كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

وتناسق التئامها والثناء على الخاطر الذي نظم بديع أبياتها وأطلع من مشرق فكره آياتها فقال السلطان نريد من يجيبه عنا بأبيات على قافيتها فالتفت مسرعا إلي وأنا عن يمينه وقال يا مولانا مملوكك فلان هو فارس هذا الميدان والمعتاد للتخلص من مضايق هذا الشان ثم قطع وصلا من درج كان بين يديه وألقاه إلي وعمد إلى دواته فأدارها بين يدي فقال له السلطان أهكذا على مثل هذا الحال وفي مثل هذا الوقت فقال نعم أنا قد جربته فوجدته متقد الخاطر حاضر الذهن سريع إجابة الفكر فقال السلطان وعلى كل حال قم إلى هنا لتنكف عنك أبصار الناظرين وتنقطع عنك ضوضاء الحاضرين وأشار إلى مكان عن يمين البيت الخشب الذي هو بالجلوس فيه منفرد فقمت وقد فقدت رجلي انخذالا وذهني اختلالا لهيبة المجلس في صدري وكثرة من حضره من المترقبين لي المنتظرين حلول فاقرة الشماتة بي فما هو إلا أن جلست حتى ثاب إلي خاطري وانثال الكلام على سرائري فكنت أتوهم أن فكري كالبازي الصيود لا يرى كلمة إلا أنشب فيها منسره ولا معنى إلا شك فيه ظفره فقلت في أسرع وقت
( وصلت من الملك المعظم تحفة ... ملأت بفاخر درها الأسلاكا )
( أبيات شعر كالنجوم جلالة ... فلذا حكت أوراقها الأفلاكا )
( عجبا وقد جاءت كمثل الروض إذ ... لم تذوها بالحر نار ذكاكا ) جلت الهموم عن الفؤاد كمثل ما ... تجلو بغرة وجهك الأحلاكا )
( كقميص يوسف إذ شفت يعقوب ريياه ... شفتني مثله رياكا )
( قد أعجزت شعراء هذا العصر كلهم ... فلم لا تعجز الأملاكا )
( ما كان هذا الفضل يمكن مثله ... أن يحتويه من الأنام سواكا )
( لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجة عندي وأنت هناكا )
( أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محمية في جاه طعن قناكا )
( يكفي الأعادي حر بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الولي نداكا )
( ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا )
( أم البلاد علا عليها قدرها ... لا سيما مذ شرفت بخطاكا )
( طابت وحق لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلى في القداح أخاكا )
( أنا كالسحاب أزور أرضا ساقيا ... حينا وأمنح غيرها سقياكا )
( مكثي جهاد للعدو لأنني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا )
( لولا الرباط وغيره لقصدت بالسير ... الحثيث إليك نيل رضاكا )
( ولئن أتيت إلى الشآم فإنما ... يحتثني شوق إلى لقياكا )
( إني لأمنحك المحبة جاهدا ... وهواي فيما تشتهيه هواكا )
( فافخر فقد أصبحت بي وببأسك الحامي ... وكل مملك يخشاكا )
( لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبدا ومن عاداك كان فداكا )
( وأعيش أبصر ابنك الباقي أبا ... وتعيش تخدم في السعود أباكا )
ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها فلما رآني السلطان قد عدت قال لي هل عملت شيئا ظنا منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر وبلوغ الغرض فيها غير متصور فقلت قد أجبت فقال أنشدنا فصمت الناس وحدقت الأبصار واصاخت الأسماع وظن الناس بي الظنون وترقبوا مني ما يكون فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجابا وتغامزت الأعين استغرابا وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل بأنه المعلى في البنين إذا ضربت قداحهم وسردت أمداحهم اغرورقت عيناه دمعا لذكره وأبان صمته

( لم لا أغيب عن الشآم وهل له ... من حاجة عندي وأنت هناكا )
( أم كيف أخشى والبلاد جميعها ... محمية في جاه طعن قناكا )
( يكفي الأعادي حر بأسك فيهم ... أضعاف ما يكفي الولي نداكا )
( ما زرت مصر لغير ضبط ثغورها ... فلذا صبرت فديت عن رؤياكا )
( أم البلاد علا عليها قدرها ... لا سيما مذ شرفت بخطاكا )
( طابت وحق لها ولم لا وهي قد ... حوت المعلى في القداح أخاكا )
( أنا كالسحاب أزور أرضا ساقيا ... حينا وأمنح غيرها سقياكا )
( مكثي جهاد للعدو لأنني ... أغزوه بالرأي السديد دراكا )
( لولا الرباط وغيره لقصدت بالسير ... الحثيث إليك نيل رضاكا )
( ولئن أتيت إلى الشآم فإنما ... يحتثني شوق إلى لقياكا )
( إني لأمنحك المحبة جاهدا ... وهواي فيما تشتهيه هواكا )
( فافخر فقد أصبحت بي وببأسك الحامي ... وكل مملك يخشاكا )
( لا زلت تقهر من يعادي ملكنا ... أبدا ومن عاداك كان فداكا )
( وأعيش أبصر ابنك الباقي أبا ... وتعيش تخدم في السعود أباكا )
ثم عدت إلى مكاني وقد بيضتها وحليت بزهرها ساحة القرطاس وروضتها فلما رآني السلطان قد عدت قال لي هل عملت شيئا ظنا منه أن العمل في تلك اللمحة القريبة معجز متعذر وبلوغ الغرض فيها غير متصور فقلت قد أجبت فقال أنشدنا فصمت الناس وحدقت الأبصار واصاخت الأسماع وظن الناس بي الظنون وترقبوا مني ما يكون فما هو إلا أن توالى الإنشاد لأبياتها حتى صفقت الأيدي إعجابا وتغامزت الأعين استغرابا وحين انتهيت إلى ذكر مولانا الملك الكامل بأنه المعلى في البنين إذا ضربت قداحهم وسردت أمداحهم اغرورقت عيناه دمعا لذكره وأبان صمته

مخفي المحبة حتى أعلن بسره وحين انتهيت إلى آخرها فاض دمعه ولم يمكنه دفعه فمد يده مستدعيا للورقة فناولتها إلى يد الصاحب فناولها له وعند حصولها في يده قام من غير إشعار لأحد بما دار من إرادة القيام في خلده سترا لما ظهر عليه من الرقة على الموالي الأولاد وكتما لما عليه من الوجد بهم والمحبة لهم وانفض المجلس
وإنما حمل الصاحب على هذا الفعل الذي غرر بي فيه وخاطر بي بالتعريض له أشياء كان يقترحها علي فأنفذ فيها من بين يديه ويخف الأمر منها علي لدالتي عليه منها أنني كنت في خدمته سنة 599 بدمشق فورد عليه كتاب من الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين صاحب حماة وقد بعث صحبته نسخة من ديوان شعره فتشاغل بتسويد جواب كتابه فلما كتب بعضه التفت إلي وقال اصنع أبياتا أكتبها إليه في صدر الجواب واذكر فيها شعره فقلت له على مثل هذه الحال فقال نعم فقلت بقدر ما أنجز بقية النسخة
( أيا ملكا قد أوسع الناس نائلا ... وأغرقهم بذلا وعمهم عدلا )
( فديناك هب للناس فضلا يزينهم ... فقد حزت دون الناس كلهم الفضلا )
( ودونك فامنحهم من العلم والحجى ... كما منحتهم كفك الجود والبذلا )
( إذا حزت أوفى الفضل عفوا فما الذي ... تركت لمن كان القريض له شغلا )
( وماذا عسى من ظل بالشعر قاصدا ... لبابك أن يأتي به جل أو قلا )
( فلا زلت في عز يدوم ورفعة ... تحوز ثناء يملأ الوعر والسهلا )
ووقع لابن ظافر أيضا من هذا النمط أنه دخل في أصحاب له يعودون صاحبا لهم وبين يديه بركة قد راق ماؤها وصحت سماؤها وقد رص تحت دساتيرها نارنج فتن قلوب الحضار وملأ بالمحاسن عيون النظار فكأنما

رفعت صوالج فضة على كرات من النضار فأشار الحاضرون إلى وصفها فقال بديها
( أبدعت يا بن هلال في فسقية ... جاءت محاسنها بما لم يعهد )
( عجبا لأمواه الدساتير التي ... فاضت على نارنجها المتوقد )
( فكأنهن صوالج من فضة ... رفعت لضرب كرات خالص عسجد )

قدرة ابن قلاقس في الارتجال
ومن بديع الارتجال ما حكاه المذكور عن ابن قلاقس الإسكندري رحمه الله تعالى إذ قال دخل الأعز أبو الفتوح بن قلاقس على بلال بن مدافع بن بلال الفزاري فعرض عليه سيفا قد نظم الفرند في صفحته جوهره وأذكى الدهر ناره وجمد نهره وألبسه من سلخ الأفاعي رداء وجسمه ردى أو داء لا يمنع من برقه بدر مجن ولا ثريا مغفر ولا يسلم من حده من ثبت ولا ينجو لطوله من فر فهو يبكي للنفاق ويضحك ويرعد للغيظ ويفتك وأمره بصفة شانه فقال على لسانه
( أروق كما أروع فإن تصفني ... فإني رائق الصفحات رائع )
( تدافع بي خطوب الدهر حتى ... نقلت إلى بلال عن مدافع )
وقال أيضا فيه
( رب يوم له من النقع سحب ... ما لها غير سائل الدم ودق )
( قد جلته يمنى بلال بحدي ... فكأني في راحة الشمس برق )
وقال أيضا فيه
( أنا في الكريهة كالشهاب الساطع ... من صفحة تبدو وحد قاطع )
( فكأنما استمليت تلك وهذه ... من وصف كف بلال ابن مدافع )
وقال أيضا فيه
( انظر لمطرد المياه بصفحتي ... ولنار حدي كم بها من صالي )
( قد عاد شدي في المضايق شيمتي ... كبلال ابن مدافع بن بلال ) وسأله صاحب له وصف مشط عاج قد اشبه الثريا شكلا ولونا وشق ليلا من الشعر جونا فقال
( ومتيم بالآبنوس وجسمه ... عاج ومن أدهانه شرفاته )
( كتمت دياجي الشعر منه بدرها ... فوشت به للعين عيوقاته )
وقال فيه
( وابيض ليل الآبنوس إذا سرى ... تمزق عن صبح من العاج باهر )
( وإن غاص في بحر الشعور رأيته ... تبشرنا أطرافه بالجواهر )
وقال فيه
( ومشرق يشبه ضوء الضحى ... حسنا ويسري في الدجى الفاحم )
( وكلما قلب في لمة ... أضحكها عن ثغره باسم )
وجلس بمصر في دار الأنماط يوما مع جماعة فمرت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك وهي شمس تحت سحاب النقاب وغصن في أوراق الشباب

وقال أيضا فيه
( أنا في الكريهة كالشهاب الساطع ... من صفحة تبدو وحد قاطع )
( فكأنما استمليت تلك وهذه ... من وصف كف بلال ابن مدافع )
وقال أيضا فيه
( انظر لمطرد المياه بصفحتي ... ولنار حدي كم بها من صالي )
( قد عاد شدي في المضايق شيمتي ... كبلال ابن مدافع بن بلال ) وسأله صاحب له وصف مشط عاج قد اشبه الثريا شكلا ولونا وشق ليلا من الشعر جونا فقال
( ومتيم بالآبنوس وجسمه ... عاج ومن أدهانه شرفاته )
( كتمت دياجي الشعر منه بدرها ... فوشت به للعين عيوقاته )
وقال فيه
( وابيض ليل الآبنوس إذا سرى ... تمزق عن صبح من العاج باهر )
( وإن غاص في بحر الشعور رأيته ... تبشرنا أطرافه بالجواهر )
وقال فيه
( ومشرق يشبه ضوء الضحى ... حسنا ويسري في الدجى الفاحم )
( وكلما قلب في لمة ... أضحكها عن ثغره باسم )
وجلس بمصر في دار الأنماط يوما مع جماعة فمرت بهم امرأة تعرف بابنة أمين الملك وهي شمس تحت سحاب النقاب وغصن في أوراق الشباب

فحدقوا إليها تحديق الرقيب إلى الحبيب والمريض إلى الطبيب فجعلت تتلفت تلفت الظبي المذعور أفرقه القانص فهرب وتتثنى تثني الغصن الممطور عانقه النسيم فاضطرب فسألوه العمل في وصفها فقال هذا يصلح أن يعكس فيه قول العطار الأزدي القيرواني
( أعرضن لما أن عرضن فإن يكن ... حذرا فأين تلفت الغزلان )
ثم صنع
( لها ناظر في ذرا ناضر ... كما ركب السن فوق القناة )
( لوت حين ولت لنا جيدها ... فأي حياة بدت من وفاة )
( كما ذعر الظبي من قانص ... فمر وكرر في الالتفات )
ثم صنع أيضا
( ولطيفة الألفاظ لكن قلبها ... لم أشك منه لوعة إلا عتا )
( كملت محاسنها فود البدر أن ... يحظى ببعض صفاتها أو ينعتا )
( قد قلت لما أعرضت وتعرضت ... يا مؤيسا يا مطمعا قل لي متى )
( قالت أنا الظبي الغرير وإنما ... ولى وأوجس نبأة فتلفتا )
قال علي بن ظافر وحضر يوما عند بني خليف بظاهر الإسكندرية في قصر رسا بناؤه وسما وكاد يمزق بمزاحمته أثواب السما قد ارتدى جلابيب السحائب ولاث عمائم الغمائم وابتسمت ثنايا شرفاته واتسمت بالحسن حنايا غرفاته وأشرف على سائر نواحي الدنيا وأقطارها وحبته الرياض بما ائتمنتها عليه السحب من ودائع أمطارها والرمل بفنائه قد نثر تبره في زبرجد

كرومه والجو قد بعث بذخائر الطيب لطيمة نسيمه والنخل قد أظهرت جواهرها ونشرت غدائرها والطل ينثر لؤلؤه في مسارب النسيم ومساحبه والبحر يرعد غيظا من عبث الرياح به فسأله بعض الحضور أن يصف ذلك الموضع الذي تمت محاسنه وغبط به ساكنه فجاشت لذلك لجج بحره وألقت إليه جواهره لترصيع لبة ذلك القصر ونحره فقال
( قصر بمدرجة النسيم تحدثت ... فيه الرياض بسرها المستور )
( خفض الخورنق والسدير سموه ... وثنى قصور الروم ذات قصور )
( لاث الغمام عمامة مسكية ... وأقام في أرض من الكافور )
( غنى الربيع به محاسن وصفه ... فافتر عن نور يروق ونور )
( فالدوح يسحب حلة من سندس ... تزهى بلؤلؤ طلها المنثور )
( والنخل كالغيد الحسان تقرطت ... بسبائك المنظوم المنثور )
( والرمل في حبك النسيم كأنما ... أبدى غصون سوالف المذعور )
( والبحر يرعد متنه فكأنه ... درع تشن بمعطفي مقرور )
( وكأننا والقصر يجمع شملنا ... في الأفق بين كواكب وبدور )
( وكذاك دهر بني خليف لم يزل ... يثني المعاطف في حبير حبور ) ثم قال ابن ظافر وأخبرني الفقيه أبو الحسن علي ابن الطوسي المعروف بابن السيوري الإسكندري النحوي بما هذا معناه قال كنت مع الأعز بن قلاقس في جماعة فمر بنا أبو الفضائل بن فتوح المعروف بالمصري وهو راجع من المكتب ومعه دواته وهو في تلك الأيام قرة العين ظرفا وجمالا وراحة القلب قربا ووصالا كل عين إلى وجهه محدقة ولمشهد خديه بخلوق الخجل مخلقة فاقترحنا عليه أن يتغزل فيه فصنع بديها
( علقته متعلقا ... بالخط معتكفا عليه )
( حمل الدواة ولا دواء ... لعاشق يرجى لديه )
( فدماء حبات القلوب ... تلوح صبغا في يديه )
( لم أدر ما أشكو إليه ... أهجره أم مقلتيه )
( والحب يخرسني على ... أني ألكع سيبويه )
( ما لي إذا أبصرته ... شغل سوى نظري إليه )
وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذي حلا وأبعدنا عنه بما مر النجعة فنقول ذكر الفتح في قلائد العقيان كما قال ابن ظافر ما معناه أخبرني الوزير أبو عامر بن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى بن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات ونامت عنه أعين المضرات وأظهرت سقاته غصونا تحمل بدورا وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نورا وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي وهو يومئذ قد بذل الجهد في التحلي بالزهد فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه ويحييه بزبرجد آسه ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه ففعل ذلك عجلا فأنشد أبو الحسن مرتجلا
( ومهفهف مزج الفتور بشدة ... وأقام بين تبذل وتمنع )
( يثنيه من فعل المدامة والصبا ... سكران سكر طبيعة وتطبع )
( أو ما إلي بكأسه فكففتها ... ورنا فشفعها بلحظ مطمع )
( والله لولا أن يقال هوى الهوى ... منه بفضل عزيمة وتورع )
( لأخذت في تلك السبيل بمأخذي ... فيما مضى ونزعت فيها منزعي )
وحكى الحميدي أن عبد الملك بن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة ويخفيه السحاب تارة فقال بديها
( أرى بدر السماء يلوح حينا ... فيبدو ثم يلتحف السحابا )
( وذاك لأنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا )
( مقال لو نمى عني إليه ... لراجعني بتصديقي جوابا )
وكان صاعد اللغوي صاحب كتاب القصوص - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيرا ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبي عامر ويصفها ويقرظها فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد بن شهيد صاحب الغرائب وقد تقدم بعض كلامه قريبا إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات
( أما ترى برد يومنا هذا ... صيرنا للكمون أفذاذا )
( قد فطرت صحة الكبود به ... حتى لكادت تعود أفلاذا )
( فادع بنا للشمول مصطلبا ... نغذ سيرا إليك إغذاذا )
( وادع المسمى بها وصاحبه ... تدع نبيلا وتدع أستاذا ) ولا تبال أبا العلاء زها ... بخمر قطربل وكلواذا )
( ما دام من أرملاط مشربنا ... دع دير عمي وطيز ناباذا ) وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده وأخذوا في شأنهم فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله ووقت لم يعهدوا نظيره وطما الطرب وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ويرتجل ويومئ إلى المنصور وقد غلب عليه السكر
( هاك شيخا قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستهلكا )
( لم يطق يرقصها مستثبتا ... فانثنى يرقصها مستمسكا )
( عاقه عن هزها منفردا ... نقرس أخنى عليه فاتكا )
( من وزير فيهم رقاصة ... قام للسكر يناغي ملكا )
( أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالا على رأسي لكا )
( قهقه الإبريق مني ضاحكا ... ورأى رعشة رجلي فبكى )
قال ابن ظافر وهذه قطعة مطبوعة وطرفها الأخير واسطتها وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي يعرف بالفكيك حسن النادرة سريعها وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه فلما رأى ابن شهيد يرقص قائما مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال لله درك يا وزير ! ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة فضحك المنصور وأمر لابن شهيد بمال جزيل ولسائر الجماعة وللبغدادي
وقال ابن بسام حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن

( علقته متعلقا ... بالخط معتكفا عليه )
( حمل الدواة ولا دواء ... لعاشق يرجى لديه )
( فدماء حبات القلوب ... تلوح صبغا في يديه )
( لم أدر ما أشكو إليه ... أهجره أم مقلتيه )
( والحب يخرسني على ... أني ألكع سيبويه )
( ما لي إذا أبصرته ... شغل سوى نظري إليه )
وقد آن وقت الرجعة إلى كلام الأندلسيين الذي حلا وأبعدنا عنه بما مر النجعة فنقول ذكر الفتح في قلائد العقيان كما قال ابن ظافر ما معناه أخبرني الوزير أبو عامر بن بشتغير أنه حضر مجلس القائد أبي عيسى بن لبون في يوم سفرت فيه أوجه المسرات ونامت عنه أعين المضرات وأظهرت سقاته غصونا تحمل بدورا وتطوف من المدام بنار مازجت من الماء نورا وشموس الكاسات تطلع في أكفها كالورد في السوسان وتغرب بين أقاحي نجوم الثغور فتذبل نرجس الأجفان وعنده الوزير أبو الحسن ابن الحاج اللورقي وهو يومئذ قد بذل الجهد في التحلي بالزهد فأمر القائد بعض السقاة أن يعرض عليه ذهب كاسه ويحييه بزبرجد آسه ويغازله بطرفه ويميل عليه بعطفه ففعل ذلك عجلا فأنشد أبو الحسن مرتجلا
( ومهفهف مزج الفتور بشدة ... وأقام بين تبذل وتمنع )
( يثنيه من فعل المدامة والصبا ... سكران سكر طبيعة وتطبع )
( أو ما إلي بكأسه فكففتها ... ورنا فشفعها بلحظ مطمع )

( والله لولا أن يقال هوى الهوى ... منه بفضل عزيمة وتورع )
( لأخذت في تلك السبيل بمأخذي ... فيما مضى ونزعت فيها منزعي )
وحكى الحميدي أن عبد الملك بن إدريس الجزيري كان ليلة بين يدي الحاجب ابن أبي عامر والقمر يبدو تارة ويخفيه السحاب تارة فقال بديها
( أرى بدر السماء يلوح حينا ... فيبدو ثم يلتحف السحابا )
( وذاك لأنه لما تبدى ... وأبصر وجهك استحيا فغابا )
( مقال لو نمى عني إليه ... لراجعني بتصديقي جوابا )
وكان صاعد اللغوي صاحب كتاب القصوص - وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب - كثيرا ما يمدح بلاد العراق بمجلس المنصور بن أبي عامر ويصفها ويقرظها فكتب الوزير أبو مروان عبد الملك بن شهيد والد الوزير أبي عامر أحمد بن شهيد صاحب الغرائب وقد تقدم بعض كلامه قريبا إلى المنصور في يوم برد - وكان أخص وزرائه به - بهذه الأبيات
( أما ترى برد يومنا هذا ... صيرنا للكمون أفذاذا )
( قد فطرت صحة الكبود به ... حتى لكادت تعود أفلاذا )
( فادع بنا للشمول مصطلبا ... نغذ سيرا إليك إغذاذا )
( وادع المسمى بها وصاحبه ... تدع نبيلا وتدع أستاذا ) ولا تبال أبا العلاء زها ... بخمر قطربل وكلواذا )
( ما دام من أرملاط مشربنا ... دع دير عمي وطيز ناباذا )

وكان المنصور قد عزم ذلك اليوم على الانفراد بالحرم فأمر بإحضار من جرى رسمه من الوزراء والندماء وأحضر ابن شهيد في محفة لنقرس كان يعتاده وأخذوا في شأنهم فمر لهم يوم لم يشهدوا مثله ووقت لم يعهدوا نظيره وطما الطرب وسما بهم حتى تهايج القوم ورقصوا وجعلوا يرقصون بالنوبة حتى انتهى الدور إلى ابن شهيد فأقامه الوزير أبو عبد الله ابن عباس فجعل يرقص وهو متوكئ عليه ويرتجل ويومئ إلى المنصور وقد غلب عليه السكر
( هاك شيخا قاده عذر لكا ... قام في رقصته مستهلكا )
( لم يطق يرقصها مستثبتا ... فانثنى يرقصها مستمسكا )
( عاقه عن هزها منفردا ... نقرس أخنى عليه فاتكا )
( من وزير فيهم رقاصة ... قام للسكر يناغي ملكا )
( أنا لو كنت كما تعرفني ... قمت إجلالا على رأسي لكا )
( قهقه الإبريق مني ضاحكا ... ورأى رعشة رجلي فبكى )
قال ابن ظافر وهذه قطعة مطبوعة وطرفها الأخير واسطتها وكان حاضرهم ذلك اليوم رجل بغدادي يعرف بالفكيك حسن النادرة سريعها وكان ابن شهيد استحضره إلى المنصور فاستطبعه فلما رأى ابن شهيد يرقص قائما مع ألم المرض الذي كان يمنعه من الحركة قال لله درك يا وزير ! ترقص بالقائمة وتصلي بالقاعدة فضحك المنصور وأمر لابن شهيد بمال جزيل ولسائر الجماعة وللبغدادي
وقال ابن بسام حدث أبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر بن

عثمان المصحفي قال دخلت يوما على أبي عامر ابن شهيد وقد ابتدأت علته التي مات بها فأنس بي وجرى الحديث إلى أن شكوت له تجني بعض أصحابي علي ونفاره عني فقال لي سأسعى في إصلاح ذات البين فخرجت عنه واتفق لقائي لذلك المتجني علي مع بعض أصحابي وأعزهم علي فلما رآني ذلك الصديق موليا عنه أنكر عليه وسأله عن السبب الموجب فأخبره وزادا في مشيهما حتى لحقا بي وعزم علي في مكالمة صاحبي وتعاتبنا عتابا أرق من الهواء وأشهى من الماء على الظماء حتى جئنا دار أبي عامر فلما رآنا جميعا ضحك وقال من كان الذي تولى إصلاح ما كنا سررنا بفساده قلنا قد كان ما كان فأطرق قليلا ثم أنشد
( من لا أسمي ولا أبوح به ... أصلح بيني وبين من أهوى )
( أرسلت من كابد الهوى فدرى ... كيف يداوي مواقع البلوى )
ولي حقوق في الحب ثابتة لكن إلفي يعدها دعوى وقد ذكرنا في هذا الكتاب من غرائب أبي عامر بن شهيد في مواضع متفرقة الغرائب وقدمنا في الباب الرابع حكايته مع المرأة الداخلة في رمضان لجامع قرطبة وحكيناها هناك بلفظ ( المطمح ) فلتراجع
وعبر ابن ظافر عن معناها بقوله إن أبا عامر كان مع جماعة من أصحابه بجامع قرطبة في ليلة السابع والعشرين من رمضان فمرت امرأة به من بنات أجلاء قرطبة قد كملت حسنا وظرفا ومعها طفل يتبعها كالظبية تستتبع خشفا وقد حفت بها الجواري كالبدر حف بالدراري فحين رأت تلك الجماعة المعروفة بالخلاعة وقد رمقوا ذلك الظبي بعيون أسود رأت فريسة

حذف 262
( تقول التي من بيتها كف مركبي ... أقربك دان أم مداك بعيد )
( فقلت لها أمري إلى من سمت به ... إلى المجد آباء له وجدود )
ثم قال ولزمته آخر عمره علة دامت به سنين ولم تفارقه حتى تركته يد جنين وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه وإطلاقه من ذنب كان قنيصه فطهره تطهيرا وجعل ذلك على العفو له ظهيرا فإنها أقعدته حتى حمل في المحفة وعاودته حتى غدت لرونقه مشتفة وعلى ذلك فلم يعطل لسانه ولم يبطل إحسانه ولم يزل يستريح إلى القول ويزيح ما كان يجده من الغول وآخر شعر قاله قوله
( ولما رأيت العيش لوى برأسه ... وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي )
( تمنيت أني ساكن في عباءة ... بأعلى مهب الريح في رأس شاهق )
( أرد سقيط الطل في فضل عيشتي ... وحيدا وأحسو الماء ثني المعالق )
( خليلي من ذاق المنية مرة ... فقد ذقتها خمسين قولة صادق )
( كأني وقد حان ارتحالي لم أفز ... قديما من الدنيا بلمحة بارق )
( فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي ... يدا في ملماتي وعند مضايقي )
( عليك سلام الله إني مفارق ... وحسبك زادا من حبيب مفارق )
( فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني ... وتذكار أيامي وفضل خلائقي )
( وحرك له بالله من أهل فننا ... إذا غيبوني كل شهم غرانق )

ارتاعت وتخوفت أن تخطف منها تلك الدرة النفيسة فاستدنت إليها خشفها وألزمته عطفها فارتجل ابن شهيد قائلا
( وناظرة تحت طي القناع إلخ ... ) ومرت في الباب الرابع هذه الأبيات وقال الرئيس أبو الحسن عبد الرحمن بن راشد الراشدي لما نعيت أبا عامر بن شهيد إلى أبي عبد الله بن الحناط الشاعر وقد عرف ما كان بينهما من المنافسة بكى وأنشدني لنفسه بديهة
( لما نعى الناعي أبا عامر ... أيقنت أني لست بالصابر )
( أودى فتى الظرف وترب الندى ... وسيد الأول والآخر ) وقال ابن بسام اصطبح المعتصم بن صمادح يوما مع ندمائه فأبرز لهم وصيفة مهدوية متصرفة في أنواع اللعب المطرب من الدك وحضر أيضا هناك لاعب مصري ساحر فكان لعبه حسنا فارتجل أبو عبد الله بن الحداد
( كذا فلتلح قمرا زاهرا ... وتجني الهوى ناظرا ناضرا ) وسيبك سيب ندى مغدق ... أقام لنا هاميا هامرا )
( وإن ليومك ذا رونقا ... منيرا كنور الضحى باهرا )
( صباح اصطباح بإسفاره ... لحظنا محيا العلا سافرا )
( وأطلعت فيه نجوم الكؤوس ... فما زال كوكبها زاهرا )
( وأسمعتنا لاحنا فاتنا ... وأحضرتنا لاعبا ساحرا )

( يرفرف فوق رؤوس القيان ... فننظر ما يذهل الناظرا )
( ويحفظها ذيل سرباله ... فننظر طالعها غائرا )
( فظاهرها ينثني باطنا ... وباطنها ينثني ظاهرا )
( وثناه ثان لألعابه ... دقائق تثني الحجى حائرا )
( وفي سورة الراح من سحره ... خواطر دلهت الخاطرا )
( إذا ورد اللحظ أثناءها ... فما الوهم عن وردها صادرا )
( ومن حسن دهرك إبداعه ... فما انفك عارضها ماطرا )
( وسعدك يجتلب المغربات ... فيجعل غائبها حاضرا )
قال وحضر الأديب أحمد بن الشقاق عند القائد بن دري بجيان هو وأبو زيد بن مقانا الأشبوني فأحضر لهما عنبا أسود مغطى بورق أخضر فارتجل ابن الشقاق
( عنب تطلع من حشا ورق لنا ... صبغت غلائل جلده بالإثمد )
( فكأنه من بينهن كواكب ... كسفت فلاحت في سماء زبرجد )
قال وحضر ابن مرزقان ليلة عند ذي النون بن خلدون وبحضرته وصيفة تحمل شمعة فاستحسنها ابن مرزقان فقال بديها
( يا شمعة تحملها أخرى ... كأنها شمس علت بدرا )
( امتحنت إحداكما مهجتي ... بمثل ما تمتحن الأخرى )
قال ودخل الأديب غانم يوما على باديس صاحب غرناطة فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وأخذه من قول الخليل ( ( ما تضايق سم الخياط بمتحابين ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين )
وكان الخليل على نمرقة صغيرة والمجلس متضايق فدخل عليه بعض أصحابه فرحب به وأجلسه معه على النمرقة فقال له الرجل إنها لا تسعنا فقال ما ذكر
وقال ابن بسام أيضا أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض اليام ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالا
( أعن بابل أجفان عينيك تنفث ... ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث )
( أفي الحق أن تحكي سرافيل نافخا ... وأمكث في رمس الصدود وألبث )
( عساك نبي الحسن تأتي بآية ... فتنفخ في ميت الصدود فيبعث ) قال وكان بقرطبة غلام وسيم فمر عليه ابن فرج الجياني ومعه صاحب له فقال صاحبه إنه لصبيح لولا صفرة فيه فقال ابن فرج ارتجالا

قال ودخل الأديب غانم يوما على باديس صاحب غرناطة فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال بديها
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وأخذه من قول الخليل ( ( ما تضايق سم الخياط بمتحابين ولا اتسعت الدنيا لمتباغضين )
وكان الخليل على نمرقة صغيرة والمجلس متضايق فدخل عليه بعض أصحابه فرحب به وأجلسه معه على النمرقة فقال له الرجل إنها لا تسعنا فقال ما ذكر
وقال ابن بسام أيضا أمر الحاجب المنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة بعرض بعض الجند في بعض اليام ورئيسهم مملوك له رومي يقال له خيار في نهاية الجمال فجعل ينفخ في القرن ليجتمع أصحابه على عادة لهم في ذلك فقال ابن هندو الداني فيه ارتجالا
( أعن بابل أجفان عينيك تنفث ... ومن قوم موسى أنت للعهد تنكث )
( أفي الحق أن تحكي سرافيل نافخا ... وأمكث في رمس الصدود وألبث )
( عساك نبي الحسن تأتي بآية ... فتنفخ في ميت الصدود فيبعث ) قال وكان بقرطبة غلام وسيم فمر عليه ابن فرج الجياني ومعه صاحب له فقال صاحبه إنه لصبيح لولا صفرة فيه فقال ابن فرج ارتجالا

( قالوا به صفرة عابت محاسنه ... فقلت ما ذاك من عيب به نزلا )
( عيناه تطلب في أوتار من قتلت ... فلست تلقاه إلا خائفا وجلا ) قال وكان يوما مع لمة من أهل الأدب في مجلس أنس فاحتاج رب المنزل إلى دينار فوجه إلى السوق فدخل به عليهم غلام من الصيارف في نهاية الجمال فرمى بالدينار إليهم من فيه تماجنا فقال ابن فرج
( أبصرت دينارا بكف مهفهف ... يزهى به من كثرة الإعجاب )
( أو ما به من فيه ثم رمى به ... فكأنه بدر رمى بشهاب ) قال وخرج الأديب أبو الحسن ابن حصن الإشبيلي إلى وادي قرطبة في نزهة فتذكر إشبيلية فقال بديها
( ذكرتك يا حمص ذكرى هوى ... أمات الحسود وتعنيته )
( كأنك والشمس عند الغروب ... عروس من الحسن منحوته )
( غدا النهر عقدك والطود تاجك ... والشمس أعلاه ياقوته )
انتهى وعبر بعضهم وهو صاحب بدائع البدائه عن بعض حكايات صاحب القلائد بما يقاربها في المعنى فقال إن المستعين بن هود ملك سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوما لتفقد بعض معاقله المنتظمة بجيد ساحله وهو نهر رق ماؤه وراق وأزرى على نيل مصر ودجلة العراق قد اكتنفته البساتين من جانبيه وألقت ظلالها عليه فما تكاد عين الشمس أن

تنظر إليه هذا على اتساع عرضه وبعد سطح مائه من أرضه وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة وأحاطت به إحاطة الطفاوة بالغزالة وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء وأخاف حتى حوت السماء وأهلة الهالات طالعة من الموج في سحاب وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب فلا ترى إلا صيودا كقصد الصوارم وقدود اللهاذم ومعاصم الأبكار النواعم فقال الوزير أبو الفضل ابن حسداي والطرب قد استهواه وبديع ذلك المرأى قد استرق هواه
( لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر )
( كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى فأبدى صفح معتذر )
( نسير في زورق حف السرور به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر )
( مد الشراع به قدا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر )
( هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن في هدي مقتدر )
( تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر )
( تثار من قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغواص بالدرر )
( وللندامى به عب ومرتشف ... كالريق يعذب في ورد وفي صدر )
( والشرب في ود مولى خلقه زهر ... يذكو وبهجته أبهى من القمر ) ثم قال ما معناه وقوله ( ( نينان ) ) غير معروف فإن نونا لم يجئ جمعها على نينان وقد كان سيبويه لحن بشار بن برد في قوله في صفة السفينة
( تلاعب نينان البحور وربما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري )
فغيره بشار ب ( ( تيار البحور ) ) وقد قال أبو الطيب يصف خيلا

( فهن مع السيدان في البر عسل ... وهن مع النينان في البحر عوم )
انتهى
والمستعين بن هود هو أحمد بن المؤتمن على أمر الله يوسف بن المقتدر بالله أحمد بن المستضيء بالله سليمان بن هود الجذامي رحم الله تعالى الجميع
وعبر المذكور عن قضية ابن وهبون في هلال شوال بما نصه خرج ابن وهبون يوما لنظر هلال شوال وأبو بكر ابن القبطرنة الوزير يسايره وهو يومئذ غلام يخجل البدر ويذوي الغصن النضر وصفحته لم يسطرها العذار بأنقاسه ووردة خده لم يسترها الشعر بآسه فارتجل عبد الجليل
( يا هلال استتر بوجهك عني إن مولاك قابض بشمالي )
( هبك تحكي سناه خدا بخد ... قم فجئني لقده بمثال ) وقد ذكرنا هذه الحكاية في حذف غير هذا الموضع بلفظ الفتح في القلائد ولكنا أعدناها هنا لتعبير صاحب البدائع عنها محاكيا لطريقته
وذكر ابن بسام أن الوزير أبا عبد الله ابن أبي الخصال وقف بباب بعض القضاة واستأذن عليه فحجب عنه فكتب إليه بديها
( جئناك للحاجة الممطول صاحبها ... وأنت تنعم والإخوان في بوس )
( وقد وقفنا طويلا عند بابكم ... ثم انصرفنا على رأي ابن عبدوس )
أشار به إلى قول الوزير أبي عامر بن عبدوس
( لنا قاض له خلق ... أقل ذميمه النزق )
( إذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق )
وهو تمليح مليح سامح الله تعالى الجميع
وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي
( وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي )
( لم يبق من عصر الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلا هي )
( إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله )
وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام والصواب - كما قال ابن الأبار - الأول
وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفها والي قرطبة
( ما شغل الطرف مثل فائرة ... تمج صرف الحياة من فيها )
( إشرب بها والحباب في جذل ... يظهره حسنها ويخفيها )
( تكاد من رقة تضمنها ... تخطبها العين إذ توافيها )
( كأنها من درة منعمة ... زهراء قد ذاب نصفها فيها )
ومن شعره أيضا

