

( فقيد وهو موجود بقلبي ... فواعجبا لموجود فقيد )
وقد تقدم الكلام على هدية ابن شهيد وبعض أخباره رحمة الله عليه

الحكم المستنصر
ولما توفي الناصر لدين الله تولى الخلافة بعده ولي عهده الحكم المستنصر بالله فجرى على رسمه ولم يفقد من ترتيبه إلا شخصه وولي حجابته جعفر المصحفي وأهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي مائة مملوك من الإفرنج ناشئة على خيول صافنة كاملو الشكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندية وثلاثمائة ونيف وعشرون درعا مختلفة الأجناس وثلاثمائة خوذة كذلك ومائة بيضة هندية وخمسون خوذة خشبية من بيضات الفرنجة من غير الخشب يسمونها الطشطانة وثلاثمائة حربة إفرنجية ومائة ترس سلطانية وعشرة جواشن فضة مذهبة وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس انتهى
قال ابن خلدون ولأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور فغزا الحكم المستنصر بنفسه واقتحم بلد فرذلند بن غندشلب

وفتحها عنوة واستباحها وقفل فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جليقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب فجمع له الجلالقة ولقيهم فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلد فرذلند ودوخها وكان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض فأغزاه الحكم التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر وجاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم وامتنعوا بقورية وعاثوا في نواحيها وقفل ثم أغزى الحكم أحمد بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة فعاثت العساكر في نواحيها وأغزى هذيل بن هاشم ومولاه غالبا إلى بلاد القومس فعاثا فيها وقفلا وعظمت فتوحات الحكم وقواد الثغور في كل ناحية وكان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس علىيد غالب فعمرها الحكم واعتنى بها ثم فتح ق طوبية على يد قائد وشقة وغنم فيها من الأموال والسلاح والأقوات والأثاث وفي بسيطها من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لايحصى
وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلد ألبة ومعه يحيى بن محمد ا لتجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون فابتنى حصن غرماج ودوخ بلادهم وانصرف
وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير وأفسدوا

القواد لاحتراس السواحل وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول ثم وردت الاخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل
ثم كانت وفادة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة وذلك أن الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير وهو ابن عمه وهو الملك من قبل أردون وحمل النصرانية على طاعته واستظهر أردون بصهره فرذلند قومس قشتيلة توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر فبادر إلى الوفادة على الحكم مشتجيرا به فاحتفل لقدومه وعبى العساكر ليوم وفادته وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله ووصل إلى الحكم وأجلسه ووعده بالنصر من عدوه وخلع عليه وكتب بوصوله ملقيا بنفسه وعاقده على موالاة الإسلام ومقاطعة فرذلند القومس وأعطى على ذلك صفقة يمينه ورهن ولده غرسية ودفعت الصلات والحملان له ولأصحابه وانصرف معه وجوه نصارى الذمة ليوطدوا له الطاعة عند رعيته ويقبضوا رهنه
وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قواميس أهل جليقية وسمورة وأساقفتهم يرغب في قبوله ويمت بما فعل ابوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين
ثم بعث ملكا برشلونة وطركونة وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه وبعثا بهدية وهي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة وعشرون قنطارا من صوف السمور وهمسة قناطير من القصدير وعشرة أدراع صقلبية

الحصون التي تضر بالثغور وأن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين
ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة مك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح بعد أن كان توقف وأظهر المكر فقعد لهم الحكم فاغتبطوا ورجعوا
ثم وفدت على الحكم أم لذريق بن بلاشك القومس بالغرب من جليقية وهو القومس الأكبر فأخرج الحكم لتلقيها أهل دولته واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور فوصلت وأسعفت وعقد السلم لابنها كما رغبت ودفع لها مالا تقسمه بين وفدها دون ما وصلت به هي وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها وانطلقت
ثم أوطأ عساكره ارض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة فبثوها في أعمالهم وخطبوا بها على منابرهم وزاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم ووفد عليه من بني خزر وبنى أبي العافية فأجزل صلتهم وأكرم وفادتهم وأحسن منصرفهم واستنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف وأجازهم البحر إلى قرطبة ثم جلاهم إلى الإسكندرية
وكان محبا للعلوم مكرما لأهلها جماعا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله قال أبو محمد بن حزم أخبرني تليد الخصي وكان على خزانة العلوم والكتب بدار بني مروان أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة وفي كل فهرسة

إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير وأقام للعلم والعلماء سوقا نافقة جلبت إليها بضائعه من كل قطر ووفد على أبيه أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه وحسنت منزلته عنده وأورث أهل الأندلس علمه واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه وكن يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لميعهدوه وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني وكان نسبه في بني امية وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده إلا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوى انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار
ولنبسط الكلام على الحكم فنقول إن الحكم المستنصر اعتلى سرير الملك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس وقام بأعباء الملك أتم قيام وأنفذ الكتب إلى الآفاق بتمام الأمر له ودعا الناس إلى بيعته واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه وتثقيف مملكته وضبط قصوره وترتيب أجناده وأول ما أخذ

البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر كجعفر صاحب الخيل والطراز وغيره من عظمائهم وتكفلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الاكابر من الكتاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء فبايعوه فلما كملت بيعةأهل القصر تقدم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض إلى أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلف بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة وتقدم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضا إلى أبي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني فمضى إليهما كل واحد منهما في قطيع من الجند وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء ونفذ غيرهما من وجوه الرجال في الخيل لإتيان غيرهما من الإخوة وكانوا يومئذ ثمانية فوافى جميعهم الزهراء في الليل فنزلوا في مراتبهم بفصلان دار الملك وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الأوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرد فأول من وصل إليه الإخوة فبايعوه وأنصتوا لصحيفة البيعة والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله إلا عيسى بن فطيس فإنه كان قائما يأخذ البيعة على الناس وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة فاصطف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يمينا وشمالا إلى آخر البهوكل منهم على قدره في المنزلة عليهم الظهائر البيض شعار الحزن قد تقلدوا فوقها السيوف ثم تلاهم الفتيان الوصفاء عليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية صفين منتظمين في السطح وفي الفصلان المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض بأيديهم السيوف يتصل بهم من دونهم من طبقات

الخصيان الصقالبة ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيهم وجعابهم ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدة الكاملة وقامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجاله العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض وعلى رؤوسهم البيضات الصقيلة وبأيديهم التراس الملونة والأسلحة المزينة انتظموا صفين إلى آخر الفصل وعلى باب السدة الأعظم البوابون وأعوانهم ومن خارج باب السدة فرسان العبيد إلى باب الأقباء واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة موكبا إثر موكب إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء فلما تمت البيعة أذن للناس بالانفضاض إلا الإخوة والوزرء وأهل الخدمة فإنهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر رحمه الله إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء
وفي ذي الحجة من سنة خمسين تكاثرت الوفود بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر ابن سعيد والملأ فأخذت عليهم البيعة ووقعت الشهادات في نسخها

وفود أردون على المستنصر
وفي آخر صفر من سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر بالله مولييه محمدا وزيادا ابني أفلح الناصري بكتيبة من الحشم لتلقي غالب الناصري صاحب مدينة سالم المورد للطاغية أردون بن أذفونش الخبيث في الدولة المتملك على طوائف من أمم الجلالقة والمنازع لابن عمه المملك قبله شانجة بن رذمير وتبرع هذا

طالب إذن ولا مستظهر بعهد وذلك عندما بلغه اعتزام الحكم المستنصر بالله في عامه ذلك على الغزو إليه وأخذه في التأهب له فاحتال في تأميل المستنصر بالله والارتماء عليه وخرج قبل أمان يعقد له أو ذمة تعصمه في عشرين رجلا من وجوه أصحابه تكنفهم غالب الناصري الذي خرجوا إليه فجاء به نحو مولاه الحكم وتلقاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم ثم تحركا بهم ثاني يوم نزولهم إلى قرطبة فأخرج المستنصر بالله إليهم هشاما المصحفي في جيش عظيم كامل التعبية وتقدموا إلى باب قرطبة فمروا بباب قصرها فلما انتهى أردون إلى ما بين باب السدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر في الروضة فخلع قلنسوته وخضع نحو مكان القبر ودعا ثم رد قلنسوته إلى رأسه وأمر المستنصر بإنزال أردون في دار الناعورة وقد كان تقدم في فرشها بضروب الغطاء والوطاء وانتهى من ذلك إلى الغابة وتوسع له في الكرامة ولأصحابه فأقام بها الخميس والجمعة فلما كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بعد إقامة الترتيب وتعبية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح وقعد الإخوة وبنوهم والوزراء ونظراؤهم صفا في المجلس فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكام والفقهاء فأتى محمد بن القاسم بن طملس بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه ثوب ديباجي رومي أبيض وبليوال من جنسه وفي لونه وعلى رأسه قلنسوة رومية

بجوهر وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه فيهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة وغيرهما فدخل بين صفي الترتيب يقلب الطرف في نظم الصفوف ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسحلتها ورائق حليتها فراعهم ما أبصروه وصلبوا على وجوههم وتأملوا ناكسي رؤوسهم غاضين من أجفانهم قد سكرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أول باب قصر الزهراء فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه وتقدم الملك أردون وخاصة قوامسه على دوابهم حتى انتهوا إلى باب السدة فأمر القوامس بالترجل هنالك والمشي على الأقدام فترجلوا ودخل الملك أردون وحده راكبا مع محمد بن طملس فأنزل في برطل البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوالأوصال بالفضة وفي هذا المكان بعينه نزل قبله عدوه ومناوئه شانجة بن رذمير الوافد على الناصر لدين الله رحمه الله تعالى فقعد أردون على الكرسي وقعد أصحابه بين يديه وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح فلما قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسرا إعظاما لما بان له من الدنو إلى السرير واستنهض فمضي بين الصفين المرتبين في ساحة السطح إلى أن قطع السطح وانتهى إلى باب

خر ساجدا سويعة ثم استوى قائما ثم نهض خطوات وعاد إلى السجود ووالى ذلك مرارا إلى أن قدم بين يدي الخليفة واهوى إلى يده فناوله إياها وكر راكعا مقهقرا على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب جعل له هنالك ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير فجلس عليه والبهر قد علاه وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأتباعه فدنوا ممتثلين في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا على رأس ملكهم ووصل بوصولهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة فكان الترجمان عن الملك أردون ذلك اليوم فأطرق الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أمامه وقتا كيما يفرخ روعة فلما رأى أن قد خفض عليه افتتح تكليمه فقال ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته فلما ترجم له كلامه إياه تطلق وجه أردون وانحط عن مترتبته فقبل البساط وقال أنا عبد أمير المؤمنين مولاي المتروك على فضله القاصد إلى مجده المحكم في نفسه ورجاله فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته رجوت أن أتقدم فيه بينة صادقة ونصيحة خالصة فقال له الخليفة أنت عندنا بمحل من يستحق حسن رأينا وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملتك ما يغبطك وتتعرف به فضل جنوحك إلينا واستظلالك بظل سلطاننا فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة وابتهل داعيا وقال إن شانجة ابن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي مستجيرا به مني فكان من إعزازه إياه ما بكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأملهم وكان قصده قصد مضطر قد شنأته رعيته وأنكرت سيرته واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك ولا دعاء إليه فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرا مضطهدا فتطول عليه رحمه الله

وقوي سلطانه وأعز نصره ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه وقصر في أداء المفروض عليه وحقه وحق مولاي أمير المؤمنين من بعده وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة من قرارة سلطاني وموضع أحكامي محكما له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي فشتان ما بيننا بقوة الثقة ومطرح الهمة فقال الخليفة قد سمعنا قولك وفهمنا مغزاك وسوف يظهر من إقراضنا إياك على الخصوصية شأنه ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا رضي الله تعالى عنه إلى ندك وإن كان له فضل التقدم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا فليس ذلك مما يؤخرك عنه ولا ينقصك مما أنلناك وسنصرفك مغبوطا إلى بلدك ونشد أواخي ملكك ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك ونعقد لك بذلك كتابا يكون بيدك نقرر به حد ما بينك وبين ابن عمك ونقبضه عن كل ما يصرفه من البلاد إلى يدك وسيترادف عليك من إفضالنا فوق ما احتسبه والله على ما نقول وكيل
فكرر أردون الخضوع ت وأسهب في الشكر وقام للانصراف مقهقرا لا يولي الخليفة ظهره وقد تكنفه الفتيان فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح وقد علاه البهر وأذهله الروع من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزة فلما أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خاليا منه انحط ساجدا إعظاما له ثم تقدم الفتيان به إلى البهو الذي بجوفي هذا المجلس فأجلسوه هنالك على وساد مثقل بالذهب وأقبل نحوه الحاجب جعفر فلما

فقبضها الحاجب عنه وانحنى إليه فعانقه وجلس معه فغبطه ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة وكانت دراعة منسوجة بالذهب وبرنسا مثلها له لوزة مفرغة من خالص التبر مرصعة بالجوهر والياقوت ملأت عين العلج تجلة فخر ساجدا وأعلن بالدعاء ثم دعا الحاجب أصحابه رجلا رجلا فخلع عليهم على قدر استحقاقهم فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم وخر جميعهم خانعين شاكرين ثم انطلق الملك أردون وأصحابه وقدم لركابه في أول البهو الأوسط فرس من عتاق خيل الركاب عليه سرج حلي ولجام حلي مفرغ وانصرف مع ابن طملس إلى قصر الرصافة مكان تضييفه وقد أعد له فيه كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون واستقر أصحابه فيما لا كفاء له من سعة التضييف وإرغاد المعاش
واستشعر الناس من مسرة هذا اليوم وعزة الإسلام فيه ما أفاضوا في التبجح به والتحدث عنه أياما وكانت للخطباء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان وإنشادات لأشعار محكمة متان يطول القول في اختيارها فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول
( ملك الخليفة آية الإقبال ... وسعوده موصولة بتوالي )
( والمسلمون بعزة وبرفعة ... والمشركون بذلة وسفال )
( ألقت بأيديها الأعاجم نحوه ... متوقعين لصولة الرئبال )
( هذا أميرهم أتاه آخذا ... منه أواصر ذمة وحبال )
( متواضعا لجلاله متخشعا ... متبرعا لما يرع بقتال )
( سينال بالتأميل للملك الرضى ... عزا يعم عداه الإذلال )

( لا يوم أعظم للولاة مسرة ... وأشده غيظا على الإقيال )
( من يوم أردون الذي إقباله ... أمل المدى ونهاية الإقبال )
( ملك الأعاجم كلها ابن ملوكها ... والي الرعاة وللأعاجم والي )
( إن كان جاء ضرورة فلقد أتى ... عن عز مملكة وطوع رجال )
( فالحمد لله المنيل إمامنا ... حظ الملوك بقدره المتعالي )
( هو يوم حشر الناس إلا أنهم ... لم يسألوا فيه عن الأعمال )
( أضحى الفضاء مفعما بجيوشه ... والأفق أقتم أغبر السربال )
( لا يهتدي الساري لليل قتامة ... إلا بضوء صوارم وعوالي )
( وكأن أجسام الكماة تسربلت ... مذ عريت عنه جسوم صلال )
( وكأنما العقبان عقبان الفلا ... منقضة لتخطف الضلال )
( وكأن منتصب القنا مهتزة ... أشطان نازحة بعيدة جال )
( وكأنما قبل التجافيف اكتست ... نارا توهجها بلا إشعال )

عود إلى سيرة الحكم
وقال بعض المؤرخين في حق الحكم المستنصر عن فتاه تليد صاحب خزانته العلمية فيما حدث عنه الحافظ أبو محمد بن حزم إن عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط انتهى وقد قدمناه عن ابن خلدون ونقله ابن الأبار في التكملة
وقال بعض المؤرخين في حق الحكم إنه كان حسن السيرة

عليه جمع من الكتب ما يحد ولا يوصف كثرة ونفاسة حتى قيل إنها كانت أربعمائة ألف مجلد وإنهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها وكان عالما نبيها صافي السريرة وسمع من قاسم بن أصبغ وأحمد بن دحيم ومحمد ابن عبد السلام الخشني وزكريا بن خطاب وأكثر عنه وأجاز له ثابت بن قاسم وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء وكان يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي باذلا فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه وكان ذا غرام بها قد آثر ذلك على لذات الملوك فاستوسع علمه ودق نظره وجمت استفادته وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيا نسيج وحده وكان ثقة فيما ينقله بهذا وصفه ابن الأبار وبأضعافه وقال عجبا لابن الفرضي وابن بشكوال كيف لم يذكراه وقلما يوجد كتاب من خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن
ومما ينسب إليه من النظم قوله
( إلى الله أشكو من شمائل مترف ... علي ظلوم لا يدين بما دنت )
( نأت عنه داري فاستزاد صدوده ... وإني على وجدي القديم كما كنت )
( ولو كنت أدري أن شوقي بالغ ... من الوجد ما بلغته لم أكن بنت )
وقوله
( عجبت وقد ودعتها كيف لم أمت ... وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي )
( فيما مقلتي العبرى عليها

وتوفي رحمه الله تعالى بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستين وثلاثمائة لست عشرة سنة من خلافته وكان أصابه الفالج فلزم الفراش إلى أن هلك رحمه الله تعالى وكان قد شدد في إبطال الخمر في مملكته تشديدا عظيما

خلافة هشام بن الحكم وتسلط المنصور بن أبي عامر
وولي بعده ابنه هشام صغيرا سنة تسع سنين ولا ينافيه قول ابن خلدون قد ناهز الحلم وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر ونقله من خطة القضاء إلى وزارته وفوض إليه أموره فاستقل
قال ابن خلدون وترقب حال ابن أبي عامر عند الحكم فلما توفي الحكم وبويع هشام ولقب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ المغيرة أخو الحكم المرشح لأمره تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة من جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه وغالب مولىالحكم مدينة سالم ومن خصيان القصر يومئذ ورؤسائهم فائق وجؤذر فقتل ابن أبي عامر المغيرة بممالأة من ذكر وتمت البيعة لهشام ثم سما لابن لأبي عامر أمل في التغلب على هشام لمكانه في السن وثاب له رأي في الاستبداد فمكر بأهل الدولة وضرب بين رجالها وقتل بعضا ببعض وكان من رجال اليمنية من معافر دخل جده عبد الملك مع طارق وكان عظيما في قومه وكان له في الفتح أثر وعظم ابن أبي عامر هذا وغلب على المؤيد ومنع الوزراء من الوصول إليه إلا في في النادر من الأيام يسلمون وينصرفون وأرضخ للجند في العطاء وأعلى مراتب العلماء وقمع أهل البدع وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه فمال عليهم

مراتبهم وقتل بعضا ببعض كل ذلك عن أمر هشام وخطه وتوقيعه حتى استأصلهم وفرق جموعهم وأول ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدام بالقصر فحمل الحاجب المصحفي على نكبتهم فنكبهم وأخرجهم من القصر وكانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم وبالغ في خدمته والتنصح له واستعان به على المصحفي فنكبه ومحا أثره من الدولة ثم استعان على غالب بجعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة وقائد الشيعة ممدوح ابن هانىء بالفائية المشهورة وغيرها وهو النازع إلى الحكم أول الدولة بمن كان معه من زناته والبربر ثم قتل جعفرا بممالأة ابن عبد الودود وابن جهور وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم ثم لما خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشحين للرياسة رجع إلى الجند فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتب منهم جندا واصطنع أولياء وعرف عرفاء من صنهاجة ومغراوة وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم فتغلب على هشام وحجره واستولى على الدولة وملأ الدنيا وهو في جوف بيته من تعظيم الخلافة والخضوع لها ورد الأمور إليها وترديد الغزو والجهاد وقدم رجال البرابرة وزناتة وأخر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر وبنى لنفسه مدنة لنزله سماها الزاهرة ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة وقعد على سرير الملك وأمر أن يحيا بتحية الملوك وتسمى بالحاجب المنصور ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقب الدعاء للخليفة ومحا رسم الخلافة بالجملة ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء

المنابر وكتب اسمه في السكة والطرز وأغفل ديوانه مما سوى ذلك وجند البرابرة والمماليك واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرتبة وقهر من تطاول إليها من العلية فظفر من ذلك بما أراد وردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب فغزا ستا وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم تنتكس له فيها راية ولا فل له جيش وما أصيب له بعث وما هلكت له سرية وأجاز عساكره إلى العدوة وضرب بين ملوك البرابرة وضرب بعضهم ببعض فاستوثق له ملك المغرب وأخبتت له ملوك زناتة وانقادوا لحكمه وأطاعوا سلطانه وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر ولما سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه ما بلغه من إعلانه بالنيل منه والغض من منصبه والتأفف لحجر الخليفة هشام أوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين ونزل بفاس وملكها وعقد لملوك زناتة على ممالك المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها وشرد زيري بن عطية إلى تاهرت فأبعد المفر وهلك في مفره ذلك ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة واستعمل واضحا على المغرب وهلك المنصور أعظم ما كان ملكا وأشد استيلاء سنة أربع وتسعين وثلاثمائة بمدينة سالم منصرفة من بعض غزواته ودفن هنالك وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه انتهى كلام ابن خلدون وبعضه بالمعنى وزيادة يسيره
ولا بأس أن نزيد عليه فنقول مما حكي أنه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى
( آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه )
( تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبدا ولا يحمي الثغور سواه )
وعن شجاع مولى المستعين بن هود لما توجهت إلى

مدينة سالم وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره وامرأته متكئة إلى جانبه فقال لي يا شجاع أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين وجلست على قبر ملكهم قال فحملتني الغيرة ان قلت له لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه ولا استقر بك قرار فهم بي فحالت امرأته بيني وبينه وقالت له صدقك فيما قال أيفخر مثلك بمثل هذا
وهذا تلخيص ترجمة المنصور من كلام ابن سعيد قال رحمه الله ترجمة الملك الأعظم المنصور أبي عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر ابن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري من قرية تركش وعبد الملك جده هو الوافد على الأندلس مع طارق في أول الداخلين من العرب وأما المنصور فقد ذكره ابن حيان في كتابه المخصوص بالدولة العامرية والفتح في المطمح والحجاري في المسهب والشقندي في الطرف وذكر الجميع أن أصله من قرية تركش وأنه رحل إلى قرطبة وتأدب بها ثم اقتعد دكانا عند باب القصر يكتب فيه لمن يعن له كتب من الخدم والمرافعين للسلطان إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيد من يكتب عنها فعرفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر فترقى إلى أن كتب عنها فاستحسنته ونبهت عليه الحكم ورغبت في تشريفه بالخدمة فولاه قضاء بعض المواضع فظهرت منه نجابة فترقى إلى الزكاة والمواريث بإشبيلية وتمكن في قلب السيدة بما استمالها به من التحف والخدمة ما لم يتمكن لغيره ولم يقصر مع ذلك في خدمة المصحفي الحاجب إلى أن توفي الحكم وولي ابنه هشام المؤيد وهو ابن اثنتي عشرة سنة فجاشت الروم فجهز المصحفي ابن أبي عامر لدفاعهم فنصره الله عليهم وتمكن حبه من قلوب الناس

