كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

( يبصرني فيك أبو هاشم ... فينثني القلب وقد هشما ) وبقي إلى أن توفي رحمه الله سنة 488
وقد ساق الفتح قضية ثورة عبدالجبار بن المعتمد بعبارته البارعة فقال وأقام بالعدوة برهة لا يروع له سرب وإن لم يكن آمنا ولا يثور له كرب وإن كان في ضلوعه كامنا إلى أن ثار أحد بنيه بأركش معقل كان مجاورا لإشبيلية مجاورة الأنامل للراح ظاهر على بسائط وبطاح لا يمكن معه عيش ولا يتمكن من منازلته جيش فغدا على أهلها بالمكاره وراح وضيق عليهم المتسع من جهاتها والبراح فسار نحوه الأمير سير بن أبي بكر رحمة الله عليه قبل أن يرتد طرف استقامته إليه فوجده وشره قد تشمر وضره قد تنمر وجمره متسعر وأمره متوعر فنزل عدوته وحل للحزم حبوته وتدارك داءه قبل اعضاله ونازله وما اعد آلات نضاله وانحشدت إليه الجيوش من كل قطر وأفرغ من مسالكه كل قطر فبقي محصورا لايشد إليه إلا سهم ولا ينفذ عنه إلا نفس أو وهم وامتسك شهورا حتى عرضه أحد الرماة بسهم فرماه فأصماه فهوى في مطلعه وخر قتيلا في موضعه فدفن إلى جانب سريره وأمن عاقبة تغريره وبقي أهله ممتنعين مع طائفة من وزرائه حتى اشتد عليهم الحصر وارتد عنهم النصر وعمهم الجوع وأغب أجفانهم الهجوع فنزلت منهم طائفة متهافتة وولت بأنفاس خافتة فتبعهم من بقي ورغب في التنعم من شقي فوصلوا إلى قبضة الملمات وحصلوا في غصة الممات فوسمهم الحيف وتقسمهم السيف ولما زأر الشبل خيفت سورة الأسد ولم يرج صلاح الكل والبعض قد فسد فاعتقل المعتمد خلال تلك الحال وأثناءها وأحل ساحة الخطوب

وفناءها وحين أركبوه أساودا وأورثوه حزنا بات له معاودا قال
( غنتك أغماتية الألحان ... ثقلت على الأرواح والأبدان )
( قد كان كالثعبان رمحك في الورى ... فغدا عليك القيد كالثعبان )
( متمردا يحميك كل تمرد ... متعطفا لا رحمة للعاني )
( قلبي إلى الرحمن يشكو بثه ... ماخاب من يشكو إلى الرحمن )
( ياسائلا عن شأنه ومكانه ... ماكان أغنى شأنه عن شان )
( هاتيك قينته وذلك قصره ... من بعد أي مقاصر وقيان )
ولما فقد من يجالسه وبعد عنه من كان يؤانسه وتمادى كربه ولم تسالمه حربة قال
( تؤمل للنفس الشجية فرجة ... وتأبى الخطوب السود إلا تماديا )
( لياليك في زاهيك أصفى صحبتها ... كذا صحبت قبلي الملوك اللياليا )
( نعيم وبؤس ذا لذلك ناسخ ... وبعدهما نسخ المنايا الأمانيا )
ولما امتدت في الثقاف مدته واشتدت عليه قسوة الكبل وشدته وأقلقته همومه وأطبقته غمومه وتوالت عليه الشجون وطالت لياليه الجون قال
( أنباء أسرك قد طبقن آفاقا ... بل قد عممن جهات الأرض إقلاقا )
( سرت من الغرب لا تطوى لها قدم ... حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا )
( فأحرق الفجع أكبادا وأفئدة ... وأغرق الدمع آماقا وأحداقا )
( قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها ... وقيل إن عليك القيد قد ضاقا )
( أنى غلبت وكنت الدهر ذا غلب ... للغالبين وللسباق سباقا )
( قلت الخطوب أذلتني طوارقها ... وكان غربي إلى الأعداء طراقا )

( متى رأيت صروف الدهر تاركة ... إذا انبرت لذوي الأخطار أرماقا )
وقال لي من أثقه لما ثار ابنه حيث ثار وأثار من حقد امير المسلمين عليه ما أثار جزع جزعا مفرطا وعلم انه قد صار في أنشوطة الشر متورطا وجعل يتشكى من فعله ويتظلم ويتوجع منه ويتألم ويقول عرض بي للمحن ورضي لي أن أمتحن ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي ويتحيفه بعدي ثم أطرق ورفع رأسه وقد تهللت أسرته وظللته مسرته ورأيته قد استجمع وتشوف إلى السماء وتطلع فعلمت أنه قد رجا عودة إلى سلطانه وأوبة إلى أوطانه فما كان إلا بمقدار ما تنداح دائرة أو تلتفت مقلة حائرة حتى قال
( كذا يهلك السيف في جفنه ... إلى هز كفي طويل الحنين )
( كذا يعطش الرمح لم أعتقله ... ولم تروه من نجيع يميني )
( كذا يمنع الطرف علك الشكيم ... مرتقبا غرة في كمين )
( كأن الفوارس فيه ليوث ... تراعي فرائسها في عرين )
( ألا شرف يرحم المشرفي ... مما به من شمات الوتين )
( ألا كرم ينعش السمهري ... ويشفيه من كل داء دفين )
( ألا حنة لابن محنية ... شديد الحنين ضعيف الأنين )
( يؤمل من صدرها ضمة ... تبوئه صدر كفؤ معين )
وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا ومنعوا جفون أهلها السنات وأخذوا البنين من حجور آبائهم والبنات وتلقبوا بالإمارة وأركبوا السوء نفوسهم الأمارة حتى كادت أن تقفر على أيديهم وتدثر رسومها بإفراط تعديهم إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله تعالى أمرهم وأطفأ جمرهم وأوجعهم ضربا وأقطعهم ماشاء حزنا وكربا وسجنهم بأغمات وضمتهم جوانح الملمات

والمعتمد إذ ذاك معتقل هناك وكانت فيهم طائفة شعرية مذنبة أو برية فرغبوا إلى سجانهم أن يستريحوا مع المعتمد من أشجانهم فخلى ما بينهم وبينه وغمض لهم في ذلك عينه فكان المعتمد رحمه الله تعالى يتسلى بمجالستهم ويجد أثر مؤانستهم ويستريح إليهم بجواه ويبوح لهم بسره ونجواه إلى أن شفع فيهم وانطلقوا من وثاقهم وانفرج لهم مبهم أغلاقهم وبقي المعتمد في محبسه يشتكي من ضيق الكبل ويبكي بدمع كالوبل فدخلوا عليه مودعين ومن بثه متوجعين فقال
( اما لانسكاب الدمع في الخد راحة ... لقد آن أن يفنى ويفنى به الخد )
( هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلى ... بما منه قد عافاكم الصمد الفرد )
( تخلصتم من سجن أغمات والتوت ... علي قيود لم يحن فكها بعد )
( من الدهم أما خلقها فأساود ... تلوى وأما الأيد والبطش فالأسد )
( فهنيتم النعما ودامت لكلكم ... سعادته إن كان قد خانني سعد )
( خرجتم جماعات وخلفت واحدا ... ولله في أمري وأمركم الحمد )
ومر عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح ولا تعلق بها من الأيام جناح ولا عاقها عن أفراخها الأشراك ولا أعوزها البشام ولا الأراك وهى تمرح في الجو وتسرح في مواقع النو فتنكد بما هو فيه من الوثاق ومادون أحبته من الرقباء والأغلاق وما يقاسيه من كبله ويعانيه من وجده وخبله وفكر في بناته وافتقارهن إلى نعيم عهدنه وحبور حضرنه وشهدنه فقال
( بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي ... سوارح لا سجن يعوق ولا كبل )
( ولم تك والله المعيذ حسادة ... ولكن حنينا أن شكلي لها شكل )

( فأسرح لا شملي صديع ولا الحشا ... وجيع ولا عيناي يبكيهما ثكل )
( هنيئا لها أن لم يفرق جميعها ... ولا ذاق منها البعد عن أهلها أهل )
( وإذ لم تبت مثلي تطير قلوبها ... إذا اهتز باب السجن أو صلصل القفل )
( وماذاك مما يعتريه وإنما ... وصفت التي في جبلة الخلق من قبل )
( لنفسي إلى لقيا الحمام تشوف ... سواي يحب العيش في ساقه كبل )
( ألا عصم الله القطا في فراخها ... فإن فراخي خانها الماء والظل )
وفي هذه الحالة زاره الأديب أبو بكر ابن اللبانة وهو احد شعراء دولته المرتضعين دررها المنتجعين دررها وكان المعتمد رحمه الله تعالى يميزه بالشفوف والإحسان ويجوزه في فرسان هذا الشأن فلما رآه وحلقات الكبل قد عضت بساقيه عض الأسود والتوت عليه التواء الأساود السود وهو لا يطيق إعمال قدم ولا يريق دمعا إلا ممزوجا بدم بعدما عهده فوق منبر وسرير ووسط جنة وحرير تخفق عليه الألوية وتشرق منه الأندية وتكف الأمطار من راحته وتشرف الأقدار بحلول ساحته ويرتاع الدهر من اوامره ونواهيه ويقصر النسر أن يقارنه أو يضاهيه ندبه بكل مقال يلهب الأكباد ويثير فيها لوعة الحارث بن عباد أبدع من أناشيد معبد وأصدع للكبد من مراثي أربد او بكاء ذي الرمة بالمربد سلك فيها للاحتفاء طريقا لاحبا وغدا فيها لذيول الوفاء ساحبا فمن ذلك قوله
( انفض يديك من الدنيا وساكنها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا )
( وقل لعالمها السفلي قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات )
( طوت مظلتها لا بل مذلتها ... من لم تزل فوقه للعز رايات )
( من كان بين الندى والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات )

( رماه من حيث لم تستره سابغة ... دهر مصيباته نبل مصيبات )
( أنكرت إلا التواءات القيود به ... وكيف تنكر في الروضات حيات )
( غلطت بين همايين عقدن له ... وبينها فإذا الأنواع أشتات )
( وقلت هن ذؤابات فلم عكست ... من رأسه نحو رجليه الذؤابات )
( حسبتها من قناه أو أعنته ... إذا بها لثقاف المجد آلات )
( دروه ليثا فخافوا منه عادية ... عذرتهم فلعدو الليث عادات )
( لو كان يفرج عنه بعض آونة ... قامت بدعوته حتى الجمادات )
( بحر محيط عهدناه تجيء له ... كنقطة الدارة السبع المحيطات )
( لهفي على آل عباد فإنهم ... أهلة مالها في الأفق هالات )
( راح الحيا وغدا منهم بمنزلة ... كانت لنا بكر فيها وروحات )
( أرض كأن على أقطارها سرجا ... قد أوقدتهن بالأدهان أنبات )
( وفوق شاطىء واديها رياض ربى ... قد ظللتها من الأنشام دوحات )
( كأن واديها سلك بلبتها ... وغاية الحسن أسلاك ولبات )
( نهر شربت بعبريه على صور ... كانت لها في قبل الراح سورات )
( وربما كنت أسمو للخليج به ... وفي الخليج لأهل الراح راحات )
( وبالعروسات لا جفت منابتها ... من النعيم غروسات جنيات )
ولم تزل كبده تتوقد بالزفرات وخلده يتردد بين النكبات والعثرات ونفسه تتقسم بين الأشجان والحسرات إلى أن شفته منيته وجاءته بها أمنيته فدفن بأغمات وأريح من تلك الأزمات
( وعطلت المآثر من حلاها ... وأفردت المفاخر من علاها )
ورفعت مكارم الأخلاق وكسدت نفائس الأعلاق وصار امره عبرة في عصره وصاب أندى عبرة في مصره وبعد أيام وافى أبو بحر ابن عبد الصمد شاعره المتصل به المتوصل إلى المنى بسببه فلما كان يوم العيد وانتشر

الناس ضحى وظهر كل متوار وضحا قام على قبره عند انفصالهم من مصلاهم واختيالهم يزينتهم وحلاهم وقال بعد أن طاف بقبره والتزمه وخر على تربه ولثمه
( ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي )
( لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد )
( قبلت في هذا الثرى لك خاضعا ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد )
وهي قصيدة أطال إنشادها وبنى بها اللواعج وشادها فانحشر الناس إليه وانحفلوا وبكوا ببكائه وأعولوا وأقاموا أكثر نهارهم مطيفين به طواف الحجيج مديمين للبكاء والعجيج ثم انصرفوا وقد نزفوا ماء عيونهم وأقرحوا مآقيهم بفيض شؤونهم وهذه نهاية كل عيش وغاية كل ملك وجيش والأيام لا تدع حيا ولا تألوا كل نشر طيا تطرق رزاياها كل سمع وتفرق مناياها كل جمع وتصمي كل ذي امر ونهي وترمي كل مشيد بوهي ومن قبله طوت النعمان ابن الشقيقة ولوت مجازه في تلك الحقيقة انتهى ما قصدنا جلبه من كلام الفتح مما يدخل في أخبار المعتمد بن عباد المناسبة لما مر
وكلام الفتح كله الغاية وليس الخبر كالعيان ولذا قال بعض من عرف به إنه أراد أن يفضح الشعراء الذين ذكرهم في كتبه بنثره سامحة الله تعالى
وأخبار المعتمد رحمه الله تعالى تحتمل مجلدات وآثاره إلى الآن بالغرب مخلدات وكان من النادر الغريب قولهم في الدعاء للصلاة على جنازته الصلاة على الغريب بعد اتساع ملكه وانتظام سلكه وحكمه على إشبيلية وأنحائها وقرطبة وزهرائها وهكذا شأن الدنيا في تدريسها نحو ندبتها وإغرائها
وقد توجه لسان الدين الوزير ابن الخطيب إلى أغمات لزيارة قبر المعتمد رحمه

الله تعالى ورأى ذلك من المهمات وأنشد على قبره أبياته الشهيرة التى ذكرتها في جملة نظمه الذي هو أرق من النسيم وأبهج من المحيا الوسيم
قلت وقد زرت انا قبر المعتمد والرميكية أم أولاده حين كنت بمراكش المحروسة عام عشرة وألف وعمي علي أمر القبر المذكور وسألت عنه من تظن معرفته له حتى هداني إليه شيخ طعن في السن وقال لي هذا قبر ملك ملوك الأندلس وقبر حظيته التي كان قلبه بحبها خفاقا غير مطمئن فرأيته في ربوة حسبما وصفه ابن الخطيب رحمه الله تعالى في الأبيات وحصلت لي في ذلك المحل خشية وادكار وذهبت بي الأفكار في ضروب الآيات فسبحان من يؤتي ملكه من يشاء لا إله غيره وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين
وما احسن قول الوزير ابن عبدون في مطلع رائيته الشهيرة
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور )
وهو القائل
( يانائم الليل في فكر الشباب أفق ... فصبح شيبك في أفق النهى بادي )
( غضت عنانك أيدي الدهر ناسخة ... علما بجهل وإصلاحا بإفساد )
( وأسلمت للمنايا آل مسلمة ... وعبدت للرزايا آل عباد )
( لقد هوت منك خانتها قوادمها ... بكوكب في سماء المجد وقاد )
ومنها
( ومالك كان يحمي شول قرطبة ... أستغفر الله لا بل شول بغداد )

( شق العلوم نطافا والعلا زهرا ... ثبين مابين رواد ووراد )
وأين هذه القصيدة في مدحهم من قصيدة الغض منهم وهي قول أبي الحسن جعفر بن إبراهيم ابن الحاج اللورقي
( تعز عن الدنيا ومعروف أهلها ... إذا عدم المعروف في آل عباد )
( حللت بهم ضيفا ثلاثة أشهر ... بغير قرى ثم ارتحلت بلا زاد )
وهذا يدلك على ان الشعراء لم يسلم من لسانهم من أحسن فضلا عمن أساء من العظماء والرؤساء وما امدح قول أبي محمد غانم فيهم
( ومن الغريب غروب شمس في الثرى ... وضياؤها باق على الآفاق ) وقال في المطمح في حق بني عباد وأوليتهم ما صورته الوزير أبو القاسم محمد بن عباد هذه بقية منتماها في لخم ومرتماها إلى مفخر ضخم وجدهم المنذر بن ماء السماء ومطلعهم من جو تلك السماء وبنو عباد ملوك أنس بهم الدهر وتنفس منهم عن أعبق الزهر وعمروا ربع الملك وأمروا بالحياة والهلك ومعتضدهم أحد من أقام وأقعد وتبوأ كاهل الإرهاب واقتعد وافترش من عريسته وافترس من مكايد فريسته وزاحم بعود وهد كل طود وأخمل كل ذي زي وشارة وختل بوحي وإشارة ومعتمدهم كان أجود الأملاك وأحد نيرات تلك الأفلاك وهو القائل وقد شغل عن منادمة خواص دولته بمنادمة العقائل
( لقد حننت إلى ما اعتدت من كرم ... حنين أرض إلى مستأخر المطر )
( فهاتها خلعا أرضي السماح بها ... محفوفة في أكف الشرب بالبدر )

وهو القائل وقد حن في طريقه إلى فريقه
( أدار النوى كم طال فيك تلذذي ... وكم عقتني عن دار أهيف أغيد )
( حلفت به لو قد تعرض دونه ... كماة الأعادي في النسيج المسرد )
( لجردت للضرب المهند فانقضى ... مرادي وعزما مثل حد المهند )
والقاضي أبو القاسم هذا جدهم وبه سفر مجدهم وهو الذي اقتنص لهم الملك النافر واختصهم منه بالحظ الوافر فإنه أخذ الرياسة من أيدي جبابر وأضحى من ظلالها أعيان اكابر عندما اناخت بها اطماعهم وأصاخت إليها أسماعهم وامتدت إليها من مستحقيها اليد وأتلعوا أجيادا زانها الجيد وفغر عليها فمه حتى هجا بيت العبدى وتصدى إليها من تحضر وتبدى فاقتعد سنامها وغاربها وأبعد عنها عجمها واعاربها وفاز من الملك بأوفر حصة وغدت سمته به صفة مختصة فلم يمح رسم القضاء ولم يتسم بسمة الملك مع ذلك النفوذ والمضاء وما زال يحمي حوزته ويجلو غرته حتى حوته الرجام وخلت منه تلك الآجام وانتقل الملك الى ابنه المعتضد وحل منه في روض نمق له ونضد ولم يعمر فيه ولم يدم ولاه وتسمى بالمعتضد بالله وارتمى إلى أبعد غايات الجود بما أناله وأولاه لولا بطش في اقتضاء النفوس كدر ذلك المنهل وعكر أثناء ذلك صفو العل والنهل ومازال للأرواح قابضا وللوثوب عليها رابضا يخطف أعداءه اختطاف الطائر من الوكر وينتصف منهم بالدهاء والمكر إلى أن أفضى الملك إلى إبنه المعتمد فاكتحل منه طرفه الرمد وأحمد مجده وتقلد منه أي بأس ونجدة ونال به الحق مناه وجر رسنه وأقام في الملك ثلاثا وعشرين سنة لم تعدم له فيها حسنة ولا سيرة مستحسنة إلى أن غلب على سلطانه وذهب به من أوطانه فنقل

إلى حيث اعتقل وأقام كذلك إلى ان مات ووارته برية اغمات وكان للقاضي جده أدب غض ومذهب مبيض ونظم يرتجله كل حين ويبعثه اعطر من الرياحين فمن ذلك قوله يصف النيلوفر
( يا ناظرين لذا النيلوفر البهج ... وطيب مخبره في الفوح والأرج )
( كأنه جام در في تألقه ... قد أحكموا وسطه فصا من السبج ) انتهى المقصود منه
671

- تراجم منقولة عن الفتح
1 - ترجمة ابن البنبي من المطمح
وهو اعني الفتح يشيد قصور الشرف إذا مدح ويهدم معاقلها إذا هجا وقدح
ومن أغراضه قوله في المطمح في حق الأديب أبي جعفر ابن البني رافع رايات القريض وصاحب آيات التصريح والتعريض أقام شرائعه وأظهر بدائعه إذا نظم أزرى بالعقود وأتى بأحسن من رقم البرود وكان أليف غلمان وحليف كفر لا إيمان مانطق متشرعا ولا رمق متورعا ولا اعتقد حشرا ولا صدق بعثا ولا نشرا وربما تنسك مجونا وفتكا وتمسك باسم التقى وقد هتكه هتكا لا يبالي كيف ذهب ولا بما تمذهب وكانت له أهاجي جرع بها صابا ودرع منها اوصابا وقد أثبت له ما يرتشف ريقا ويشرب تحقيقا فمن ذلك قوله يتغزل
( من لي بغرة فاتن يختال في ... حلل الجمال إذا بدا وحليه )
( لو شمت في وضح النهار شعاعها ... ما عاد جنح الليل بعد مضيه )

( شرقت لآلي الحسن حتى خلصت ... ذهبية في الخد من فضية )
( في صفحتيه من الجمال أزاهر ... غذيت بوسمي الحيا ووليه )
( سلت محاسنه لقتل محبه ... من سحر عينيه حسام سميه ) وله فيه
( كيف لا يزداد قلبي ... من جوى الشوق خبالا )
( وإذا قلت علي ... بهر الناس جمالا )
( هو كالغصن وكالبدر ... قواما واعتدالا )
( أشرق البدر كمالا ... وانثنى الغصن اختيالا )
( إن من رام سلوي ... عنه قد رام محالا )
( لست أسلو عن هواه ... كان رشدا أو ضلالا )
( قل لمن قصر فيه ... عذل نفسي او أطالا )
( دون أن تدرك هذا ... تسلب الأفق الهلالا )
وكنت بميورقة وقد حلها متسما بالعبادة وهو أسرى إلى الفجور من خيال أبي عبادة وقد لبس أسمالا ولبس منه أقوالا وأفعالا سجوده هجود وإقراره بالله جحود وكانت له رابطة لم يكن للوازمها مرتبطا ولا بسكناها مغتبطا سماها بالعقيق وسمى فتى كان يتعشقه بالحمى وكان لا يتصرف إلا في صفاته ولا يقف إلا بعرفاته ولا يؤرقه إلا جواه ولا يشوقه إلا هواه فإذا بأحد دعاة حبيبه ورواة تشبيبه قال له كنت البارحة بحماه وذكر له خبرا ورى به عني وعماه فقال

( تنفس بالحمى مطول أرض ... فأودع نشره نشرا شمالا )
( فصبحت العيون إلى كسلى ... تجرر فيه أردانا خضالا )
( أقول وقد شممت الترب مسكا ... بنفحتها يمينا او شمالا )
( نسيم جاء يبعث منك طيبا ... ويشكو من محبتك اعتلالا )
ولما تقرر عند ناصر الدولة من أمره ما تقرر وتردد على سمعه انتهاكه وتكرر أخرجه من بلده ونفاه وطمس رسم فسقه وعفاه فأقلع إلى المشرق وهو جار فلما صار من ميورقة على ثلاثة مجار نشأت له ريح صرفته عن وجهته إلى فقد مهجته فلما لحق بميورقة أراد ناصر الدولة إماحته وأخذ ثار الدين منه وإراحته ثم آثر صفحه وأخمد ذلك الجمر ولفحه وأقام أياما ينتظر ريحا علها تزجيه ويستهديها لتخلصه وتنجيه وفي أثناء بلوته لم يتجاسر أحد على إتيانه من إخوته فقال يخاطبهم
( أحبتنا الألى عتبوا علينا ... فأقصرنا وقد أزف الوداع )
( لقد كنتم لنا جذلا وأنسا ... فهل في العيش بعدكم انتفاع )
( أقول وقد صدرنا بعد يوم ... أشوق بالسفينة أم نزاع )
( إذا طارت بنا حامت عليكم ... كأن قلوبنا فيها شراع )
وله يتغزل
( بني العرب الصميم ألا رعيتم ... مآثركم بآثار السماح )
( رفعتم ناركم فعشا إليها ... بوهن فارس الحي الوقاح )
( فهل في القعب فضل تنضحوه ... به من محض ألبان اللقاح )
( لعل الرسل شابته الثنايا ... بشهد من ندى نور الأقاح )

وله أيضا
( وكأنما رشأ الحمى لما بدا ... لك في مضلعه الحديد المعلم )
( غصب الغمام قسية فأراكها ... من حسن معطفه قويم الأسهم )
وله أيضا
( نظرت إليه فاتقاني بمقلة ... ترد إلى نحري صدور رماح )
( حميت الجفون النوم يا رشأ الحمى ... وأظلمت أيامي وأنت صباحي ) وقال
( قالوا تصيب طيور الجو أسهمه ... إذا رماها فقلنا عندنا الخبر )
( تعلمت قوسها من قوس حاجبه ... وأيد السهم من ألحاظه الحور )
( يروح في بردة كالنقس حالكة ... كما أضاء بجنح الليلة القمر )
( وربما راق في خضراء مورقة ... كما تفتح في اوراقه الزهر )
2

- ترجمة ابن لبال من المطمح
وقال في ترجمة أبي الحسن ابن لبال شاعر سمح متقلد بالإحسان متشح أم الملوك والرؤساء ويمم تلك العزة القعساء فانتجع مواقع خيرهم واقتطع ماشاء من ميرهم وتمادت أيامه إلى هذا الأوان فجالت به في ميدان الهوان فكسد نفاقه وارتدت آفاقه وتوالى عليه حرمانه وإخفاقه وأدركته وقد خبنته سنونه وانتظرته منونه ومحاسنه كعهدها في الاتقاد وبعدها من الانتقاد وقد أثبت منها ما يعذب جنى وقطافا ويستعذب استنزالا واستلطافا فمن ذلك قوله يستنجد الأمير الأجل أبا إسحاق ابن أمير المسلمين

( قل للأمير ابن الأمير بل الذي ... أبدا به في المكرمات وفي الندى )
( والمجتني بالزرق وهي بنفسج ... ورد الجراح مضعفا ومنضدا )
( جاءتك آمال العفاة ظوامئا ... فاجعل لها من ماء جودك موردا )
( وانثر على المداح سيبك إنهم ... نثروا المدائح لؤلؤا وزبرجدا )
( فالناس إن ظلموا فأنت هو الحمى ... والناس إن ضلوا فأنت هو الهدى )
أخبرني وزير السلطان ان هذه القطعة لما ارتفعت اعتنت بجملة الشعراء وشفعت فأنجز لهم الموعود وأورق لهم ذلك العود وكثر اللغط في تعظيمها واستجادة نظيمها وحصل له بها ذكر وانصقل له بسببها فكر وله من قطعة يصف بها سيفا
( كل نهر توقدت شفرتاه ... كاتقاد الشهاب في الظلماء )
( فهو ماء قد ركبت فوق نار ... أو كنار قد ركبت فوق ماء ) وكتب إلي معزيا عن والدتي
( على مثله من مصاب وجب ... على من أصيب به المنتجب )
( وقلب فروق ولب خفوق ... ونفس تشب وهم نصب )
( فقد خشعت للتقى هضبة ... ذؤابتها في صميم العرب )
( من الجاعلات محاريبها ... هوادجها أبدا والقتب )
( من القائمات بظل الدجى ... ولا من تسامر إلا الشهب )
( فكم ركعت إثرها في الدجى ... تناجي بها ربها من كثب )
( وكم سكبت في أوان السجود ... مدامع كالغيث لما انسكب )
( وقد خلفت ولدا باسلا ... فصيحا إذا ماقرأ او خطب )