( لنا قاض له خلق ... أقل ذميمه النزق )
( إذا جئناه يحجبنا ... فنلعنه ونفترق )
وهو تمليح مليح سامح الله تعالى الجميع
وقال أبو جعفر الكاتب القرطبي الربضي
( وأبي المدامة ما أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي )
( لم يبق من عصر الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلا هي )
( إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله )
وبعضهم ينسبها لأبي القاسم عامر بن هشام والصواب - كما قال ابن الأبار - الأول
وقال أبو جعفر المذكور في فوارة رخام كلفه وصفها والي قرطبة
( ما شغل الطرف مثل فائرة ... تمج صرف الحياة من فيها )
( إشرب بها والحباب في جذل ... يظهره حسنها ويخفيها )
( تكاد من رقة تضمنها ... تخطبها العين إذ توافيها )
( كأنها من درة منعمة ... زهراء قد ذاب نصفها فيها )
ومن شعره أيضا

( ضحك المشيب برأسه ... فبكى بأعين كاسه )
( رجل تخونه الزمان ... ببؤسه وبباسه )
( فجرى على غلوائه ... طلق الجموح بناسه )
( أخذا بأوفر حظه ... لرجائه من ياسه )
وقال أحد بني القبطرنة الوزراء
( ذكرت سليمى ونار الوغى ... بقلبي كساعة فارقتها )
( وأبصرت قد القنا شبهها ... وقد ملن نحوي فعانقتها )
وهذا معنى بديع ما أراه سبق به وقال أبو الحسن بن الغليظ المالقي قلت يوما للأديب أبي عبد الله بن السراج المالقي ونحن على خرير ماء أجز
( شربنا على ماء كأن خريره ... ) فقال مبادرا
( بكاء محب بان عنه حبيب ... )
( فمن كان مشغوفا كئيبا بإلفه ... فإني مشغوف به وكئيب ) وكتب أبو بكر البلنسي إلى الأديب أبي بحر صفوان بن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسيم الأخير منهما
( خليلي أبا بحر وما قرقف اللمى ... بأعذب من قولي خليلي أبا بحر )
( أجز غير مأمور قسيما نظمته ... تأمل على نحر المياه حلى الزهر ) فأجازه
( تأمل على نحر المياه حلى الزهر ... كعهدك بالخضراء والأنجم الزهر )
( وقد ضحكت للياسمين مباسم ... سرورا بآداب الوزير أبي بكر )
( وأصغت من الآس النضير مسامع ... لتسمع ما يتلوه من سور الشعر ) وقال ابن خفاجة
( وما الأنس إلا في مجاج زجاجة ... ولا العيش إلا في صرير سرير )
( وإني وإن جئت المشيب لمولع ... بطرة ظل فوق وجه غدير ) وقال ابن خفاجة أيضا
( وأسود يسبح في لجة ... لا تكتم الحصباء غدرانها )
( كأنها في شكلها مقلة ... وذلك الأسود إنسانها )

قصائد لابن زيدون
وكتب الوزير الشهير أبو الوليد بن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله بن عبد العزيز أثر صدوره عن بلنسيه
( راحت فصح بها السقيم ... ريح معطرة النسيم )
( مقبولة هبت قبو ... لا فهي تعبق في الشميم )

( خليلي أبا بحر وما قرقف اللمى ... بأعذب من قولي خليلي أبا بحر )
( أجز غير مأمور قسيما نظمته ... تأمل على نحر المياه حلى الزهر ) فأجازه
( تأمل على نحر المياه حلى الزهر ... كعهدك بالخضراء والأنجم الزهر )
( وقد ضحكت للياسمين مباسم ... سرورا بآداب الوزير أبي بكر )
( وأصغت من الآس النضير مسامع ... لتسمع ما يتلوه من سور الشعر ) وقال ابن خفاجة
( وما الأنس إلا في مجاج زجاجة ... ولا العيش إلا في صرير سرير )
( وإني وإن جئت المشيب لمولع ... بطرة ظل فوق وجه غدير ) وقال ابن خفاجة أيضا
( وأسود يسبح في لجة ... لا تكتم الحصباء غدرانها )
( كأنها في شكلها مقلة ... وذلك الأسود إنسانها )
قصائد لابن زيدون
وكتب الوزير الشهير أبو الوليد بن زيدون إلى الوزير أبي عبد الله بن عبد العزيز أثر صدوره عن بلنسيه
( راحت فصح بها السقيم ... ريح معطرة النسيم )
( مقبولة هبت قبو ... لا فهي تعبق في الشميم )

( أفضيض مسك أم بلنسية ... لرياها نميم )
( بلد حبيب أفقه ... لفتى يحل به كريم )
( إيه أبا عبد الإله ... نداء مغلوب العزيم )
( إن عيل صبري من فرا ... قك فالعذاب به أليم )
( أو أتبعتك حنينها ... نفسي فأنت لها قسيم )
( ذكري لعهدك كالعرار ... سرى فبرح بالسليم )
( مهما ذممت فما زماني ... في ذمامك بالذميم )
( زمن كمألوف الرضاع ... يشوق ذكراه الفطيم )
( أيام أعقد ناظري ... في ذلك المرأى الوسيم )
( وأرى الفتوة غضة ... في ثوب أواه حليم )
( الله يعلم أن حبك ... من فؤادي في الصميم )
( ولئن تحمل عنك لي ... جسم فعن قلب مقيم )
( قل لي باي خلال سرك ... فيك أفتن أو أهيم )
( ألمجدك العمم الذي ... نسق الحديث مع القديم )
( أم ظرفك الغض الجنى ... أم عرضك الصافي الأديم )
( أم برك العذب الجمام ... وبشرك الغض الجميم )
( إن أشمست تلك الطلا ... قة فالندى منها مغيم )
( أم بالبدائع كاللآلي ... من نثير أو نظيم )
( لبلاغة إن عد أهلوها ... فأنت بها زعيم )
( فقر تسوغ بها المدام ... إذا يكررها النديم )
( إن الذي قسم الحظوظ ...
( حباك بالخلق العظيم )
( لا أستزيد الله نعمى ... فيك لا بل أستديم )
( فلقد أقر العين أنك ... غرة الزمن البهيم )
( حسبي الثناء بحسن برك ... ما بدا برق وشيم )

( ثم الدعاء بأن تهنأ ... طول عيشك في نعيم )
( ثم السلام تبلغنه ... فغيب مهديه سليم ) ولما ورد إشبيلية نزل بدار الوزير الكاتب ذي الوزارتين أبي عامر بن مسلمة وهو يبني مجلسا فصنع أبياتا كتبت
فيه
( عمر من يعمر ذا المجلسا ... أطول عمر يبهج الأنفسا )
( وبعد ذا عوض من داره ... عدنا ومن ديباجه السندسا )
( ولقي النور بها والرضى ... ووقي الأسواء والأبؤسا )
( ودام عباد لعضد الهدى ... يحرس حتى يفني الأحرسا )
( معتضد بالله إحسانه ... جم إذا ما الدهر يوما أسا )
( الملك الغمر الندى المقتني ... من كل حمد علقه الأنفسا )
( إن رام يوما وصف عليائه ... مفوه مقتدر أخرسا )
( لا زال بدرا طالعا نيرا ... يكشف عن آمالنا الحندسا ) وقال فيه أيضا
( أدرها فقد حسن المجلس ... وقد آن أن تترع الأكؤس )
( ولا تنس أن أوان الربيع ... إذا لم تجد فقده الأنفس )
( فإن خلال أبي عامر ... بها يحقر الورد والنرجس )
وكتب إلى الوزير أبي المعالي المهلب بن عامر يستدعيه

( طابت لنا ليلتنا الخاليه ... فلنتبعنها هذه الثانيه )
( أبا المعالي نحن في راحة ... فانقل إلينا القدم العاليه )
( لأنها عاطلة إن تغب ... عنا فزرنا كي ترى حاليه )
( أنت الذي لو تشترى ساعة ... منه بدهر لم تكن غاليه ) وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عامر المذكور معاتبا
( تباعدنا على قرب الجوار ... كأنا صدنا شط المزار )
( تطلع لي هلال الهجر بدرا ... وصار هلال وصلك في سرار )
( وشاع شنيع قطعك لي بوصلي ... فهلا كان ذلك في استتار )
( أيجمل أن ترى عني صبورا ... فأصبح مولعا دون اصطبار )
( وكنت أزيد سمعك من عتابي ... ولكن عاقني فرط الخمار )
( فراع مودتي واحفظ جواري ... فإن الله أوصى بالجوار )
( وزرني منعما من غير أمر ... وآنس موحشا من عقر داري )
فكتب إليه ابن زيدون
( هواي وإن تناءت عنك داري ... كمثل هواي في حال الجوار )
( مقيم لا تغيره عواد ... تباعد بين أحيان المزار )
( رأيتك قلت إن الهجر بدر ... متى خلت البدور من السرار )
( ورابك أنني جلد صبور ... وكم صبر يكون عن اصطبار )
( ولم أهجر لعتب غير أني ... أضرت بي معاقرة العقار )
( وإن الخمر ليس لها خمار ... يبرح بي فكيف مع الخمار )
( وهل أنسى لديك نعيم عيش ... كوشي الخد طرز بالعذار ... وساعات يجول اللهو فيها ... مجال الطل في حدق النهار )
( وإن يك فر عنك اليوم جسمي ... فديت فما لقلبي من فرار )
( وكنت على البعاد أجل شيء ... لدي فكيف إذ أصبحت جاري )
وكان أبو العطاف إذ ورد إشبيلية رسولا قد سأله أن يريه شيئا من شعره فمطله به حتى كتب إليه شعرا يستبطئه فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية
( أفدتني من نفائس الدرر ... ما أبرزته غوائص الفكر )
( من لفظة قارنت نظائرها ... قران سقم الجفون للحور )
وهي أكثر مما ذكر
وكتب رحمه الله تعالى - أعني ذا الوزارتين ابن زيدون - إلى ولادة
( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا )
( ألا وقد حان صبح الليل صبحنا ... حين فقام بنا للحين ناعينا )
( من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا )
( أن الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنسا بقربهم قد عاد يبكينا )
( غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا

( ولم أهجر لعتب غير أني ... أضرت بي معاقرة العقار )
( وإن الخمر ليس لها خمار ... يبرح بي فكيف مع الخمار )
( وهل أنسى لديك نعيم عيش ... كوشي الخد طرز بالعذار ... وساعات يجول اللهو فيها ... مجال الطل في حدق النهار )
( وإن يك فر عنك اليوم جسمي ... فديت فما لقلبي من فرار )
( وكنت على البعاد أجل شيء ... لدي فكيف إذ أصبحت جاري )
وكان أبو العطاف إذ ورد إشبيلية رسولا قد سأله أن يريه شيئا من شعره فمطله به حتى كتب إليه شعرا يستبطئه فأجابه ابن زيدون في العروض والقافية
( أفدتني من نفائس الدرر ... ما أبرزته غوائص الفكر )
( من لفظة قارنت نظائرها ... قران سقم الجفون للحور )
وهي أكثر مما ذكر
وكتب رحمه الله تعالى - أعني ذا الوزارتين ابن زيدون - إلى ولادة
( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا )
( ألا وقد حان صبح الليل صبحنا ... حين فقام بنا للحين ناعينا )
( من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزنا مع الدهر لا يبلى ويبلينا )
( أن الزمان الذي ما زال يضحكنا ... أنسا بقربهم قد عاد يبكينا )
( غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا

( فانحل ما كان معقودا بأنفسنا ... وانبت ما كان موصولا بأيدينا )
( بالأمس كنا وما يخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى تلاقينا )
( يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم ... هل نال حظا من العتبى أعادينا ) لم نعتقد بعدكم إلا الوفاء لكم ... رأيا ولم نتقلد غيره دينا )
( كنا نرى اليأس تسلينا عوارضه ... وقد يئسنا فما لليأس يغرينا )
( بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا )
( نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا )
( حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا )
( إذ جانب العيش طلق من تألفنا ... ومورد اللهو صاف من تصافينا )
( وإذ هصرنا فنون الوصل دانية ... قطوفها فجنينا منه ما شينا )
( ليسق عهدكم عهد السرور فما ... كنتم لأرواحنا إلا رياحنا )
( لا تحسبوا نأيكم عنا يغيرنا ... إن طال ما غير النأي المحبينا )
( والله ما طلبت أهواؤنا بدلا ... منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا )
( يا ساري البرق غاد القصر فاسق به ... من كان صرف الهوى والود يسقينا )
( واسأل هنالك هل عنى تذكرنا ... إلفا تذكره أمسى يعنينا )
( ويا نسيم الصبا بلغ تحيتنا ... من لو على البعد حيا كان يحيينا )
( من لا يرى الدهر يقضينا مساعفة ... فيه وإن لم يكن عنا يقاضينا )
( من بيت ملك كأن الله أنشأه ... مسكا وقد أنشأ الله الورى طينا )
( أو صاغه ورقا محضا وتوجه ... من ناصع التبر إبداعا وتحسينا )
( إذا تأود آدته رفاهية ... توم العقود وأدمته البرى لينا )

( كانت له الشمس ظئرا في تكلله ... بل ما تجلى لها إلا أحايينا )
( كأنما أثبتت في صحن وجنته ... زهر الكواكب تعويذا وتزيينا )
( ما ضر أن لم نكن أكفاءه شرفا ... وفي المودة كاف من تكافينا )
( يا روضة طالما أجنت لواحظنا ... وردا جلاه الصبا غضا ونسرينا )
( ويا حياة تملينا بزهرتها ... منى ضروبا ولذات أفانينا )
( ويا نعيما خطرنا من غضارته ... في وشي نعمى سحبنا ذيله حينا )
( لسنا نسميك إجلالا وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يغنينا )
( إذا انفردت وما شوركت في صفة ... فحسبنا الوصف إيضاحا وتبيينا )
( يا جنة الخلد أبدلنا بسلسلها ... والكوثر العذب زقوما وغسلينا )
( كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا )
( سران في خاطر الظلماء تكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا )
( لا غرو في أن ذكرنا الحزن حين نهت ... عنه النهى وتركنا الصبر ناسينا )
( إنا قرأنا الأسى يوم النوى سورا ... مكتوبة وأخذنا الصبر تلقينا )
( أما هواك فلم نعدل بمشربه ... شربا وإن كان يروينا فيظمينا )
( لم نجف أفق جمال أنت كوكبه ... سالين عنه ولم نهجره قالينا )
( ولا اختيارا تجنبناك عن كثب ... لكن عدتنا على كره عوادينا )
( نأسى عليك إذا حثت مششعة ... فينا الشمول وغنانا مغنينا )
( لا أكؤس الراح تبدي من شمائلنا ... سيما ارتياح ولا الأوتار تلهينا )
( دومي على العهد ما دمنا محافظة ... فالحر من دان إنصافا كما دينا )
( فما استعضنا خليلا عنك يحبسنا ... ولا استفدنا حبيبا عنك يغنينا )
( ولو صبا نحونا من أفق مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصبينا )
( أبلي وفاء وإن لم تبذلي صلة ... فالطيف يقنعنا والذكر يكفينا )
( وفي الجواب متاع لو شفعت به ... بيض الأيادي التي ما زلت تولينا )
( عليك مني سلام الله ما بقيت ... صبابة بك نخفيها وتخفينا )

وإنما ذكرت هذه القصيدة - مع طولها - لبراعتها ولأن كثيرا من الناس لا يذكر جملتها ويظن أن ما في القلائد وغيرها منها هو جميعها وليس كذلك فهي وإن اشتهرت بالمشرق والمغرب لم يذكر جملتها إلا القليل وقد كنت وقفت بالمغرب على تسديس لها لبعض علماء المغرب ولم يحضرني منه الآن إلا قوله في المطلع
( ما للعيون بسهم الغنج تصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا )
( تألف كان يحيينا ويضنينا ... تفرق عاث في شمل المحبينا )
( أضحى التنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب دنيانا تجافينا )
وما أحسن قوله في هذا التسديس
( ما للأحبة دانوا بالنوى ورأوا ... تعريض عهد اللقا بالبعد حين نأوا )
( رعاهم الله كانوا للعهود رعوا ... فغيرتهم وشاة بالفساد سعوا )
( غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن نغص فقال الدهر آمينا )
وقد ذكرنا في الباب الرابع موشحة ابن الوكيل التي وطأ فيها لنونية ابن زيدون هذه فلتراجع
رجع وقال ذو الوزارتين ابن زيدون يتغزل
( وضح الصبح المبين ... وجلا الشك اليقين )
( ورأى الأعداء ما غرتهم ... منك الظنون )
( أملوا ما ليس يمنى ... ورجوا ما لا يكون )
( وتمنوا أن يخون العبد ... مولى لا يخون )

( فإذا الغيب سليم ... وإذا العهد مصون ) قل لمن دان بهجري ... وهواني إذ يدين )
( أرخص الحب فؤادي ... لك والعلق ثمين )
( يا هلالا تتراءاه ... نفوس لا عيون )
( عجبا للقلب يقسو ... منك والعطف يلين )
( ما الذي ضرك لو سر ... بمرآك الحزين )
( وتلطفت بصب ... حينه فيك يحين )
( فوجوه اللطف شتى ... والمعاذير فنون )
وقال أيضا
( إليك من الأنام غدا ارتياحي ... وأنت من الزمان مدى اقتراحي )
( وما اعترضت هموم النفس إلا ... ومن ذكراك ريحاني وراحي )
( فديتك إن صبري عنك صبري ... لدى عطشي عن الماء القراح )
( ولي أمل لو الواشون كفوا ... لأطلع غرسه ثمر النجاح )
( وأعجب كيف يغلبني عدو ... رضاك عليه من أمضى سلاح )
( ولما أن جلتك لي اختلاسا ... أكف الدهر للحين المتاح )
( رأيت الشمس تطلع في نقاب ... وغصن البان يرفل في وشاح )
( فلو أسطيع طرت إليك شوقا ... وكيف يطير مقصوص الجناح )
( على حالي وصال واجتناب ... وفي يومي دنو وانتزاح )
( وحسبي أن تطالعك الأماني ... بأفقك في مساء أو صباح )
( فؤادي من أسى بك غير خال ... وقلبي من هوى لك غير صاح )

( وأن تهدي السلام إلي شوقا ... ولو في بعض أنفاس الرياح )
وقال
( كم ذا أريد ولا أراد ... لله ما لقي الفؤاد )
( أصفي الوداد إلى الذي ... لم يصف لي منه الوداد )
( كيف السلو عن الذي ... مثواه من قلبي السواد )
( يقضي علي دلاله ... في كل حين أو يكاد )
( ملك القلوب بحسنه ... فلها إذا أمر انقياد )
( يا هاجري كم أستفيد ... الصبر عنك فلا أفاد )
( أفلا رثيت لمن يبيت ... وحشو مقلتيه السهاد )
( إن أجن ذنبا في الهوى ... خطأ فقد يكبو الجواد )
( كان الرضى وأعيذه ... أن يعقب الكون الفساد )
وقال
( متى أنبيك ما بي ... يا راحتي وعذابي )
( متى ينوب لساني ... في شرحه عن كتابي )
( الله يعلم أني ... أصبحت فيك لما بي )
( فما يلذ منامي ... ولا يسوغ شرابي )
( يا فتنة المتعزي ... وحجة المتصابي )
( الشمس أنت توارت ... عن ناظري بالحجاب )
( ما النور شف سناه ... على رقيق السحاب )
( إلا كوجهك لما ... أضاء تحت النقاب )
وقال
( هل لداعيك مجيب ... أم لشاكيك طبيب )
( يا قريبا حين ينأى ... حاضرا حين يغيب )
( كيف يسلوك محب ... زانه منك حبيب )
( إنما نسيم ... تتلقاه القلوب )
( قد علمنا علم ظن ... هو لا شك مصيب )
( إن سر الحسن مما ... أضمرت تلك القلوب )
وقال
( أنى تضيع عهدك ... أم كيف تخلف وعدك )
( وقد رأتك الأماني رضى فلم تتعدك )
( يا ليت شعري وعندي ... ما ليس في الحب عندك )
( هل طال ليلك بعدي ... كطول ليلي بعدك )
( سلني حياتي أهبها ... فلست أملك ردك )
( الدهر عبدي لما ... أصبحت في الحب عبدك )
وقال رحمه الله تعالى وقد أمره السلطان أن يعارض قطعا كان يغنى بها واستحسن ألحانها

( ما النور شف سناه ... على رقيق السحاب )
( إلا كوجهك لما ... أضاء تحت النقاب )
وقال
( هل لداعيك مجيب ... أم لشاكيك طبيب )
( يا قريبا حين ينأى ... حاضرا حين يغيب )
( كيف يسلوك محب ... زانه منك حبيب )
( إنما نسيم ... تتلقاه القلوب )
( قد علمنا علم ظن ... هو لا شك مصيب )
( إن سر الحسن مما ... أضمرت تلك القلوب )
وقال
( أنى تضيع عهدك ... أم كيف تخلف وعدك )
( وقد رأتك الأماني رضى فلم تتعدك )
( يا ليت شعري وعندي ... ما ليس في الحب عندك )
( هل طال ليلك بعدي ... كطول ليلي بعدك )
( سلني حياتي أهبها ... فلست أملك ردك )
( الدهر عبدي لما ... أصبحت في الحب عبدك )
وقال رحمه الله تعالى وقد أمره السلطان أن يعارض قطعا كان يغنى بها واستحسن ألحانها

( يقصر قربك ليلي الطويلا ... ويشفي وصالك قلبي العليلا )
( وإن عصفت منك ريح الصدود ... فقدت نسيم الجياة البليلا )
( كما أنني إن أطلت العثار ... ولم يبد عذري وجها جميلا )
( وجدت أبا القاسم الظافر المؤيد ... بالله مولى مقيلا )
( لأقلامه فعل أسيافه ... يظل الصرير يباري الصليلا )
وقال يهنيه بالقدوم من السفر
( أيها الظافر أبشر بالظفر ... واجتل التأييد في أبهى الصور )
( وتفيأ ظل سعد يجتنى ... فيه من غرس المنى أحلى الثمر )
( ورد النجح فكم مستوحش ... شائق منك إلى أنس الصدر )
( كان من قربك في عيش ند ... عاطر الآصال وضاح البكر )
( فثوى دونك مثوى قلق ... يشتكي من ليله مطل السحر )
( قل لساقينا يجد أكؤسه ... ولشادينا يطل قطع الوتر )
ومنها
( لي فيه المثل السائر في ... جالب التمر إلى أرض هجر )
( ثم قد وفق عبد عظمت ... نعمة المولى عليه فشكر )
( لا عدا حظك إقبال يرى ... قاضيا أثناءه كل وطر )
( واصطبح كأس الرضى من ملك ... سرت في إرضائه أزكى السير )
( حين صممت إلى أعدائه ... فانتحتهم منك صماء الغير )

( فاض غمر للندى من فوقهم ... كان يروي شربهم منه الغمر )
( سبق الناس فصلى سابق ... إذ رأى آثاره مثل الزهر )
وهي طويلة
وقال رحمه الله تعالى
( لم يكن هجر حبيبي عن قلى ... لا ولا ذاك التجني مللا )
( سره دعوى ادعائي ثم لم ... يدر ما غاية صبري فابتلى )
( أنا راض بالذي يرضى به ... لي من لو قال مت ما قلت لا )
( مثل في كل حسن مثل ما ... صار حالي في هواه مثلا )
( يا فتيت المسك يا شمس الضحى ... يا قضيب البان يا ظبي الفلا )
( إن يكن لي أمل غير الرضى ... منك لا بلغت ذاك الأملا )
وقال رحمه الله تعالى
( أذكرتني سالف العيش الذي طابا ... يا ليت غائب ذاك الوقت قد آبا )
( إذ نحن في روضة للوصل أنعمها ... من السرور غمام فوقها صابا )
( إني لأعجب من شوق يطالبني ... فكلما قيل فيه قد قضى ثابا )
( كم نظرة لك عندي قد علمت بها ... يوم الزيارة أن القلب قد ذابا )
( قلب يطيل معاصاتي لطاعتكم ... فإن أكلفه يوما سلوة يابى )
وقال رحمه الله تعالى
( عاودت ذكر الهوى من بعد نسياني ... واستحدث القلب بعد العشق سلواني )
( من حب جارية يبدو بها صنم ... من اللجين عليها تاج عقيان )
( غريرة لم تفارقها تمائمها ... تسبي القلوب بساجي الطرف وسنان )
( لأستجدن في عشقي لها زمنا ... يحيي سوالف أيامي وأزماني )
( حتى يكون لمن أحببت خاتمة ... نسخت في حبها كفرا بإيمان )
وقال رحمه الله تعالى
( أنت معنى الهوى وسر الدموع ... وسبيل الهوى وقصد الولوع )
( أنت والشمس ضرتان ولكن ... لك عند الغروب فضل الطلوع )
( ليس يا مؤنسي نكلفك العتب ... دلالا من الرضى الممنوع )
( إنما أنت والحسود معنى ... كوكب يستقيم بعد الرجوع )
وقال رحمه الله تعالى
( يا ليل طل لا أشتهي ... إلا كعهدي قصرك )
( لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك )
( يا ليل خبر أنني ... ألتذ عنه خبرك )
( بالله قل لي هل وفى ... فقال لا بل غدرك )
وقال رحمه الله تعالى
( لئن فاتني منك حظ النظر ... لأكتفين بسماع الخبر )

( عاودت ذكر الهوى من بعد نسياني ... واستحدث القلب بعد العشق سلواني )
( من حب جارية يبدو بها صنم ... من اللجين عليها تاج عقيان )
( غريرة لم تفارقها تمائمها ... تسبي القلوب بساجي الطرف وسنان )
( لأستجدن في عشقي لها زمنا ... يحيي سوالف أيامي وأزماني )
( حتى يكون لمن أحببت خاتمة ... نسخت في حبها كفرا بإيمان )
وقال رحمه الله تعالى
( أنت معنى الهوى وسر الدموع ... وسبيل الهوى وقصد الولوع )
( أنت والشمس ضرتان ولكن ... لك عند الغروب فضل الطلوع )
( ليس يا مؤنسي نكلفك العتب ... دلالا من الرضى الممنوع )
( إنما أنت والحسود معنى ... كوكب يستقيم بعد الرجوع )
وقال رحمه الله تعالى
( يا ليل طل لا أشتهي ... إلا كعهدي قصرك )
( لو بات عندي قمري ... ما بت أرعى قمرك )
( يا ليل خبر أنني ... ألتذ عنه خبرك )
( بالله قل لي هل وفى ... فقال لا بل غدرك )
وقال رحمه الله تعالى
( لئن فاتني منك حظ النظر ... لأكتفين بسماع الخبر )

( وإن عرضت غفلة للرقيب ... فحسبي بتسليمة تختصر )
( أحاذر أن يتجنى الوشاة ... وقد يستدام الهوى بالحذر )
( فأصبر مستقينا أنه ... سيحظى بليل المنى من صبر )
وقال أيضا رحمه الله تعالى
( أيها البدر الذي يملأ ... عيني من تأمل )
( حمل القلب تباريح ... التجني فتحمل )
( ثم لا تيأس فكم قد ... نيل أمر لم يؤمل )
وقال أيضا رحمه الله تعالى
( أجد ومن أهواه في الحب عابث ... وأوفي له بالعهد إذ هو ناكث )
( حبيب نأى عني مع القرب والأسى ... مقيم له في مضمر القلب ماكث )
( جفاني بألطاف العدا وأزاله ... عن الوصل رأي في القطيعة حادث )
( تغيرت عن عهدي وما زلت واثقا ... بعهدك لكن غيرتك الحوادث )
( وما كنت إذ ملكتك القلب عالما ... بأني عن حتفي بكفي باحث )
( ستبلى الليالي والوداد بحاله ... مقيم وغض وهو للأرض وارث )
( فلو أنني أقسمت أنك قاتلي ... وأني مقتول لما قيل حانث )
وقال رحمه الله تعالى

( يا غزالا أصارني ... موثقا في يد المحن )
( إنني مذ هجرتني ... لم أذق لذة الوسن )
( ليت حظي إشارة ... منك أو لحظة تعن )
( شافعي يا معذبي ... في الهوى وجهك الحسن ) كنت خلوا من الهوى وأنا اليوم مرتهن
( كان سري مكتما ... وهو الآن قد علن )
( ليس لي عنك مذهب ... فكما شئت لي فكن )
وقال رحمه الله تعالى
( أيوحش لي الزمان وأنت أنسي ... ويظلم لي النهار وأنت شمسي )
( وأغرس في محبتك الأماني ... وأجني الموت من ثمرات غرسي )
( لقد جازيت غدرا عن وفائي ... وبعت مودتي ظلما ببخس )
( ولو أن الزمان أطاع حكمي ... فديتك من مكارهه بنفسي )
ومحاسن ابن زيدون كثيرة وقد ذكرنا منها في غير هذا المحل جملة
وسألت جارية من جواري الأندلس ذا الوزارتين أبا الوليد ابن زيدون أن يزيد على بيت أنشدته إياه وهو
( يا معطشي من وصال كنت وارده ... هل منك لي غلة إن صحت واعطشي )
قال وكانت الجارية المذكورة تتعشق فتى قرشيا والوزير يعلم ذلك وهي لا تعلم أنه يعلم فقال
( كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلما وصيرت من لحف الضنى فرشي )
( أنى بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشي )
( لما بدا الصدغ مسودا بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش )
( أوفى إلى الخد ثم انصاع منعطفا ... كالعقربان انثنى من خوف محترش )
( لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش )
( جفا إذا التذت الأجفان طيب كرى ... جفني المنام وصاح الليل يا قرشي )
( هذا وإن تلفت نفسي فلا عجب ... قد كان قتلي في تلك الجفون حشي )
وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة رحمون وعزون وحسون فأولع بهم الحافظ الشهير أبو محمد ابن السيد البطليوسي صاحب شرح أدب الكاتب وغيره وقال فيهم
( أخفيت سقمي حتى كاد يحفيني ... وهمت في حب عزون فعزوني )
( ثم ارحموني برحمون وإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسون فحسوني )
قال ثم خاف على نفسه فخرج عن قرطبة وهو القائل
( نفسي الفداء لجؤذر حلو اللمى مستحسن بصدوده أفناني )
( في فيه سمطا جوهر يروي الظما ... لو علني ببروده أحياني )
وهذان البيتان تخرج منهما عدة مقطعات كما لا يخفى
وقال أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض

( كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلما وصيرت من لحف الضنى فرشي )
( أنى بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشي )
( لما بدا الصدغ مسودا بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش )
( أوفى إلى الخد ثم انصاع منعطفا ... كالعقربان انثنى من خوف محترش )
( لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش )
( جفا إذا التذت الأجفان طيب كرى ... جفني المنام وصاح الليل يا قرشي )
( هذا وإن تلفت نفسي فلا عجب ... قد كان قتلي في تلك الجفون حشي )
وكان لابن الحاج صاحب قرطبة ثلاثة أولاد من أجمل الناس صورة رحمون وعزون وحسون فأولع بهم الحافظ الشهير أبو محمد ابن السيد البطليوسي صاحب شرح أدب الكاتب وغيره وقال فيهم
( أخفيت سقمي حتى كاد يحفيني ... وهمت في حب عزون فعزوني )
( ثم ارحموني برحمون وإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسون فحسوني )
قال ثم خاف على نفسه فخرج عن قرطبة وهو القائل
( نفسي الفداء لجؤذر حلو اللمى مستحسن بصدوده أفناني )
( في فيه سمطا جوهر يروي الظما ... لو علني ببروده أحياني )
وهذان البيتان تخرج منهما عدة مقطعات كما لا يخفى
وقال أبو بكر محمد بن أحمد الأنصاري الإشبيلي المعروف بالأبيض

في تهنئة بمولود قال ابن دحية وهذا أبدع ما قيل في هذا المعنى
( أصاخت الخيل آذانا لصرخته ... واهتز كل هزبر عندما عطسا )
( تعشق الدرع مذ شدت لفائفه ... وأبغض المهد لما أبصر الفرسا )
( تعلم الركض أيام المخاض به ... فما امتطى الخيل إلا وهو قد فرسا )
وقال الوزير الكاتب أبو عامر السالمي في غلام يرش الماء على خديه فتزداد حمرتهما
( لقد نعمت بحمام تطلع في ... أرجائه قمر والحسن يكمله )
( أبصرته كلما راقت محاسنه ... ونعمة الجسم والأرداف تخجله )
( يرش بالماء خديه فقلت له ... صف لي لما أحمر الياقوت تصقله )
( فقال طرفي سفاك بصارمه ... دماء قوم على خدي فأغسله )
وقال أيضا
( أوقد النار بقلبي ... ثم هبت ريح صده )
( فشرار النار طارت ... فانطفت في ماء خده )
وهو تخييل عجيب
وقال ابن الحناط المكفوف الأندلسي في المعنى المشهور
( لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلا فشأن النائبات عجيب )
( وغضارة الأيام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب )

( وكذاك من صحب الليالي طالبا ... جدا وفهما فاته المطلوب )

أشعار لابن الزقازق
وكان ابن الزقاق الأندلسي الشاعر المشهور - وقد تكرر ذكره في هذا التآليف مرات كثيرة - يسسهر في الليل ويشتغل بالأدب وكان أبوه فقيرا جدا فلامه وقال له نحن فقراء ولا طاقة لنا بالزيت الذي تسهر عليه فاتفق أن برع في الأدب والعلم ونظم الشعر فقال في أبي بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية قصيدة أولها
( يا شمس خدر ما لها مغرب ... أرامة خدرك أم يثرب )
( ذهبت فاستعبر طرفي دما ... مفضض الدمع به مذهب )
ومنها
( ناشدتك الله نسيم الصبا ... أنى استقرت بعدنا زينب )
( لم نسر إلا بشذا عرفها ... أو لا فماذا النفس الطيب )
( إيه وإن عذبني حبها ... فمن عذاب النفس ما يعذب )
فأطلق له ثلاثمائة دينار فجاء بها إلى أبيه وهو جالس في حانوته مكب على صنعته فوضعها في حجره وقال خذها فاشتر بها زيتا
وقال رحمه الله تعالى في غلام رمي حجرا فشدخ وجهه
( وأحوى رمى عن قسي الحور ... سهاما يفوقهن النظر )
( يقولون وجنته قسمت ... ورسم محاسنه قد دثر )

( وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للبشر )
( جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر )
وقال أيضا
( بأبي وغير أبي أغن مهفهف ... مهضوم ما خلف الوشاح خميصه )
( لبس السواد ومزقته جفونه ... فأتى كيوسف حين قد قميصه )
وقال أيضا
( سقتني بيمناها وفيها فلم أزل ... يجاذبني من ذا ومن هذه سكر )
( ترشفت فاها إذ ترشفت كأسها ... فلا والهوى لم أدر أيهما الخمر ) وقال
( رق النسيم وراق الروض بالزهر ... فنبه الكأس والإبريق بالوتر )
( ما العيش إلا اصطباح الراح أو شنب ... يغني عن الراح من سلسال ذي أشر )
( قل للكواعب غضي للكرى مقلا ... فأعين الزهر أولى منك بالسهر )
( وللصباح ألا فانشر رداء سنا ... هذا الدجى قد طوته راحة السحر )
( وقام بالقهوة الصهباء ذو هيف ... يكاد معطفه ينقد بالنظر )
( يطفو عليها إذا ما شجها درر ... تخالها اختلست من ثغره الخصر )
( والكأس من كفه بالراح محدقة ... كهالة أحدقت في الأفق بالقمر ) وقال
( تضوعن أنفاسا وأشرقن أوجها ... فهن منيرات الصباح بواسم )
( لئن كن زهرا فالجوانح أبرج ... وإن كن زهرا فالقلوب كمائم ) وهو من بديع التقسيم
وقال السميسر
( تحفظ من ثيابك ثم صنها ... وإلا سوف تلبسها حدادا )
( وميز في زمانك كل حبر ... وناظر أهله تسد العبادا )
( وظن بسائر الأجناس خيرا ... وأما جنس آدم فالبعادا )
( أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى )
( وعادوا بعد ذا إخوان صدق ... كبعض عقارب رجعت جرادا ) وقال ابن رزين وهو من رجال الذخيرة
( لأسرحن نواظري ... في ذلك الروض النضير )
( ولآكلنك بالمنى ... ولأشربنك بالضمير )
وقال سلطان بلنسية عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد العزيز
( ولا غرو بعدي أن يسود معشر ... فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس )
( كذاك نجوم الجو تبدو زواهرا ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس )

وقال
( تضوعن أنفاسا وأشرقن أوجها ... فهن منيرات الصباح بواسم )
( لئن كن زهرا فالجوانح أبرج ... وإن كن زهرا فالقلوب كمائم ) وهو من بديع التقسيم
وقال السميسر
( تحفظ من ثيابك ثم صنها ... وإلا سوف تلبسها حدادا )
( وميز في زمانك كل حبر ... وناظر أهله تسد العبادا )
( وظن بسائر الأجناس خيرا ... وأما جنس آدم فالبعادا )
( أرادوني بجمعهم فردوا ... على الأعقاب قد نكصوا فرادى )
( وعادوا بعد ذا إخوان صدق ... كبعض عقارب رجعت جرادا ) وقال ابن رزين وهو من رجال الذخيرة
( لأسرحن نواظري ... في ذلك الروض النضير )
( ولآكلنك بالمنى ... ولأشربنك بالضمير )
وقال سلطان بلنسية عبد الملك بن مروان بن عبد الله بن عبد العزيز
( ولا غرو بعدي أن يسود معشر ... فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس )
( كذاك نجوم الجو تبدو زواهرا ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس )

وتحاكم إلى أبي أيوب سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي المعروف بالمتلمس غلامان جميلان لأحدهما وفرة شقراء وللآخر سوداء أيهما أحسن والمتلمس المذكور هو صاحب كتاب الأحكام فيما لا يستغني عنه الحكام فقال
( وشادنين ألما بي على مقة ... تنازعا الحسن في غايات مستبق )
( كأن لمة ذا من نرجس خلقت ... على بهار وذا مسك على ورق )
( وحكما الصب في التفضيل بينهما ... ولم يخافا عليه رشوة الحدق )
( فقام يدلي إليه الريم حجته ... مبينا بلسان منه منطلق )
( فقال وجهي بدر يستضاء ... به ولون شعري مصبوغ من الغسق )
( وكحل عيني سحر للنهى وكذا ... والسحر أحسن ما يعزى إلى الحدق )
( فقال صاحبه أحسنت وصفك لكن ... فاستمع لمقال في متفق )
( أنا على أفقي شمس النهار ولم ... تغرب وشقرة شعري حمرة الشفق )
( وفضل ما عيب في عيني من زرق ... أن الأسنة قد تعزى إلى الزرق )
( قضيت للمة الشقراء حيث حكت ... نورا كذا حبها يقضي على رمقي )
( فقام ذو اللمة السوداء يرشقني ... سهام أجفانه من شدة الحنق )
( وقال جرت فقلت الجور منك على ... قلبي ولي شاهد من دمعي الغدق )
( فقلت عفوك إذ أصبحت متهما ... فقال دونك هذا الحبل فاختنق )
وقال محمد لابن عبد الله بن غالب
( ومهفهف خنث الجفون كأنما ... من أرجل النمل استفاد عذارا )
( فتخاله ليلا إذا استقبلته ... وتخال ما يجري عليه نهارا )

وقال أبو القاسم خلف بن فرج السميسر المتقدم
( الناس مثل حباب ... والدهر لجة ماء )
( فعالم في طفو ... وعالم في انطفاء )
وقال أحمد بن برد الأندلسي في النرجس وهو البهار عند الأندلسيين ويسمى العبهر
( تنبه فقد شق البهار مغلسا ... كمائمه عن نوره الخضل الندي )
( مداهن تبر في أنامل فضة ... على أذرع مخروطة من زبرجد )
عبدون وقال الوزير عبد المجيد بن عبدون في دار أنزله بها المتوكل بن الأفطس وسقفها قديم فهطل عليه المطر منه
( أيا ساميا من جانبيه إلى العلا ... سمو حباب الماء حالا إلى حال )
( لعبدك دار حل فيها كأنها ... ديار لسلمى عافيات بذي الخال )
( يقول لها لما رأى من دثورها ... ألا عم صباحا أيها الطلل البالي )
( فقالت وما عيت جوابا ... بردها وهل يعمن من كان في العصر الخالي )
( فمر صاحب الإنزال فيها بفاصل ... فإن الفتى يهذي وليس بفعال )
قيل وهو أبو عذرة تضمين لامية امرىء القيس وقد أولع الناس بعده بتضمينها
وقال أبو الفضل ابش حسداي وكان يهوديا فأسلم ويقال إنه

من ولد موسى على نبينا وعليه وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام
( توريد خدك للأحداق لذات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات )
( نيران هجرك للعشاق نار لظى ... لكن وصالك إن واصلت جنات )
( كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تم وأيدي الشرب هالات )
( حشاشة ما تركنا الماء يقتلها ... إلا لتحيا بها منا حشاشات )
( قد كان من قبلها في كأسها ثقل ... فخف إذ ملئت منها الزجاجات )
وقد تبارى المشارقة والمغاربة من المتقدمين والمتأخرين في هذا الوزن والقافية ولولا خوف السآمة لذكرت من ذلك الجملة الشافية الكافية
ومن سرعة جواب أهل الأندلس أن ابن عبد ربه كان صديقا لأبي محمد يحيى القلفاط الشاعر ففسد ما بينهما بسبب أن ابن عبد ربه صاحب العقد مر به يوما وكان في مشيه اضطراب فقال أبا عمر ما علمت أنك آدر إلا اليوم لما رأيت مشيك فقال له ابن عبد ربه كذبتك عرسك أبا محمد فعز على القلفاط كلامه وقال له أتتعرض للحرم والله لأرينك كيف الهجاء ثم صنع فيه قصيدة أولها
( يا عرس أحمد أني مزمع سفرا ... فودعيني سرا من أبي عمرا )
ثم تهاجيا بعد ذلك وكان القلفاط يلقبه بطلاس لأنه كان أطلس اللحية ويسمي كتاب العقد حبل الثوم فاتفق اجتماعهما يوما عند بعض الوزراء فقال الوزير للقلفاط كيف حالك اليوم مع أبي عمر فقال مرتجلا

( حال طلاس لي عن رائه ... وكنت في قعداد أبنائه ) فبدر ابن عبد ربه وقال
( إن كنت في قعدد أبنائه ... فقد سقى أمك من مائه )
فانقطع القلفاط خجلا وعاش ابن عبد ربه 82 سنة رحمه الله تعالى
ومن الحكايات في مروءة أهل الأندلس ما ذكره صاحب الملتمس في ترجمة الكاتب الأديب الشهير أبي الحسين ابن جبير صاحب الرحلة وقد قدمنا ترجمته في الباب الخامس من هذا الكتاب وذكرنا هنالك أنه كان من أهل المروءات عاشقا في قضاء الحوائج والسعي في حقوق الإخوان وأنشدنا هنالك قوله
( يحسب الناس بأني متعب ... الخ
وقد ذكر ذلك كله صاحب الملتمس ثم قال - أعني صاحب الملتمس - ومن أغرب ما يحكى أني كنت أحرص الناس على أن أصاهر قاضي غرناطة أبا محمد عبد المنعم بن الفرس فجعلته - يعني ابن جبير - الواسطة حتى تيسر ذلك فلم يوفق الله ما بيني وبين الزوجة فجئته وشكوت له ذلك فقال أنا ما كان القصد لي في اجتماعكما ولكن سعيت جهدي في غرضك وها أنا أسعى أيضا في افتراقكما إذ هو من غرضك وخرج في الحين ففصل القضية ولم أر في وجهه أولا ولا آخرا عنوانا لامتنان ولا تصعيب ثم إنه طرق بابي ففتحت له ودخل وفي يده محفظة فيها مائة دينار مؤمنية ثم قال يا ابن

أخي اعلم أني كنت السبب في هذه القضية ولم أشك أنك خسرت فيها ما يقارب هذا القدر الذي وجدته الآن عند عمك فبالله إلا ما سررتني بقبوله فقلت له أنا ما أستحيي منك في هذا الأمر والله إن أخذت هذا المال لأتلفنه فيما أتلفت فيه مال والدي من أمور الشباب ولا يحل لك أن تمكنني منه بعد أن شرحت لك أمري فتبسم وقال لقد احتلت في الخروج عن المنة بحيلة وانصرف بماله انتهى
ثم قال صاحب الملتمس وتذاكرنا يوما معه حالة الزاهد أبي عمران المارتلي فقال صحبته مدة فما رأيت مثله وأنشدني شعرين ما نسيتهما ولا أنساهما ما استطعت فالأول قوله
( إلى كم أقول فلا أفعل ... وكم ذا أحوم ولا أنزل )
( وأزجر عيني فلا ترعوي ... وأنصح نفسي فلا تقبل )
( وكم ذا تعلل لي ويحها ... بعل وسوف وكم تمطل )
( وكم ذا أؤمل طول البقا ... وأغفل والموت لا يغفل )
( وفي كل يوم ينادي بنا ... منادي الرحيل إلا فارحلوا )
( أمن بعد سبعين أرجو البقا ... وسبع أتت بعدها تعجل )
( كأن بي وشيكا إلى مصرعي ... يساق بنعشي ولا أمهل )
( فيا ليت شعري بعد السؤال ... وطول المقام لما أنقل )
والثاني قوله
( اسمع أخي نصيحتي ... والنصح من محض الديانه )

( لا تقربن إلى الشهادة ... والوساطة والأمانة )
( تسلم من ان تعزى لزور ... أو فضول أو خيانه )
قال فقلت له أراك لم تعمل بوصيته في الوساطة فقال ما ساعدتني رقة وجهي على ذلك انتهى
رجع إلى نظم الأندلسيين وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز
( أفضل ما استصحب النبيل فلا ... تعدل به في المقام والسفر )
( جرم إذا ما التمست قيمته ... جل عن التبر وهو من صفر )
( مختصر وهو إذ تفتشه ... عن ملح العلم غير مختصر )
( ذو مقلة تستبين ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق الخبر )
( تحمله وهو حامل فلكا ... لو لم يدر بالبنان لم يدر )
( مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن كل ما في السماء من خبر )
( أبدعه رب فكرة بعدت ... في اللطف عن أن تقاس بالفكر )
( فاستوجب الشكر والثناء به ... من كل ذي فطنة من البشر )
( فهو لذي اللب شاهد عجب ... على اختلاف العقول والصور )
قلت وهي من أحسن ما سمعت في الاصطرلاب وأمر رحمه الله تعالى أن يكتب على قبره
( سكنتك يا دار الفناء مصدقا ... بأني إلى دار البقاء أصير )
( وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور )

( فيا ليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير )
( فإن أك مجزيا بذنبي فإنني ... بشر عقاب المذنبين جدير )
( وإن يك عفو من غني ومفضل ... فثم نعيم دائم وسرور )
وقال ابن خفاجة وهو مما أورده له صاحب الذخيرة
( لقد زار من أهوى على غير موعد ... فعاينت بدر التم ذاك التلاقيا )
( وعاتبته والعتب يحلو حديثه ... وقد بلغت روحي لديه التراقيا )
( فلما اجتمعنا قلت من فرحي به ... من الشعر بيتا والدموع سواقيا )
( وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنان كل الظن أن لا تلاقيا )
ومن مجون الأندلسيين هذه القصيدة المنسوبة لسيدي أبي عبد الله بن الأزرق وهي
( عم باتصال الزمن ... ولا تبالي بمن )
( وهو يواسي بالرضى ... من سمج أو حسن )
( أو من عجوز تحتظي ... والظهر منها منحني )
( أو من مليح مسعد ... موافق في الزمن )
( مهما تبدي خده ... يبدو لك الورد الجني ) والفصن في أثوابه ... إذا تمشي ينثني )
( لا أم لي لا أم لي ... إن لم أبرد شجني )
( وأخلعن في المجو ... ن والتصابي رسني )
( واجعل الصبر على ... هجر الملاح ديدني )

( يا عاذلي في مذهبي ... أرداك شرب اللبن )
( أعطيت في البطن سنانا ... إن تخالف سنني )
( أي فتى خالفني ... يوما ولما يلقني )
( فإنني لناصح ... وإنني وإنني )
( فلا تكن لي لاحيا ... وفي الأمور استفتني )
( فلم أزل أعرب عن ... نصحي لمن لم يلحني )
( وإن تسفه نظري ... ومذهبي وتنهني )
( فالصفع تستوجبه ... نعم ونتف الذقن )
( والزبل في وجهك يعلو ... باتصال الزمن )
( وبعد هذا أشتفي ... منك ويبرا شجني )
( وأضرب الكف أمام ... ذلك الوجه الدني )
( طقطق طق طقطق طق ... أصخ بسمع الأذن )
( قحقح قح قحقح قح ... الضحك يغلبلبني )
( قد كان أولى بك عن ... هذي المخازي تنثني )
( النفي تستوجبه ... لواسط أو عدن )
( عرضت بالنفس كذا ... إلى ارتكاب المحن )
( أفدي صديقا كان لي ... بنفسه يسعدني )
( فتارة أنصحه ... وتارة ينصحني )
( وتارة ألعنه ... وتارة يلعنني )
( وربما أصفعه ... وربما يصفعني )
( أستغفر الله فهذا ... القول لا يعجبني )
( يا ليت هذا كله ... فيما مضى لم يكن )

( أضحكت والله بذا الحديث ... من يسمعني )
( دهر تولى وانقضى ... عني كطيف الوسن )
( يا ليتني لم أره ... وليته لم يرني )
( دنست فيه جانبي ... وملبسي بالدرن )
( وبعت فيه عيشتي ... لكن ببخس الثمن )
( كأنني ولست أدري ... الآن ما كأنني )
( والله ما التشبيه عند ... شاعر بهين )
( لكنه أنطقني ) بالقول ضيق العطن )
( وا حسرتي وا أسفي ... زلت وضاعت فطني )
( لو أنصف الدهر لما ... أخرجني من وطني )
( وليس لي من جنة ... وليس لي من مسكن )
( أسرح الطرف وما ... لي دمنة في الدمن )
( وليس لي من فرس ... وليس لي من سكن )
( يا ليت شعري وعسى ... يا ليت أن تنفعني )
( هل أمتطي يوما إلى الشرق ... ظهور السفن )
( وأجتلي ما شئته ... في المنزل المؤتمن )
( حينئذ أخلع في ... هذي القوافي رسني )
( وتحسن الفكرة بالعدوس ... والسمنسني )
( واللحم مع شحم ومع ... طوابق الكبش الثني )
( والبيض في المقلاة بالزيت ... اللذيذ الدهن )

( وجلدة الفروج مشويا ... كثير السمن )
( من منقذي أفديه من ... ذا الجوع والتمسكن )
( وعلة قد استوى ... فيها الفقير والغني )
( هل للثريد عودة ... إلي قد شوقني )
( تغوص فيه أنملي ... غوص الأكول المحسن )
( ولي إلى الأسفنج شو ... ق دائم يطربني )
( وللأرز الفضل إذ ... تطبخه باللبن )
( وللشواء والرقاق ... من هيام أنثني )
( واسكت عن الجبن فإن ... بنته يذهلني )
( ظاهرها كالورد أو ... باطنها كالسوسن )
( أي امرئ أبصرها ... يوما ولم يفتتن )
( تهيم فيها فكر الأستاذ ... والمؤذن )
( لو كان عندي معدن ... لبعت فيها معدني )
( لكنني عزمت أن ... أبيع كم البدن )
( والكم قد أكسبه ... بعد ولا يكسبني )
( لا تنسبوا لي سفها ... فالجوع قد أرشدني )
( وهات ذكر الكسكسو ... فهو شريف وسني )
( لا سيما إن كان مصنوعا ... بفتل حسن )
( أرفع منه كورا ... بهن تدوي أذني )
( وإن ذكرت غير ذا ... أطعمة في الوطن )
( فابدأ من المثومات ... بالجبن الممكن )

( من فوقها الفروج قد ... أنهي في التسمن )
( وثن بالعصيدة التي ... بها تطربني )
( لا سيما إن صنعت ... على يدي ممركن )
( كذلك البلياط بالزيت ... الذي يقنعني )
( تطبخه حتى يرى ... يحمر في التلون )
( والزبزبن في الصحاف ... حسب أهل البطن )
( فاسمع قضاء ناصح ... يأتي بنصح بين )
( من اقتنى التفين فهو ... الآن نعم المقتني )
( وإن في شاشية الفقير ... أنسا للغني )
( تبعدني عن وصلها ... عن وصلها تبعدني )
( تؤنسني عن اللقا ... عن اللقا تؤنسني )
( فأضلعي إن ذكرت ... تهفو كمثل الغصن )
( كم رمت تقريبا لها ... لكنه لم يهن )
( وصدني عن ذاك قلة ... الوفا بالثمن )
( إيه خليلي هذه ... مطاعم لكنني )
( أعجب من ريقك إذ ... يسيل فوق الذقن )
( هل نلت منها شبعا ... فذكرها أشبعني )
( وإن تكن جوعان ياصاح ... فكل بالأذن )
( فليس عند شاعر ... غير كلام الألسن )
( يصور الأشياء وهي ... أبدا لم تكن )

( فقوله يريك ما ... ليس يرى بالممكن )
( فاسمح وسامح واقتنع ... واطو حشاك واسكن )
( ولننصرف فقصدنا إطراف هذا الموطن )
وقال ابن خفاجة رحمه الله تعالى
( درسوا العلوم ليملكوا بجدالهم ... فيها صدور مراتب ومجالس )
( وتزهدوا حتى أصابوا فرصة ... في أخذ مال مساجد وكنائس )
وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيرا
وقال - فيما أظن - الفقيه الكاتب المحدث الأديب الشهير أبو عبد الله محمد بن الأبار القضاعي وقد تكرر ذكره في هذا الكتاب في مواضع
( لقد غضبت حتى على السمط نخوة ... فلم تتقلد غير مبسمها سمطا )
( وأنكرت الشيب الملم بلمتي ... ومن عرف الأيام لم ينكر الوخطا )

نقول من القدح المعلى
وقال ابن سعيد في القدح المعلى في حقه كاتب مشهور وشاعر مذكور كتب عن ولاة بلنسية وورد رسولا حين أخذ النصارى بمخنق تلك الجهات وأنشد قصيدته السينية
( أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا )
وعارضه جمع من الشعراء ما بين مخطئ ومحروم وأغري الناس بحفظها

إغراء بني تغلب بقصيدة عمرو بن كلثوم إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة فقلصت عنه تلك النعمة وأخر عن تلك العناية وارتحل إلى بجاية وهو الآن بها عاطل من الرتب خال من حلى الأدب مشتغل بالتصنيف في فنونه متنفل منه بواجبه ومسنونه ولي معه مجالسات آنق من الشباب وأبهج من الروض عب نزول السحاب ومما أنشدنيه من شعره
( يا حبذا بحديقة دولاب ... سكنت إلى حركاته الألباب )
( غنى ولم يطرب وسقى وهو لم ... يشرب ومنه العود والأكواب )
( لو يدعي لطف الهواء أو الهوى ... ما كنت في تصديقه أرتاب )
( وكأنه مما شدا مستهزئ ... وكأنه مما بكى نداب )
( وكأنه بنثاره ومداره ... فلك كواكبه لها أذناب ) وقال أبو المعالي القيجاطي
( فقلت يا ربعهم أين من ... أحببته فيك وأين النديم )
( فقال عهد قد غدا شمله ... كمثل ما ينثر در نظيم )
وقال أبو عمرو بن الحكم القبطلي وقبطلة من أعمال وادي إشبيلية
( كم أقطع الدهر بالمطال ساءت وحق الإله حالي )

( رحلت أبغي بكم نجاحا ... فلم تفيدوا سوى ارتحالي )
( وعدتم ألف ألف وعد ... لكنني عدت بالمحال )
وقال أبو عمران القلعي
( طلعت علي والأحوال سود ... كما طلع الصباح على الظلام )
( فقل لي كيف لا أوليك شعري ... وإخلاص التحية والسلام ) وقال أبو إسحاق إبراهيم بن أيوب المرسي
( أنا سكران ولكن ... من هوى ذاك الفلاني )
( كلما رمت سلوا ... لم يزل بين عياني ) وقال
( حبيبي ما لصبك من مراد ... سوى أن لا تدوم على البعاد )
( وإن كان ابتعادك بعد هذا ... مقيما فالسلام على فؤادي )
قال ابن سعيد وكان المذكور إذا غنى هذه الأشعار اللطيفة على الأوتار لم يبق لسامعه عند الهموم من ثار مع أخلاق كريمة وآداب كانسكاب الديمة انتهى
وقال ابن سعيد في أبي بكر محمد بن عمار البرجي كاتب ابن هود القائل

قل لمن يشهد حربا تحت رايات ابن هود ) إلخ
( يا ابن عمار لقد أحييت ... لي ذاك السميا )
( في حلى نظم ونثر ... علقا في مسمعيا )
( ولقد حزت مكانا ... من ذرى الملك عليا )
( مثل ما قد حاز لكن ... عش بنعماك هنيا )
وقال أبو بكر عبد الله بن عبد العزيز الإشبيلي المعروف بابن صاحب الرد
( يا أبدع الخلق بلا مرية ... وجهك فيه فتنة الناظرين )
( لا سيما إذ نلتقي خطرة ... فيغلب الورد على الياسمين )
( طوبى لمن قد زرته خاليا ... فمتع النفس ولو بعد حين )
( من ذلك الثغر الذي ورده ... ما زال فيه لذة الشاربين )
( وما حوى ذاك الإزار الذي ... لم يعد عنه أمل الزائرين )
وهذه الأبيات يقولها في غلام كان أدباء إشبيلية قد فتنوا به وكان مروره على داره
وحكي عنه أنه أعطاه في زيارة خمسين دينارا ومرت أيام ثم صادفه عند داره فقال له أتريد أن أزورك ثانية فقال له لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وهذا الجواب - على ما فيه من قلة الأدب وهتك حجاب الشريعة - من أشد الأجوبة إصابة للغرض والله تعالى يسمح له فقد قال ابن سعيد في حقه إن بيته بإشبيلية من أجل البيوت ولم يزل له مع تقلب الزمان ظهور

وخفوت وكان أديبا شاعرا ذواقا لأطراف العلوم انتهى
ومن المشهورين بالمجون والخلاعة بالأندلس - مع البلاغة والبراعة - أبو جعفر أحمد بن طلحة الوزير الكاتب وهو من بيت مشهور من جزيرة شقر من عمل بلنسية وكتب عن ولاة من بني عبد المؤمن ثم استكتبه السلطان ابن هود حين تغلب على الأندلس وربما استوزره في بعض الأحيان
قال ابن سعيد وهو ممن كان والدي يكثر مجالسته ولم أستفد منه إلا ما كنت أحفظه في مجالسته وكان شديد التهور كثير الطيش ذاهبا بنفسه كل مذهب سمعته مرة وهو في محفل يقول تقيمون القيامة لحبيب والبحتري والمتنبي وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتدوا إليه فأهوى له شخص له قحة وإقدام فقال يا أبا جعفر فأرنا برهان ذلك ما أظنك تعني إلا نفسك فقال نعم ولم لا وأنا الذي أقول ما لم يتنبه إليه متقدم ولا يهتدي لمثله متأخر
( يا هل ترى أظرف من يومنا ... قلد جيد الأفق طوق العقيق )
( وأنطق الورق بعيدانها ... مرقصة كل قضيب وريق )
( والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكؤوس الشقيق )
فلم ينصفوه في الاستحسان وردوه في الغيظ إلى أضيق مكان فقلت له يا سيدي هذا هو السحر الحلال فبالله إلا ما زدتني من هذا النمط فقال
( أدرها فالسماء بدت عروسا ... مضمخة الملابس بالغوالي )

( وخد الروض حمره أصيل ... وجفن النهر كحل بالظلال )
( وجيد الغصن يشرق في لآل ... تضيء بهن أكناف الليالي )
فقلت زد وعد فعاد والارتياح قد ملك عطفه والتيه قد رفع أنفه فقال
( لله نهر عندما زرته ... عاين طرفي منه سحرا حلال )
( إذ أصبح الطل به ليلة ... وجال فيه الغصن شبه الخيال )
فقلت زد فأنشد
( ولما ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جددت ذكرا )
( أراد لقاءكم إنسان عيني ... فمد له المنام عليه جسرا )
فقلت إيه فقال
( ولما أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخد منه غريق ماء )
( أقام له العذار عليه جسرا ... كما مد الظلام على الضياء )
فقلت أعد فأعاد وقال حسبك لئلا تكثر عليك المعاني فلا تقوم بحق قيمتها وأنشد
( هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فردا بغير شبيه )
( فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت تخاصمه الحمائم فيه )
ثم قال وكان قد تهتك في غلام لابن هود ولكثرة انهزام ابن هود ربما انهزم مع العلج وفيه يقول

( ألفت الحرب حتى علمتني ... مقارعة الحوادث والخطوب )
( ولم أك عالما وأبيك حربا ... بغير لواحظ الرشأ الربيب )
( فها أنا بين تلك وبين هذي ... مصاب من عدو أو حبيب )
ولما هرب بالعلج إلى سبتة أحسن إليه القائم بها أبو العباس الينشتي فلم يقنع بذلك الإحسان وكان يأتي بما يوغر صدره فقال يوما في مجلسه رميت مرة بقوس فبلغ السهم إلى كذا فقال ابن طلحة لشخص بجانبه لو كان قوس قزح ما بلغ إلى كذا فشعر بقوله فأسرها في نفسه ثم بلغه أنه هجاه بقوله
( سمعنا بالموفق فارتحلنا ... وشافعنا له حسب وعلم )
( ورمت يدا أقبلها وأخرى ... أعيش بفضلها أبدا وأسمو )
( فأنشدنا لسان الحال فيه ... يد شلا وأمر لا يتم )
فزاد في حنقه وبقي مترصدا له الغوائل فحفظت عنه أبيات قالها وهو في حالة استهتار في شهر رمضان وهي
( يقول أخو الفضول وقد رآنا ... على الإيمان يغلبنا المجون )
( أتنتهكون شهر الصوم هلا ... حماه منكم عقل ودين )
( فقلت اصحب سوانا نحن قوم ... زنادقة مذاهبنا فنون )
( ندين بكل دين غير دين الرعاع ... فما به أبدا ندين )
( بحي على الصبوح الدهر ندعو ... وإبليس يقول لنا أمين )

( فيا شهر الصيام إليك عنا ... إليك ففيك أكفر ما نكون )
فأرسل إليه من هجم عليه وهو على هذه الحال وأظهر أنه يرضي العامة بقتله فقتله وذلك سنة 631 انتهى
وحاكي الكفر ليس بكافر والله سبحانه وتعالى للزلات غير الكفر غافر
وقال محمد بن أحمد الإشبيلي ابن البناء
( كأنك من جنس الكواكب كنت لم ... يفتك طلوعا حالها وتواريا )
( تجليت من شرق تروق تلألؤا ... فلما انتحيت الغرب أصبحت هاويا )
ولما أمر المستنصر الموحدي بضرب ابن غالب الداني ألف سوط وصلبه وضرب بإشبيلية خمسمائة فمات وضرب بقية الألف حتى تناثر لحمه ثم صلب قال ابنه أبو الربيع يرثيه [ البسيط ] جهلا لمثلك أن يبكي لما قدرا ... وأن يقول أسى يا ليته قبرا )
( فاضت دموعك أن قاموا بأعظمه ... وقد تطاير عنه اللحم وانتثرا ) ومنها
( ضاقت به الأرض مما كان حملها ... من الأيادي فملت شلوه ضجرا )
( وعز جسمك أن يحظى به كفن ... فما تسربل إلا الشمس والقمرا )
وقال أبو العلاء عبد الحق المرسي رحمه الله تعالى

( يا ابا عمران دعني والذي ... لم يمل بي خاطري إلا إليه )
( ما نديمي غير من يخدمني ... لا الذي يجلسني بين يديه )
( يرفع الكلفة عني ويرى ... أنها واجبة مني عليه )
وقال ابن غالب الكاتب بمالقة
( لا تخش قولا قد عقدت الألسنا ... وابعث خيالك قد سحرت الأعينا )
( واعطف علي فإن روحي زاهق ... وانظر إلي بنظرة إن أمكنا )
( لا يخدعنك أن تراني لابسا ... ثوبي فقد أصبحت فيه مكفنا )
( ما زال سحرك يستميل خواطري ... بأرق من ماء الصفاء وألينا )
( حتى غدوت ببحر حب زاخر ... فرمت بي الأمواج في شط الضنى )
وقال
( ما للنسيم لدى الأصيل عليلا ... أتراه يشكو زفرة وغليلا )
( جر الذيول على ديار أحبتي ... فأتى يجر من السقام ذيولا )
وقال أبو عبد الله بن عسكر الغساني قاضي مالقة
( أهواك يا بدر وأهوى الذي ... يعذلني فيك وأهوى الرقيب )
( والجار والدار ومن حلها ... وكل من مر بها من قريب )
( ما إن تنصرت ولكنني ... أقول بالتثليث قولا غريب )
( تطابق الألحان والكاس إذ ... تبسم عجبا والغزال الربيب )
وكان أبو أمية بن عفير قاضي إشبيلية - مع براعته وتقدمه في

العلوم الشرعية - أقوى الناس بالعلوم الأدبية المرعية وقد اشتهر بسرعة الخاطر في الارتجال وعدم المناظر له في ذلك المجال قال ابن سعيد رأيته كثيرا ما يصنع القصائد والمقطعات وهو يتحدث أو يفصل بين الغرماء في أكثر الأوقات ومن شعره
( ديارهم صاح نصب عيني ... وليس لي وصلة إليها )
( إلا سلامي لدى ابتعاد ... من بعد سكانها عليها )
وقوله رحمه الله تعالى
( ووجه تغرق الأبصار فيه ... ولكن يترك الأرواح هيما )
( أتاني ثم حياني حبيب ... به وأباحني الخد الرقيما )
( فمر لنا مجون في فنون ... سلكت به الصراط المستقيما )
قلت أما مجرد الارتجال فأمر عن الكثير صادر وأما كونه مع التحدث أو فصل الخصومات فهو نادر وقد حكينا منها في هذا الكتاب من القسم الأول موارد ومصادر 128 عن ابن ظافر
ويعجبني من الواقع لأهل المشرق من ذلك قضية علي بن ظافر إذ قال بت ليلة والشهاب يعقوب ابن أخت نجم الدين في منزل اعترفت له مشيدات القصور بالانخفاض والقصور وشهدت له ساميات البروج بالاعتلاء والعروج قد ابيضت حيطانه وطاب استيطانه وابتهج به سكانه وقطانه والبدر قد محا خضاب الظلماء وجلا محياه في زرقة قناع السماء وكسا الجدران

ثيابا من فضة ونثر كافوره على مسك الثرى بعد أن سحقه ورضه والروض قد ابتسم محياه ووشت بأسرار محاسنه رياه والنسيم قد عانق قامات الأغصان فميلها وغصبها مباسم نورها فقبلها وعندنا مغن قد وقع على تفضيله الإجماع وتغايرت على محاسنه الأبصار والأسماع إن بدا فالشمس طالعة وإن شدا فالورق ساجعة تغازله مقلة سراج قد قصر على وجهه تحديقه وقابله فقلنا البدر قابل عيوقه وهو يغار عليه من النسيم كلما خفق وهب ويستجيش عليه بتلويح بارقه الموشى بالذهب ويديم حرقته وسهده ويبذل في إلطافه طاقته وجهده فتارة يضمنحه بخلوقه وتارة يحليه بعقيقه وآونة يكسوه أثواب شقيقه فلم نزل كذلك حتى نعس طرف المصباح واستيقظ نائم الصباح فصنعت بديها في المجلس وكتبت بها إلى الأعز بن المؤيد رحمه الله تعالى أصف تلك الليلة التي ارتقعت على أيام الأعياد كارتفاع الرؤوس على الأجياد بل فضلت ليلات الدهر كفضل البدر على النجوم الزهر
( غبت عني يا ابن المؤيد في وقت ... شهي يلهي المحب المشوقا )
( ليلة ظل بدرها يلبس الجدران ... ثوبا مفضضا مرموقا )
( وغدا الطل فيه ينثر كافورا ... فيعلو مسك التراب السحيقا )
( وتبدى النسيم يعتنق الأغصان ... لما سرى عناقا رفيقا )
( بت فيها منادما لصديق ... ظل بين الأنام خلا صدوقا )
( هو مثل الهلال وجها صبيحا ... ومثال النسيم ذهنا رقيقا )
( وغزال كالبدر وجها وغصن البان ... قدا والخمرة الصرف ريقا )
( مظهر للعيون ردفا مهيلا ... وحشا ناحلا وقدا رشيقا )
( إن تغنى سمعت داود أو لاح ... تأملت يوسف الصديقا ) وإذا قابل السراج رأينا ... منه بدرا يقابل العيوقا )
( وأظن الصباح هام بمرآه ... أبدى قلبا حريقا خفوقا )

( هو نجم ما لاح في الجدر كافور ... بياض إلا كساه خلوقا )
( ما بدا نرجس الكواكب إلا ... قام من نومه يرينا الشقيقا )
( وإذا ما بدت جواهرها في الجو ... أبدى في الأرض منهم عقيقا )
( فغدونا تحت الدجى نتعاطى ... من رقيق الآداب خمرا رحيقا )
( وجعلنا ريحاننا طيب ذكراك ... فخلناه عنبرا مفتوقا )
( ذاك وقت لولا مغيبك عنه ... كان بالمدح والثناء خليقا )
قال فأجاب عنها من الوزن دون الروي
( قد أتتني من الجمال قصيد ... يا لها من قصيدة غراء )
( جمعت رقة الهواء وطيب المسك ... في سبكها وصفو الماء )
( فأرتنا طباعه وشذاه ... والذي حاز ذهنه من ذكاء )
( سيدي هل جمعت فيها اللآلي ... يا اخا المجد أم نجوم السماء )
( أفحمتني حسنا وحق أياديك ... التي لا تعد بالإحصاء )
( فتركت الجواب والله عجزا ... فابسط العذر فيه يا مولائي )
( هل يسامي الثرى الثريا وأنى ... يدعي النجم فرط نور ذكاء )
رجع إلى أهل الأندلس وقال ابن السماك إياك أن تكثر الإخوان مغتنما ... في كل يوم إلى أن يكثر العدد )
( في واحد منهم تصفي الوداد له ... من التكاليف ما يفنى به الجلد ) وله

( تحن ركابي نحو أرض وما لها ... وما لي من ذاك الحنين سوى الهم )
( وكم راغب في موضع لا يناله ... وأمسيت منه مثل يونس في اليم )
( بهذا قضى الرحمن في كل ساخط ... يموت على كره ويحيا على رغم )
ولما قام الباجي بإشبيلية وخلع طاعة ابن هود وأبدل شعاره الأسود العباسي في البنود قال أبو محمد عبد الحق الزهري القرطبي في ذلك
( كأنما الراية السوداء قد نعبت ... لهم غرابا ببين الأهل والولد )
( مات الهوى تحتها من فرط روعته ... فأظهر الدهر منها لبسة الكمد )
وأنشدهما القائم الباجي في جملة قصيدة وقال الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حجاج الأعلم الإشبيلي
( أمسى الفراش يطوف حول كؤوسنا ... إذ خالها تحت الدجى )
( قنديلا ما زال يخفق حولها بجناحه ... حتى رمته على الفراش قتيلا ) وله
( لامو على حب الصبا والكاس ... لما بدا وضح المشيب براسي ... والغصن أحوج ما يكون لسقيه )
أيام يبدو بالأزاهر كاسي وله وقد رأى على نهر قرطبة ثلاثين نفسا مصلوبين من قطاع الطريق