وكان جوادا عاقلا ذكيا استعان بالمصحفي على الصقالبة ثم بغالب على المصحفي وكان غالب صاحب مدينة سالم وتزوج ابن أبي عامر ابنته أسماء وكان اعظم عرس بالأندلس ثم بجعفر بن علي الأندلسي ممدوح ابن هانىء على غالب ثم بعبد الرحمن بن محمد بن هشام التجيبي على جعفر وله في الحزم والكيد والجلد ما أفرد له ابن حيان تأليفا وعدد عزواته المنشاة من قرطبة نيف وخمسون غزوة ولم تهزم له راية وقبره بمدينة سالم في أقصى شرق الأندلس
ومن شعره
( رميت بنفسي هول كل عظيمة ... وخاطرت والحر الكريم يخاطر )
( وما صاحبي إلا جنان مشيع ... وأسمر خطي وأبيض باتر )
( فسدت بنفسي أهل كل سيادة ... وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر )
( وما شدت بنيانا ولكن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامر )
( رفعنا المعالي بالعوالي حديثه ... وأورثناها في القديم معافر )
وجوده مع صاعد البغدادي اللغوي مشهور
وصدر عن بعض غزواته فكتب إليه عبد الملك بن شهيد وكان قد تخلف عنه
( أنا شيخ والشيخ يهوى الصبايا ... يا بنفسي أقيك كل الرزايا )
( ورسول الإله أسهم في الفي ... ء لمن لم يخب فيه المطايا )
فبعث إليه بثلاث جوار من أجمل السبي

( قد بعثنا بها كشمس النهار ... في ثلاث من المها أبكار )
( وامتحنا بعذرة البكر إن كن ... ترجي بوادر الإعذار )
( فاجتهد وابتدر فإنك شيخ ... قد جلا ليلة بياض النهار )
( صانك الله من كلالك فيها ... فمن العار كلة المسمار )
فافتضهن من ليلته وكتب له بكرة
( قد مضضنا ختام ذاك السوار ... واصطبغنا من النجيع الجاري )
( وصبرنا على دفاع وحرب ... فلعبنا بالدر أو بالدراري )
( وقضى الشيخ ما قضى بحسام ... ذي مضاء عضب الظبا بتار )
( فاصطنعه فليس يجزيك كفرا ... واتخذه فحلا على الكفار )
وقدم بعض التجار ومعه كيس فيه ياقوت نفيس فتجرد ليسبح في النهر وترك الكيس وكان أحمر على ثيابه فرفعته حدأة في مخالبها فجرى تابعا لها وقد ذهل فتغلغلت في البساتين وانقطعت عن عينه فرجع متحيرا فشكا ذلك إلى بعض من يأنس به فقال له صف حالك لابن أبي عامر فتلطف في وصف ذلك بين يديه فقال ننظر إن شاء الله تعالى في شأنك وجعل يستدعي أصحاب تلك البساتين ويسأل خدامها عمن ظهر عليه تبديل حال فأخبروه أن شخصا ينقل الزبل اشترى حمارا وظهر من حاله ما لم يكن قبل ذلك فأمر بمجيئه فلما وقعت عينه عليه قال له أحضر الكيس الأحمر فتملك الرعب قلبه وارتعش وقال دعني آتي به من منزلي فوكل به

مسرة صاحبه فجبره ودفعه إلى صاحبه فقال والله لأحدثن في مشارق الأرض ومغاربها أن ابن أبي عامر يحكم على الطيور وينصف منها والتفت ابن أبي عامر إلى الزبال فقال له لو أتيت به أغنيناك لكن تخرج كفافا لا عقابا ولا ثوابا
وتوفي رحمه الله في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وحمل في سريره على أعناق الرجال وعسكره يحف به وبين يديه إلى أن وصل إلى مدينة سالم
ودامت دولته ستا وعشرين سنة غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف انتهى كلام ابن سعيد وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون

الحاجب المصحفي عن المطمح
وقال الفتح في المطمح في حق المصحفي الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ما صورته تجرد للعليا وتمرد في طلب الدنيا حتى بلغ المنى وتسوغ ذلك الجنى ووصل إلى المنتهى وحصل علىما اشتهى دون مجد تفرع من دوحته ولا فخر نشأ بين مغداه وروحته فسما دون سابقة ورمى إلى رتبة لم تكن لنفسه مطابقة فبلغ بنفسه ونزع عن جنسه ولم يزل يستقل ويضطلع وينتقل من مطلع إلى مطلع حتى التاح في أفق الخلافة وارتاح إليها بعطفه كنشوان السلافة واستوزره المستنصر وعنه كان يسمع وبه يبصر

ما أدرك ونصب لأمانيه الحبائل والشرك فاقتنى اقتناء مدخر وأزرى بمن سواه وسخر واستعطفه ابن أبي عامر ونجمه غائر لم يلح وسره مكتوم لم يبح فما عطف ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف وأقام في تدبير الأندلس ما أقام وبرهانه مستقيم ومن الفتن عقيم وهو يجري من السعد في ميدان رحب ويكرع من العز في مشرب عذب ويفض ختام السرور وينهض بملك على لبته مزرور وكان له أدب بارع وخاطر إلى نظم القريض مسارع فمن محاسنه التي بعثها إيناس دهره وإسعاده وقاله حين ألهته سلماه وسعاده قوله
( لعينيك في قلبي علي عيون ... وبين ضلوعي للشجون فنون )
( نصيبي من الدنيا هواك وإنه ... غذائي ولكني عليه ضنين )
وستأتي هذه الترجمة من المطمح الصغير إن شاء الله تعالى بما فيه بعض زيادة ونقصان في الباب الرابع

ترجمة ابن أبي عامر في المطمح
وقال في المطمح في حق ابن أبي عامر إنه تمرس ببلاد الشرك أعظم تمرس ومحا من طواغيتها كل تعجرف وتغطرس وغادرهم صرعى البقاع وتركهم أذل من وتد بقاع ووالى على بلادهم الوقائع وسدد إلى أكبادهم سهام الفجائع وأغص بالحمام أرواحهم ونغص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم ومن أوضح الأمور هنالك وأفصح الأخبار في ذلك أن أحد رسله كان كثير الإنتياب لذلك الجناب فسار في بعض مسيراته

صاحب البشكنس فوالى في إكرامه وتناهى في بره واحترامه فطالت مدته فلا متنزه إلا مر عليه متفرجا ولا منزل إلا سار عليه معرجا فحل في ذلك أكثر الكنائس هنالك فبينا هو يجول في ساحتها ويجيل العين في مساحتها إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر قويمة على طول الكسر فكلمته وعرفته بنفسها وأعلمته وقالت له أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بوسها ويتمتع بلبوس العافية وقد نضت لبوسها وزعمت أن لها عدة سنين بتلك الكنيسة محبسة وبكل ذل وصغار ملبسة وناشدته الله في إنهاء قصتها وإبراء غصتها واستحلفته بأغلظ الأيمان وأخذت عليه في ذلك اوكد مواثيق الرحمن فلما وصل إلى المنصور عرفه بما يجب تعريفه به وإعلامه وهو مصغ إليه حتى تم كلامه فلما فرغ قال له المنصور هل وقفت هناك على أمر أنكرته أم لم تقف على غير ما ذكرته فأعلمه بقصة المراة وما خرجت عنه إليه وبالمواثيق التي أخذت عليه فعتبه ولامه على أن لم يبدأ بها كلامه ثم أخذ للجهاد من فوره وعرض من من الأجناد في نجده وغوره وأصبح غازيا على سرجه مباهيا مروان يوم مرجه حتى وافى ابن شانجة في جمعه فأخذت مهابته ببصره وسمعه فبادر بالكتاب إليه يتعرف ما الجلية ويحلف له بأعظم ألية أنه ما جنى ذنبا ولا جفا عن مضجع الطاعة جنبا فعنف أرساله وقال لهم كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورة وما مأسور ولو حملته في حواصلها النسور وقد بلغني بعد بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها وأقسم أنه ما أبصرهن ولا سمع بهن وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها فد بالغ في هدمها تحقيقا لقوله وتضرع إليه في الأخذ فيه بطوله فاستحيا منه وصرف الجيش عنه وأوصل المرأة إلى نفسه وألحف توحشها بأنسه وغير من حالها وعاد بسواكب نعماه على جدبها وإمحالها

وقال في المطمح أيضا في حقه ما نصه فرد نابه على من تقدمه وصرفه واستخدمه فإنه كان أمضاهم سنانا وأذكاهم جنانا وأتمهم جلالا وأعظمهم استقلالا فآل أمره إلى ما آل وأوهم العقول بذلك المآل فإنه كان آية الله في اتفاق برفعة القدر واستظهر بالأناة وسعة الصدر وتحرك فلاح نجم الهدو سعده وقربه من الملك بعد بعده بهر وتملك فما خفق بأرضه لواء عدو بعد خمول كابد منه غصصا وشرقا وتعذر مأمول طارد فيه سهرا وأرقا حتى أنجز له الموعود وفر نحسه أمام تلك السعود فقام بتدبير الخلافة وأقعد من كان له فيها إنافة وساس الأمور أحسن سياسة وداس الخطوب بأخشن دياسة فانتظمت له الممالك واتضحت به المسالك وانتشر الأمن في كل طريق واستشعر اليمن كل فريق وملك الأندلس بضعا وعشرين حجة لم تدحض لسعادتها حجة ولم تزخر لمكروه بها لجة ليست فيه البهاء والإشراق وتنفست عن مثل أنفاس العراق وكانت أيامه أحمد أيام وسهام بأسه أسد سهام غزا الروم شاتيا وصائفا ومضى فيما يروم زاجرا وعائقا فما مر له غير سنيح ولا فاز إلا بالمعلى لا بالمنيح فأوغل في تلك الشعاب وتغلغل حتى راع ليث الغاب ومشى تحت ألويته صيد القبائل واستجرت في ظلها بيض الظبا وسمر الذوابل وهو يقتضي الأرواح بغير سوم وينتضي الصفاح على كل روم ويتلف من لا ينساق للخلافة وينقاد ويخطف منهم كل كوكب وقاد حتى استبد وانفرد وأنس إليه من الطاعة ما نفر وشرد وانتظمت له الأندلس بالعدوة واجتمعت في ملكه اجتماع قريش بدار الندوة ومع هذا لم يخلع اسم الحجابة ولم يدع السمع لخليفته والإجابة ظاهر يخالفه الباطن واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن وأذل قبائل الأندلس

الأكابر فإنه قاومهم بأضدادهم واستكثر من أعدادهم حتى تغلبوا على الجمهور وسلبوا عنهم الظهور ووثبوا عليهم الوثوب المشهور الذي أعاد أكثر الأندلس قفرا يبابا وملأها وحشا وذئابا وأعراها من الأمان برهة من الزمان وعلى هذه الهيئة فهو وابنه المظفر كانا آخر سعد الأندلس وحد السرور بها والتأنس وغزواته فيها شائعة الأثر رائعة كالسيف ذي الأثر وحسبه وافر ونسبه معافر ولذا قال يفتخر رميت بنفسي . . . الأبيات وزاد هنا بعد قوله أبيض باتر بيتا وهو
( وإني لزجاء الجيوش إلى الوغى ... أسود تلاقيها أسود خوادر )
( وكانت أمه تميمة فحاز الشرف بطرفيه والتحف بمطرفيه ولذا قال القسطلي فيه
( تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلالا في العلا وبدور )
( من الحميريين الذين أكفهم ... سحائب تهمي بالندى وبحور )
وتصرف قبل ولايته في شتى الولايات وجاء من التحدث بمنتهى أمره بآيات حتى صح زجره وجاء بصبحه فجره تؤثر عنه في ذلك أخبار فيها عجب واعتبار وكان أديبا محسنا وعالما متفننا فمن ذلك قوله يمني نفسه بملك مصر والحجاز ويستدعي صدور تلك الأعجاز
( منع العين أن تذوق المناما ... حبها أن ترى الصفا والمقاما )
( لي ديون بالشرق عند أناس ... قد أحلوا بالمشعرين الحراما )
( إن قضوها نالوا الأماني وإلا

( عن قريب ترى خيول هشام ... يبلغ النيل خطوها والشآما )
انتهى ما نقلته من المطمح

أخبار في سيرة المنصور
وفي المنصور المذكور أيضا قال بعض مؤرخي المغرب مازجا كلامه ببعض كلام الفتح بعد ذكر استعانته ببعض الناس على بعض وذكر قتله لجعفر ابن علي فقال بعده ما صورته ثم انفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر هل من مبارز فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه فانقاد له وساعده فاستقام أمره منفردا بمملكة لا سلف له فيها ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها وما توجهت عليه هزيمة وما انصرف عن موطن إلا قاهرا غالبا على كثرة ما زاول من الحروب ومارس من الأعداء وواجه من الأمم وإنها لخاصة ما أحسب أحدا من الملوك الإسلامية شاركه فيها ومن أعظم ما أعين به مع قوة سعده وتمكن جده سعة جوده وكثرة بذله فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان وأول ما اتكأ على أرائك الملوك وارتفق وانتشر عليه لواء السعد وخفق حط صاحبه المصحفي وأثار له كامن حقده الخفي حتى أصاره للهموم لبيسا وفي غيابات السجن حبيسا فكتب إليه يستعطفه بقوله
( هبني أسأت فأين العفو والكرم ... إذ قادني نحوك الإذعان والندم )

( بالغت في السخط فاصفح صفح مقتدر ... إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا )
فما زاده ذلك إلا حنقا وحقدا وما أفادته الأبيات إلا تضرما ووقدا فراجعه بما أيأسه وأراه مرمسه وأطبق عليه محبسه وضيق تروحه من المحنة وتنفسه
( الآن يا جاهلا زلت بك القدم ... تبغي التكرم لما فاتك الكرم )
( أغريت بي ملكا لولا تثبته ... ما جاز لي عنده نطق ولا كلم )
( فايأس من العيش إذ قد صرت في طبق ... إن الملوك إذا ما استنقموا نقموا )
( نفسي إذا سخطت ليست براضية ... ولو تشفع فيك العرب والعجم )
وكان من أخباره الداخلة في أبواب البر والقربة بنيان المسجد الجامع إلى أن قال
ومن ذلك بناؤه قنطرة على نهر قرطبة الأعظم ابتدأ بناءها المنصور سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وفرغ منها في النصف من سنة تسع وسبعين وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار فعظمت بها المنفعة وصارت صدرا في مناقبه الجليلة وكانت هنالك قطعة أرض لشيخ من العامة ولم يكن للقنطرة عدول عنها فأمرالمنصور أمناءه بإرضائه فيها فحضر الشيخ عندهم فساوموه بالقطعة وعرفوه وجه الحاجة إليها وأن المنصور لا يريد إلا إنصافه فيها فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده فيما ظنه أنها لا تخرج عنه بأقل من عشرة دنانير ذهبا كانت عنده أقصى الأمنية وشرطها صحاحا فاغتنم الأمناء غفلته ونقدوه الثمن وأشهدوا عليه ثم أخبروا المنصور بخبره فضحك من جهالته وأنف من غبنه وأمر أن يعطى عشرة أمثال

وتدفع له صحاحا كما قال فقبض الشيخ مائة دينار ذهبا فكاد أن يخرج من عقله وأن يجن عند قبضها من الفرح وجاء محتفلا في شكر المنصور وصارت قصته خبرا سائرا
ومن ذلك أيضا بناء قنطره على نهر إستجة وهو نهر شنيل وتجشم لها أعظم مؤنة وسهل الطريق الوعرة والشعاب الصعبة
ومن ذلك أيضا أنه خط بيده مصحفا كان يحمله معه في أسفاره يدرس فيه ويتبرك به
ومن قوة رجائه أنه اعتني بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله حتى اجتمع له منه صرة ضخمة عهد بتصييره في حنوطه وكان يحملها حيث سار مع أكفانه توقعا لحلول منيته وقد كان اتخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضيعة الموروثة عن أبيه وغزل بناته وكان يسأل الله تعالى أن يتوفاه في طريق الجهاد فكان كذلك
وكان متسما بصحة باطنه واعترافه بذنبه وخوفه من ربه وكثرة جهاده وإذا ذكر بالله ذكر وإذا خوف من عقابه ازدجر ولم يزل متنزها عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر لكنه أقلع عنها قبل موته بسنتين وكان عدله في الخاصة والعامة وبسط الحق على الأقرب فالأقرب من خاصته وحاشيته أمرا مضروبا به المثل
ومن عدله أنه وقف عليه رجل من العامة بمجلسه فنادى يا ناصر الحق إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة وكان له فضل محل عنده ثم قال وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت فقال له المنصور أوعبد الرحمن بن

نظنه أمضى من ذلك اذكر مظلمتك يا هذا فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نصف فقال المنصور ما أعلم بليتنا بهذه الحاشية ثم نظر إلى الصقلبي وقد ذهل عقله فقال له ادفع الدرقة إلى فلان وانزل صاغرا وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو أيضعك ففعل ومثل بين يديه ثم قال لصاحب شرطته الخاص به خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره ففعل ذلك وعاد الرجل إليه شاكرا فقال له المنصور قد انتصفت أنت اذهب لسبيلك وبقي انتصابي أنا ممن تهاون بمنزلتي فتناول الصقلبي بأنواع من المذلة وأبعده عن الخدمة
ومن ذلك قصة فتاه الكبير المعروف بالبورقي مع التاجر المغربي فإنهما تنازعا في خصومة توجهت فيها اليمين على الفتى المذكور وهو يومئذ أكبر خدم المنصور وإليه أمر داره وحرمه فدافع الحاكم وظن أن جاهه يمنع من إحلافه فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلما من الفتى فوكل به في الوقت من حمله إلى الحاكم فأنصفه منه وسخط عليه المنصور وقبض نعمته منه ونفاه
ومن ذلك قصة محمد فصاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه فإن المنصور احتاجه يوما إلى الفصد وكان كثير التعهد له فأنفذ رسوله إلى محمد فألفاه الرسول محبوسا في سجن القاضي محمد بن زرب لحيف ظهر منه على امرأته قدر أن سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة فلما عاد الرسول إلى المنصور بقصته أمر بإخراجه من

من عمله عنده ثم يرده إلى محبسه ففعل ذلك على ما رسمه وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله فقطع عليه المنصور وقال له يا محمد إنه القاضي وهو في عدله ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع منه عد إلى محبسك أو اعترف بالحق فهو الذي يطلقك فانكسر الحاجم وزالت عنه ريح العناية وبلغت قصته للقاضي فصالحه مع زوجته وزاد القاضي شدة في أحكامه
وقال ابن حيان إنه كان جالسا في بعض الليالي وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر فدعا بأحد الفرسان وقال له انهض الآن إلى فج طليارش وأقم فيه فأول خاطر يخطر عليك سقه إلي قال فنهض الفارس وبقي في الفج في البرد والريح والمطر واقفا على فرسه إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له ومعه آلة الحطب فقال له الفارس إلى أين تريد يا شيخ فقال وراء حطب فقال الفارس في نفسه هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطبا فما عسى أن يريد المنصور فيه قال فتركته فسار عني قليلا ثم فكرت في قول المنصور وخفت سطوته فنهضت إلى الشيخ وقلت له ارجع مولانا المنصور فقال له وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي سألتك بالله أن تتركني لطلب معيشتي فقال له الفارس لا أفعل ثم قدم به على المنصور ومثله بين يديه وهو جالس لم ينم ليلته تلك فقال المنصور للصقالبة فتشوه ففتشوه فلم يجدوا معه شيئا فقال فتشوا برذعة حماره فوجدوا داخلها كتابا من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور يخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النواحي الموطومة فلما انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى إلى

ثم ذكر هذا المؤرخ قصة الجوهري التي قدمنا نقلها من مغرب ابن سعيد ولكنا رأينا إعادتها بلفظ هذا المؤرخ لأنه أتم مساقا إذ قال عطفا على دهائه ومن ذلك قصة الجوهري التاجر وذلك أن رجلا جوهريا من تجار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه ودفع إلى التاجر الجوهري صرته وكانت قطعة يمانية فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرملة على شط النهر فلما توسطها واليوم قائظ وعرقه منصب دعته نفسه إلى التبرد في النهر فوضع ثيابه وتلك الصرة على الشط فمرت حدأة فاختطفت الصرة تحسبها لحما وصاعدت في الأفق بها ذاهبة فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر فقامت قيامته وعلم أنه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة فأسر الحزن في نفسه ولحقه لأجل ذلك علة اضطراب فيها وحضر الدفع إلى التجار فحضر الرجل لذلك بنفسه فاستبان للمنصور ما بالرجل من المهانة والكآبة وفقد ما كان عنده من النشاط وشدة العارضة فسأله المنصور عن شأنه فأعلمه بقصته فقال له هلا أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر فكنا نستظهر على الحيلة فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها قال مر مشرقا على سمت هذا الجبل الذي يلي قصرك يعني الرملة الساعة فمضى وجاء بهم سريعا فأمرهم بالبحث عمن غير حال الإقلال منهم سريعا وانتقل عن الإضافة دون تدرج فتناظروا في ذلك ثم قالوا يا مولانا ما نعلم إلا رجلا من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السبق بأ قدامهم عجزا عن شراء دابة فابتاع اليوم دابة واكتسى

بالغدو إلى الباب فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور فاستدناه والتاجر حاضر وقا له سبب ضاع منا وسقط إليك ما فعلت به قال هوذا يا مولاي وضرب بيده إلى حجزة سراويله فأخرج الصرة بعينها فصاح التاجر طربا وكاد يطير فرحا فقال له المنصور صف لي حديثها فقال بينا أنا أعمل في جناني تحت نخلة إذ سقطت أمامي فأختها وراقني منظرها فقلت إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار فاحترزت بها ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيونا كانت معها مصرورة وقلت أقل ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها فأعجب المنصور ما كان منه وقال للتاجر خذ صرتك وانظرها واصدقني عن عددها ففعل وقال وحق رأسك يا مولاي ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها وقد وهبتها له فقال المنصور نحن أولى بذلك منك ولا ننغص عليك فرحك ولولا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفورا عليه ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضا من دنانيره وللجنان بعشرة دنانير ثوابا لتأنيه عن فساد ما وقع بيده وقال لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعنا جزاء قال فأخذ التاجر في الثناء على المنصور وقد عاوده نشاطه وقال والله لأبثن في الأقطار عظيم ملكك ولأنبئن أنك تملك طيرا أعمالك كما تملك إنسها فلا تعتصم منك ولا تمتنع ولا تؤذي جارك فضحك المنصور وقال اقصد في قولك يغفر الله لك فعجب الناس من تلطف المنصور في أمره وحيلته في تفريج كربته
ثم حكى هذا المؤرخ غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس وما يتصل بها من الأرض الكبيرة

كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا وللكعبة المثل الأعلى فيها يحلفون وإليها يحجون من أقصى بلاد رومة وما وراءها ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقب الحواري أحد الاثنى عشر وكان أخصهم بعيسى على نبينا وE وهم يسمونه أخاه للزومه إياه وياقب بلسانهم يعقوب وكان أسقفا ببيت المقدس فجعل يستقري الأرضين داعيا لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها وله مائة وعشرون سنة شمسية فاحتمل أصحابه رمته فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره ولم يكمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها لصعوبة مدخلها وخشونة مكانها وبعد شقتها فخرج المنصور إليها من قرطبة غازيا بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وهي غزوته الثامنة والأربعون ودخل على مدينة قورية فلما وصل إلى مدينة غليسية وافاه عدد عظيم من القوامس المتمسكين بالطاعة في رجالهم وعلى أتم احتفالهم فصاروا في عسكر المسلمين وركبوا في المغاورة سبيلهم وكان المنصور تقدم في الأندلس وجهزه برجاله البحريين وصنوف المترجلين وحمل الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة استظهارا على نفوذ العزيمة إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه فعقد هنالك من هذا الأسطول جسرا بقرب الحصن الذي هنالك ووجه المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند فتوسعوا في التزود منه إلى أرض العدو ثم نهض منه يريد شنت ياقب فقطع أرضين متباعدة الأقطار

وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدها البحر الأخضر ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارش وما يتصل بها ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك فيه ولا طرق ولم يهتد الأدلاء إلىسواه فقدم المنصور الفعلة بالجديد لتوسعة شعابه وتسهيل مسالكه فقطعه العسكر وعبروا بعد وادي منيه وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة وانتهت مغيرتهم إلى دير قسطان وبسيط بلنبو على البحر المحيط وفتحوا حصن شنت بلاية وغنموه وعبروا سباحة إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي فسبوا من فيها ممن لجأ إليها وانتهى العسكر إلى جبل مراسية المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط فتخللوا أقطاره واستخرجوا من كان فيه وحازةا غنائمه ثم أجاز المسلمون بعد هذا خليجا في معبرين أرشد الأدلاء إليهما ثم نهر أيلة ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة كثيرة الفائدة ثم انتهوا إلى موضع من أقاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنوبة وغيرهما فغادروه المسلمون قاعا وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة وذلك ويوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان فوجدها المسلمون خالية من أهلها فحاز المسملون غنائمها وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها وعفوا آثارها ووكل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيما

كأن لم تهن بالأمس وانتسفت بعوثه بعد ذلك سائر البسائط وانتهت الجيوش إلى جزيرة شنت مانكش منقطع هذا الصفع على البحر المحيط وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم ولا وطئها لغير أهلها قدم فلم يكن بعدها للخيل مجال ولا وراءها انتقال وانكفأ المنصور عن باب شنت يقب وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون ليسقريه عائثا ومفسدا حتى وقع في عمل الفوامس المعاهدين الذين في عسكره فأمر بالكف عنها ومر مجتازا حتى خرج إلى حصن بليقية من افتتاحه فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم وكساهم وكسا رجالهم وصرفهم إلى بلادهم وكتب بالفتح من بليقية وكان مبلغ ما كساه في غزواته هذه لملوك الروم ولمن حسن غناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمسا وثمانين شقة من صنوف الخز الطرازي وأحدا وعشرين كساء من صوف البحر وكساءين عنبرتين وأحد عشر سقلاطونا وخمس عشرة مريشا وسبعة أنماط ديباج وثوبي ديباج رومي وفروي فنك ووافى جميع العسكر قرطبة غانما وعظمت النعمة والمنة على المسلمين ولم يجد المنصور بشنت ياقب إلا شيخا من الرهبان جالسا على القبر فسأله عن مقامه فقال أونس يعقوب فأمر بالكف عنه
قال وحدث شعلة قال قلت للمنصور ليلة طال سهره فيها قد أفرط مولانا في السهر وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم وهو أعلم بما يحركه عدم النوم من علة العصب فقال يا شعلة الملك لا ينام إذا نامت الرعية ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا

أخبار المنصور من كتاب الأزهار المنثورة
وقد رأيت أن أذكر هنا أخبارا نقلتها من كتاب الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة
قال في الزهرة التاسعة والعشرين تقدم إلى المنصور وانزمار بن أبي بكر البرزالي أحد جند المغاربة وقد جلس للعرض والتمييز والميدان غاص بالناس فقال له بكلام يضحك الثكلى يا مولاي ما لي ولك أسكني فإني في الفحص فقال وما ذلك يا وانزمار وأين دارك الواسعة الأقطار فقال أخرجتني عنها والله نعمتك أعطيتني من الضياع ما انصب علي منها من الأطعمة ما ملأ بيوتي وأخرجني عنها وأنا بربري مجوع حديث عهد بالبؤس أتراني أبعد القمح عني ليس ذلك من رأيي فتطلق المنصور وقال لله درك من فذ عيي لعيك في شكر النعمة أبلغ عندنا وآخذ بقلوبنا من كلام كل أشدق متزيد وبليغ متفنن وأقبل المنصور على من حوله من أهل الأندلس فقال يا أصحابنا هكذا فلتشكر الأيادي وتستدام النعم لا ما أنتم عليه من الجحد اللازم والتشكي المبرح وأمر له بأفضل المنازل الخالية
وفي الموفية ثلاثين ما نصه أصبح المنصور صبيحة أحد وكان يوم راحة الخدمة الذي أعفوا فيه من قصد الخدمة في مطر وابل غب أيام مثله فقال هذا يوم لا عهد بمثله ولا حيلة للمواظبين لقصدنا في مكابدته فليت شعري هل شذ أحد منهم عن التقدير فأغرب في البكور اخرج وتأمل يقوله لحاجبه فخرج وعاد إليه ضاحكا وقال يا مولاي على الباب ثلاثة من البرابرة أبو الناس ابن صالح واثنان معه وهم بحال من البلل إنما توصف بالمشاهدة فقال أوصلهم إلي وعجل فدخلوا عليه في حال الملاح بللا

ونداوة فضحك إليهم وأدنى مجلسهم وقال خبروني كيف جئتم وعلى أي حال وصلتم وقد استكان كل ذي روح في كنه ولاذ كل طائر بوكره فقال له أبو الناس بكلامه يا مولانا ليس كل التجار قعد عن سوقه وإذا عذر التجار على طلب الربح بالفلوس فنحن أعذر بإدراكها بالبدر ومن غير رؤوس الأموال وهم يتناوبون الأسواق على أقدامهم ويذيلون في قصدها ثيابهم ونحن نأتيك على خيلك ونذيل على صهواتها ملابسك ونجعل الفضل في قصدك مضمونا إذا جعله أولئك طعما ورجاء فترى لنا أن نجلس عن سوقنا هذا فضحك المنصور ودعا بالكسا والصلات فدفعت لهم وانصرفوا مسرورين بغدوتهم
وفي الزهرة الرابعة والأربعين ما نصه كان بقرطبة على عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر فتى من أهل الأدب قد رقت حاله في الطب فتعلق بكتاب العمل واختلف إلى الخزانة مدة حتى قلد بعض الأعمال فاستهلك كثيرا من المال فلما ضم إلى الحساب أبرز عليه ثلاثة آلاف دينار فرفع خبره إلى المنصور فأمر بإحضاره فلما مثل بين يديه ولزم الإقرار بما برز عليه قال له يا فاسق ما الذي جرأك على مال السلطان تنتهبه فقال قضاء غلب الرأي وفقر أفسد الأمانة فقال المنصور والله لأجعلنك نكالا لغيرك ليحضر كبل وحداد فأحضر فكبل الفتى وقال احملوه إلى السجن وأمر الضابط بامتحانه والشدة عليه فلما قام أنشأ يقول
( أواه أواه وكم ذا أرى ... أكثر

( أما ترى عفو أبي عامر ... لا بد أن تتبعه منه )
( كذلك الله إذا ما عفا ... عن عبده أدخله الجنة )
فأمر بإطلاقه وسوغه ذلك المال وأبرأه من التبعة فيه
وفي الخامسة والأربعين عرض على المنصور بن أبي عامر اسم أحد خدمه في جملة من طال سجنه وكان شديد الحقد عليه فوقع على اسمه بأن لا سبيل إلى إطلاقه حتى يلحق بأمه الهاوية وعرف الرجل بتوقيعه فاغتم وأجهد نفسه في الدعاء والمناجاة فأرق المنصور إثر ذلك واستدعى النوم فلم يقدر عليه وكان يأتيه عند تنويمه آت كريه الشخص عنيف الأخذ يأمره بإطلاق الرجل ويتوعده على حبسه فاستدفع شأنه مرارا إلى أن علم أنه نذير من ربه فانقاد لأمره ودعا بالدواة في مرقده فكتب بإطلاقه وقال في كتابه هذا طليق الله على رغم أنف ابن أبي عامر وتحدث الناس زمانا بما كان منه
وفي الثامنة والأربعين ما نصه انتهت هيبة المنصور بن أبي عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور الرجال وقوام الملك إلى غاية لم يصلها ملك قبله فكانت مواقفهم في الميدان على احتفاله مثلا في الإطراق حتى إن الخيل لتتمثل إطراق فرسانها فلا تكثر الصهيل والحمحمة ولقد وقعت عينه على بارقة سيف قد سله بعض الجند بأقصى الميدان لهزل أو جد بحيث ظن أن لحظ المنصور لا يناله فقال علي بشاهر السيف فمثل بين يديه لوقته فقال ما حملك على أن شهرت سيفك في مكان لا يشهر فيه إ لا عن إذن فقال إني أشرت به إلى صاحبي مغمدا فزلق من غمده فقال إن مثل هذا لا يسوغ بالدعوى وأمر به فضربت عنقه بسيفه وطيف برأسه ونودي عليه بذنبه انتهى

وحكى غير واحد أن المنصور كان به داء في رجله واحتاج إلى الكي فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكته فجعل يأمر وينهى ويفري الفري في اموره ورجله تكوى والناس لا يشعرون حتى شموا رائحة الجلد واللحم فتعجبوا من ذلك وهو غير مكترث
وأخبراه رحمه الله تعالى تحتمل مجلدات فلنمسك العنان على أنا ذكرنا في الباب الرابع والسادي من هذا الكتاب جملة من أخبراه رحمه الله تعالى فلتراجع إلى آخره

عود إلى النقل عن المطمح
وقال الفتح في المطمح وكان مما أعين به المنصور على المصحفي ميل الوزراء إليه وإيثارهم له عليه وسعيهم في ترقية وأخذهم بالعصبية فيه فإنها وإم لم تكن حمية أعرابية فقد كانت سلفية سلطانية يقتفي القوم فيها سبيل سلفهم ويمنعون بها ابتذال شرفهم غادروها سيرة وخلفوها عادة أثيرة تشاح الخلف فيها تشاح أهل الديانة وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة ورأوا أن أحدا لا يلحق فيها غاية ولا يتعاقد لها راية فلما اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه ووضعه من أثرته حيث وضعه وهو نزيع بينهم ونابغ في ال الحال وانتقال الرتبة وكف عن اعتراض محمد وشركته في التدبير وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير وانثالوا على ابن أبي عامر فخف موكبه وغار من سماء العز كوكبة وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلا اسمها وابن أبي عامر مشتمل على رسمها حتى محاه وهتك ظله وأضحاه قال محمد بن إسماعيل رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلا فأقبل يدرم وجوارحه باللواعج تضطرم وواثق الضاغط ينهره والزمع بي فستدرك ما تحبه وتشتهيه وترى ما كنت ترتجيه ويا ليت أن الموت يباع فأغلي سومة حتى يرده من أطال عليه حومة ثم قال
( لا تأمنن من الزمان تقلبا ... إن الزمان بأهله يتقلب )

عليه والانحراف عنه إليه آل أبي عبدة وآل شهيد وآل فطيس من الخلفاء وأصحاب الردافة من أولي الشرف والإنافة وكانوا في الوقت أزمة الملك وقوام الخدمة ومصابيح الأمة وأغير الخلق على جاه وحرمة فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعه ولبعض أسبابه الجامعة متابعة وشادوا بناءه وقادوا إلى عنصره سناءه حتى بلغ الأمل والتحف بمناه واكتحل وعند التئام هذه الأمور لابن أبي عامر استكان جعفر بن عثمان للحادثة وأيقن بالنكبة وزوال الحال وانتقال الرتبة وكف عن اعتراض محمد وشركته في التدبير وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير وانثالوا على ابن أبي عامر فخف موكبه وغار من سماء العز كوكبة وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلا اسمها وابن أبي عامر مشتمل على رسمها حتى محاه وهتك ظله وأضحاه قال محمد بن إسماعيل رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلا فأقبل يدرم وجوارحه باللواعج تضطرم وواثق الضاغط ينهره والزمع بي فستدرك ما تحبه وتشتهيه وترى ما كنت ترتجيه ويا ليت أن الموت يباع فأغلي سومة حتى يرده من أطال عليه حومة ثم قال
( لا تأمنن من الزمان تقلبا ... إن الزمان

( ولقد أراني والليوث تخافني ... فأخافني من بعد ذاك الثعلب )
( حسب الكريم مذلة ومهانة ... أن لا يزال إلى لئيم يطلب )
فلما بلغ المجلس جلس في آخره دون أن يسلم على أحد أويومىء إليه بعين أو يد فلما أخذ مجلسه تسرع إليه الوزير محمد بن حفص بن جابر فعنفه واستجفاه وأنكر عليه ترك السلام وجفاه وجعفر معرض عنه إلى أن كثر القول منه فقال له يا هذا جهلت المبرة فاستجهلت معلمها وكفرت النعم فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدمها ولو أتيت نكرا لكان غيرك أدرى وقد وقعت في أمر ما أظنك تخلص منه ولا يسعك السكوت عنه ونسيت الأيادي الجميلة والمبرات الجليلة فلما سمع محمد بن حفص ذلك من قوله قال هذا البهت بعينه وأي أياديك الغر التي مننت بها وعينت أداء واجبها أيد كذا أم يد كذا وعد أشياء أنكرها منه أيام إمارته وتصرف الدهر طوع إشارته فقال جعفر هذ ما لا يعرف والحق الذي لا يرد ولا يصرف دفعي القطع عن يمناك وتبليغي لك إلى مناك فأصر محمد بن حفص على الجحد فقال جعفر أنشد الله من له علم بما أذكره إلا إعتراف به فلا ينكره وأنا أحوج إلى السكوت ولا تحجب دعوتي فيه عن الملكوت فقال الوزير أحمد بن عباس قد كان بعض ما ذكرته يا أبا الحسن وغير هذا أولى بك وأنت فيما أنت فيه من محنتك وطلبك فقال أحرجني الرجل فتكلمت وأحوجني إلى ما به أعلمت فأقبل الوزير ابن جهور على محمد بن

الواجب أوما علمت أن منكوب السلطان لا يسلم على أوليائه لأنه إن فعل ألزمهم الرد لقوله تعالى ( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ) النساء 86 فإن فعلوا لطاف بهم من إنكار السلطان ما يخشى ويخاف لأنه تأنيس لمن أوحش وتأمين لمن أخاف وإن تركوا الرد أسخطوا الله فصار الإمساك أحسن ومثل هذا لا يخفى على أبي الحسن فانكسر ابن حفص وخجل مما أتى به من النقص
وبلغه أن قوما توجعوا له وتفجعوا مما وصله فكتب إلهم
( أحن إلى أنفاسكم فأظنها ... بواعث أنفاس الحياة إلى نفسي )
( وإن زمانا صرت فيه مقيدا ... لأثقل من رضوى وأضيق من رمس )
انتهى ما ترجم به المنصور بن أبي عامر

عبد الملك المظفر الحاجب
ولنرجع فنقول ولما توفي المنصور قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك المظفر أبو مروان فجرى على سنن أبيه في السياسة والغزو وكانت أيامه أعيادا دامت مدة سبع سنين وكانت تسمى بالسابع تشبيها بسابع العروس ولم يزل مثل اسمه مظفرا إلى أن مات سنة تسع وثلاثمائة في المحرم وقيل سنة ثمان وتسعين
وكاتبه المعز بن زيري ملك مغراوة بعد أن استرجع فاسا والمغرب إثر موت أبيه فكتب له العهد على المغرب

عبد الرحمن شنجول
قال ابن خلدون ثم قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن وتلقب بالناصر لدين الله وقيل بالمأمون وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام والاستبداد عليه والاستقلال بالملك دونه ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه وأحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى وأهل الحل والعقد فكان يوما مشهودا فكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصه هذا ما عهد به هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة وعاهد الله عليه من نفسه خاصة وأعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أمعن النظر وأطار الاستخارة وأهمه ما جعل الله إليه من الإمامة وعصب به من أمر المؤمنين واتقى حلول القدر بما لا يؤمن وخاف نزول القضاء بما لا يصرف وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه وملجأ تنعطف عليه أن يكون يلقى ربه تبارك وتعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها وتقصى عند ذلك من إحياء قريش وغيرها من يستحق أن يسند هذا الامر إليه ويعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وصيانته بعد اطراح الهوى والتحري للحق والتزلف إلى الله جل جلاله بما يرضيه وبعد أن قطع الأواصر وأسخط الأقارب فلم يجد أحدا أجدر أن يوليه عهده ويفوض إليه الخلافة بعده لفضل نفسه وكرم

وشرف مرتبته وعلو منصبه مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه من المأمون الغيب الناصح الجيب أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد ابن أبي عامر وفقه الله إذ كان أمير المؤمنين أيده الله تعالى قد ابتلاه واختبره ونظر في شأنه واعتبره فرآه مسارعا في الخيرات سابقا في الحلبات مستوليا على الغايات جامعا للمأثرات ومن كان المنصور أباه والمظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه ويحوي من خلال الخير ما حواه مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم ووعاه من مخزون الأثر يرى أن يكون ولي عهده القحطاني الذي حدث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده فيه الآثار ولم يجد عنه مذهبا ولا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته وفوض إليه الخلافة بعد وفاته طائعا راضيا مجتهدا وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه وأنجزه وأنفذه ولم يشرط فيه مثنوية ولا خيارا وأعطى على الوفاء به في سره وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه وذمة نبيه محمد صلى الله عليه و سلم وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه وذمة نفسه أن لا يبدل ولا يغير ولا يحول ولا يزول وأشهد الله على ذلك والملائكة وكفى بالله شهيدا وأشهد من أوقع اسمه في هذا وهو جائز الامر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله تعالى وقبوله ما قلده وإلزامه نفسه ما ألزمه وذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة وكتب الوزراء والقضاة وسائر

بعدها بولي العهد
ونقم عليه أهل الدولة ذلك فكان فيه حتفه وانقراض دولته ودولة قومه وكان أسرع الناس كراهة لذلك الأمويين والقرشيين فغصوا بأمره وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتمعوا لشأنهم وتمشت من بعض إلى بعض رجالاتهم وأجمعوا أمرهم في غيبة من المذكور ببلاد الجلالقة في غزاة من صوائفه ووثبوا بصاحب الشرطة فقتلوه بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وخلعوا هشاما المؤيد

بيعة المهدي بالله
وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعقاب الخلفاء ولقبوه بالمهدي بالله وطار الخبر إلى عبد الرحمن الحاجب ابن المنصور بمكانه من الثغر فانفض جمعه وقفل إلى الحضرة مدلا بمكانه زعيما بنفسه حتى إذا قرب من الحضرة تسلل عنه الناس من الجند ووجوه البربر ولحقوا بقرطبة وبايعوا المهدي القائم بالأمر وأغروه بعبد الرحمن الحاجب لكونه ماجنا مستهترا غير صالح للأمر فاعترضه منهم من قبض عليه واحتز رأسه وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة وذهبت دولة العامريين كأن لم تكن ولله عاقبة الأمور
وفي المهدي يقول بعضهم
( قد قام مهدينا

( وشارك الناس في حريم ... لولاه ما زال بالمصون )
( من كان من قبل ذا أجما ... فاليوم قد صار قرون )

خبر الفتنة البربرية
وكان رؤساء البربر وزناته لحقوا بالمهدي لما رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن وانتفاض أمره وكانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين وتنسب تغلب المنصور وبنيه على الدولة إليهم فسخطتهم القلوب وخزرتهم العيون ولولا ما لهم من العصبية لاستأصلهم الناس ولغطت ألسنة الدهماء من أهل المدينة بكراهتهم وأمر المهدي أن لا يركبوا ولا يتسلحوا ورد بعض رؤسائهم في بعض الأيام من باب القصر فانتهب العامة دورهم وشكا بعضهم إلى المهدي ما أصابهم فاعتذر إليهم وقتل من اتهم من العامة في أمرهم وهو مع ذلك مظهر لبغضهم مجاهر بسوء الثناء عليهم وبلغهم أنه يريد الفتك بهم فتمشت رجالاتهم وأسروا نجواهم واشتوروا في تقديم هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر وفشا في الخاصة حديثهم فعوجلوا عن مرامهم ذلك وأغرى بهم السواد الأعظم فثاروا بهم وأزعجوهم عن المدينة وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر وأحضر بين يدي

بيعة سليمان المستعين
ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتوامروا فبايعوه ولقبوه المستعين بالله ونهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أذفونش ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة وبرز إليه المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة فكانت الدائرة عليهم واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفا وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم ودخل المستعين قرطبة ختام المائة الرابعة ولحق المهدي بطليطلة واستجاش بابن أذفونش ثانية فنهض معه إلى قرطبة وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر من ظاهر قرطبة ودخل قرطبة اعني المهدي وملكها وخرج المستعين مع البربر وتفرقوا في البسائط ينبهون ولا يبقون على أحد ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء فخرج المهدي ومعه ابن أذفونش لاتباعهم فكروا عليهم فانهزم المهدي وابن أذفونش ومن معه من المسلمين والنصارى واتبعهم المستعين إلى قرطبة فأخرج المهدي هشاما المؤيد للناس وبايع له وقام بأمر حجابته ظنا منه أن ذلك ينفعه وهيهات وحاصرهم المستعين والبربر فخشي أهل قرطبة من اقتحامهم عليهم فأغروا أهل القصر وحاشية المؤيد بالمهدي وأن الفتنة إنما جاءت من قبله وتولى كبر ذلك واضح العامري فقتلوا المهدي واجتمع الكافة على المؤيد وقام واضح بحجابته واستمر الحصار ولم يغن عن أهل قرطبة ما فعلوه شيئا إلى أن هلكت القرى والبسائط بقرطبة وعدمت المرافق وجهدهم الحصار وبعث المستعين إلى أهل ابن أذفونش يستقدمهم لمظاهرته فبعث إليهم هشام وحاجبه واضح يكفونهم عن ذلك بأن ينزلوا لهم عن ثغور قشتالة التي كان

افتتحها فسكن عن مظاهرتهم عزك أذفونش ولم يزل الأمر حتى دخل المستعين قرطبة ومن معه من البربر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة وقتل هشام سرا ولحق بيوتات قرطبة معرة في نسائهم وأبنائهم
وظن المستعين أن قد استحكم أمره وتوثبت البرابرة والعبيد على الأعمال فولوا المدن العظيمة وتقلدوا البلاد الواسعة مثل باديس بن حبوس في غرناطة والبرزالي في قرمونة واليفرني في رندة وخزرون في شريش وافترق شمل الجماعة بالأندلس وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة مثل ابن عباد بإشبيلية وابن الأفطس ببطليوس وابن ذي النون بطليطلة وابن أبي عامر ببلنسية وابن هود بسرقسطة ومجاهد العامري بدانية والجزائر وكان مائلا لبني حمود يهجو سليمان المستعين
( لا رحم الله سليمانكم ... فإنه ضد سليمان )
( ذاك به غلت شياطينها ... وحل هذا كل شيطان )
( فباسمه ساحت على أرضنا ... لهلك سكان وأوطان )
وكان من أعظم الأسباب في فساد دولة المستعين أنه قال هذه الأبيات مستريحا بها إلى خواصه وهي قوله
( حلفت بمن صلى وصام وكبرا ... لأغمدها فيمن طغى وتجبرا