( يفل السيوف بأقلامه ... ويكسر صم القنا بالقصب )
وكان القائد أبو عمرو عثمان بن يحيى بن ابراهيم أجل من جال في خلد واستطال على جلد رشأ يحيى باحتشامه ويسترد البدر بلثامه ويزري بالغصن تثنيه ويثمر الحسن لو دنت قطوفه لمجتنيه مع لوذعية تخالها جريالا وسجية يختال فيها الفضل اختيالا وكان قد بعد عن أنسنا بحمص وانتضى من تلك القمص وكان بثغر الأشبونة فسده ولم ينفرج لنا من الأنس بعده ما يسد مسده إلى أن صدر فأسرع إلينا وابتدر فالتقينا وبتنا ليلة نام عنها الدهر وغفل وقام لنا بما شئنا فيها وتكفل فبينا نحن نفض ختامها وننفض عنا غبار الوحشة وقتامها إذا أنا بابن لبال هذا وقد دخل إذنه علينا فأمرناه بالنزول والتقيناه بترحيب وأنزلناه بمكان من المسرة رحيب وسقيناه صغارا وكبارا وأريناه إعظاما وإكبارا فلما شرب طرب وكلما كرعها التحف السلوة وتدرعها ومازال يشرب أقداحا وينشد فينا أمداحا ويفدي بنفسه ويستهدي الاستزادة من أنسه فهتكنا الظلام بما أهداه من البديع واجتلينا محاسنه كالصديع وانفصلت ليلته عن أتم مسرة وأعم مبرة وارتحل عثمان أعزه الله إلى ثغره وأقام به برهة من دهره فمشيت بها إليه مجددا عهدا ومتضلعا من مؤانسته شهدا فكتب ابن لبال هذه القطعة من القصيدة يذهب إلى شكره ويجتهد في تجديد ذكره
( ماشام إنسان إنسان كعثمان ... ولا كبغيتة من حسن إحسان )
( بدر السيادة يبدو في مطالعه ... من المحاسن محفوفا بشهبان )
( له التمام وما بالأفق من قمر ... متمم دون أن يرمى بنقصان )
( به الشبيبة تزهى من نضارتها ... كما تساقط طل فوق بستان )

( معصفر الحسن للأبصار ناصعه ... كأنه فضة شيبت بعقيان )
( نبئت عنه بأنباء إذا نفحت ... تعطلت نفحات المسك والبان )
( قامت عليه براهين تصدقها ... كالشكل قام عليه كل برهان )
( قد زادها ابن عبيدالله من وضح ... مازادت الشمس نور الفجر للراني )
( بالله بلغه تسليمي إذا بلغت ... تلك الركاب وعجل غير ليان )
( وليت اني لو شاهدت أنسكما ... على كؤوس وطاسات وكيزان )
( فألفظ الكلم المنثور بينكما ... كأنما هو من در ومرجان )
( لله درك ياذا الخطتين لقد ... خططت بالمدح فيه كل ديوان )
( كلاكما البحر في وجود وفي كرم ... أو الغمامة تسقي كل ظمآن )
( إن كان فارس هيجاء ومعترك ... فأنت فارس إفصاح وتبيان )
( فاذكر أبا نصر
المعمور منزله ... بالرفد ماشئت من مثنى ووحدان )
( قصائدا لأخي ود وإن نزحت ... بك الركاب إلى أقصى خراسان )
3

- ترجمة عبدالمعطي من المطمح
وقال في ترجمة الأديب أبي بكر عبدالمعطي بيت شعر ونباهة وأبو بكر ممن انتبه خاطره للبدائع أي انتباهة وله أدب باهر ونظم كما سفرت ازاهر وقد أثبت له جمالا يبلغ آمالا فمن ذلك قوله وقد اجتمعنا في ليلة لم يضرب لها وعد ولم يعزب عنها سعد وهو قعدي قد شب عن طوق الأنس في الندي وماقال خالي عمرو ولا عدي والكهولة قد قبضته وأقعدته عن ذلك وما أنهضته

( إمام النثر والمنظوم فتح ... جميع الناس ليل وهو صبح )
( له قلم جليل لا يجارى ... يقر بفضله سيف ورمح )
( يباري المزن ما سحت سماحا ... وإن شحت فليس لديه شح )
وكان مرتسما في عسكر قرطبة وكان ابن سراج يقوم له بكل ما يبغي تطلبه خيفة من لسانه ومحافظة على إحسانه ولما خرج إلى إقليش خرج معه وجعل يساير من شيعه فلما حصلوا بفحص سرادق وهو موضع توديع المفارق للمفارق قرب منه أبو الحسين ابن سراج لوداعه وأنشده في تفرق الشمل وانصداعه
( هم رحلوا عنا لأمر لهم عنا ... فما أحد منهم على أحد حنا )
( ومارحلوا حتى استقادوا نفوسنا ... كأنهم كانوا أحق بها منا )
( فيا ساكني نجد لتبعد داركم ... ظننا بكم ظنا فأخلفتم الظنا )
( غدرتم ولم أغدر وخنتم ولم أخن ... وقلتم ولم أعتب وجرتم وما جرنا )
( وأقسمتم أن لا تخونون في الهوى ... فقد وذمام الحب خنتم وما خنا )
( ترى تجمع الأيام بيني وبينكم ... ويجمعنا دهر نعود كما كنا
فلما استتم إنشاده لحق بالسلطان وإعتذر إليه بمريض خلفه وهو يخاف تلفه فأذن له بالانصراف وكتب ألي أبي الحسين ابن سراج
( أما والهدايا ما رحلنا ولا حلنا ... وإن عن من دون الترحل ماعنا )
( تركنا ثواب الفضل والعز للعزى ... على مضض منا وعدنا كما كنا )
( وليس لنا عنكم على البين سلوة ... وإن كان أنتم عندكم سلوة عنا )
وجمعتنا عشية بربض الزجالي بقرطبة ومعنا لمة من الإخوان وهو في

جملتهم مناهض لأعيانهم وجلتهم بفضل أدبه وكثرة سحبه فجعل يرتجل ويروي وينشر محاسن الآداب ويطوي ويمتعنا بتلك الأخبار ويقطعنا منها جانب اعتبار ويطلعنا على إقبال الأيام وعلى الادبار ثم قال
( أيا ابن عبيدالله يا ابن الأكارم ... لقد بخلت يمناك صوب الغمائم )
( لك القلم الأعلى الذي عطل القنا ... وفل ظبات المرهفات الصوارم )
( وأخلاقك الزهر الأزاهر بالربى ... ترف بشؤبوب الغيوث السواجم )
( بقيت لتشييد المكارم والعلى ... تظاهرها بالسالف المتقادم )
واجتمع عند أبيه لمة من أهل الأدب وذوي المنازل والرتب في عشية غيم أعقب مطرا وخط فيها البرق أسطرا والبرد يتساقط كدر من نظام ويتراءى كثنايا غادة ذات ابتسام وهو غلام ما نضا برد شبابه ولا انتضى مرهف آدابه فقال معرضا بهم ومتعرضا لتحقق أدبهم
( كأن الهواء غدير جمد ... بحيث البروق تذيب البرد )
( خيوط وقد عقدت في الهواء ... وراحة ريح تحل العقد )
وشرب في دار ابن الأعلم في يوم لم ير الدهر فيه اساءة وليل نسخ نور أنسه مساءه ومعهم جملة من الشعراء وجماعة من الوزراء منهم أبناء القبطرنة فوقع بينهم عتاب وتعذال وامتهان في ميدان المشاجرة وابتذال آل به إلى تجريد السيف وتكدير ما صفا بذلك الحيف فسكنوه بالاستنزال وثنوه عن ذلك النزال
4

- ترجمة ابن بقي من المطمح والقلائد
وقال في المطمح في حق أبي بكر يحيى بن بقي القرطبي صاحب الموشحات البديعة كان نبيل السيرة والنظام كثير الارتباط في سلكه والانتظام أحرز خصالا وطرز بمحاسنه بكرا وآصالا وجرى في ميدان الإحسان إلى أبعد

أمد وبنى من المعارف أثبت عمد إلا ان الأيام حرمته وقطعت حبل رعايته وصرمته فلم تتم له وطرا ولم تسجم عليه الحظوة مطرا ولا سوغت من الحرمة نصيبا ولا انزلته مرعى خصيبا فصار راكب صهوات وقاطع فلوات لا يستقر يوما ولا يستحسن نوما مع توهم لا يظفره بامان وتقلب ذهن كالزمان إلا أن يحيى بن علي بن القاسم نزعه من ذلك الطيش وأقطعه جانبا من العيش وأرقاه إلى سمائه وسقاه صيب نعمائه وفيأه ظلاله وبوأة أثر النعمة يجوس خلاله فصرف به أقواله وشرف بعواقبه فعاله وأفرده منها بأنفس در وقصده منها بقصائد غر انتهى المقصود جلبة من ترجمته في المطمح
وقال في حقه في القلائد رافع راية القريض وصاحب آية التصريح فيه والتعريض اقام شرائعه وأظهر روائعه وصار عصية طائعة إذا نظم زرى بنظم العقود واتى بأحسن من رقم البرود وطفا عليه حرمانه فما صفا له زمانه انتهى
وابن بقي المذكور هو القائل
( بأبي غزال غازلته مقلتي ... بين العذيب وبين شطي بارق ) الأبيات المذكورة في غير هذا الموضع
ومن موشحاته قوله
( غلب الشوق بقلبي فاشتكى ... ألم الوجد فلبت أدمعي )
( أيها الناس فؤادي شفف ... وهو من بغي الهوى لا ينصف )
( كم أداريه ودمعي يكف )
( أيها الشادن من علمكا ... بسهام اللحظ قتل السبع )

( بدر تم تحت ليل أغطش ... طالع في غصن بان منتشي )
( أهيف القد بخد أرقش )
( ساحر الطرف وكم ذا فتكا ... بقلوب الأسد بين الأضلع )
( أي ريم رمته باجتنبا ... وانثنى يهتز من سكر الصبا )
( كقضيب هزه ريح الصبا )
( قلت هب لي ياحبيبي وصلكا ... واطرح أسباب هجري ودع )
( قال خدي زهرة مذ فوفا ... جردت عيناي سيفا مرهفا )
( حذرا منه بأن لا يقطفا )
( إن من رام جناه هلكا ... فأزل عنك علال الطمع )
( ذاب قلبي في هوى ظبي غرير ... وجهه في الدجن صبح مستنير )
( وفؤادي بين كفيه أسير )
( لم أجد للصبر عنه مسلكا ... فانتصاري بانسكاب الأدمع )
وقال رحمه الله تعالى
( خذ حديث الشوق عن نفسي ... وعن الدمع الذي همعا )
( ماترى شوقي وقد وقدا

وهمى دمعي واطردا )
( واغتدى قلبي عليك سدى )
( آه من ماء ومن قبس ... بين طرفي والحشا جمعا )
( بأبي ريم إذا سفرا ... أطلعت أزراره قمرا )
( فاحذروه كلما نظرا )
( فبألحاظ الجفون قسي ... انا منها بعض من صرعا )
( أرتضيه جار او عدلا ... قد خلعت العذر والعذلا )
( إنما شوقي إليه جلا )
( كم وكم أشكو إلى اللعس ... ظمئي لو أنه نفعا )
( صال عبدالله بالحور ... وبطرف فاتر النظر )
( حكمه في أنفس البشر )
( مثل حكم الصبح في الغلس ... إن تجلى نوره صدعا )
( شبهته بالرشا الأمم ... فلعمري إنهم ظلموا )
( فتغنى من به السقم )
( أين ظبي القفر والكنس ... من غزال في الحشا رتعا ) انتهى

وله أيضا
( ماردني لابس ثوب الضنى الدارس إلا قمر ... في غصن مائس شعاعه عاكس ضوء البصر )
( أسير كالسيل إليه لا باع إلا ودادي ... والطيف في خيل لهن إسراع مع الرقاد )
( ياكوكب الليل إن كنت ترتاع فلم فؤادي ... كالأسد العابس لكنه خانس من الحور )
ومن نظمه قصيدة مدح يحيى بن علي بن القاسم المذكور بها منها في المديح قوله
( نوران ليسا يحجبان عن الورى ... كرم الطباع ولا جمال المنظر )
( وكلاهما جمعا ليحيى فليدع ... كتمان نور علائه المتشهر )
( في كل أفق من جمال ثنائه ... عرف يزيد على دخان المجمر )
( رد في شمائله ورد في جوده ... بين الحديقة والغمام الممطر )
( بدر عليه من الوقار سكينة ... فيها لقيطة كل ليث مخدر )
( مثل الحسام إذا انطوى في غمده ... ألقى المهابة في نفوس الحضر )
( أربى على المزن الملث لأنه ... أعطى كما أعطى ولم يستعبر ) ومنها
( أقبلت مرتادا لجودك إنه ... صوب الغمامة بل زلال الكوثر )
( ورأيت وجه النجح عندك أبيضا ... فركبت نحوك كل لج أخضر ) وهي طويلة

استطراد
وقوله أربى على المزن الملث البيت هو معنى تلاعب الشعراء بكرته

وأورده كل منهم على حسب مقدرته فقال بعض
( من قاس جدواك بالغمام فما ... انصف في الحكم بين شيئين )
( أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين )
وقال آخر
( ما نوال الغمام يوم ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء )
( فنوال الأمير بدرة عين ... ونوال الغمام قطرة ماء ) وهما من شواهد البديع
وقال أبو عبدالله الحوضي التلمساني في قصيدة مدح بها سلطان تلمسان أبا عبدالله الزياني
( أصبح المزن من عطائك يحكي ... يوم الاثنين للأنام عطاء )
( كيف يدعى لك الغمام شبيها ... ولقد فقته سنا وسناء )
( أنت تعطي إذا تقصر مالا ... وهو يعطي إذا تطول ماء )

رجع
وذكر العماد في الخريدة ابن بقي المذكور وأورد له جملة من المقطعات ومحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى وبقي على وزن علي
رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى
وقال ابن اللبانة في بني عباد ما نصه بماذا أصفهم وأحليهم وأي منقبة من الجلالة اوليهم فهم القوم الذين تجل مناقبهم عن العد والإحصاء ولا يتعرض لها بالاستيفاء والاستقصاء ملوك زينت بهم الدنيا وتحلت وترقت حيث شاءت وحلت إن ذكرت الحروب فعليهم يوقف منها الخبر اليقين أو عدت المآثر فهم في ذلك في درجة السابقين أصبح الملك بهم مشرق القسام والأيام

ذات بهجة وابتسام حتى اناخ بهم الحمام وعطل من محاسنهم الوراء والأمام فنقل إلى العدم وجودهم ولم يرع بأسهم وجودهم وكل ملك آدمي فمفقود ( وما نؤخره إلا لأجل معدود ) هود 104 فاول ناشئة ملكهم ومحصل الأمر تحت ملكهم عظيمهم الأكبر وسابقة شرفهم الأجل الأشهر وزينهم الذي يعد في الفضائل بالوسطى والخنصر محمد بن عباد ويكنى أبا القاسم واسم والده إسماعيل ومن شعره قوله
( يا حبذا الياسمين إذ يزهر ... فوق غصون رطيبة نضر )
( قد امتطى للجبال ذروتها ... فوق بساط من سندس أخضر )
( كأنه والعيون ترمقه ... زمرد في حلاله جوهر )
ولنذكر كلام ابن اللبانة وغيره في حقهم فنقول وصف المعتضد رحمه الله تعالى بما صورته المعتضد أبو عمرو عباد رحمه الله تعالى لم تخل أيامه في أعدائه من تقييد قدم ولا عطل سيفه من قبض روح وسفك دم حتى لقد كانت في باب داره حديقة لا تثمر إلا رؤوسا ولا تنبت إلا رئيسا ومرؤوسا فكان نظره إليها أشهى مقترحاته وفي التلفت إليها استعمل جل بكره وروحاته فبكى وأرق وشتت وفرق ولقد حكي عنه من اوصاف التجبر ما ينبغي أن تصان عنه الأسماع ولا يتعرض له بتصريح ولا إلماع ومن نظمه عفا الله عنه
( أتتك أم الحسن ... تشدو بصوت حسن )
( تمد في ألحانها ... من الغناء المدني )
( تقود مني ساكنا ... كأنني في رسن )
( أوراقها أستارها ... إذا شدت في فنن ) وقوله
( شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق )

( معتقة كالتبر اما نجارها ... فضخم وأما جسمها فرقيق )
وقوله
( قد وجدنا الحبيب يصفي وداده ... وحمدنا ضميره واعتقاده )
( قرب الحب من فؤاد محب ... لا يرى هجره ولا إبعاده )
وقال عند حصول رندة في ملكه
( لقد حصلت يارندة ... فصرت لملكنا عده )
( أفادتناك أرماح ... وأسياف لها حده )
وقال رحمه الله تعالى
( اشرب على وجه الصباح ... وانظر إلى نور الأقاح )
( واعلم بأنك جاهل ... مالم تقل بالاصطباح )
( فالدهر شيء بارد ... مالم تسخنه براح )
672

- ابن جاخ والمعتضد
ومن حكايات المعتضد عباد ما ذكره غير واحد ان ابن جاخ الشاعر ورد على حضرته فدخل الدار المخصوصة بالشعراء فسألوه فقال إني شاعر فقالوا أنشدنا من شعرك فقال
( إني قصدت إليك ياعبادي ... قصد القليق بالجري للوادي )
فضحكوا منه وازدروه فقال بعض عقلائهم دعوه فإن هذا شاعر وما يبعد أن يدخل مع الشعراء ويندرج في سلكهم فلم يبالوا بكلام الرجل وتنادروا على المذكور فبقي معهم وكان لهم في تلك الدولة يوم مخصوص

لا يدخل فيه على الملك غيرهم وربما كان يوم الاثنين فقال بعض لبعض هذه شنعة بنا أن يكون مثل هذا البادي يقدم علينا ويجترىء على الدخول معنا فاتفقوا على ان يكون هو اول متكلم في اليوم المخصوص بهم عند جلوس السلطان وقد راوا ان يقول مثل ذلك الشعر المضحك فيطرده عنهم ويكون ذلك حسما لعله إقدام مثله عليهم فلما كان اليوم المذكور وقعد السلطان في مجلسه ونصب الكرسي لهم رغبوا منه ان يكون هذا القادم اول متكلم في ذلك اليوم فأمر بذلك فصعد الكرسي وانتظروا أن ينشد مثل الشعر المضحك المتقدم فقال
( قطعت يا يوم النوى أكبادي ... وحرمت عن عيني لذيذ رقادي )
( وتركتني أرعى النجوم مسهدا ... والنار تضرم في صميم فؤادي )
( فكأنما آلى الظلام ألية ... لا ينجلي إلا إلى ميعاد )
( يا بين بين أين تقتاد النوى ... إبل الذين تحملوا بسعاد )
( ولرب خرق قد قطعت نياطه ... والليل يرفل في ثياب حداد )
( بشملة حرف كأن ذميلها ... سرح الرياح وكل برق غادي )
( والنجم يحدوها وقد ناديتها ... يا ناقتي عوجي على عباد )
( ملك إذا ما أضرمت نار الوغى ... وتلاقت الأجناد بالأجناد )
( فترى الجسوم بلا رؤوس تنثني ... وترى الرؤوس لقى بلا أجساد )
( يا أيها الملك المؤمل والذي ... قدما سما شرفا على الأنداد )
( إن القريض لكاسد في أرضنا ... وله هنا سوق بغير كساد )
( فجلبت من شعري إليك قوافيا ... يفنى الزمان وذكرها متمادي )
( من شاعر لم يضطلع أدبا ولا ... خطت يداه صحيفة بمداد )
فقال له الملك انت ابن جاخ فقال نعم فقال اجلس فقد وليتك رئاسة الشعراء واحسن إليه ولم يأذن في الكلام في ذلك اليوم لأحد بعده انتهى

رجع إلى أخبار بقية بني عباد
المعتمد على الله أبو القاسم محمد بن المعتضد أبي عمرو عباد ابن القاضي أبي القاسم ابن عباد رحمه الله تعالى ملك مجيد وأديب على الحقيقة مجيد وهمام تحلى به للملك لبة وللنظم جيد أفنى الطغاة بسيفه وأباد وأنسى بسيبه ذكر الحارث بن عباد فأطلع أيامه في الزمان حجولا وغررا ونظم معاليه في أجيادها جواهر ودررا وشيد في كل معلوة فناءه وعمر بكل نادرة مستغربة وبادرة مستظرفة أوقاته وآناءه فنفقت به للمحامد سوق وبسقت ثمرات إحسانه أي بسوق منع وقرى وراش وبرى ووصل وفرى وكان له من أبنائه عدة أقمار نظمهم نظم السلك وزين بهم سماء ذلك الملك فكانوا معاقل بلاده وحماة طارفه وتلاده إلى أن استدار الزمان كهيئته وأخذ البؤس في فيئته واعتز الخلاف وظهر وسل الشتات سيفه وشهر والمعتمد رحمه الله تعالى يطلب نفسه أثناء ذلك بالثبات بين تلك الثبات والمقام في ذلك المقام إلى أن بدل القطب بالواقع واتسع الخرق على الراقع فاستعضد بابن تاشفين فورد عليه خطابه يشعر بالوفاء فثاب إليه فكر خاطره وفاء وثبت خلال تلك المدة للنزال ودعا من رام حربة نزال إلى ان أصبح والحروب قد نهبته والأيام تسترجع منه ما وهبته فثل ذلك العرش واعتدت الليالي حين أمنت من الأرش فنقل من صهوات الخيول إلى بطون الأجفان وهذه الدنيا جميع ما لديها زائل وكل من عليها فان فما أغنت تلك المملكة وما دفعت وليتها ما ضرت إذ لم تكن نفعت وكل يلقى معجله ومؤجله ويبلغ الكتاب اجله
وقال الفقيه القاضي أبو بكر ابن خميسن رحمه الله تعالى حين ذكر تاريخ بني عباد وقد ذكر الناس للمعتمد من اوصافه ما لا يبلغ مع كثرته إلى إنصافه وأنا الآن أذكر نبذا من أخباره وأردفها بما وقفت عليه من منظومات

أشعاره فإنه رحمه الله تعالى جم الأدب رائقه عالي النظم فائقه كان يسمى بمحمد ويكنى بأبي القاسم على كنية جده القاضي استبد بالأمر عند موت أبيه المعتضد وفي ذلك يقول الحصري رحمه الله تعالى
( مات عباد ولكن ... بقي الفرع الكريم )
( فكأن الميت حي ... غير أن الضاد ميم )
قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى ولم يزل المعتمد بخير إلى أن كانت سنة خمس وسبعين وأربعمائة ووصل اليهودي ابن شاليب لقبض الجزية المعلومة مع قوم من رؤساء النصارى وحلوا بباب من أبواب إشبيلية فوجه لهم المعتمد المال مع جماعة من وجوه دولته فقال اليهودي والله لا أخذت هذا العيار ولا آخذه منه إلا مشجرا وبعد هذا العام لا آخذ منه إلا أجفان البلاد ردوه إليه فرد المال إلى المعتمد وأعلم بالقصة فدعا بالجند وقال ائتوني باليهودي وأصحابه واقطعوا حبال الخباء ففعلوا وجاؤوا بهم فقال اسجنوا النصارى واصلبوا اليهودي الملعون فقال اليهودي لا تفعل وأنا أفتدي منك بزنتي مالا فقال والله لو أعطيتني العدوة والأندلس ما قبلتهما منك فصلب فبلغ الخبر النصراني فكتب فيهم فوجه اليه بهم فأقسم النصراني أن يأتي من الجنود بعدد شعر رأسه حتى يصل إلى بحر الزقاق وأمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إذ ذاك محاصر سبتة فجاز المعتمد إليه ووعده بنصرته فرجع وحث ملوك الأندلس على الجهاد ثم وصل ابن تاشفين فكانت غزوة الزلاقة المشهورة ورجع ابن تاشفين إلى المغرب ثم جاز بعد ذلك الى الأندلس وتوهم ابن عباد أنه إذا أخذ البلاد يأخذ أموالها ويترك الأجفان فعزم ابن تاشفين على أن يخلع ملوك الأندلس ودارت إذ ذاك مكايد جمة ثم وجه ابن تاشفين من سبتة إلى المعتمد يطلب منه الجزيرة الخضراء وفيها ابنه يزيد فكتب إليه معتذرا عنها فلم يكن إلا كلمح البصر وإذا بمائة شراع قد أطلت على الجزيرة

فطير ابنه الحمام إليه فأمره باخلائها فظهر عند ذلك ابن تاشفين وقيل إنه لم يجز المرة الأولى حتى طلب من المعتمد الجزيرة لتكون عدة له وكان ذلك بدسيسة بعض اهل الأندلس نصحا لابن تاشفين ثم شرع ابن تاشفين في خلع ملوك الأندلس وقتالهم وأرسل إلى كل مملكة جماعة من أهل دولته وأجناده يحاصرونها وأرسل إلى حضرة المعتمد إشبيلية وشرع في قتالها والناس قد ملوا الدولة العبادية وسئموها على ماجرت به العادة من حب الجديد لاسيما وقد ظهر من ابن عباد من التهتك في الشرب والملاهي ما لا يخفى أمره فتمنى أكثر الناس الراحة من دولتهم ولما اشتد مخنق المعتمد وجه عن النصارى فأعد لهم ابن تاشفين من لقيهم في الطريق فهزمهم وجهز ابن تاشفين القطائع لإشبيلية وجد في حصارها والمعتمد مع ذلك منغمس في لذاته وقد ألقى الأمور بيد ابنه الرشيد فلم يشعر ابن عباد إلا والعسكر معه في البلد فأفاق من نومه وصحا من سكره وركب فرسه وحسامه في يده وليس عليه إلا ثوب واحد فوافق العسكر قد دخل من باب الفرج ووافى هنالك طبالا فضربه بسيفه ضربة قسمه بها نصفين ففر الناس امامه وتراموا من السور ووقف حتى بان الباب وفي ذلك يقول الأبيات المذكورة فيما يأتي
( إن يسلب القوم العدا إالخ )
فلما وصل إلى باب الصباغين وجد ابنه مالكا مقتولا فاسترحم له ودخل القصر وزاد الأمر بعد ذلك ودخل البلد من كل جهاته فطلب الأمان له ولمن معه فأمن وجميع من له وأعدت له مراكب واجتاز إلى طنجة فلقيه الحصري الشاعر وكان قد ألف له كتاب المستحسن من الأشعار فلم يقض بوصوله إليه إلا وهو على تلك الحالة فلما أخذ المعتمد الكتاب قال للحصري ارفع ذلك البساط فخذ ما تحته فوالله ما املك غيره فوجد تحته جملة مال فأخذه ثم انتقل حتى وصل أغمات ولم يزل بها إلى أن مات رحمه الله تعالى