( ثلاثون قد صففوا كلهم ... وقد فتحوا أذرعا للوداع )
( وما ودعوا غير أرواحهم ... فكان وداعا لغير اجتماع )
وله في فتى وسيم عض كلب وجنته
( وأغيد وضاح المحاسن باسم ... إذا قامر الأرواح ناظره قمر )
( تعمد كلب عض وجنته التي ... هي الورد إيناعا وأبقى بها أثر )
( فقلت لشهب الأفق كيف صماتكم ... وقد أثر العواء في صفحة القمر )
وقال الفقيه أبو الحجاج يوسف بن محمد البياسي المؤرخ الأديب المصنف الشهير وكان حافظا لنكت الأندلسيين حديثا وقديما ذاكرا لفكاهاتهم التي صيرته للملوك خليلا ونديما في صبي من أعيان الجزيرة الخضراء تهافت في حبه جماعة من الأدباء والشعراء
( قد سلونا عن الذي تدريه ... وجفوناه إذ جفا بالتيه )
( وتركناه صاغرا لأناس ... خدعوه بالزور والتمويه )
( لمضل يسوقه لمضل ... وسفيه يقوده لسفيه )
وكان من القوم الذين هاموا بالمذكور وقاموا فيه المقام المشهور أديب يقال له الفار فتسلط على البياسي حتى سافر من الجزيرة وكان يلقب بالقط فقال أحد الشعراء
( عذرت أبا الحجاج من رب شيبة ... غدا لابسا في الحب ثوبا من القار )
( وألجأه الفار المشارك للنوى ... ولم أر قطا قبله فر من فار )

وله وقد كتب إلى بعض أصحابه يذكره بالأيام السوالف
( أبا حسن لعمرك إن ذكري ... لأيام النعيم من الصواب )
( أمثلي ليس يذكر عهد حمص ... وقد جمحت بنا خيل التصابي )
( ونحن نجر أثواب الأماني ... مطرزة هنالك بالشباب )
( وعهد بالجزيرة ليس ينسى ... وإن أغفلته عند الخطاب )
( هو الأحلى لدي وإن حماني ... عن العسل اجتماع للذباب )
أشار إلى المحبوب وكان كثير الاجتماع به في جنة لوالده على وادي العسل وقال
( جنة وادي العسل ... كم لي بها من أمل )
( لو لم يكن ذبابها ... يمنع ذوق العسل )
قال ابن سعيد ولما التقينا بتونس بعد إيابي من المشرق وقد ولج ظلام الشعر على صباح وجهه المشرق قلت لأبي الحجاج مشيرا إلى محبوبه وقد غطى هواه عنده على عيوبه
( خل أبا الحجاج هذا الذي ... قد كنت فيه دائم الوجد )
( وانظر إلى لحيته واعتبر ... مما جنى الشعر على الخد ) والله سبحانه يسمح للجميع في هذا الهزل الشنيع ويصفح عنا في ذكره إنه مجيب سميع

عودة إلى النقل عن بدائع
وقال صاحب البدائع ركب الأستاذ أبو محمد بن صارة مع أصحاب له في نهر إشبيلية في عشية سال أصيلها على لجين الماء عقيانا وطارت زواريقها في سماء النهر عقبانا وأبدى نسيمها من الأمواج والدارات سررا وأعكانا في زورق يجول جولان الطرف ويسود اسوداد الطرف فقال بديها
( تأمل حالنا والجو طلق ... محياه وقد طفل المساء )
( وقد جالت بنا عذراء حبلى ... تجاذب مرطها ريح رخاء )
( بنهر كالسنجنجل كوثري ... تعبس وجهها فيه السماء )
واتفق أن وقف أبو إسحاق بن خفاجة على القطعة واستظرفها واستلطفها فقال يعارضها على وزنها ورويها وطريقتها
( ألا يا حبذا ضحك الحميا ... بحانتها وقد عبس المساء )
( وأدهم من جياد الماء مهر ... تنازع جله ريح رخاء )
( إذا بدت الكواكب فيه غرقى ... رأيت الأرض تحسدها السماء )
133 - بين ابن خفاجة وابن وهبون وقال الأديب ابن خفاجة في ديوانه صاحبت في صدري من المغرب سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة أبا محمد عبد الجليل بن وهبون شاعر المعتمد وكان أبو جعفر ابن رشيق يومئذ قد تمنع ببعض حصون مرسية وشرع في النفاق فقطع السبيل وأخاف الطريق ولما حاذينا قلعته وقد احتدمت جمرة الهجير

ومل الركب رسيمه وذميله وأخذ كل منا يرتاد مقيله اتفقنا على أن لا نطعم طعاما ولا نذوق مناما حتى نقول في صورة تلك الحال وذلك الترحال ما حضر وشاء الله أن أجبل ابن وهبون واعتذر وأخذت عفو خاطري فقلت أتربص به وأعرض بعظم لحيته
( ألا قل للمريض القلب مهلا ... فإن السيف قد ضمن الشقاء )
( ولم أر كالنفاق شكاه حر ... ولا كدم الوريد له دواء )
( وقد دحي النجيع هناك أرضا ... وقد سمك العجاج به سماء )
( وديس به انحطاطا بطن واد ... مذ اعشب شعر لحيته ضراء )
وقال ابن خفاجة أيضا حضرت يوما مع أصحاب لي ومعهم صبي متهم في نفسه واتفق أنهم تحاوروا في تفضيل الرمان على العنب فانبرى ذلك الصبي فأفرط في تفضيل العنب فقلت بديها أعبث به
( صلني لك الخير برمانة ... لم تنتقل عن كرم العهد )
( لا عنبا أمتص عنقوده ... ثديا كأني بعد في المهد )
( وهل يرى بينهما نسبة ... من عدل الخصبة بالنهد ) فخجل خجلا شديدا وانصرف
قال وخرجت يوما بشاطبة إلى باب السمارين ابتغاء الفرجة على خرير ذلك الماء بتلك الساقية وذلك سنة 480 وإذا بالفقيه أبي عمران بن أبي تليد رحمه الله تعالى قد سبقني إلى ذلك فألفيته جالسا على دكان كانت هناك مبنية لهذا الشأن فسلمت عليه وجلست إليه مستأنسا به فجرى أثناء ما تناشدناه ذكر قول ابن رشيق
( يا من يمر ولا تمر ... به القلوب من الفرق )
( بعمامة من خده ... أو خده منها استرق )
( فكأنه وكأنها ... قمر تعمم بالشفق )
( فإذا بدا وإذا انثنى ... وإذا شدا وإذا نطق )
( شغل الخواطر والجوا نح ... والمسامع والحدق )
فقلت وقد أعجب بها جدا وأثنى عليها كثيرا أحسن ما في القطعة سياقة الأعداد وإلا فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كل واحدة منها ما يلائمها وهل ينزل بإزاء قوله ( ( وإذا نطق ) ) قوله ( ( شغل الحدق ) ) وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد فقلت بديها
( ومهفهف طاوي الحشا ... خنث المعاطف والنظر )
( ملأ العيون بصورة ... تليت محاسنها سور )
( فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر )
( فضح الغزالة والغمامة ... والحمامة والقمر )
فجن بها استحسانا انتهى قال ابن ظافر والقطعة القافية ليست لابن رشيق بل هي لأبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة وكان بين السميسر الشاعر وبين بعض رؤساء المرية واقع لمدح

وقال ابن الزقاق
( دعاك خليل والأصيل كأنه ... عليل يقضي مدة الرمق الباقي )
( إلى شط منساب كأنك ماؤه ... صفاء ضمير أو عذوبة أخلاق )
( ومهوى جناح للصبا يمسح الربى ... خفي الخوافي والقوادم خفاق )
( على حين راح البرق في الجو مغمدا ... ظباه ودمع المزن من جفنه راق )
( وقد حان مني للرياض التفاتة ... حبست بها كأسي قليلا عن الساقي )
( على سطح خيري ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناق ويرنو بأحداق )
( فصل زهرات منه هذا كأنها ... وقد خضلت قطرا محاجر عشاق )
ولما مدح الحسيب أبو محمد القاسم بن مسعدة الأوسي أمير المؤمنين عبد المؤمن بقوله
( حنانيك مدعوا ولبيك داعيا ... فكل بما ترضاه أصبح راضيا )
( طلعت على أرجائنا بعد فترة ... وقد بلغت منا النفوس التراقيا )
( وقد كثرت منا سيوف لدى العلا ... ومن سيفك المنصور نبغي التقاضيا )
( وغيرك نادينا زمانا فلم يجب ... وعزمك لم يحتج علاه مناديا )
كتب اسمه وزير عبد المؤمن في جملة الشعراء فلما وقف على ذلك عبد المؤمن ضرب على اسمه وقال إنما يكتب اسم هذا في جملة الحساء لا تدنسوه بهذه النسبة فلسنا ممن يتغاضى على غمط حسبه ثم أجزل صلته وأمر له بضيعة يحرث له بها يعني بذلك أنه من ذرية ملوك لأن جده كان ملك وادي الحجارة

( يا من يمر ولا تمر ... به القلوب من الفرق )
( بعمامة من خده ... أو خده منها استرق )
( فكأنه وكأنها ... قمر تعمم بالشفق )
( فإذا بدا وإذا انثنى ... وإذا شدا وإذا نطق )
( شغل الخواطر والجوا نح ... والمسامع والحدق )
فقلت وقد أعجب بها جدا وأثنى عليها كثيرا أحسن ما في القطعة سياقة الأعداد وإلا فأنت تراه قد استرسل فلم يقابل بين ألفاظ البيت الأخير والبيت الذي قبله فينزل بإزاء كل واحدة منها ما يلائمها وهل ينزل بإزاء قوله ( ( وإذا نطق ) ) قوله ( ( شغل الحدق ) ) وكأنه نازعني القول في هذا غاية الجهد فقلت بديها
( ومهفهف طاوي الحشا ... خنث المعاطف والنظر )
( ملأ العيون بصورة ... تليت محاسنها سور )
( فإذا رنا وإذا مشى ... وإذا شدا وإذا سفر )
( فضح الغزالة والغمامة ... والحمامة والقمر )
فجن بها استحسانا انتهى قال ابن ظافر والقطعة القافية ليست لابن رشيق بل هي لأبي الحسين علي بن بشر الكاتب أحد شعراء اليتيمة وكان بين السميسر الشاعر وبين بعض رؤساء المرية واقع لمدح

مدحه فلم يجزه عليه فصنع ذلك الرجل دعوة للمعتصم بن صمادح صاحب المرية واحتفل فيها بما يحتفل مثله في دعوة سلطان مثل المعتصم فصبر السميسر إلى أن ركب السلطان متوجها إلى الدعوة فوقف له في الطريق فلما حاذاه رفع صوته بقوله
( يا أيها الملك الميمون طائره ... ومن لذي مأتم في وجهه عرس )
( لا تفرسن طعاما عند غيركم ... إن الأسود على المأكول تفترس )
فقال المعتصم صدق والله ورجع من الطريق وفسد على الرجل ما كان عمله

حكاية مشرقية
ونظير هذه الحكاية أن عباد بن الحريش كان قد مدح رجلا من كبار أصبهان أرباب الضيع والأملاك والتبع الكثير فمطله بالجائزة ثم أجازه بما لم يرضه فرده عليه وبعد ذلك بحين عمل الرجل دعوة غرم عليها ألوف دنانير كثيرة لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي على أن يجيء إليه من الكرج ووصل أبو دلف فلما وقعت عين عباد عليه وهو يساير بعض خواصه أومأ إلى ذلك السائر وأنشد بأعلى صوته
( قل له يا فديته ... قول عباد ذا سمج )
( جئت في ألف فارس ... لغداء من الكرج )
( ما على النفس بعد ذا ... في الدناءات من حرج )
فقال أبو دلف وكان أخوف الناس من شاعر صدق والله أجيء

( من الكرج إلى أصبهان حتى أتغدى بها والله ما بعد هذا في دناءة النفس من شيء
ثم رجع من طريقه وفسد على الرجل كل ما غرمه وعرف من أين أتي
وتخوف أن يعود عباد عليه بشر منها فسير إليه جائزة سنية مع جماعة من أصحابه فاجتمعوا به وسألوه فيه وفي قبول الجائزة فلم يقبل الجائزة ثم أنشد بديها
( وهبت يا قوم لكم عرضه ... )
فقالوا جزاك الله تعالى خيرا فقال
( كرامة للشعر لا للفتى ... )
( لأنه أبخل من ذرة ... على الذي تجمعه في الشتا ) انتهى وذكر أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي ما معناه أنه عزم بمصر هو ورفقة له على الاصطباح فقصدوا بركة الحبش في وقت ولاية الغبش وحلوا منها روضا بسم زهره ونسم عطره فأداروا كؤوسا تطلع من المدام شموسا وعاينوها نجوما تكون لشياطين الهموم رجوما فطرب حتى أظهر الطرب نشاطه وأبرز ابتهاجه وانبساطه فقال
( لله يومي ببركة الحبش ... والجو بين الضياء والغبش )
( النيل تحت الرياح مضطرب ... كصارم في يمين مرتعش )
( ونحن في روضة مفوفة ... دبج بالنور عطفها ووشي )
( قد نسجتها يد الغمام لنا ... فنحن من نورها على فرش )

( فعاطني الراح إن تاركها ... من سورة الهم غير منتعش )
( وأسقني بالكبار مترعة ... فهن أروى لشدة العطش )
( فأثقل الناس كلهم رجل ... دعاه داعي الصبا فلم يطش )
وهذا أبو الصلت أمية من كبراء أدباء الأندلس العلماء الحكماء وقد ترجمناه في الباب الخامس في المرتحلين من الأندلس إلى المشرق وقال رحمه الله تعالى كنت مع الحسن بن علي بن تميم بن المعز بن باديس بالمهدية في الميدان وقد وقف يرمي بالنشاب فصنعت فيه بديها
( يا ملكا مذ خلقت كفه ... لم تدر إلا الجود والباسا )
( إن النجوم الزهر مع بعدها ... قد حسدت في قربك الناسا )
( وودت الأفلاك لو أنها ... تحولت تحتك أفراسا )
( كما تمنى البدر لو أنه ... عاد لنشابك برجاسا )
وصنع الوزير أبو جعفر أحمد الوقشي وزير الرئيس أبي إسحاق بن همشك صهر الأمير أبي عبد الله محمد بن مردنيش في غلام أسود في يده قضيب نور بديها
( وزنجي أتى بقضيب نور ... وقد زفت لنا بنت الكروم )
( فقال فتى من الفتيان صفها ... فقلت الليل أقبل بالنجوم )

ولما أفرط ابو بكر يحيى اليكي في هجاء أهل فاس تعسفوا عليه وساعدهم واليهم مظفر الخصي من قبل أمير المسلمين علي بن يوسف والقائد عبد الله بن خيار الجياني وكان يتولى أمورا سلطانية بها فقدموا رجلا ادعى عليه بدين وشهد عليه به رجل فقيه يعرف بالزناتي ورجل آخر يكنى بأبي الحسين من مشايخ البلد فأثبت الحق عليه وأمر به إلى السجن فرفع إليه وسيق سوقا عنيفا فلما وصل إلى بابه طلب ورقة من كاتبه وكتب فيها وأنفذها إلى مظفر مع العون الذي أوصله إلى السجن فكان ما كتب
( ارشوا الزناتي الفقيه ببيضة ... يشهد بأن مظفرا ذو بيضتين )
( واهدوا إليه دجاجة يحلف ... لكم ما ناك عبد الله عرس أبي الحسين ) وقال أبو الحسن علي بن عتيق بن مؤمن القرطبي الأنصاري عمل والدي محملا للكتب من قضبان تشبه سلما فدخل عليه أبو محمد عبد الله بن مفيد فرآه فقال ارتجالا
( أيها السيد الذكي الجنان ... لا تقسني بسلم البنيان )
( فضل شكلي على السلالم أني ... محمل للعلوم والقرآن )
( حزت من حلية المحبين ضعفي ... واصفراري ورقة الأبدان )
( فادع للصانع المجيد بفوز ... ثم وال الدعاء للإخوان ) ثم عمل أيضا
( أيها السيد الكريم المساعي ... التفت صنعتي وحسن ابتداعي )

أنا للنسخ محمل خف حملي ... أنا في الشكل سلم الاطلاع )
وقال أحمد بن رضى المالقي
( ليس المدامة مما أستريح له ... ولا مجاوبة الأوتار والنغم )
( وإنما لذتي كتب أطالعها ... وخادمي أبدا في نصرتي قلمي )
وقال أبو القاسم البلوي الإشبيلي
( لمن أشكو مصابي في البرايا ... ولا ألقى سوى رجل مصاب )
( أمور لو تدبرها حكيم ... لعاش مدى الزمان أخا اكتئاب )
( أما في الدهر من أفشي إليه ... بأسراري فيؤنس بالجواب )
( يئست من الأنام فما جليس ... يعز على نهاي سوى كتابي )
وقال أبو زكريا يحيى بن صفوان بن إدريس صاحب كتاب العجالة و زاد المسافر وغيرهما
( ليت شعري كيف أنتم ... وأنا الصب المعنى )
( كل شيء لم تكونوا ... فيه لفظ دون معنى ) وله في نصراني وسيم لقيه يوم عيد
( توحد في الحسن من لم يزل ... يثلث والقلب في صده )
( يشف لك الماء من كفه ... ويقتدح النار من خده ) وهذان البيتان نسبهما له بعض معاشريه وأبوه صفوان سابق الميدان وقال ابن بسام ساير ابن عمار في بعض أسفاره غلامان من

بني جهور أحدهما أشقر العذار والآخر أخضره فجعل يميل بحديثه لمخضر العذار ثم قال ارتجالا
( تعلقته جهوري النجار ... حلي اللمى جوهري الثنايا )
( من النفر البيض أسد الزمان ... رقاق الحواشي كرام السجايا )
( ولا غرو أن تغرب الشارقات ... وتبقى محاسنها بالعشايا )
( ولا وصل إلا جمان الحديث ... نساقطه من ظهور المطايا )
( شنئت المثلث للزعفران ... وملت إلى خضرة في التفايا )
ومعناه أن ابن عمار أبغض المثلث لدخول الزعفران فيه لشبهه بعذار الأشقر منهما وأحب خضرة التفايا وهو لون طعام يعمل بالكزبرة لشبهها بعذار الأخضر منهما ابن عمار وابن معيشة الكناني 139
وقال أبو العرب بن معيشة الكناني السبتي أخبرني شيخ من أهل إشبيلية كان قد أدرك دولة آل عباد وكان عليه من أثر كبر السن ودلائل التعمير ما يشهد له بالصدق وينطق بأن قوله الحق قال كنت في صباي حسن الصورة بديع الخلقة لا تلمحني عين أحد إلا ملكت قلبه وخلبت خلبه وسلبت لبه وأطلت كربه فبينا أنا واقف على باب دارنا إذا بالوزير أبي بكر بن عمار قد أقبل في موكب زجل على فرس كالصخرة الصماء قدت من قنة الجبل فحين حاذاني ورآني اشرأب إلي ينظرني وبهت يتأملني ثم دفع بمخصرة كانت بيده في صدري وأنشد

( كف هذا النهد عني ... فبقلبي منه جرح )
( هو في صدرك نهد ... وهو في صدري رمح ) هود وعبر في ( ( البدائع ) ) على طريقة القلائد بما صورته ذكر الفتح بن خاقان ما هذا معناه أخبرني ذو الوزارتين أبو المطرف بن عبد العزيز أنه حضر عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجو فيه أشقر برقه ورمى بنبل ودقه وحملت الرياح فيه أوقار السحاب على أعناقها وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها والأزهار قد تفتحت عيونها والكمائم قد ظهر مكنونها والأشجار قد انصقلت بالقطر ونشرت ما يفوق ألوان البز وبثت ما يعلو العطر والراح قد أشرقت نجومها في بروج الراح وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح ومديرها قد ذاب ظرفا فكاد يسيل من إهابه وأخجل خدها حسنا فتكلل بعرق حبابه إذا بفتى رومي من أصبح فتيان المؤتمن قد أقبل متدرعا كالبدر اجتاب سحابا والخمر اكتست حبابا والطاووس انقلب حبابا فهو ملك حسنا إلا أنه جسد وغزال لينا إلا أنه في هيئة الأسد وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عول فيه عليه وأمره أن يتوجه إليه فحين وصل إلى حضرته لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبه وانبثت سراياه في ضواحي قلبه فأشار إليه وقربه واستبدع ذلك اللباس واستغربه وجد في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدلاص وأن يجلي عنه سمكه كما يجلى الخبث عن الخلاص وأن يوفر على ذلك الوفر نعمة جسمه ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله واحتذاء أمثاله فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها ورمت شياطين النفوس من كمت المدام بشهبها ارتجل ابن عمار

( وهويته يسقي المدام كأنه ... قمر يدور بكوكب في مجلس )
( متناوح الحركات يندى عطفه ... كالغصن هزته الصبا بتنفس )
( يسقي بكأس في أنامل سوسن ... ويدير أخرى من محاجر نرجس )
( يا حامل السيف الطويل نجاده ... ومصرف الفرس القصير المحبس )
( إياك بادرة الوغى من فارس ... خشن القناع على عذار أملس )
( جهم وإن حسر القناع فإنما ... كشف الظلام عن النهار المشمس )
( يطغى ويلعب في دلال عذاره ... كالمهر يلعب في اللجام المجرس )
( سلم فقد قصف القنا غصن النقا ... وسطا بليث الغاب ظبي المكنس )
( عنا بكأسك قد كفتنا مقلة ... حوراء قائمة بسكر المجلس )
وصنع فيه أيضا
( وأحور من ظباء الروم عاط ... بسالفتيه من دمعي فريد )
( قسا قلبا وشن عليه درعأ ... فباطنه وظاهره حديد بكيت )
( وقد دنا ونأى رضاه ... وقد يبكي من الطرب الجليد )
( وإن فتى تملكه برق ... وأحرز حسنه لفتى سعيد ) وذكر في البدائع مؤلفه ما نصه خرج المعتصم بن صمادح صاحب المرية يوما إلى بعض متنزهاته فحل بروضة قد سفرت عن وجهها البهيج وتنفست عن مسكها الأريج وماست معاطف أغصانها وتكللت بلؤلؤ الطل أجياد قضبانها فتشوق إلى الوزير أبي طالب بن غانم أحد كبراء دولته وسيوف صولته فكتب إليه بديها بورقة كرنب بعود من شجرة
( أقبل أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا )
وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوما وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردهما حر الأوار والتوى ماؤها فيها التواء فضة السوار فقال ارتجالا
( انظر إلى الماء كيف انحط من صببه ... كأنه أرقم قد جد في هربه )
وقال السمسير
( بعوض شربن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغاني )
( كأن عروقي أوتارهن ... وجسمي الرباب وهن القيان
وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني
( لك مجلس كملت بشارة لهونا ... فيه ولكن تحت ذاك حديث )
( غنى الذباب فظل يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث )
والسابق إلى هذا المعنى أبو الحسن أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال
( لا أعذل الليل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص )
( لي والبراغيث والبعوض إذا أجننا حندس الظلام قصص ) إذا تغنى بعوضه طربا ... أطرب برغوثه الغنا فرقص )
ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية
( ضاقت بلنسية بي ... وذاد عني غموضي )
( رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض )
رجع إلى أهل الأندلس فنقول
كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول مفرط النسيان ظاهر التغفل على جودة نظمه ورطوبة طبعه وكان كثيرا ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له فاتخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادة لها واتفق أن عبر في السكة راجلا ومعه جماعة من أصحابه فلما رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعا على عقبيه فقال له أصحابه ما هذا أيها الأستاذ فقال البغلة نفرت فعجبوا من مخلفه وتغفله كيف ظن مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب وأن حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له فكان تغفله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب فصنع بديها
( كتاب نجيع لاح في حومة الوغى ... وقارنه نسر هنالك أو ذيب )
( جوارح أهليه حروف وربما ... تولته من نقط الطعان أنابيب )
وقال الحميدي ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوبا الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة

( أقبل أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا )
وجلس المعتصم بن صمادح المذكور يوما وبين يديه ساقية قد أخمدت ببردهما حر الأوار والتوى ماؤها فيها التواء فضة السوار فقال ارتجالا
( انظر إلى الماء كيف انحط من صببه ... كأنه أرقم قد جد في هربه )
وقال السمسير
( بعوض شربن دمي قهوة ... وغنينني بضروب الأغاني )
( كأن عروقي أوتارهن ... وجسمي الرباب وهن القيان
وأحسن منه قول ابن شرف القيرواني
( لك مجلس كملت بشارة لهونا ... فيه ولكن تحت ذاك حديث )
( غنى الذباب فظل يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث )
والسابق إلى هذا المعنى أبو الحسن أحمد بن أيوب من شعراء اليتيمة إذ قال
( لا أعذل الليل في تطاوله ... لو كان يدري ما نحن فيه نقص )
( لي والبراغيث والبعوض إذا أجننا حندس الظلام قصص ) إذا تغنى بعوضه طربا ... أطرب برغوثه الغنا فرقص )

ونحو هذا قول الحصري فيما نسبه إليه ابن دحية
( ضاقت بلنسية بي ... وذاد عني غموضي )
( رقص البراغيث فيها ... على غناء البعوض )
رجع إلى أهل الأندلس فنقول
كان ابن سعد الخير البلنسي الشاعر كثير الذهول مفرط النسيان ظاهر التغفل على جودة نظمه ورطوبة طبعه وكان كثيرا ما يسلك سكة الإسكافيين الذين يعملون الخفاف على بغلة له فاتخذت البغلة النفور من أطراف الأدم وفضلات الجلود الملقاة في السكة عادة لها واتفق أن عبر في السكة راجلا ومعه جماعة من أصحابه فلما رأى الجلود الملقاة قفز ووثب راجعا على عقبيه فقال له أصحابه ما هذا أيها الأستاذ فقال البغلة نفرت فعجبوا من مخلفه وتغفله كيف ظن مع ما يقاسيه من ألم المشي ونصب التعب أنه راكب وأن حركته الاختيارية منه حركة الدابة الضرورية له فكان تغفله ربما أوقعه في تهمة عند من لم يعرفه فاقترح عليه بعض الأمراء أن يصنع بيتين أول أحدهما كتاب وآخره ذئب وأول الآخر جوارح وآخره أنابيب فصنع بديها
( كتاب نجيع لاح في حومة الوغى ... وقارنه نسر هنالك أو ذيب )
( جوارح أهليه حروف وربما ... تولته من نقط الطعان أنابيب )
وقال الحميدي ذكر لي أبو بكر المرواني أنه شاهد محبوبا الشاعر النحوي قال بديهة في صفة ناعورة

( وذات حنين ما تغيض جفونها ... من اللجج الخضر الصوافي على شط )
( وتبكي فتحيي من دموع جفونها ... رياضا تبدت بالأزاهر في بسط )
( فمن أحمر قان وأصفر فاقع ... وأزهر مبيض وأدكن مشمط )
( كأن ظروف الماء من فوق متنها ... لآلي جمان قد نظمن على قرط )
وقال أبو الخطاب ابن دحية دخلت على الوزير الفقيه الأجل أبي بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور السلمي فوقع الكلام في علوم لم تكن من جنس فنونه فقال بديها
( أيها العالم أدركني سماحا ... فلمثلي يحق منك السماح )
( إن تخلني إذا نطقت عييا ... فبناني إذا كتبت وقاح )
( أحرز الشأو في نظام ونثر ... ثم أثني وفي العنان جماح )
( فبهزل كما تأود غصن ... وبجد كما تهز الصفاح
وقال دخلت عليه منزله بشاطبة في اليوم الذي توفي فيه وهو يجود بنفسه فأنشد بديها
( أيها الواقف اعتبارا بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم )
( أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديمي )
( ودعوني بما اكتسبت رهينا ... غلق الرهن عند مولى كريم )
وقال ابن طوفان دعا أبي أبا الوليد النحلي فلما قضوا وطرهم من الطعام سقيتهم وجعلت أترع الكاسات فلما مشت في النحلي

سورة الحميا ارتجل
( لابن طوفان أياد ... قل فيها مشبهوه )
( ملأ الكاسات حتى ... قيل في البيت أبوه )
ونظيره قول المنفتل من شعراء الذخيرة في الشاعر ابن الفراء
( فإذا ما قال شعرا ... نفقت سوق أبيه )
وذكر في بدائع البدائه أن جماعة من الشعراء في أيام الأفضل خرجوا متنزهين إلى الأهرام ليروا عجائب مبانيها ويتأملوا ما سطره الدهر من العبر فيها فاقترح بعض من كان معهم العمل فيها فصنع أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي
( بعيشك هل أبصرت أعجب منظرا ... على ما رأت عيناك من هرمي مصر )
( أنافا بأعنان السماء فأشرفا ... على الجو إشراف السماك أو النسر )
( وقد وافيا نشزا من الأرض عاليا ... كأنهما نهدان قاما على صدر )
وصنع أبو منصور ظافر الحداد
( تأمل هيئة الهرمين وانظر ... وبينهما ابو الهول العجيب )
( كعماريتين على رحيل ... بمحبوبين يبنهما رقيب )
( وفيض البحر عندهما دموع ... وصوت الريح بينهما نحيب )
( وظاهر سجن يوسف مثل صب ... تخلف فهو محزون كئيب )

ابن بسام كان للمتوكل بن الأفطس فرس أدهم أغر محجل على كفله ست نقط بيض فندب المتوكل الشعراء لصفته فصنع النحلي أبو الوليد فيه بديها
( ركب البدر جوادا سابحا ... تقف الريح لأدنى مهله )
( لبس الليل قميصا سابغا ... والثريا نقط في كفله )
( وغدير الصبح قد خيض به ... فبدا تحجيله من بلله )
( كل مطلوب وإن طالت به ... رجله من أجله في أجله )
ثم انتدب الشعراء بعد ذلك للعمل فيه فصنع ابن اللبانة
( لله طرف جال يا ابن محمد ... فحبت به حوباؤه التأميلا )
( لما رأى أن الظلام أديمه ... أهدى لأربعه الهدى تحجيلا )
( وكأنما في الردف منه مباسم ... تبغي هناك لرجله تقبيلا )
وقال فيه أبو عبد الله ابن عبد البر الشنريني من قطعة
( وكأنما عمر على صهواته ... قمر تسير به الرياح الأربع ) ويعني بعمر المتوكل المذكور لأن اسمه عمر وقال أحمد بن عبد الرحمن بن الصقر الخزرجي قاضي إشبيلية
( لله إخوان تناءت دارهم ... حفظوا الوداد على النوى أو خانوا )
( يهدي لنا طيب الثناء ودادهم ... كالند يهدي الطيب وهو دخان )

أخبار عن المروانيين
وحكي أن أيوب بن سليمان السهيلي المرواني حضر يوما عند ابن باجة والشاعر أبو الحسن ابن جودي هناك فتكلم المرواني بكلام ظهر فيه نبل وأدب فتشوف أبو الحسن بن جودي لمعرفته وكان إذ ذاك فتي السن فقال له من أنت أكرمك الله تعالى فقال هلا سألت غيري عني فيكون ذلك أحسن لك أدبا ولي توقيرا فقال ابن جودي قد سألت من المعرف عنك فلم يعرفك فقال يا هذا لطالما مر علينا زمان يعرفنا من يجهل ولا يحتاج من يرانا فيه إلى أن يسأل وأطرق ساعة ثم رفع رأسه وأنشد
( أنا ابن الألى قد عوض الدهر عزهم ... بذل وقلوا واستحبوا التنكرا )
( ملوك على مر الزمان بمشرق ... وغرب دهاهم دهرهم وتغيرا )
( فلا تذكرنهم بالسؤال مصابهم ... فإن حياة الرزء أن يتذكرا )
ففطن ابن جودي أنه من بني مروان فقام وقبل رأسه واعتذر إليه ثم انصرف المرواني فقال ابن باجة لابن جودي أساء أدبك بعدما عهدت منك كيف تعمد إلى رجل في مجلسي تراني قد قربته وأكرمته وخصصته بالإصغاء إلى كلامه فتقدم عليه بالسؤال عن نفسه فاحذر أن تكون لك عادة فإنها من أسوأ الأدب فقال ابن جودي لم أزل من الشيخ على ما قاله أبو تمام
( نأخذ من ماله ومن أدبه ... )
وحكي أن بكارا المرواني لما ترك وطنه وخرج في الجهاد وقتل قال صاحب السقط إنه اجتمع به في أشبونة فقال قصدت منزله بها ونقرت

الباب فنادى من هذا فقلت رجل ممن يتوسل لرؤيتك بقرابة فقال لا قرابة إلا بالتقى فإن كنت من أهله فادخل وإلا فتنح عني فقلت أرجو في الاجتماع بك والاقتباس منك أن أكون من أهل التقى فقال ادخل فدخلت عليه فإذا به في مصلاه وسبحة أمامه وهو يعد حبوبها ويسبح فيها فقال لي ارفق علي حتى أتمم وظيفتي من هذا التسبيح وأقضي حقك فقعدت إلى أن فرغ فلما قضى شغله عطف علي وقال ما القرابة التي بيني وبينك فانتسبت له فعرف أبي وترحم عليه وقال لي لقد كان نعم الرجل وكان لديه أدب ومعرفة فهل لديك أنت مما كان لديه شيء فقلت له إنه كان يأخذني بالقراءة وتعلم الأدب وقد تعلقت من ذلك بما أتميز به فقال لي هل تنظم شيئا قلت نعم وقد ألجأني الدهر إلى أن أرتزق به فقال يا ولدي إنه بئسما يرتزق به ونعم ما يتحلى به إذا كان على غير هذا الوجه وقد قال رسول الله " إن من الشعر لحكمة " ولكن تحل الميتة عند الضرورة فأنشدني أصلحك الله تعالى مما على ذكرك من شعرك قال فطلبت بخاطري شيئا أقابله به مما يوافق حاله فما وقع لي إلا فيما لا يوافقه من مجون ووصف خمر وما أشبه ذلك فأطرقت قليلا فقال لعلك تنظم فقلت لا ولكن أفكر فيما أقابلك به فقولي أكثره فيما حملني عليه الصبا والسخف وهو لائق تفير مجلسك فقال يا بني ولا هذا كله إنا لا نبلغ من تقوى الله إلى حد نخرج به عن السلف الصالح وإذا صح عندنا أن عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله ومفسر كتاب الله تعالى ينشد مثل قول القائل
( إن يصدق الطير ننك لميسا ... )

فمن نحن حتى نأبى أن نسمع مثل هذا والله لا نشذ عن السلف الصالح أنشدني ما وقع لك غير متكلف فلم يمدني خاطري إلى غير قولي من شعر أمجن فيه
( أبطأت عني وإني ... لفي اشتياق شديد )
( وفي يدي لك شيء ... قد قام مثل العمود )
( لو ذقته مرة لم ... تعد لهذا الصدود )
فتبسم الشيخ وقال أما كان في نظمك أطهر من هذا فقلت له ما وفقت لغيره فقال لا بأس عليك فأنشدني غيره ففكرت إلى أن أنشدته قولي
( ولما وقفت على ربعهم ... تجرعت وجدي بالأجزع )
( وأرسل دمعي شرار الدموع ... لنار تأجج في الأضلع )
فقال عذولي لما رأى بكائي رفقا على الأدمع فقلت له هذه سنة لمن حفظ العهد في الأربع قال فرأيت الشيخ قد اختلط وجعل يجيء ويذهب ثم أفاق وقال أعد بحق آبائك الكرام فأعدت فأعاد ما كان فيه وجعل يردده فقلت له لو علمت أن هذا يحركك ما أنشدتك إياه فقال وهل حرك مني إلا خيرا وعظة يا بني إن هذه القلوب المخلاة لله كالورق التي جفت وهي مستعدة لهبوب الرياح فإن هب عليها أقل ريح لعب بها كيف شاء وصادف منها طوعه فأعجبني منزعه وتأنست به ولم أر عنده ما يعتاد من هؤلاء المتدينين من الانجماع والانكماش بل ما زال يبسطني ويحدثني بأخبار فيها هزل ويذكر لي من تاريخ بني أمية وملوكها ما أرتاح له ولا اعلم أكثره فلما كثر تأنسي