( فواعجبا من عبشمي مملك ... برغم العوالي والمعالي تبربرا )
( فلو أن أمري بالخيار نبذتهم ... وحاكمتهم للسيف حكما محررا )
( فإما حياة تستلذ بفقدهم ... وإما حمام لا نرى فيه ما زرى )
وقد سلك هذا المسلك المرتضى المرواني فقال
( قد بلغ البربر فينا بنا ... ما أفسد الأحوال والنظما )
( كالسهم للطائر لولا الذي ... فيه من الريش لما أصمى )
( قوموا بنا في شأنهم قومة ... تزيل عنا العار والرغما )
( إما بها نملك أو لا نرى ... ما يرجع الطرف به أعمى )
وكان علي بن حمود الحسني وأخوه قاسم من عقب إدريس ملك فاس وبانيها قد أجازوا مع البربر من العدوة إلى الأندلس فدعوا لأنفسهم واعصوصب عليهم البربر فملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة وقتلوا المستعين ومحوا ملك بني أمية واتصل ذلك في خلف منهم سبع سنين ثم رجع الملك إلى بني أمية
وكان المستعين المذكور أديبا بليغا ومن شعره يعاض هرون الرشيد في قوله
( ملك الثلاث الآنسات عناني ... )
الأبيات قوله
( عجبا يهاب الليث حد سناني ... وأهاب سحر فواتر الأجفان )
( وأقارع الأهوال لا متهيبا ... منها سوى الإعراض والهجران )
( وتملكت نفسي ثلاث كالدمى

( ككواكب الظلماء لحن لناظري ... من فوق أغصان على كثبان )
( حاكمت فيهن السلو إلى الرضى ... فقضى بسلطان على سلطاني )
( هذي الهلال وتلك بنت المشتري ... حسنا وهذي أخت غصن البان )
( فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ... في عز ملكي كالأسير العاني )
( لا تعذلوا ملكا تذلل في الهوى ... ذل الهوى عز وملك ثاني )
( ما ضر أني عبدهن صبابة ... وبنو الزمان وهن من عبداني )
( إن لم أطع فيهن سلطان الهوى ... كلفا بهن فلست من مروان )

بنو حمود
وولي الأمر بعده علي بن حمود الحسني تلفب بالناصر وخرج عليه العبيد وبعض المغاربة وبايعوا المرتضى أخا المهدي ثم اغتيل المرتضى واستقام الملك لعلي بن حمود نحو عامين إلى أن قتله صقالبته بالحمام سنة ثمان وأربعمائة فولي مكانه أخوه القاسم وتلقب بالمأمون ونازعه الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه وكان على سبتة فأجاز إلى الأندلس سنة عشر واحتل بمالقة وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما فبعثه إلى سبتة ثم زحف يحيى إلى قرطبة فملكها سنة ثنتي عشرة وأربعماشة وتلقب المعتلي وفر عمه المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي ابن عباد واستجاش بعض البرابرة ثم رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة وملكها ثم لحق المعتلي بمكانه من مالقة وتغلب على الجزيرة الخضراء وتغلب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر وكان المأمون

فلما بلغه الخبر اضطرب وثار عليه أهل قرطبة ونقضوا طاعته وخرج فحاصرهم فدافعوا ولحق بإشبيلية فمنعوه وكان بها ابنه فأخرجوه إليه وضبطوا بلدهم واستبد ابن عباد بملكها ولحق المأمون بشريش ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه فبايعوه سنة خمس عشرة وزحف إلى عمه المأمون فتغلب عليه ولم يزل عنده أسيرا وعند أخيه إدريس بمالقة إلى أن هلك بمحبسه سنة سبع وعشرين وقيل إنه خنق كما سيأتي واستقل المعتلي بالأمر واعتقل ابني عمه القاسم
وكان المستكفي من الأمويين استولى على قرطبة في هذه المدة عندما أخرج أهلها العلوية ثم خلع أهل قرطبة المستكفي الأموي سنة ست عشرة وصاروا إلى طاعة المعتلي واستعمل عليهم ابن عطاف من قبله ثم نقضوا سنة سبع عشرة وصرفوا عاملهم وبايعوا للمعتد الأموي أخي المرتضى وبقي المعتلي يردد لحصارهم العساكر إلى أن اتفقت الكلمة على إسلام الحصون والمدائن له فعلا سلطانه واشتد أمره إلى أن هلك سنة تسع وعشرين اغتاله أصحابه بدسيسة ابن عباد الثائر بإشبيلية فاستدعى أصحابه أخاه إدريس ابن علي بن حمود من سبتة وملكوه ولقبوه المتأيد وبايعته رندة وأعمالها والمرية والجزيرة الخضراء وبعث عساكره لحرب أبي القاسم إسماعيل ابن عباد والد المعتضد بن عباد فجاءوه برأسه بعد حروب وهلك ليومين بعد ذلك سنة إحدى وثلاثين وبويع ابنه يحيى ولم يتم له أمر وبويع حسن المستنصر بن المعتلي وفر يحيى إلى قمارش فهلك بها سنة أربع وثلاثين ويقال إنه قتله نجا وهلك حسن مسموما بيد ابنة عمه إدريس ثأرت منه بأخيها وكان إدريس بن يحيى المعتلي معتقلا بمالقة فأخرج بعد خطوب وبويع بها فأطاعته غرناطة

المشهورة بالمغرب التي قالها فيه أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا القبذاقي الأشبوني من شعراء الذخيرة وهي
( ألبرق لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين )
( لعبت أسيافه عارية ... كمخاريق بأيدي اللاعبين )
( ولصوت الرعد زجر وحنين ... ولقلبي زفراتت وأنين )
( وأناجي في الدجى عاذلتي ... ويك لا أسمع قول العاذلين )
( عيرتني بسقام وضنى ... إن هذين لدين العاشقين )
( قد بدا لي وضح الصبح المبين ... فاسقينها قبل تكبير الأذين )
( إسقنيها مزة مشمولة ... لبثت في دنها بضع سنين )
( نثر المزج على مفرقها ... دررا عامت فعادت كالبرين )
( مع فتيان كرام نجب ... يتهادون رياحين المجون )
( شربوا الراح على خد رشا )
( نور الورد به والياسمين )
( وجلت آياته عامدة ... سبج الشعر على عاج الجبين )
( لوت الصدغ على حاجبه ضمة اللام على عطفة نون )
( فترى غصنا على دعص نقا ... وترى ليلا على صبح مبين )
( وسيسقون إذا ما شربوا ... بأباريق وكأس من معين )

( مصابيح الدجى قد طفئت ... في بقايا من سواد الليل جون )
( وكأن الظل مسك في الثرى ... وكأن الطل در في الغصون )
( والندى يقطر من نرجسه ... كدموع أسبلتهن الجفون )
( والثريا قد هوت من أفقها ... كقضيب زاهر من ياسمين )
( وانبرى جنح الدجى عن صبحه ... كغراب طار عن بيض كنين )
( وكأن الشمس لما اشرقت ... فانثنت عنها عيون الناظرين )
( وجه إدريس بن يحيى بن علي ... بن حمود أمير المؤمنين )
( ملك ذو هيبة لكنه ... خاشع لله رب العالمين )
( خط بالمسك على أبوابه ... ادخلوها بسلام آمنين )
( فإذا ما رفعت راياته ... خفقت بين جناحي جبرئين )
( وإذا أشكل خطب معضل ... صدع الشك بمصباح اليقين )
( فبيسراه يسار المعسرين ... وبيمناه لواء السابقين )
( يا بني أحمد يا خير الورى ... لأبيكم كان وفد المسلمين )
( نزل الوحي عليه فاحتبى ... في الدجى فوقهم الروح الأمين )
( خلقوا من ماء عدل وتقى ... وجميع الناس من ماء وطين )
( انظروا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين )
وقيل إنه أشنده إياها من وراء حجاب اقتفاء لطريقة خلفاء بني العباس فلما بلغ إلى قوله
( انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين )
أمر حاجبه أن يرفع الحجاب وقابل وجهه وجه الشاعر دون

وأمر له بإحسان جزيل فكان هذا من أنبل ما يحكى عنه
وحلع العالي سنة ثمان وثلاثين وولي ابن عمه محمد بن إدريس بن علي وتلقب بالمهدي وتوفي سنة أربع وأربعين
وبويع إدريس بن يحيى بن إدريس ولقب الموفق ولم يخطب له بالخلافة وزحف إليه العالي إدريس المخلوع الممدوح بالقصيدة السابقة وكان بقمارش فدخل عليه مالقة وأطلق أيدي عبيدة عليها لحقده عليهم ففر كثير منهم وتوفي العالي سنة ست أو سبع وأربعين
وبويع محمد بن إدريس ولقب المستعلي ثم سار إليه باديس بن حبوس سنة تسع وأربعين وأربعمائة فتغلب على مالقة وسار محمد إلى المرية مخلوعا ثم استدعاه أهل المغرب إلى مليلة فأجاز إليهم وبايعوه سنة ست وخمسين وتوفي سنة ستين
وكان محمد بن القاسم بن حمود لما اعتقل أبوه القاسم بمالقة سنة أربع عشرة فر من الاعتقال ولحق بالجزيرة الخضراء وملكها وتلقب بالمعتصم إلى ان هلك سنة أربعين ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق إلى أن هلك سنة خمسين وصارت الجزيرة للمعتضد بن عباد ومالقة لابن حبوس مزاحما لابن عباد
وانقرضت دولة الأشراف الحموديين من الأندلس بعد أن كانوا يدعون الخلافة

خلافة المستظهر
واما قرطبة فإن أهلها لما

وزحف إليهم القاسم بن حمود في البربر فهزمهم أهل قرطبة ثم اجتمعوا واتفقوا على رد الأمر لبني أمية واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة ولقبوه المستظهر وقاموا بأمره ومن شعره قوله
( طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدي )
( يا غزالا نقض العه ... ولم يوف بوعد )
( أنسيت العهد إذ بت ... على مفرش ورد )
( واجتمعنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد )
( ونجوم الليل تحكى ... ذهبا في لازورد )
قال الحجاري لو قال لؤلؤا لا زورد لكان أحسن تشبيها وأنشد متمثلا
( إنا عصابتك الألى ... كنا نكابد ما تكابد )
( هذا أوان بلوغنا ال ... وإنجاز المواعد )
وكان حسان بن أبي عبيدة من وزراء المستظهر ولما أكثر المستظهر دونه الاستبداد كتب إليه بقوله )
( إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل )
( فسيان مني مشهد

( فأصبحت تيميا وما كنت قبلها ... لتيم ولكن الشبيه نسيب )
يشير إلى قول الأول
( ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود )
وعاتبه أيضا بقوله
( إذا كان مثلي لا يجازى بصبره ... فمن ذا الذي بعدي يجازى على الصبر )
( وكم مشهد حاربت فيه عدوكم ... وأملت في حربي له راحة الدهر )
( أخوض إلى أعدائكم لجج الوغى ... وأسري إليهم حيث لا أحد يسري )
( وقد نام عنهم كل مستبطن الحشا ... أكول إلى الممسى نؤوم إلى الظهر )
( فما بال هذا الأمر أصبح ضائعا ... وأنت أمين الله تحكم في الأمر )
وسيأتي إن شاء الله تعالى من كلام الوزير المذكور ما يدل على عظيم قدره وهناك نذكر تحلية الفتح له

بيعة المستكفي والمعتد
ثم ثار عليه لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله فاتبعه الغوغاء وفتك بالمستظهر وتلقب بالمستكفي واستقل بأمر قرطبة وهو والد الأديبة الشهيرة ولادة ولعلنا نلم ببعض أخبارها إن شاء الله تعالى فيما بعد وكان أبوه عبد الرحمن قتله المنصور بن أبي عامر لسعيه في الخلاف
ثم بعد ستة عشر شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى المعتلي

المعتلي من قبله وفر المستكفي إلى ناحية الثغر ومات في مفره ثم بدا لأهل قرطبة فخلعوا المعتلي بن حمود سنة سبع عشرة وبايع الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود وذلك سنة ثماني عشرة وتلقب المعتد بالله وأقام مترددا في الثغر ثلاثة أعوام واشتدت الفتن بين رؤساء الطوائف واتفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة فاستقدمه ابن جهور والجماعة ونزلها آخر سنة عشرين وأقام بها يسيرا ثم خلعه الجند سنة ثنتين وعشرين وفر إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين
انقضاء الأموية وظهور

ملوك الطوائف
وانقطعت الدولة الأموية من الأرض وانتثر سلك الخلافة بالمغرب وقام الطوائف بعد انقراض الخلائف وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات واقتسموا خطتها وتغلب بعض على بعض واستقل أخيرا بأمرها منهم ملوك استفحل أمرهم وعظم شأنهم ولاذوا بالجزى للطاغية أن يظاهر عليهم أو يبتزهم ملكهم وأقاموا على ذلك برهة من الزمان حتى قطع إليهم البحر ملك العدوة وصاحب مراكش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللمتوني فخلعهم وأخلى منهم الأرض
ملوك الطوائف
1
- بنو عباد وبنو جهور
فمن أشهرهم بنو عباد ملوك إشبيلية وغرب الأندلس الذين منهم المعتمد ابن عباد الشهير الذكر

ومنهم بنو جهور كانوا بقرطبة في صورة الوزارة حتى استولى عليهم المعتمد بن عباد وأخذ قرطبة وجعل عليها ولده ثم كانت له وعليه حروب وخطوب وفرق أبناءه على قواعد الملك وأنزلهم بها واستفحل أمره بغرب الأندلس وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف مثل ابن حبوس بغرناطة وابن الأفطس ببطليوس وابن صمادح بالمرية وغيرهم فكانوا يخطبون سلمه ويغلون في مرضاته وكلهم يدارون الطاغية ويتقونه بالجزي إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين واستفحل ملكه فتعلقت آمال الأندلس بإعانته وضايقهم الطاغية في طلب الجزية فقتل المعتمد اليهودي الذي جاء في طلب الجزية للطاغية بسبب كلمة آسفة بها ثم أجاز البحر صريخا إلى يوسف بن تاشفين فأجاز معه البحر والتقوا مع الطاغية في الزلاقة فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى ونصر الله تعالى الإسلام نصرا لا كفاء له حتى قال بعض المؤرخين إنه كان عدد النصارى ثلاثمائة ألف ولم ينج منهم إلا القليل وصبر فيها المعتمد صبر الكرام وكان قد أعطى يوسف بن تاشفين الجزيرة الخضراء ليتمكن من الجواز متى شاء ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف فأجابوه بالامتثال حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم وهو خلال ذلك يردد عساكره للجهاد ثم أجاز إليهم وخلع جميعهم ونازلت عساكره جميع بلادهم واستولى على قرطبة وإشبيلية وبطليوس وغرناطة وغيرها وصار المعتمد بن عباد كبير ملوك الأندلس في قبضته أسيرا بعد حروب ونقله إلى أغمات قرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة واعتقله هنالك إلى أن مات سنة ثمان وثمانين وسنلم

وللمعتمد هذا أخبار مأثورة خصوصا مع زوجته أم أولاده الرميكية الملقبة باعتماد وقد روي أنها رات ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن في القرب وهن رافعات عن سوقهن في الطين فقالت له أشتهي أن أفعل أنا وجواري مثل هؤلاء النساء فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصير الجميع طينا في القصر وجعل لها قربا وحبالا من إبريسم وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين فيقال إنه لما خلع وكانت تتكلم معه مرة فجرى بينهما ما يجري بين الزوجين فقالت له والله ما رأيت منك خيرا فقال لها ولا يوم الطين تذكيرا لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال ما لا يعلمه إلا الله تعالى فاستحيت وسكتت
ومن أعظم ملوك الطوائف غير من تقدم بنو رزين أصحاب السهلة وبنو الفهري أصحاب البونت وتغلب عليهما أخيرا يوسف بن تاشفين

بنو ذي النون بطليطلة
ومن أعظم ملوك الطوائف بنو ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي وكانت لهم دولة كبيرة وبلغوا في البذخ والترف إلى الغاية ولهم الإعذار المشهور الذي يقال له الإعذار الذنوني وبه يضرب المثل عند أهل المغرب وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق والمأمون من بني ذي النون هو صاحب ذلك وهو الذي عظم بين ملوك الطوائف سلطانه وكان بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة وغلب على قرطبة وملكها من يد ابن عباد المعتمد وقتل

وفي أيام حافد المأمون وهو القادر بن ذي النون كان الطاغية ابن أذفونش قد استفحل أمره لما خلا الجو من مكان الدولة الخلافية وخف ما كان على كاهله من إصر العرب فاكتسح البسائط وضايق ابن ذي النون حتى أخذ من يده طليطلة فخرج له عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة كما سبق وشرط عليه أن يظاهره علىأهل بلنسية فقبل شرطه وتسلمها ابن الفونش ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظم
ومن أعظم ملوك الأندلس الموالي العامريون مثل خيران وزهير وأشباههما وأخبار الجميع تطول

بنو هود بسرقسطة
ومن ملوك الطوائف بالأندلس بنو هود ملوك سرقسطة وما إليها ومن أشهرهم المقتدر بالله وابنه يوسف المؤتمن وكان المؤتمن قائما على العلوم الرياضية وله فيها تآليف ومنها كتاب الاستكمال والمناظر وولي بعده ابنه المستعين أحمد سنة أخذ طليطلة وعلى يده كانت وقعة وشقة زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين ليدافع الطاغية عن وشقة وكان محاصرا لها فلقيه الطاغية وهزمه وهلك من المسلمين نحو عشرة آلاف وهلك هو شهيدا سنة ثلاث وخمسمائة بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها وولي ابنه عبد الملك عماد الدولة وأخرجه الطاغية من سرقسطة سنة ثنتي عشرة وتولى ابنه سيف الدولة وبالغ في النكاية بالطاغية ثم اتفق معه وانتقل بحشمه إلى طليطلة فكان فيها حمامه
ومن شعر المقتدر بن هود

( قصر السرور ومجلس الذهب ... بكما بلغت نهاية الأرب )
( لو لم يحز ملكي خلافكما ... كانت لدي كفاية الطلب )

بنو الأفطس ببطليوس
ومن مشاهير ملوك الطوائف بنو الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها والمظفر منهم هو صاحب التأليف المسمى بالمظفري في نحو الخمسين مجلدا والمتوكل منهم قتل على يد جيش يوسف بن تاشفين وفيه قال ابن عبدون قصيدته المشهورة
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وهي من غرر القصائد
اللمتونيون ثم الموحدون
فلما استولى لمتونة على بلاد الأندلس وأزالوا ملوك الطوائف منها وبقيت عمالهم تتردد إليها وبنوهم حتى فشلت ريحهم وهبت ريح الموحدين أعني عبد المؤمن بن علي وبنيه فحاربوا لمتونة واستولوا على ملكهم بالمغرب بعد حروب كثيرة ثم أجازوا البحر إلى الأندلس وملكوا أكثر بلاد الأندلس وملك بنو مردنيش شرق الأندلس وملخص ذلك أن الأندلس كان ملكها مجموعا للمتونة بعد خلعهم ملوك الطوائف فلما

وعادت إلى الف رقة بعض الشيء ثم خلص اكثرها لعبد المؤمن وبنيه بعد حروب منها ما حصل بين عبد المؤمن وبين ابن مردنيش وقائده ابن همشك بفحص غرناطة وقد استعان ابن مردنيش بالنصارى على الموحدين فهزمهم عبد المؤمن وقتلهم أبرح قتل واستخلص غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة من يد ابن مردنيش

غزوة الأرك
وولي الأمر بعد عبد المؤمن ابنه يوسف وأجاز إلى الأندلس وكانت له مواقف في جهاد العدو وولي بعده ابنه يعقوب المنصور الطائر الصيت وكانت له في النصارى بالأندلس نكاية كبيرة ومن أعظمها غزوة الأرك التي تضاهي وقعة الزلاقة أو تزيد والأرك موضع نواحي بطليوس وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وغنم فيها المسلمون ما عظم قدره وكان عدة من قتل من الفرنج فيما قيل مائة ألف وستة وأربعين ألفا وعدة الأساري ثلاثين ألفا وعدة الخيام مائة ألف وخمسين ألف خيمة والخيل ثمانين ألفا والبغال مائة ألف والحمير أربعمائة ألف جاء بها الكفار لحمل أثقالهم لأنهم لا إبل لهم وأما الجواهر والأموال فلا تحصى وبيع الأسير بدرهم والسيف بنصف درهم والفرس بخمسة دراهم والحمار بدرهم وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع ونجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوإ حال فحلق رأسه ولحيته ونكس طليبه وآلى أن لا ينام على فراش ولا يقرب النساء ولا يركب فرسا ولا دابة حتى يأخذ بالثأر وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعد ثم لقيه يعقوب وهزمه وساق خلفه

يبق إلا فتحها فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه وسألنه إبقاء البلد عليهن فرق لهن ومن عليهن بها ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جل وردهن مكرمات وعفا بعد القدرة وعاد إلى قرطبة فأقام شهرا يقسم الغنائم وجاءته رسل الفنش بطلب الصلح فصالحه وأمن الناس مدته وفيه يقول بعض شعراء عصره
( أهل بأن يسعى إليه ويرتجى ... ويزار من أقصى البلاد على الرجا )
( من قد غدا بالمكرمات مقلدا ... وموشحا ومختما ومتوجا )
( عمرت مقامات الملوك بذكره ... وتعطرت منه الرياح تأرجا )

بين صلاح الدين ويعقوب الموحدي
وهو الذي أرسل له السلطان صلاح الدين بن أيوب شمس الدين بن منقذ يستنجد به على الفرنج الخارجين عليه بساحل

المؤمنين فلم يجبه إلى ما طلبه وكل ذلك في سنة 587 ومدحه ابن منقذ بقوله من قصيدة
( سأشكر بحرا ذا عباب قطعته ... إلى بحر جود ما لأخراه ساحل )
( إلى معدن التقوى إلى كعبة الندى ... إلى من سمت بالذكر منه الأوائل )
( إليك أمير المؤمنين ولم تزل ... إلى بابك المأمول تزجي الرواحل )
( قطعت إليك البر والبحر موقنا ... بأن نداك الغمر بالنجح كافل )
( وحزت بقصديك العلا فبلغتها ... وأدنى عطاياك العلا والفواضل )
( فلا زلت للعلياء والجود بانيا ... تبلغك الآمال ما أنت آمل )
وعدتها أربعون بيتا فأعطاه بكل بيت ألفا وقال له إنما أعطيناك لفضلك ولبيتك
وكان عنوان الكتاب الذي أرسله صلاح الدين إلى أمير المسلمين وفي أوله الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب وبعده من إنشاء الفاضل الحمد لله الذي استعمل على الملة الحنيفية من استعمر الأرض وأغنى من أهلها من سأله القرض وأجزى من أجرى على يده النافلة والفرض وزين سماء الملة بدراري الذراري التي بعضها من بعض وهوكتاب طويل سأله فيه أن يقطع عنه مادة البحر واستنجده على الإفرنج إذ كانت له اليد عليهم وعاد ان منقذ من هذه الرسالة سنة 588 بغير فائدة وبعث معه هدية حقيرة وأما ابن منقذ فإنه أحسن إليه وأغناه لا لأجل صلاح الدين بل لبيته وفضله كما مر وما وقع من يعقوب في صلاح الدين إنما هو لأجل أنه لم يوفه حقه في الخطاب

الموحدون والأندلس
رجع ولما استفحل أمر الموحدين بالأندلس

وكانوا يسمونهم السادة واقتسموا ولاياتها بينهم ولهم مواقف في جهاد العدو مذكورة وكان صاحب الأمر بمراكش يأتي الأندلس للجهاد وهزم يعقوب المنصور كما سبق قريبا بالأرك ابن أذفونش ملك الجلالقة الهزيمة الشنعاء