وقال الفتح في ترجمته مانصه ملك قمع العدا وجمع البأس والندى وطلع على الدنيا بدر هدى لم يتعطل يوما كفه ولا بنانه آونة يراعه وآونة سنانه وكانت أيامه مواسم وثغوره بواسم ولياليه كلها دررا وللزمان حجولا وغررا لم يغفلها من سمات عوارف ولم يضحها من ظل إيناس وارف ولا عطلها من مأثرة بقي أثرها باديا ولقي معتفيه منها إلى الفضل هاديا وكانت حضرته مطمحا للهمم ومسرحا لآمال الأمم ومقذفا لكل كمي وموقفا لكل ذي انف حمي لم تخل من وفد ولم يصح جوها من انسجام رفد فاجتمع تحت لوائه من جماهير الكماة ومشاهير الحماة أعداد يغص بهم الفضاء وأنجاد يزهى بهم النفوذ والمضاء وطلع في سمائه كل نجم متقد وكل ذي فهم منتقد فأصبحت حضرته ميدانا لرهان الأذهان ومضمارا لأحراز الخصل في كل معنى وفصل فلم يلتحق بزمامه إلا كل بطل نجد ولم يتسق في نظامه إلا ذكاء ومجد فأصبح عصره اجمل عصر وغدا مصره أكمل مصر تسفح فيه ديم الكرم ويفصح فيه لسانا سيف وقلم ويفضح الرضى في وصفه أيام ذي سلم وكان قومه وبنوه لتلك الحلبة زينا ولتلك الجملة عينا إن ركبوا خلت الأرض فلكا يحمل نجوما وإن وهبوا رأيت الغمائم سجوما وإن أقدموا احجم عنترة العبسي وإن فخروا أفحم عرابة الأوسي ثم انحرفت الأيام فألوت بإشراقه وأذوت يانع إيراقه فلم يدفع الرمح ولا الحسام ولم تنفع تلك المنن الجسام فتملك بعد الملك وحط من فلكه إلى الفلك فأصبح خائضا تحدوه الرياح وناهضا يزجيه البكاء والصياح قد ضجت عليه أياديه وارتجت جوانب ناديه وأضحت منازله قد بان عنها الأنس والحبور وألوت ببهجتها الصبا والدبور فبكت العيون عليه دما وعاد

موجود الحياة عدما وصار أحرار الدهر فيه خدما فسحقا لدنيا مارعت حقوقه ولا أبقت شروقه فكم أحياها لبنيها وأبداها رائقة لمجتيها وهي الأيام لا يتقى من تجنيها ولا تبقي على مواليها ومدانيها أدثرت آثار جلق وأخمدت نار المحلق وذللت عزة ابن شداد وهدت القصر ذا الشرفات من سنداد ونعمت ببؤس النعمان وأكمنت غدرها له في طلب الأمان انتهى
ثم ذكر الفتح من أخباره وأشعاره ومجالس انسه وغير ذلك من أمره نبذا ذكرنا بعضها في هذا الكتاب
673

- الراضي ابن المعتمد
وقال في ترجمة ابنه الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد مانصه ملك تفرع من دوحة سناء أصلها ثابت وفرعها في السماء وتحدر من سلالة اكابر ورقاة أسرة ومنابر وتصرف أثناء شبيبته بين دراسة معارف وإفاضة عوارف وكلف بالعلم حتى صار ملهج لسانه وروضة أجفانه لا يستريح منه إلا إلى متن سائل الغرة ميمون الأسرة يسابق به الرياح ويحاسن بغرته البدر اللياح عريق في السناء عتيق الاقتناء سريع الوخد والإرقال من آل أعوج أو لذي العقال إلى أن ولاه أبوه الجزيرة الخضراء وضم إليها رندة الغراء فانتقل من متن الجواد إلى ذروة الأعواد وأقلع عن الدراسة إلى تدبير الرياسة ومازال يدبرها بجوده ونهاه ويورد الآمل فيها مناه حتى غدت عراقا وامتلأت إشراقا إلى أن اتفق في أمر الجزيرة ما اتفق وخاب

فيها الرجاء وأخفق واستحالت بهجتها واحالت عليها من الحال لجتها فانتقل إلى رندة معقل أشب ومنزل للسماك منتسب وأقام فيها رهين حصار ومهين حماة وأنصار ولقيت ريحه كل إعصار حتى رمته سهام الخطوب عن قسيها وأمكنت منه يدي مسيها فحواه رمسه وطواه عن غده امسه حسبما بسطنا القول فيه فيما مر من أخبار أبيه انتهى
والذي أشار إليه هنا وأحال عليه فيما تقدم له من أخبار المعتمد هو قوله بعد حكايته قتل المأمون بن المعتمد بقرطبة وسياقة أخبار ذلك ما نصه ثم انتقلوا إلى رندة احد معاقل الأندلس الممتنعة وقواعدها السامية المرتفعة تطرد منها على بعد مرتقاها ودنو النجوم من ذراها عيون لانصبابها دوي كالرعد القاصف والرياح العواصف ثم تتكون واديا يلتوي بجوانبها التواء الشجاع ويزيدها في التوعر والامتناع وقد تجونت نواحيها وأقطارها وتكونت فيها لباناتها وأوطارها لا يتعذر لها مطلب ولا يتصورفيها عدو إلا علقه ناب أو مخلب فلما أناخوا منها على بعد وأقاموا من الرجاء فيها على غير وعد وفيها ابنه الراضي لم يحفل بأناختهم بإزائه ولا عدها من أرزائه لامتناعه من منازلتهم وارتفاعه عن مطاولتهم إلى ان انقضى في امر إشبيلية ما انقضى وأفضى أمر أبيه إلى ما أفضى فحمل على مخاطبته لينزل عن صياصيه ويمكنهم من نواصيه فنزل برا بأبيه وإبقاء على أرماق ذويه بعد أن عاقدهم مستوثقا وأخذ عليهم عهدا من الله وموثقا فلما وصل إليهم وحصل في يديهم مالوا به عن الحصن وجرعوه الردى وأقطعوه الثرى حين اودى وفي ذلك يقول المعتمد يرثيهما وقد رأى قمرية بائحة بشجنها نائحة بفننها على سكنها وامامها وكر فيه طائران يرددان نغما ويغردان ترحة وترنما

( بكت ان رأت إلفين ضمهما وكر ... مساء وقد أخنى على إلفها الدهر )
( وناحت فباحت واستراحت بسرها ... وما نطقت حرفا يبوح به سر )
( فما لي لا أبكي أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر )
( بكت واحدا لم يشجها غير فقده ... وأبكي لألاف عديدهم كثر )
( بني صغير أو خليل موافق ... يمزق ذا قفر ويغرق ذا بحر )
( ونجمان زين للزمان احتواهما ... بقرطبة النكداء او رندة القبر )
( غدرت إذن إن ضن جفني بقطرة ... وإن لومت نفسي فصاحبها الصبر )
( فقل للنجوم الزهر تبكيهما معي ... لمثلهما فلتحزن الأنجم الزهر )
وقال في ترجمة الراضي ما صورته وكان المعتمد رحمه الله تعالى كثيرا ما يرميه بملامه ويصميه بسهامه فربما استلطفه بمقال أفصح من دمع المحزون وأملح من روض الحزون فانه كان ينظم من بديع القول لآلىء وعقودا تسل من النفوس سخائم وحقودا وقد أثبت من كلامه في بث آلامه واستجارة عذله وملامه ما تستبدعه وتحله النفوس وتودعه فمن ذلك ما قاله وقد أنهض جماعة من إخوته وأقعده وأدناهم وأبعده
( أعيذك ان يكون بنا خمول ... ويطلع غيرنا ولنا أفول )
( حنانك إن يكن جرمي قبيحا ... فإن الصفح عن جرمي جميل )
( ألست بفرعك الزاكي وماذا ... يرجي الفرع خانته الأصول )
ثم قال الفتح بعد كلام ومرت عليه يعنى الراضي هوادج وقباب فيها حبائب كن له وأحباب ألفهن أيام خلائه من دولة وجال معهن في

ميدان المنى اعظم جولة ثم انتزعوا منه ببعده وأودعوا الهوادج من بعده ووجهوا هدايا إلى العدوة وألموا بها إلمام قريش بدار الندوة فقال
( مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... فأوقدوا نار شوقي أي ايقاد )
( وأذكروني أياما لهوت بهم ... فيها ففازوا بإيثاري وإحمادي )
( لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصادي )
ولما وصل المعتمد لورقة أعلم ان العدو قد جيش لها واحتشد ونهد نحوها وقصد ليتركهاخاوية على عروشها طاوية الجوانح على وحوشها فتعرض له المعتمد دون بغيته وطلع عليه من ثنيته وامر الراضي بالخروج إليه في عسكر جرده لمحاربته وأعده لمصادمته ومضاربته فأظهر التمارض والتشكي وأضمر التقاعس والتلكي فرارا من المصادمة وإحجاما عن المساومة وجزعا من منازلة الأقران ومقابلة ذوابل المران ومقاساة الطعان وملاقاة أبطال كالرعان ورأى ان المطالعة أرجح من المقارعة ومعاناة العلوم أربح من مداواة الكلوم فقد كان عاكفا على تلاوة ديوان عارفا بإجادة صدر وعنوان فعلم المعتمد ما نواه وتحقق ما لواه فأعرض عنه ونفض يده منه ووجه المعتد مع ذلك الجيش الذي لم تنشر بنوده ولا نصرت جنوده فعندما لاقوا العدو لاذوا بالفرار وعاذوا بإعطاء الغرة بدلا من الغرار وتفرقوا في تلك الأماريت وفرقوا من تخطف اولئك العفاريت فتحيف العدو من بقي مع المعتد واهتضمه وخضم مافي العسكر وقضمه وغدت مضاربه مجر عواليه ومجرى مذاكيه وآب أخسر من بائع السدانة ومضيع الأمانة فانطبقت سماء المعتمد على أرضه وشغلته عن إقامة نوافله وفرضه فكتب إليه الراضي

( لايكرثنك خطب الحادث الجاري ... فما عليك بذاك الخطب من عار )
( ماذا على ضيغم أمضى عزيمته ... إن خانه حد أنياب وأظفار )
( لئن أتوك فمن جبن ومن خور ... قد ينهض العير نحو الضيغم الضاري )
( عليك للناس أن تبقى لنصرتهم ... وما عليك لهم إسعاد أقدار )
( لو يعلم الناس فيما أن تدوم لهم ... بكوا لأنك من ثوب الصبا عاري )
( ولو أطاقوا انتقاصا من حياتهم ... لم يتحفوك بشيء غير أعمار )
فحجب عنه وجه رضاه ولم يستنزله بذلك ولا استرضاه وتمادى على إعراضه وقعد عن إظهاره وأنماضه حتى بسطته سوانح السلو وعطفته عليه جوانح الحنو فكتب إليه بهزل غلب فيه كل منزع جزل وهو
( الملك في طي الدفاتر ... فتخل عن قود العساكر )
( طف بالسرير مسلما ... وارجع لتوديع المنابر )
( وازحف إلى جيش المعارف ... تقهر الحبر المقامر )
( واطعن بأطراف اليراع ... نصرت في ثغر المحابر )
( واضرب بسكين الدواة ... مكان ماضي الحد باتر )
( أولست رسطاليس إن ... ذكر الفلاسفة الأكابر )
( وأبوحنيفة ساقط ... في الرأي حين تكون حاضر )
( وكذاك إن ذكر الخليل ... فأنت نحوي وشاعر )
( من هرمس من سيبويه ... من ابن فورك إذ تناظر )
( هذي المكارم قد حويت ... فكن لمن حاباك شاكر )
( واقعد فإنك طاعم ... كاس وقل هل من مفاخر )

( لحجبت وجه رضاي عنك ... وكنت قد تلقاه سافر )
( أولست تذكر وقت لورفة ... وقلبك ثم طائر )
( لا يستقر مكانه ... وأبوك كالضرغام خادر )
( هلا اقتديت بفعله ... وأطعته إذ ذاك آمر )
( قد كان أبصر بالعواقب ... والموارد والمصادر )
فكتب إليه الراضي مراجعا بقطعة منها
( مولاي قد أصبحت كافر ... بجميع ماتحوي الدفاتر )
( وفللت سكين الدواة ... وظلت للأقلام كاسر )
( وعلمت ان الملك ما ... بين الأسنة والبواتر )
( والمجد والعلياء في ... ضرب العساكر بالعساكر )
( لاضرب أقوال بأقوال ... ضعيفات مناكر )
( قد كنت احسب من سفاه ... انها أصل المفاخر )
( فإذا بها فرع لها ... والجهل للإنسان عاذر )
( لايدرك الشرف الفتى ... إلا بعسال وباتر )
( وهجرت من سميتهم ... وحجدت انهم اكابر )
( لو كنت تهوى ميتتي ... لوجدتني للعيش هاجر )
( ضحك الموالي بالعبيد ... إذا تؤمل غير ضائر )
( إن كان لي فضل فمنك ... وهل لذاك النور ساتر )
( او كان بي نقص فمني ... غير أن الفضل غامر )
( ذكرت عبدك ساعة ... يبقى لها ما عاش ذاكر )
( ياليته قد غيبته ... عندها إحدى المقابر )
( أتريد مني أن أكون ... كمن غدا في الدهر نادر )
( هيهات ذلك مطمع ... يعيي الأوائل والأواخر )

( لا تنس يا مولاي قولة ... ضارع لا قول فاخر )
( ضبط الجزيرة عندما ... نزلت بعقوتها العساكر )
( أيام ظللت بها فريدا ... ليس غير الله ناصر )
( إذ كان يعشي ناظري ... لمع الأسنة والبواتر )
( ويصم أسماعي بها ... قرع الحجارة بالحوافر )
( وهي الحضيض سهولة ... لكن ثبت بها مخاطر )
( هبني أسأت كما أسأت ... أما لهذا العتب آخر )
( هب زلتي لبنوتي ... واغفر فإن الله غافر )
فقربه وأدناه وصفح عما كان جناه ولم تزل الحال آخذة في البوار والأمور معتلة اعتلال حب الفرزدق للنوار حتى مضوا لغير طية وقضوا بين الصوارم والرماح الخطية حسبما سردناه وعلى ما أوردناه وإذا أراد الله سبحانه إنفاذ أمر سبق في علمه فلا مرد له ولا معقب لحكمه ولا إله إلا هو رب العالمين انتهى كلام الفتح
وعلى الجملة فكانت دولة بني عباد بالأندلس من أبهج الدول في الكرم والفضل والأدب حتى قال ابن اللبانة رحمه الله تعالى إن الدولة العبادية بالأندلس أشبه شيء بالدولة العباسية ببغداد سعة مكارم وجمع فضائل ولذلك ألف فيها كتابا مستقلا سماه الاعتماد في أخبار بني عباد ولا يلتفت لكلب عقور نبح بقوله
( مما يزهدني في أرض أندلس ... أسماء معتضد فيها ومعتمد )
( ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد )
لأن هذه مقالة متعسف كافر للنعم ومثل ذلك في حقهم لايقدح ومازالت الأشراف تهجى وتمدح

وللمعتمد اولاد ملوك منهم المامون والرشيد والراضي والمعتد وغيرهم وقد سردنا خبر بعضهم
674

- مدائح ابن اللبانة في بني عباد
وكان الداني المذكور مائلا إلى بني عباد بطبعه إذ كان المعتمد هو الذي جب بضبعه وله فيه المدائح الأنيقة التى هي أذكى من زهر الحديقة فمن ذلك قوله من قصيدة يمدحه بها ويذكر اولاده الأربعة الذين عمروا من المجد أربعه وهم الرشيد عبيدالله والراضي يزيد والمأمون والمؤتمن وكانوا نجوم ذلك الأفق وغيوث ذلك الزمن ولقد اجاد في ذلك كل الإجادة وأطال لمجدهم نجاده
( يغيثك في محل يعينك في ردى ... يروعك في درع يروقك في برد )
( جمال وإجمال وسبق وصوله ... كشمس الضحى كالمزن كالبرق كالرعد )
( بمهجته شاد العلا ثم زادها ... بناء بأبناء جحاجحة لد )
( بأربعة مثل الطباع تركبوا ... لتعديل ذكر المجد والشرف العد )
والمامون بن المعتمد قتله لمتونة بقرطبة والراضي يزيد قتلوه برندة كما سقنا خبره آنفا وفي حالتهم هذه يقول الشاعر المشهور عبدالجبار بن حمديس الصقلي
( ولما رحلتم بالندى في اكفكم ... وقلقل رضوى منكم وثبير )
( رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير )
وفي قصة المعتمد يقول الداني المذكور
( لكل شيء من الأشياء ميقات ... وللمنى في مناياهن غايات )

( والدهر في صفة الحرباء منغمس ... الوان حالاته فيها استحالات )
( ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وطالما قمرت بالبيدق الشاة )
( انفض يديك من الدنيا وزينتها ... فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا )
( وقل لعالمها الأرضي قد كتمت ... سريرة العالم العلوي أغمات ) وهي طويلة ذكرها الفتح وغيره
وللداني أيضا قصيدة عملها في المعتمد وهو بأغمات سنة 486
( تنشق بريحان السلام فإنما ... أفض به مسكا عليك مختما )
( وقل لي مجازا إن عدمت حقيقة ... لعلك في نعمى فقد كنت منعما )
( أفكر في عصر مضى بك مشرقا ... فيرجع ضوء الصبح عندي مظلما )
( وأعجب من أفق المجرة إذ رأى ... كسوفك شمسا كيف أطلع أنجما )
( لئن عظمت فيك الرزية إننا ... وجدناك منها في الرزية أعظما )
( قناة سعت للطعن حتى تقسمت ... وسيف أطال الضرب حتى تثلما )
ومنها
( بكى آل عباد ولا كمحمد ... وأولاده صوب الغمامة إذ همى )
( حبيب إلى قلبي حبيب لقوله ... عسى طلل يدنو بهم ولعلما )
( صباحهم كنا به نحمد السرى ... فلما عدمناهم سرينا على عمى )
( وكنا رعينا العز حول حماهم ... فقد أجدب المرعى وقد أقفر الحمى )
( وقد ألبست أيدي الليالي قلوبهم ... مناسج سدى الغيث فيها وألحما )
( قصور خلت من ساكنيها فما بها ... سوى الأدم تمشي حول واقفة الدمى )

( تجيب بها الهام الصدى ولطالما ... اجاب القيان الطائر المترنما )
( كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى ... بها الوفد جمعا والخميس عرمرما )
ومنها
( حكيت وقد فارقت ملكك مالكا ... ومن ولهي احكي عليك متمما )
( مصاب هوى بالنيرات من العلا ... ولم يبق في أرض المكارم معلما )
( تضيق علي الأرض حتى كأنما ... خلقت وإياها سوارا ومعصما )
( ندبتك حتى لم يخل لي الأسى ... دموعا بها أبكي عليك ولا دما )
( وإني على رسمي مقيم فإن أمت ... سأجعل للباكين رسمي موسما )
( بكاك الحيا والريح شقت جيوبها ... عليك وناح الرعد باسمك معلما )
( ومزق ثوب البرق واكتست الضحى ... حدادا وقامت أنجم الجو أفحما )
( وحار ابنك الإصباح وجدا فما اهتدى ... وغار أخوك البحر غيضا فما طمى )
( وماحل بدر التم بعدك دارة ... ولا أظهرت شمس الظهيرة مبسما )
( قضى الله ان حطوك عن ظهر أشقر ... بشم وان أمطوك أشأم أدهما )
وكان قد انفكت عنه القيود فأشار إلى ذلك بقوله فيها
( قيودك ذابت فانطلقت لقد غدت ... قيودك منهم بالمكارم أرحما )
( عجبت لأن لان الحديد وأن قسوا ... لقد كان منهم بالسريرة أعلما )
( سينجيك من نجى من السجن يوسفا ... ويؤويك من آوى المسيح بن مريما )
ولأبي بكر الداني المذكور في البكاء على أيامهم وانتثار نظامهم عدة مقطوعات وقصائد هي قرة عين الطالب ونجعة الرائد وقد اشتمل عليها جزء لطيف صدر عنه في هيئة تصنيف سماه السلوك في وعظ الملوك ووفد على المعتمد وهو بأغمات عدة وفادات لم يخل في جميعها من إفادات وقال في إحداها هذه وفادة وفاء لا وفادة اجتداء

675

- مقتطفات من اخبار المعتمد
قال غير واحد من النادر الغريب أنه نودي في جنازته الصلاة على الغريب بعد عظم سلطانه وسعة أوطانه وكثرة صقالبته وحبشانه وعظم امره وشانه فتبارك من له العزة والبقاء والدوام واجتمع عند قبره جماعة من الأقوام الذين لهم في الأدب حصة ولقضية المعتمد في صدورهم غصة منهم البالغ في البلاغة الأمد شاعره أبو بحر عبدالصمد وكان به خصيصا وكم ألبسه من بره حلة وقميصا فقال من قصيدة طويلة أجاد فيها ما شا وجلب بها إلى انفس الحاضرين بعد الأنس ايحاشا مطلعها
( ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي )
ومنها
( لما خلت منك القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد )
( قبلت من هذا الثرى لك خاضعا ... وجعلت قبرك موضع الإنشاد )
فلما بلغ من إنشاده إلى مراده قبل الثرى ومرغ جسمه وعفر خده فبكى كل من حضر وصرفه ذلك عن سرور العيد وصده إذ كانت هذه القصة يوم عيد فسبحان المبدىء المعيد
ويحكى ان رجلا رأى في منامه إثر الكائنة على المعتمد بن عباد كأن رجلا صعد منبر جامع قرطبة فاستقبل الناس وأنشد هذه الأبيات متمثلا
( رب ركب قد اناخوا عيسهم ... في ذرى مجدهم حين بسق )
( سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق )
وعاش أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني المذكور آنفا بعد المعتمد وقدم ميورقة آخر شعبان سنة 489 ومدح ملكها مبشر بن سليمان بقصيدة مطلعها

( ملك يروعك في حلى ريعانه ... راقت برونقه صفات زمانه )
وأين هذا من امداحه في المعتمد
وتذكرت هنا من احوال الداني انه دخل على ابن عمار في مجلس فأراد ان يندر به وقال له اجلس ياداني بغير ألف فقال له نعم يا ابن عمار بغير ميم وهذا هو الغاية في سرعة الجواب والأخذ بالثأر في المزاح
ونظيره وإن كان من باب آخر ان المعتمد مر مع وزيره ابن عمار ببعض أرجاء إشبيلية فلقيتهما امرأة ذات حسن مفرط فكشفت وجهها وتكلمت بكلام لا يقتضيه الحياء وكان ذلك بموضع الجباسين الذين يصنعون به الجبس والجيارين الصانعين للجير بإشبيلية فالتفت المعتمد إلى موضع الجيارين وقال يا ابن عمار الجيارين ففهم مراده وقال في الحال يا مولاي والجباسين فلم يفهم الحاضرون المراد وتحيروا فسالوا ابن عمار فقال له المعتمد لاتبعها منهم إلا غالية وتفسيرها أن ابن عباد صحف الحيا زين بقوله الجيازين إشارة إلى أن تلك المرأة لو كان لها حياء لازدانت فقال له والجباسين وتصحيفه والخنا شين أي هي وإن كانت جميلة بديعة الحسن لكن الخنا شانها وهذا شأو لا يلحق
ومن أخبار المعتمد انه جلس يوما والبزاة تعرض عليه فاستحث الشعراء في وصفها فصنع ابن وهبون بديها
( للصيد قبلك سنة مأثورة ... لكنها بك أبدع الأشياء )
( تمضي البزاة وكلما أمضيتها ... عاطيتها بخواطر الشعراء
فاستحسنهما وأسنى جائزته
وذكر ابن بسام أن أبا العرب الصقلي حضر مجلس المعتمد يوما وقد حمل إليه حمول وافرة من قراريط الفضة فأمر له بكيسين منها وكان بين يديه تماثيل

عنبر من جملتها جمل مرصع بالذهب واللآلىء فقال له أبو العرب معرضا مايحمل هذين الكيسين إلا جمل فتبسم المعتمد وأمر له به فقال أبو العرب بديها
( أهديتني جملا جونا شفعت به ... حملا من الفضة البيضاء لو حملا )
( نتاج جودك في أعطان مكرمة ... لاقد تصرف من منع ولا عقلا )
( فاعجب لشأني فشأني كله عجب ... رفهتني فحملت الحمل والجملا )
وذكر الحجاري هذه القصة فقال قعد المعتمد في مجلس احتفل في تنضيده وإحضار الطرائف الملوكية وكان في الجملة تمثال جمل من بلور وله عينان من ياقوتتين وقد حلي بنفائس الدر فأنشده أبو العرب قصيدة فأمر له بذهب كثير مما كان بيده من السكة الجديدة فقال معرضا بذلك الجمل ما يحمل هذه الصلة إلا جمل فقال خذ هذا الجمل فإنه حمال أثقال فارتجل شعرا منه
( رفهتني فحملت الحمل والجملا )
وذكر ان ذلك الجمل بيع بخمسمائة مثقال فسارت بهذا الخبر الركائب وتهادته المشارق والمغارب
وتباحث المعتمد مرة مع الجلساء في بيت المتنبي الذي زعم أنه أمير شعره
( أزورهم وسواد الليل يشفع لي ... وأنثني وبياض الصبح يغري بي )
فقال ماقصر في مقابلة كل لفظة بضدها إلا أن فيه نقدا خفيا ففكروا فيه فلما فكروا قالوا فيه ماوقفنا على شيء فقال الليل لا يطابق إلا بالنهار لأن الليل كلي والصبح جزئي فتعجب الحاضرون وأثنوا على تدقيق انتقاده

قال الصفدي قلت ليس هذا بنقد صحيح والصواب مع أبي الطيب لأنه قال أزورهم وسواد الليل يشفع لي فهذا محب يزور أحبابه في سواد الليل خوفا ممن يشي به فإذا لاح الصبح أغرى به الوشاة ودل عليه أهل النميمه والصبح أول ما يغري به قبل النهار وعادة الزائر المريب ان يزور ليلا وينصرف عند انفجار الصبح خوفا من الرقباء ولم تجر العادة أن الخائف يتلبث إلى أن يتوضح النهار ويمتلىء الأفق نورا فذكر الصبح هنا أولى من ذكر النهار والله أعلم انتهى
قلت كان يختلج في صدري ضعف ما قال الصفدي حتى وقفت على ما كتبه البدر البشتكي ومن خطه نقلت ما صورته هو ما انتقد عليه المعنى إنما انتقد عليه مطابقة الليل بالصبح فإن ذلك فاسد انتهى فحمدت الله على الموافقة انتهى
وقال في بدائع البدائه جلس المعتمد للشرب وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدة نهرا وحلى جيد كل غصن من الزهر جوهرا وبين يديه جارية تسقيه وهي تقابل وجهها بنجم الكأس في راحة كالثريا وتخجل الزهر بطيب العرف والريا فاتفق ان لعب البرق بحسامه وأجال سوطه المذهب يسوق به ركامه فارتاعت لخطفته وذعرت من خيفته فقال المعتمد بديها
( روعها البرق وفي كفها ... برق من القهوة لماع )
( عجبت منها وهي شمس الضحي ... كيف من الأنوار ترتاع )
فاستدعى عبدالجليل بن وهبون المرسي وأنشده البيت الأول مستجيزا فقال عبدالجليل
( ولن ترى أعجب من آنس ... من مثل ما يمسك يرتاع )