به أهويت إلى يده كي أقبلها فضمها بسرعة وقال ما شأنك فقلت راغبا لك في أن تنشدني شيئا من نظمك فقال أما نظمي في زمان الصبا فكان له وقت ذهب ويجب للنظم أن يذهب معه وأما نظمي في هذا الوقت فهو فيما أنا بسبيله وهو يثقل عليك فقلت له إن أنصف سيدي الشيخ نفعنا الله تعالى به أنشدني من نظم صباه ومن نظم شيخوخته فيأخذ كلانا بحظه فضحك وقال ما أعصيك وأنت ضيف وقريب ولك حرمة أدب ووسيلة قصد ثم أنشدني وقد بدا عليه الخشوع وخنقته العبرة
( ثق بالذي سواك من ... عدم فإنك من عدم )
( وانظر لنفسك قبل قرع ... السن من فرط الندم )
( واحذر وقيت من الورى ... واصحبهم أعمى أصم )
( قد كنت في تيه إلى ... أن لاح لي أهدى علم )
( فاقتدت نحو ضيائه ... حتى خرجت من الظلم )
( لكن قناديل الهوى ... في نور رشدي كالحمم )
قال فوالله لقد أدركني فوق ما أدركه وغلب على خاطري بما سمعت من هذه الأبيات وفعلت بي من الموعظة غاية لم أجد منها التخلص إلا بعد حين فقال لي الشيخ إن هذه يقظة يرجى معها خيرك والله مرشدك ومنقذك ثم قال لي يا بني هذا ما نحن بسبيله الآن فاسمع فيما مضى والله ولي المغفرة وإنا لنرجو منه غفران الفعل فكيف القول وأنشد
( أطل عذار على خده ... فظنوا سلوي عن مذهبي )
( وقالوا غراب لوشك النوى ... فقلت اكتسى البدر بالغيهب )
( وناديت قلبي أين المسير ... وبدر الدجى حل بالعقرب )

( فقال ولو رمت عن حبه ... رحيلا عصيت ولم أذهب )
قال فسمعت ما يقصر عنه صدور الشعراء وشهدت له بالتقدم وقلت له لم أر أحسن من نظمك في جد ولا هزل ثم قلت له أأرويه عنك فقال نعم ما أرى به بأسا بعد اطلاع من يعلم السرائر على ما في الضمائر فما قدر هذه الفكاهة في إغضاء من يغفر الكبائر ويغضي عن العظائم قال فقلت له فإن أسبغت علي النعمة بزيادة شيء من هذا الفن فعلت ما تملك به قلبي آخر الدهر فقال يا بني لا ملك قلبك غير حب الله تعالى ! ثم قال ولا أجمع عليك رد قول ومنعا وأنشد
( أيها الشادن الذي ... حسنه في الورى غريب )
( لحظ ذاك الجمال يطفئ ... ما بي من اللهيب )
( وعليه أحوم دهري ... ولكنني أخيب )
( كلما رمت زورة ... قيض الله لي رقيب )
قال فمازج قلبي من الرقة واللطافة لهذا الشعر ما أعجز عن التعبير عنه فقلت له زدني زادك الله تعالى خيرا فأنشدني
( ما كان قلبي يدري قدر حبكم ... حتى بعدتم فلم يقدر على الجلد )
( وكنت أحسب أني لا أضيق به ... ذرعا فما حان حتى فت في عضدي )
( ثم استمرت على كره مريرته ... فكاد يفرق بين الروح والجسد )
( عساكم أن تلاقوا باللقا رمقي ... فليس لي مهجة تقوى على الكمد )
ثم قال حسبك وإن كلفتني زيادة فالله حسبك فقلت له قد وكلتني إلى كريم غفور رحيم فبالله إلا ما زدتني وأكببت لأقبل رجليه فضمهما وأنشد

( لله من قال لما ... شكوت فيه نحولي )
( أما السبيل لوصل ... فما له من وصول )
( فقلت حسبي التماح ... بحسن وجه جميل )
( وجه تلوح عليه ... علامة للقبول )
( فقال دعني فهذا ... تعرض للفضول )
( فقلت عاتب وخاطب ... بالأمن أهل العقول )
فملأ سمعي عجائب وبسط أنسي وكتبت كل ما أنشدني ثم قلت له لولا خوفي من التثقيلى عليك لم أزل أستدعي منك الإنشاد حتى لا تجد ما تنشد فقال إن عدت إن شاء الله تعالى إلى هنا تذكرت وأنشدتك فما عندي مما أضيفك غير ما سمعت وما تراه ثم قام وجاء من بيت آخر في داره بصفحة فيها حسا من دقيق وكسور باردة فجعل يفت فيها ثم أشار إلي أن أشرب فشربت ثم شرب إلى أن أتينا على آخرها ثم قال لي هذا غذاء عمك نهاره وإنه لنعمة من الله تعالى أستديم بشكرها اتصالها قال فقلت له يا عم ومن أين عيشك فقال يا بني عيشتي بتلك الشبكة اصطاد بها في سواحل البحر ما أقتات به ولي زوجة وبنت يعود من غزلهما مع ذلك ما نجد به معونة وهذا مع العافية والاستغناء عن الناس خير كثير جعلنا الله تعالى ممن يلقاه على حالة يرضاها وختم لنا بخاتمة لا يخاف معها فضيحة ! قال فتركته وقمت وفي نيتي أن أعود إلى زيارته ونويت أن يكون ذلك بعد أيام خوف التثقيل فعدت إليه بعد ثلاثة أيام فنقرت الباب فكلمتني المرأة بلسان عليه أثر الحزن وقالت إن الشيخ خرج إلى الغزو وذلك بعد انفصالك عنه بيوم ناله كالجنون فقلت له ما شأنك فقال أريد أن أموت شهيدا في الغزو وهؤلاء جيران لي

قد عزموا على الغزو وأنا إن شاء الله تعالى ماض معهم ثم احتال في سيف ورمح وتوجه معهم وقال نفسي هي التي قتلتني بهواها أفلا أقتص منها فأقتلها قال فقلت لها من خلف للنظر في شأنكم فقالت ليس ذلك لك فالذي خلفنا له لا نحتاج معه إلى غيره فأدركني من جوابها روعة وعلمت أنها مثله زهدا وصلاحا فقلت إني قريبه ويجب علي أن أنظر في حالكم بعده فقالت ياهذا إنك لست بذي محرم ولنا من العجائز من ينظر منا ويبيع غزلنا ويتفقد أحوالنا فجزاك الله تعالى عنا خيرا انصرف عنا مشكورا فقلت لها هذه دراهم خذوها تستعينوا بها فقالت ما اعتدنا أن نأخذ شيئا من غير الله تعالى وما كان لنا أن نخل بالعادة فانصرفت نادما على ما فاتني من الاستكثار من شعر الشيخ والتبرك بزيادة دعائه ثم عدت بعد ذلك لداره سائلا عنه فقالت لي المرأة إنه قد قبله الله تعالى فعلمت أنه قد قتل فقلت لها أقتل فقرأت ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ) الآية آل عمران 169 ] - فانصرفت معتبرا من حاله رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به
وكانت للمروانيين بالأندلس يد عليا في الدين والدنيا انتهى
وقال محمد بن أيوب المرواني لما كلف قوما حاجة له سلطانية فما نهضوا بها فكلفها رأس بني مروان القائد سعيد بن المنذر فنهض بها
( نهضت بما سألتك غير وان ... وقد صعبت لسالكها الطريق )
( وليس يبين فضل المرء إلا ... إذا كلفته ما لا يطيق )
وعتبه يوما سعيد بن المنذر في كونه يتعرض لمدح خدام بني مروان فقال له أعز الله تعالى القائد الوزير ! إنكم جعلتموني ذنبا وجعلوني رأسا والنفس تتوق إلى من يكرمها وإن كان دونها أكثر منها إلى من يهينها وإن كان فوقها

وإني من هذا وهذا في أمر لا يعلمه إلا الذي أبلاني به ويا ويح الشجي من الخلي وأنا الذي أقول فيما يتخلل هذا المنزع
( نسبت لقوم ليتني نجل غيرهم ... فلي نسب يعلو وحظي يسفل )
( أقطع عمري بالتعلل والمنى ... وكم يخدع المرء اللبيب التعلل )
( فما لي مكان أرتضيه لهمة ... ولا مال منه أستعف وأفضل )
( ولكنني أقضي الحياة تجملا ... وهل يهلك الإنسان إلا التجمل )
فقال له سعيد قصدنا لومك فعطفت اللائمة علينا ونحن أحق بها وسننظر إن شاء الله تعالى فيما يرفع اللوم عن الجانبين ثم تكلم مع الناصر في شأنه فأجرى له رزقا أغناه عن التكفف فكانت هذه من حسنات سعيد وأياديه
وقال المطرف بن عمر المرواني يمدح المظفر بن المنصور بن أبي عامر
( إن المظفر لا يزال مظفرا ... حكما من الرحمن غير مبدل ) وهو الأحق بكل ما قد حازه ... من رفعة ورياسة وتفضل )
( تلقاه صدرا كلما قلبته ... مثل السنان بمحفل وبجحفل )
وحضر يوما مع شاعر الأندلس في زمانه ابن دراج القسطلي فقال له القسطلي أنشدني أبياتك التي تقول فيها
( على قدر ما يصفو الخليل يكدر ... ) فأنشده
( تخيرت من بين الأنام مهذبا ... ولم أدر أني خائب حين أخبر )
( فمازجني كالراح للماء واغتدى ... على كل ما جشمته يتصبر

إلى أن دهاني إذ أمنت غروره ... سفاها وأداني لما ليس يذكر )
( وكدر عيشي بعد صفو وإنما ... على قدر ما يصفو الخليل يكدر )
فاهتز القسطلي وقال والله إنك في هذه الأبيات لشاعر وأنا أنشدك فيما يقابلها لبلال بن جرير
( لو كنت أعلم أن آخر عهدهم يوم الفراق فعلت ما لم أفعل )
ولكن جعل نفسه فاعلا وعرضت نفسك لأن يقال إنك مفعول فقال ومن أين يلوح ذلك فقال القسطلي من قولك ( ( وأداني لما ليس يذكر ) ) فما يظن في ذلك إلا أنه أداك إلى موضع فعل بك فيه فاغتاظ الأموي وقال يا أبا عمر ومن أين جرت العادة بأن تمزح معي في هذا الشأن فقال له حلم بني مروان يحملنا على أن نخرق العادة في الحمل على مكارمهم فسكن غيظه
وكتب المرواني المذكور إلى صاحب له يستعير منه دابة يخرج عليها للفرجة والخلاعة أنهض الله تعالى سيدي بأعباء المكارم إن هذا اليوم قد تبسم أفقه بعدما بكى ودقه وصقلت أصداء أوراقه وفتحت أحداق حدائقه وقام نوره خطيبا على ساقه وفضضت غدرانه وتوجت أغصانه وبرزت شمسه من حجابها بعد ما تلفعت بسحابها وتنبه في أرجاء الروض أرج النسيم وعرف في وجهه نضرة النعيم وقد دعا كل هذا ناظر أخيك إن أن يجيله في هذه المحاسن ويجدد نظره في المنظر الذي هو غير مبتذل والماء الذي هو غير آسن والفحص اليوم أحسن ما ملح وأبدع ما حرن فيه وجمح فجد لي بإعارة ما أنهض عليه لمشاهدته ويرفع عني خجل الابتذال بمناكفه الأنذال لا زلت نهاضا بالآمال مسعفا بمراد كل خليل غير مقصر ولا آل
وكتب الأمير هشام بن عبد الرحمن إلى أخيه عبد الله المعروف بالبلنسي حين فر كتابا يقول في بعض فصوله والعجب من فرارك دون أن

ترى شيئا فخاطبه بجواب يقول فيه ولا تتعجب من فراري دون أن أرى شيئا لأنني خفت أن أرى ما لا أقدر على الفرار بعده ولكن تعجب مني أن حصلت في يدك بعدما أفلت منك وقال له وزيره أحمد بن شعيب البلنسي أليس من العار أن يبلغ بك الخور من هذا الصبي أن تجعل بينك وبينه البحر وتترك بلاد ملكك وملك أبيك فقال ما أعرف ما تقول وكل ما وقي به إتلاف النفس ليس بعار بل هو محض العقل وأول ما ينظر الأديب في حفظ رأسه فإذا نظر في ذلك نظر فيما بعده
وقال عبد الله بن عبد العزيز الأموي ويعرف بالحجر
( اجعل لنا منك حظا أيها القمر ... فإنما حظنا من وجهك النظر )
( رآك ناس فقالوا إن ذا قمر ... فقلت كفوا فعندي منهما الخبر )
( البدر ليس بغير النصف بهجته ... حتى الصباح وهذا كله قمر
وقال أبو عبد الله محمد بن محمد بن الناصر يرثي أبا مروان بن سراج
( وكم من حديث للنبي أبانه ... وألبسه من حسن منطقه وشيا )
( وكم مصعب للنحو قد راض صعبه ... فعاد ذلولا بعدما كان قد أعيا )
وحكي أنه دخل بعض شعراء الأندلس على الفقيه سعيد بن أضحى وكان من أعيان غرناطة فمدحه بقصيدة ثم بموشحة ثم بزجل فلم

يعطه شيئا بل شكا إليه فقرا حتى إنه بكى فأخذ الدواة والقرطاس وكتب ووضع بين يديه
( شكا مثال الذي أشكوه من عدم ... وساءه مثل ما قد ساءني فبكى )
( إن المقل الذي أعطاك دمعته ... نعم الجواد فتى أعطاك ما ملكا )
وقال ابن خفاجة
( نهر كما سال اللمى سلسال ... وصبا بليل ذيلها مكسال )
( ومهب نفحة روضة مطلولة ... فيها لأفراس النسيم مجال )
( غازلته والأقحوانة مبسم ... والآس صدغ والبنفسج خال ) وقال
( وساق كحيل الطرف في شأو حسنه ... جماح وبالصبر الجميل حران )
( ترى للصبا نارا بخديه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان )
( سقانا وقد لاح الهلال عشية ... كما اعوج في درع الكمي سنان )
( عقارا نماها الكرم فهي كريمة ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان )
( وقد جال من جون الغمامة أدهم ... له البرق سوط والعنان عنان )
( وضمخ ردع الشمس نحر حديقة ... عليه ومن الطل السقيط جمان )
( ونمت بأسرار الرياض خميلة ... لها النور ثغر والنسيم لسان )

وقال في وصف فرس أصفر ولم يخرج عن طريقته
( وأشقر تضرم منه الوغى ... بشعلة من شعل الباس )
( من جلنار ناضر لونه ... وأذنه من ورق الآس )
( يطلع للغرة في شقرة ... حبابة تضحك في الكاس )
وقال أبو بكر يحيى بن سهل اليكي يهجو
( أعد الوضوء إذا نطقت به ... مستعجلا من قبل أن تنسى )
( واحفظ ثيابك إن مررت به ... فالظل منه ينجس الشمسا لابن لبانة
وقال ابن اللبانة
( أبصرته قصر في المشيه ... لما بدت في خده لحيه )
( قد كتب الشعر على خده ... أو كالذي مر على قرية )
وقال الوزير الكاتب أبو محمد عبد الغفور الإشبيلي في الأمير أبي بكر سير من أمراء المرابطين وكتب بها إليه في غزاة غزاها
( سر حيث سرت يحله النوار ... وأراك فيه مرادك المقدار )
( وإذا ارتحلت فشيعتك سلامة ... وغمامة لا ديمة مدرار )
( تنفي الهجير بظلها وتنيم بالرش ... القتام وكيف شئت تدار )
( وقضى الإله بأن تعود مظفرا ... وقضت بسيفك نحبها الكفار )

هذا غير ما تمناه الجعفي حيث قال حيث ارتحلت وديمة وما تكاد معها عزيمة وإذا سفحت على ذي سفر فما أحراها بأن تعوق عن الظفر ونعتها بمدرار فكان ذلك أبلغ في الإضرار وما أحسن قول القائل
( فسر ذا راية خفقت بنصر ... وعد في جحفل بهج الجمال )
( إلى حمص فأنت بها حلي ... تغاير فيه ربات الحجال )
وقال الحجاري في المسهب كتبت إلى القاضي أبي عبد الله محمد اللوشي أستدعي منه شعره لأكتبه في كتابي فتوقف عن ذلك وانقبض عني فكتبت إليه
( يا مانعا شعره عن سمع ذي أدب ... نائي المحل بعيد الشخص مغترب )
( يسير عنك به في كل متجه ... كما يمر نسيم الريح بالعذب )
( إني وحقك أهل أن أفوز به ... واسأل فديتك عن ذاتي وعن أدبي )
فكان جوابه
( يا طالبا شعر من لم يسم في الأدب ... ماذا تريد بنظم غير منتخب )
( إني وحقك لم أبخل به صلفا ... ومن يضن على جيد بمخشلب )
( لكنني صنت قدري عن روايته ... فمثله قل عن سام إلى الرتب )
( خذه إليك كما أكرهت مضطربا ... محللا ذم مولاه مدى الحقب )
قال ثم كتب لي مما أتحفني به من نظمه محاسن أبهى من الأقمار وأرق من نسيم الأسحار

وقال صالح بن شريف في البحر وهو أحسن ما قيل فيه
( البحر أعظم مما أنت تحسبه ... من لم ير البحر يوما ما رأى العجبا )
( طام له حبب طاف على زرق ... مثل السماء إذا ما ملئت شهبا )
وقال أيضا
( ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره )
( يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره )
( لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره )
وقال ابن برطلة
( خطوب زماني ناسبتني غرابة ... لذلك يرميني بهن مصيب )
( غريب أصابته خطوب غريبة ... وكل غريب للغريب نسيب )
وهذا من أحسن التضمين الذي يزري بالدر الثمين
ودخل ابن بقي الحمام وفيه الأعمى التطيلي فقال له أجز
( حمامنا كزمان القيظ محتدم ... وفيه للبرد صر غير ذي ضرر ) فقال الأعمى
( ضدان ينعم جسم المرء بينهما ... كالغصن ينعم بين الشمس والمطر ) ولا يخفى حسن ما قال الأعمى

وقد ذكر في بدائع البدائه البيتين معا منسوبين إلى ابن بقي ولنذكر كلامه برمته لما اشتمل عليه من الفوائد ونصه ذكر ابن بسام قال دخل الأديبان أبو جعفر بن هريرة التطيلي المعروف بالأعمى وأبو بقي بكر ابن الحمام فتعاطيا العمل فيه فقال الأعمى
( يا حسن حمامنا وبهجته ... مرأى من السحر كله حسن )
( ماء ونار حواهما كنف ... كالقلب فيه السرور والحزن )
ثم أعجبه المعنى فقال
( ليس على لهونا مزيد ... ولا لحمامنا ضريب )
( ماء وفيه لهيب نار ... كالشمس في ديمة تصوب )
( وابيض من تحته رخام ... كالثلج حين ابتدا يذوب )
وقال ابن بقي
( حمامنا فيه فصل القيظ ... ) البيتين فقال الأعمى وقد ظر فيه إلى فتى صبيح
( هل استمالك جسم ابن الأمير وقد ... سالت عليه من الحمام أنداء )
( كالغصن باشر حر النار من كثب ... فظل يقطر من أعطافه الماء )

وصف حمام مشرقي
قلت تذكرت هنا عند ذكر الحمام ما حكاه بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي المتطبب إذ قال رأيت ببغداد في دار الملك شرف الدين هرون ابن

الوزير الصاحب شمس الدين محمد الجويني حماما متقن الصنعة حسن البناء كثير الأضواء قد احتفت به الأزهار والأشجار فأدخلني إليه سائسه وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين بن الفخر عيسى المنشئ الإربلي وكان سائس هذا الحمام خادما حبشيا كبير السن والقدر فطاف بي عليه وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوت بأصوات طيبة ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان ثم منها إلى البستان ثم أراني نحو عشر خلوات كل خلوة صنعتها أحسن من صنعة أختها ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد ففتحه ودخل بي إلى دهليز طويل كله مرخم بالرخام الأبيض الساذج وفي صدر الدهليز خلوة مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة أنفس إذا كانوا قعودا وتسع اثنين إذا كانوا نياما ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالا لا فرق بينه وبين صقال المرآة يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهبة وكلها متخذة من بلور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر فأما الأخضر فيقال إنه حجارة تأتي من الروم وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب وتلك الصورة في غاية الحسن والجمال على هيئات مختلفة في اللون وغيره وهي ما بين فاعل ومفعول به إذا نظر المرء إليها تحركت شهوته وقال لي الخادم السائس هذا صنع على هذه الصفة لمخدومي حتى أنه إذا نظر إلى ما يفعل هؤلاء بعضهم مع بعض من المجامعة والتقبيل ووضع أيدي بعضهم على أعجاز بعض تتحرك شهوته سريعا فيبادر إلى مجامعة من يحبه
قال الحاكي وهذه الخلوة دون سائر الخلوات التي دخلت إليها هي مخصوصة بهذا الفعل إذا أراد الملك شرف الدين هرون الاجتماع في الحمام بمن يهواه من الجواري الحسان والصور الجميلة والنساء الفائقات الحسن لم يجتمع به إلا في هذه

الخلوة من أجل أنه يرى كل محاسن الصور الجميلة مصورة في الحائط ومجسمة بين يديه ويرى كل منهما صاحبه على هذه الصفة ورأيت في صدر الخلوة حوض رخام مضلع وعليه أنبوب مركب في صدره وأنبوب آخر برسم الماء البارد والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر وعن يمين الحوض ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الند والعود وأبصرت منها خلوة شديدة الضياء مفرحة بديعة قد أنفق عليها أموال كثيرة وسألت الخادم عن تلك الحيطان المشرقة المضيئة من أي شيء صنعت فقال لي ما أعلم
قال الحاكي فما رأيت في عمري ولا سمعت بمثل تلك الخلوة ولا بأحسن من ذلك الحمام مع أني ما أحسن أن أصفهما كما رأيتهما فإنه لم تتكرر رؤيتي لهما ولا اتفق لي الظفر بصناعتهما ومباشرتهما وفي الذي ذكرت كفاية انتهى دار جمال الملك البغدادي
ولما اتصل أبو القاسم علي بن أفلح البغدادي الكاتب بأمير المؤمنين المسترشد بالله العباسي ولقبه جمال الملك وأعطاه أربع ديار في درب الشاكرية اشترى دورا أخرى إلى جانبها وهدم الكل وأنشأ داره الكبيرة وأعانه الخليفة في بنائها وأطلق له أموالا وآلات البناء وكان في جملة ما أطلق له مائتا ألف آجرة وأجريت الدار بالذهب وصنع فيها الحمام العجيب الذي فيه بيت مستراح فيه أنبوب إن فركه الإنسان يمينا خرج ماء حار وإن فركه شمالا خرج ماء بارد وكان على إيوان الدار مكتوبا
( إن عجب الراءون من ظاهري ... فباطني لو علموا أعجب )

( شيدني من كفه مزنة ... يهمل منها العارض الصيب
( ودبجت روضة أخلاقه ... في رياضا نورها مذهب )
( صدر كسا صدري من نوره ... شمسا على الأيام لا تغرب )
وكتب على الطرز
( ومن المروءة للفتى ... ما عاش دار فاخره )
( فاقنع من الدنيا بها ... واعمل لدار الآخره )
( هاتيك وافية بما ... وعدت وهذي ساخره ) وكتب على النادي
( وناد كأن جنان الخلود ... أعارته من حسنها رونقا )
( وأعطته من حادثات الزمان ... أن لا تلم به موثقا )
( فأضحى يتيه على كل ما ... بنى مغربا كان أو مشرقا )
( تظل الوفود به عكفا ... وتمسي الضيوف به طرقا )
( بقيت له يا جمال الملوك ... والفضل مهما أردت البقا )
( وسالمه فيك ريب الزمان ... ووقيت فيه الذي يتقى )

أشعار للمشارقة في الحمام
وعلى ذكر الحمام فما أحكم قول ابن الوردي فيما أظن
( وما أشبه الحمام بالموت لامرئ ... تذكر لكن أين من يتذكر )
( يجرد عن أهل ومال وملبس ... ويصحبه من كل ذلك مئزر )

وقال الشهاب بن فضل الله
( وحمامكم كعبة للوفود ... تحج إليه حفاة عراه )
( يكرر صوت أنابيبه ... كتاب الطهارة باب المياه )
وقد تمثل بهذين البيتين البرهان القيراطي في جواب كتاب استدعاه فيه بعض أهل عصره إلى الحمام وافتتح الجواب بقوله
( قد أجبنا وأنت أيضا فصبحت ... بصبحي سوالف وسلاف )
( وبساق يسبي العقول بساق وقوام وفق العناق خلافي )
ووصله بنثر تمثل فيه بالبيتين كما مر
ولبعضهم
( إن حمامنا الذي نحن فيه ... أي ماء به وأية نار )
( قد نزلنا به على ابن معين ... وروينا عنه صحيح البخاري )
وألغز بعضهم في الحمام بقوله
( ومنزل أقوام إذا ما تقابلوا ... تشابه فيه وغده ورئيسه )
( ينفس كربي إذ ينفس كربه ... ويعظم أنسي إذ يقل أنيسه )
( إذا ما أعرت الجو طرفا تكاثرت ... على من به أقماره وشموسه )
رجع إلى ما كنا فيه من كلام أهل الأندلس فنقول

وكان محمد بن خلف بن موسى البيري متكلما متحققا برأي الأشعرية وذاكرا لكتب الأصول في الاعتقاد مشاركا في الأدب مقدما في الطب ومن نظمه يمدح إمام الحرمين رحمه الله تعالى
( حب حبر يكنى أبا للمعالي ... هو ديني ففيه لا تعذلوني )
( أنا والله مغرم بهواه ... عللوني بذكره عللوني )
وكتب أبو الوليد ابن الجنان الشاطبي يستدعي بعض إخوانه إلى مجلس أنس بما صورته نحن في مجلس أغصانه الندامى وغمامه الصهباء فبالله إلا ما كنت لروض مجلسنا نسيما ولزهر حديثنا شميما وللجسم روحا وللطيب ريحا وبيننا عذراء زجاجتها خدرها وحبابها ثغرها بل شقيقة حوتها كمامة أو شمس حجبتها غمامة إذا طاف بها معصم الساقي فوردة على غصنها أو شربها مقهقة فحمامة على فننها طافت علينا طوفان القمر على منازل الحلول فأنت وحياتك إكليلنا وقد آن حلولها في الإكليل انتهى وقال أبو الوليد المذكور
( فوق خد الورد دمع ... من عيون السحب يذرف )
( برداء الشمس أضحى ... بعدما سال يجفف )

حكاية مشرقية عن الورد والياسمين
وتذكرت هنا بذكر الورد ما حكاه الشيخ أبو البركات هبة الله بن محمد النصيبي المعروف بالوكيل وكان شيخا ظريفا فيه آداب كثيرة إذ قال

كنت في زمن الربيع والورد في داري بنصيبين وقد احضر من بستاني من الورد والياسمين شيء كثير وعملت على سبيل الولع دائرة من الورد تقابلها دائرة من الياسمسن فاتفق أن دخل علي شاعران كانا بنصيبين أحدهما يعرف بالمهذب والآخر يعرف بالحسن بن البرقعيدي فقلت لهما اعملا في هاتين الدائرتين ففكرا ساعة ثم قال المهذب
( يا حسنها دائرة ... من ياسمين مشرق )
( والورد قد قابلها ... في حلة من شفق )
( كعاشق وحبه ... تغامزا بالحدق )
( فاحمر ذا من خجل ... واصفر ذا من فرق )
قال فقلت للحسن هات فقال سبقني المهذب إلى ما لمحته في هذا المعنى وهو قولي
( يا حسنها دائرة ... من ياسمين كالحلي )
( والورد قد قابلها ... في حلة من خجل )
( كعاشق وحبه ... تغامزا بالمقل )
( فاحمر ذا من خجل ... واصفر ذا من وجل )
قال فعجبت من اتفاقهما في سرعة الاتحاد والمبادرة إلى حكاية الحال انتهى
وما الطف قول بعضهم
( أرى الورد عند الصبح قد مد لي فما ... يشير إلى التقبيل في حالة اللمس )
( وبعد زوال الشمس ألقاه وجنة ... وقد أثرت في وسطها قبلة الشمس )

وقال ابن ظافر في بدائع البدائه اجتمع الوزير أبو بكر بن القبطرنة والأديب أبو العباس ابن صارة الأندلسيان في يوم جلا ذهب برقه وأذاب ورق ودقه والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء واهتزت وربت عند نزول الماء فقال ابن القبطرنة
( هذي البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار )
فقال ابن صارة
( وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والإضرار )
ثم قال ابن صارة أيضا
( وإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار ) فقال ابن القبطرنة
( من أجل ذلة ذا وعزة هذه ... يبكي الغمام وتضحك الأزهار )

بديهة ابن ظافر
وتذكرت هنا ما حكاه ابن ظافر في الكتاب المذكور أنه اجتمع مع القاضي الأعز يوما فقال له ابن ظافر أجز
( طار نسيم الروض من وكر الزهر ... )
فقال الأعز
( وجاء مبلول الجناح بالمطر

انتهى ويعجبني قول ابن قرناص
( أظن نسيم الروض والزهر قد روى ... حديثا ففاحت من شذاه المسالك )
( وقال دنا فصل الربيع فكله ... ثغور لما قال النسيم ضواحك )
رجع إلى الأندلسيين
وما أرق قول ابن الزقاق
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تفوق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
وقال أبو إسحاق ابن خفاجة
( تعلقته نشوان من خمر ريقه ... له رشفها دوني ولي دونه السكر )
( ترقرق ماء مقلتاي ووجهه ... ويذكي على قلبي ووجنته الجمر )
( أرق نسيبي فيه رقة حسنه ... فلم أدر أي قبلها منهما السحر )
( وطبنا معا شعرا وثغرا كأنما ... له منطقي ثغر ولي ثغره شعر )
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز
( وقائلة ما بال مثلك خاملا ... أأنت ضعيف الرأي أم أنت عاجز )
( فقلت لها ذنبي إلى القوم أنني ... لما لم يحوزوه من المجد حائز )

( وما فاتني شيء سوى الحظ وحده ... وأما المعالي فهي عندي غرائز )
وقال
( جد بقلبي وعبث ... ثم مضى وما اكترث )
( واحربا من شادن ... في عقد الصبر نفث )
( يقتل من شاء بعينيه ... ومن شاء بعث )
وقال البليغ الفاضل يحيى بن هذيل أحد أعيان شعراء الأندلس
( نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى )
( وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى )
( كحل الفجر لهم جفن الدجى ... وغدا في وجنة الصبح لثاما )
( تحسب البدر محيا ثمل ... قد سقته راحة الصبح مداما )
( حوله الزهر كؤوس قد غدت ... مسكة الليل عليهن ختاما )
وتذكرت هنا قول الآخر وأظنه مشرقيا
( بكر العارض تحدوه النعامى ... فسقاك الري يا دار أماما )
( وتمشت فيك أرواح الصبا ... يتأرجن بأنفاس الخزامى )
( قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي ... للمحبين مناخا ومقاما )
( وبجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى واقرأ على قلبي السلاما )
( وترحل فتحدث عجبا ... أن قلبا سار عن جسم أقاما )
( قل لجيران الغضا آها على ... طيب عيش بالغضا لو كان داما )

( حملوا ريح الصبا من نشركم ... قبل أن تحمل شيحا وثماما )
( وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما )
وخرج بعض علماء الأندلس من قرطبة إلى طليطلة فاجتار بحريز بن عكاشة الشجاع المشهور الذي ذكرنا في هذا الباب ما يدل على شجاعته وقوته وأيده بقلعة رباح فنزل بخارجها في بعض جنباتها وكتب إليه
( يا فريدا دون ثان ... وهلالا في العيان )
( عدم الراح فصارت ... مثل دهن اليلسان )
فبعث إليه بها وكتب معها
( جاء من شعرك روض ... جاده صوب اللسان )
( فبعثناها سلافا ... كسجاياك الحسان )

أشعار لابن شهيد
وقال الوزير أبو عامر بن شهيد يتغزل
( أصباح شيم أم برق بدا ... أم سنا المحبوب أورى زندا )
( هب من مرقده منكسرا ... مسبلا للكم مرخ للردا )
( يمسح النعسة من عيني رشا ... صائد في كل يوم أسدا )

( أوردته لطفا آياته ... صفوة العيش وأرعته ددا )
( فهو من دل عراه زبدة ... من مريج لم تخالط زبدا )
( قلت هب لي يا حبيبي قبلة ... تشف من عمك تبريح الصدى )
( فانثنى يهتز من منكبه ... مائلا لطفا وأعطاني اليدا ) كلما كلمني قبلته ... فهو إما قال قولا رددا )
( كاد أن يرجع من لثمي له ... وارتشاف الثغر منه أدردا )
( وإذا استنجزت يوما وعده ... أمطل الوعد وقال اصبر غدا )
( شربت أعطافه ماء الصبا ... وسقاه الحسن حتى عربدا )
( فإذا بت به في روضة ... أغيد يقرو نباتا أغيدا )
( قام في الليل بجيد أتلع ... ينفض اللمة من دمع الندى )
( ومكان عازب عن جيرة ... أصدقاء وهم عين العدا )
( ذي نبات طيب أعراقه ... كعذار الشعر في خد بدا )
( تحسب الهضبة منه جبلا ... وحدور الماء منه أبردا )
وقال يرثي القاضي ابن ذكوان نجيب ذلك الأوان وقد افتن في الآداب وسن فيها سنة ابن داب وما فارق ربع الشباب شرخه ولا استمجد في الكهولة غفاره ولا مزحه وكان لأبي عامر هذا قسيم نفسه ونسيم أنسه
( ظننا الذي نادى محقا بموته ... لعظم الذي أنحى من الرزء كاذبا )
( وخلنا الصباح الطلق ليلا وأننا ... هبطنا خداريا من الحزن كاربا )
( ثكلنا الدنى لما استقل وإنما فقدناك يا خير البرية ناعبا )
( وما ذهبت إذ حل في القبر نفسه ... ولكنما الإسلام أدبر ذاهبا )

( ولما أبى إلا التحمل رائحا ... منحناه أعناق الكرام ركائبا )
( يسير به النعش الأعز وحوله ... أباعد كانوا للمصاب أقاربا )
( عليه حفيف للملائك أقبلت ... تصافح شيخا ذاكر الله تائبا )
( تخال لفيف الناس حول ضريحه ... خليط تخطى قطا وافي الشريعة هاربا )
( إذا ما امتروا سحب الدموع تفرعت ... فروع البكا عن بارق الحزن لاهبا )
( فمن ذا لفصل القول يسطع نوره ... إذا نحن ناوينا الألد المناوبا )
( ومن ذا ربيع المسلمين يقوتهم ... إذا الناس شاموها بروقا كواذبا )
( فيا لهف قلبي آه ذابت حشاشتي ... مضى شيخنا الدفاع عنا النوائبا )
( ومات الذي غاب السرور لموته ... فليس وإن طال السرى منه آيبا )
( وكان عظيما يطرق الجمع عنده ... ويعنو له رب الكتيبة هائبا )
( وذا مقول عضب الغرارين صارم ... يروح به عن حومة الدين ضاربا )
( أبا حاتم صبر الأديب فإنني ... رأيت جميل الصبر أحلى عواقبا )
( وما زلت فينا ترهب الدهر سطوة ... وصعبا به نعيي الخطوب المصاعبا )
( سأستعتب الأيام فيك لعلها ... لصحة ذاك الجسم تطلب طالبا )
( لئن أفلت شمس المكارم عنكم ... لقد أسأرت بدرا لها وكواكبا )
قال في المطمح ودبت إلى أبي عامر بن شهيد أيام العلويين عقارب برئت بها منه أباعد وأقارب واجهه بها صرف قطوب وانبرت إليه منها خطوب نبا لها جنبه عن المضجع وبقي بها ليالي يأرق ولا يهجع إلى أن أعلقت في الاعتقال آماله وعقلته في عقال أذهب ماله فأقام مرتهنا ولقي وهنا وقال

( تقول التي من بيتها كف مركبي ... أقربك دان أم مداك بعيد )
( فقلت لها أمري إلى من سمت به ... إلى المجد آباء له وجدود )
ثم قال ولزمته آخر عمره علة دامت به سنين ولم تفارقه حتى تركته يد جنين وأحسب أن الله أراد بها تمحيصه وإطلاقه من ذنب كان قنيصه فطهره تطهيرا وجعل ذلك على العفو له ظهيرا فإنها أقعدته حتى حمل في المحفة وعاودته حتى غدت لرونقه مشتفة وعلى ذلك فلم يعطل لسانه ولم يبطل إحسانه ولم يزل يستريح إلى القول ويزيح ما كان يجده من الغول وآخر شعر قاله قوله
( ولما رأيت العيش لوى برأسه ... وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي )
( تمنيت أني ساكن في عباءة ... بأعلى مهب الريح في رأس شاهق )
( أرد سقيط الطل في فضل عيشتي ... وحيدا وأحسو الماء ثني المعالق )
( خليلي من ذاق المنية مرة ... فقد ذقتها خمسين قولة صادق )
( كأني وقد حان ارتحالي لم أفز ... قديما من الدنيا بلمحة بارق )
( فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي ... يدا في ملماتي وعند مضايقي )
( عليك سلام الله إني مفارق ... وحسبك زادا من حبيب مفارق )
( فلا تنس تأبيني إذا ما ذكرتني ... وتذكار أيامي وفضل خلائقي )
( وحرك له بالله من أهل فننا ... إذا غيبوني كل شهم غرانق )