العقاب والتياث أمر الموحدين
وأجاز ابنه الناصر الوالي بعده البحر إلى الأندلس من المغرب سنة تسع وستمائة ومعه من الجنود ما لا يحصى حتى حكى بعض الثقات من مؤرخي المغرب أنه اجتمع معه من أهل الأندلس والمغرب ستمائة ألف مقاتل فمحص الله المسلمين بالموضع المعروف بالعقاب واستشهد منهم عدة وكانت سبب ضعف المغرب والأندلس أما المغرب فبخلاء كثير من قراه وأقطاره وأما الأندلس فبطلب العدو عليها لأنه لما التاث أمر الموحدين بعد الناصر ابن المنصور انتزى السادة بنواحي الأندلس كل في عمله وضعف ملكهم بمراكش فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بعضهم على بعض وإسلام حصون المسلمين إليه في ذلك فمشت رجالات الأندلس وأعقاب العرب منذ الدولة الأموية وأجمعوا على إخراجهم فثاروا بهم لحين واحد وأخرجوهم وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس وابن مردنيش وثوار آخرون
ابن هود ومنافسه ابن الأحمر
قال ابن خلدون ثم خرج على ابن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضا وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر وتلقب محمد هذا

وكان ابن هود يخطب للعباسي صاحب بغداد ثم حصلت لابن هود وأعقابه حروب وخطوب إلى أن كان آخرهم الواثق بن المتوكل فضايقه الفنش والبرشلوني فبعث بالطاعة لابن الأحمر فبعث إليه ابن أشقيلولة وتسلم مرسية منه وخطب لابن الأحمر بها ثم خرج منها راجعا إلى ابن الأحمر فأوقع به النصارى في طريقه ثم رجع الواثق إلى مرسية ثالثة فلم يزل إلى أن ملكها العدو من يده سنة ثمان وستين وستمائة وعوضه عنها حصنا يسمى يسر وهو من عملها فبقي فيه إلى أن هلك وانقرضت دولة ابن هود والله وارث الأرض ومن عليها

دولة بني الأحمر
ولنذكر ملوك بني الأحمر إجمالا لأن لسان الدين وزير أحدهم ولأنهم آخر ملوك الأندلس ومن يدهم استولى النصارى على جميعها كما سنذكره قال ابن خلدون أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة ولهم فيها سلف من أبناء الجند ويعرفون ببني نصر وينتسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وكان كبيرهم لآخر دولة الموحدين محمد بن يوسف بن نصر ويعرف بالشيخ وأخوه إسماعيل وكانت له وجاهة في ناحيتهم
ولما فشلت ريح الموحدين وانتزى الثوار بالأندلس وأعطى السادة حصونها للطاغية استقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية بدعوة العباسية وتغلب على شرق الأندلس أجمع فتصدى الشيخ هذا للثورة وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة ودعا لأبي زكرياء صاحب إفريقية وأطاعته جيان

بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة ثم بايع لبني هود سنة إحدى وثلاثين عندما بلغه خطاب الخليفة من بغداد ثم ثار بإشبيلية أبو مروان الباجلي عند خروج ابن هود عنها ورجوعه إلى مرسية فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوجه ابنته فأطاعه ودخل إشبيلية سنة اثنتين وثلاثين ثم فتك بابن الباجي فقتله وتناول البطش به علي بن أشقيلولة ثم راجع أهل إشبيلية بعدها بشهر دعوة ابن هود وأخرج ابن الأحمر ثم تغلب على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها حين ثار ابن أبي خالد بدعوته فيها ووصلته بيعتها وهو بجيان فقدم إليها علي بن أشقيلولة ثم جاء على أثره ونزلها وابتنى بها حصن الحمراء لنزوله ثم تغلب على مالقة ثم تناول المرية من يد ابن الرميمي وزير ابن هود الثائر بها سنة ثلاث وأربعين ثم بايعه أهل لورقة سنة ثلاث وستين وكان ابن الأحمر أول أمره وصل يده بالطاغية استظهارا على أمره فعضده وأعطاه ابن هود ثلاثين حصنا في كف غربه بسبب ابن الأحمر وليعينه على ملك قرطبة فتسلمها ثم تغلب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة أعادها الله ثم نازل إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه ثم دخلها صلحا وملك أعمالها ثم ملك مرسية سنة خمس وستين ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك المسلمين كورة كورة وثغرا ثغرا إلى أن لجأ المسلمون إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب وإلبيرة من شرق الأندلس نحو عشر مراحل من الغرب إلى الشرق وفي قدر مرحلة أو دونها في العرض ما بين البحر والجوف ثم سخط ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء على سائر الجزيرة فامتنعت عليه وتلاحق بالأندلس الغزاة من بني مرين وغيرهم وعقد ملك المغرب

آلاف منهم فأجازوا في حدود الستين وستمائة وتقبل ابن الأحمر إجازتهم ودفع بهم في نحر عدوه ورجعوا ثم تناسلوا إليه بعد ذلك ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة وولي بعده ابنه محمد الفقيه وأوصاه باستصراخ بني مرين ملوك المغرب بعد الموحدين إن طرقه أمر أن يعتضد بهم فأجاز الفقيه إلى يعقوب بن عبد الحق سلطان فاس والمغرب سنة ثنتين وسبعين فأجاب صريخه وأرسل ابنه وعساكره معه ثم أجاز على أثره وتسلم الجزيرة الخضراء من ثائر كان بها وجعلها ركابا لجهاده ونزل إليه ابن الأحمر عن طريف وما إليها من الحصون وهزم هو وابن الأحمر زعيم النصرانية ذنبه وفرق جمعه وأوقع بجموع الطاغية من كل جهة وبث سراياه وبعوثه في أرض النصرانية ثم خاف ابن الأحمر على ملكه وصالح الطاغية ثم عاد انتهى كلام ابن خلدون ملخصا
وثبتت قدم عقب ابن الأحمر بالأندلس واستولوا على جميع ما بأيدي المسلمين من ملكها مثل الجزيرة وطريف ورندة التي كانت بيد بني مرين

بين دون بطره وأبي الوليد ابن الأحمر
وبعد مدة ألب ملوك النصارى سنة تسع عشرة وسبعمائة على غرناطة وجاءها الطاغية بدون بطره في جيش لا يحصى ومعه خمسة وعشرون ملكا وكان من خبر هذه الوقعة أن الإفرنج حشدوا وجمعوا وذهب سلطانهم دون بطره إلى طليطلة ودخل على مرجعهم الذي يقال له البابا وسجد له وتضرع وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين بالأندلس وأكد عزمه فقلق المسلمون بغرناطة وغيرها وعزموا على الاستنجاد بالمريني أبي سعيد

صاحب فاس وأنفذوا إليه رسلا فلم ينجع ذلك الدواء فرجعوا إلى أعظم الأدوية وهو اللجأ إلى الله تعالى وأخلصوا النيات وأقبل الإفرنج في جموع لا تحصى فقضى ناصر من لا ناصر له سواه بهزم أمم النصرانية وقتل طاغيتهم دون بطره ومن معه وكان نصرا عزيزا ويوما مشهودا
وكان السلطان إذ ذاك بالأندلس الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن نصر المعروف بابن الأحمر رغب أن يحصن البلاد والثغور فلما بلغ النصارى ذلك عزموا على منازلة الجزيرة الخضراء فانتدب السلطان ابن الأحمر لردهم وجهز الأساطيل والرجال فلما رأوا ذلك طلبوا إلى طليطلة وعزموا على استئصال بلاد المسلمين وتأهبوا لذلك غاية الأهبة ووصلت الأثقال والمجانيق وآلات الحصار والأقوات في المراكب ووصل العدو إلى غرناطة وامتلأت الأرض بهم فتقدم السلطان إلى شيخ الغزاة الشيخ العالم أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء المريني بالخروج إلى لقائهم بأنجاد المسلمين وشجعانهم فخرج إليهم يوم الخميس الموفى عشرين لربيع الأول
ولما كانت ليلة الأحد أغارت سرية من العدو على ضيعة من المسلمين فخرجت إليهم جماعة من فرسان الأندلس الرماة فقطعوهم عن الجيش وفرت تلك السرية أمامهم إلى جهة سلطانهم فتبعهم المسلمون إلى الصبح فاستأصلوهم وكان هذا أول النصر
ولما كان يوم الأحد ركب الشيخ أبو سعيد لقتال العدو في خمسة آلاف من أبطال المسلمين المشهورين فلما شاهدهم الفرنج عجبوا من إقدامهم مع قتلهم في تلك الجيوش العظيمة فركبوا وحملوا بجملتهم عليهم فانهزم الفرنج أقبح هزيمة وأخذتهم السيوف وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيام وخرج أهل غرناطة لجمع الأموال وأخذ الأسرى فاستولوا على أموال عظيمة منها من الذهب فيما قيل ثلاثة وأربعون قنطارا ومن الفضة مائة وأربعون قنطارا ومن السبي سبعة

بعض الغرناطيين إلى الديار المصرية وكان من جملة الأسرى امرأة الطاغية وأولاده فبذلت في نفسها مدينة طريف وجبل الفتح وثمانية عشر حصنا فيما حكى بعض المؤرخين فلم يقبل المسلمون ذلك وزادت عدة القتلى في هذه الغزوة على خمسين ألفا ويقال إنه هلك منهم بالوادي مثل هذا العدد لعدم معرفتهم بالطريق وأما الذين هلكوا بالجبال والشعاب فلا يحصون وقتل الملوك الخمسة والعشرون جميعهم واستمر االبيع في الأسرى والأسباب والدواب ستة أشهر ووردت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد
ومن العجب أنه لم يقتل من المسلمين والأجناد سوى ثلاثة عشر فارسا وقيل عشرة أنفس وقيل كان عسكر الإسلام نحو ألف وخمسمائة فارس والرجالة نحوا من أربعة آلاف راجل وقيل دون ذلك
وكانت الغنيمة تفوت الوصف وسلخ الطاغية دون بطره وحشي جلده قطنا وعلق على باب غرناطة وبقي معلقا سنوات وطلبت النصارى الهدنة فعقدت لهم بعد أن ملكوا جبل الفتح الذي كان من أعمال سلطان فاس والمغرب وهو جبل طارق ولم يزل بأيديهم إلى أن ارتجعه أمير المسلمين أبو الحسن المريني صاحب فاس والمغرب بعد ان أنفق عليه الأموال وصرف إليه الجنود والحشود ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه وضيقوا به إلى أن استرجعوه ليد المسلمين واهتم ببنائه وتحصينه وأنفق عليه أحمال مال في بنائه وحصنه وسوره وأبراجه وجامعه ودوره ومخازنه ولما كاد يتم ذلك نازله العدو برا وبرحا فصبر المسلمون وخيب الله سعي الكافرين فأراد السلطان المذكور أن يحصن سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدو في منازلته ولا يجد سبيلا للتضييق عند محاصرته ورأى الناس ذلك

الهالة بالهلال وكان بقاء هذا الجبل بيد العدو نيفا وعشرين سنة وحاصره السلطان أبو الحسن ستة أشهر وزاد في تحصينه ابنه السلطان أبو عنان ولما أجاز السطان أبو الحسن المذكور إلى الأندلس واجت مع عليه ابن الأحمر وقاتلهم الطاغية هزمهم في وقعة طريف واستولى على الجزيرة الخضراء حتى قيض الله من بني الاحمر الغني بالله محمدا الذي كان لسان الدين بن الخطيب وزيره فاسترجعها وجملة بلاد كجيان وغيرها
وكانت له في الجهاد مواقف مشهورة وامتد ملكه واشتد حتى محا دولة سلاطين فاس مما وراء البحر وملك جبل الفتح ونصر الله الإسلام على يده كما ستقف عليه في بعض مكاتبات لسان الدين رحمه الله في مواضع من هذا الكتاب وسعد هذا الغني بالله من العجائب
وبقي ملك الأندلس في عقبه إلى أن أخذ ما بقي من الأندلس العدو الكافر واستولى على حضرة الملك غرناطة أعادها الله للإسلام كما تبين إن شاء الله وخلت جزيرة الأندلس من أهل الإسلام وأبدلت من النور بالظلام حسبما اقتضته الأقدار النافذة والأحكام والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين

شيخ الغزاة أيام بني الأحمر
قال ابن خلدون واتفق بنو الأحمر سلاطين غرناطة أن يجعلوا مشيخة الغزاة لواحد يكون من أقارب بني مرين سلاطين المغرب لأنهم أول من ولي الأندلس عند استيلاء بني عمهم على ملك المغرب لما بينهم

وكان لهؤلاء في الجهاد مواقف مشهورة وسأذكر لك ما كتب على قبر شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلاء لتستدل عند ذلك على ما ذكرناه بحمد الله تعالى هذا قبر شيخ الحماة وصدر الأبطال الكماة واحد الجلالة ليث الإقدام والبسالة علم الأعلام حامي ذمار الإسلام صاحب الكتائب المنصورة والأفعال المشهورة والمغازي المسطورة وإمام الصفوف القائم بباب الجنة تحت ظلال السيوف سيف الجهاد وقاصم الأعاد وأسد الآساد العالي الهمم الثابت القدم الهمام المجاهد الأرضى البطل الباسل الأمضى المقدس المرحوم أبي سعيد عثمان ابن الشيخ الجليل الهمام الكبير الأصيل الشهير المقدس المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق كان عمره ثمانيا وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوة وقطع عمره مجاهدا مجتهدا في طاعة الرب محتسبا في إدارة الحرب ماضي العزائم في جهاد الكفار مصادما بين جموعهم تدفق التيار وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار ما سار ذكره في الأقطار أشهر من المثل السيار حتى توفي رحمه الله وغبار الجهاد طي أثوابه وهو مراقب لطاغية الكفار وأحزابه فمات على ما عاش عليه وفي ملحمة الجهاد قبضه الله تعالى إليه واستأثر به سعيدا مرتضى وسيفه على رأس ملك الروم منتضى مقدمة قبول وإسعاد ونتيجة جهاد وجلاد ودليلا على نيته الصاحلة وتجارته الرابحة فارتجت الأندلس لبعده أتحفه الله تعالة رحمة الله من عنده توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من عام ثلاثين وسبعمائة انتهى
ومنها ما كتب به لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في تولية علي ابن بدر الدين

أبواب السراء وراق طرازا مذهبا على عاتق الدولة الغراء وأعمل عوامل الجهاد في طاعة رب العباد شارعة لأهل الكفر والعناد من باب الإعمال والإغراء أمر به فلان صدر صدور أددائه وحسامه المشهور على أعدائه ووليه الذي خبر صدق وفائه وجلى في مضمار الخلوص له مغبرا في وجوه أكفائه شيخ شيوخ المجاهدين وقائد كتائبه المنصورة إلى غزو الكافرين المعتدين وعترته التي يدافع بها عن الدين وسابق وده المبرز في الميادين الشيخ الأجل إلى آخر ما وصفه به مما ضاق الوقت عن مثله والله ولي

الباب الرابع
في ذكره قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة والإلماع بحضرتي الملك الناصرية الزهراء والعامرية الزاهرة ووصف جملة من منتزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة وما يجر إليه شجون الحديث من أمور تقضي بحسن إيرادها القرائح الوقادة والأفكار الماهرة
نقول في وصف قرطبة
قال ابن سعيد رحمه الله مملكة قرطبة في الإقليم الرابع وإيالته للشمس وفي هذه المملكة معدن الفضة الخالصة في قرية كرتش ومعدن الزئبق والزنجفر في بلد بسطاسة ولأجزائها خواص مذكورة في متفرقاتها وأرضها أرض كريمة للنبات انتهى
وقدم رحمه الله في المغرب الكلام عليها على سائر أقطار الأندلس وقال إنما قدمنا هذه المملكة من بين سائر الممالك الأندلسية لكون سلاطين الأندلس الأول اتخذوها سريرا لسلطنة الأندلس ولم يعدلوا عن حضرتها قرطبة ثم سلاطين بني أمية وخلفاؤهم لم يعدلوا عن هذه المملكة وتقلبوا منها

اتخذوها لهذا الشأن لما رأوها لذلك أهلا وقرطبة أعظم علما وأكثر فضلا بالنظر إلى غيرها من الممالك لاتصال الحضارة العظيمة والدولة المتوارثة فيها
ثم قسم ابن سعيد كتاب الحلة المذهبة في حلى ممالك قرطبة بالنظر إلى الكور إلى أحد عشر كتابا
الكتاب الأول كتاب الحلة الذهبية في حل الكورة القرطبية
الكتاب الثاني كتاب الدرر المصونة في حلى كورة بلكونة
الكتاب الثالث كتاب محادثة السمير في حلى كورة القصير
الكتاب الرابع كتاب الوشي المصور في حلى كورة المدور
الكتاب الخامس كتاب نيل المراد في حلى كورة مراد
الكتاب السادس كتاب المزنة في حلى كورة كزنة
الكتاب السابع كتاب الدر النافق في حلى كورة غافق
الكتاب الثامن كتاب النفحة الأرجة في حلى كورة إستجة
الكتاب التاسع كتاب الكواكب الدرية في حلى الكورة القبرية
الكتاب العاشر كتاب رقة المحبة في حلى كورة إستبة الكتاب الحادي عشر كتاب السوسانة في حلى كورة اليسانة انتهى
ثم قال رحمه الله تعالى إن العمارة اتصلت في مباني قرطبة والزهراء والزاهرة بحيث إنه كان يمشى فيها لضوء السرج المتصلة عشرة أميال حسبما ذكره الشقندي في رسالته ثم قال ولكل مدينة من مدن قرطبة وأعمالها ذكر مختص به ثم ذكر المسافات التي بين ممالك قرطبة المذكورة فقال بين المدور وقرطبة ستة عشر ميلا وبين قرطبة ومراد خمسة وعشرون ميلا وبين قرطبة والقصير ثمانية عشر ميلا وبين قرطبة وغافق مرحلتان

مرحلتان وبين قرطبة واليسانة أربعون ميلا وبين قرطبة وقبره ثلاثون ميلا وبين قرطبة وبيانة مرحلتان وبين قرطبة وإستجة ثلاثون ميلا وكورة رندة كانت من في القديم عمل قرطبة ثم صارت من مملكة إشبيلية وهي أقرب وأدخل في المملكة الإشبيلية انتهى
ثم قسم رحمه الله تعالى كتاب الحلة الذهبية في حلى الكورة القرطبية إلى خمسة كتب
الكتاب الأول كتاب النغم المطربة في حلى حشرة قرطبة
الكتاب الثاني كتاب الصبيحة الغراء في حلى حضرة الزهراء
الكتاب الثالث كتاب البدائع الباهرة في حلى حضرة الزاهرة الكتاب الرابع كتاب الوردة في حلى مدينة شقندة
الكتاب الخامس كتاب الجرعة السيغة في حلى كورة وزغة
وقال رحمه الله تعالى في كتاب النغم المطربة في حلى حضرة قرطبة إن حضرة قرطبة إحدى عرائس مملكتها وفي اصطلاح الكتاب أن للعروس الكاملة الزينة منصة وهي مختصة بما يتعلق بذكر المدينة في نفسها وتاجا وهو مختص بالإيالة السلطانية وسلكا وهو مختص بأصحاب درر الكلام من النثار والنظام وحلة وهي مختصة بأعلام العلماء المصنفين الذين ليس لهم نظم ولا نثر ولا يحب إهمال تراجمهم وأهدابا وهي مختصة بأصحاب فنون الهزل وما ينحو منحاه انتهى
ثم فصل رحمه الله تعالى ذلك كله بما تعددت منه الأجزاء وقد لخصت منه هنا بعض ما ذكره ثم أردفته بكلام غيره فأقول قال في كتاب أجار

إن قرظبه بالظاء المعجمة ومعناه أجر ساكنها يعني عربت بالطاء ثم قال ودور مدينة قرطبة ثلاثون ألف ذراع انتهى
وقال غيره إن تكسيرها ومساحتها التي دار السور عليها دون الأرباض طولا من القبلة إلى الجوف ألف وستمائة ذراع واتصلت العمارة بها أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولا وفرسخين عرضا وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول وفي العرض ستة وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي المسمى بالوادي الكبير وليس في الأندلس واد يسمى باسم عربي غيره ولم تزل قرطبة في الزيادة منذ الفتح الإسلامي إلى سنة أربعمائة فانحطت واستولى عليها الخراب بكثرة الفتن إلى أن كانت الطامة الكبرى عليها بأخذ العدو الكافر لها ثالث عشري شوال سنة ستمائة وثلاث وثلاثين
ثم قال هذا القائل ودور قرطبة أعني المسورمنها دون الأرباض ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ودور قصر إمارتها ألف ذراع ومائة ذراع انتهى
وعدد أرباضها واحد وعشرون في كل ربض منها من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم باهله ولا يحتاجون إلى غيره وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له وكان لا يجعل القالص عندهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه و سلم وحفظ المدونة وكان هؤلاء المقلصون المجاورون لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة ويسلمون عليه ويطالعونه بأحوال بلدهم

قال وانتهت جباية قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار بالإنصاف وقد ذكرنا في موضع آخر ما فيه مخالفة لهذا فالله أعلم
وما أحسن قول بعضهم
( دع عنك حضرة بغداد وبهجتها ... ولا تعظم بلاد الفرس والصين )
( فما على الأرض قطر مثل قرطبة ... وما مشى فوقها مثل ابن حمدين )
وقال بعضهم قرطبة قاعدة الأندلس ودار الملك التي يجبي لها ثمرات كل جهة وخيرات كل ناحية واسطة بين الكور موفية علىالنهر زاهرة مشرقة أحدقت بها المنى فحسن مرآها وطاب جناها
وفي كتاب فرحة الأندلس لابن غالب أما قرطبة فإنه اسم ينحو إلى لفظ اليونانيين وتأويله القلوب المشككة
وقال أبو عبيد البكري إنها في لفظ القوط بالظاء المعجمة وقال الحجاري الضبط فيها بإهمال الطاء وضمها وقد يكسرها المشرقيون في الضبط كما يعجمها آخرون انتهى
وقال بعض العلماء أما قرطبة فهي قاعدة الأندلس وقطبها وقطرها الأعظم وأم مدائنها ومساكنها ومستقر الخلفاء ودار المملكة في النصرانية والإسلام

وتابعي التابعين ويقال نزلها بعض من الصحابة وفيه كلام
وهي مدينة عظيمة أزلية من بنيان الأوائل طيبة الماء والهواء أحدقت بها البساتين والزيتون والقرى والحصون والمياه والعيون من كل جانب وبها المحرث العظيم الذي ليس في بلاد الأندلس مثله ولا أعظم منه بركة
وقال الرازي قرطبة أم المدائن وسرة الأندلس وقرارة الملك في القديم والحديث والجاهلية والإسلام ونهرها أعظم أنهار الأندلس وبها القنطرة التي هي إحدى غرائب الأرض في الصنعة والإحكام والجامع الذي ليس في بلاد الأندلس والإسلام أكبر منه
وقال ابن حوقل هي أعظم مدينة بالأندلس وليس بجميع المغرب لها عندي شبيه كثرة أهل وسعة محل وفسحة أسواق ونظافة محال وعمارة مساجد وكثرة حمامات وفنادق ويزعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد فهي قريبة من ذلك ولاحقة به وهي مدينة حصينة ذات سور من حجارة ومحال حسنة وفيها كان سلاطينهم قديما ودورهم داخل سورها المحيط بها وأكثر أبواب القصر السلطاني من البلد وجنوب قرطبة على نهرها
قال وقرطبة هذه بائنة عن مساكن أرباضها ظاهرة ودرت بها في غير يوم في قدر ساعة وقد قطعت الشمس خمس عشرة درجة ماشيا
وقال الحجاري وكانت قرطبة في الدولة المروانية قبة الإسلام