فاستحسنه وأمر له بجائزة
قال ابن ظافر وبيته عندي أحسن من بيت المعتمد انتهى
وقال ابن بسام كان في قصر المعتمد فيل من الفضة على شاطىء بركة يقذف الماء وهو الذي يقول فيه عبدالجليل بن وهبون من بعض قصيدة
( ويفرغ فيه مثل النصل بدع ... من الأفيال لا يشكو ملالا )
( رعى رطب اللجين فجاء صلدا ... تراه قلما يخشى هزالا )
فجلس المعتمد يوما على تلك البركة والماء يجري من ذلك الفيل وقد أوقدت شمعتان من جانبيه والوزير أبو بكر ابن الملح عنده فصنع الوزير فيهما عدة مقاطيع بديها منها
( ومشعلين من الأضواء قد قرنا ... بالماء والماء بالدولاب منزوف )
( لاحا لعيني كالنجمين بينهما ... خط المجرة ممدود ومعطوف )
وقال أيضا
( كأنما النار فوق الشمعتين سنا ... والماء من نفذ الأنبوب منسكب )
( غمامة تحت جنح الليل هامعة ... في جانبيها حفاف البرق يضطرب )
وقال أيضا
( وأنبوب ماء بين نارين ضمنا ... هوى لكؤوس الراح تحت الغياهب )
( كأن اندفاع الماء بالماء حية ... يحركها في الماء لمع الحباحب )
وقال أيضا
( كأن سراجي شربهم في التظائها ... وأنبوب ماء الفيل في سيلانه )
( كريم تولى كبره من كليهما ... لئيمان في انفاقه يعذلانه )

676

- ابن زيدون عند بني عباد
ولما مات والد المعتمد واستقل بالملك قال ذو الوزارتين ابن زيدون يرثي المعتضد ويمدح المعتمد بقصيدة طويلة أولها
( هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر ... فمن شيم الأحرار في مثلها الصبر )
( ستصبر صبر اليأس أو صبر حسبه ... فلا تؤثر الوجه الذي معه الوزر )
( حذارك من ان يعقب الرزء فتنة ... يضيق بها عن مثل إيمانك العذر )
( إذا آسف الثكل اللبيب فشفه ... رأى أفدح الثكلين ان يذهب الأجر )
( مصاب الذي يأسى بموت ثوابه ... هو البرح لا الميت الذي أحرز القبر )
( حياة الورى نهج إلى الموت مهيع ... لهم فيه إيضاع كما يوضع السفر )
ومنها
( إذا الموت أضحى قصد كل معمر ... فإن سواء طال أو قصر العمر )
( ألم تر أن الدين ضيم ذماره ... فلم يغن أنصار عديدهم دثر )
( بحيث استقل الملك ثاني عطفه ... وجرر من أذياله العسكر المجر )
( هو الضيم لو غير القضاء يرومه ... ثناه المرام الصعب والمسلك الوعر )
( إذا عثرت جرد العناجيج في القنا ... بليل عجاج ليس يصدعه فجر )
ومنها
أعباد يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر )
إلى ان قال بعد أبيات كثيرة

( ألا أيها المولى الوصول عبيده ... لقد رأبنا أن يتلو الصلة الهجر )
( يغاديك داعينا السلام كعهده ... فما يسمع الداعي ولا يرفع الستر )
( أعتب علينا ذاد عن ذلك الرضى ... فتسمع ام بالمسمع المعتلي وقر )
ومنها
( وكيف بنسيان وقد ملأت يدي ... جسام أياد منك أيسرها الوفر )
( وإن كنت لم أشكر لك المنن التي ... تمليتها تترى فأوبقني الكفر )
( فهل علم الشلو المقدس أنني ... مسوغ حال حار في كنهها الفكر )
( وان متاتي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضى وابنك البر )
( هو الظافر الأعلى المؤيد بالذي ... له في الذي وافاه من صنعه سر )
( له في اختصاصي ما رأيت وزادني ... مزية زلفى من نتائجها الفخر )
( وأرغم في بري أنوف عصابة ... لقاؤهم جهم ولحظهم شزر )
( إذا ما استوى في الدست عاقد حبوة ... وقام سماطا حفله فلي الصدر )
( وفي نفسه العلياء لي متبوأ ... يساجلني فيه السماكان والنسر )
ومنها
( لك الخير إن الرزء كان غيابة ... طلعت لنا فيها كما طلع البدر )
( فقرت عيون كان أسخنها البكا ... وقرت قلوب كان زلزلها الذعر )
ومنها
( ولما قدمت الجيش بالأمر أشرقت ... إليك من الآمال آفاقها الغبر )

( فقضيت من فرض الصلاة لبانة ... فشيعها نسك وقارنها طهر )
( ومن قبل ما قدمت مثنى نوافل ... يلاقي بها من صام من عوز فطر )
( ورحت إلى القصر الذي غض طرفه ... بعيد التسامي ان غدا غيره القصر )
( وأجمل عن الثاوي العزاء فإن ثوى ... فإنك لا الواني ولا الضرع الغمر )
( وما أعطت السبعون قبل أولي الحجى ... من اللب ما أعطاك عشروك والعمر )
( ألست الذي إن ضاق ذرع بحادث ... تبلج منه الوجه واتسع الصدر )
( فلا تهض الدنيا جناحك بعده ... فمنك لمن هاضت نوائبها جبر )
( ولا زلت موفور العديد بقرة ... لعينك مشدودا بها ذلك الأزر )
( فإنك شمس في سماء رياسة ... تطلع منهم حولنا أنجم زهر )
( شككنا فلم نثبت أأيام دهرنا ... بها وسن أم هز أعطافها سكر )
( وما إن تغشتها مغازلة الكرى ... وما إن تمشت في معاطفها الخمر )
( سوى نشوات من سجايا مملك ... يصدق في عليائها الخبر الخبر )
( أرى الدهر إن يبطش فأنت يمينه ... وإن تضحك الدنيا فأنت لها ثغر )
( وكم سائل بالغيب عنك أجبته ... هناك الأيادي الشفع والسودد الوتر )
( هناك التقى والعلم والحلم والنهى ... وبذل اللها والبأس والنظم والنثر )
( همام إذا لاقى المناجز رده ... وإقباله خطر وإدباره حصر )
( محاسن ما للروض سامره الندى ... رواء إذا نصت حلالها ولا نشر )
( متى انتشقت لم تدر دارين مسكها ... حياء ولم تفخر بعنبرها الشحر )
( عطاء ولا من وحكم ولا هوى ... وحلم ولا عجز وعز ولا كبر )
( قد استوفت النعماء فيك تمامها ... علينا فمنا الحمدلله والشكر

وكتب ابن زيدون المذكور إلى المعتمد رحمهما الله تعالى يشوقه إلى تعاطي الحميا في قصوره البديعة التى منها المبارك والثريا
( فز بالنجاح وأحرز الإقبالا ... وخذ المنى وتنجز الآمالا )
( وليهنك التأييد والظفر اللذا ... صدقاك في السمة العلية فالا )
( يا أيها الملك الذي لولاه لم ... تجد العقول الناشدات كمالا )
( اما الثريا فالثريا نسبة ... وإفادة وإنافة وجمالا )
( قد شاقها الإغباب حتى إنها ... لو تستطيع سرت إليك خيالا )
( رفه ورود كها لتغنم راحة ... وأطل مزاركها لتنعم بالا )
( وتأمل القصر المبارك وجنة ... قد وسطت فيها الثريا خالا )
( وأدر هناك من المدام كؤوسها ... وأتمها وأشفها جريالا )
( قصر يقر العين منه مصنع ... بهج الجوانب لو مشى لاختالا )
( لا زلت تفترش السرور حدائقا ... فيه وتلتحف النعيم ظلالا )
وأهدى إليه تفاحا واعتقد ان يكتب معه قطعة فبدأ بها ثم عرض له غيرها فتركها ثم ابتدأ
( دونك الراح جامدة ... وفدت خير وافده )
( وجدت سوق ذوبها ... عندك اليوم كاسده )
( قاستحالت إلى الجمود ... وجاءت مكايده )
وكتب إلى المعتمد

( يا أيها الظافر نلت المنى ... ولا أتانا فيك محذور )
( إن الخلال الزهر قد ضمها ... ثوب عليك الدهر مزرور )
( لا زال للمجد الذي شدته ... ربع بتعميرك معمور )
( وافاك نظم لي في طيه ... معنى معمى اللفظ مستور )
( مرامه يصعب مالم يبح ... بالسر قمري وشحرور )
وذكر أبياتا فيها اسماء طيور عمى بها عن بيت طيره فيها والبيت المطير فيه
( انت إن تغز ظافر ... فليطع من ينافر )
ففكه المعتمد وجاوبه
( ياخير من يلحظه ناظري ... شهادة ما شانها زور )
( ومن إذا خطب دجا ليله ... لاح به من رأيه نور )
( جاءتني الطير التي سرها ... نظم به قلبي مسرور )
( شعر هو السحر فلا تنكروا ... أني به ما عشت مسحور )
( اللفظ والقرطاس إن شبها ... قيل هما مسك وكافور )
( هوى لحسن الطير من فكرتي ... صقر فولى وهو مقهور )
( ولاح لي بيت فؤادي له ... دأبا على ودك مقصور )
( حظك من شكري ياسيدي ... حظ تمالا منك موفور )
( قصرت في نظمي فاعذر فمن ... ضاهاك في التقصير معذور )
( فأنت إن تنظم وتنثر فقد ... أعوز منظوم ومنثور )

( لا يعدكم روض من الحظ في الإكرام ... والترفيع ممطور )
فكتب إليه ابن زيدون
( حظي من نعماك موفور ... وذنب دهري بك مغفور )
( وجانبي إن رامه أزمة ... حجر لدى ظلك محجور )
( يا ابن الذي سرب الهدى آمن ... منذ انبرى يحميه مخفور )
( وآمر الدهر الذي لم يزل ... يصغي إليه منه مأمور )
( ألبس منك الدهر أسنى الحلى ... بظافر منحاه منصور )
( يامروي المأثور يا من له ... مجد مع الأيام مأثور )
( عبدك إن أكثر من شكره ... فهو بما توليه مكثور )
( إن تعف عن تقصيره منعما ... فاليسر أن يقبل معسور )
( إن حلال السحر إن صغته ... في صحف الأنفس مسطور )
( نظم زهاني منه إذ جاءني ... علق عظيم القدر مذخور )
( لا غرو أن أفتن إذ لاحظت ... فكري منه أعين حور )
( تنم عن معناه ألفاظه ... كما وشى بالراح بلور )
( جهلت إذ عارضته غير أن ... لابد أن ينفث مصدور )
( يا آ ' ل عباد موالاتكم ... زاك من الأعمال مبرور )
( إن الذي يرجو موازاتكم ... من المناوين لمغرور )
( مكانه منكم كما انحط عن ... منزلة المرفوع مجرور )
( لازلتم في غبطة ما انجلى ... عن فلق الإصباح ديجور )

( ولا يزل يجري بما شئتم ... أعماركم لله مقدور )
وكتب المعتمد إلى ابن زيدون بعد أن فك معمى كتب به إليه ابن زيدون ما صورته
( العين بعدك تقذي ... بكل شيء تراه )
( فليجل شخصك عنها ... ما بالمغيب جناه )
وقد قدمنا من كلام أبي الوليد ابن زيدون رحمه الله تعالى ما فيه كفاية

رجع الى بني عباد
قال ابن حمديس لما قدمت وافدا على المعتمد بن عباد استدعاني وقال افتح الطاق فإذا بكير زجاج والنار تلوح من بابيه وواقده يفتحهما تارة ويسدهما أخرى ثم أدام سد أحدهما وفتح آخر فحين تأملتهما قال لي أجز
( انظرهما في الظلام قد نجما )
فقلت
( كما رنا في الدجنة الأسد )
فقال
( يفتح عينيه ثم يطبقها )
فقلت
( فعل امرىء في جفونه رمد )

فقال
( فابتزه الدهر نور واحدة
فقلت
( وهل نجا من صروفه أحد )
فاستحسن ذلك وأطربه وامر لي بجائزة وألزمني الخدمة
677

- مقطعات لابن حمديس
وعلى ذكر ابن حمديس فما أحسن قوله
( أراك ركبت في الأهوال بحرا ... عظيما ليس يؤمن من خطوبه )
( تسير فلكه شرقا وغربا ... وتدفع من صباه إلى جنوبه )
( وأصعب من ركوب البحر عندي ... امور ألجأتك إلى ركوبه )
ولغيره
( إن ابن آدم طين ... والبحر ماء يذيبه )
( لولا الذي فيه يتلى ... ماجاز عندي ركوبه )
وقال ابن حمديس في هذا المعنى
( لا أركب البحر أخشى ... علي منه المعاطب )
( طين انا وهو ماء ... والطين في الماء ذائب )
رجع إلى بني عباد رحمهم الله تعالى
قال ابن بسام أخبرني الحكيم النديم المطرب أبو بكر ابن الإشبيلي قال حضرت مجلس الرشيد بن المعتمد بن عباد وعنده الوزير أبو بكر ابن عمار

فلما دارت الكأس وتمكن الأنس وغنيت أصواتا ذهب الطرب بابن عمار كل مذهب فارتجل يخاطب الرشيد
( ماضر ان قيل إسحاق وموصله ... ها أنت أنت وذي حمص وإسحاق )
( أنت الرشيد فدع من قد سمعت به ... وإن تشابه أخلاق وأعراق )
( لله درك داركها مشعشعة ... واحضر بساقيك ماقامت بنا ساق )
وكان الرشيد هذا احد أولاد المعتمد النجيا وله اخبار في الكرم يقضي الناظر فيها من امرها عجبا وكذلك إخوته وقد ألمعنا في هذا الكتاب بجملة من محاسنهم وامهم اعتماد الملقبة بالرميكية هي التي ترجمناها في هذا الموضع واقتضت المناسبة ذكر أمر بني عباد فلنعد إلى ما كنا بصدده من أخبارها رحمها الله تعالى فنقول

رجع إلى ذكر الرميكية
قال ابن سعيد في بعض مصنفاته كان المعتمد كثيرا ما يأنس بها ويستطرف نوادرها ولم تكن لها معرفة بالغناء وإنما كانت مليحة الوجه حسنة الحديث حلوة النادر كثيرة الفكاهة لها في كل ذلك نوادر محكية وكانت في عصرها ولادة بنت محمد بن عبدالرحمن وهي أبدع منها ملحا وأحسن افتنانا وأجل منصبا وكان أبوها أمير قرطبة ويلقب بالمستكفي بالله وأخبار أبي الوليد ابن زيدون معها وأشعاره فيها مشهورة انتهى ملخصا
ومن أخبار الرميكية القصة المشهورة في قولها ولا يوم الطين وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي في الطين فأمر المعتمد فسحقت أشياء من الطيب وذرت في ساحة القصر حتى عمته ثم نصبت الغرابيل وصب فيها ماء الورد على أخلاط الطيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين

وخاضتها مع جواريها وغاضبها في بعض الأيام فأقسمت انها لم تر منه خيرا قط فقال ولا يوم الطين فاستحيت واعتذرت وهذا مصداق قول نبينا في حق النساء ( لو أحسنت إلى احداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت ما رأيت منك خيرا قط )
قلت ولعل المعتمد أشار في أبياته الرائية إلى هذه القضية حيث قال في بناته
( يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكا وكافورا )
ويحتمل أن يكون أشار بذلك إلى ماجرت به عادة الملوك من ذر الطيب في قصورهم حتى يطؤوه بأقدامهم زيادة في التنعم
وسبب قول المعتمد ذلك ما حكاه الفتح فقال وأول عيد أخذه يعني المعتمد بأغمات وهو سارح وما غير الشجون له مبارح ولا زي إلا حالة الخمول واستحالة المأمول فدخل عليه من بنيه من يسلم عليه ويهنيه وفيهم بناته وعليهن أطمار كأنها كسوف وهن أقمار يبكين عند التساؤل ويبدين الخشوع بعد التخايل والضياع قد غير صورهن وحير نظرهن وأقدامهن حافية وآثار نعيمهن عافية فقال
( فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا )
( ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا )
( برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا )

( يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكا وكافورا )
( لا خد إلا تشكى الجدب ظاهره ... وليس إلا مع الأنفاس ممطورا )
( أفطرت في العيد لا عادت مساءته ... فكان فطرك للأكباد تفطيرا )
( قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهيا ومأمورا )
( من باب بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا )
678

- عود إلى أخبار المعتمد
وقال الفتح أيضا ولما نقل المعتمد من بلاده وأعري من طارفه وتلاده وحمل في السفين واحل في العدوة محل الدفين تندبه منابره واعواده ولا يدنو منه زواره ولا عوادة بقي أسفا تتصعد زفراته وتطرد اطراد المذانب عبراته لا يخلو بمؤانس ولا يرى إلا عرينا بدلا من تلك المكانس ولما لم يجد سلوا ولم يؤمل دنوا ولم ير وجه مسرة مجلوا تذكر منازله فشاقته وتصور بهجتها فراقته وتخيل استيحاش اوطانه وإجهاش قصره إلى قطانه وإظلام جوه من أقماره وخلوه من حراسه وسماره فقال
( بكى المبارك في إثر ابن عباد ... بكى على إثر غزلان وآساد )
( بكت ثرياه لا غمت كواكبها ... بمثل نوء الثريا الرائح الغادي )
( بكى الوحيد بكى الزاهي وقبته ... والنهر والتاج كل ذله بادي )
( ماء السماء على أفيائه درر ... يا لجة البحر دومي ذات إزباد )
وفي ذلك يقول ابن اللبانة
( أستودع الله أرضا عندما وضحت ... بشائر الصبح فيها بدلت حلكا )

( كان المؤيد بستانا بساحتها ... يجني النعيم وفي عليائها فلكا )
( في أمره لملوك الدهر معتبر ... فليس يغتر ذو ملك بما ملكا )
( نبكيه من جبل خرت قواعده ... فكل من كان في بطحائه هلكا )
وكان القصر الزاهي من اجمل المواضع لديه وأبهاها وأحبها إليه وأشهاها لإطلاله على النهر وإشرافه على القصر وجماله في العيون واشتماله بالزهر والزيتون وكان له به من الطرب والعيش المزري بحلاوة الضرب مالم يكن بحلب لبني حمدان ولا لسيف بن ذي يزن في رأس غمدان وكان كثيرا ما يدير به راحه ويجعل فيه انشراحه فلما امتد الزمان إليه بعد وانه وسد عليه أبواب سلوانه لم يحن إلا إليه ولم يتمن غير الحلول لديه فقال
( غريب بأرض المغربين أسير ... سيبكي عليه منبر وسرير )
( وتندبه البيض الصوارم والقنا ... وينهل دمع بينهن غزير )
( مضى زمن والملك مستأنس به ... وأصبح منه اليوم وهو نفور )
( برأي من الدهر المضلل فاسد ... متى صلحت للصالحين دهور )
( أذل بني ماء السماء زمانهم ... وذل بني ماء السماء كبير )
( فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... امامي وخلفي روضة وغدير )
( بمنبتة الزيتون مورثة العلا ... تغني حمام او ترن طيور )
( بزاهرها السامي الذي جاده الحيا ... تشير الثريا نحونا ونشير )
( ويلحظنا الزاهي وسعد سعوده ... غيورين والصب المحب غيور )
( تراه عسيرا لا يسيرا مناله ... ألا كل ما شاء الإله يسير )
وقال الحجاري في المسهب إن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أهدى

إلى المعتمد جارية مغنية قد نشأت بالعدوة وأهل العدوة بالطبع يكرهون أهل الأندلس وجاء بها إلى إشبيلية وقد كثر الإرجاف بأن سلطان الملثمين ينتزع بلاد ملوك الطوائف منهم واشتغل خاطر ابن عباد بالفكر في ذلك فخرج بها إلى قصر الزاهر على نهر إشبيلية وقعد على الراح فخطر بفكرها أن غنت عندما انتشى هذه الأبيات
( حملوا قلوب الأسد بين ضلوعهم ... ولووا عمائمهم على الأقمار )
( وتقلدوا يوم الوغى هندية ... أمضى إذا انتضيت من الأقدار )
( إن خوفوك لقيت كل كريهة ... أو أمنوك حللت دار قرار )
فوقع في قلبه أنها عرضت بساداتها فلم يملك غضبه ورمى بها في النهر فهلكت انتهى فقدر الله تعالى أن كان تمزيق ملكه على يدهم تصديقا للجارية في قولها
( إن خوفوك لقيت كل كريهة )
وحصره جيوش لمتونه الملثمين حتى أخذوه قهرا وسيق إلى أمير المسلمين والقصة مشهورة
وقال الفتح في شأن حصار المعتمد ما صورته ولما تم في الملك امده وأراد الله تعالى ان تخر عمده وتنقرض أيامه وتتقوض عن عراص الملك خيامه نازلته جيوش أمير المسلمين ومحلاته وظاهرته فساطيطه ومظلاته بعدما نثرت حصونه وقلاعه وسعرت بالنكاية جوانحه وأضلاعه وأخذت عليه الفروج والمضايق وثنت إليه الموانع والعوايق وطرقته طوارقها بالإضرار وأمطرته من النكاية كل ديمة مدرار وهو ساه بروض ونسيم لاه براح

ومحيا وسيم زاه بفتاه تنادمه ناه عن هدم أنس هو هادمه لا يصيخ إلى نبأة سمعه ولا ينيخ إلا على لهو يفرق جموعه جمعه وقد ولى المدامه ملامه وثنى إلى ركنها طوافه واستلامه وتلك الجيوش تجوس خلاله وتقلص ظلاله وحين اشتد حصاره وعجز عن المدافعة أنصاره ودلس عليه ولاته وكثرت أدواؤه وعلاته فتح باب الفرج وقد لفح شواظ الهرج فدخلت عليه من المرابطين زمرة واشتعلت من التغلب جمرة تأجج اضطرامها وسهل بها إيقاد الفتنة وإضرامها وعندما سقط الخبر عليه خرج حاسرا من مفاضته جامحا كالمهر قبل رياضته فلحق اوائلهم عند الباب المذكور وقد انتشروا في جنباته وظهروا على البلد من اكثر جهاته وسيفه في يده يتلمظ للطلى والهام ويعد بانفراج ذلك الاستبهام فرماه أحد الداخلين برمح تخطاه وجاوز مطاه فبادره بضربة أذهبت نفسه وأغربت شمسه ولقي ثانيا فضربه وقسمه وخاض حشا ذلك الداء وحسمه فأجلوا عنه وولوا فرارا منه فأمر بالباب فسد وبني منه ماهد ثم انصرف وقد أراح نفسه وشفاها وأبعد الله تعالى عنه الملامة ونفاها وفي ذلك يقول عندما خلع وأودع من المكروه ما اودع
( إن يسلب القوم العدى ... ملكي وتسلمني الجموع )
( فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع )
( قد رمت يوم نزالهم ... أن لا تحصنني الدروع )
( وبرزت ليس سوى القميص ... على الحشا شيء دفوع )
( أجلي تأخر لم يكن ... بهواي ذلي والخضوع )
( ما سرت قط إلى القتال ... وكان من أملي الرجوع )
( شيم الألى انا منهم ... والأصل تتبعه الفروع )

وما زالت عقارب تلك الداخلة تدب ثم ذكر الفتح تمام هذا الكلام فراجعه فيما مر بنحو ثلاث ورقات
ومن حكايات مجالس انسه أيام ملكه قبل أن ينظمه صرف الدهر في سلكه ماحكاه الفتح عن ذخر الدولة انه دخل عليه في دار المزينية والزهر يحسد إشراق مجلسه والدر يحكي اتساق تأنسه وقد رددت الطير شدوها وجودت طربها ولهوها وجددت كلفها وشجوها والغصون قد التحفت بسندسها والأزهار تحيي بطيب تنفسها والنسيم يلم بها فتضعه بين أجفانها وتودعه أحاديث آذارها ونيسانها وبين يديه فتى من فتيانه يتثنى تثنى القضيب ويحمل الكأس في راحة أبهى من الكف الخضيب وقد توشح وكأن الثريا وشاحه وأنار فكأن الصبح من محياه كان اتضاحه فكلما ناوله الكأس خامرته سورة وتخيل أن الشمس تهديه نوره فقال المعتمد
( لله ساق مهفهف غنج ... قد قام يسقي فجاء بالعجب )
( أهدى لنا من لطيف حكمته ... في جامد الماء ذائب الذهب )
ولما وصل لورقة استدعى ذا الوزارتين القائد أبا الحسن ابن اليسع ليلته تلك في وقت لم يخف فيه زائر من مراقب ولم يبد فيه غير نجم ثاقب فوصل وما للأمن إلى فؤاده وصول وهو يتخيل ان الجو صوارم ونصول بعد أن وصى بما خلف وودع من تخلف فلما مثل بين يديه آنسه وازال توجسه وقال له خرجت من إشبيلية وفي النفس غرام طويته بين ضلوعي وكففت فيه غرب دموعي بفتاة هي الشمس أو كالشمس إخالها لا يجول قلبها ولا خلخالها وقد قلت في يوم وداعها عند تفطر كبدي وانصداعها

( ولما التقينا للوداع غدية ... وقد خفقت في ساحة القصر رايات )
( بكينا دما حتى كأن عيوننا ... لجري الدموع الحمر منها جراحات )
وقد زارتني هذه الليلة في مضجعي وأبرأتني من توجعي ومكنتني من رضابها وفتنتني بدلالها وخضابها فقلت
( أباح لطيفي طيفها الخد والنهدا ... فعض بها تفاحة واجتنى وردا )
( ولز قدرت زارت على حال يقظة ... ولكن حجاب البين ما بيننا مدا )
( اما وجدت عنا الشجون معرجا ... ولا وجدت منا خطوب النوى بدا )
( سقى الله صوب القطر ام عبيدة ... كما قد سقت قلبي على حره بردا )
( هي الظبي جيدا والغزالة مقلة ... وروض الربى عرفا وغصن النقا قدا )
فكرر استجادته وأكثر استعادته فامر له بخمسمائة دينار وولاه لورقة من حينه
قال الفتح وأخبرني ابن اللبانة انه استدعاه ليلة إلى مجلس قد كساه الروض وشيه وامتثل الدهر فيه امره ونهيه فسقاه الساقي وحياه وسفر له الأنس عن مونق محياه فقام للمعتمد مادحا وعلى دوحة تلك النعماء صادحا فاستجاد قوله وأفاض عليه طوله فصدر وقد امتلأت يداه وغمره جوده ونداه فلما حل بمنزله وافاه رسوله بقطيع وكأس من بلار قد أترعا بصرف العقار ومعهما
( جاءتك ليلا في ثياب نهار ... من نورها وغلالة البلار )
( كالمشتري قد لف من مريخه ... إذ لفه في الماء جذوة نار )
( لطف الجمود لذا وذا فتألفا ... لم يلق ضد ضده بنفار )