( قريب بمحتل الهوان مجيد ... يجود ويشكو حزنه فيجيد )
( نعى صبره عند الإمام فيا له ... عدو لأبناء الكرام حسود )
( وما ضره إلا مزاح ورقة ... ثنته سفيه الذكر وهو رشيد )
( جنى ما جنى في قبة الملك غيره ... وطوق منه بالعظيمة جيد )
( وما في إلا الشعر أثبته الهوى ... فسار به في العالمين فريد )
( أفوه بما لم آته متعرضا ... لحسن المعاني تارة فأزيد )
( فإن طال ذكري بالمجون فإنها ... عظائم لم يصبر لهن جليد )
( وهل كنت في العشاق أول عاقل ... هوت بحجاه أعين وخدود )
( فراق وشجو واشتياق وذلة ... وجبار حفاظ علي عتيد )
( فمن يبلغ الفتيان أني بعدهم ... مقيم بدار الظالمين وحيد )
( مقيم بدار ساكنوها من الأذى ... قيام على جمر الحمام قعود )
( ويسمع للجنان في جنباتها ... بسيط كترجيع الصدى ونشيد )
( ولست بذي قيد يرن وإنما ... على اللخط من سخط الإمام قيود )
( وقلت لصداح الحمام وقد بكى ... على القصر إلفا والدموع تجود )
( ألا أيها الباكي على من تحبه ... كلانا معنى بالخلاء فريد )
( وهل أنت دان من محب نأى به ... عن الإلف سلطان عليه شديد )
( فصفق من ريش الجناحين واقعا ... على القرب حتى ما عليه مزيد )
( وما زال يبكيني وأبكيه جاهدا ... وللشوق من دون الضلوع وقود )
( إلى أن بكى الجدران من طول شجونا ... وأجهش باب جانباه حديد )
( أطاعت أمير المؤمنين كتائب ... تصرف في الأموال كيف تريد )
( فللشمس عنها بالنهار تأخر ... وللبدر شحنا بالظلام صدود )
( ألا إنها الأيام تلعب بالفتى ... نحوس تهادى تارة وسعود )
( وما كنت ذا أيد فأذعن ذا قوى ... من الدهر مبد صرفه ومعيد )
( وراضت صعابي سطوة علوية ... لها بارق نحو الندى ورعود )

( عسى هامتي في القبر تسمع بعضه ... بترجيع شاد أو بتطريب طارق )
( فلي في ادكاري بعد موتي راحة ... فلا تمنعوها لي علالة زاهق )
( وإني لأرجو الله فيما تقدمت ... ذنوبي به مما درى من حقائق )
وكان أبو مروان عبد الملك بن غصن مستوليا على وزارة ابن عبيدة ولسانه ينشد
( وشيدت مجدي بين أهلي ولم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي ) وهجا ابن ذي النون بقوله
( تلقبت بالمأمون ظلما وإنني ... لآمن كلبا حيث لست مؤمنه )
( حرام عليه أن يجود ببشره ... وأما الندى فاندب هنالك مدفنه )
( سطور المخازي دون أبواب قصره ... بحجابه للقاصدين معنونه )
فلما تمكن منه المأمون سجنه فكتب إلى ابن هود من أبيات
( أيا راكب الوجناء بلغ تحية ... أمير جذام من أسير مقيد )
( ولما دهتني الحادثات ولم أجد ... لها وزرا أقبلت نحوك أعتدي )
( ومثلك من يعدي على كل حادث ... رمى بسهام للردى لم ترصد )
( فعلك أن تخلو بفكرك ساعة ... لتنقذني من طول هم مجدد )
( وها أنا في بطن الثرى وهو حامل ... فيسر على رقبي الشفاعة مولدي )
( حنانيك ألفا بعد ألف فإنني ... جعلتك بعد الله أعظم مقصدي )
( وأنت الذي يدري إذا رام حاجة ... تضل بها الآراء من حيث يهتدي )

فرق له ابن هود وتحيل حتى خلصه بشفاعته فلما قدم عليه أنشده
( حياتي موهوبة من علاكا ... وكيف أرى عادلا عن ذراكا )
( ولو لم يكن لك من نعمة ... علي وأصبحت أبغي سواكا )
( لناديت في الأرض هل مسعف ... مجيب فلم يصغ إلا نداكا )
فطرب ابن هود وخلع عليه ثوب وزارته وجعله من أعلام سلطنته وإمارته
وقال المنصور بن أبي عامر للشاعر المشهور أبي عمر يوسف الرمادي كيف ترى حالك معي فقال فوق قدري ودون قدرك ! فأطرق المنصور كالغضبان فانسل الرمادي وخرج وقد ندم على ما بدر منه وجعل يقول أخطأت لا والله ما يفلح مع الملوك من يعاملهم بالحق ما كان ضرني لو قلت له إني بلغت السماء وتمنطقت بالجوزاء وأنشدته
( متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها )
لا حول ولا قوة إلا بالله ولما خرج كان في المجلس من يحسده على مكانه من المنصور فوجد فرصة فقال وصل الله لمولانا الظفر والسعد ! إن هذا الصنف صنف زور وهذيان لا يشكرون نعمة ولا يرعون إلا ولا ذمة كلاب من غلب وأصحاب من أخصب وأعداء من أجدب وحسبك منهم أن الله جل جلاله يقول فيهم ( والشعراء يتبعهم الغاوون ) إلى ما لا يفعلون والابتعاد منهم أولى من الاقتراب وقد قيل فيهم ما ظنك بقوم الصدق يستحسن إلا منهم فرفع المنصور رأسه وكان محبا في أهل الأدب والشعر وقد اسود وجهه وظهر فيه الغضب المفرط ثم قال ما بال أقوام يشيرون في شيء لم يستشاروا فيه ويسيئون الأدب بالحكم فيما

لا يدرون أيرضي أم يسخط وأنت أيها المنبعث للشر دون أن يبعث قد علمنا غرضك في أهل الأدب والشعر عامة وحسدك لهم لأن الناس كما قال القائل
( من رأى الناس له فضلا ... عليهم حسدوه )
وعرفنا غرضك في هذا الرجل خاصة ولسنا إن شاء الله تعالى نبلغ أحدا غرضه في أحد ولو بلغناكم في جانبكم وإنك ضربت في حديد بارد وأخطأت وجه الصواب فزدت بذلك احتقارا وصغارا وإني ما أطرقت من خطاب الرمادي إنكارا عليه بل رأيت كلاما يجل عن الأقدار الجليلة وتعجبت من تهديه له بسرعة واستنباطه له على قلته من الإحسان الغامر ما لا يستنبطه غيره بالكثير والله لو حكمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجح ما تكلم به قلبه ذرة وإياكم أن يعود أحد منكم إلى الكلام في شخص قبل أن يؤخذ معه فيه ولا تحكموا علينا في أوليائنا ولو أبصرتم منا التغير عليهم فإننا لا نتغير عليهم بغضا لهم وانحرافا عنهم بل تأديبا وإنكارا فإنا من نريد إبعاده لم نظهر له التغير بل ننبذه مرة واحدة فإن التغير إنما يكون لمن يراد استبقاؤه ولو كنت مائل السمع لكل أحد منكم في صاحبه لتفرقتم أيدي سبا وجونبت أنا مجانبة الأجرب وإني قد أطلعتكم على ما في ضميري فلا تعدلوا عن مرضاتي فتجنبوا سخطي بما جنيتموه على أنفسكم ثم أمر أن يرد الرمادي وقال له أعد علي كلامك فارتاع فقال الأمر على خلاف ما قدرت الثواب أولى بكلامك من العقاب فسكن لتأنيسه وأعاد ما تكلم به فقال المنصور بلغنا أن النعمان بن المنذر حشا فم النابغة بالدر لكلام استحسنه منه وقد أمرنا لك بما لا يقصر عن ذلك ما هو أنوه وأحسن عائدة وكتب له بمال وخلع وموضع يتعيش منه ثم رد رأسه إلى المتكلى في شأن الرمادي

وقد كاد يغوص في الأرض لو وجد لشدة ما حل به مما رأى وسمع وقال والعجب من قوم يقولون الابتعاد من الشعراء أولى من الاقتراب نعم ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها ولا أياد يرغب في نشرها فأين الذين قيل فيهم
( على مكريهم رزق من يعريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل وأبن الذي قيل فيه )
( إنما الدنيا أبو دلف ... بين مبداه ومحتضره )
( فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره )
أما كان في الجاهلية والإسلام أكرم ممن قيل فيه هذا القول بلى ولكن صحبة الشعراء والإحسان إليهم أحيت غابر ذكرهم وخصتهم بمفاخر عصرهم وغيرهم لم تخلد الأمداح مآثرهم فدثر ذكرهم ودرس فخرهم انتهى بنو صمادح
ومن حكاياتهم في العدل أنه لما بنى المعتصم بن صمادح ملك ألمرية قصوره المعروفة بالصمادحية غصبوا أحد الصالحين في جنة وألحقوها بالصمادحية وزعم ذلك الصالح أنها لأيتام من أقاربه فبينا المعتصم يوما يشرب على الساقية الداخلة إلى الصمادحية إذ وقعت عينه على أنبوب قصبة مشمع فأمر من يأتيه به فلما أزال عنه الشمع وجد فيه ورقة فيها ( ( إذا وقفت أيها الغاصب على هذه الورقة فاذكر قول الله تعالى ( إن هذا أخي له تسع

وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ) ص : 23 ] لا إله إلا الله أنت ملك قد وسع الله تعالى عليك ومكن لك في الأرض ويحملك الحرص على ما يفنى أن تضم إلى جنتك الواسعة العظيمة قطعة أرض لأيتام حرمت بها حلالها وخبثت طيبها ولئن تحجبت عني بسلطانك واقتدرت علي بعظم شأنك فنجتمع غدا بين يدي من لا يحجب عن حق ولا تضيع عنده شكوى
فلما استوعب قراءتها دمعت عيناه وأخذته خشية خيف عليه منها وكانت عادته رحمه الله تعالى وقال علي بالمشتغلين ببناء الصمادحية فأحضروا فاستفسرهم عما زعم الرجل فلم يسعهم إلا صدقه واعتذروا بأن نقصها من الصمادحية يعيبها في عين الناظر فاستشاط غضبا وقال والله إن عيبها في عين الخالق أقبح من عيبها في عين المخلوق ثم أمر بأن تصرف عليه واحتمل تعويرها لصمادحيته
ولقد مر بعض أعيان ألمرية وأخيارها مع جماعة على هذا المكان الذي أخرجت منه جنة الأيتام فقال أحدهم والله لقد عورت هذه القطعة هذا المنظر العجيب فقال له اسكت فوالله إن هذه القطعة طراز هذا المنظر وفخره وكان المعتصم إذا نظر إليها قال أشعرتم أن هذا المكان المعوج في عيني أحسن من سائر ما استقام من الصمادحية ثم إن وزيره ابن أرقم لم يزل يلاطف الشيخ والأيتام حتى باعوها عن رضى بما اشتهوا من الثمن وذلك بعد مدة طويلة فاستقام بها بناء الصمادحية وحصل للمعتصم حسن السمعة في الناس والجزاء عند الله تعالى
ولما مات المعتصم بن صمادح ركب البحر ابنه ولي عهده الواثق عز الدولة أبو محمد عبد الله وفارق الملك كما أوصاه المعتصم والده وفي ذلك يقول

( لك الحمد بعد الملك أصبحت خاملا ... بأرض اغتراب لا أمر ولا أحلي )
( وقد أصدأت فيها الجذاذة أنملي ... كما نسيت ركض الجياد بها رجلي )
( فلا مسمعي يصغي لنغمة شاعر ... وكفي لا تمتد يوما إلى بذل )
قال ابن اللبانة الشاعر علمت حقيقة جور الدهر حتى اجتمعت ببجاية مع عز الدولة بن المعتصم بن صمادح فإني رأيت منه خير من يجتمع به كأنه لم يخلقه الله تعالى إلا للملك والرياسة وإحياء الفضائل ونظرت إلى همته تنم من تحت حموله كما ينم فرند السيف وكرمه من تحت الصدأ مع حفظه لفنون الأدب والتواريخ وحسن استماعه وإسماعه ورقة طباعه ولطافة ذهنه ولقد ذكرته لأحد من صحبته من الأدباء في ذلك المكان ووصفته بهذه الصفات فتشوق إلى الاجتماع به ورغب إلي في أن أستأذنه في ذلك فلما أعلمت عز الدولة قال يا أبا بكر لتعلم أنا اليوم في خمول وضيق لا يتسع لنا معهما ولا يجمل بنا الاجتماع مع أحد لا سيما مع ذي أدب ونباهة يلقانا بعين الرحمة ويزورنا بمنة التفضل في زيارتنا ونكابد من ألفاظ توجعه وألحاظ تفجعه ما يجدد لنا هما قد بلي ويحيي كمدا قد فني وما لنا قدرة على أن نجود عليه بما يرضى به عن همتنا فدعنا كأننا في قبر نتدرع لسهام الدهر بدرع الصبر وأما أنت فقد اختلطت بنا اختلاط اللحم بالدم وامتزجت امتزاج الماء بالخمر فكأنا لم نكشف حالنا لسوانا ولا أظهرنا ما بنا لغيرنا فلا تحمل غيرك محملك قال ابن اللبانة فملأ والله سمعي بلاغة لا تصدر إلا عن سداد ونفس أبية متمكنة من أعنة البيان وانصرفت متمثلا
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... ولم يبق إلا صورة اللحم والدم )
( وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم )

وكتب إليه ابن اللبانة
( يا ذا الذي هز أمداحي بحليته ... وعزه أن يهز المجد والكرما )
( واديك لا زرع فيه اليوم تبذله ... فخذ عليه لأيام المنى سلما ) فتحيل في قليل بر ووجهه إليه وكتب معه
( المجد يخجل من يفديك من زمن ... ثناك عن واجب البر الذي علما )
( فدونك النزر من مصف مودته ... حتى يوفيك أيام المنى السلما )
ومن شعر عز الدولة المذكور
( أفدي أبا عمرو وإن كان عاتبا ... فلا خير في ود يكون بلا عتب )
( وما كان ذاك الود إلاكبارق أضاء لعيني ثم أظلم في قلبي )
وقال الشقندي في الطرف إن عز الدولة أشعر من أبيه
151 - وأما أخوه رفيع الدولة الحاجب أبو زكريا يحيى بن المعتصم فله أيضا نظم رائق ومنه ما كتب به إلى يحيى بن مطروح يستدعيه لأنس
( يا أخي بل سيدي بل سندي ... في مهمات الزمان الأنكد )
( لح بأفق غاب عنه بدره ... في اختفاء من عيون الحسد )
( وتعجل فحبيبي حاضر ... وفمي يشتاق كأسي في يدي )
فأجابه ابن مطروح وهو من أهل باغه بقوله

( أنا عبد من أقل الأعبد ... قبلتي وجه بأفق الأسعد )
( كلما أظمأني ورد فما ... منهلي إلا بذاك المورد )
( ها أنا بالباب أبغي إذنكم ... والظمأ قد مد للكأس يدي )
وكان قد سلط عليه إنسان مختل إذا رآه يقول هذا ألف لا شيء عليه يعني أن ملكه ذهب عنه وبقي فارغا منه فشكا رفيع الدولة ذلك إلى بعض أصحابه فقال أنا أكفيك مؤونته واجتمع مع الأحمق واشترى له حلواء وقال له إذا رأيت رفيع الدولة بن المعتصم فسلم عليه وقبل يده ولا تقل هذا ألف لا شيء عليه فقال نعم واشترط الوفاء بذلك لى أن لقيه فجرى نحوه وقبل يده وقال هذا هو باء بنقطة من أسفل فقامت قيامة رفيع الدولة وكان ذلك أشد عليه وكان به علة الحصى فظن أن الأحمق علم ذلك وقصده وصار كلما أحس به في موضع تجنبه
واستأذن يوما على أحد وجوه دولة المرابطين فقال أحد جلسائه ( تلك أمة قد خلت ) استحقارا له واستثقالا للإذن له فبلغ ذلك رفيع الدولة فكتب إليه
( خلت أمتي لكن ذاتي لم تخل ... وفي الفرع ما يغني إذا ذهل الأصل )
( وما ضركم لو قلتم قول ماجد ... يكون له فيما يجيء به الفضل )
( وكل إناء بالذي فيه راشح ... وهل يمنح الزنبور ما مجه النحل )
( سأصرف وجهي عن جناب تحله ... ولو لم تكن إلا إلى وجهك السبل )
( فما موضع تحتله بمرفع ... ولا يرتضى فيه مقال ولا فعل )
( وقد كنت ذا عذل لعلك ترعوي ولكن بأرباب العلا يجمل العذل )
وأما أخوهما أبو جعفر بن المعتصم فله ترجمة في المسهب

والمطرب والمغرب ومن شعره
( كتبت وقلبي ذو اشتياق ووحشة ... ولو أنه يسطيع مر يسلم )
( جعلت سواد العين فيه سواده ... وأبيضه طرسا وأقبلت ألثم )
( فخيل لي أني أقبل موضعا ... يصافحه ذاك البنان المسلم )
وأما أختهم أم الكرم فذكرناها مع النساء فلتراجع وقال أبو العلاء ابن زهر
( تمت محاسن وجهه وتكاملت ... لما بدا وعليه صدغ مونق )
( وكذلك البدر المنير جماله ... في أن تكنفه سماء أزرق )
وقال أبو الفضل ابن شرف لابن
( يا من حكى البيدق في شكله ... أصبح يحكيك وتحكيه )
( أسفله أوسع أجزائه ... ورأسه أصغر ما فيه )
وقال ابن خفاجة
( يا أيها الصب المعنى به ... ها هو لا خل ولا خمر )
( سود ما ورد من خده ... فصار فحما ذلك الجمر )
وقال أبو عبد الله البياسي
( صغر الرأس وطول العنق ... شاهدا عدل بفرط الحمق )
ولما سمعه أبو الحسن بن حريق قال

( صغر الرأس وطول العنق ... خلقة منكرة في الخلق )
( فإذا أبصرتها من رجل ... فاقض في الحين له بالحمق )
وقال أبو الحسن بن الفضل يذكر مقاما قامه سهل بن مالك وابن عياش
( لعمري لقد سر الخلافة قائما ... بخطبته الغراء سهل بن مالك )
( وأما ابن عياش ومن كان مثله ... فضلوا جميعا بين تلك المسالك )
( ومات وماتوا حسرة وحسادة وغيظا فقلنا هالك في الهوالك ) وسهل بن مالك له ترجمة مطولة رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في الوفاء وحين الاعتذار والقيام بحق الإخاء أن الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم كان صديقا للوزير هاشم بن عبد العزيز ثابتا على مودته ولما قضى الله تعالى على هاشم بالأسر أجرى السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي ذكره في جماعة من خدامه والوليد حاضر فاستقصره ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد برأيه فلم يكن فيهم من اعتذر عنه غير الوليد فقال أصلح الله تعالى الأمير ! إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور ولا الخروج عن المقدور بل قد استعمل جهده واستفرغ نصحه وقضى حق الإقدم ولم يكن ملاك النصر بيده فخذله من وثق به ونكل عنه من كان معه فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه حتى ملك مقبلا غير مدبر مبليا غير فشل فجوزي خيرا عن نفسه وسلطانه فإنه لا طريق للملام عليه وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم وأيضا فإنه ما قصد

أن يجود بنفسه إلا رضى للأمير واجتنابا لسخطه فإذا كان ما اعتمد فيه الرضى جالب التقصير فذلك معدود في سوء الحظ فأعجب الأمير كلامه وشكر له وفاءه وأقصر فيما بعد عن تفنيد هاشم وسعى في تخليصه واتصل الخبر بهاشم فكتب إليه الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد والوفي من وفى لك إذا خانك زمان وقد أتاني من كلامك بين يدي سيدنا - جعل الله تعالى نعمته سرمدا - ما زادني بمودتك اغتباطا وبصداقتك ارتباطا ولذلك ما كنت أشد يدي على وصلك وأخصك بإخائي وأنا الآن بموضع لا أقدر فيه على جزاء غير الثناء وأنت أقدر مني على أن تزيد ما بدأت به بأن تتم ما شرعت فيه حتى تتكمل لك المنة ويستوثق عقد الصداقة إن شاء الله تعالى وكتب إليه بشعر منه
( أيا ذاكري بالغيب في محفل به ... تصامت جمع عن جواب به نصري )
( أتتني والبيداء بيني وبينها ... رقى كلمات خلصتني من الأسر )
( لئن قرب الله اللقاء فإنني ... سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر )
فأجابه الوليد خلصك الله أيها البدر من سرارك ! وعجل بطلوعك في أكمل تمامك وإبدارك ! وصلني شكرك على أن قلت ما علمت ولم أخرج عن النصح للسلطان بما زكنته من ذلك والله تعالى شاهد على أن ذلك في مجالس غير المجلس المنقول لسيدي إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق ما أردت بها إلا أداء بعض ما أعتقده لك وكم سهرت وأنا نائم وقمت في حقي وأنا قاعد والله لا يضيع أجر من أحسن عملا ثم ذكر أبياتا لم تحضرني الآن
ومن حكاياتهم في علو الهمة في العلم والدنيا أنه دخل أبو بكر بن الصائغ المعروف ب بابن باجة جامع غرناطة وبه نحوي حوله شباب يقرؤون فنظروا إليه وقالوا له مستهزئين به ما يحمل الفقيه وما يحسن من العلوم وما يقول فقال لهم أحمل اثني عشر ألف دينار وها هي تحت إبطي

وأخرج لهم اثنتي عشرة ياقوتة كل واحدة منها بألف دينار وأما الذي أحسنه فاثنا عشر علما أدونها علم العربية الذي تبحثون فيه وأما الذي أقول فأنتم كذا وجعل يسبهم هكذا نقلت هذه الحكاية من خط الشيخ أبي حيان النحوي رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في الذكاء واستخراج العلوم واستنباطها أن أبا القاسم عباس بن فرناس حكيم الأندلس أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة وأول من فك بها كتاب العروض للخليل وأول من فك الموسيقى وصنع الآلة المعروفة بالمنقانة ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال واحتال في تطيير جثمانه وكسا نفسه الريش ومد له جناحين وطار في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في وقوعه فتأذى في مؤخره ولم يدر أن الطائر إنما يقع على زمكه ولم يعمل له ذنبا وفيه قال مؤمن بن سعيد الشاعر من أبيات
( يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسا جثمانه ريش قشعم )
وصنع في بيته هيئة السماء وخيل للناظر فيها النجوم والغيوم والبروق والرعود وفيه يقول مؤمن بن سعيد أيضا
( سماء عباس الأديب أبي القاسم ... ناهيك حسن رائقها )
( أما ضراط استه فراعدها ... فليت شعري ما لمع بارقها )
( لقد تمنيت حين دومها فكري بالبصق في است خالقها )
( وأنشد ابن فرناس الأمير محمدا من أبيات
( رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر )
فقال له مؤمن بن سعيد قبحا لما ارتكبته ! جعلت وجه الخليفة محرثا يثمر فيه البذر فخجل وسبه

المشهورون بعلوم الأوائل
وأول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة لأنه كان يشرق في صلاته وكان عالما بحركات الكواكب وأحكامها وكان صاحب فقه وحديث دخل المشرق وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وبمصر من المزني وغيره
ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة وكان بصيرا بالحساب والنجوم والنحو واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل ودخل إلى المشرق وقيل إنه كان معتزلي المذهب
وأبو القاسم أصبغ بن السمح وكان بارعا في علم النجوم والهندسة والطب وله تآليف منها كتاب المدخل إلى الهندسة في تفسير إقليدس وكتاب كبير في الهندسة وكتابان في الأسطرلاب وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند
وأبو القاسم بن الصفار وكان عالما بالهندسة والعدد والنجوم وله زيج مختصر على مذاهب السند هند وله كتاب في عمل الأسطرلاب
ومنهم أبو الحسن الزهراوي وكان عالما بالعدد والطب والهندسة وله

وأنشد ابن فرناس الأمير محمدا من أبيات
( رأيت أمير المؤمنين محمدا ... وفي وجهه بذر المحبة يثمر )
فقال له مؤمن بن سعيد قبحا لما ارتكبته ! جعلت وجه الخليفة محرثا يثمر فيه البذر فخجل وسبه
المشهورون بعلوم الأوائل
وأول من اشتهر في الأندلس بعلم الأوائل والحساب والنجوم أبو عبيدة مسلم بن أحمد المعروف بصاحب القبلة لأنه كان يشرق في صلاته وكان عالما بحركات الكواكب وأحكامها وكان صاحب فقه وحديث دخل المشرق وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وبمصر من المزني وغيره
ومنهم يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة وكان بصيرا بالحساب والنجوم والنحو واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل ودخل إلى المشرق وقيل إنه كان معتزلي المذهب
وأبو القاسم أصبغ بن السمح وكان بارعا في علم النجوم والهندسة والطب وله تآليف منها كتاب المدخل إلى الهندسة في تفسير إقليدس وكتاب كبير في الهندسة وكتابان في الأسطرلاب وزيج على مذاهب الهند المعروف بالسند هند
وأبو القاسم بن الصفار وكان عالما بالهندسة والعدد والنجوم وله زيج مختصر على مذاهب السند هند وله كتاب في عمل الأسطرلاب
ومنهم أبو الحسن الزهراوي وكان عالما بالعدد والطب والهندسة وله

كتاب شريف في المعل ملات على طريق البرهان ومنهم أبو الحكم عمر الكرماني من أهل قرطبة من الراسخين في علم العدد والهندسة ودخل المشرق واشتغل بحران وهو أول من دخل برسائل إخوان الصفا إلى الأندلس
ومنهم أبو مسلم ابن خلدون من أشراف إشبيلية وكان متصرفا في علوم الفلسفة والهندسة والنجوم والطب وتلميذه ابن برغوث وكان عالما بالعلوم الرياضية وتلميذه أبو الحسن مختار الرعيني وكان بصيرا بالهندسة والنجوم وعبد الله بن أحمد السرقسطي كان نافذا في علم الهندسة والعدد والنجوم ومحمد بن الليث كان بارعا في العدد والهندسة وحركات الكواكب وابن حي قرطبي بصير بالهندسة والنجوم وخرج عن الأندلس سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ولحق بمصر ودخل اليمن واتصل بأميرها الصليحي القائم بدعوة المستنصر العبيدي فحظي عنده وبعثه رسولا إلى بغداد إلى القائم بأمر الله وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد وابن الوقشي الطليطلي عارف بالهندسة والمنطق والزيوج وغيرهم ممن يطول تعدادهم
وكان الحافظ أبو الوليد هشام الوقشي من أعلم الناس بالهندسة وآراء الحكماء والنحو واللغة ومعاني الأشعار والعروض وصناعة الكتابة والفقه والشروط والفرائض وغيرها وهو كما قال الشاعر
( وكان من العلوم بحيث يقضى ... له في كل فن بالجميع )
ومن شعره قوله
( قد بينت فيه الطبيعة أنها ... بدقيق أعمال المهندس ماهره )
( عنيت بمبسمه فخطت فوقه ... بالمسك خطا من محيط الدائره )

وعزم على ركوب البحر إلى الحجاز فهاله ذلك فقال
( لا أركب البحر ولو أنني ... ضربت فيه بالعصا فانفلق )
( ما إن رأت عيني أمواجه ... في فرق إلا تناهى الفرق )
وكان الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن مهند مصنف الأدوية المفردة آية الله تعالى في الطب وغيره حتى أنه عانى جميع ما في كتابه من الأدوية المفردة وعرف ترتيب قواها ودرجاتها وكان لايرى التداوي بالأدوية ما أمكن بالأغذية أو ما يقرب منها وإذا اضطر إلى الأدوية فلا يرى التداوي بالمركبة ما وجد سبيلا إلى المفردة وإذا اضطر إلى المركب لم يكثر التركيب بل يقتصر على أقل ما يمكنه وله غرائب مشهورة في الإبراء من الأمراض الصعبة والعلل المخوفة بأيسر علاج وأقربه ومنهم ابن البيطار وهو عبد الله بن أحمد المالقي الملقب بضياء الدين وله عدة مصنفات في الحشائش لم يسبق إليها وتوفي بدمشق سنة ست وأربعين وستمائة أكل عقارا قاتلا فمات من ساعته رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار قال ابن سعيد أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية فجرى ذكر حفظه وكان ذلك في أول الليل فقال لهم إن شئتم تختبروني أجبتكم فقالوا له بسم الله إنا نريد أن نحدث عن تحقيق فقال اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى

تعجبوا فاختاروا القاف فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن
( أرق على أرق ومثلي ... ) يأرق وسماره قد نام بعض وضج بعض وهو ما فارق قافية القاف
وقال أبو عمران ابن سعيد دخلت عليه يوما بدار الأشراف بإشبيلية وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكور فمنعه منه أحد الأدباء فقال يا أبا عمران أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتأ وأنا أحفظه فأكذبته الجماعة فقال اسمعوني وأمسكوه فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه فأقسمنا عليه أن يكف وشهدنا له بالحفظ
وكان آية في سرعة البديهة مشهورا بذلك قال أبو الحسن بن سعيد عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعرا وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلا كل ذلك ارتجالا
ولما أخذ الحصار بمخنق إشبيلية في مدة الباجي خرج خروج القارظين ولا يدري حيث ولا أين
ومن شعره وقد نزل بداره عبيد السلطان وكتب به إلى صاحب الأنزال
( كم من يد لك لا أقوم بشكرها ... وبها أشير إليك إن خرست فمي )
( وقد استشرتك في الحديث فهل ترى ... أن يدخل الغربان وكر الهيثم )

وله
( يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني كذا حكم المقادير )
( وإنما الناس أمثال الفراش فهم ... بحيث تبدو مصابيح الدنانير )
وله
( عندي لفقدك أوجال أبيت بها ... كأنني واضع كفي على قبس )
( ولا ملامة إن لم أهد نيره ... حتى تمد إليها كف مقتبس )
( قد كنت أودع سر الشوق في طرس ... لكنني خفت أن يعدو على الطرس )
وأنشد له أبو سهل شيخ دار الحديث بالقاهرة في إملائه
( قف بالكثيب لغيرك التأنيب ... إن الكثيب هوى لنا محبوب )
( يا راحلين لنا عليكم وقفة ... ولكم علينا دمعنا المسكوب )
( تخلى الديار من المحبة والهوى ... أبدا وتعمر أضلع وقلوب )
وقال ارتجالا في وصفة فرس أصفر
( أطرف فات طرفي أم شهاب ... هفا كالبرق ضرمه التهاب )
( أعار الصبح صفحته نقابا ... ففر به وصح له النقاب )
( فمهما حث خال الصبح وافى ... ليطلب ما استعار فما يصاب )
( إذا ما انقض كل النجم عنه ... وضلت عن مسالكه السحاب )
( فيا عجبا له فضل الدراري ... فكيف أذال أربعه التراب )
( سل الأرواح عن أقصى مداه ... فعند الريح قد يلفى الجواب )
وقال أبو عمر الطلمنكي دخلت مرسية فتشبث بي أهلها

يسمعوا علي الغريب المصنف فقلت انظروا من يقرأ لكم وأمسكت أنا كتابي فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه علي من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه وكان أعمى ابن أعمى وابن سيده المذكور هو أبو الحسن علي بن أحمد بن سيده وهو صاحب كتاب المحكم
ومن نظمه مما كتب به إلى ابن الموفق
( ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا ) ومنها ضحيت فهل في برد ظلك نومة ... لذي كبد حرى وذي مقلة وسنى )
وتوفي ابن سيده المذكور سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وعمره نحو الستين رحمه الله تعالى
ومن حكاياتهم في حب العلم أن المظفر بن الأفطس صاحب بطليوس كان كما قال ابن الأبار كثير الأدب جم المعرفة محبا لأهل العلم جماعة للكتب ذا خزانة عظيمة لم يكن في ملوك الأندلس من يفوقه في أدب ومعرفة قاله ابن حيان
وقال ابن بسام كان المظفر أديب ملوك عصره غير مدافع ولا منازع وله التصنيف الرائق والتأليف الفائق المترجم بالتذكرة والمشتهر أيضا اسمه بالكتاب المظفري في خمسين مجلدا يشتمل على فنون وعلوم من مغاز وسير ومثل وخبر وجميع ما يختص به علم الأدب أبقاه للناس خالدا وتوفي المظفر سنة ستين وأربعمائة
وكان يحضر العلماء للمذاكرة فيفيد

ويستفبد رحمه الله تعالى
ومن التآليف الكبار لأهل الأندلس كتاب السماء والعالم الذي ألفه أحمد بن أبان صاحب شرطة قرطبة وهو مائة مجلد رأيت بعضه بفاس وتوفي ابن أبان سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة رحمه الله تعالى

روح الفكاهة عند الأندلسيين
ولأهل الأندلس دعابة وحلاوة في محاوراتهم وأجوبة بديهية مسكتة والظرف فيهم والأدب كالغريزة حتى في صبيانهم ويهودهم فضلا عن علمائهم وأكابرهم
ولنذكر جملة من ذكر الجلة فنقول
166 - حكي عن عالم ألمرية القاضي أبي الحسن مختار الرعيني وكان فيه حلاوة ولوذعية ووقار وسكون أنه استدعاه يوما زهير ملك المرية من مجلس حكمه فجاءه يمشي مشية قاض قليلا قليلا فاستعجله رسول زهير فلم يعجل فلما دخل عليه قال له يا فقيه ما هذا البطء فتأخر إلى باب المجلس وطلب عصا وشمر ثيابه فقال له زهير ما هذا قال هذا يليق باستعجال الحاجب لي فوقع في خاطري أنه عزلني عن القضاء وولاني الشرطة فضحك زهير واستحلاه ولم يعد إلى استعجاله
وهذا القاضي هو القائل - وقد دخل حماما فجلس بإزائه عامي أساء الأدب عليه -
( ألا لعن الحمام دارا فإنه ... سواء به ذو العلم والجهل في القدر )
( تضيع به الآداب حتى كأنها ... مصابيح لم تنفق على طلعة الفجر

وروي أن المقرئ أبا عبد الله محمد بن الفراء إمام النحو واللغة في زمانه - وكانت فيه فطنة ولوذعية - أبطأ خروجه يوما إلى تلامذته فطال بهم الكلام في المذاكرة فقال أحدهم نصف بيت وكان فيهم وسيم من أبناء الأعيان وكان ابن الفراء كثير الميل إليه فلما خرج قال له يا أستاذ عملت نصف بيت وأريد أن تتمه فقال ماهو فقال
( ألا بأبي شادن أوطف )
فقال الأستاذ ابن الفراء بديها
( إذا كان وردك لا يقطف ... وثغر ثناياك لا يرشف )
( فأي اضطرار بنا أن نقول ... ألا بأبي شادن أوطف ) وهذا ابن الفراء هو القائل
( قيل لي قد تبدلا ... فاسل عنه كما سلا )
( لك سمع وناظر ... وفؤاد فقلت لا )
( قيل غال وصاله ... قلت لما غلا حلا )
( أيها العاذل الذي ... بعذابي توكلا )
( عد صحيحا مسلما ... لا تعير فتبتلى )
وتذكرت بهذا ما أنشده لسان الدين في كتابه روضة التعريف بالحب الشريف
( قلت للساخر الذي ... رفع الأنف واعتلى )
( أنت لم تأمن الهوى

لا تعير فتبتلى )
ومن بديع نظم ابن الفراء المذكور قوله
( شكوت إليه بفرط الدنف ... فأنكر من قصتي ما عرف )
( وقال الشهود على المدعي ... وأما أنا فعلي الحلف )
( فجئنا إلى الحاكم الألمعي ... قاضي المجون وشيخ الطرف )
( وكان بصيرا بشرع الهوى ... ويعلم من أين أكل الكتف )
( فقلت له إقض ما بيننا ... فقال الشهود على ما تصف )
( فقلت له شهدت أدمعي ... فقال إذا شهدت تنتصف )
( ففاضت دموعي من حينها ... كفيض السحاب إذا ما يكف )
( فحرك رأسا إلينا وقال ... دعوا يا مهاتيك هذا الصلف )
( كذا تقتلون مشاهيرنا ... إذا مات هذا فأين الخلف )
( وأوما إلى الورد أن يجتنى ... وأوما إلى الريق أن يرتشف )
( فلما رآه حبيبي معي ... ولم يختلف بيننا مختلف )
( أزال العناد فعانقته ... كأني لام وحبي ألف )
( فظلت أعاتبه في الجفا ... فقال عفا الله عما سلف ) 184
وحكي عن الزهري خطيب إشبيلية - وكان أعرج - أنه خرج مع ولده إلى وادي إشبيلية فصادف جماعة في مركب وكان ذلك بقرب الأضحى فقال بعضهم له بكم هذا الخروف وأشار إلى ولده فقال له الزهري ما هو للبيع فقال بكم هذا التيس وأشار إلى الشيخ الزهري فرفع رجله العرجاء وقال هو معيب لايجزئ في الضحية فضحك كل