الديار الكثيرة المنفسحة والشوارع المتسعة والمباني الضخمة والنهر الجاري والهواء المعتدل والخارج النضر والمحرث العظيم والشعراء الكافية والتوسط بين شرق الأندلس وغربها قال فقلت ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول
ثم قال ابن سعيد ومن كلام والدي في شأنها هي من أحسن بلاد الأندلس مباني وأوسعها مسالك وأبرعها ظاهرا وباطنا وتفضل إشبيلية بسلامتها في فصل الشتاء من كثرة الطين ولأهلها رياسة ووقار لا تزال سمة العلم متوارثة فيهم إلا أن عامتها أكثر الناس فضولا وأشدهم تشنيعا وتشغيبا ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام علىالملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضى بأمورهم حتى إن السيد أبا يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن لما انفصل عن ولايتها قيل له كيف وجدت أهل قرطبة قال مثل الجمل إن خففت عنه الحمل صاح وإن أثقلته به صاح ما ندري أين رضاهم فنقصده ولا أين سخطهم فنتجنبه وما سلط الله عليهم حجاج الفتنة حتى كان عامتها شرا من عامة العراق وإن العزل عنها لما قاسيت من أهلها عندي ولاية وإني إن كلفت العود إليها لقائل لايلدغ المؤمن من جحر مرتين
قال والدي ومن محاسنها ظرف اللباس والتظاهر بالدين والمواظبة على الصلاة وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها والتستر بأنواع المنكرات والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم وهي أكثر بلاد الأندلس كتبا وأشد الناس اعتناء بخزائن الكتب صار ذلك عندهم من الآت لتعين والرياسة حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب وينتخب فيها ليس إلا لأن يقال فلان

ليس هو عند أحد غيره والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفربه
قال الحضرمي أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح ففرحت به أشد الفرح فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إلي المنادي بالزيادة علي إلى أن بلغ فوق حده فقلت له يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي قال فأراني شخصا عليه لباس رياسة فدوت منه وقلت له أعز الله سيدنا الفقيه إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده قال فقال لي لست بفقيه ولا أدري ما فيه ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير قال الحضرمي فأحرجني وحملني على أن قلت له نعم لا يكون الرزق كثيرا إلا عند مثلك يعطي الجوز من لا عنده أسنان وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب وأطلب الانتفاع به يكون الرزق عندي قليلا وتحول قلة ما بيدي بيني وبينه
قال ابن سعيد وجرت مناظرة بين يدي منصور بني عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه ما أدري ما تقول غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية
ولما ذكر ابن بشكوال قصر قرطبة قال هو قصر أولي تداولته

الأمم من لدن عهد موسى النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان منذ فح الله عليهم الأندلس بما فيها في قصرها البدائع الحسان وأثروا فيه الآثار العجيبة والرياض المونقة وأجروا فيه المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة وتمونوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر المكرم وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرصاص تؤديها منها إلى المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة
قال وفي هذا القصر القصاب العالية السمو المنيفة العلو التي لم ير الراؤون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها
قال ومن قصوره المشهورة وبساتينه المعروفة الكامل والمجدد وقصر الحائر والروضة والزاهر والمعشوق والمبارك والرشيق وقصر السرور والتاج والبديع
قال ومن أبوابه التي فتحها الله لنصر المظلومين وغياث الملهوفين والحكم بالحق الباب الذي عليه السطح المشرف الذي لا نظير له في الدنيا وعلى هذا الباب باب حدي وفيه حلق لاطون قد أثبتت في قواعدها وقد صورت صورة إنسان فتح فمه وهي حلق باب مدينة أربونة من بلد الإفرنج وكان الأمير محمد قد افتتحها فجلب حلقها إلى هذا الباب وله باب قبلي أيضا وهو المعروف بباب الجنان وقدام هذين البابين

المشرف على النهر الأعظم مسجدان مشهوران بالفضل كان الأمير هشام الرضى يستعمل الحكم في المظالم فيهما ابتغاء ثواب الله الجزيل وله باب ثالث يعرف بباب الوادي وله باب بشماليه يعرف بباب قورية وله باب رابع يدعى بباب الجامع وهو باب قديم كان يدخل منه الخلفاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع على الساباط وعدد أبوابا بعد هذا طمست أيام فتنة المهدي ابن عبد الجبار
وذكر ابن بشكوال رحمه الله أن أبواب قرطبة سبعة أبواب باب القنطرة إلى جهة القبلة ويعرف بباب الوادي وبباب الجزيرة الخضراء وهو على النهر وباب الحديد ويعرف بباب سرقسطة وباب ابن عبد الجبار وهو باب طليطلة وباب رومية وفيه تجتمع الثلاثة الرصف التي تشق دائرة الأرض من جزيرة قادس إلى قرمونة إلى قرطبة إلى سرقسطة إلى طركونة إلى أربونة مارة في الأرض الكبيرة ثم باب طلبيرة وهو أيضا باب ليون ثم باب عامر القرشي وقدامه المقبرة المنسوبة إليه ثم باب الجوز ويعرف بباب بطليوس ثم باب العطارين وهو باب إشبيلية انتهى
وذكر أيضا أن عدد أرباض قرطبة عند انتهائها في التوسيع والعمارة واحد وعشرون ربضا منها القبلية بعدوة النهر ربض شقندة وربض منية عجب وأما الغريبة فتسعة ربض حوانيت الريحان وربض الرقاقين وربض مسجد الكهف

حمام الإلبيري وربض مسجد المسرور وربض مسجد الروضة وربض السجن القديم وأما الشمالية فثلاثة ربض باب اليهود وربض مسجد أم سلمة وربض الرصافة وأما الشرقية فسبعة ربض شبلار وربض فرن بريل وربض البرج وربض منية عبد الله وربض منية المغيرة وربض الزاهرة وربض المدينة العتيقة
قال ووسط هذه الأرباض قصبة قرطبة التي تختص بالسور دونها وكانت هذه الأرباض دون سور فلما كانت أيام الفتنة صنع لها خندق يدور بجميعها وحائط مانع وذكر ابن غالب أنه كان دور هذا الحائط أربعة عشر ميلا وشقندة معدودة في المدينة لأنها مدينة قديمة كانت مسورة

منتزهات قرطبة
قال ابن سعيد في المغرب ولنذكر الآن من منتزهات قرطبة ومعاهدها المذكورة في الألسن نظما ونثرا ما انتهى إليه الضبط من غير تغلغل في غير المشهور منها والأهم ونوشي ذلك بجميع ما يحضرني من مختار النظم في قرطبة وما يحتوي عليه نطاقها المذكور
فأول ما نذكر من المنتزهات منتزه الخلفاء المروانية وهو قصر الرصافة قال والدي رحمه الله كان مما ابتناه عبد الرحمن بن معاوية في أول أيامه لنزهه

منحرفة إلى الغرب فاتخذ بها قصرا حسنا ودحا جنانا واسعة ونقل إليها غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية وأودعها ما كان استجلبه يزيد وسفر رسولاه إلى الشأم من النوى المختار والحبوب الغريبة حتى نمت بيمن الجد وحسن التربية في المدة القريبة أشجارا معتمة أثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عما قليل بأرض الأندلس فاعترف بفضلها على أنواعها قال وسماها باسم رصافة جده هشام بأرض الشأم الأثيرة لديه وامتثله في اختيار رصافته هذه وكلفه بها وكثرة تردده عليها وسكناه أكثر أوقاته بها فطار لها الذكر في أيامه واتصل من بعده في إيثارها
قال وكلهم فضلها وزاد في عمارتها وانبرى وصاف الشعراء لها فتناغوا في ذلك فيما هو إلى الآن مأثور عنهم مستجاد منهم
قال ابن سعيد والرمان السفري الذي فاض على أرجاء الأندلس وصاروا لا يفضلون عليه سواه أصله من هذه الرصافة وقد ذكر ابن حيان شأنه وأفرد له فصلا فقال إنه الموصوف بالفضيلة المقدم على أجناس الرمان بعذوبة الطعم ورقة العجم وغزارة الماء وحسن الصورة وكان رسوله إلى الشأم في توصيل أخيته منها إلى الأندلس قد جلب طرائف منها من رمان الرصافة المنسوبة إلى هشام قال فعرضه عبد الرحمن على خواص رجاله مباهيا به وكان فيمن حضره منهم سفر بن عبيد الكلاعي من جند الأردن ويقال هو من الأنصار الذين كانوا يحملون ألوية رسول

أمية فأعطاه من ذلك الرمان جزءا فراقه حسنه وخبره فسار به إلى قرطبة بكورة رية فعالج عجمه واحتال لغرسه وغذائه وتنقيله حتى طلع شجرا أثمر وأينع فنزع إلى عرقه وأغرب في حسنه فجاء به عما قليل إلى عبد الرحمن فإذا هو أشبه شيء بذلك الرصافي فسأله الأمير عنه فعرفه وجه حيلته فاستبرع استنباطه واستنبل همته وشكر صنعه وأجزل صلته واغترس منه بمنية الرصافة وبغيرها من جناته فانتشر نوعه واستوسع الناس في غراسه ولزمه النسب إليه فصار يعرف إلى الآن بالرمان السفري
قال وقد وصف هذا الرمان أحمد بن فرج الشاعر في أبيات كتب بها إلى بعض من أهداه له فقال
( ولابسة صدفا أحمرا ... أتتك وقد ملئت جوهرا )
( كأنك فاتح حق لطيف ... تضمن مرجانه الأحمرا )
( حبوبا كمثل لثات الحبيب ... رضابا إذا شئت أو منظرا )
( وللسفر تعزى وما سافرت ... فتشكو النوى أو تقاسي السرى )
( بلى فارقت أيكها ناعما ... رطيبا وأغصانها نضرا )
( وجاءتك معتاضة إذ أتتك ... بأكرم من عودها عنصرا )
( بعود ترى فيه ماء الندى ... ويورق من قبل أن يثمرا )
( هدية من لو غدت نفسه ... هديته ظنه قصرا )
وقال ابن سعيد وأخبرني والدي قال أخبرني الوشاح المبرز المحسن أبو الحسن المريني قال بينما أنا أشرب مع ندماني بإزاء

رث الهيئة مجفوا الطلعة قد جاء فجلس معنا فقلنا له ما هذا الإقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة فقال لا تعجلوا علي ثم فكر قليلا ورفع رأسه فأنشدنا
( أسقنيها إزاء قصر الرصافة ... واعتبر في مآل أمر الخلافة )
( وانظر الأفق كيف بدل أرضا ... كي يطيل اللبيب فيه اعترافه )
( ويرى أن كل ما هو فيه ... من نعيم وعز أمر سخافة )
( كل شيء رأيته غير شيء ... ما خلا لذة الهوى والسلافة )
قال المريني فقلبت رأسه وقلت له بالله من تكون فقال قاسم بن عبود الرياحي الذي يزعم الناس أنه موسوس أحمق قال فقلت له ما هذا شعر أحمق وإن العقلاء لتعجز عنه فبالله إلا ما تممت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك ومناشدة طرف أشعارك فنادم وأنشد وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكرا ويقول اللهم

قال ومن أبدع قصور خارج قرطبة قصر السيد أبي يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن وهو على متن النهر الأعظم تحمله أقواس وقيل للسيد كيف تأنقت في بنيان هذا القصر مع انحرافك عن أهل قرطبة فقال علمت أنهم لا يذكرون واليا بعد عزله ولا له عندهم قدر لما بقي في رؤوسهم من الخلافة المروانية فأحببت أن يبقى لي في بلادهم أثر أذكر به على رغمهم
قال ابن سعيد وأخبرني والدي أن ناهض بن إدريس شاعر وادي آش في عصره أنشده لنفسه في هذا القصر
( ألا حبذا القصر الذي ارتفعت به ... على الماء من تحت الحجارة وأقواس )
( هو المصنع الأعلى الذي أنف الثرى ... ورفعه عن لثمه المجد والباس )
( فأركب متن النهر عزا ورفعة ... وفي موضع الأقدام لا يوجد الراس )
( فلا زال معمور الجناب وبابه ... يغص وحلت أفقه الدهر أعراس أعراس )
وقال الفتح في قلائده لما ذكر الوزير ابن عمار وتنزه بالدمشق بقرطبة وهو قصر شيده بنو أمية بالصفاح والعمد وجري في إتقانه إلى غير أمد وأبدع بناؤه ونمقت ساحاته وفناؤه وانخذوه ميدان مراحهم ومضمار أفراحهم وحكوا به قصرهم بالمشرق وأطلعوه كالكوكب المشرق وأنشد فيه لابن عمار
( كل قصر بعد الدمشق يذم ... فيه طاب الجنى ولذ المشم )
( منظر رائق وماء نمير ... وثرى عاطر وقصر أشم )
( بت فيه والليل والفجر عندي

وهي منسوبة للحاجب أبي عثمان جعفر بن عثمان المصحفي
وذكر الحجاري في المسهب أن الرئيس أبا بكر محمد بن أحمد بن جعفر المصحفي اجتاز بالمنية المصحفية التي كانت لجده أيام حجابته للخليفة الحكم المستنصر فاستعبر حين بذكر ما آل إليه حال جده مع المنصور بن أبي عامر واستيلاءه على ملكه وأملاكه فقال
( قف قليلا بالمصحفية واندب ... مقلة أصبحت لا إنسان )
( واسألنها عن جعفر وسطاه ... ونداه في سالف الأزمان )
( جعفر مثل جعفر حكم الدهر ... عليه بعسرة وهوان )
( ولكم حذر الردى فصممنا ... لاأمان لصاحب السلطان )
( بينما يعتلي إذا خافضا منه ... اكتساب ككفة الميزان )
ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة
قال ابن سعيد أخبرني والدي عن أبيه قال خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح النوار أبو بكر بن بقي الشاعر المشهور فجلسنا تحت سطر من أشجار اللوز قد نورت فقال ابن بقي
( سطر من اللوز في البستان قابلني ... ما زاد على شيء ولا نقصا )
( كأنما كل غصن كم جارية ... إذا النسيم ثنى أعطافه رقصا )

ثم قال شعرا منه
( عجبت لمن أبعتي على خمر دنه ... غداة رأى لوز الحديقة نورا )
ولا أذكر بقية الأبيات قال جدي ثم اجتمعت به بعد ذلك بغرناطة فذكرته باجتماعه في منية الزبير فتنهد وفكر ساعة وقال اكتبوا عني فكتبنا
( سقى الله بستان الزبير ودام في ... مجاريه سيل النهر ما غنت الورق )
( فكائن لنا من نعمة في ج نابه ... كبزته الخضراء طالعها طلق )
( هو الموضع الزاهي على كل موضع ... أما ظله ضاف أما ماؤه دفق )
( أهيم به في حالة القرب والنوى ... وحق له مني التذكر والعشق )
( ومن ذلك النهر الخفوق فؤاده ... بقلبي ما غيبت عن وجهه خفق )
قال فقلت له جمع الله بينك وبينه على الحالة التي تشتهي قال ذلك لك قلت وكيف ذلك قال تدفع لي هذا السيف الذي تقلدت به أتزود به إليه وأنفق الباقي فيه على ما تعلم قال فقلت له هذا سيف شرفني به السلطان أبو زكرياء ابن غانية وما لعطائه سبيل ولكن أعطيك قيمته فرخج وأتى بشخص يعرف قيمة السيوف فقدره وجعل يقول إنه سيف السلطان ابن غانية ليعظم قدره في عينه فيزيد في قيمته ثم قبض ما قدر به وأنشد ارتجالا
( أطال الله عمر فتى سعيد ... وبقاه ورقته السعود )
( غدا لي جوده سببا لعودي ... إلى وطني فها أنا ذا أعود )
( وألثم كفه شكرا ويتلو

( حباني من ذخائره بسيف
به لم يبق للأحزان جيد )
والقصر الفارسي من القصور المقصودة للنزاهة بخارج قرطبة وقد ذكره الوزير أبو الوليد ابن زيدون في قصيد ضمنه من منتزهات قرطبة ما تقف عليه وكان قد فر من قرطبة أيام بني جهور فحضره في فراره عيد ذكره بأعياد وطنه ومعاهده الأنسية مع ولادة التي كان يهواها ويتغزل فيها فقال
( خليلي لا فطر يسر ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقا كما أضحى )
وستأتي هذه القصيدة في هذا الباب كما ستأتي قصيدة أبي القاسم ابن هشام القرطبي التي أولها
( يا هبة باكرت من نحو دارين ... )
وفيها كثير من منتزهات قرطبة
قال ابن سعيد كان والدي كثيرا ما يأمرني بقراءتها عليه ويقول والله لقد أنبأت عن فضل لهذا الرجل قال وكان أبو يحيى الحضرمي يحفظها ويزين بها مجالسه ويحلف أن لا ينشدها بمحضر جاهل لا يفهم أو حاسد لا ينصف في الاهتزاز لها وإنه لجدير بذلك وإنها لمن كنوز الأدب
ثم قال والمرج النضير المذكور بها هو مرج الخز أخبرني والدي أنه حضر في زمان الصبا بهذا المرج على راحة ومعه الرئيس الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي والمسن ابن دريدة المشهور بخفة الروح

والمرج قد أحدق به الوادي والشمس قد مالت عليه للغروب فقال لي أبو الحسين بالله صف يومنا وحسن هذا المنظر فقلت لا أصفه أو تصفه أنت فقال ولك مني ذلك فأفكر كل منا على انفراد بعدما ذكرنا ما نضف نثرا فقال أبو الحسين الوقشي
( لله يوم بمرج الخز طاب لنا ... فيه النعيم بحيث الروض والنهر )
( وللإوز على أرجائه لعب ... إذا جرت بددت ما بيننا الدرر )
( والشمس تجخ نحو البين ماثلة ... كأن عاشقها في الغرب ينتظر )
( والكأس جاثلة باللب حائرة ... وكلنا غفلات الدهر نبتدر )
قال فقلت
( ألا حبذا يوم ظفرنا بطيبة ... بأكناف مرج الخز والنهر يبسم )
( وقد مرحت فيه الإوز وأرسلت ... على سندس درا به يتنظم )
( ومد به للشمس فهور كأنه ... لثام لها ملقى من النور معصم )
( أدرنا عليه أكؤسا بعثت به ... من الأنس ميتا عاد وهو يكلم )
( غدونا إليه صامتين سكينة ... فرحنا وكل بالهوى يترنم )
فأظهر كل منا لصاحبه استحسان ما قال تنشيطا وتتميما للمسرة ثم قلنا للمسن ما عندك أنت ما تعارض به هاتين القطعتين قال بهذا ورفع رجله وحبق حبقة فرقعت منها أرجاؤه فقال له أبو الحسين ما هذا يا شيخ السوء فقال الطلاق له لازم إن لم تكن أوزن من شعركما وأطيب رائحة وأغن صوتا وأطرب معنى

الاهتزاز لموقع نادرته فقال والدليل على ذلك انه أنكم طربتم لما جئت به أكثر مما طربتم من شعركم
ثم قال ابن سعيد ومن منتزهات قرطبة المشهورة فحص السرادق مقصود للفرجة يسرح فيه البصر وتبتهج فيه النفس أخبرني والدي عن أخيه أبي جعفر بن عبد الملك بن سعيد قال خرجت مع الشريف الأصم القرطبي إلى بسيط الجزيرة الخضراء وقد تدبج بالأنوار فلما حركنا حسن المكان وتشوقنا إلى الأركان قال الشريف لقد ذكرني هذا البسيط بسيط السرادق فقلت له فهل ثار في خاطرك نظم فيه قال نعم ثم أنشد
( ألا فدعوا ذكر العذيب وبارق ... ولا تسأموا من ذكر فحص السرادق مجر ذيول السكر من كل مترف ... ومجرى الكؤوس المترعات السوابق )
( قصرت عليه اللحظ ما دمت حاضرا ... وفكري في غيب لمرآة شائقي )
( أيا طيب أيام تقضت بروضة ... على لمح غدران وشم حدائق )
( إذا غردت فيها حمائم دوحها ... تخيلتها الكتاب بين المهارق )
( وما باختيار الطرف فارقت حسنها ولكن بكيد من زمان منافق )
قال أبو جعفر فلما سمعت هذا الشعر لم أتمالك من الاستعبار وحركني ذلك إلى أن قلت في حور مؤمل سيد منتزهات غرناطة ولم يذكر هنا ما قاله فيه وذكره في موضع آخر لم يحضرني الآن حتى أورده هنا والله أعلم
ومن منتزهات قرطبة السد قال

المبرز أبا شهاب المالقي أنشده لنفسه واصفا يوم راحة بهذا السد
( ويوم لنا بالسد لو رد عيشه ... بعيشه أيام الزمان رددناه )
( بكرنا له والشمس في خدر شرقها ... إلى أن أجابت إذ دعا الغرب دعواه )
( قطعناه شدوا واغتباقا ونشوة ... ورجع حديث لو رقى الميت أحياه )
( علىمثله من منزه تبتغي المنى ... فلله ما أحلى وأبدع مرآه )
( شدتنا به الأرحا وألقت نثارها ... علينا فأصغينا له وقبلناه )
( لئن بان إنا بالأنين لفقده ... وبالدمع في إثر الفراق حكيناه )
وأنشدني والدي موشحة لأبي الحسن المريني معاصره وصاحبه يذكر فيها هذا السد وهي
( في نغمة العود والسلافه ... والروض والنهر والنديم )
( أطال من لامني خلافه ... فظل في نصحه مليم )
( دعني على منهج التصابي ... ما قام لي العذر بالشباب )
( ولا تطل في المنى عتابي ... فلست أصغي إلى عتاب )
( لا ترج ردي إلى صواب ... والكأس تفتر عن حباب )
( والغصن يبدي لنا انعطافه ... إذا هفا فوقه النسيم

( يا حبذا عهدي القديم ... ومن به همت مسعدي )
( ريم عن الوصل لا يريم ... مولع بالتودد )
( ما تم إلا به النعيم ... طوعا على رغم حسدي )
( معتدل القد ذو نحافة ... أسقمني طرفه السقيم )
( ورام طرفي به انتصافه ... فخذ في خده الكليم )
( غض الصبا عاطر المقبل ... أحلى من الأمن والأمل )
( ظامي الحشا مفعم المخلخل ... حلو اللمى ساحر المقل )
( لكل من رامه توصل ... لم يخشى ردا بما فعل )
( اشكو فيبدي لي اعترافه ... إن حاد عن نهجه القويم )
( لا أعدم الدهر فيه رافه ... فحق لي فيه أن أهيم )
( لله عصر لنا تقضى ... بالسد والمنبر البهيج )
( أرى أدكاري إليه فرضا ... وشوقه دائما يهيج )
( فكم خلعنا عليه غمضا ... وللصبا مسرح أريج )
( ورد أطال المنى ارتشافه ... حتى انقضى شربه الكريم )
( لله ما أسرع انحرافه ... وهكذا الدهر لا يديم )
( يا من يحث المطي غربا ... عرج على حضرة الملوك )
( وانثر بها إن سفحت غربا ... من مدمع عاطل سلوك )
(

( بلغ سلامي قصر الرصافة ... وذكروا عهدي القديم )
( وحي عني دار الخلافة ... وقف بها وقفة الغريم )
قال ابن سعيد والمنبر المذكور في هذه الموشحة من منتزهات قرطبة والسد هو الأرحا التي ذكرها في زجلة قاسم بن عبود الرياحي رويته عن والدي عن قائله وهو
( بالله أين نصيب ... من ليس لي فيه نصيب )
( محبوبا مخالف ... ومعو رقيب )
( حين نقصد مكانو ... يقم ف المقام )
( ويبخل علينا ... برد السلام )
( أدخلت يا قلبي ... روحك في زحام )
( سلامتك عندي ... هي شي عجيب )
( وكف بالله يسلم ... من هو في لهيب )
( بالله يا حبيبي ... أترك ذا النفار )
( واعمل أن نطيبوا ... في هذا النهار )
( واخرج معي للوادي ... لشرب العقار )
( نتمم