( يتحير الراءون في نعتيهما ... أصفاء ماء أم صفاء دراري )
وقال الفتح أيضا وأخبرني ذخر الدولة انه إستدعاه في ليلة قد ألبسها البدر رواءه وأوقد فيها أضواءه وهو على البحيرة الكبرى والنجوم قد انعكست فيها تخالها زهرا وقابلتها المجرة فسالت فيها نهرا وقد أرجت نوافج الند وماست معاطف الرند وحسد النسيم الروض فوشى بأسراره وأفشى حديث آسه وعراره ومشى مختالا بين لبات النور وأزراره وهو وجم ودمعه منسجم وزفراته تترجم عن غرامه وتجمجم عن تعذر مرامه فلما نظر إليه استدناه وقربه وشكا إليه من الهجران ما استغربه وأنشده
( أيا نفس لا تجزعي واصبري ... وإلا فإن الهوى متلف )
( حبيب جفاك وقلب عصاك ... ولاح لحاك ولا منصف )
( شجون منعن الجفون الكرى ... وعوضنها أدمعا تنزف )
فانصرف ولم يعلمه بقصته ولا كشف له عن غصته انتهى
وقال الفتح أيضا أخبرني ذخر الدولة بن المعتضد انه دخل عليه في ليلة قد ثنى السرور منامها وامتطى الحبور غاربها وسنامها وراع الأنس فؤادها وستر بياض الأماني سوادها وغازل نسيم الروض زوارها وعوادها ونور السرج قد قلص أذيالها ومحا من لجين الأرض نيالها والمجلس مكتس بالمعالي وصوت المثاني والمثالث عالي والبدر قد كمل والتحف بضوئه القصر واشتمل وتزين بسناه وتجمل فقال المعتمد
( ولقد شربت الراح يسطع نورها ... والليل قد مد الظلام رداء )

( حتى تبدى البدر في جوزائه ... ملكا تناهى بهجة وبهاء )
( وتناهضت زهر النجوم يحفه ... لألاؤها فاستكمل اللألاء )
( لما أراد تنزها في غربه ... جعل المظلة فوقه الجوزاء )
( وترى الكواكب كالمواكب حوله ... رفعت ثرياها عليه لواء )
( وحكيته في الأرض بين كواكب ... وكواعب جمعت سنا وسناء )
( إن نشرت تلك الدروع حنادسا ... ملأت لنا هذي الكؤوس ضياء )
( وإذا تغنت هذه في مزهر ... لم تأل تلك على التريك غناء )
وأخبرني ابن اقبال الدولة بن مجاهد انه كان عنده في يوم قد نشر من غيمه رداء ند وأسكب من قطره ماء ورد وأبدى من برقة لسان نار وأظهر من قوس قزحه حنايا آس حفت بنرجس وجلنار والروض قد بعث رياه وبن الشكر لسقياه فكتب إلى الطبيب الأديب أبي محمد المصري
( أيها الصاحب الذي فارقت عيني ... ونفسي منه السنا والسناء )
( نحن في المجلس الذي يهب الراحة ... والمسمع الغنى والغناء )
( نتعاطى التى تنسي من الرقة ... واللذة الهوى والهواء )
( فأته تلف راحة ومحيا ... قد أعدا لك الحيا والحياء )
فوافاه وألفى مجلسه وقد أتلعت فيه أباريقه أجيادها وأقامت فيه خيل السرور طرادها وأعطته الأماني انطباعها وانقيادها وأهدت الدنيا ليومه مواسمها وأعيادها وخلعت عليه الشمس شعاعها ونشرت فيه الحدائق إيناعها فأديرت الراح وتعوطيت الأقداح وخامر النفوس الابتهاج والارتياح وأظهر المعتمد من إيناسه ما استرق به نفوس جلاسه ثم دعا

بكبير فشربه كالشمس غربت في ثبير وعندما تناولها قام المصري ينشد أبياتا تمثلها
( اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ... بشاذمهر ودع غمدان لليمن )
( فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة بن علي وابن ذي يزن )
فطرب حتى زحف عن مجلسه وأسرف في تأنسه وأمر فخلعت عليه خلع لا تصلح إلا للخلفاء وأدناه حتى أجلسه مجلس الأكفاء وأمر له بدنانير عددا وملأ له بالمواهب يدا
وله في غلام رآه يوم العروبة من ثنيات الوغى طالعا ولطلى الأبطال قارعا وفي الدماء والغا ولمستبشع كؤوس المنايا سائغا وهو ظبي قد فارق كناسه وعاد أسدا صارت القنا أخياسه ومتكاثف العجاج قد مزقه إشراقه وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه فقال
( أبصرت طرفك بين مشتجر القنا ... فبدا لطرفي أنه فلك )
( أو ليس وجهك فوقه قمرا ... يجلى بنير نوره الحلك )
وقال فيه
( ولما اقتحمت الوغى دارعا ... وقنعت وجهك بالمغفر )
( حسبنا محياك شمس الضحى ... عليها سحاب من العنبر )
وقد جمع بنا القلم في ترجمة المعتمد بن عباد بعض جموح وماذلك إلا لما علمنا ان نفوس الأدباء إلى أخباره رحمه الله تعالى شديدة الطموح وقد جعل الله تعالى له كما قال ابن الأبار في الحلة السيراء رقة في القلوب وخصوصا

بالمغرب فإن اخباره وأخبار الرميكية إلى الآن متداولة بينهم وإن فيها لأعظم عبرة رحم الله تعالى الجميع

رجع إلى أخبار النساء
11 - ومنهن العبادية جارية المعتضد عباد والد المعتمد أهداها إليه مجاهد العامري من دانية وكانت أديبة ظريفة كاتبة شاعرة ذاكرة لكثير من اللغة قال ابن عليم في شرحه لأدب الكتاب لابن قتيبة وذكر الموسعة وهي خشبة بين حمالين يجعل كل واحد منهما طرفها على عنقه ما صورته وبذكر الموسعة أغربت جارية لمجاهد أهداها إلى عباد كاتبة شاعرة على علماء إشبيلية وبالهزمة التى تظهر في أذقان بعض الأحداث وتعتري بعضهم في الخدين عند الضحك فاما التي في الذقن فهي النونة ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه دسموا نونته لتدفع العين واما التي في الخدين عند الضحك فهي الفحصة فما كان في ذلك الوقت في إشبيلية من عرف منها واحدة
وسهر عباد ليلة لأمر حزبه وهي نائمة فقال
( تنام ومدنفها يسهر ... وتصبر عنه ولا يصير )
فأجابته بديهة بقولها
( لئن دام هذا وهذا له ... سيهلك وجدا ولا يشعر )
ويكفيك هذا شاهدا على فضلها رحمها الله تعالى وسامحها

12 - ومنهن بثينة بنت المعتمد بن عباد وامها الرميكية السابقة الذكر وكانت بثينة هذه نحوا من امها في الجمال والنادرة ونظم الشعر ولما أحيط بأبيها ووقع النهب في قصره كانت من جملة من سبي ولم يزل المعتمد والرميكية عليها في وله دائم لا يعلمان ما آل إليه أمرها إلى أن كتبت إليهما بالشعر المشهور المتداول بين الناس بالمغرب وكان احد تجار إشبيلية اشتراها على انها جارية سرية ووهبها لابنه فنظر من شأنها وهيئت له فلما أراد الدخول عليها امتنعت وأظهرت نسبها وقالت لا أحل لك إلا بعقد النكاح إن رضي أبي بذلك وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها وانتظار جوابه فكان الذي كتبته بخطها من نظمها ما صورته
( اسمع كلامي واستمع لمقالتي ... فهي السلوك بدت من الأجياد )
( لا تنكروا أني سبيت وأنني ... بنت لملك من بني عباد )
( ملك عظيم قد تولى عصره ... وكذا الزمان يؤول للإفساد )
( لما أراد الله فرقة شملنا ... وأذاقنا طعم الأسى عن زاد )
( قام النفاق على أبي في ملكه ... فدنا الفراق ولم يكن بمراد )
( فخرجت هاربة فحازني امرؤ ... لم يأت في إعجاله بسداد )
( إذ باعني بيع العبيد فضمني ... من صانني إلا من الانكاد )
( وأرادني لنكاح نجل طاهر ... حسن الخلائق من بني الأنجاد )
( ومضى إليك يسوم رأيك في الرضى ... ولأنت تنظر في طريق رشادي )
( فعساك يا أبتي تعرفني به ... إن كان ممن يرتجى لوداد )
( وعسى رميكية الملوك بفضلها ... تدعو لنا باليمن والإسعاد )
فلما وصل شعرها لأبيها وهو بأغمات واقع في شراك الكروب

والأزمات سر هو وامها بحياتها ورأيا ان ذلك للنفس من أحسن أمنياتها إذ علما مآل أمرها وجبر كسرها إذ ذلك اخف الضررين وإن كان الكرب قد ستر القلب منه حجاب رين وأشهد على نفسه بعقد نكاحها من الصبي المذكور وكتب إليها أثناء كتابه مما يدل على حسن صبره المشكور
( بنيتي كوني به برة ... فقد قضى الوقت بإسعافه )
وأخبار المعتمد بن عباد تذيب الأكباد فلنرجع إلى ذكر نساء الأندلس فنقول
13 - ومنهن حفصة بنت حمدون من وادي الحجارة ذكرها في المغرب وقال انها من اهل المائة الرابعة ومن شعرها
( رأى ابن جميل ان يرى الدهر مجملا ... فكل الورى قد عمهم سيب نعمته )
( له خلق كالخمر بعد امتزاجها ... وحسن فما احلاه من حين خلقته )
( بوجه كمثل الشمس يدعو ببشره ... عيونا ويعشيها بإفراط هيبته )
ولها
( لي حبيب لا ينثني لعتاب ... وإذا ما تركته زاد تيها )
( قال لي هل رأيت لي من شبيه ... قلت أيضا وهل ترى لي شبيها )
ولها تذم عبيدها
( يارب أني من عبيدي على ... جمر الغضا ما فيهم من نجيب )
( إما جهول أبله متعب ... أو فطن من كيده لا يجيب )

وقال ابن الأبار إنها كانت أديبة عالمة شاعرة وذكرها ابن فرج صاحب الحدائق وانشد لها أشعارا منها قولها
( يا وحشتي لأحبتي ... يا وحشة متمادية )
( يا ليلة ودعتهم ... يا ليلة هي ما هيه )
14 - ومنهن زينب المرية كانت أديبة شاعرة وهي القائلة
( يا أيها الراكب الغادي لطيته ... عرج أنبئك عن بعض الذي أجد )
( ماعالج الناس من وجد تضمنهم ... إلا ووجدي بهم فوق الذي وجدوا )
( حسبي رضاه وأني في مسرته ... ووده آخر الأيام أجتهد )
15 - ومنهن غاية المنى وهي جارية أندلسية متأدبة قدمت إلى المعتصم بن صمادح فأراد اختبارها فقال لها ما اسمك فقالت غاية المنى فقال لها أجيزي
( اسألوا غاية المنى
فقالت
( من كسا جسمي الضنى ... وأراني مولها سيقول الهوى انا )
هكذا أورد السالمي هذه الحكاية في تاريخه
قال ابن الأبار وقرأت بخط الثقة حاكيا عن القاضي أبي القاسم ابن حبيش قال سيقت لابن صمادح جارية نبيلة تقول الشعر وتحسن المحاضرة فقال

تحمل إلى الأستاذ ابن الفراء الخطيب ليختبرها وكان كفيفا فلما وصلته قال ما اسمك فقالت غاية المنى فقال أجيزي
( سل هوى غاية المنى ... من كسا جسمي الضنى
فقالت تجيزه
( وأراني متيما ... سيقول الهوى أنا )
حكى ذلك لابن صمادح فاشتراها انتهى
16 - ومنهن حمدة ويقال حمدونة بنت زياد المؤدب من وادي آش وهي خنساء المغرب وشاعرة الأندلس ذكرها الملاحي وغيره وممن روى عنها أبو القاسم ابن البراق
ومن عجيب شعرها قولها
( ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... ومالهم عندي وعندك من ثار )
( وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وانصاري )
( غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار )
وبعض يزعم ان هذه الأبيات لمهجة بنت عبدالرزاق الغرناطية وكونها لحمدة أشهر والله سبحانه وتعالى أعلم
وخرجت حمدة مرة للوادي مع صبية فلما نضت عنها ثيابها وعامت قالت

( أباح الدمع أسراري بوادي ... له للحسن آثار بوادي )
( فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يرف بكل وادي )
( ومن بين الظباء مهاة إنس ... لها لبي وقد ملكت فؤادي )
( لها لحظ ترقده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي )
( إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في جنح الدآدي )
( كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد )
وقال ابن البراق في سوق هذه الحكاية انشدتنا حمدة العوفية لنفسها وقد خرجت متنزهة بالرملة من نواحي وادي آش فرأت ذات وجه وسيم أعجبها فقالت وبين الروايتين خلاف أباح الدمع إلى آخره ونسب بعضهم إلى حمدة هذه الأبيات الشهيرة بهذه البلاد المشرقية وهي
( وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم )
( حللنا دوحة فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم )
( وأرشفنا على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
( يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم )
( يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم )
وممن جزم بذلك الرعيني وقال إن مؤرخي بلادنا نسبوها لحمدة من من قبل أن يوجد المنازي الذي ينسبها له أهل المشرق وقد رأيت أن أذكر كلامه برمته ونصه كانت من ذوي الألباب وفحول أهل الآداب حتى إن بعض المنتحلين تعلق بهذه الأهداب وادعى نظم هذين البيتين يعني ولما أبى الواشون إلى آخره لما فيهما من المعاني والألفاظ العذاب وماغره في ذلك

إلا بعد دارها وخلو هذه البلاد المشرقية من أخبارها وقد تلبس بعضهم أيضا بشعهارها وادعى غير هذا من أشعارها وهو قولها وقانا لفحة الرمضاء واد وإلى آخره وإن هذه الأبيات نسبها أهل البلاد للمنازي من شعرائهم وركبوا التعصب في جادة ادعائهم وهي أبيات لم يخلبها غير لسانها ولا رقم برديها غير إحسانها ولقد رأيت المؤرخين من أهل بلادنا وهي الأندلس أثبتوها لها قبل أن يخرج المنازي من العدم إلى الوجود ويتصف بلفظة الموجود انتهى
وهو أبو جعفر الأندلسي الغرناطي نزيل حلب
وحكى ابن العديم في تاريخ حلب ما نصه وبلغني ان المنازي عمل هذه الأبيات ليعرضها على أبي العلاء المعري فلما وصل إليه أنشده الأبيات فجعل المنازي كلما أنشد المصراع الأول من كل بيت سبقه أبو العلاء إلى المصراع الثاني الذي هو تمام البيت كما نظمه ولما أنشده قوله
( نزلنا دوحه فحنا علينا )
فقال أبو العلاء
( حنو الوالدات على الفطيم )
فقال المنازي إنما قلت على اليتيم فقال أبو العلاء الفطيم أحسن انتهى
وهذا يدل على ان الرواية عنده حنو الوالدات وقد تقدم المرضعات والله تعالى اعلم
وقال ابن سعيد يقال لنساء غرناطة المشهورات بالحسب والجلالة العربيات لمحافظتهن على المعاني العربية ومن أشهرهن زينب بنت زياد الوادي آشي واختها حمدة وحمدة هذه هي القائلة وقد خرجت إلى نهر منقسم الجداول بين الرياض مع نسائها فسبحن في الماء وتلاعبن

( أباح الدمع أسراري بوادي ) الأبيات انتهى
17 - ومنهن عائشة بنت احمد القرطبية
قال ابن حيان في المقتبس لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علما وفهما وأدبا وشعرا وفصاحة تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة وكانت حسنة الخط تكتب المصاحف وماتت عذراء لم تنكح سنة أربعمائة
وقال في المغرب إنها من عجائب زمانها وغرائب أوانها وأبو عبدالله الطبيب عمها ولو قيل إنها أشعر منه لجاز ودخلت على المظفر ابن المنصور بن أبي عامر وبين يديه ولد فارتجلت
( أراك الله فيه ما تريد ... ولا برحت معاليه تزيد )
( فقد دلت مخايله على ما ... تؤمله وطالعه السعيد )
( تشوقت الجياد له وهز الحسام ... هوى وأشرقت البنود )
( فسوف تراه بدرا في سماء ... من العليا كواكبه الجنود )
( وكيف يخيب شبل قد نمته ... إلى العليا ضراغمة أسود )
( فأنتم آل عامر خير آل ... زكا الأبناء منكم والجدود )
( وليدكم لدى رأي كشيخ ... وشيخكم لدى حرب وليد )
وخطبها بعض الشعراء ممن لم ترضه فكتبت إليه
( انا لبوة لكنني لا أرتضي ... نفسي مناخا طول دهري من احد )
( ولو أنني اختار ذلك لم أجب ... كلبا وكم غلقت سمعي عن أسد )

18 - ومنهن مريم بنت أبي يعقوب الأنصاري
سكنت إشبيلية و أصلها والله اعلم من شلب
وذكرها ابن دحية في المطرب وقال إنها أديبة شاعرة جزلة مشهورة وكانت تعلم النساء الأدب وتحتشم لدينها وفضلها وعمرت عمرا طويلا سكنت إشبيلية واشتهرت بها بعد الأربعمائة وذكرها الحميدي وأنشد لها جوابها لما بعث المهدي إليها بدنانير وكتب إليها
( مالي بشكر الذي اوليت من قبل ... لو أنني حزت نطق اللسن في الحلل )
( يافذة الظرف في هذا الزمان ويا ... وحيدة العصر في الإخلاص في العمل )
( أشبهت مريما العذراء في ورع ... وفقت خنساء في الأشعار والمثل )
ونص الجواب منها
( من ذا يجاريك في قول وفي عمل ... وقد بدرت إلى فضل ولم تسل )
( مالي بشكر الذى نظمت في عنقي ... من اللآلي وما اوليت من قبل )
( حليتني بحلى أصبحت زاهية ... بها على كل أنثى من حلى عطل )
( لله أخلاقك الغر التي سقيت ... ماء الفرات فرقت رقة الغزل )
( أشبهت مروان من غارت بدائعه ... وأنجدت وغدت من أحسن المثل )
( من كان والده العضب المهند لم ... يلد من النسل غيرالبيض والأسل )
ومن شعرها وقد كبرت
( وما يرتجى من بنت سبعين حجة ... وسبع كنسج العنكبوت المهلهل )
( تدب دبيب الطفل تسعى إلى العصا ... وتمشي بها مشي الأسير المكبل )

19 - ومنهن أسماء العامرية من اهل إشبيلية كتبت إلى عبدالمؤمن ابن على رسالة نمت فيها إليه بنسبها العامري وتسأله في رفع الانزال عن دارها والاعتقال عن مالها وفي آخرها قصيدة اولها
( عرفنا النصر والفتح المبينا ... لسيدنا أمير المؤمنينا )
( إذا كان الحديث عن المعالي ... رأيت حديثكم فينا شجونا )
ومنها
( رويتم علمه فعلمتموه ... وصنتم عهده فغدا مصونا )
20 - ومنهن ام الهناء بنت القاضي أبي محمد عبدالحق بن عطية سمعت أباها وكانت حاضرة النادرة سريعة التمثل من اهل العلم والفهم والعقل ولها تأليف في القبور ولما ولي أبوها قضاء المرية دخل داره وعيناه تذرفان وجدا لمفارقة وطنه فأنشدته متمثلة
( ياعين صار الدمع عندك عادة ... تبكين في فرح وفي أحزان )
وهذا البيت من جملة أبيات هي
( جاء الكتاب من الحبيب بأنه ... سيزورني فاستعبرت أجفاني )
( غلب السرور علي حتى إنه ... من عظم فرط مسرتي أبكاني )
وبعده البيت وبعده
( فاستقبلي بالبشر يوم لقائه ... ودعي الدموع لليلة الهجران )

21 - ومنهن مهجة القرطبية صاحبة ولادة رحمهما الله تعالى وكانت من أجل نساء زمانها وعلقت بها ولادة ولازمت تأديبها وكانت من أخف الناس روحا ووقع بينها وبين ولادة ما اقتضى ان قالت
( ولادة قد صرت ولادة ... من غير بعل فضح الكاتم )
( حكت لنا مريم لكنه ... نخلة هذي ذكر قائم )
قال بعض الأكابر لو سمع ابن الرومي هذا لأقر لها بالتقديم
ومن شعرها
( لئن قد حمى عن ثغرها كل حائم ... فما زال يحمى عن مطالبه الثغر )
( فذلك تحميه القواضب والقنا ... وهذا حماه من لواحظها السحر )
وأهدى إليها من كان يهيم بها خوخا فكتبت إليه
( يا متحفا بالخوخ أحبابه ... أهلا به من مثلج للصدور )
( حكى ثدي الغيد تفليكه ... لكنه أخزى رؤوس الأيور )
22 - ومنهن هند جارية أبي محمد عبدالله بن مسلمة الشاطبي وكانت أديبة شاعرة كتب إليها أبو عامر ابن ينق يدعوها للحضور عنده بعودها
( ياهند هل لك في زيارة فتية ... نبذوا المحارم غير شرب السلسل )
( سمعوا البلابل قد شدوا فتذكروا ... نغمات عودك في الثقيل الأول )
فكتبت إليه في ظهر رقعته
( ياسيدا حاز العلا عن سادة ... شم الأنوف من الطراز الأول )

( حسبي من الإسراع نحوك انني ... كنت الجواب مع الرسول المقبل )
23 - ومنهن الشلبية قال ابن الأبار ولم أقف على اسمها وكتبت إلى السلطان يعقوب المنصور تتظلم من ولاة بلدها وصاحب خراجه
( قد آن ان تبكي العيون الآبيه ... ولقد أرى أن الحجارة باكيه )
( ياقاصد المصر الذي يرجى به ... إن قدر الرحمن رفع كراهيه )
( ناد الأمير إذا وقفت ببابه ... ياراعيا إن الرعية فانيه )
( أرسلتها هملا ولا مرعى لها ... وتركتها نهب السباع العاديه )
( شلب كلا شلب وكانت جنة ... فأعادها الطاغون نارا حاميه )
( حافوا وماخافوا عقوبة ربهم ... والله لا تخفى عليه خافيه )
فيقال إنها ألقيت يوم الجمعة على مصلى المنصور فلما قضى الصلاة وتصفحها بحث عن القصة فوقف على حقيقتها وأمر للمرأة بصلة
وحكي أن بعض قضاة لوشة كانت له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل وكان قبل أن يتزوجها ذكر له وصفها فتزوجها وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به فكتب إليه بعض أصحابه مداعبا بقوله
( بلوشة قاض له زوجة ... وأحكامها في الورى ماضيه )
( فيا ليته لم يكن قاضيا ... وياليتها كانت القاضيه )
فأطلع زوجته عليه حين قرأه فقالت ناولني القلم فناولها فكتبت بديهة
( هو شيخ سوء مزدرى ... له شيوب عاصيه )
( كلا لئن لم ينته ... لنسفعا بالناصيه )

وسمعت بعض أشياخنا يحكي القضية عن لسان الدين بن الخطيب وأنه هو الذي كتب يداعب زوج المرأة فكتبت إليه
( إن الإمام ابن الخطيب ... له شيوب عاصيه )
إلى آخره فالله أعلم
24 - ومنهن نزهون الغرناطية
قال في المغرب من أهل المائة الخامسة ذكرها الحجاري في المسهب ووصفها بخفة الروح والانطباع الزائد والحلاوة وحفظ الشعر والمعرفة بضرب الأمثال مع جمال فائق وحسن رائق وكان الوزير أبو بكر ابن سعيد أولع الناس بمحاضرتها ومذاكرتها ومراسلتها فكتب لها مرة
( يامن له ألف خل ... من عاشق وصديق )
( أراك خليت للناس ... منزلا في الطريق )
فأجابته
( حللت أبا بكر محلا منعته ... سواك وهل غير الحبيب له صدري )
( وإن كان لي كم من حبيب فإنما ... يقدم أهل الحق حب أبي بكر )
قيل لو قالت وإن كان خلاني كثيرا إلخ لكان أجود
ولما قال فيها المخزومي

( على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وتحت الثياب العار لو كان باديا )
( قواصد نزهون توارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل السواقيا )
قالت
( إن كان ما قلت حقا ... من بعض عهد كريم )
( فصار ذكري ذميما ... يعزى إلى كل لوم )
( وصرت أقبح شيء ... في صورة المخزومي )
وقد تقدمت حكايتها في الباب الأول من هذا فلتراجع
وقال لها بعض الثقلاء ماعلى من أكل معك خمسمائة سوط فقالت
( وذي شقوة لما رآني رأى له ... تمنيه أن يصلى معي جاحم الضرب )
( فقلت له كلها هنيئا فإنما ... خلقت إلى لبس المطارف والشرب )
679

- ابن قزمان
وقال ابن سعيد في طالعه لما وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطه واجتماعه بجنته بقرية الزاوية من خارجها بنزهون القلاعية الأديبة وماجرى بينهما وانها قالت له بعقب ارتجال بديع وكان يلبس غفارة صفراء على زي الفقهاء حينئذ أحسنت يابقرة بني اسرائيل إلا أنك لا تسر الناظرين فقال لها إن لم أسر الناظرين فانا أسر السامعين وإنما يطلب سرور الناظرين منك يافاعلة ياصانعة وتمكن السكر من ابن قزمان وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة فما خرج إلا وهو قد شرب كثيرا من الماء وثيابه تهطل فقال اسمع يا وزير ثم أنشد