من حضر وعجبوا من لطف خلقه
وركب مرة هذا النهر مع الباجي يوم خميس فلما أصبحا وصعد الزهري يخطب يوم الجمعة و الباجي حاضر قدامه فنظر إليه الباجي وأومأ إلى محل الحدث وأخرج لسانه فجعل الزهري يلمس عصا الخطبة يشير بالعصا إلى جوابه على ما قصد رحمه الله تعالى
ومر العالم أبو القاسم ابن ورد صاحب التآليف في علم القرآن والحديث بجنة لأحد الأعيان فيها ورد فوقف بالباب وكتب إليه
( شاعر قد عراك يبغي أباه ... عندما اشتاق حسنه وشذاه )
( وهو بالباب مصغيا لجواب ... يرتضيه الندى فماذا تراه )
فعندما وقف على البيتين علم أنه ابن ورد فبادر من جنته إليه وأقسم في النزول عليه ونثر من الورد ما استطاع بين يديه
وحكي أن أبا الحسين سليمان بن الطراوة نحوي المرية حضر مع ندماء وإلى جانبه من أخذ بمجامع قلبه فلما بلغت النوبة إليه استعفى من الشرب وأبدى القطوب فأخذ ابن الطراوة الجام من يده وشربها عنه ويا بردها على كبده ثم قال بديها
( يشربها الشيخ وأمثاله ... وكل من تحمد أفعاله )
( والبكر إن لم يستطع صولة ... تلقى على البازل أثقاله )
ودخل عليه وهو مع ندمائه غلام بكأس في يده فقال
( ألا بأبي وغير أبي غزال ... أتى وبراحه للشرب راح )
( فقال منادمي في الحسن صفه ... فقلت الشمس جاء بها الصباح )

( وقال فيمن جاء بالراح
( ولما رأيت الصبح لاح بخده ... دعوتهم رفقا تلح لكم الشمس )
( وأطلعها مثل الغزالة وهو كالغزال ... فتم الطيب واكتمل الأنس )
وقال وقد شرب ليلة القمر
( شربنا بمصباح السماء مدامة ... بشاطي غدير والأزاهر تنفح )
( وظل جهول يرقب الصبح ضلة ومن أكؤسي لم يبرح الليل يصبح ) وكان أبو عبد الله بن الحاج المعروف بمدغليس صاحب الموشحات يشرب مع ندماء ظراف في جنة بهجة فجاءتهم ورقة من من ثقيل يرغب في الإذن وكان له ابن مليح فكتب إليه مدغليس
( سيدي هذا مكان ... لا يرى فيه بلحيه )
( غير تيس مصفعاني ... له بالصفع كديه )
( أوله ابن شافع فيه ... فيلقى بالتحيه )
( أيها القابل بادر ... سائقا تلك المطيه )
وكان مدغليس هذا مشهورا بالانطباع والصنعة في الأزجال خليفة ابن قزمان في زمانه وكان أهل الأندلس يقولون ابن قزمان في الزجالين بمنزلة المتنبي في الشعراء ومدغليس بمنزلة أبي تمام بالنظر إلى الانطباع والصناعة فابن قزمان ملتفت إلى المعنى ومدغليس ملتفت للفظ وكان أديبا معربا لكلامه مثل ابن قزمان ولكنه لما رأى نفسه في الزجل أنجب اقتصر عليه ومن شعره قوله
( ما ضركم لو كتبتم ... حرفا ولو باليسار )
( إذ أنتم نور عيني ... ومطلبي واختياري )

وقال الخطيب الأديب النحوي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الفراء - المذكور قبل هذا بقريب - الضرير في صبي كان يقرأ عليه النحو اسمه حسن وهو في غاية الجمال - بعد أن سأله كيف تقول إذا تعجبت من حسنك فقال أقول ما أحسني -
( يا حسنا ما لك لم تحسن ... إلى نفوس بالهوى متعبه )
( رقمت بالورد وبالسوسن ... صفحة خد بالسنا مذهبه )
( وقد أبى صدغك أن أجتني ... منه وقد ألدغني عقربه )
( يا حسنه إذ قال ما أحسني ... ويا لذاك اللفظ ما أعذبه )
( ففوق السهم ولم يخطني ... وإذ رآني ميتا أعجبه )
( وقال كم عاش وكم حبني ... وحبه إياي قد عذبه )
( يC على أنني ... قتلي له لم أدر ما أوجبه ) هذا ابن الفراء من فضلاء المائة السادسة ذكره ابن غالب في فرحة الأنفس في فضلاء العصر من الأندلس وكان شاعرا مجيدا يعلم بالمرية القرآن والنحو واللغة وكانت فيه فطنة ولوذعية وذكاء وألمعية خرق بها العوائد وحكي أن قاضي المرية قبل شهادته في سطل ميزه في حمام باللمس واختبره في ذلك بحكاية طويلة وذكره صفوان في زاد المسافر ووصفه بالخطيب

رسالة أبي عبد الله ابن الفراء إلى ابن تاشفين
وجده القاضي أبو عبد الله ابن الفراء مشهور بالصلاح والفضل والزهد ومن العجائب أنه ليس له ترجمة في ( ( المغرب ) ) ولما كتب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى أهل ألمرية يطلب منهم المعونة جاوبه بكتابه المشهور الذي يقول فيه فما ذكره أمير المسلمين من اقتصاء المعونة وتأخري عن ذلك وأن

الباجي وجميع القضاة والفقهاء بالعدوة والأندلس أفتوا بأن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه اقتضاها وكان صاحب رسول الله وضجيعه في قبره ولا يشك في عدله فليس أمير المسلمين بصاحب رسول الله ولا بضجيعه في قبره ولا من لا يشك في عدله فإن كان الفقهاء والقضاة أنزلوك بمنزلته في العدل فالله تعالى سائلهم عن تقلدهم فيك وما اقتضاها عمر رضي الله تعالى عنه حتى دخل مسجد رسول الله وحلف أن ليس عنده درهم واحد في بيت مال المسلمين ينفقه عليهم فتدخل المسجد الجامع هنالك بحضرة من أهل العلم وتحلف أن ليس عندك درهم واحد ولا في بيت مال المسلمين وحينئذ تستوجب ذلك والسلام انتهى
وأما ابن الفراء الأخفش بن ميمون الذي ذكره الحجاري في المسهب فليس هو من هؤلاء بل هو من حصن القبذاق من أعمال قلعة بني سعيد وتأدب في قرطبة ثم عاد إلى حضرة غرناطة واعتكف بها على مدح وزيرها اليهودي وهو القائل
( صابح محياه تلق النجح في الأمل ... وانظر بناديه حسن الشمس في الحمل )
( ما إن يلاقي خليل فيه من خلل ... وكلما حال صرف الدهر لم يحل ) وكان يهاجي المنفتل شاعر إلبيرة ومن هجاء المنفتل له قوله
( لابن ميمون قريض ... زمهرير البرد فيه )
( فإذا ما قال شعرا ... نفقت سوق أبيه )
ولما وفد على المرية مدح رفيع الدولة بن المعتصم بن صمادح بشعر فقال له

بعض من أراد ضره يا سيدي لا تقرب هذا اللعين فإنه قال في اليهودي
( ولكن عندي للوفاء شريعة ... تركت بها الإسلام يبكي على الكفر )
فقال رفيع الدولة هذا والله هو الحر الذي ينبغي أن يصطنع فلولا وفاؤه ما بكى كافرا بعد موته وقد وجدنا في أصحابنا من لا يرعى مسلما في حياته
وقال فيه بن المنفتل
( إن كنت أخفش عين ... فإن قلبك أعمى )
( فكيف تنثر نثرا ... وكيف تنظم نظما )
ومن شعر الأخفش المذكور قوله
( إذا زرتكم غبا فلم ألق بالبر ... وإن غبت لم أطلب ولم أجر في الذكر )
( فإني إذن أولى الورى بفراقكم ... ولا سيما بعد التجلد والصبر )
ولما وفد على المنصور بن أبي عامر الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن مسعود الغساني البجاني اتهم برهق في دينه فسجنه في المطبق مع الطليق القرشي والطليق غلام وسيم وكان ابن مسعود كلفا به يومئذ وفيه يقول
( غدوت في السجن خدنا لابن يعقوب ... وكنت أحسب هذا في التكاذيب )
( رامت عداتي تعذيبي وما شعرت ... أن الذي فعلوه ضد تعذيبي )
( راموا بعادي عن الدنيا وزخرفها ... فكان ذلك إدنائي وتقريبي )
( لم يعلموا أن سجني لا أبا لهم ... قد كان غاية مأمولي ومرغوبي

وانطلق ابن مسعود والطليق قبله ووقع بينه وبين الطليق وعاد المدح هجاء فقال فيه
( ولي جليس قربه مني ... بعد الأماني كذبا عني )
( قد قذيت من لحظه مقلتي وقرحت من لفظه أذني
( هون لي في السجن من قربه ... أشد في السجن من السجن )
( لو أن خلقا كان ضدا له ... زاد على يوسف في الحسن )
( إذا ارتمى فكري في وجهه ... سلط إبطيه على ذهني )
( كأنما يجلس من ذا وذا ... بين كنيفين من النتن )
وقال يخاطب المنصور من السجن
( دعوت لما عيل صبري فهل ... يسمع دعواي المليك الحليم )
( مولاي مولاي ألا عطفة ... تذهب عني بالعذاب الأليم )
( إن كنت أضمرت الذي زخرفوا ... عني فدعني للقدير الرحيم )
( فعنده نزاعة للشوى ... وعنده الفردوس ذات النعيم )
وركب بعض أهل المرية في وادي إشبيلية فمر على طاقة من طاقات شنتبوس وهو يغني
( خلين من واد ومن قوارب ... ومن نزاها في شنتبوس )
( غرس الحبق الذي في داري ... أحب عندي من العروس )
فأخرجت رأسها جارية وقالت له من أي البلاد أنت يا من غنى فقال

من ألمرية فقالت وما أعجبك في بلدك حتى تفضله على وادي إشبيلية وهو بوجه مالح وقفا أحرش وهذا من أحسن تعييب وذلك أنها أتته بالنقيض من إشبيلية فإن وجهها النهر العذب وقفاها بجبال الرحمة أشجار التين والعنب لا تقع العين إلا على خضرة في أيام الفرج وأين إشبيلية من المرية وفي ألمرية يقول السميسر شاعرها
( بئس دار المرية اليوم دارا ... ليس فيها لساكن ما يحب )
( بلدة لا تمار إلا بريح ... ربما قد تهب أو لا تهب )
يشير إلى أن مرافقها مجلوبة وأن الميرة تأتيها في البحر من بر العدوة وفيها يقول أيضا
( قالوا المرية فيها ... نظافة قلت إيه )
( كأنها طست تبر ... ويبصق الدم فيه )
وحكى مؤرخ الأندلس أبو الحجاج البياسي أنه دخل عليه في مجلس أنس شيخ ضخم الجثة مستثقل فقال البياسي
( اسقني الكأس صاحيه ... ودع الشيخ - ناحيه )
فقال الكاتب أبو جعفر أحمد بن رضي
( إن تكن ساقيا ... له ليس ترويه ساقيه )
وحكي أن العالي إدريس الحمودي لما عاد إلى ملكه بمقالة وبخ قاضيها الفقيه أبا علي بن حسون وقال له كيف بايعت عدوي من بعدي وصحبته فقال وكيف تركت أنت ملكك لعدوك فقال ضرورة القدرة حملتني على ذلك فقال وأنا أيضا حصلت في يد من لا يسعني إلا طاعته

ومن نظم القاضي المذكور
( رفعت من دهري إلى جائر ... ويبتغي العدل بأحكامي )
( أضحت به أملاكه مثل أشكال ... خيال طوع أيام )
( هذا لما أبرم ذا ناقض ... كأنهم في حكم أحلام )
وكان الفقيه العالم أبو محمد عبد الله الوحيدي قاضي مالقة جرى - كما قال الحجاري - في صباه طلق الجموح ولم يزل يعاقب بين غبوق وصبوح إلى أن دعاه النذير فاهتدى منه بسراج منير وأحلته تلك الرجعة فيما شاء من الرفعة
وقال بعض معاشريه كنت أماشيه زمن الشباب فكلما مررنا على إمرأة يدعو حسنها وشكلها إلى أن تحير الألباب أمال إليها طرفه ولم ينح عنها صرفه ثم سايرته بعد لما رجع عن ذلك واقتصر فرأيته يغض البصر ويخلي الطريق معرضا إلى ناحية متى زاحمته امرأة ولو حكت الشمس ضاحية فقلت له في ذلك فقال
( ذاك وقت قضيت فيه غرامي ... من شبابي في سترة الإظلام )
( ثم لما بدا الصباح لعيني ... من مشيبي ودعته بسلام )
ومن شعره فيصباه
( لا ترتجوا رجعتي باللوم عن غرضي ... ولتتركوني وصيدي فرصة الخلس )
( طلبتم رد قلبي عن صبابته ... ومن يرد عنان الجامح الشرس )
ولما أقصر باطله وعريت أفراس الصبا ورواحله قال

( ولما بدا شيبي عطفت على الهدى ... كما يهتدي حلف السرى بنجوم )
( وفارقت أشياع الصبابة والطلا ... وملت إلى أهلي علا وعلوم )
ولما تألب بنو حسون على القاضي الوحيدي المذكور صادر عنه العالم الأصولي أبو عبد الله بن الفخار وطلع في حقه إلى حضرة الإمامة مراكش وقام في مجلس أمير المسلمين ابن تاشفين وهو قد غص بأربابه وقال إنه لمقام كريم نبدأ فيه بحمد الله على الدنو منه ونصلي على خيرة أنبيائه محمد الهادي إلى الصراط المستقيم وعلى آله وصحابته نجوم الليل البهيم أما بعد فأنا نحمد الله الذي اصطفاك للمسلمين أميرا وجعلك للدين الحنيفي نصيرا وظهيرا ونفزع إليك مما دهمنا في حماك ونبث إليك ما لحقنا من الضيم ونحن تحت ظل علاك ويأبى الله أن يدهم من احتمى بأمير المسلمين ويصاب بضيم من ادرع بحصنه الخصين شكوى قمت بها بين يديك في حق أمرك الذي عضده مؤيده لتسمع منها ما تختبره برأيك وتنقده وإن قاضيك ابن الوحيدي الذي قدمته في مالقة للأحكام ورضيت بعدله فيمن بها من الخاصة والعوام لم يزل يدل على حسن اختيارك بحسن سيرته ويرضي الله تعالى ويرضي الناس بظاهره وسريرته ما علمنا عليه من سوء ولا درينا له موقف خزي ولم يزل جاريا على ما يرضي الله تعالى ويرضيك ويرضينا إلى أن تعرضت بنو حسون إلى الطعن في أحكامه والهد من أعلامه ولم يعلموا أن اهتضام المقدم راجع على المقدم بل جمحوا في لجاجهم فعموا وصموا وفعلوا وأمضوا ما به هموا
( وإلى السحب يرفع الكف من قد ... جف عنه مسيل عين ونهر )
فملأ سمعه بلاغة أعقبت نصره ونصر صاحبه من
ومن شعر ابن الفخار المذكور ويعرف بابن نصف الربض قوله
( أمستنكر شيب المفارق في الصبا ... وهل ينكر النور المفتح في الغصن )
( أظن طلاب المجد شيب مفرقي ... وإن كنت في إحدى وعشرين من سني )

وقوله
( أقل عتابك إن الكريم ... يجازي على حبه بالقلى )
( وخل اجتنابك إن الزمان ... يمر بتكديره ما حلا )
( وواصل أخاك بعلاته ... فقد يلبس الثوب بعد البلى )
( وقل كالذي قاله شاعر ... نبيل وحقك أن تنبلا )
( إذا ما خليل أسا مرة ... وقد كان فيما مضى مجملا )
( ذكرت المقدم من فعله ... فلم يفسد الآخر الأولا )
ولما وفد أبو الفضل ابن شرف من برجة في زي تظهر عليه البداوة بالنسبة إلى أهل حضرة المملكة العظمى أنشده قصيدته القائقة
( مطل الليل بوعد الفلق ... وتشكى النجم طول الأرق )
( ضربت ريح الصبا مسك الدجى ... فاستفاد الروض طيب العبق )
( وألاح الفجر خدا خجلا ... جال من رشح الندى في عرق )
( جاوز الليل إلى أنجمه ... فتساقطن سقوط الورق )
( واستفاض الصبح فيه فيضة ... أيقن النجم لها بالغرق )
( فانجلى ذاك السنا عن حلك ... وانمحى ذاك الدجى عن شفق )
( بأبي بعد الكرى طيف سرى ... طارقا عن سكن لم يطرق )
( زارني والليل ناع سدفه ... وهو مطلوب بباقي الرمق )
( ودموع الطل تمريها الصبا ... وجفون الروض غرقى الحدق )
( فتأنى في إزار ثابت ... وتثنى في وشاح قلق )
( وتجلى وجهه عن شعره ... فتجلى فلق عن غسق )
( نهب الصبح دجى ليلته ... فحبا الخد ببعض الشفق )

( سلبت عيناه حدي سيفه ... وتحلى خده بالرونق )
( وامتطى من طرفه ذا خبب ... يلثم الغبراء إن لم يعنق )
( أشوس الطرف علته نخوة ... يتهادى كالغزال الخرق )
( لو تمطى بين أسراب المها ... نازعته في الحشا والعنق )
( حسرت دهمته عن غرة ... كشفت ظلماؤها عن يقق )
( لبست أعطافه ثوب الدجى ... وتحلى خده باليقق )
( وانبرى تحسبه أجفل عن ... لسعة أو جنة أو أولق )
( مدركا بالمهل ما لا ينتهي ... لاحقا بالرفق ما لم يلحق )
( ذو رضى مستتر في غضب ... ذو وقار منطو في خرق )
( وعلى خد كعضب أبيض ... أذن مثل سنان أزرق )
( كلما نصبها مستمعا ... بدت الشهب إلى مسترق )
( حاذرت منه شبا خطية ... لا يجيد الخط ما لم يمشق )
( كلما شامت عذاري خده ... خفقت خفق فؤاد الفرق )
( في ذرا ظمآن فيه هيف ... لم يدعه للقضيب المورق )
( يتلقاني بكف مصقع ... يقتفي شأو عذار مفلق )
( إن يدر دورة طرف يلتمح ... أو يجل جول لسان ينطق )
( عصفت ريح على أنبوبه ... وجرت أكعبه في زئبق )
( كلما قلبه باعد عن ... متن ملساء كمثل البرق )
( جمع السرد قوى أزرارها ... فتآخذن بعهد موثق )
( أوجبت في الحرب من وخز القنا ... فتوارت حلقا في حلق )
( كلما دارت بها أبصارها ... صورت منها مثال الحدق )
( زل عنه متن مصقول القوى ... يرتمي في مائها بالحرق )

( لو نضا وهو عليه ثوبه ... لتعرى عن شواظ محرق )
( أكهب من هبوات أخضر ... من فرند أحمر من علق )
( وارتوت صفحاه حتى خلته ... بحيا من لكفيك سقي )
( يا بني معن لقد ظلت بكم ... شجر لولاكم لم تورق )
( لو سقي حسان إحسانكم ... ما بكى ندمانه في جلق )
( أو دنا الطائي من حيكم ... ما حدا البرق لربع الأبرق )
( أبدعوا في الفضل حتى كلفوا ... كاهل الأيام ما لم يطق )
فلما سمعها المعتصم لعبت بارتياحه وحسده بعض من حضر وكان من جملة من حسده ابن أخت غانم فقال له من أي البوادي أنت قال أنا من الشرف في الدرجة العالية وإن كانت البادية علي بادية ولا أنكر حالي ولا أعرف بخالي فمات ابن أخت غانم خجلا وشمت به كل من حضر
وابن شرف المذكور هو الحكيم الفيلسوف أبو الفضل جعفر ابن أديب إفريقية أبي عبد الله محمد بن شرف الجذامي ولد ببرجة وقيل إنه دخل الأندلس مع أبيه وهو ابن سبع سنين ومن نظمه قوله
( رأى الحسن ما في خده من بدائع ... فأعجبه ما ضم منه وحرفا )
( وقال لقد ألفيت فيه نوادرا ... فقلت له لا بل غريبا مصنفا )
وقوله
( قد وقف الشكر بي لديكم ... فلست أقوى على الوفاده )
( ونلت أقصى المراد منكم ... فصرت أخشى من الزياده )

وقوله
( إذا ما عدوك يوما سما ... إلى رتبة لم تطق نقضها )
( فقبل ولا تأنفن كفه ... إذا أنت لم تستطع عضها )
وقوله وقد تقدم به على كل شاعر
( لم يبق للجور في أيامهم أثر إلا غير الذي في عيون الغيد من حور )
وأول هذه القصيدة قوله
( قامت تجر ذيول العصب والحبر ... ضعيفة الخصر والميثاق والنظر ) وكان قد قصر أمداحه على المعتصم وكان يفد عليه في الأعياد وأوقات الفرج والفتوحات فوفد عليه مرة يشكو عاملا ناقشه في قرية يحرث فيها وأنشده الرائية التي مر مطلعها إلى أن بلغ قوله
( لم يبق للجور البيت ... )
فقال له كم في القرية التي تحرث فيها فقال فيها نحو خمسين بيتا فقال له أنا أسوغك جميعها لهذا البيت الواحد ثم وقع له بها وعزل عنها نظر كل وال
وله ابن فيلسوف شاعر مثله وهو أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المذكور وهو القائل
( وكريم أجارني من زمان ... لم يكن من خطوبه لي بد )
( منشد كلما أقول تناهى ... ما لمن يبتغي المكارم حد )

وابن أخت غانم هو العالم اللغوي أبو عبد الله محمد بن معمر من أعيان مآلقة متفنن في علوم شتى إلا أن الغالب عليه علم اللغة وكان قد رحل من مآلقة إلى المرية فحل عند ملكها المعتصم بن صمادح بالمكانة العلية وهو القائل في ابن شرف المذكور
( قولوا لشاعر برجة هل جاء من ... أرض العراق فحاز طبع البحتري )
( وافى باشعار تضج بكفه ... وتقول هل أعزى لمن لم يشعر )
( يا جعفرا رد القريض لأهله ... واترك مباراة لتلك الأبحر )
( لا تزعمن ما لم تكن أهلا له ... هذا الرضاب لغير فيك الأبخر )
وذكره ابن اليسع في معربه وقال إنه حدثه بداره في مالقة وهو ابن مائة سنة وأخذ عنه عام أربعة وعشرين وخمسمائة وله تآليف منها شرح كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري في ستين مجلدا وغير ذلك وغانم خاله الذي يعرف به هو الإمام العالم غانم المخزومي نسب إليه لشهرة ذكره وعلو قدره
ولما قرأ العالم الشهير أبو محمد بن عبدون في أول شبابه على أبي الوليد ابن ضابط النحوي المالقي جرى بين يديه ذكر الشعر وكان قد ضجر منه فقال
( الشعر خطة خسف ... )
فقال ابن عبدون معرضا به حين كان مستجديا بالنظم وكان إذ ذاك شيخا
( لكل طالب عرف ... )

( للشيخ عيبة عيب ... وللفتى ظرف ظرف )
وابن ضابط هو القائل في المظفر بن الأفطس
( نظمنا لك الشعر البديع لأننا ... علمنا بأن الشعر عندك ينفق )
( فإن كنت مني بامتداح مظفرا ... فإني في قصدي إليك موفق )
المخزومي ودخل غانم المخزومي السابق ذكره وهو من رجال الذخيرة على الملك بن حبوس صاحب غرناطة فوسع له على ضيق كان في المجلس فقال
( صير فؤادك للمحبوب منزلة ... سم الخياط مجال للمحبين )
( ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلما تسع الدنيا بغيضين )
وهو القائل
( وقد كنت أغدو نحو قطرك فارحا ... فها أنا أغدو نحو قبرك ثاكلا )
( وقد كنت في مدحيك سحبان وائل ... فها أنا من فرط التأسف باقلا )
وله أيضا
( الصبر أولى بوقار الفتى ... من ملك يهتك ستر الوقار )
( من لزم الصبر على حالة ... كان على أيامه بالخيار )
وكتب أبو علي الحسن بن الغليظ إلى صاحبه أبي عبد الله بن السراج وقد قدم من سفر

( يا من أقلب طرفي في محاسنه ... فلا أرى مثله في الناس إنسانا )
( لو كنت تعلم ما لقيت بعدك ما ... شربت كأسا ولا استحسنت ريحانا )
فورد عليه من حينه وقال أردت مجاوبتك فخفت أن أبطىء وصنعت الجواب في الطريق
( يا من إذا ما سقتني الراح راحته ... أهدت إلي بها روحا وريحانا )
( من لم يكن في صباح السبت يأخذها ... فليس عندي بحكم الظرف إنسانا )
( فكن على حسن هذا اليوم مصطبحا مذكرا حسنا فيه وإحسانا )
( وفي البساتين إن ضاق المحل بنا ... مندوحة لا عدمنا الدهر بستانا )
ووفد أبو علي الحسن بن كسرين المالقي الشاعر المشهور على ملك إشبيلية السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن أمير المؤمنين يوسف ابن امير المؤمنين عبد المؤمن بن علي فأنشده قصيدة طار مطلعها في الاقطار كل مطار وهو
( قسما بحمص إنه لعظيم ... فهي المقام وأنت إبراهيم )
ووصف الشاعر عطاء المالقي غادة جعلت على رأسها تاجا فقال
( وذات تاج رصعوا دوره ... فزاد في لألائها بالآل )
( كأنها شمس وقد توجت ... بأنجم الجوزاء فوق الهلال )
( قد اشتكى الخلخال منها إلى ... سوارها فاشتبها في المقال )
( وأجريا ذكر الوشاح الذي لما يزل من خصرها في مجال )
( فقال لم أرض بما نلته ... وليتني مثلكما لا أزال )
( لأغص بالخصر وأعيا به ... كغص ظمآن بماء زلال )
( وإنما الدهر بغير الرضى ... يقضي فكل غير راض بحال )

وهو القائل
( سل بحمامنا الذي ... كل عن شكره فمي )
( كم أراني بقربه ... جنة في جهنم )
وكان يحضر حلقة الإمام السهيلي وضيء الوجه من تلامذته فانقطع لعارض فخرج السهيلي مارا في الطريق الذي جرت عادته بالمشي فيه فوجد قناة تصلح فمنعته من المرور فرجع وسلك طريقا آخر فمر على دار تلميذه الوضيء فقال له بعض أصحابه ممازحا بعبوره على منزله فقال نعم وأنشد ارتجالا
( جعلت طريقي على بابه ... ومالي على بابه من طريق )
( وعاديت من أجله جيرتي ... وآخيت من لم يكن لي صديق )
( فإن كان قتلي حلالا لكم ... فسيروا بروحي سيرا رفيق )
وأبو القاسم السهيلي مشهور عرف به ابن خلكان وغيره
ويكنى أيضا بأبي زيد وهو صاحب كتاب الروض الأنف وغيره
واجتاز على سهيل وقد خربه العدو لما أغار عليه وقتلوا أهله وأقاربه وكان غائبا عنهم فاستأجر من أركبه دابة وأتى به إليه فوقف بإزائه
( يا دار أين البيض والآرام أم أين جيران علي كرام )
( راب المحب من المنازل أنه ... حيا فلم يرجع إليه سلام )
( لما أجابني الصدى عنهم ولم يلج المسامع للحبيب كلام طارحت ورق حمامها مترنما بمقال صب والدموع سجام ( يا دار ما فعلت بك الأيام ضامتك والأيام ليس تضام )

وجرى بين السهيلي والرصافي الشاعر المشهور ما اقتضى قول الرصافي
( عفا الله عني فإني امرؤ ... أتيت السلامة من بابها )
( على أن عندي لمن هاجني ... كنائن غصت بنشابها )
( ولو كنت أرمي بها مسلما ... لكان السهيلي أولى بها )
وتوفي السهيلي بمراكش سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وزرت قبره بها مرارا سنة عشر وألف وسكن رحمه الله تعالى إشبيلية مدة ولازم القاضي أبا بكر بن العربي وابن الطراوة وعنه أخذ لسان العرب وكان ضريرا ومن شعره أيضا لما قال ( ( كيف أمسيت ) ) موضع ( ( كيف أصبحت ) )
( لئن قلت صبحا كيف أمسيت مخطئا ... فما أنا في ذاك الخطا بملوم )
( طلعت وأفقي مظلم لفراقكم ... فخلتك بدرا والمساء همومي )
وحكي أن الوزير الكاتب أبا الفضل بن حسداي الإسلامي السرقسطي وهو من رجال الذخيرة عشق جارية ذهبت بلبه وغلبت على قلبه فجن بها جنونه وخلع عليها دينه وعلم بذلك صاحبه فزفها إليه وجعل زمامها في يديه فتحافى عن موضعه من وصلها أنفة من أن يظن الناس أن إسلامه كان من أجلها فحسن ذكره وخفي على كثير من الناس أمره ومن شعره قوله
( وأطربنا غيم يمازج شمسه ... فيستر طورا بالسحاب ويكشف )
( ترى قزحا في الجو يفتح قوسه ... مكبا على قطن من الثلج يندف )
وكان في مجلس المقتدر بن هود ينظر في مجلد فدخل الوزير الكاتب أبو

الفضل بن الدباغ وأراد أن يندر به فقال له وكان ذلك بعد إسلامه يا أبا الفضل ما الذي تنظر فيه من الكتب لعله التوراة فقال نعم وتجليدها من جلد دبغه من تعلم فمات خجلا وضحك المقتدر
وأراد الشاعر أبو الربيع سليمان السرقسطي حضور نديم له فكتب إليه
( بالراح والريحان والياسمين ... وبكرة الندمان قبل الأذين )
( وبهجة الروض بأندائه مقلدا منه بعقد ثمين ألا أجب سبقا ندائي إلى الكأس ... تبدت لذة الشاربين )
( هامت بها الأعين من قبل أن ... يخبرها الذوق بحق اليقين )
( لاحت لدينا شفقا معلنا ... فكن لها بالله صبحا مبين )
وكتب علي بن خير التطيلي إلى ابن عبد الصمد السرقسطي يستدعيه إلى مجلس أنس أنا - أطال الله تعالى بقاء الكاتب سراج العلم وشهاب الفهم ! - في مجلس قد عبقت تفاحه وضحكت راحه وخفقت حولنا للطرب ألوية وسالت بيننا للهو أودية وحضرتنا مقلة تسأل منك إنسانها وصحيفة فكن عنوانها فإن رأيت أن تجعل إلينا القصد لنحصل بك في جنة الخلد صقلت نفوسا أصدأها بعدك وأبرزت شموسا أدجاها فقدك

فأجابه ابن عبد الصمد فضضت - أيها الكاتب العليم والمصقع الحبر الصميم - طابع كتابك فمنحني منه جوهر منتخب لا يشوبه مخشلب هو السحر إلا أنه حلال دل على ود حنيت ضلوعك عليه ووثيق عهد انتدب كريم سجيتك إليه فسألت فالق الحب وعامر القلب بالحب أن يصون لي حظي منك ويدرأ لي النوائب عنك ولم يمنعني أن أصرف وجه الإجابة إلى مرغوبك وأمتطي جواد الانحدار إلى محبوبك إلا عارض ألم ألم بي فقيد يقيده نشاطي وروى براحته بساطي وتركني أتململ على فراشي كالسليم وأستمطر الإصباح منم الليل البهيم وأنا منتظر لإدباره
ومن لطف أهل الأندلس ورقة طباعهم ما حكاه أبو عمرو بن سالم المالقي قال كنت جالسا بمنزلي بمالقة فهاجت نفسي أن أخرج إلى الجبانة وكان يوما شديد الحر فراودتها على القعود فلم تمكني من القعود فمشيت حتى انتهيت إلى مسجد يعرف برابطة الغبار وعنده الخطيب أبو محمد عبد الوهاب بن علي المالقي فقال لي إني كنت أدعو الله تعالى أن يأتيني بك وقد فعل فالحمد لله فأخبرته بما كان مني ثم جلست عنده فقال أنشدني فأنشدته لبعض الأندلسيين
( غصبوا الصباح فقسموه خدودا ... واستوعبوا قضب الأراك قدودا )
( ورأوا حصى الياقوت دون نحورهم ... فتقلدوا شهب النجوم عقودا )
( لم يكفهم حد الأسنة والظبى حتى استعاروا أعينا وخدودا )
فصاح الشيخ وأغمي عليه وتصبب عرقا ثم أفاق بعد ساعة وقال يا بني اعذرني فشيئان يقهراني ولا أملك نفسي عندهما النظر إلى الوجه الحسن وسماع الشعر المطبوع انتهى
وستأتي هذه الأبيات في هذا الباب

بأتم من هذا وعلى كل حال فهي لأهل الأندلس لا لابن دريد كما ذكره بعضهم وسيأتي تسمية صاحبها الأندلسي كما في كتاب المغرب لابن سعيد العنسي المشهور رحمه الله تعالى
وقال بعض الأدباء ليحيى الجزار وهو يبيع لحم ضأن
( لحم إناث الكباش مهزول ... )
فقال يحيى
( يقول للمشترين مه زولوا ... )
وقال التطيلي الأعمى في وصف أسد رخام يرمي بالماء على بحيرة
( أسد ولو أني أنا ... قشه الحساب لقلت صخره )
( وكأنه أسد السماء ... يمج من فيه المجره ) وحضر جماعة من أعيان الأدباء مثل الأبيض وابن بقي وغيرهما من الوشاحين واتفقوا على أن يصنع كل واحد منهم موشحة فلما أنشد الأعمى موشحته التي مطلعها
( ضاحك عن جمان ... سافر عن بدر )
( ضاق عنه الزمان ... وحواه صدري )
خرق كل منهم موشحته
وتحاكمت امرأة إلى القاضي أبي محمد عبد الله اللاردي الأصبحي

وكانت ذات جمال ونادرة فحكم لزوجها عليها فقالت له من يضيع قلبه كل طرف فاتر جدير أن يحكم بهذا تشير إلى قوله
( أين قلبي أضاعه كل طرف ... فاتر يصرع الحليم لديه )
( كلما ازداد ضعفه ازداد ... فتكا أي صبر ترى يكون عليه )
وحضر أبو إسحاق بن خفاجة مجلسا بمرسية مع أبي محمد جعفر بن عنق الفضة الفقيه السالمي وتذاكرا فاستطال ابن عنق الفضة ولعب بأطراف الكلام ولم يكن ابن خفاجة يعرفه فقال له يا هذا لم تترك لأحد حظا في هذا المجلس ! فليت شعري من تكون فقال أنا القائل
( الهوى علمني سهد الليال ... ونظام الشعر في هذي اللآل )
( كلما هبت شمال منهم ... لعبت بي عن يمين وشمال )
( وأرقت فكرتي أرواحها ... فأتت منهن بالسحر الحلال )
( كان كالملح أجاجا خاطري ... وسحاب الحب أبدته زلال )
فاهتز ابن خفاجة وقال من يكون هذا قوله لا ينبغي أن يجهل ولك المعذرة في جهلك فإنك لم تعرفنا بنفسك فبالله من تكون فقال أنا فلان فعرفه وقضى حقه
وحكى ابن غالب في فرحة الأنفس أن الوزير أبا عثمان ابن شنتفير وأبا عامر ابن عند شلب وفدا رسولين على المعتمد بن عباد عن إقبال الدولة بن مجاهد والمعتصم بن صمادح والمقتدر بن هود لإصلاح ما كان بين المعتمد وبين ابن ذي النون فسر المعتمد بهم وأكرمهم ودعاهم إلى طعام صنعه لهم وكان لا يظهر شرب الراح منذ ولي الملك فلما رأوا انقباضه عن ذلك تحاموا الشراب فلما أمر بكتب أجوبتهم كتب إليه أبو عامر