( أو عند النواعر ... والروض الشريق )
( أو قصر الرصافة ... أو وادي العقيق )
( رحق والله دونك ... هو عندي الحريق )
( وفي حبك أمسيت ... في أهلي غريب )
( وما الموت عندي ... إلا حن تغيب )
( اتكل على الله ... وكن فظ جسور )
( وإن ريت فضولي ... وقل إين تمور )
( كمش عنو وجهك ... فإن راك نفور )
( يهرب عنك خايف ... ويبقى مريب )
( وامش أنت موقر ... كأنك خطيب )
( ما أعجب حديثي ... إش هذا الجنون )
( نطلب وندبر ... أمرا لا يكون )
( وكم ذا نهون ... شيئا لا يهون )
( وإش مقدار ما نصبر ... لبعد الحبيب )
( رب اجمعني معو ... عاجلا

نهرها وقنطرتها
قال ابن سعيد وأما نهر قرطبة فإنه يصغر عن عظمه عند إشبيلية بحيث صنع عليه قنطرة من حجارة لا يتأتى مثلها في نهر إشبيلية ومنبعه من جهة شقورة يمر النصف منه إلى مرسية مشرقا والنصف إلى قرطبة وإشبيلية مغربا
ولما ذكر الرازي قرطبة قال ونهرها الساكن في جريه اللين في انصبابه الذي تؤمن مغبة ضرره في حمله وقال هذا لأنه يعظم عند إشبيلية فإذا حان حمله في أيام الأمطار أشفت إشبيلية على الغرق وتوقع أهلها الهلاك
والقنطرة التي على هذا النهر عند قرطبة من أعظم آثار الأندلس وأعجبها اقواسها سبع عشرة قوسا وبانيها على ما ذكره ابن حيان وغيره السمح ابن مالك الخولاني صاحب الأندلس بأمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وشيدها بنو أمية بعد ذلك وحسنوها قال ابن حيان وقيل إنه قد كانت في هذا المكان قنطرة من بنيان الأعاجم قبل دخول العرب بنحو مائتي سنة أثرت فيها الأزمان بمكابدة المدود حتى سقطت حناياها ومحيت أعاليها وبقيت أرجلها واسافلها وعليها بني السمح في سنة إحدى ومائة انتهى
وقال في مناهج الفكر إن قنطرة قرطبة ' حدى أعاجيب الدنيا بنيت زمن عمر بن عبد العزيز على يد عبد الرحمن بن عبيد الله الغافقي وطولها ثمانمائة ذراع وعرضها عشرون باعا وارتفاعها ستون ذراعا وعدد حناياها ثماني عشرة حنية وعدد أبراجها تسعة عشر برجا انتهى

رجع إلى قرطبة
ذكر ابن حيان والرازي والحجاري أن أكتبيان ثاني قياصرة الروم الذي ملك أكثر الدنيا وصفح نهر رومية بالصفر فأرخت الروم من ذلك العهد وكان من قبل ميلاد المسيح عليه السلام بثمان وثلاثين سنة أمر ببناء المدن العظيمة بالأندلس فبنيت في مدته قرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة وانفرد الحجاري بأن أكتبيان المذكور وجه أربعة من أعيان ملوكه للأندلس فبنى كل واحد منهم مدينة في الجهة التي ولاه عليها وسماها باسمه وأن هذه المدن مشتقة مما تقتضيه أوضاعها كما مر وذكروا أنه قد تداولت على قرطبة ولاة الروم الأخيرة الذين هم بنو عيصو بن إسحاق بن إبراهيم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام إلى أن انتزعها من أيديهم القوط من ولد يافث المتغلبون على الأندلس إلى أن أخذها منهم المسلمون ولم تكن في الجاهلية سريرا لسلطنة الأندلس بل كرسيا لخاص مملكتها وسعدت في الإسلام فصارت سريرا للسلطنة العظمى الشاملة وقطبا للخلافة المروانية وصارت إشبيلية وطليطلة تبعا لها بعدما كان الأمر بالعكس والله يفعل ما يشاء بيده الملك والتدبير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا هو العلي الكبير
وقال صاحب نشق الأزهارعندما تعرض لذكر قرطبة هي مدينة مشهورة دار خلافة وأهلها أعيان ناس في العلم والفضل وبها

الفتنة البربرية والنزاع بين الحموديين والأمويين
ومن الأسباب في سلب محاسن قرطبة عيث البربر بها في دخولهم مع سليمان المستين الأموي حين استولى على قرطبة في دولته التي افتتحت بالقهر وسفك الدماء وكان من أمراء البربر المعاضدين لسليمان علي بن حمود من بني علي بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وجده إدريس هرب من هرون الرشيد إلى البربر فتبربر ولده وبنى ابنه إدريس مدينة فاس وكان المؤيد هشام يشتغل بالملاحم ووقف على أن دولة بني أمية تنقرض بالأندلس على يد علوي أول اسمه عين فلما دخل سليمان مع البربر قرطبة ومحوا كثيرا من محاسنها ومحاسن أهلها كان من أكبر أمرائهم على بن حمود وبلغ هشاما المؤيد وهو محبوس خبره واسمه ونسبه فدس إليه أن الدولة صائرة إليك وقال له إن خاطري يحدثني أن هذا الرجل يقتلني يعني سليمان فإن فعل فخذ بثأري وكان هذا الأمر هو الذي قوى نفس ابن حمود على طلب الإمامة وحمله على الأخذ بثأر هشام المؤيد فكان المؤيد أحد من أخذ بثأره بعد موته
وتولى بعد ذلك علي بن حمود وبويع بقرطبة في قصرها في اليوم الذي قتل فيه سليمان المستعين وأخذ الناس بالإرهاب والسطوة وأذل رؤوس البربر وبرقت للعدل في أيامه بارقة خلب لم تكد تقد حتى خبت وجلس للمظالم وقدمت له جماعة من البربر في إجرام فضرب رقابهم وأهلهم وعشائرهم ينظرون وخرج يوما على باب عامر فالتقى فارسا من البربر وأمامه حمل عنب فاستوقفه وقال له من أين لك هذا فقال أخذته كما يأخذ الناس

وعبادة بن ماء السماء وكان معروفا بالتشيع وفيه يقول من قصيدة
( أبوكم علي كان بالشرق بدء ما ... ورثتم وذا بالغرب أيضا سميه )
( فصلوا عليه أجمعون وسلموا ... له الأمر إذ ولاه فيكم وليه )
ومدحه ابن دراج القسطلي بقوله
( لعلك يا شمس عند الأصيل ... شجيت لشجو الغريب الذليل )
( فكوني شفيعي لابن الشفيع ... وكوني رسولي لابن الرسول )
وكان أخوه القاسم بن حمود أكبر منه بعشر سنين وأمهما واحدة وهي علوية ولما قتل الناصر كان القاسم واليا على إشبيلية وكان يحيى بن علي واليا على سبتة فاختلفت أهواء البربر فمال اكثرهم إلى القاسم لكونه غين أولا وقدم عليه أخوه الأصغر وكونه قريبا من قرطبة وبينهم وبين يحيى البحر فلما وصلت رسلهم إلى القاسم لم يظهر فرحا بالإمامة وخاف أن تكون حيلة من أخيه عليه فتقهقر إلى ان اتضح له الحق فركب إلى قرطبة وبويع فيها بعة ستة أيام من قتل أخيه وأحسن السيرة وأحس من البربر الميل إلى يحيى ابن أخيه علي صاحب سبتة فتهالك في اقتناء السودان وابتاع منهم كثيرا وقودهم على أعماله فأنفت البرابر من ذلك وانحرفوا عنه
وفي سنة تسع وأربعمائة قام عليه بشرق الأندلس المرتضى عبد الرحمن من أعقاب الناصر لأن أهل الأندلس صعب عليهم ملك بني حمود العلويين بسبب البرابر أرادوا رجوع الإمامة إلى بني مروان واجتمع له أكثر

وخيران العامري الصقلبي صاحب المرية وانضاف إليهم جمع من الفرنج وتأهب القاسم والبرابرة للقائهم فكان من الاتفاق العجيب أن فسدت نية منذر وخيران على المرتضى وقالا أرانا في الأول وجها ليس بالوجه الذي نراه حين اجتمع إليه الجم الغفير وهذا ماكر غير صافي النية فكتب خيران إلى ابن زيري الصنهاجي المتغلب على غرناطة وهو داهية البربر وضمن له أنه متى قطع الطريق على المرتضى عند اجتيازه عليه إلى قرطبة خذل عن نصرته الموالي العامريين أعداء المروانيين وأصحاب رياسة الثغور فأصغى ابن زيري إلى ذلك وكتب المرتضى إلى ابن زيري يدعوه لطاعته فقلب الكتاب وكتب في ظهره ( قل يا أيها الكافرون - السورة ) السورة 109 فأرسل إليه كتابا ثانيا يقول فيه قد جئتك بجميع أبطال الأندلس وبالفرنج فماذا تصنع وختم الكتاب بهذا البيت
( إن كنت منا أبشر بخير ... أو لا فأيقن بكل شر )
فأمر الكاتب أن يحول الكتاب ويكتب في ظهره ( ألهاكم التكاثر - السورة ) السورة 102 فازاداد حنقه وحمله الغيظ إلى أن ترك السير إلى خضرة الإمامة قرطبة وعدل إلى محاربته وهو يرى أنه يصطلمه في ساعة من نهار ودامت الحرب أياما وأرسل ابن زيري إلى خيران يستنجزه وعده فأجابه إنما توقفت حتىترى مقدار حربنا وثبرنا ولو كنا ببواطننا معه ما ثبت جمعك لنا ونحن ننهزم عنه ونخذله في غد
ولما كان من الغد رأى أعلام خيران وأعلام منذر وأصحاب الثغور قد ولت عنه فسقط في يد المرتضى وثبت حتى كادوا يأخذونه واستحر القتل وصرع كثير من أصحابه فلما خاف القبض عليه ولى فوضع عليه خيران عيونا فلحقوه بقرب وادي آش وقد جاوز بلاد البربر وأمن على نفسه فهجموا عليه فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى المرية وقد حل بها خيران ومنذر

فتحدث الناس أنهما اصطبحا عليه سرورا بهلاكه
وبعد هذه الواقعة أذعن أهل الأندلس للبرابرة ولم يجتمع لهم بعدها جمع ينهضون به إليهم وضرب القاسم بن حمود سرادق المرتضى على نهر قرطبة وغشية خلق من النظارة وقلوبهم تتقطع حسرات وأنشد عبادة ابن ماء السماء قصيدته التي أولها
( لك الخير خيران مضى لسبيله ... وأصبح أمر الله في ابن رسوله )
وتمكنت أمور القاسم وولى وعزل وقال وفعل إلى أن كشف وجهه في خلع طاعته ابن أخيه يحيى بن علي وكتب من سبتة إلى أكابر البرابر بقرطبة إن عمي أخذ ميراثي من أبي ثم إنه قدم في ولاياتكم التي أخذتموها بسيوفكم العبيد والسودان وأنا أطلب ميراثي وأوليكم مناصبكم وأجعل العبيد والسودان كما هم عند الناس فأجابوه إلى ذلك فجمع ما عنده من المراكب وأعانه أخوه إدريس صاحب مالقة فجاز البحر بجمع وافر وحصل بمالقة مع أخيه وكتب له خيران صاحب المرية مذكرا بما أسلفه في إعانته أبيه وأكد المودة فقال له أخوه إدريس إن خيران رجل خداع فقال يحيى ونحن منخدعون فيما لا يضرنا ثم إن يحيى أقبل إلى قرطبة واثقا بأن البرابر معه فقر القاسم إلى إشبيلية في خمسة فرسان من خواصه ليلة السبت 28 من شهر ربيع الآخر سنة 412 وحل يحيى بقرطبة فبايعه البرابر والسودان وأهل البلد يوم السبت مستهل جمادى الآخرة وكان يحيى من النجباء وأمه فاطمية وإنما

واشتط أكابر البرابر عليه وطلبوا من إسقاط مراتب السودان فبذل لهم ذلك فلم يقنعوا منه وصاروا معه ما يخرق ويفرغ بيت المال وهر السودان إلى عمه بإشبيلية ومن البرابر ومن جند الأندلس من احتجب عنهم يحيى وتكبر عليهم ولم إليه ملوط الطوائف وبقي منهم كثير على الخطبة لعمه القاسم إلى أن اختلت الحال بحضرة قرطبة وأيقن يحيى أنه متى أقام بها قبض عليه وكان قد ولى على سبتة أخاه إدريس وبلغه أن أهل مالقة خاطبوا خيران وكاتبوه فطمع خيران فيها وفر يحيى في خواصه تحت الليل إلى مالقة ولما بلغ القاسم فراره ركب من إشبيلية إلى قرطبة فخطب له بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة 413 ولم تصلح الحال للقاسم منذ وصل إلى الحضرة ووقع الاختلاف وكان هوى السودان معه وهوى كثير من البرابر مع يحيى وهوى أهل قرطبة مع قائم من بني أمية يشيعون ذكره ولا يظهر وكثر الإرجاف بذلك ووقع الطلب على بني أمية فتفرقوا في البلاد ودخلوا في أغمار الناس وأخفوا زيهم ثم إن الخلاف وقع بين البربروأهل قرطبة وتكاثر البلد كثير وابن عباد يضحك على الجميع فيش القاسم وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم فأخرجوهم إليه فسار بهم إلى شريش وعندما استقر بها وصل إليه يحيى ابن أخيه مالقة ومعه وجمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوما كانت فيها حروب صعاب وقتل من الفريقين خلق كثير وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمه وإسلام أهل شريش له وفر سودانه وحصل القاسم وابنه في يد يحيى وكان قد أقسم أنه إن حصل في يده ليقتله ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرة ثانية فرأى التربص في قتله حتى يرى رأيه فيه فحدث عنه بعض أصحابه أنه حمله بقيد إلى مالقة وحبسه عنده وكان كلما سكر وأراد قتله رغبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنه لا قدرة له على الخلاص وكان كلما نام رأى والده عليا في النوم ينهاه عن قتله ويقول له أخي أكبر مني وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقا بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه لأنه كان قد حبسه في حصن من حصون مالقة فنمي إليه أنه قد تحدث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال أوبقي في رأسه حديث بعد هذا العمر فقتله سنة 427 وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيفا عن شهرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة
ولما كان يوم الثلاثاء نصف شهر رمضان سنة 414 أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه فبايعا المستظهر وقبلا يده بعدما كان قد كتب عقد البيعة باسم سليمان بن المرتضى على ما ارتضاه الأماثل

جد المعتمد بن عباد وأطمع ابن زيري في التملك فأغلق الأبواب في وجه مصطنعة وحاربه فقتل من البرابر والسودان خلق كثير وابن عباد يضحك على الجميع فيش القاسم وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم فأخرجوهم إليه فسار بهم إلى شريش وعندما استقر بها وصل إليه يحيى ابن أخيه من مالقة ومعه جمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوما كانت فيها حروب صعاب وقتل من الفريقين خلق كثير وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمه وإسلام أهل شريش له وفر سودانه وحصل القاسم وابنه في يد يحيى وكان قد أقسم أنه إن حصل في يده ليقتلنه ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرة ثانية فرأى التربص في قتله حتى يرى رأيه فيه فحدث عنه بعض أصحابه أنه حمله بقيد إلى مالقة وحبسه عنده وكان كلما سكر وأراد قتله رغبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنه لا قدرة له على الخلاص وكان كلما نام رأى والده عليا في النوم ينهاه عن قتله ويقول له أخي أكبر مني وكان محسنا إلي في صغري ومسلما لي عند إمارتي الله الله فيه وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقا بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه لأنه كان قد حبسه في حصن من حصون مالقة فنمي إليه أنه قد تحدث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال أوبقي في رأسه حديث بعد هذا العمر فقتله سنة 427 وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيفا عن شهرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة
ولما كان يوم الثلاثاء نصف شهر رمضان سنة 414 أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه فبايعا المستظهر وقبلا يده بعدما كان قد

فبشر اسمه وكتب اسم المستظهر وركب إلى القصر وحمل معه ابني عمه المذكورين فحبسهما وكان قد رفع جماعة من الأتباع ذهب بهم العجب كل مذهب كأبي عامر ابن شهيد المنهمك في بطالته وأبي محمد ابن حزم المشهور بالرد على العلماء في مقالته وابن عمه عبد الوهاب بن حزم الغزل المترف في حالته فأحقد بذلك مشايخ الوزراء والأكابر وبادر المستظهر باصطناع البرابر وأكرم مثواهم وأحسن مأواهم واشتغل مع ابن شهيد وابني حزم بالمباحثة في الآداب ونظم الشعر والتمسك بتلك الأهداب والناس في ذلك الوقت أجهل ما يكون وكان جماعة من أهل الشر في السجون يتعين أن لا يخرج منهم إنسان فأخرج منهم شخصا يقال له أبو عمران وقد كان أشار بعض الوزراء عليه بعدم إخراجه فأخرجه وخالفه في ذلك ولم يقبل النصيحة وفعل ما أداه إلى الفضيحة فسعى القوم الذين خرجوا من الحبوس على إفساد دولته وإبدال فرحه بالبوس لما اشتغل عنهم بالأدباء والشعراء حسبما اقتضاه رأيه المعكوس فسعوا في خلعه مع البرابر وقتل في ذي القعدة من السنة التي بويع فيها وصار كامس الدابر بعد سبعة وأربعين يوما من يوم بويع بالخلافة وإذا أراد الله أمرا فلا يقدر أحد أن يأتي خلافه وعمره ثلاث وعشرون سنة كأنها سنة
ومن شعر المستظهر المذكور وهو من القريض الممدوح صاحبه بالبلاغة المشكور
( طال عمر الليل عندي ... مذ تولعت بصدي )
( يا غزالا نقض العهد ... ولم يوف بوعد )
( أنسيت العهد إذ تبنا ... على

( واعتنقنا في وشاح ... وانتظمنا نظم عقد )
ونجوم الليل تسري ... ذهبا في لازورد )
وكتب إليه شاعر في طرس مكشوط
( والطرس مبشور وفيه بشارة ... ببقا الإمام الفاضل المستظهر )
( ملك أعاد العيش غضا ملكه ... وكذا يكون به طوال الأعصر )
فأجزل صلته وكتب في ظهر الورقة
( قبلنا العذر في بشر الكتاب ... لما أحكمت في فصل الخطاب )
وقد قدمنا في الباب الثالث شيئا من هذه الأخبار وما حصل بعد ذلك بقرطبة إلى أن تولى الأمر ابن جهور في صورة الوزارة ثم ابنه إلى أن أخذ قرطبة منه المعتمد بن عباد حسبما ذكر في أخباره
ثم آل الأمر بعد ذلك كله إلى استيلاء ملوك العدوة من الملثمين والموحدين على قرطبة إلى أن تسلمها النصارى أعادها الله تعالى للإسلام كما يذكر في الباب الثامن
وقال صاحب مناهج الفكر في ذكر قرطبة ما ملخصه فأما ما اشتمل عليه غرب الجزيرة من البلاد الخطيرة فمنها قرطبة وكانت مقر الملك ودار الإمارة وأم ما عداها من البلاد منذ افتتحها المسلمون سنة 92 زمن الوليد بن عبد الملك إلى أن خرجت عن أيديهم وتنقلت في أيدي ملوك المسلمين إلى أن وصلت إلى الناصر عبد الرحمن فبنى في تجاهها مدينة سماها الزهراء يجري بينهما نهر عظيم انتهى

استطراد في وصف المباني العامرة
واعلم أن المباني دالة على عظيم قدر بانيها كما ذكرناه في كلام الناصر

الذي طابت له من الزهراء مجانيها ولم يزل البلغاء يصفون المباني بأحسن الألفاظ والمعاني ورأينا أن نذكر هنا بعض ذلك زيادة في توسيع المسالك فمن ذلك قول ابن حمديس الصقلي يصف دارا بناها المعتمد على الله
( ويا حبذا دار قضى الله أنها ... يجدد فيها كل عز ولا يبلى )
( مقدسة لو أن موسى كليمه ... مشى قدما في أرضها خلع النعلا )
( وما هي إلا خطة الملك الذي ... يخط إليه كل ذي أمل رجلا )
( إذا فتحت أبوابها خلت أنها ... تقول بترحيب لداخلها أهلا )
( وقد نقلت صناعها من صفاته ... إليها أفانينا فأحسنت النقلا )
( فمن صدره رحبا ومن نوره سنا ... ومن صيته فرعا ومن حلمه أصلا )
( فأعلت به في رتبة الملك ناديا ... وقل له فوق السماكين أن يعلى )
( نسيت به إيوان كسرى لأنني ... أراه له مولى من الحسن لا مثلا )
( كأن سليمان بن داود لم تبح ... مخافته للجن في صنعه مهلا )
( ترى الشمس فيه ليقة تستمدها ... أكف أقامت من تصاويرها شكلا )
( لها حركات أودعت في سكونها ... فما تبعت في نقلهن يد رجلا )
( ولما عشينا من توقد نورها ... تخذنا سناه في نواظرنا كملا )
وقال من أخرى يصف دارا بناها المنصور بن

( اعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا )
( قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا )
( واشتق من معنى الحياة نسيمه ... فيكاد يحدث للعظام نشورا )
( نسي الصبيح مع المليح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا )
( ولو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئا عنده مذكورا )
( أعيت مصانعه علىالفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا )
( ومضت على الروم والدهور وما بنوا ... لملوكهم شبها له ونظيرا )
( أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها وقصورا )
( فالمحسنون تزيدوا أعمالهم ... ورجعوا بذلك جنة وحريرا )
( والمذنبون هدوا الصراط وكفرت ... حسناتهم لذنوبهم تكفيرا )
( فلك من الأفلاك إلا أنه ... حقر البدور فأطلع المنصورا )
( أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا )
( وظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا )
( وإذا الولائد فتحت أبوابه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا )
( عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكشيرا )
( فكأنها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا )
( تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا )
( بمرخم الساحات تحسب أنه ... فرش المها وتوشح الكافورا )
( ومحصب بالدر تحسب تربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا )
( تستخلف الأبصار

ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه وتفنن فذكر أسودا على حافاتها قاذفة بالمياه أيضا فقال
( وضراغم سكنت عرين رياسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا )
( فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا )
( أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدت هناك مثيرا )
( وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على أدبارها لتثورا )
( وتخالها والشمس تجلو لونها ... نارا وألسنها اللواحس نورا )
( فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا )
( وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعا فقدر سردها تقديرا )
( وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسجورا )
( شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيرا )
( قد صولجت أغصانها فكأنما ... قنصت بهن من الفضاء طيورا )
( وكأنما تأبى لواقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا )
( من كل واقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا )
( خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا )
( وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجرورا )
( وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلؤا منثورا )
( ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا )
( ومصفح الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا )
( تبدو مسامير النضار كما علت ... تلك النهود من الحسان صدورا

( خلعت عليه غلائد ورسية ... شمس ترد الطرف عنه حسيرا )
( وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضا في السماء نضيرا )
( وعجبت من خطاف عسجده التي ... حامت لتبني في ذراه وكورا )
( وضعت به صناعة أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويرا )
( وكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا )
( وكأنما باللازورد مخرم ... بالخط في ورق السماء سطورا )
( وكأنما وشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا )
ثم مدح المنصور بعد ذلك وختم القصيدة بقوله
( يا مالك الأرض الذي أضحى له ... ملك السماء على العداة نصيرا )
( كم من قصور للملوك تقدمت ... واستوجبت بقصورك التأخيرا )
( فعمرتها وملكت كل رياسة ... منها ودمرت العدا تدميرا )
قلت لم أر لهذه القصيدة من نظير في معناها اليانع النضير ولفظها النمير الذي شمر فيه قائلها عن ساعد الإجادة أي تشمير غير أن فيها عندي عيبا واحدا وهو ختمها بلفظ التدمير وعلى كل حال فالحسن والإحسان يقادان في أرسان لعبد الجبار بن حمديس المذكور ذي المقاصد الحسان وخصوصا في وصف المباني والبرك فما أبقى لسواه في ذلك حسنا ولا ترك
ومن ذلك قوله في وصف بركة تجري إليها