( إيه أبا بكر ولا حول لي ... بدفع أعيان وأنذال )
( وذات فرج واسع دافق ... بالماء يحكي حال أذيالي )
( غرقتني في الماء ياسيدي ... كفرة بالتغريق في المال )
فأمر بتجريد ثيابه وخلع عليه ما يليق به ومر لهم يوم بعد عهدهم بمثله ولم ينتقل ابن قزمان من غرناطة إلا من بعد ما أجزل له الإحسان ومدحه بماهو ثابت له في ديوان أزجاله وحكي عنه فيما أظن أعني ابن قزمان ويحتمل أنه غيره أنه تبع إحدى الماجنات وكان أحول فأطمعته في نفسها وأشارت إليه أن يتبعها فاتبعها حتى أتت به سوق الصاغة بإشبيلية فوقفت على صائغ من صياغها وقالت له يامعلم مثل هذا يكون فص الخاتم الذي قلت لك عنه تشير إلى عين ذلك الأحول الذي تبعها وكانت قد كلفت ذلك الصائغ أن يعمل لها خاتما يكون فصه عين إبليس فقال لها الصائغ جيئيني بالمثال فإني لم أر هذا ولا سمعته قط فجاءته به عن مثال وحكاها بعضهم على وجه آخر وأنها ذهبت إلى الصائغ وقالت له صور لي صورة الشيطان فقال لها ائتيني بمثال فلما تبعها ابن قزمان جاءته به وقالت له مثل هذا فسأل ابن قزمان الصائغ فأعلمه فخجل ولعنها وكتب أبو بكر ابن قزمان على باب جنته
( وقائل ياحسنها جنة ... لا يدخل الحزن على بابها )
( فقلت والحق له صولة ... أحسن منها مجد أربابها )
وله
( كثير المال تمكسه فيفنى ... وقد يبقى مع الجود القليل )
( ومن غرست يداه ثمار جود ... ففي ظل الثناء له مقيل )

رجع إلى أخبار نزهون بنت القليعي
حكي أنها كانت تقرأ على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليهما أبو

بكر الكتندي فقال يخاطب المخزومي
( لو كنت تبصر من تجالسه ) فأفحم وأطال الفكر فما وجد شيئا فقالت نزهون
( لغدوت أخرس من خلاخله )
( البدر يطلع من أزرته ... والغصن يمرح في غلائله )
وكانت ماجنة ومن شعرها قولها
( لله در الليالي ما أحيسنها ... وما أحسن منها ليلة الأحد )
( لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت ... عين الرقيب فلم تنظر إلى احد )
( أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر ... بل ريم خازمة في ساعدي أسد )
680

- مقطعات لابن الزقاق
وهذا المعنى متفق مع قول ابن الزقاق
( ومرتجة الأرداف اما قوامها ... فلدن وأما ردفها فرداح )
( ألمت فبات الليل من قصر بها ... يطير ولا غير السرور جناح )
( فبت وقد زارت بأنعم ليلة ... يعانقني حتى الصباح صباح )
( على عاتقي من ساعديها حمائل ... وفي خصرها من ساعدي وشاح )
وابن الزقاق هذا له في النظم والغوص على المعاني الباع المديد ومن نظمه قوله

( رئيس الشرق محمود السجايا ... يقصر عن مدائحه البليغ )
( نسميه بيحيى وهو ميت ... كما ان السليم هو اللديغ )
( يعاف الورد إن ظمئت حشاه ... وفي مال اليتيم له ولوغ )
وقوله
( كتبت ولو أنني أستطيع ... لإجلال قدرك بين البشر )
( قددت اليراعة من انملي ... وكان المداد سواد البصر )
وقوله
( غرير يباري الصبح إشراق خده ... وفي مفرق الظلماء منه نصيب )
( ترف بفيه ضاحكا أقحوانه ... ويهتز في برديه منه قضيب )
وقوله
( ومهفهف نبت الشقيق بخده ... واهتز أملود النقا في برده )
( ماء الشبيبة والغرام أرق من ... صقل الحسام المنتقى وفرنده )
( يحيي الورى بتحية من وصله ... من بعدما وردوا الحمام بصده )
( إن كنت أهديت الفؤاد له فقل ... أي الجوى بجوانح لم يهده )
وقوله
( أرق نسيم الصبا عرفه ... وراق قضيب النقا عطفه )
( ومر بنا يتهادى وقد ... نضا سيف أجفانه طرفه )
( ومد لمبسمه راحة ... فخلت الأقاح دنا قطفه )
( أشارت بتقبيلها للسلام ... فقال فمي ليتني كفه )
وقوله
( بأبي من لم يدع لي لحظه ... في الهوى من رمق حين رمق )

( جمعت نكهته في ثغره ... عبقا في نسق يسبي الحدق )
( وبدت خجلته في خده ... شفقا في فلق تحت غسق )
وقال
( وعشية لبست ملاء شقيق ... تزهى بلون للخدود أنيق )
( أبقت بها الشمس المنيرة مثل ما ... أبقى الحياء بوجنتي معشوق )
( لو أستطيع شربتها كلفا بها ... وعدلت فيها عن كؤوس رحيق )
وقال في مسامرة كتاب زعماء
( لله ليلتنا التي استخذى بها ... فلق الصباح لسدفة الإظلام )
( طرأت علي مع النجوم بأنجم ... من فتية بيض الوجوه كرام )
( إن حوربوا فزعوا إلى بيض الظبى ... أو خوطبوا فزعوا إلى الأقلام )
( فترى البلاغة إن نظرت إليهم ... والبأس بين يراعة وحسام )
وقال
( ومجدين في السرى قد تعاطوا ... غفوات الهوى بغير كؤوس )
( جنحوا وانحنوا على العيس حتى ... خلتهم يعتبون أيدي العيس )
( نبذوا الغمض وهو حلو إلى أن ... وجدوه سلافة في الرؤوس )
وقال
( وحبب يوم السبت عندي أنني ... ينادمني فيه الذي انا أحببت )
( ومن أعجب الأشياء أني مسلم ... حنيف ولكن خير أيامي السبت )
ولنقتصر من نساء الأندلس على هذا المقدار ونعد إلى ماكنا فيه من جلب كلام بلغاء الأندلس ذوي الأقدار فنقول

681

- قال الخفاجي رحمه الله تعالى
( وهاتفة في البان تملي غرامها ... علينا وتتلو من صبابتها صحفا )
( عجبت لها تشكو الفراق جهالة ... وقد جاوبت من كل ناحية إلفا )
( ويشجى قلوب العاشقين أنينها ... وما فهموا مما تغنت به حرفا )
( ولو صدقت فيما تقول من الأسى ... لما لبست طوقا ولا خضبت كفا )
682 - وقال الأستاذ أبو محمد ابن صارة
( متى تلتقي عيناي بدر مكارم ... تود الثريا أنها من مواطئه )
( ولما أهل المدلجون بذكره ... وفاح تراب البيد مسكا لواطئه )
( عرفنا بحسن الذكر حسن صنيعه ... كما عرف الوادي بخضرة شاطئه )
وقال يتغزل
( يامن تعرض دونه شحط النوى ... فاستشرفت لحديثه أسماعي )
( إني لمن يحظى بقربك حاسد ... ونواظري يحسدن فيك رقاعي )
( لم تطوك الأيام عني إنما ... نقلتك من عيني إلى أضلاعي )
683
- مقطعات لابن العطار
وقال الأديب أبو القاسم ابن العطار
( عبرنا سماء الجو والنهر مشرق ... وليس لنا إلا الحباب نجوم )
( وقد ألبسته الأيك برد ظلالها ... وللشمس في تلك البرود رقوم )

وله أيضا
( لله بهجة نزهة ضربت به ... فوق الغدير رواقها الأنشام )
( فمع الأصيل النهر درع سابغ ... ومع الضحى يلتاح فيه حسام )
وقال أيضا
( هبت الريح بالعشي فحاكت ... زردا للغدير ناهيك جنه )
( وانجلى البدر بعد هدء فحاكت ... كفه للقتال منه أسنه )
وقال أيضا
( لله حسن حديقة بسطت لنا ... منها النفوس سوالف ومعاطف )
( تختال في حلل الربيع وحليه ... ومن الربيع قلائد ومطارف )
وله
( وسنان ما إن يزال عارضه ... يعطف قلبي بعطفة اللام )
( أسلمني للهوى فواحزني ... أن بزني عفتي وإسلامي )
( لحاظه أسهم وحاجبه ... قوس وإنسان عينه رامي )
684 - وارتجل أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى لما بات في قرية بيش

( لله منزلنا بقرية بيش ... كاد الهوى فيها ادكارا بي يشي )
( رحنا إليها والبطاح كأنها ... صحف مذهبة بإبريز العشي )
فأجازه الوزير ابن جزي بقوله
( في فتية هزت حميا الأنس من ... أعطافهم فالكل منها منتشي )
( يأتي علاهم بالصحيح ولفظهم ... بالمنتقى وجمالهم بالمدهش )
685 - وقال السلطان أبو الحجاج النصري مرتجلا أيام مقامه بظاهر جبل الفتح سنة 815
( ولم يتركوا أوطانهم بمرادهم ... ولكن الأحوال أشابت مفارقي )
( أقام بها ليل التهاني تقلبا ... وقد سكنت جهلا نفوس الخلائق )
( فعوضتها ليل الصبابة بالسرى ... وأنس التلاقي بالحبيب المفارق )
( ولم يثنني طرف من النور ناعس ... ولا معطف للبان وسط الحدائق )
( ولا منهض الأشبال في عقر غيرهم ... ولا ملعب الغزلان فوق النمارق )
( وعاطيتها صبح الدياجي مدامة ... تميل بها الركبان فوق الأيانق )
( إذا ما قطعنا بالمطي تنوفة ... دلجنا لأخرى بالجياد السوابق )
( بحيث التقى موسى مع الخضر آية ... عسى ترجع العقبى كموسى وطارق )
وله
( من عاذري من غزال زانه حور ... قد هام لما بدا في حسنه البشر )
( ألحاظه كسيوف الهند ماضية ... لها بقلبي وإن سالمتها أثر )
686 - وقال القاضي أبو القاسم ابن حاتم
( شكوت بما دهاك وكان سرا ... لمن ليست مودته صحيحة )
( فتلك مصيبة عادت ثلاثا ... لصحبتها الشماته والفضيحه )

687 - وقال الفقيه محمد بن سعيد الأندلسي مخاطبا للفقيه الفخار
( خفف علينا قليلا أيها العلم ... فربما كان فينا من به ألم )
( لا يستطيع نهوضا من تألمه ... وإن تمادى قليلا خانت القدم )
( كفى وصية مولانا وسيدنا ... محمد فاسمعوا ماقال والتزموا )
688 - وقال ابن جبير اليحصبي فيمن أهدى إليه تفاحا
( خليل لم يزل قلبي قديما ... يميل بفرط صاغية إليه )
( أتاني مقبلا والبشر يبدي ... وسائل برة كرمت لديه )
( وجاء بعرف تفاح ذكي ... فقلت أتى الخليل بسيبويه )
( فأهدى من جناه بكل شكل ... يلوح جمال مهديها عليه )
689 - وقال قاضي مالقة سيدي ابراهيم البدوي
( قطعت يأسي فصنت نفسي ... عن الوقوف لذي وجاهة )
( قصدت ربي فكان حسبي ... ألبسني فضله وجاهه )
( فلا يرى ينثني عناني ... مدى حياتي إلا تجاهه )
690 - وقال ابن خليل السكوني في فهرسته شاهدت بجامع العدبس بإشبيلية ربعة مصحف في أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة إلا انه أحسن خطا وأبينه وأبرعه وأتقنه فقال لي الشيخ الأستاذ أبو الحسن ابن الطفيل بن عظيمة هذا خط ابن مقلة وأنشد
( خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو أنها مقل )
ثم قسنا حروفه بالضابط فوجدنا انواعها تتماثل في القدر والوضع فالألفات على قدر واحد واللامات كذلك والكافات والواوات وغيرها بهذه النسبة انتهى

قلت رأيت بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام مصحفا بخط ياقوت المستعصمي بهذه المثابة وهو من الأوقاف الرستمية ورأيت بالحجرة الشريفة على صاحبها الصلاة والسلام مصحفا مكتوبا في آخره ما صورته كتبته بقلم واحد فقط ماقط قط إلا مرة فقط انتهى

رجع
691 - وقال ابن عبدون رحمه الله تعالى
( أذهبن من فرق الفراق نفوسا ... ونثرن من در الدموع نفيسا )
( فتبعتها نظر الشجي فحدقت ... رقباؤها نحوي عيونا شوسا )
( وحللن عقد الصبر إذ ودعنني ... فحللن أفلاك الخدور شموسا )
( حلته إذ حلته حتى خلته ... عرشا لها وحسبتها بلقيسا )
( فازور جانبها وكان جوابها ... لو كنت تهوانا صحبت العيسا ) وهي طويلة
قلت ما أظن لسان الدين نسج قصيدته من هذا البحر والروي إلا على منوال هذه وإن كان الحافظ التنسي قال إنه نسجها على قصيدة أبي تمام حسبما ذكر ذلك في محله فليراجع
692 - وقال أبو عبدالله ابن المناصف قاضي بلنسية ومرسية رحمه الله تعالى
( ألزمت نفسي خمولا ... عن رتبة الأعلام )
( لا يخسف البدر إلا ... ظهوره في تمام )
وتذكرت به قول غيره
( ليس الخمول بعار ... على امرىء ذي جلال )
( فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي )

693 - وقال الوزير ابن عمار وقد كتب له أبو المطرف ابن الدباغ شافعا لغلام طر له عذار
( أتاني كتابك مستشفعا ... بوجه أبى الحسن من رده )
( ومن قبل فضي ختم الكتاب ... قرأت الشفاعة في خده )
694 - وقال القاضي الأديب والفيلسوف الأريب أبو الوليد الوقشي قاضي طليطلة
( برح بي ان علوم الورى ... قسمان ما إن فيهما من مزيد )
( حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطل تحصيله لا يفيد )
695 - وقال أبو عبدالله ابن الصفار وهو من بيت القضاء والعلم بقرطبة
( لا تحسب الناس سواء متى ... ما اشتبهوا فالناس أطوار )
( وانظر إلى الأحجار في بعضها ... ماء وبعض ضمنه نار )
وهذا مثل قول غيره
( الناس كالأرض ومنها هم ... من خشن الطبع ومن لين )
( مرو تشكى الرجل منه الوجى ... وإثمد يجعل في الأعين )
ومن نظم ابن الصفار المذكور
( إذا نويت انقطاعا ... فاعمل حساب الرجوع )
696 - وقال أبو مروان الجزيري
( ومن العجائب والعجائب جمة ... أن يلهج الأعمى بعيب الأعور )

697 - وقال حسان بن المصيصي كاتب الظافر بن عباد ملك قرطبة
( لا تأمنن من العدولبعده ... إن امرأ القيس اشتكى الطماحا )
698 - وقال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي في كتابه الإسفار عن نتائج الأسفار أنشدني الكاتب الأديب أبو عمرو ابن مهيب بإشبيلية أبياتا عملها في حمود بن إبراهيم بن أبي بكر الهرغي وكان أجمل أهل زمانه رآه عندنا زائرا وقد خط عذاره فقلت يا أبا عمرو ماتنظر إلى حسن هذا الوجه فعمل الأبيات في ذلك وهي
( وقالوا العذار جناح الهوى ... إذا ما استوى طار عن وكره )
( وليس كذاك فخبرهم ... قياما بعذري أو عذره )
( إذا كمل الحسن في وجنة ... فخاتمه ويك من شعره )
قال بعضهم رأيت آخر الكتاب المذكور بعد فراغه شعرا نسبه إليه وهو
( ياحاضرا بجماله في خاطري ... ومحجبا بجلاله عن ناظري )
( إن غبت عن عيني فإنك نورها ... وضمير سرك سائر في سائري )
( ومن العجائب أنني أبدا إلى ... رؤياك ذو شوق مديد وافر )
( مع أنني ماكنت قط بمجلس ... إلا وكنت منادمي ومسامري )
699 - وأنشد في الإحاطة لعبدالله الجذامي
( أيا سيدي أشكو لمجدك أنني ... صددت مرارا عن مثولي بساحتك )
( شكاة اشتياق أنت حقا طبيبها ... وماراحتي إلا بتقبيل راحتك )
قال وهو عبدالله بن عبدالله بن أحمد بن محمد الجذامي فاضل ملازم

للقراءة عاكف على الخير مشارك في العربية خاطب للرياسة الأدبية اختص بالأمير أبي علي المنصور ابن السلطان أيام مقامه بالأندلس ومما خاطبه به معتذرا
( أيا سيدي 00البيتين ) انتهى
700 - وقال في ترجمة عبدالله بن أحمد المالقي قاضي غرناطة وكان فقيها بارع الأدب إنه كتب إلى أبي نصر صاحب القلائد والمطمح أثناء رسالة بقوله
( تفتحت الكتابة عن نسيم ... نسيم المسك في خلق كريم )
( أبا نصر رسمت لها رسوما ... تخال رسومها وضح النجوم )
( وقد كانت عفت فأنرت منها ... سراجا لاح في الليل البهيم )
( فتحت من الصناعة كل باب ... فصارت في طريق مستقيم )
( فكتاب الزمان ولست منهم ... إذا راموا مرامك في هموم )
( فما قس بأبدع منك لفظا ... ولا سحبان مثلك في العلوم )
701 - وقال الذهبي وقد جرى ذكر محمد بن الحسن المذحجي الأندلسي ابن الكتاني إنه أديب شاعر متفنن ذو تصانيف حمل عنه ابن حزم ومن شعره
( ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل ... وبانت ليالي البين واجتمع الشمل )
( فسعدي نديمي والمدامة ريقها ... ووجنتها روضي وتقبيلها النقل )
702 - وقال العلامة محمد بن عبدالرحمن الغرناطي
( الشعب ثم قبيلة وعمارة ... بطن وفخذ والفصيلة تابعه )

( فالشعب مجتمع القبيلة كلها ... ثم القبيلة للعمارة جامعه )
( والبطن تجمعه العمائر فاعلمن ... والفخذ تجمعه البطون الواسعه )
( والفخذ يجمع للفصائل هاكها ... جاءت على نسق لها متتابعه )
( فخزيمة شعب وإن كنانة ... لقبيلة منها الفصائل شائعه )
( وقريشها تسمى العمارة يافتى ... وقصي بطن للأعادي قامعه )
( ذا هاشم فخذ وذا عباسها ... أثر الفصيلة لا تناط بسابعه )
وكتبت هذه الأبيات وإن لم تشتمل على البلاغة لما فيها من الفائدة ولأن بعض الناس سألني فيها لغرابتها والأعمال بالنيات
703 - ولما دخل أبو محمد الكلاعي الجياني على القاضي ابن رشد قام له فأنشده أبو محمد بديهة
( قام لي السيد الهمام ... قاضي قضاة الورى الإمام )
( فقلت قم بي ولا تقم لي ... فقلما يؤكل القيام )
704 - وقال أبو عبدالرحمن ابن جحاف البلنسي
( لئن كان الزمان أراد حطي ... وحاربني بأنياب وظفر )
( كفاني أن تصافيني المعالي ... وإن عاديتني يا أم دفر )
( فما اعتز اللئيم وإن تسامى ... ولا هان الكريم بغير وفر )
705 - وقال أبو محمد ابن برطله
( ألا إنما سيف الفتى صنو نفسه ... فنافس بأوفى ذمة وإخاء )
( يزينك مرأى أو يعينك حاجة ... فيحسن حالي شدة ورخاء )

وقال أيضا
( أنفسي صبرا لا يروعك حادث ... بإرتاجه واستشعري عاجل الفتح )
( فرب اشتداد في الخطوب لفرجة ... كما انشق ليل طال عن فلق الصبح )
وقال أيضا
( متى يدنو لوعدكم انتجاز ... ويبعد من حقيقته المجاز )
( أيجمل أن يؤمكم رجائي ... فيوقف لا يرد ولا يجاز )
( وجدكم كفيل بالأماني ... ومطلوبي قريب مستجاز )
( إذا ما امكنت فرص المساعي ... فعجز ان يطاولها انتهاز )
( وها انا قد هززتكم حساما ... ويحسن للمهندة اهتزاز )
( فما الإنصاف أن ينضى كهام ... ويودع غمده العضب الجراز )
( كما نعم العراق بعذب بحر ... ويشقى بالظما البرح الحجاز )
( فأعيى الناس في المقدار حكم ... تجاذبه خمول واعتزاز )
706 - وأنشد الشيخ أبو بكر ابن حبيش لابن وضاح البيت المشهور وهو
( أسرى وأسير في الآفاق من قمر ... ومن نسيم ومن طيف ومن مثل )

وابن حبيش المذكور هو أبو بكر محمد بن الحسن بن يوسف بن حبيش بفتح الحاء وقد عرف به تلميذه ابن رشيد الفهري في رحلته فقال بعد كلام أما النظم فبيده عنانه واما النثر فإن مال إليه توكف له بنانه مع تواضع زائد على صلة مخبره عائد لقيته بمنزله ليوم او يومين من مقدمي على تونس فتلقى بكل فن يونس وصادفته لحالة مرض من وثء في رجله عرض وعنده جملة من العواد من الصدور الأمجاد فأدنى وقرب وسهل ورحب وتفاوض اولئك الصدور في فنون من الأدب كانها الشذور إلى أن خاضوا في الأحاجي واستضاءوا بانوار أفكارهم في تلك الدياجي فخضت معهم في الحديث وأنشدتهم بيتين كنت صنعتهما وأنا حديث لقصة بلغتني عن أبي الحسن سهل بن مالك وهي انه كان يسائل أصحابه وهو في المكتب ويقول لهم أخرجوا اسمي فكل ينطق على تقديره فيقول لهم إنكم لم تصيبوه مع أنه سهل فنظمت هذا المعنى فقلت
( وما اسم فكه سهل يسير ... يكون مصغرا نجما يسير )
( مصحفه له في العين حسن ... وقلبي عند صاحبه أسير )
وكان الشيخ أبو بكر على فراشه فزحف مع ما به من ألم إلى محبرة وطرس وقلم وكتب البيتين بخطه وقال للحاضرين ارووا هذين البيتين عن قائلهما
ومن شيوخ ابن حبيش المذكور أبو عبدالله ابن عسكر المالقي كتب له ولأخيه أبي الحسين بخطه إجازة جميع مايجوز له وعنه وضمن آخرها هذه الأبيات

( أجبتكما لكن مقرا بانني ... أقصر فيما رمتما عن مداكما )
( فإنكما بدران في العلم أشرقا ... فسلم إذعانا وقسرا عداكما )
( فسيروا على حكم الوداد فإنني ... اجود بنفسي أن تكون فداكما )
قال ابن رشيد وقد جمع صاحبنا أبو العباس الأشعري لابن حبيش فهرسة جامعة ولما وقف عليها ابن حبيش كتب في أولها مانصه الحمد لله حق حمده أحسن هذا الفاضل فيما صنع أحسن الله إليه وبالغ فيما جمع بلغ الله تعالى به أشرف المراتب لديه غير أني أقول واحدة ما سريرتي لها بجاحدة وأصرح بمقال لا يسعني كتمه بحال والله ما انا للإجازة بأهل ولا مرامها لدي بسهل إذ من شرط المجيز ان يعد فيمن كمل ويعد العلم والعمل اللهم غفرا كيف ينيل من عدم وفرا أو يجيز من أصبح صدره من المعارف قفرا وصحيفته من الصالحات صفرا وكيف يرتسم في ديوان الجلة من يتسم بالأفعال المخلة ومتى يقترن الشبه بالإبريز او يوصف السكيت بالتبريز ومن ضعف النهى مجانسة الأقمار بالسها ومن اعظم التوبيخ تشييخ من لا يصلح للتشييخ وإن هذا المجموع ليروق ويعجب ولكنه جمع لمن لا يستوجب وإن القراءة قد تحصلت ولكن القواعد ما تأصلت وإن القارىء علم ولكن المقروء عليه عدم ولقد شكرت لهذا السري ما جلب وكتبت مسعفا له بما طلب وقرنت إلى دره هذا المخشلب قلت وحليي عطل ونطقي خطل مكره اخاك لا بطل والله سبحانه وتعالى ينفع بما اخلص له عند الاعتقاد ويسمح للبهرج عند الانتقاد كتبه العبد المذنب المستغفر محمد بن الحسن بن يوسف بن حبيش اللخمي حامدا لله تعالى

ومصليا على نبيه الكريم المصطفى وعلى آله أعلام الطهارة والهدى ومسلما تسليما
وكتب أيضا رحمه الله تعالى في جواب استجازه المسؤول مبذول إن شاء الله تعالى على التنجيز ولكن شروط الإجازة موجودة في المجاز معدومة في المجيز والله تعالى يصفح بكرمه ومنه ويشكر كل فاضل على تحصيل ظنه وهو المسؤول سبحانه أن يحفظ بعنايته مهجاتهم ويرفع بالعلم والعمل درجاتهم ويمتعهم بالكمال الرائق المعجب ويقر بالنجيبين عين المنجب وكتبه ابن حبيش انتهى
707 - وقال الوزير الكاتب أبو بكر ابن القبطرنة يستجدي بازيا من المنصور بن الأفطس صاحب بطليوس
( يا أيها الملك الذي آباؤه ... شم الأنوف من الطراز الأول )
( حليت بالنعم الجسام جسيمة ... عنقي فحل يدي كذاك بأجدل )
( وامنن به ضافي الجناح كانما ... حذيت قوائمه بريح شمأل )
( متلفتا والطل ينثر برده ... منه على مثل اليماني المحمل )
( أغدو به عجبا أصرف في يدي ... ريحا وآخذ مطلقا بمكبل )
708 - وأدخلت على المعتمد يوما باكورة نرجس فكتب إلى ابن عمار يستدعيه
( قد زارنا النرجس الذكي ... وآن من يومنا العشي )
( ونحن في مجلس أنيق ... وقد ظمئنا وفيه ري )
( ولي خليل غدا سميي ... ياليته ساعد السمي )
فأجابه ابن عمار
( لبيك لبيك من مناد ... له الندى الرحب والندي )

( ها انا بالباب عبد قن ... قبلته وجهك السني )
( شرفه والداه باسم ... شرفته أنت والنبي )
واصطبح المعتمد يوم غيم مع أم الربيع واحتجب عن الندماء فكتب إليه ابن عمار
( تجهم وجه الأفق واعتلت النفس ... لأن لم تلح للعين أنت ولا شمس )
( فإن كان هذا منكما من توافق ... وضمكما أنس فيهنيكما الأنس )
فأجابه المعتمد بقوله
( خليلي قولا هل علي ملامة ... إذا لم أغب إلا لتحضرني الشمس )
( وأهدي بأكواس المدام كواكبا ... إذا أبصرتها العين هشت لها النفس )
( سلام سلام أنتما الأنس كله ... وإن غبتما أم الربيع هي الأنس )
واستدعي جماعة من إخوان ابن عمار منه شرابا في موضع هو فيه مفقود فبعث لهم به وبرمانتين وتفاحتين وكتب لهم مع ذلك
( خذاها مثلما استدعيتماها ... عروسا لا تزف إلى اللئام )
( ودونكما بها ثديي فتاة ... أضفت إليهما خدي غلام )
709 - وشرب ذو الوزارتين القائد أبو عيسى ابن لبون مع الوزراء والكتاب ببطحاء لورقة عند أخيه وابن اليسع غائب فكتب إليه
( لو كنت تشهد ياهذا عشيتنا ... والمزن يسكن أحيانا وينحدر )
( والأرض مصفرة بالمزن طافية ... أبصرت درا عليه التبر ينتثر )
710 - وقال الحجاري من القصيدة المشهورة
( عليك أحالني الذكر الجميل )