( بقيت حاجة لعبد رغيب ... لم يدع غيرها له من نصيب )
أنا خيرية المساء حديثا ... وأنا في الصباح أخشى رقيبي )
( فإذا أمس كان عندي نهارا ... لم تخفني عليه بعد الغروب )
( وإذا الليل جن حدثت جلاسي ... بما كان من حديث غجيب )
( قيل إن الدجى لديك نهار ... وكذاك الدجى نهار الأريب )
( فتمنيت ليلة ليس فيها ... لذكا ذلك السنا من مغيب )
( حيث أعطيك في الخلاء وتعطيني ... مداما كمثل ريق الحبيب )
( ثم أغدو كأنني كنت في النوم ... وأخفي المنام خوف هزيب )
والهزيب الرقيب العتيد في كلام أهل الأندلس فسر المعتمد وانبسط بانبساطه وضحك من مجونه وكتب إليه
( يا مجابا دعا إلى مستجيب ... فسمعنا دعاءه من قريب )
( إن فعلت الذي دعوت إليه ... كنت فيما رغبت عين رغيب )
واستحضره فنادمه خاليا وكساه ووصله وانقلب مسرورا وظن المعتمد أن ذلك يخفى من فعله عن ابن شنتفير فأعلم بالأمر القائد ابن مرتين فكاد يتفطر حسدا وكتب إلى المعتمد
( أنا عبد أوليته كل بر ... لم تدع من فنون برك فنا )
( غير رفع الحجاب في شربك الرا ح ... فماذا جناه أن يتجنى )
( وتمنى شراب سؤرك في الكأس ... فبالله أعطه ما تمنى ) فسرته أبياته وأجابه

( يا كريم المحل في كل معنى ... والكريم المحل ليس يعنى )
( هذه الخمر تبتغيك فخذها ... أو فدعها أو كيفما شئت كنا )
وكان يقرأ في مجلس ملك السهلة أبي مروان بن رزين ذي الرياستين ديوان شعر محمد بن هانئ وكان القارئ فيه بله فلما وصل إلى قوله
( حرام حرام زمان الفقير ... ) اتفق أن عرض للملك ما اشتغل به فقال للقارئ أين وقفت فقال في حرام فقام الملك وقال هذا موضع لا أقف معك فيه ادخل أنت وحدك ثم دخل إلى قصره وانقلب المجلس ضحكا وكان للملك المذكور وزير من أعاجيب الدهر وهو الكاتب أبو بكر ابن سدراي وذكره الحجاري في المسهب وقال إن له شعرا أرق من نسيم السحر وأندى من الطل على الزهر ومنه قوله
( ما ضركم لو بعثتم ... ولو بأدنى تحيه )
( تهزني من شذاها ... إليكم الأريحيه )
( خذوا سلامي إليكم ... مع الرياح النديه )
( في كل سحرة يوم ... تترى وكل عشيه )
( يا رب طال اصطباري ... ما الوجد إلا بليه )
( غيلان بالشرق أضحى ... وحلت الغرب ميه )
وقوله
( سأبغي المجد في شرق وغرب ... فما ساد الفتى دون اغتراب )

( فإن بلغت مأمولا فإني ... جهدت ولم أقصر في الطلاب )
( وإن أنا لم أفز بمراد سعيي ... فكم من حسرة تحت التراب )
وقال ملك بلنسية مروان بن عبد العزيز لما ولي مكانه من لا يساويه
( ولا غرو بعدي أن يسود معشر ... فيضحي لهم يوم وليس لهم أمس )
( كذاك نجوم الجو تبدو زواهرا ... إذا ما توارت في مغاربها الشمس )
وقال ابن دحية دخلت عليه وهو يتوضأ فنظر إلى لحيته وقد اشتعلت بالشيب اشتعالا فأنشدني لنفسه ارتجالا
( ولما رأيت الشيب أيقنت أنه ... نذير لجسمي بانهدام بنائه )
( إذا ابيض مخضر النبات فإنه ... دليل على استحصاده وفنائه ) واعتل ابن ذي الوزارتين أبي عامر بن الفرج وزير المأمون بن ذي النون وهو من رجال الذخيرة والقلائد فوصف له أن يتداوى بالخمر العتيق وبلغه أن عند بعض الغلمان منها شيئا فكتب إليه يستهديه
( ابعث بها مثل ودك ... أرق من ماء خدك )
( شقيقة النفس فانضح ... بها جوى ابني وعبدك )
وهو القائل معتذرا عن تخلفه عمن جاءه منذرا

( ما تخلفت عنك إلا لعذر ... ودليلي في ذاك خوفي عليكا )
( هبك أن الفرار من غير عذر ... أتراه يكون إلا إليكا ) وله من رسالة هناء
( أهنئ بالعيد من وجهه ... هو العيد لو لاح لي طالعا )
( وأدعو إلي الله سبحانه ... بشمل يكون لنا جامعا )
وكتب إلى الوزير المصري يستدعيه أن يكون من ندمائه فكتب إليه الوزير المصري يستعلمه اليوم فلما أراده كتب إليه
( ها قد أهبت بكم وكلكم هوى ... وأحقكم بالشكر مني السابق )
( كالشمس أنت وقد أظل طلوعها ... فاطلع وبين يديك فجر صادق )
وله في رئيس مرسية أبي عبد الرحمن بن طاهر وكان ممتع المجالسة كثير النادرة
( قد رأينا منك الذي قد سمعنا ... فغدا الخبر عاضد الأخبار )
( قد وردنا لديك بحرا نميرا ... وارتقينا حيث النجوم الدراري )
( ولكم مجلس لديك انصرفنا ... عنه مثل الصبا عن الأزهار
وشرب الأديب الفاضل أبو الحسن علي بن حريق عشية مع من يهواه ورام الانفصال عند لداره فمنعه سيل حال بينه وبين داره فبات عنده على غير اختياره فقال ابن حريق

( يا ليلة جادت الليالي ... بها على رغم أنف دهري )
( للسيل فيها علي نعمى ... يقصر عنها لسان شكري )
( أبات في منزلي حبيبي ... وقام في أهله بعذر )
( فبت لا حالة كحالي ... ضجيع بدر صريع سكر )
( يا ليلة القدر في الليالي ... لأنت خير من ألف شهر )
ومن حسنات ابن حريق المذكور قوله
( يا ويح من بالمغرب الأقصى ثوى ... حلف النوى وحبيبه بالمشرق )
( لولا الحذار على الورى لملأت ما ... بيني وبينك من زفير محرق )
( وسكبت دمعي ثم قلت لسكبه ... من لم يذب من زفرة فليغرق )
( لكن خشيت عقاب ربي إن أنا ... أحرقت أو أغرقت من لم أخلق )
وله
( لم يبق عندي للصبا لذة ... إلا الأحاديث على الخمر )
وله
( فقبلت إثرك فوق الثرى ... وعانقت ذكرك في مضجعي ) وله
( إن ماء كان في وجنتها ... وردته السن حتى نشفا )
( وذوى العناب من أنملها ... فأعادته الليالي حشفا
وأورد له أبو بحر في زاد المسافر قوله

( كلمته فاحمر من خجل ... حتى اكتسى بالعسجد الورق )
( وسألته تقبيل راحته ... فأبى وقال أخاف أحترق )
( حتى زفيري عاق عن أملي ... إن الشقي بريقه شرق ) وقوله في السواقي
( وكأنما سكن الأراقم جوفها ... من عهد نوح مدة الطوفان )
( فإذا رأينا الماء يطفح نضنضت ... من كل خرق حية بلسان )
وقال الفيلسوف أبو جعفر ابن الذهبي فيمن جمع بينه وبين أحد الفضلاء
( أيها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار )
( شكر الله ما أتيت وجازاك ... ولا زلت نجم هدي لساري )
( أي برق أفاد أي غمام ... وصباح أدى لضوء نهار )
( وإذا ما النسيم كان دليلي ... لم يحلني إلا على الأزهار )
وأنشد أبو عبد الله محمد بن عبادة الوشاح المعتصم بن صمادح شعرا يقول فيه
( ولو لم أكن عبدا لآل صمادح ... وفي أرضهم أصلي وعيشي ومولدي
( لما كان لي إلا إليهم ترحل ... وفي ظلهم أمسي اضحي وأغتدي )
فارتاح وقال يا ابن عبادة ما أنصفناك بل أنت الحر لا العبد فاشرح لنا في أملك فقال أنا عبدكم كما قال ابن نباتة
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل )

فالتفت إلى ابنه الواثق يحيى ولي عهده وقال إذا اصطنعت الرجال فمثل هذا فاصطنع ضمه إليك وافعل معه ما تقتضيه وصيتي به ونبهني إليه كل وقت فأقام نديما لولي العهد المذكور
وله فيهما الموشحات المشهورة كقوله
( كم في قدود البان ... تحت اللمم من أقمر عواطي )
( بأنمل وبنان مثل العنم ... لم تنبري للعاطي )
ولما بلغ المعتصم أن خلف بن فرج السميسر هجاه احتال في طلبه حتى حصل في قبضته ثم قال له أنشدني ما قلت في فقال له وحق من حصلني في يدك ما قلت شرا فيك وإنما قلت
( رأيت آدم في نومي فقلت له ... أبا البرية إن الناس قد حكموا )
( أن البرابر نسل منك قال إذن ... حواء طالقة إن كان ما زعموا )
فنذر ابن بلقين صاحب غرناطة دمي فخرجت إلى بلادك هاربا فوضع علي من أشاع ما بلغك عني لتقتلني أنت فيدرك ثأره بك ويكون الإثم عليك فقال وما قلت فيه خاصة مضافا إلى ما قلته في عامة قومه فقال لما رأيته مشغوفا بتشييد قلعته التي يتحصن فيها بغرناطة قلت
( يبني على نفسه سفاها ... كأنه دودة الحرير )
فقال له المعتصم لقد أحسنت في الإساءة إليه فاختر هل أحسن إليك وأخلي سبيلك أم أجيرك منه فارتجل
( خيرني المعتصم وهو بقصدي أعلم

( وهو إذا يجمع لي ... أمنا ومنا أكرم )
فقال خاطرك خاطر شيطان ولك المن والأمان فأقام في إحسانه بأوطانه حتى خلع عن ملكه وسلطانه
ولما أنشده عمر بن الشهيد قصيدته التي يقول فيها
( سبط البنان كأن كل غمامة ... قد ركبت في راحتيه أناملا )
( لا عيش إلا حيث كنت وإنما ... تمضي ليالي العمر بعدك باطلا ) التفت إلى من حضر من الشعراء وقال هل فيكم من يحسن أن يجلب القلوب بمثل هذا فقال أبو جعفر بن الخراز البطرني نعم ولكن للسعادة هبات وقد أنشدت مولانا قبل هذا أبياتا أقول فيها
( وما زلت أجني منك والدهر ممحل ... ولا ثمر يجنى ولا الزرع يحصد )
( ثمار أياد دانيات قطوفها ... لأغصانها ظل علي ممدد )
( يرى جاريا ماء المكارم تحتها ... وأطيار شكري فوقهن تغرد )
فارتاح المعتصم وقال أأنت أنشدتني هذا قال نعم قال والله كأنها ما مرت بسمعي إلى الآن صدقت للسعد هبات ونحن نجيزك عليها بجائزتين الأولى لها والثانية لمطل راجيها وغمط إحسانها انتهى

وقال بعض ذرية ملوك إشبيلية
( نثر الورد بالخليج وقد درجه ... بالهبوب مرالرياح )
( مثل درع الكمي مزقها الطعن ... فسالت بها دماء الجراح )
وقال ابن صارة في النارنج
( كرات عقيق في غصون زبرجد ... بكف نسيم الريح منها صوالج )
نقلبها طورا وطورا نشمها ... فهن خدود بيننا ونوافج )

أشعارابن الزقاق
وقال أبو الحسن بن الزقاق ابن أخت ابن خفاجة
( وما شق وجنته عابثا ... ولكنها آية للبشر )
( جلاها لنا الله كيما نرى ... بها كيف كان انشقاق القمر ) وقال
( ضربوا ببطن الواديين قبابهم ... بين الصوارم والقنا المياد )
( والورق تهتف حولهم طربا بهم ... فبكل محنية ترنم شادي )
( يا بانة الوادي كفى حزنا بنا ... أن لا نطارح غير بانة وادي )
وقال
( نحن في مجلس به كمل الأنس ... ولو زرتنا لزاد كمالا

طلعت فيه من كؤوس الحميا ... ومن الزهر أنجم تتلالا )
( غير أن النجوم دون هلال ... فلتكن منعما لهن الهلالا )
وقال
( هويتها سمراء غنت وانثنت ... فنظرت من ورقاء في أملودها )
( تشدو ووسواس الحلي يجيبها ... مهما انثنت في وشيها وعقودها )
( أو ليس من بدع الزمان حمامة ... غنت فغنى طوقها في جيدها ) وقال
( لئن بكيت دما والعزم من شيمي ... على الخليط فقد يبكي الحسام دما )

أشعار للحجام
وقال أبو تمام غالب بن رباح الحجام في دولاب طار منه لوح فوقف
( وذات شدو وما لها حلم ... كل فتى بالضمير حياها )
( وطار لوح بها فأوقفها ... كلمحة العين ثم أجراها )
وكان المذكور ربي في قلعة رباح غربي طليطلة ولا يعلم له أب وتعلم الحجامة فأتقنها ثم تعلق بالأدب حتى صار آية وهو القائل في ثريا الجامع
( تحكي الثريا في تألقها ... وقد عراها نسيم فهي تتقد )

( كأنها لذوي الإيمان أفئدة ... من التخشع جوف الليل ترتعد ) وقال
( زرت الحبيب ولا شيء أحاذره ... في ليلة قد لوت بالغمض أشفارا )
( في ليلة خلت من حسن كواكبها ... دراهما وحسبت البدر دينارا )
وقال في الثريا أيضا
( انظر إلى سرج في الليل مشرقة ... من الزجاج تراها وهي تلتهب )
( كأنها ألسن الحيات قد برزت عند الهجير فما تنفك تضطرب وقال
( ترى النسر والقتلى على عدد الحصى ... وقد مزقت لترائبا )
( مضرجة مما أكلن كأنها ... عجائز بالحنا خضبن ذوائبا )
وقال وقد ابدع غاية الإبداع وأتى بما يحير الألباب وإن كان أبو نواس فاتح هذا الباب
( وكأس ترى كسرى بها في قرارة ... غريقا ولكن في خليج من الخمر )
( وما صورته فارس عبثا به ... ولكنهم جاؤوا بأخفى من السحر )
( أشاروا بما كانوا له في حياته ... فنومي إليه بالسجود وما ندري ) وما أحلى قوله
( الأقحوان رمى عليك ظلامة ... لما عنفت عليه بالمسواك )

( لا يحمل النور الأنيق تمسه ... كف بعود بشامة وأراك )
( وجلاؤه المخلوق فيه قد كفى ... من أن يراع عراره بسواك ) وقوله
( صغار الناس أكثرهم فسادا ... وليس لهم لصالحة نهوض )
( ألم تر في سباع الطير سرا ... تسالمنا ويأكلنا البعوض )
وقد بلغ غاية الإحسان في قوله
( فما للملك ليس يرى مكاني ... وقد كحلت لواحظه بنوري )
( كذا المسواك مطرحا مهانا ... وقد أبقى جلاء في الثغور )
ومن حسناته قوله
( لي صاحب لا كان من صاحب ... فإنه في كبدي جرحه )
( يحكي إذا أبصر لي زلة ... ذبابة تضرب في قرحه )
ولقيه أبو حاتم الحجاري على فرس في غاية الضعف والرذالة قد أهلكها الوجى وكانا في جماعتين فقال له يا أبا تمام أنشدني قولك
( وتحتي ريح تسبق الريح إن جرت ... وما خلت أن الريح ذات قوائم )
( لها في المدى سبق إلى كل غاية ... كأن لها سبقا يفوق عزائمي )
( وهمة نفسي نزهتها عن الوجى ... فيا عجبا حتى العلا في البهائم )
فلما انشده إياها رد رأسه أبو حاتم إلى الجماعتين وقال ناشدتكم الله

أيجوز لحجام على فرس مثل هذه الرمكة الهزيلة العرجاء أن يقول مثل هذا فضحك جميع من حضر وأقبل أبو تمام في غيظه يسبه
ومن شعر الحجام المذكور قوله
( لا يفخر السيف والأقلام في يده ... قد صار قطع سيوف الهند للقصب )
( فإن يكن أصلها لم يقو قوتها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب ) وقال
( ثقلت على الأعداء إلا أنها ... خفت على السباب والإبهام )
( أخذت من الليل البهيم سواده ... وبدت تنمق أوجه الأيام ) وقال
( نظر الحسود فازدرى لي هيئة ... والفضل مني لا يزال مبينا )
( قبحت صفاتي من تغير وده ... صدأ المراة يقبح التحسينا ) وقال
( تصبر وإن أبدى العدو مذمة ... فمهما رمى ترجع إليه سهامه )
( كما يفعل النحل الملم بلسعه ... يريد به ضرا وفيه حمامه ) وقال
( وبارد الشعر لم يؤلم به ولقد ... أضر منه جميع الناس واعتزلا )
( كأنه الصل لا تؤذيه ريقته ... حتى إذا مجها في غيره قتلا )

وقال أبو بكر محمد بن أزرق
( هل علم الطائر في أيكه ... بأن قلبي للحمى طائر )
( ذكرني عهد الصبا شجوه ... وكل صب للصبا ذاكر )
( سقى عهود لهم بالحمى ... دمع له ذكرهم ناثر )
وقال أبو جعفر بن أزرق
( أراك ملكت الخافقين مهابة ... بها ما تلح الشهب بالخفقان )
( وتغضي العيون عن سناك كأنها ... تقابل منك الشمس في اللمعان )
( وتصفر ألوان العداة كأنما ... رموا منك طول الدهر باليرقان )
وقال أبو القاسم ابن أزرق
( ذاك الزمان الذي تقضى ... يا ليته عاد منه حين )
( بكل عمري الذي تبقى ... وما أنا في الشراغبين )
راشد بن عريف الكاتب
( جمع في مجلس ندامى ... تحسدني فيهم النجوم )
( فقال لي منهم نديم ما لك إذ قمت لا تقوم )
( فقلت إن قمت كل حين ... فإن حظي بكم عظيم )
( وليس عندي إذن ندامى ... بل عندي المقعد المقيم )

وقال الحسيب أبو جعفر بن عائش
( ولي أخ أورده سلسلا ... لكنه يوردني مالحا )
ألقاه كي أبسطه ضاحكا ويلتقيني أبدا كالحا )
( وليس ينفك عنائي به ... ما رمت من فاسده صالحا )
قال الحجاري وكتب إلى جدي إبراهيم في يوم صحو بعد مطر
( إذا رأيت الجو يصحو فلا ... تصح سقاك الله من سكر )
( تعال فانظر لدموع الندى ... ما فعلت في مبسم الزهر )
( ولا تقل إنك في شاغل ... فليس هذا آخر الدهر )
( يخلف ما فات سوى ساعة ... تقنص فيها لذة الخمر ) فأجابه
( لبيك لبيك ولو أنني ... أسعى على الرأس إلى مصر )
( فكيف والدار جواري وما ... عندي من شغل ولا عذر )
( ولو غدا لي ألف شغل بلا ... عذر تركت الكل للحشر )
( وكلما أبصرني ناظر ... ببابكم عظم من قدري )
( أنا الذي يشربها دائما ... ماحضرت في الصحو والقطر )
( وليس نقلي أبدا بعدها ... إلا الذي تعهد من شكري
قال الحجاري ولم يقصر جدي في جوابه ولكن ابن عائش أشعر منه في ابتدائه ولو لم يكن له إلا قوله ( ( تعال فانظر - إلخ ) ) لكفاه ] قال وفيه يقول جدي إبراهيم يمدحه

( ولو كان ثان في الندى لابن عائش ... لما كان في شرق وغرب أخو فقر )
( يهش إلى الأمداح كالغصن للصبا ... وبشر محياه ينوب عن الزهر )
( فيا رب زد في عمره إن عمره ... حياة أناس قد كفوا كلفة الدهر )
وقتله ابن مسعدة ملك وادي الحجارة الثائر بها ولما قدمه ليقتله قال ارفق علي حتى أخاصم عن نفسي فقال على لسانك قتلناك فقال له لا رفق الله عليك يوم تحتاج إلى رفقه ! فقال بجبروته ما رهبنا السيوف الحداد نرهب دعاء الحساد
وقال أبو علي الحسن علي بن شعيب
( انزعي الوشي فهو يستر حسنا ... لم تحزه برقمهن الثياب )
( ودعيني عسى أقبل ثغرا ... لذ فيه اللمى وطاب الرضاب )
( وعجيب أن تهجريني ظلما ... وشفيعي إلى صباك الشباب )
وقال أخوه أبو حامد الحسين حين كبا به فرسه فحصل في اسر العدو
( وكنت أعد طرفي للرزايا ... يخلصني إذا جعلت تحوم )
( فأصبح للعدا عونا لأني ... أطلت عناءه فأنا الظلوم )
( وكم دامت مسراتي عليه ... وهل شيء على الدنيا يدوم )
وقال أبو الحسن علي بن رجاء صاحب دار السكة والأحباس بقرطبة

( يا سائلي عن حالتي إنني ... لا أشتكي حالي لمن يضعف )
( مع أنني أحذر من نقده ... لا سيما إن كان لا ينصف )
وأنشد له الحميدي في ( ( الجذوة ) )
( قل لمن نال عرض من لم ينله ... حسبنا ذو الجلال والإكرام )
( لم يزدني شيئا سوى حسنات ... لا ولا نفسه سوى آثام )
( كان ذا منعة فثقل ميزاني ... بهذا فصار من خدامي )
وقال أبو محمد القاسم بن الفتح
( أيام عمرك تذهب ... وجميع سعيك يكتب )
( ثم الشهيد عليك منك ... فأين أين المهرب )
وقال أبو مروان عبد الملك بن غصن
( فديتك لا تخف مني سلوا ... إذا ما غير الشعر الصغارا )
( أهيم بدن خمر صار خلا ... وأهوى لحية كانت عذارا )
وقال
( قد ألحف الغيم بانسكابه ... والتحف الجو في سحابه )
( وقام داعي السرور يدعو ... حي على الدن وانتهابه )
( وتاه فيه النديم مما ... يزدحم الناس عند بابه )
( وكان أحد الأعلام في الآداب والتاريخ والتأليف

ونقم عليه المأمون بن ذي النون بسبب صحبته لرئيس بلده ابن عبيدة وبلغه أنه يقع فيه فنكبه أشر نكبة وحبسه فكتب إليه من السجن
( فديتك هل لي منك رحمى لعلني ... أفارق قبرا في الحياة فأنشر )
( وليس عقاب المذنبين بمنكر ... ولكن دوام السخط والعتب ينكر )
( ومن عجب ... قول العداة مثقل )
( ومثلي في إلحاحه الدهر يعذر ... )
وألف للمأمون رسالة ( ( السجن والمسجون والحزن والمحزون ) ) ورسالة أخرى سماها ب ( ( العشر كلمات ) ) وقال
( يا فتية خيرة فدتهم ... من حادثات الزمان نفسي )
( شربهم الخمر في بكور ... ونطقهم عندها بهمس )
( أما ترون الشتاء يلقي ... في الأرض بسطا من الدمقس )
( مقطب عابس ينادي ... يوم سرور ويوم أنس ) وقال عنه الحميدي في الجذوة أنه شاعر أديب دخل المشرق وتأدب وحج ورجع وشعره كثير وله أبيات كتبها في طريق الحج إلى أحد القضاة
( يا قاضيا عدلا كأن أمامه ... ملك يريه واضح المنهاج )
( طافت بعبدك في بلادك علة ... قعدت به عن مقصد الحجاج )
( واعتل في البحر الأجاج فكن له ... بحرا من المعروف غير أجاج ) وقال الزاهد الورع المحدث أبو محمد إسماعيل ابن الديواني

( ألا أيها العائب المعتدي ... ومن لم يزل مؤذيا ازدد )
( مساعيك يكتبها الكاتبون ... فبيض كتابك أو سود )
وقال ابنه أبو بكر محمد
( خاصم عدوك باللسان ... وإن قدرت فبالسنان )
( إن العداوة ليس يصلحها ... الخضوع مدى الزمان )
وقال إبراهيم الحجاري جد صاحب المسهب
( لئن كرهوا يوم الوداع فإنني ... أهيم به وجدا من اجل عناقه )
( أصافح من أهواه غير مساتر ... وسر التلاقي مودع في فراقه )
وقال
( كن كما شئت إنني لا أحول ... غير مصغ لما يقول العذول )
( لك والله في الفؤاد محل ... ما إليه مدى الزمان وصول )
( ومرادي بأن تزور خفيا ... ليت شعري متى يكون السبيل )
وقال
( قد توالت في حالتينا الظنون ... فلنصدق ما كذبته العيون )
( ومرادي بأن تلوح بأفقي ... بدر تم وذاك ما لا يكون )
( أنا قد قلت ما دعاني إليه ... كثرة اليأس والحديث شجون )
( وإذا شئت أن تسفه رأيي ... فمحلي من الرقيب مصون وبه ما تشاء من كل معنى ... كل من لم يجب له مجنون )

( وإلى كم تضل ليل الأماني ... ومن اليأس لاح صبح مبين ) وقال
( سألته عن أبيه ... فقال خالي فلان )
( فانظر عجائب ما قد ... أتت به الأزمان )
( دهر عجيب لديه ... عن المعالي حران )
( فما له غير ذم ... كما تدين تدان )
وقال الكاتب العالم أبو محمد ابن خيرة الإشبيلي صاحب كتاب الريحان والريعان يمدح السيد أبا حفص ملك إشبيلية ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي من قصيدة
( كأنما الأفق صرح والنجوم به ... كواعب وظلام الليل حاجبه )
( وللهلال اعتراض في مطالعه ... كأنه أسود قد شاب حاجبه )
( وأقبل الصبح فاستحيت مشارقه ... وأدبر الليل فاستخفت كواكبه )
( كالسيد الماجد الأعلى الهمام أبي ... حفص لرحلته ضمت مضاربه )
وأنشد له ابن الإمام في سمط الجمان
( رعيا لمنزله الخصيب وظله ... وسقى الثرى النجدي سح ربابه )
( واها على ساداته لا أدعي ... كلفا بزينبه ولا بربابه )
ويعرف رحمه الله تعالى بابن المواعيني

وقال ابنه أبو جعفر أحمد
( يا أخي هاتها وحجب سناها ... عن مثير بها جنونا وسخفا )
( هذه الشمس إن بدت لضعيف العين ... زادت في ذلك الضعف ضعفا )
( إنما يشرب المدامة من إن ... خشنت كفه جفاها وكفا )
وكتب الوزير أبو الوليد إسماعيل بن حبيب الملقب بحبيب إلى أبيه لما خلق الربيع من أخلاقك الغر وسرق زهره من شيمك الزهر حسن في كل عين منظره وطاب في كل سمع خبره وتاقت النفوس إلى الراحة فيه ومالت إلى الإشراف على بعض ما يحتويه من النور الذي بسط على الأرض حللا لا ترى في أثنائها خللا سلوك نثرت على الثرى وقد ملئت مسكا وعنبرا إن تنسمتها فأرجة أو توسمتها فبهجة
( فالأرض في بزة من يانع الزهر ... تزري إذا قستها بالوشي والحبر )
( قد أحكمتها أكف المزن واكفة ... وطرزتها بما تهمي من الدرر )
( تبرجت فسبت منا العيون هوى ... وفتنة بعد طول الستر والخفر )
فأوجد لي سبيلا إلى أعمال بصري فيها لأجلو بصيرتي بمحاسن نواحيها والفصل على أن يكمل أوانه ويتصرم وقته وزمانه فلا تخلني من بعض التشفي منه لأصدر نفسي متيقظة عنه فالنفوس تصدأ كما يصدأ الحديد ومن سعى في جلائها فهو الرشيد السديد

ومن شعره يصف وردا بعث به إلى أبيه
( يا من تأزر بالمكارم وارتدى ... بالمجد والفضل الرفيع الفائق )
( انظر إلى خد الربيع مركبا ... في وجه هذا المهرجان )
( الرائق ورد تقدم إذ تأخر واغتدى ... في الحسن والإحسان أول سابق )
( وأفاك مشتملا بثوب حيائه ... خجلا لأن حياك آخر لاحق ) وله
( أتى الباقلاء الباقل اللون لابسا ... برود سماء من سحائبها غذي )
( ترى نوره يلتاح في ورقاته ... كبلق جياد في جلال زمرد ) وقال
( إذا ما أدرت كؤوس الهوى ... ففي شربها لست بالمؤتلي )
( مدام تعتق بالناظرين ... وتلك تعتق بالأرجل )
وكان وهو ابن سبع عشرة سنة ينظم النظم الفائق وينثر النثر الرائق وأبو جعفر بن الأبار هو الذي صقل مرآته وأقام قناته وأطلعه شهابا ثاقبا وسلك به إلى فنون الآداب طريقا لاحبا وله كتاب سماه ب البديع في فصل الربيع جمع فيه أشعار أهل الأندلس خاصة أعرب فيه عن أدب غزير وحظ من الحفظ موفور وتوفي وهو ابن اثنتين وعشرين سنة واستوزره داهية الفتنة ورحى المحنة قاضي إشبيلية عباد جد المعتمد ولم يزل يصغي إلى مقاله ويرضى بفعاله وهو ما جاوز العشرين إذ ذاك

وأكثر نظمه ونثره في الأزاهر وذلك يدل على رقة نفسه رحمه الله تعالى
وقال الوزير الكاتب أبو الحسن علي بن حصن وزير المعتضد بن عباد
( علي أن أتذلل ... له وأن يتدلل )
( خد كأن الثريا ... عليه قرط مسلسل )
وقال
( طل على خده العذار ... فافتضح الآس والبهار )
( وابيض هذا واسود هذا ... فاجتمع الليل والنهار )
وقال الوزير أبو الوليد بن طريف في المعتمد بعد خلعه
( يا آل عباد ألا عطفة ... فالدهر من بعدكم مظلم )
( من الذي يرجى لنيل العلا ... ومن إليه يفد المعدم )
( ما أنكر الدهر سوى أنه ... بجودكم في فعله يرغم
وله
( من حلقت لحية جار له ... فليسكب الماء على لحيته )
وقد أجرينا في هذا الكتاب ذكر جملة من أخبار المعتمد بن عباد ونظمه في أماكن متعددة فلتراجع ومن نظمه
( ثلاثة منعتها عن زيارتنا ... خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق )

( ضوء الجبين ووسواس الحلي وما ... تحوي معاطفها من عنبر عبق )
( هب الجبين بفضل الكم تستره ... والحلي تنزعه ما حيلة العرق )
وقال
( يوم يقول الرسول قد أذنت ... فأت على غير رقبة ولج )
( أقبلت أهوي إلى رحالهم ... أهدى إليها بريحها الأرج ) وقالوا ويستدل على الملوكية بالطيب في المواطن التي يكون الناس فيها غير معروفين كالحمام ومعارك الحرب ومواسم الحج
رجع إلى ما كنا فيه وقال أبو العباس أحمد الخزرجي القرطبي
( وفي الوجنات ما في الروض لكن ... لرونق زهرها معنى عجيب )
( وأعجب ما التعجب منه أني ... أرى البستان يحمله قضيب )
وقال الوزير أبو أيوب سليمان بن أبي أمية يخاطب رئيسا قد بلغه عن بعض أصحابه كلام فيه غض منه
( هون عليك كلامه ... واسمح له فيمن سمح )
( ماذا يسوءك إن هجا ... ماذا يسرك إن مدح )
( أو ما علمت بلى جهلت ... بأنه غل طفح )
( وخفي حقد كامن ... دابوا له حتى اتضح )

هذا بمستن الوقار ... فكيف لو دار القدح )
( فاشكر عوارف ذي الجلا ل بما وقى وبما منح )
وقال أبو علي عمر بن أبي خالد يخاطب أبا الحسن علي بن الفضل
( أبا حسن وما قدمت عهود ... لنا بيبن المنارة والجزيره )
( أتذكر أنسنا والليل داج ... بخمر في زجاجتها منيره )
( إذا الملاح ضل رنا إليها ... فأبصر في مناحيه مسيره )
وقال الكاتب عبد الله المهيريس وكان حلو النادرة لما شرب عند الوزير أبي العلاء ابن جامع وقد نظر إلى فاختة فأعجبه حسنها ولحنها
( ألا خذها إليك أبا العلاء ... حلى الأمداح ترفل في الثناء )
( وهبها قينة تجلى عروسا ... خضيب الكف قانية الرداء )
( لأجعلها محل جليس أنسي ... وأغنى بالهديل عن الغناء )
وحكي أنه ناوله ليمونة وأمره بالقول فيها فقال
( أهدى إلي بروضة ليمونة ... وأشار بالتشبيه فعل السيد )
( فصمت حينا ثم قلت كجلجل ... من فضة تعلوه صفرة عسجد )
وقال الكاتب أبو بكر بن البناء يرثي أحد بني عبد المؤمن وقد عزل من بلنسية وولي إشبيلية فمات بها
( كأنك من جنس الكواكب كنت لم ... تفارق طلوعا حالها وتواريا )

( تجليت من شرق تروق تلألؤا ... فلما انتحيت الغرب أصبحت هاويا ) وكان محمد بن مروان بن زهر - كما في المغرب والمسهب والمطرب وقد قدمنا بعض أخباره - منشأ الدولة العبادية وأول من تثنى عليه الخناصر وتستحسنه البواصر فضاقت الدولة العبادية عن مكانه وأخرج عن بلده فاستصفيت أمواله فلحق بشرق الأندلس وأقام فيه بقية عمره ونشأ ابنه الوزير أبو مروان عبد الملك بن محمد فما بلغ أشده حتى سد مسده ومال إلى التفنن في أنواع التعاليم من الطب وغيره ورحل إلى المشرق لأداء الفرض فملأ البلاد جلالة ونشأ ابنه أبو العلاء زهر بن عبد الملك فاخترع فضلا لم يكن في الحساب وشرع نبلا قصرت عنه نتائج أولي الألباب ونشأ بشرق الأندلس والآفاق تتهادى عجائبه والشام والعراق تتدارس بدائعه وغرائبه ومال إلى علم الأبدان فلولا جلالة قدره لقلنا جاذب هاروت طرفا من سحره ولولا أن الغلو آفة المديح لتجاوزت طلق الجموح ولكنني اكتفيت بالكناية عن التصريح ولم يزل مقيما بشرق الأندلس إلى أن كان من غزاة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ومن انضم إليه من ملوك الطوائف ما علم وشخص أبو العلاء معهم فلقيه المعتمد بن عباد واستماله واستهواه وكاد يغلب على هواه وصرف عليه أملاكه فحن إلى وطنه حنين النيب إلى عطنه والكريم إلى سكنه ونزع إلى مقر سلفه نزوع الكوكب إلى بيت شرفه إلا أنه لم يستقر بإشبيلية إلا بعد خلع المعتمد وحل عند يوسف بن تاشفين محلا لم يحله الماء من العطشان ولا الروح من جسد الجبان ولما كتب إليه حسام الدولة ابن رزين ملك السهلة بقوله
( عاد اللئيم فأنت من أعدائه ... ودع الحسود بغله وبذائه )

( لا كان إلا من غدت أعداؤه ... مشغولة أفواههم بجفائه )
( أأبا العلاء لئن حسدت لطالما ... حسد الكريم بجوده ووفائه )
( فخر العلاء فكنت من آبائه ... وزها السناء فكنت من أبنائه )
( كن كيف شئت مشاهدا أو غائبا ... لا كان قلب لست في سودائه ) أجابه بقوله
( يا صارما حسم العدا بمضائه ... وتعبد الأحرار حسن وفائه )
( ما أثر العضب الحسام بذاته ... إلا بأن سميت من أسمائه )
وكلفه الحسام المذكور القول في غلام قائم على رأسه وقد عذر فقال
( محيت آية النهار فأضحى ... بدر تم وكان شمس نهار )
( كان يعشي العيون نارا إلى أن ... أشغل الله خده بالعذار ) وقال
( عذار ألم فأبدى لنا ... بدائع كنا لها في عمى )
( ولو لم يجن النهار الظلام ... لم يستبن كوكب في السما )
وقال
( يا راشقي بسهام ما لها غرض ... إلا الفؤاد وما منه له عوض )
( وممرضي بجفون لحظها غنج ... صحت وفي طبعها التمريض والمرض )
( امنن ولو بخيال منك يؤنسني ... فقد يسد مسد الجوهر العرض )
وهذا معنى في غاية الحسن
وكان بينه وبين الإمام أبي بكر بن باجة - بسبب المشاركة - ما يكون

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24