طيور وزرافات وأسود وكل ذلك في قصر أطنب في وصفه في قصيدة طويلة
( والماء منه سبائك فضية ... ذابت على دوحات شاذروان )
( وكأنما سيف هناك مشطب ... ألقته يوم الحرب كف جبان )
( كم شاخص فيه يطيل تعجبا ... من دوحة نبتت من العقيان )
( عجبا لها تسقي الرياض ينابعا ... نبعت من الثمرات والأغصان )
( خصت بطائره على فنن لها ... حسنت فأفرد حسنها من ثاني )
( قس الطيور الخاشعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان )
( فإذا أتيح لها الكلام تكلمت ... بخرير ماء دائم الهملان )
( وكأن صانعها استبد بصنعة ... فخر الجماد بها على الحيوان )
( أوفت على حوض لها فكأنها ... منها على العجب العجاب رواني )
( فكأنها ظنت حلاوة مائها ... شهدا فذاقته بكل لسان )
( وزرافة في الجوف من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران )
( مركوزة كالرمح حيث ترى له ... من طعنه الخلق انعطاف وسنان )
( وكأنما ترمي السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان ) ( لو عاد ذاك الماء نفطا أحرقت ... في الجو منه قميص كل عنان )
( في بركة قامت على حافاتها ... أسد تذل لعزة السلطان )
( نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها ... فلذلك انتزعت من الأبدان )
( وكأن برد الماء منها مطفىء ... نارا مضرمة من العدوان )
( وكانما الحيات من أفواهها ... يطرحن أنفسهن في الغدران )
( وكانما الحيتان إذ لم تخشها ... أخذت من المنصور

وهاتان القصيدتان لابن حمديس كما في المناهج مع طولهما تدلان على الإبداع الذي ابتكره والاختراع الذي ما ولج سمع أحد من الفضلاء إلا شكره
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الاندلسي يصف قصرا بمصر يسمى منزل العز بناه حسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز العبيدي
( منزل العز كاسمه معناه لا عدا العز من به سماه )
( منزل ودت المنازل في أعلى ... ذراه لو صيرت إياه )
( فأجل فيه لحظ عينيك تبصر ... أي حسن دون القصور حواه )
( سال في سقفه النضار ولكن ... جمدت في قراره الأمواه )
( وبأرجائه مجال طراد ... ليس تنفك من وغى خيلاه )
( تبصر الفارس المدجج فيه ... ليس تدمى من الطعان قناه )
( وترى النابل المواصل للنزع ... بعيدا من قرنه مرماه )
( وصفوفا من الوحوش وطير الجو ... كل مستحسن مرآه )

( كمحيا الحبيب حرفا بحرف ... ما تعدى صفاته إذ حكاه )
( ورده وجنتاه نرجسه الفتان ... عيناه آسه عارضاه )
( وكأن الكافور والمسك في الطيب ... وفي اللون صبحه ومساه )
( منظر يبعث السرور ومرآى ... يذكر المرء طيب عصر صباه )
وقال أبو الصلت أمية الأندلسي المذكور يذكر بناء بناه علي بن تميم ابن المعز العبيدي
( لله مجلسك المنيف قبابه ... بموطد فوق السماك مؤسس )
( موف على حبك المجرة تلتقي ... فيه الجواري بالجواري الكنس )
( تتقابل الأنوار من جنباته ... فالليل فيه كالنهار المشمس )
( عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلة والحواجب والقسي )
( واستشرفت عمد الرخام وظوهرت ... بأجل من زهر الربيع وأنفس )
( فهواؤه من كل قد أهيف ... وقراره من كل خد أملس )
( فلك تحير فيه كل منجم ... وأقر بالتقصير كل مهندس )
( قبدا للحظ العين أحسن منظر ... وغدا لطيب العيش خير معرس )
( فاطلع به قمرا إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس )
فالناس أجمع دون قدرك رتبة ... والأرض أجمع دون هذا المجلس )
ويعجبني قول أبي الصلت أمية المذكور يصف حال زيادة النيل ونقصانه
( ولله مجرى النيل منها إذا الصبا ... أرتنا به من مرها عسكرا مجرا )
( إذا زاد يحكي الورد لونا وإن صفا ... حكى

وقال رحمه الله تعالى يصف الرصد الذي بظاهر مصر
( يا نزهة الرصد اللائي قد اشتملت ... من كل شيء حلا في جانب الوادي )
( فذا غدير وذا روض وذا جبل ... والضب والنون والملاح والحادي )
وهو مأخوذ من قول الأول يصف قصر أنس بالبصرة
( زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لا بد من زورة من غير ميعاد )
( زره فليس له ند يشاكله ... من منزل حاضر إن شئت أو بادي )
( تلقى به السفن والظلمان حاضرة ... والضب والنون والملاح والحادي )
وقال رحمه الله تعالى يذكر الهرمين
( بعيشك هل أبصرت أحسن منظرا ... على طول ما عاينت من هرمي مصر )
( أنافا بأعنان السماء وأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر )
( وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كأنهما ثديان قاما على صدر )
وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في الباب الخامس
وعلى ذكر الأنهار والبرك فما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف بركة عليها عدة فوارات
( عضبت مجاريها فأظهر غيظها ... ما في حشاها من خفي مضمر

( وكأن نبع الماء من جنباتها ... والعين تنظر منه أحسن منظر )
( قضب من البلور أثمر فرعها ... لما انتهت باللؤلؤ المتحدر )
وقال ابن صارة الأندلسي يصف ماء بالرقة والصفاء
( والنهر قد رقت غلاله خصره ... وعليه من صيغ الأصيل طراز )
( تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تهزها الأعجاز )
وما أحسن قول بعض الأدباء ولم يحضرني الآن اسمه
( والنهر مكسو غلالة فضة ... فإذا جرى سيلا فثوب نضار )
( وإذا استقام رأيت صفحة منصل ... وإذا استدار رأيت عطف سوار )
وقال ابن حمديس المغربي يصف نهرا بالصفاء
( ومطرد الأمواج يصقل متنه ... صبا أعلنت للعين ما في ضميره )
( جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره )
وهذا المنهج متسع ولم نطل السير في هذه المهامه وإنما ذكرنا بعض كلام المغاربه ليتنبه به منتقصهم من سنة أوهامه ولأن في أمرها عبرة لمن عقل

البكاء على خراب العمران
وقد وقفت على كلام لصاحب المنهاج في هذا المعنى فأحببت ذكره ملخصا وهو ونلحق بذكر المنازل التي راق منظرها وفاق مخبرها وارتفع بناؤها واتسع فناؤها طرفا من الكلام على ما عفاه الدهر من رسومها ومحاه من محاسن صور كانت أرواحا لجسومها
وصف أعرابي محلة قوم ارتحلوا عنها فقال نثرا ارتحلت عنها ربات الخدور وأقامت بها أثافي القدور ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت الرياح أثارهم وذهبت بأبدانهم وأبقت أخبارهم والعهد قريب واللقاء بعيد
وقال عمر بن أبي ربيعة فأحسن
( يا دار أمسى داسا رسمها ... وحشا قفارا ما بها آهل )
( قد جرت الريح بها ذيلها ... واستن في أطلالها الوابل )
ومن كلام الفتح بن خاقان في قلائد العقيان يذكر آل عباد من فصل أكثر فيه التفجع وأطال به التوجع والغصون تختال في أدواحها والأزاهر يحيى ميت الصبابة شذا أرواحها وأطيار الرياض قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها وانقراض أطرابها والوهي بمشيدها لاعب وعلى كل جدار منها غراب ناعب وقد محت الحوادث ضياءها وقلصت ظلالها

شذاهم وأرجت أيام نزلوا خلالها وتفيأوا ظلالها وعمروا حدائقها وجناتها ونبهوا الآمال من سناتها وزاعوا الليوث في آجامها وأخجلوا الغيوث عند انسجامها فأصبحت ولها التداعي تفلع واعتجاز ولم يبق من آثارها إلا نؤي وأحجار قد هوت قبابها وهرم شبابها وقد يلين الحديد ويبلى على طيه الجديد
وقال أبو صخر القرطبي يذكر ذلك من أبيات ينعاهم بها
( ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا تسر النفس أنسا ومنظرا )
( ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا وحلاها من النور جوهرا )
( تسرك طورا ثم تشجيك تارة ... فترتاح تأنيسا وتشجى تذكرا )
ومن كلام أبي الحسن القاشاني يصف نادي رئيس خلا من ازدحام الملا وعوضه الزمان من تواصل أحبابه هجرا وقلى قد كان منزله مألف الأضياف ومأنس الأشراف ومنتجع الركب ومقصد الوفد فاستبدل بالأنس وحشة وبالضياء ظلمة واعتاض من تزاحم المواكب تلاطم النوادب ومن ضجيج النداء والصهيل عجيج البكاء والعويل
ومن رسالة لابن الأثير الجزري يصف دمنة دار لعبت بها أيدي الزمن وفرقت بين المسكن والسكن كانت مقاصير جنة فأصبحت وهي ملاعب جنة وقد عميت أخبار قطانها وآثار أوطانها حتى شابهت إحداهما في الخفاء الأخرى في العفاء وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام ولا يرفع عنها جلباب ظلام غير أن السحاب بكاهم فأجرى بها هوامع دموعه والليل شق عليهم جيوبه

وقد لمح في بعض كلامه قول الشريف من أيبات يصف فيها ما كان في الحيرة من منازل النعمان بن المنذر
( ما زلت أطرق المنازل باللوى ... حتى نزلت منازل النعمان )
( بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شم العماد عريضة الأعطان )
( شهدت بفضل الرافعين قبابها ... ويبين بالبنيان فضل الباني )
( ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خطط معمرة بعمر فاني )
يقول فيها
( ولقد رأيت بدير هند منزلا ... ألما من الضراء والحدثان )
( يغضي كمستمع الهوان تغيبت ... أنصاره وخلا من الأعوان )
( بالي المعالم أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عاني )
( أمقاصر الغزلان غيرك البلى ... حتى غدوت مرابض الغزلان )
( وملاعب الإنس الجميع طوى الردى ... منهم فصرت ملاعب الجنان )
ومنها
( مسكية النفحات تحسب تربها ... برد الخليع معطر الأردان )
( وكأنما نسي التجار لطيمة ... جرت الرياح بها على القيعان )
( ماء كجيب الدرع يصقله الصبا ... ويفي بدوحته النسيم الواني )
( زفر

وقال أبو إسحاق الصابي وتوارد مع الشريف الرضي في المعنى والقافية يصف قصر روح بالبصرة
( أحبب إلي بقصر روح منزلا ... شهدت بنيته بفضل الباني )
( سور علا وتمنعت شرفاته ... فكأن إحداهن هضب أبان )
( وكأنما يشكو إلى زواره ... بين الخليط وفرقة الجيران )
( وكأنما يبدي لهم من نفسه ... إطراق محزون الحشا حران )
ولأحمد بن فرج الإلبيري من أبيات
( سألت بها فما ردت جوابا ... عليك وكيف تخبرك الطلول )
( ومن سفه سؤالك رسم دار ... مضى لعفائه زمن طويل )
( فإن تك أصبحت قفرا خلاء ... لعينيك في مغانيها همول )
( فقدما قد نعمت قرير عين ... بها وبربعها الرشأ الكحيل )
وقال أبو عبد الله بن الحناط الأندلسي الأعمى
( لو كنت تعلم ما بالقلب من نار ... لم توقد النار بالهندي والغار
( يا دار علوة قد هيجت لي شجنا ... وزدتني حرقا حييت من دار )
( كم بت فيك على اللذات معتكفا ... والليل مدرع ثوبا من القار )
( كأنه راهب في المسح ملتحف ... شد المجد له وسطا بزنار )
( يدير فيه كؤوس الراح ذو حور ... يدير من طرفه ألحاظ سحار )
ولا مزيد في التفجع على الديار والتوجع للدمن والآثار على قول البحتري

( محل على القاطول أخلق دائرة ... وعادت صروف الدهر جيشا تغاوره )
( كأن الصبا توفي نذورا إذا انبرت ... تراوحه أذيالها وتباكره )
( ورب زمان ناعم ثم عهده ... ترق حواشيه ويونق ناضره )
( تغير حسن الجعفري وأنسه ... وقوض بادي الجعفري وحاضره )
( تحمل عنه ساكنوه فجاءة ... فعادت سواء دوره ومقابره )
( إذا نحن زرناه أجد لنا الأسى ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره )
( ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه ... إذ ذعرت أطلاؤه وجآذره )
( وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت ... على عجل أستاره وستائره )
( وأوحشه حتى كأن لم يكن به ... أنيس ولم تحسن لعين مناظره )
( كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها والملك يشرق زاهره )
( ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها ... وبهجتها والعيش غض مكاسره )
( فاين الحجاب الصعب حيث تمنعت ... بهيبتها أبوابه ومقاصره )
( وأين عميد الناس في كل نوبة ... تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره )
وعلى قول أبي إسحاق بن خفاجة الأندلسي
( ومرتبع حططت الرحل فيه ... بحيث الظل والماء القراح )
( تخرم حسن منظره مليك ... تخرم ملكه القدر المتاح )
( فجرية ماء جدوله بكاء ... عليه وشدو طائره نواح )

كثير جدا لا يعرف الباحث عنه له حدا وذلك لشدة ولوع النفوس بذكر أحبابها وحنينها إلى أماكنها التي هي مواطن أطرابها ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة القليلة وجعلناها نغبة يشفي المشوق بها غليله وقد كره بعض العقلاء التأسف على الديار لعلمهم أنه لا يجدي ولايدفع عادية الدهر الخؤون ولا يعدي ونهوا عنه لما فيه من تجديد المصاب المجرع لصاحبه الصاب والأوصاب
قال أبو عمر بن عبد البر
( عفت المنازل غير أرسم دمنة ... حييتها من دمنة ورسوم )
( كم ذا الوقوف ولم تقف في منسك ... كم ذا الطواف ولم تطف بحريم )
( فكل الديار إلى الجنائب والصبا ... ودع القفار إلى الصدى والبوم )
انتهى كلامه رحمه الله تعالى بأكثر لفظه مع بعض اختصار
رجع إلى قرطبة فنقول

رسائل للسان الدين
وقد ألم لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمة ونص محل الحاجة منه هنا ثم كان الغزو إلى أم البلاد ومثوى الطارف والتلاد قرطبة وما قرطبة المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل والكرسي الذي بعصاه رعي الهمل والمصر الذي له في خطة المعمور الناقة والجمل

في عقوتها المستباحة وأجاز نهرها المعيي على السباحة وعم دوحها الأشب بوارا وأدار المحلات بسورها سوارا وأخذ بمخنقها حصارا وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصار وجدل من أبطالها لم يرض انجحارا فأعمل إلى المسلمين إصحارا حتى قرع بعض جهاتها غلابا جهارا ورفعت الأعلام إعلاما بعز الإسلام وإظهارا فلولا استهلال الغوادي وأن اتى الوادي لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي ولقضى تفثه العاكف والبادي انتهى
ومما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى في وصف هذه الغزوة لسلطان بني مرين على لسان صاحب الأندلس ما صورته المقام الذي نطالعه بأخبار الجهاد ونهدي إليه عوالي العوالي صحيحة الإسناد ونبشره بأخبار الفتح البعيد الآماد ونسأل الله تعالى له توالي الإسعاق ودوام الإسعاد والإمداد ونرتقب من صنع الله تعالى على يديه تكييفا يخرق حجاب المعتاد وامتعاضا يطلع بآفاق البلاد نجوم غرر الجياد ويفتح أبواب الفتوح بأقاليد السيوف الحداد وينبىء عن مكارم من سلف من الآباء الكرام والأجداد مقام محل أخينا الذي نستفتح له بالفتح والظهور ونهدي إلى مجده لما نعلم من فضل نيته وحسن قصده لطائف السرور ونستظهر بملكه المؤيد المؤمل ومجده المشهور ونتوعد منهما العدو بالحبيب المذخور والولي المنصور السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى عالي القدر قرير العين منشرح الصدر ولا زال حديث فخره سائرا مسير الشمس والبدر

مجده الصميم وفضله العميم أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر سلام كريم بر عميم يخص مقامكم الأعلى وأخوتكم الفضلى ورحمة الله وبركاته أما بعد حمد الله رب العباد وملهم الرشاد ومكيف الإسعاف والإسعاد الولي النصير الذي نلقي إلى التوكل عليه مقاليد الاعتماد ونمد إلى إنجاده أيدي الاعتداد ونرفع إليه أكف الاستمداد ونخلص لوجهه الكريم عمل الجهاد فنتعرف عوارف الفضل المزداد ونجتني ثمار النصر من أغصان القنا المياد ونجتلي وجوه الصنع الوسيم أبهر من وجه الصباح الباد ونظفر بالنعيم العاجل في الدنيا والنعيم الآجل يوم قيام الأشهاد ونتفيأ ظلال الجنة من تحت أوراق السيوف الحداد والصلاة على سيدنا ومولانا محمد رسوله النبي الهاد رسول الملحمة المؤيد بالملائكة الشداد ونبي الرحمة الهامية العهاد أكرم الخلق بين الرائح والغاد ذي اللواء المعقود والحوض المورود والشفاعة في يوم التناد الذي بجاهه نجدع أنوف الآساد يوم الجلاد وببركته ننال أقصى الأمل والمراد وفي مرضاته نصل اسباب الوداد فنعود بالتجر الرابح من مرضاة رب العباد ونستولي من ميدان السعادة المعادة على الآماد والرضي عن أله وصحبه وأنصاره وحزبه الكرماء الأمجاد دعائم الدين من بعده وهداة العباد أنجاد الانجاد وآساد الآساد الذين ظاهروه في حياته بالحلوم الراجحة الأطواد والبسالة التي لا تنال بالعدد في سبيل الله والاعداد حتى بوأوا الإسلام في القواعد الشهيرة والبلاد وأرغموا أنوف أهل الجحد والإلحاد فأصبح الدين رفيع العماد منصور العساكر والأجناد مستصحب العز في الإصدار والإيراد والدعاء لمقامكم الأعلى بالسعد الذي يغني

جنح ليل المداد والصنع الذي تشرع له أبواب التوفيق والسداد من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر وثيق المهاد والخير واضح الأشهاد والحمد لله في المبدإ والمعاد والشكر له على آلائه المتصلة الترداد ومقامكم ومقامكم الذخر الكافي العتاد والمردد المتكفل بالإنجاد وإلى هذا وصل الله سعدكم وحرس مجدكم ووالى نصركم وعضدكم وبلغكم من فضله العميم أملكم وقصدكم فإننا نؤثر تعريف كم بتافه المتزيداتونورد عليكم أشتات الأحوال المتجددات إقامة لرسم الخلوص في التعريف بما قل ومودة خالصة في الله عز و جل فكيف إذا كان الترعيف بما تهتز منابر الإسلام ارتياحا لوروده وتنشرح الصدور منه لمواقع فضل الله وجوده والمكيفات البديعة الصفات في وجوده وهو أننا قدمنا إعلامكم بما نويناه من غزو مدينة قرطبة أم البلاد الكافرة ومقر الحامية المشهودة والخيرات الوافرة والقطر الذي عهده بإلمام الإسلام متقادم والركن الذي لا يتوقع صدمة صادم وقد اشتمل سورها من زعماء ملة الصليب على كل رئيس بئيس وهزبر خيس وذي مكر وتلبيس ومن له سمة تذيع مكانه وتشيعه وأتباع على المنشط والمكره تطيعه فاستدعينا المسلمين من أقاصي البلاد وأذعنا في الجهات نفير الجهاد وتقدمنا إلى الناس بسعة الأزواد وأعطينا الحركة التي تخلف المسلمون فيها وراءهم جمهور الكفر من الأقطار والاعداد حقها من الاستعداد وأفضنا العطاء

وأبطال الجلاد فحشر الخلق في صعيد وأخذوا الأهبة والزينة في عيد سعيد وشمل الاستدعاء كل قريب وبعيد عن وعد ووعيد ورحلنا وفضل الله شامل والتوكل عليه كاف كافل وخيمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس أرابهم واستكملوا أسرابهم ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها وأبعد في التماس ما عنده من الاجر منتماها وعندما حللنا قاشرة وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا ومستعيد حظه من لواحق جهادنا ومقتضي دين كدحه بإعانتنا إياه وإنجادنا قد نزل بظاهرها في محلات ممن استقر على دعوته وتمسك بطاعته وشمله حكم جماعته فكان لقاؤنا إياه على حال أقرت عيون المسلمين وتكفلت بإعزاز الدين ومجملها يغني عن التعيين والشرح والتبيين ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم وأشك في حال اليقظة خيالهم من جموع تسد الفضا وأبطال تقارع أسود الغضا وكتائب منصورة ورايات منشورة وأمم محشورة تفضل عن مرأى العين وتردي العدو في مهاوي الحين فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم واعتبر في عزة الله سبحانه أولو ألبابهم وإذا كثر الله تعالى العدد نما وزكا وإذا أزاح العلل ما اعتذر غاز ولا شكا وسالت من الغد الأباطح بالأعراف وسمت الهوادي إلى الاستشراف وأخذ الترتيب حقه من المواسط الجهادية والأطراف وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللا ولا يجد الاعتبار عندها دخلا وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع وافرة الجموع

من أسوار القنطرة العظمى بحمى لا يخفر وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع والمصال والمصاع وخالطوهم هبرا بالسيوف ومباكرة بالحتوف فتركوهم حصيدا وأذاقوهم وبالا شديدا وجدلوا منهم جملة وافرة وأمة كافرة وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة وظهرت عليها عزماتهم الصادقة واقتحم المسلمون الوادي سبحا في غمرة واستهانة في سبيل الله بأمره وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها وتعلقوا بأوائل الأسوار ففرعوها فلو كنا في ذلك اليوم على عزم من القتال وتيسير الآلات وترتيب الرجال لدخل البلد وملك الأهل والولد لكن أجار الكفار من الليل كافر وقد هلك منهم عدد وافر ورجع المسلمون إلى محلاتهم ونصر الله سافر والعزم ظافر ومن الغد خضنا البحر الذي جعلنا العزم فيه سفينا والتوكل على الله للبلاغ ضمينا ونزلنا من ضفته القصوى منزلا عزيزا مكينا بحيث يجاور سورها طنب القباب وتصيب دورها من بين المخيمات بوارق النشاب وبرزت حاميتها على متعددات الأبواب مقيمة أسواق الطعان والضراب فآبت بصفقة الخسر والثباب ولما شرعنا في قتالها ورتبنا أشتات النكايات لنكالها وإن كنا لم نبق على مطاولة نزالها أنزل الله المطر الذي قدم بعهاده العهد وساوى النجد من طوفانه الوهد وعظم به الجهد ووقع الإبقاء على السلاح والكف بالضرورة عن الكفاح وبلغ المقام عليها والأخذ بمخنقها والثواء لديها خمسة أيام لم تخل فيها الأسوار من اقتراع ولا الأبواب من دفاع عليها وقراع

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24