في وصف زيه البدوي المستثقل ومافي طيه
( ومثلني بدن فيه خمر ... يخف به ومنظره ثقيل )
ولما انصرف عن ابن سعيد إلى ابن هود عذله ابن سعيد على تحوله عنه فقال النفس تواقة وما لي بغير التغرب طاقة ثم قال
( يقولون لي ماذا الملال تقيم في ... محل فعند الأنس تذهب راحلا )
( فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا ... على غصن أمسى بآخر نازلا )
711 - وقد رأيت أن اكفر ماتقدم ذكره من الهزل الذي أتينا به على سبيل الإحماض بما لابد منه من الحكم والمواعظ وما يناسبها فنقول
1 - قال أبو العباس ابن خليل
( فهموا إشارات الحبيب فهاموا ... وأقام أمرهم الرشاد فقاموا )
( وتوسموا بمدامع منهلة ... تحت الدياجي والأنام نيام )
( وتلوا من الذكر الحكيم جوامعا ... جمعت لها الألباب والأفهام )
( ياصاح لو أبصرت ليلهم وقد ... صفت القلوب وصفت الأقدام )
( لرأيت نور هداية قد حفهم ... فسرى السرور وأشرق الإظلام )
( فهم العبيد الخادمون مليكهم ... نعم العبيد وأفلح الخدام )
( سلموا من الآفات لما استسلموا ... فعليهم حتى الممات سلام )
2 - وقال العالم الكبير الشهير صاحب التآليف أبو محمد عبدالحق الإشبيلي رحمه الله تعالى
( قالوا صف الموت يا هذا وشدته ... فقلت وامتد مني عندها الصوت )

( يكفيكم منه ان الناس إن وصفوا ... أمرا يروعهم قالوا هو الموت )
3 - وقال الخطيب الأستاذ أبو عبدالله محمد بن صالح الكناني الشاطبي نزيل بجاية
( جعلت كتاب ربي لي بضاعه ... فكيف أخاف فقرا او إضاعه )
( وأعددت القناعه رأس مال ... وهل شيء أعز من القناعه )
4 - وقال القاضي الكبير الأستاذ الشهير أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل افريقية
( هو الموت فاحذر ان يجيئك بغتة ... وأنت على سوء من الفعل عاكف )
( وإياك ان تمضي من الدهر ساعة ... ولا لحظة إلا وقلبك واجف )
( وبادر بأعمال تسرك أن ترى ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف )
( ولا تيأسن من رحمة الله إنه ... لرب العباد بالعباد لطائف )
وقال رحمه الله تعالى
( اما آن للنفس ان تخشعا ... أما آن للقلب أن يقلعا )
( أليس الثمانون قد أقبلت ... فلم تبق في لذة مطمعا )
( تقضى الزمان ولا مطمع ... لما قد مضى منه ان يرجعا )
( تقضى الزمان فواحسرتي ... لما فات منه وما ضيعا )
( ويا ويلتاه لذي شيبة ... يطيع هوى النفس فيما دعا )
( وبعدا وسحقا له إذ غدا ... يسمع وعظا ولن يسمعا )

5 - وقال الأستاذ الزاهد أبو إسحاق الإلبيري الغرناطي رحمه الله تعالى
( كل امرىء فيما يدين يدان ... سبحان من لم يخل منه مكان )
( ياعامر الدنيا ليسكنها وما ... هي بالتي يبقى بها سكان )
( تفنى وتبقى الأرض بعدك مثلما ... يبقى المناخ وترحل الركبان )
( أأسر في الدنيا بكل زيادة ... وزيادتي فيها هي النقصان )
وقال أيضا رحمه الله تعالى
( وذي غنى أوهمته همته ... أن الغنى عنه غير منفصل )

( يجر أذيال عجبه بطرا ... واختال للكبرياء في الحلل )
( بزته أيدي الخطوب بزته ... فاعتاض بعد الجديد بالسمل )
( فلا تثق بالغنى فآفته الفقر ... وصرف الزمان ذو دول )
( كفى بنيل الكفاف عنه غنى ... فكن به فيه غير محتفل )
وقال رحمه الله تعالى
( لا شيء أخسر صفقة من عالم ... لعبت به الدنيا مع الجهال )
( فغدا يفرق دينه أيدي سبا ... ويديله حرصا لجمع المال )
( لا خير في كسب الحرام وقلما ... يرجى الخلاص لكاسب الحلال )
( فخذ الكفاف ولا تكن ذا فضلة ... فالفضل تسأل عنه أي سؤال )
وقال رحمه الله تعالى
( الشيب نبه ذا النهى فتنبها ... ونهى الجهول فما استفاق ولا انتهى )
( فإلى متى ألهو وأخدع بالمنى ... والشيخ أقبح ما يكون إذا لها )
( ما حسنه إلا التقى لا أن يرى ... صبا بألحاظ الجآذر والمها )
( أنى يقاتل وهو مفلول الشبا ... كابى الجواد إذا استقل تأوها )
( محق الزمان هلاله فكأنما ... أبقى له منه على قدر السها )
( فغدا حسيرا يشتهي أن يشتهى ... ولكم جرى طلق الجموح كما اشتهى )
( إن أن اواه وأجهش بالبكا ... لذنوبه ضحك الجهول وقهقها )
( ليست تنبهه العظات ومثله ... في سنة قد آن أن يتنهنها )
( فقد اللدات وزاد غيا بعدهم ... هلا تيقظ بعدهم وتنبها )
( يا ويحه ما باله لا ينتهي ... عن غيه والعمر منه قد انتهى )

6 - وقال الأستاذ ولي الله سيدي أبو العباس ابن العريف
( من لم يشافه عالما بأصوله ... فيقينه في المشكلات ظنون )
( من أنكر الأشياء دون تيقن ... وتثبت فمعاند مفتون )
( الكتب تذكرة لمن هو عالم ... وصوابها بمحالها معجون )
( والفكر غواص عليها مخرج ... والحق فيها لؤلؤ مكنون )
7 - وقال أبو القاسم ابن الأبرش
( أيأسوني لما تعاظم ذنبي ... اتراهم هم الغفور الرحيم )
( فذروني وما تعاظم منه ... إنما يغفر العظيم العظيم )
8 - وقال أبو العباس ابن صقر الغرناطي أو المري وأصله من سرقسطة
( أرض العدو بظاهر متصنع ... إن كنت مضطرا إلى استرضائه )
( كم من فتى ألقى بوجه باسم ... وجوانحي تنقد من بغضائه )
9 - وقال الكاتب الشهير الشهيد أبو عبدالله محمد بن الأبار القضاعي البلنسي رحمه الله تعالى من أبيات

( يا شقيق النفس أوصيك وإن ... شق في الإخلاص ما تنتهجه )
( لا تبت في كمد من كبد ... رب ضيق عاد رحبا مخرجه )
( وبلطف الله أصبح واثقا ... كل كرب فعليه فرجه )
ولابن الأبار المذكور ترجمة طويلة استوفيت منها ما امكنني في ازهار الرياض في أخبار عياض وما يناسبها مما يحصل به للنفس ارتياح وللعقل ارتياض
قال الغبريني في عنوان الدراية لو لم يكن له من الشعر إلا قصيدته السينية التى رفعها للأمير أبي زكريا رحمه الله تعالى يستنجده ويستصرخه لنصرة الأندلس لكان فيه كفاية وإن كان قد نقدها ناقد وطعن عليه فيها طاعن ولكن كما قال أبو العلاء المعري
( تكلم بالقول المضلل حاسد ... وكل كلام الحاسدين هراء )
ولو لم يكن له من التآليف إلا كتابة المسمى معادن اللجين في مراثي الحسين لكفاه في ارتفاع درجته وعلو منصبه وسمو رتبته
ثم قال توفي بتونس ضحوة يوم الثلاثاء الموفي عشرين لمحرم سنة 658 ومولده آخر شهر ربيع سنة 595 ببلنسية رحمه الله تعالى وسامحه انتهى
وقال ابن علوان إنه يتصل سنده به من طرق منها من طريق الراوية أبي عبدالله محمد بن جابر القيسي الوادي آشي عن الشيخ المقرىء المحدث المتبحر أبي عبدالله محمد بن حيان الأوسي الأندلسي نزيل تونس عنه ومن طريق والدي صاحب عنوان الدراية عن الخطيب أبي عبدالله ابن صالح عنه انتهى
قلت وسندي إليه عن العم عن التنسي عن أبيه عن ابن مرزوق عن جده

الخطيب عن ابن جابر الوادي آشي به كما مر
10 - وقال ابن عبد ربه
( بادر الى التوبة الخلصاء مجتهدا ... والموت ويحك لم يمدد إليك يدا )
( وارقب من الله وعدا ليس يخلفه ... لابد لله من إنجاز ما وعدا )
11 - وقال الصدر أبو العلاء ابن قاسم القيسي
( ياواقف الباب في رزق يؤمله ... لا تقنطن فإن الله فاتحه )
( إن قدر الله رزقا أنت طالبه ... لا تيأسن فإن الله مانحه )
12 - وقال الأعمى التطيلي
( تنافس الناس في الدنيا وقد علموا ... أن سوف تقتلهم لذاتها بددا )
( قل للمحدث عن لقمان أو لبد ... لم يترك الدهر لقمانا ولا لبدا )
( وللذي همه البنيان يرفعه ... إن الردى لم يغادر في الثرى أحدا )
( ما لابن آدم لا تفنى مطامعه ... يرجو غدا وعسى أن لا يعيش غدا )
وقال أبو العباس التطيلي
( والناس كالناس إلا أن تجربهم ... وللبصيرة حكم ليس للبصر )
( كالأيك مشتبهات في منابتها ... وإنما يقع التفضيل في الثمر )
13 - وقال القاضي أبو العباس ابن الغماز البلنسي

( من كان يعلم لا محالة انه ... لابد ان يودي وإن طال المدى )
( هلا استعد لمشهد يجزي به ... من قد أعد من اهتدى ومن اعتدى )
وقال أيضا
( هو الموت فاحذر أن يجيئك بغتة ... وأنت على سوء من الفعل عاكف )
( وإياك أن تمضي من الدهر ساعة ... ولا لحظة إلا وقلبك واجف )
( فبادر بأعمال يسرك أن ترى ... إذا طويت يوم الحساب الصحائف )
( ولا تيأسن من رحمة الله إنه ... لرب العباد بالعباد لطائف )
14 - ولما استوزر باديس صاحب غرناطة اليهودي الشهير بابن نغدلة وأعضل داؤه المسلمين قال زاهد إلبيرة وغرناطة أبو إسحاق الإلبيري قصيدته النونية المشهورة التى منها في إغراء صنهاجة باليهود
( ألا قل لصنهاجة أجمعين ... بدور الزمان وأسد العرين )
( مقالة ذي مقة مشفق ... صحيح النصيحة دنيا ودين )
( لقد زل سيدكم زلة ... أقر بها أعين الشامتين )
( تخير كاتبه كافرا ... ولو شاء كان من المؤمنين )
( فعز اليهود به وانتموا ... وسادوا وتاهوا على المسلمين )
وهي قصيدة طويلة فثارت إذ ذاك صنهاجة على اليهود وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وفيهم الوزير المذكور وعادة أهل الأندلس ان الوزير هو الكاتب فأراح الله البلاد والعباد ببركة هذا الشيخ الذي نور الحق على كلامه باد

15 - وقال أبو الطاهر الجياني المشهور بابن أبي ركب بفتح الراء وسكون الكاف
( يقول الناس في مثل ... تذكر غائبا تره )
( فما لي لا أرى وطني ... ولا أنسى تذكره )
وكان أبو الطاهر هذا في جمله من الطلبة فمر بهم رجل معه محبرة آبنوس تأنق في حليتها واحتفل في عملها فأراهم إياها وقال أريد أن أقصد بها بعض الأكابر وأريد أن تتمموا احتفالي بأن تصنعوا لي بينكم أبيات شعر أقدمها معها فأطرق الجماعة وقال أبو الطاهر
( وافتك من عدد العلا زنجية ... في حلة من حلية تتبختر )
( صفراء سوداء الحلي كأنها ... ليل تطرزه نجوم تزهر )
فلم يغب الرجل عنهم إلا يسيرا وإذا به قد عاد إليهم وفي يده قلم نحاس مذهب فقال لهم وهذا مما أعددته للدفع مع هذه المحبرة فتفضلوا بإكمال الصنيعة عندي بذكره فبدر أبو الطاهر وقال
( حملت بأصفر من نجار حليها ... تخفيه أحيانا وحينا يظهر )
( خرسان إلا حين يرضع ثديها ... فتراه ينطق ما يشاء ويذكر )
قال ابن الأبار في تحفة القادم وحضر يوما في جماعة من أصحابه وفيهم أبو عبدالله ابن زرقون في عقب شعبان في مكان فلما تملأوا من الطعام قال أبو الطاهر لابن زرقون أجز يا أبا عبدالله وأنشد
( حمدت لشعبان المبارك شبعة ... تسهل عندي الجوع في رمضان )

( كما حمد الصب المتيم زورة ... تحمل فيه الهجر طول زمان )
فقال
( دعوها بشعبانية ولو انهم ... دعوها بشبعانية لكفاني )
16 - وقال أبو عبدالله ابن خميس الجزائري
( تحفظ من لسانك ليس شيء ... أحق بطول سجن من لسان )
( وكن للصمت ملتزما إذا ما ... أردت سلامة في ذا الزمان )
وقال أيضا
( كن حلس بيتك مهما فتنة ظهرت ... تخلص بدينك وافعل دائما حسنا )
( وإن ظلمت فلا تحقد على احد ... إن الضغائن فاعلم تنشىء الفتنا )
وقال
( بدا لي أن خير الناس عيشا ... من آمنه الإله من الأنام )
( فليس لخائف عيش لذيذ ... ولو ملك العراق مع الشآم )
وله
( جانب جميع الناس تسلم منهم ... إن السلامة في مجانبة الورى )
( وإذا رأيت من امرىء يوما أذى ... لا تجزه أبدا بما منه ترى )
وله

( من أدب ابنا له صغيرا ... قرت به عينه كبيرا )
( وأرغم الأنف من عدو ... يحسد نعماءه كثيرا )
17 - وقال أبومحمد ابن هرون القرطبي
( بيد الإله مفاتح الرزق الذي ... أبوابه مفتوحة لم تغلق )
( عجبا لذي فقر يكلف مثله ... في الوقت شيئا عنده لم يخلق )
وقال أيضا
( لعمرك ما الإنسان يرزق نفسه ... ولكنما الرب الكريم يسخره )
( وما بيد المخلوق في الرزق حيلة ... تقدمه عن وقته او تؤخره )
18 - وقال الأديب الأستاذ أبو محمد ابن صارة رحمه الله تعالى
( يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر )
( إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ثوى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر )
( ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر )
( لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك الأعلى ... ولا النيران الشمس والقمر )
( ليرحلن عن الدنيا وإن كرها ... فراقها الثاويان البدو والحضر )
وقال رحمه الله تعالى في ابنة ماتت له
( ألا يا موت كنت بنا رؤوفا ... فجددت الحياة لنا بزوره )
( حماد لفعلك المشكور لما ... كفيت مؤونة وسترت عوره )
( فأنكحنا الضريح بلا صداق ... وجهزنا الفتاة بغير شوره )

19 - وانشد أبو عبدالله ابن الحاج البكري الغرناطي
( يا غاديا في غفلة ورائحا ... إلى متى تستحسن القبائحا )
( وكم إلى كم لا تخاف موقفا ... يستنطق الله به الجوارحا )
( ياعجبا منك وكنت مبصرا ... كيف تجنبت الطريق الواضحا )
( كيف تكون حين تقرا في غد ... صحيفة قد ملئت فضائحا )
( أم كيف ترضى ان تكون خاسرا ... يوم يفوز من يكون رابحا )
وممن روى عنه هذه الأبيات الكاتب الرئيس أبو الحسن ابن الجياب وتوفي ابن الحاج المذكور سنة 715 رحمه الله تعالى
20 - وقال حافظ الأندلس ومحدثها أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي رحمه الله تعالى
( إلهي مضت للعمر سبعون حجة ... ولي حركات بعدها وسكون )
( فيا ليت شعري أين أو كيف أو متى ... يكون الذي لا بد أن سيكون )
والصواب أنهما لغيره كما ذكرته في غير هذا الموضع وبالجملة فهما من كلام الأندلسيين وإن لم يحقق ناظمهما بالتعيين
21 - وقال أبو بكر يحيي التطيلي رحمه الله تعالى
( إليك بسطت الكف في فحمة الدجى ... نداء غريق في الذنوب عريق )
( رجاك ضميري كي تخلص جملتي ... وكم من فريق شافع لفريق )
22 - وحكي ان بعض المغاربة كتب إلى الملك الكامل بن العادل بن أيوب رقعة في ورقة بيضاء إن قرئت في ضوء السراج كانت فضية وإن قرئت في

الشمس كانت ذهبية وإن قرئت في الظل كانت حبرا أسود وفيها هذه الأبيات
( لئن صدني البحر عن موطني ... وعيني بأشواقها زاهره )
( فقد زخرف الله لي مكة ... بانوار كعبته الزاهره )
( وزخرف لي بالنبي يثربا ... وبالملك الكامل القاهره )
فقال الملك الكامل قل
( وطيب لي بالنبي طيبة ... وبالملك الكامل القاهره )
وأظن أن المغربي أندلسي لقوله لئن صدني البحر عن موطني فلذلك ادخلته في أخبار الأندلسيين ولست على تحقيق ويقين والله أعلم
23 - وأنشد ابن الوليد المعروف بابن الخليع قال أنشدنا أبو عمر ابن عبدالبر النمري الحافظ
( تذكرت من يبكي علي مداوما ... فلم ألف إلا العلم بالدين والخبر )
( علوم كتاب الله والسنن التي ... أتت عن رسول الله مع صحة الأثر )
( وعلم الألى من ناقديه وفهم ما ... له اختلفوا في العلم بالرأي والنظر )
وأنشد له أيضا
( مقالة ذي نصح وذات فوائد ... إذا من ذوي الألباب كان استماعها )
( عليكم بآثار النبي فإنه ... من آفضل أعمال الرشاد اتباعها )
24 - وقال أبو الحسن عبدالملك بن عياش الكاتب الأزدي اليابري وسكن أبوه قرطبة
( عصيت هوى نفسي صغيرا وعندما ... رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر )

( أطعت الهوى عكس القضية ليتني ... خلقت كبيرا وانتقلت الى الصغر )
وقيل إن ابنه أبا الحسن علي بن عبدالملك قال بيتا مفردا في معني ذلك وهو
( هنيئا له إذ لم يكن كابنه الذي ... أطاع الهوى في حالتيه وما اعتبر )
وقيل إن هذا البيت رابع أربعة أبيات
25 - وقال أبو `إسحاق ابن خفاجه لما اجتمع به أبو العرب وسأله عن حاله وقد بلغ في عمره إحدى وثمانين سنة فأنشده لنفسه
( أي عيش او غذاء او سنه ... لابن إحدى وثمانين سنه )
( قلص الشيب به ظل امرىء ... طالما جر صباه رسنه )
( تارة تسطو به سيئة ... تسخن العين وأخرى حسنه )
26 - وقال أبو محمد عبدالوهاب بن محمد القيسي المالقي
( الموت حصاد بلا منجل ... يسطو على القاطن والمنجلي )
( لا يقبل العذر على حالة ... ماكان من مشكل آو من جلي )
27 - وقال الشيخ عبدالحق الإشبيلي الأزدي صاحب كتاب العاقية

والإحكام وغيرهما
( إن في الموت والمعاد لشغلا ... وادكارا لذي النهى وبلاغا )
( فاغتنم خطتين قبل المنايا ... صحة الجسم يا أخي والفراغا )
28 - وقال أبو الفضل عبدالمنعم بن عمر بن عبدالله بن حسان الغساني من اهل جليانة من عمل وادي آش
( ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت ... فما أكثر الغرقى على الجنبات )
( وأكثر من صاحبت يغرق إلفه ... وقل فتى ينجى من الغمرات )
وكان المذكور من أهل العلم والأدب رحل وحج وتجول في البلاد ونزل القاهرة المعزية وكان أحد السياحين في الأرض وله تآليف منها جامع أنماط الوسائل في القريض والخطب والرسائل وأكثره من نظمه ونثره رحمه الله تعالى
29 - وقال عبدالعليم بن عبدالملك بن حبيب القضاعي الطرطوشي
( وما الناس إلا كالصحائف غيرت ... وألسنهم إلا كمثل التراجم )
( إذا اشتجر الخصمان في فطنة الفتى ... فمقوله في ذاك أعدل حاكم )
30 - وقال أبو الحكم عبدالمحسن البلنسي
( من كان للدهر خدنا في تصرفه ... أبدت له صفحة الدهر الأعاجيبا )
( من كان خلوا من الآداب سربله ... مر الليالي على الأيام تأديبا )
31 - وقال أبو حاتم عمر بن محمد بن فرج من أهل ميرتلة مدينة بغرب الأندلس يمدح شهاب القضاعي

( شهب السماء ضياؤها مستور ... عنا إذا أفلت توارى النور )
( فانزع هديت إلى شهاب نوره ... متألق آماله تبصير )
( تشفي جواهره القلوب من العمى ... ولطالما انشرحت بهن صدور )
( فإذا اتى فيه حديث محمد ... خذ في الصلاة عليه يا مغرور )
( وترحمن على القضاعي الذي ... وضع الشهاب فسعيه مشكور )
32 - وقال الأستاذ أبو محمد غانم بن وليد المخزومي المالقي
( ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقوت )
( فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه در وياقوت )
وتذكرت بهذا قول الآخر
( إذا القوت تأتى لك ... والصحة والأمن )
( وأصبحت أخا حزن ... فلا فارقك الحزن )
وكل ذلك أصله الحديث النبوي على صاحبه فإنه قال من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه معه قوت يومه فكأنما سيقت له الدنيا بحذافيرها
وأخبرنا شيخنا القصار ابو عبدالله محمد بن قاسم القيسي مفتى مدينة فاس وخطيبها سنةة عشر وألف قال حدثنا شيخنا ابو عبدالله محمد بن أبي الفضل التونسي نزيل فاس الشهير بخروف قال حدثنا الإمام سيدي فرج الشريف

الطحطاوي قال سمعت النبي في النوم يقول من أصبح آمنا في سربه 000 الحديث
رجع
33 - وقال الأستاذ العارف بالله سيدي أبو العباس أحمد بن العريف الأندلسي دفين مراكش وقد زرت قبره بها سنة 1010
( إذا نزلت بساحتك الرزايا ... فلا تجزع لها جزع الصبي )
( فإن لكل نازلة عزاء ... بما قد كان من فقد النبي )
وقال رحمه الله تعالى
( شدوا الرحال وقد نالوا المنى بمنى ... ولكلهم بأليم الشوق قد باحا )
( راحت ركائبهم تندى روائحها ... طيبا بما طاب ذاك الوفد أشباحا )
( نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... راح إذا سكروا من أجله فاحا )
( ياراحلين إلى المختار من مضر ... زرتم جسوما وزرنا نحن أرواحا )
( إنا أقمنا على شوق وعن قدر ... ومن أقام على عذر كمن راحا )
34 - وقال أبو محمد المحاربي
( داء الزمان واهله ... داء يعز له العلاج )
( أطلعت في ظلمائه ... رأيا كما سطع السراج )
( لمعاشر أعيا ثقا ... في من قناتهم اعوجاج )
( كالدر مالم تختبر ... فإذا اختبرت فهم زجاج )

35 - وقال أبو عبدالله غريب الثقفي القرطبي
( يهددني بمخلوق ضعيف ... يهاب من المنية ما اهاب )
( له أجل ولي أجل وكل ... سيبلغ حيث يبلغه الكتاب )
( ومايدري لعل الموت منه ... قريب أينا قبل المصاب )
وله
( أيها الآمل ماليس له ... طالما غر جهولا أمله )
( رب من بات يمني نفسه ... خانه دون مناه أجله )
( وفتى بكر في حاجاته ... عاجلا أعقب ريثا عجله )
( قل لمن مثل في أشعاره ... يذهب المرء ويبقى مثله )
( نافس المحسن في إحسانه ... فسيكفيك مسيئا عمله )
قال ابن الأبار وهذا البيت الأخير في برنامج الظبني
36 - وقال أبو الحسين سليمان بن الطراوة النحوي المالقي
( وقائلة أتصبو للغواني ... وقد أضحى بمفرقك النهار )
( فقلت لها حثثت على التصابي ... أحق الخيل بالركض المعار )
37 - وقال الحافظ أبو الربيع ابن سالم
( إذا برمت نفسي بحال أحلتها ... على أمل ناء فقرت به النفس )

( وأنزل أرجاء الرجاء ركائبي ... إذا رام إلماما بساحتي اليأس )
( وإن أوحشتني من اماني نبوة ... فلي في الرضى بالله والقدر الأنس )
38 - وقال أبو الحسن سلام بن عبدالله بن سلام الباهلي الإشبيلي مما أنشده لنفسه في كتابه الذي سماه ب الذخائر والأعلاق في أدب النفوس ومكارم الأخلاق
( إذا تم عقل المرء تمت فضائله ... وقامت على الإحسان منه دلائله )
( فلا تنكر الأبصار ماهو فاعله ... ولا تنكر الأسماع ماهو قائله )
وكان أبو المذكور من وزراء المعتمد بن عباد رحم الله تعالى الجميع
39 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي
( اترك الهم إذا ما طرقك ... وكل الأمر إلى من خلقك )
( وإذا أمل قوم أحدا ... فإلى ربك فامدد عنقك )
40 - وقال القاضي أبو الوليد هشام بن محمد القيسي الشلبي المعروف بابن الطلاء فاوضت القاضي أبا عبدالله ابن شبرين ما يحذر من فتنة النظر إلى الوجوه الحسان فقلت
( لا تنظرن إلى ذي رونق أبدا ... واحذر عقوبة ما يأتي به النظر )
( فكم صريع رأيناه صريع هوى ... من نظرة قادها يوما له القدر )
فأجابني في المعنى الذي انتحيته

( إذا نظرت فلا تولع بتقليب ... فربما نظرة عادت بتعذيب ) ورب هنا للتكثير
41 - وقال الأستاذ ابن حوط الله
( أتدري أنك الخطاء حقا ... وأنك بالذي تاتي رهين )
( وتغتاب الألى فعلوا وقالوا ... وذاك الظن والإفك المبين )
قال في الإحاطة أبو محمد عبدالله بن سليمان بن داود بن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثي كان فقيها جليلا أصوليا كاتبا أديبا شاعرا متفننا في العلوم ورعا دينا حافظا ثبتا فاضلا درس كتاب سيبويه ومستصفى أبي حامد الغزالي وكان رحمه الله تعالى مشهورا بالعقل والفضل معظما عند الملوك معلوم القدر لديهم يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية مقدما في ذلك بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار ولي قضاء إشبيلية وقرطبة ومرسية وسبتة وسلا وميورقة فتظاهر بالعدل وعرف بما أبطن من الدين والفضل وكان من العلماء العاملين مجانبا لأهل البدع والأهواء بارع الخط حسن التقييد وسمع الحديث فحصل له سماع لم يشاركه فيه أحد من أهل الغرب وسمع على الجهابذة كابن بشكوال وغيره وقرأ أكثر من ستين تأليفا بين كبار وصغار وكمل له على أبي محمد بن عبدالله بين قراءة وسماع نحو من ستة وثلاثين تأليفا منها الصحيحان وأكثر عن ابن حبيش وابن الفخار والسهيلي وغيرهم ومولده في محرم سنة 541 ومات بغرناطة سحر يوم الخميس ثاني ربيع الأول سنة 612 ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه يوم السبت تاسع عشر شعبان من السنة المذكورة إلى مالقة فدفن بها رحمه الله تعالى انتهى وبعضه بالمعنى مختصرا

وللمذكور ترجمة واسعة جدا وألمعت بما ذكر على وجه التبرك بذكره رحمه الله تعالى ورضي عنه
42 - وقال أبو المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي
( يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني كذا حكم المقادير )
( وإنما الناس أمثال الفراش فهم ... يرون حيث مصابيح الدنانير )
وقال تلميذه ابن الأبار أنشدني بعض أصحابنا عنه هذين البيتين ولم أسمعهما منه انتهى
قلت وبهذا تعرف وهم من نسب البيتين إلى عبدالمهيمن الحضرمي فإن هذا كان قبل أن يخلق والد عبدالمهيمن الحضرمي وقد أنشدهما أيضا ابن الجلاب الفهري في روح الشعر وروح الشحر
43 - وقال أبو محمد القاسم بن الفتح الحجاري المعروف بابن افريولة
( ركابي بأرجاء الرجاء مناخة ... ورائدها علمي بأنك لي رب )
( وأنك علام بما أنا قائل ... كما أنت علام بما أضمر القلب )
( لئن آدها ذنب تولت بعبئه ... لقد قرعت بابا به يغفر الذنب )
وقال أيضا
( عجبا لحبر قد تيقن انه ... سيرى اقتراف يديه في ميزانه )
( ثم امتطى ظهر المعاصي جهرة ... لم يثنه التأنيب عن عصيانه )
( أنى عصى ولكل جزء نعمة ... من نفسه وزمانه ومكانه )
44 - وقال الشاعر الكبير الشهير ابو بكر يحيي بن عبدالجليل بن مجبر الفهري

( إن الشدائد قد تغشى الكريم لأن ... تبين فضل سجاياه وتوضحه )
( كمبرد القين إذ يعلو الحديد به ... وليس يأكله إلا ليصلحه )
وقال
( لا تغبط المجدب في علمه ... وإن رأيت الخصب في حاله )
( إن الذي ضيع من نفسه ... فوق الذي ثمر من ماله )
45 - وقال أبو الحجاج يوسف بن أحمد الأنصاري المنصفي البلنسي
( قالت لي النفس اتاك الردى ... وأنت في بحر الخطايا مقيم )
( هلا اتخذت الزاد قلت اقصري ... هل يحمل الزاد لدار الكريم )
وكان المنصفي المذكور صالحا وله رحلة حج فيها ومال إلى علم التصوف رحمه الله تعالى وله فيه أشعار حملت عنه
46 - وقال أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد بن الصائغ القرشي الأموي الأندلسي مخمسا أبيات عزالدين بن جماعة قاضي القضاة رحمه الله تعالى
( هم الأبي على مقدار منصبه ... وبسط راحته في طي منصبه )
( ما انت والدهر تشكو من تقلبه ... يا مبتلى بقضاء قد بليت به )
( عليك بالصبر واحذر يا أخي جزعك )
( صبرا فللصبر في حرب العدا عدد ... ذر العدو يمته الغيظ والحسد )
( ولا يكن لك إلا الله معتمد ... واعلم بأن جميع الخلق لو قصدوا )
( أذاك لم يقدروا والله قد رفعك )

( أعلاك في رتب غر معظمة ... بالعرف معروفة بالعلم معلمة )
( ومن يناويك في بهماء مظلمة ... فاصرف هواك وجانب كل مظلمة )
( واصحب فديتك من بالنصح قد نفعك )
( قد اجتلبت من الأيام تبصرة )
( وقد كفاك الهدى والذكر تذكرة )
( فاشكر وقدم مع الإخلاص معذرة ... واسأل إلهك في الإسحار مغفرة )
( منه وكن معه حتى يكون معك )
وتوفي المذكور بالقاهرة في الطاعون العام سنة 749
47 - وقال أبو عبدالله الحميدي
( الناس نبت وأرباب القلوب لهم ... روض وأهل الحديث الماء والزهر )
( من كان قول رسول الله حاكمه ... فلا شهود له إلا الألى ذكروا )
وقال أيضا
( من لم يكن للعلم عند فنائه ... أرج فإن بقاءه كفنائه )
( بالعلم يحيا المرء طول حياته ... فإذا انقضى أحياه حسن ثنائه )
وقال أ يضا
( دين الفقيه حديث يستضيء به ... عند الحجاج وإلا كان في الظلم )
( إن تاه ذو مذهب في قفر مشكلة ... لاح الحديث له في الوقت كالعلم )
ولما تعرض بعض من لا يبالي بما ارتكب إلى أصحابه الحديث بقوله
( أرى الخيرفي الدنيا يقل كثيره ... وينقص نقصا والحديث يزيد )

( فلو كان خيرا كان الخير كله ... ولكن شيطان الحديث مريد )
( ولابن معين في الرجال مقالة ... سيسأل عنها والمليك شهيد )
( فإن يك حقا قوله فهي غيبة ... وإن يك زورا فالقصاص شديد )
اجابه الإمام أبو عبدالله الحميدي بقصيدة طويلة منها
( وإني ألي إبطال قولك قاصد ... ولي من شهادات النصوص جنود )
( إذا لم يكن خيرا كلام نبينا ... لديك فإن الخير منك بعيد )
( وأقبح شيء أن جعلت لما اتى ... عن الله شيطانا وذاك شديد )
( وما زلت في ذكر الزيادة معجبا ... بها تبدىء التلبيس ثم تعيد )
( كلام رسول الله وحي ومن يرم ... زيادة شيء فهو فيه عنيد )
ومنها في ابن معين
( وماهو إلا واحد من جماعة ... وكلهم فيما حكوه شهود )
( فإن صد عن حكم الشهادة جاهل ... فإن كتاب الله فيه عتيد )
( ولولا رواة الدين ضاع وأصبحت ... معالمه في الآخرين تبيد )
( هم حفظوا الآثار من كل شبهة ... وغيرهم عما اقتنوه رقود )
( وهم هاجروا في جمعها وتبادروا ... إلى كل أفق والمرام كؤود )
( وقاموا بتعديل الرواة وجرحهم ... فدام صحيح النقل وهو جديد )
( بتبليغهم صحت شرائع ديننا ... حدود تحروا حفظها وعهود )
( وصح لأهل النقل منها احتجاجهم ... فلم يبق إلا عاند وحقود )
( وحسبهم أن الصحابة بلغوا ... وعنهم رووا لا يستطاع جحود )
( فمن حاد عن هذا اليقين فمارق ... مريد لإظهار الشكوك مريد )

( ولكن إذا جاء الهدى ودليله ... فليس لموجود الضلال وجود )
( وإن رام أعداء الديانة كيدها ... فكيدهم بالمخزيات مكيد )
48 - وقال أبو بكر محمد بن محرز الزهري البلنسي والتزم الراء في كل كلمة
( اشكر لربك وانتظر ... في إثر عسر الأمر يسرا )
( واصبر لربك وادخر ... في ستر ضر الفقر أجرا )
( فالدهر يعثر بالورى ... والصبر بالأحرار أحرى )
( والوفر أظهر معشرا ... والفقر بالأخيار يغرى )
وقال أيضا
( اقنع بما أوتيته تنل الغنى ... وإذا دهتك ملمة فتصبر )
( واعلم بأن الرزق مقسوم فلو ... رمنا زيادة ذرة لم نقدر )
( والله أرحم بالعباد فلا تسل ... بشرا تعش عيش الكرام وتؤجر )
( وإذا سخطت لضر حالك مرة ... ورأيت نفسك قد عدت فاستبصر )
( وانظر إلى من كان دونك تدكر ... لعظيم نعمته عليك فتشكر )
49 - وقال الحافظ أبو محمد ابن حزم انشدني والدي أحمد بن سعيد ابن حزم
( إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها )
50 - وقال القاضي أبو العباس أحمد بن الغماز البلنسي نزيل تونس
( وقالوا اما تخشى ذنوبا أتيتها ... ولم تك ذا جهل فتعذر بالجهل )

( فقلت لهم هبني كما قد ذكرتم ... تجاوزت في قولي وأسرفت في فعلي )
( اما في رضى مولى الموالي وصفحه ... رجاء ومسلاة لمقترف مثلي )
وأنشد رحمه الله تعالى لنفسه في اليوم الذي مات فيه وهو آخر ما سمع منه ليلة عاشوراء سنة 693
( أدعوك يارب مضطرا على ثقة ... بما وعدت كما المضطر يدعوكا )
( دارك بعفوك عبدا لم يزل أبدا ... في كل حال من الأحوال يرجوكا )
( طالت حياتي ولما اتخذ عملا ... إلا محبة أقوام أحبوكا )
51 - وقال ابن الزقاق ويقال إنها مكتوبة على قبره
( أإخواننا والموت قد حال دوننا ... وللموت حكم نافذ في الخلائق )
( سبقتكم للموت والعمر طية ... وأعلم أن الكل لا بد لاحقي )
( بعيشكم أو باضطجاعي في الثرى ... ألم نك في صفو من العيش رائق )
( فمن مر بي فليمض لي مترحما ... ولا يك منسيا وفاء الأصادق )
52 - وقال الخطيب أبو عبدالله محمد بن صالح الكتاني الشاطبي ومولده سنة 614
( أرى العمر يفنى والرجاء طويل ... وليس إلى قرب الحبيب سبيل )
( حباه إله الخلق أحسن سيرة ... فما الصبر عن ذاك الجمال جميل )
( متى يشتفي قلبي بلثم ترابه ... ويسمح دهر بالمزار بخيل )
( دللت عليه في أوائل أسطري ... فذاك نبي مصطفى ورسول )

53 - وقال أيمن بن محمد الغرناطي نزيل طيبة على ساكنها
( أرى حجرات قد احاطت عراصها ... ببحر محيط حصره غير ممكن )
( بحار المعالي والمعاني وإن طمت ... لدى لجة تفنى وعن هوله تني )
( محمد المحمود في كل موطن ... أبو القاسم المختار من خير معدن )
( نبي إذا أبصرت غرة وجهه ... تيقنت أن العز عز المهيمن )
( لك الله من بدر إذا الشمس قابلت ... محياه قالت إن ذا طالع سني )
وله
( كل القلوب مطيعة له في الهوى ... جانب فديتك من تشاء ووال )
( الحسن وال والقلوب رعية ... وعلى الرعية أن تطيع الوالي )
وقال أيضا
( ألا أيها الباكي على ما يفوته ... من الحظ في الدنيا جهلت وماتدري )
( على فوت حظ من جوار محمد ... حقيق بأن تبكي إلى آخر العمر )
( ستدري إذا قمنا وقد رفع اللوا ... وأحمدها دينا إلى موقف الحشر )
( من الفائز المغبوط في يوم عرضه ... أجار النبي المصطفى أم اخو الوفر )
وله
( فررت من الدنيا إلى ساكن الحمى ... فرار محب لائذ بحبيب )
( لجأت إلى هذا الجناب وإنما ... لجأت إلى سامي العماد رحيب )
( وناديت مولاي الذي عنده الغنى ... نداء عليل في الزمان غريب )

( أمولاي إني قد أتيتك لائذا ... وأنت طبيبي يا أجل طبيبي )
( فقال لك البشرى ظفرت من الرضى ... بأوفر حظ مجزل ونصيب )
( تناومت في أطلال ليل شبيبتي ... فأدركني بالفجر صبح مشيبي )
54 - وقال أبو بكر الزبيدي اللغوي
( لو لم تكن نار ولا جنة ... للمرء إلا أنه يقبر )
( لكان فيه واعظ زاجر ... ناه لمن يسمع أو يبصر )
ولقد صدق رحمه الله تعالى ورضي عنه
55 - ولبعض فقهاء طلبيرة
( رأيت الانقباض أجل شيء ... وأدعى في الأمور إلى السلامه )
( فهذا الخلق سالمهم ودعهم ... فرؤيتهم تؤول إلى الندامه )
( ولا تعنى بشيء غير شيء ... يقود إلى خلاصك في القيامه )
56 - وأمر الكاتب أبو بكر ابن مغاور بكتب هذه الأبيات على قبره وهي له
( أيها الواقف اعتبارا بقبري ... استمع فيه قول عظمي الرميم )
( أودعوني بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديمي )
( قلت لا تجزعوا علي فإني ... حسن الظن بالرؤوف الرحيم )
( ودعوني بما اكتسبت رهينا ... غلق الرهن عند مولى كريم )
57 - وقال الخطيب ابن صفوان

( رأيتك يدنيني إليك تباعدي ... فأبعدت نفسي لابتغائي في القرب )
( هربت له مني إليه فلم يكن ... بي البعد في قربي فصح به قربي )
( فيا رب هل نعمى على العبد بالرضى ... ينال بها فوزا من القرب بالقرب )
وقال الوادي آشي
وهذا النظم معناه جليل وتكرار القرب وإن قبح عند العروضي فهو عند المحب جميل وهم القوم يسلم لهم في الأفعال والأقوال وترتجى بركتهم في كل الأحوال انتهى
58 - وقال بعض قدماء الأندلس
( سئمت الحياة على حبها ... وحق لذي السقم أن يسأما )
( فلا عيش إلا لذي صحة ... تكون له للتقى سلما )
وذيله آخر منهم فقال
( ولا داء إلا لمن لم يزل ... يقارب في دينه مأثما )
( فلست تعالج جرح الهوى ... هديت بمثل التقى مرهما )
59 - وقال أبو جعفر أحمد السياسي القيسي المري
( إذا ما جنى يوما عليك جناية ... ظلوم يدق السمر بأسا ويقصف )
( فلا تنتقم يوما عليه بما جنى ... وكل امره للدهر فالدهر منصف )
وقال أيضا
( ليس حلم الضعيف حلما ولكن ... حلم من لو يشاء صال اقتدارا )

( من تغاضى عن السفيه بحلم ... أصبح الناس دونه أنصارا )
( من يزوج كريمة الهمة العليا ... علوا فقد أجاد الخيارا )
( ستريه عند الولاد بينها العلم ... والحلم والأناة كبارا )
60 - وقال الخطيب الصالح أبو إسحاق ابن أبي العاصي
( اعمل بعلمك تؤت علما إنما ... جدوى علوم المرء نهج الأقوم )
( وإذا الفتى قد نال علما ثم لم ... يعمل به فكأنه لم يعلم )
وقال موطئا على البيت الأخير
( أمولاي أنت العفو الكريم ... لبذل النوال وللمعذره )
( على ذنوب وتصحيفها ... ومن عندك الجود والمغفره )
61 - وقال الخطيب المتصوف الشهير أبو جعفر أحمد بن الزيات من بلش مالقة
( يقال خصال أهل العلم ألف ... ومن جمع الخصال الألف سادا )
( ويجمعها الصلاح فمن تعدى ... مذاهبه فقد جمع الفسادا )
وقال أيضا
( إن شئت فوزا بمطلوب الكرام غدا ... فاسلك من العمل المرضي منهاجا )
( واغلب هوى النفس لا يغررك خادعه ... فكل شيء يحط القدر منها جا )
62 - وقال الأديب الكبير الشهير أبو محمد عبدالله بن محمد بن صارة البكري الشنتريني رحمه الله تعالى

( بنو الدنيا بجهل عظموها ... فجلت عندهم وهي الحقيره )
( يهارش بعضهم بعضا عليها ... مهارشة الكلاب على العقيره )
وقال
( أي عذر يكون لا أي عذر ... لابن سبعين مولع بالصبابه )
( وهو ماء لم تبق منه الليالي ... في إناء الحياة إلا صبابه )
وقال أيضا
( ولقد طلبت رضى البرية جاهدا ... فإذا رضاهم غاية لا تدرك )
( وأرى القناعة للفتى كنزا له ... والبر أفضل مابه يتمسك )
63 - وقال أبو محمد ابن صاحب الصلاة الداني ويعرف بعبدون
( وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى ... بدهر غدا ذو النقص فيه مؤملا )
( ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... بها الحر يشقى واللئيم ممولا )
( متى ينعم المعتر عينا إذا اعتفى ... جوادا مقلا أو غنيا مبخلا )
64 - وقال أبو الحكم عبيدالله الأموي مولاهم الأندلسي
( إذا كان إصلاحي لجسمي واجبا ... فإصلاح نفسي لا محالة أوجب )
( وإن كان ما يفنى إلى النفس معجبا ... فإن الذي يبقى إلى العقل أعجب )
65 - وقال الفقيه الزاهد أبو إسحاق ابراهيم بن مسعود الإلبيري رحمه الله تعالى
( لله أكياس جفوا أوطانهم ... فالأرض أجمعها لهم أوطان )

( جالت عقولهم مجال تفكر ... وجلالة فبدا لها الكتمان )
( ركبت بحار الفهم في فلك النهى ... وجرى بها الإخلاص والإيمان )
( فرست بهم لما انتهوا بجفونهم ... مرسى لهم فيه غنى وأمان )
66 - وقال أبو جعفر ابن خاتمة رحمه الله تعالى
( يامن يغيث الورى من بعد ما قنطوا ... ارحم عبادا أكف الفقر قد بسطوا )
( عودتهم بسط أرزاق بلا سبب ... سوى جميل رجاء نحوه انبسطوا )
( وعدت بالفضل في ورد وفي صدر ... بالجود إن أقسطوا والحلم إن قسطوا )
( عوارف ارتبطت شم الأنوف لها ... وكل صعب بقيد الجود يرتبط )
( يامن تعرف بالمعروف فاعترفت ... بجم إنعامه الأطراف والوسط )
( وعالما بخفيات الأمور فلا ... وهم يجوز عليه لا ولا غلط )
( عبد فقير بباب الجود منكسر ... من شأنه ان يوافي حين ينضغط )
( مهما أتى ليمد الكف أخجله ... قبائح وخطايا أمرها فرط )
( يا واسعا ضاق خطو الخلق عن نعم ... منه إذا خطبوا في شكرها خبطوا )
( وناشرا بيد الإجمال رحمته ... فليس يلحق منه مسرفا قنط )
( ارحم عبادا بضنك العيش قد قنعوا ... فأينما سقطوا بين الورى لقطوا )
( إذا توزعت الدنيا فما لهم ... غير الدجنة لحف والثرى بسط )
( لكنهم من ذرا علياك في نمط ... سام رفيع الذرى ما فوقه نمط )
( ومن يكن بالذي يهواه مجتمعا ... فما يبالي أقام الحي أم شحطوا )

( نحن العبيد وأنت الملك ليس سوى ... وكل شيء يرجى بعد ذا شطط )
وقال رحمه الله تعالى
( ملاك الأمر تقوى الله فاجعل ... تقاه عدة لصلاح أمرك )
( وبادر نحو طاعته بعزم ... فما تدري متى يمضي بعمرك )
وقال أيضا
( إذا كنت تعلم أن الأمور ... بحكم الاله كما قد قضى )
( فغيم التفكر والحكم ماض ... ولا رد للحكم مهما مضى )
( فخل الوجود كما شاءه ... مدبره وابغ منه الرضى )
وقال
( إذا ما الدهر نابك منه خطب ... وشد عليك من حنق عقاله )
( فكل لله أمرك لا تفكر ... ففكرك فيه خبط في حباله )
وقال
( عدوك داره ما اسطعت حتى ... يعود لديك كالخل الشفيق )
( فما في الأرض أردى من عدو ... ومافي الأرض أجدى من صديق )
وقال
( إن أعرضت دنياك عنك بوجهها ... وغدت ومنها في رضاك نزاع )
( فاحذر بنيها واحتفظ من شرهم ... إن البنين لأمهم أتباع )

وقال
( يا مجيب المضطر عند الدعاء ... منك دائي وفي يديك دوائي )
( جذبتني الدنيا إليها بضبعي ... ودعتني لمحنتي وشقائي )
( يا إلهي وأنت تعلم حالي ... لا تذرني شماتة الأعداء )
67 - وقال الحافظ الكبير الشهير أبو عبدالله الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين رحمه الله تعالى
( كتاب الله عز و جل قولي ... وما صحت به الآثار ديني )
( وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حق مبين )
( فدع ماصد عن هذي وخذها ... تكن منها على عين اليقين )
وقال
( طريق الزهد أفضل ما طريق ... وتقوى الله بادية الحقوق )
( فثق بالله يكفك واستعنه ... يعنك وذر بنيات الطريق )
68 - وقال أبو بكر مالك بن جبير رحمه الله تعالى
( رحلت وإنني من غير زاد ... وما قدمت شيئا للمعاد )
( ولكني وثقت بجود ربي ... وهل يشقى المقل مع الجواد )
وتوفي المذكور بأريولة أعادها الله تعالى إلى الإسلام سنة 561
69 - وقال ابن جبير اليحصبي وهو الكاتب أبو عبدالله محمد
( كلما رمت أن أقدم خيرا ... لمعادي ورمت أني أتوب )

( صرفتني بواعث النفس قسرا ... فتقاعست والذنوب ذنوب )
( رب قلب قلبي لعزمة خير ... لمتاب ففي يديك القلوب )
ولتعلم أن كلام أهل الأندلس بحر لا ساحل له ويرحم الله تعالى لسان الدين بن الخطيب حيث قال في صدر الإحاطة وهذا الغرض الذي وضعنا له هذا التأليف يطلبنا فيه ما قصدنا به من المباهاة والافتخار بالإكثار واستيعاب النظام والنثار ويحملنا فيه خوف السآمة على الاختصار والاقتصاد وكفى بهذا جلاء في الأعذار والله تعالى مقيل العثار وساتر العيب المثار بفضله انتهى
70 - ولنختم هذا الباب بقول أبي زكريا يحيى بن سعد بن مسعود القلني
( عفوك اللهم عنا ... خير شيء نتمنى )
( رب إنا قد جهلنا ... في الذي قد كان منا )
( وخطينا وخلطنا ... ولهونا ومجنا )
( إن نكن رب أسأنا ... ما أسأنا بك ظنا )
وذيلته بقولي
( فأنلنا الختم بالحسنى ... وإنعاما ومنا آمين )

الباب الثامن
في ذكر تغلب العدو الكافر على الجزيرة بعد صرفه وجوه
الكيد إليها وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره واستعماله في أمرها حيل فكره حتى استولى دمره الله تعالى عليها ومحا منها التوحيد واسمه وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه وقرر مذهب التثليث والرأي الخبيث لديها واستغاث أهلها استغاثة أضرابها بالنظم والنثر أهل ذلك العصر من سائر الأقطار حين تعذرت بحصارها مع قلة حماتها وأنصارها المآرب والأوطار وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها اعاد الله تعالى إليها كلمة الإسلام وأقام فيها شريعة سيد الأنام عليه أفضل ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها آمين
ظهور بلاي وخلفائه
قال غير واحد من المؤرخين أول من جمع فل النصارى بالأندلس بعد غلبة العرب لهم علج يقال له بلاي من أهل أشتوريش من جليقية كان رهينة عن طاعة أهل بلده فهرب من قرطبة أيام الحر بن عبدالرحمن الثقفي الثاني من أمراء العرب بالأندلس وذلك في السنة السادسة من افتتاحها وهي سنة ثمان وتسعين من الهجرة وثار النصارى معه على نائب الحر بن عبدالرحمن فطردوه وملكوا البلاد وبقي الملك فيهم إلى الآن وكان عدة من ملك منهم إلى آخر أيام الناصر لدين الله اثنين وعشرين ملكا انتهى
وقال عيسى بن أحمد الرازي في أيام عنبسة بن سحيم الكلبي قام بأرض

جليقية علج خبيث يقال له بلاي من وقعة أخذ النصارى بالأندلس وجد الفرنج في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم وقد كانوا لا يطمعون في ذلك ولقد استولى المسلمون بالأندلس على النصرانية وأجلوهم وافتتحوا بلادهم حتى بلغوا أريولة من أرض الفرنجة وافتتحوا بلبونة من جليقية ولم يبق إلا الصخرة فإنه لاذ بها ملك يقال له بلاي فدخلها في ثلاثمائة رجل ولم يزل المسلمون يقاتلونه حتى مات أصحابه جوعا وبقي في ثلاثين رجلا وعشر نسوة ولا طعام لهم إلا العسل يشتارونه من خروق بالصخرة فيتقوتون به حتى أعيا المسلمين أمرهم واحتقروا بهم وقالوا ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك من القوة والكثرة ما لاخفاء به وفي سنة 133 هلك بلاي المذكور وملك ابنه فافله بعده وكان ملك بلاي تسع عشرة سنة وابنه سنتين فملك بعدهما أذفونش بن بيطر جد بني أذفونش هؤلاء الذين اتصل ملكهم إلى اليوم فأخذوا ما كان المسلمون أخذوه من بلادهم انتهى باختصار
وقال المسعودي بعد ذكره غزوة سمورة أيام الناصر ماصورته وأخذ ماكان بأيدي المسلمين من ثغور الأندلس مما يلى الفرنجة ومدينة أربونة خرجت عن أيدي المسلمين سنة 330 مع غيرها مما كان بأيديهم من المدن والحصون وبقي ثغر المسلمين في هذا الوقت وهو سنة 336 من شرق الأندلس طرطوشة وعلى سائر بحر الروم مما يلى طرطوشة آخذا في الشمال إفراغه على نهر عظيم ثم لاردة انتهى

الاستيلاء على طليطلة
ومن اول ما استرد الإفرنج من مدن الأندلس العظيمة مدينة طليطلة من يد ابن ذي النون سنة 475 وفي ذلك يقول عبدالله بن فرج اليحصبي المشهور بابن العسال
( يا أهل أندلس حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلط )
( الثوب ينسل من أطرافه وأرى ... ثوب الجزيرة منسولا من الوسط )
( ونحن بين عدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيات في سفط )
ويروى صدر البيت الثالث هكذا
( من جاور الشر لا يأمن بوائقه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط )
وتروى الأبيات هكذا
( حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط )
( السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثورا من الوسط )
( من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط )
وقال آخر
( يا أهل أندلس ردوا المعار فما ... في العرف عارية إلا مردات )
( ألم تروا بيدق الكفار فرزنه ... وشاهنا آخر الأبيات شهمات )
وقال بعض المؤرخين أخذ الأذفونش طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة 478 انتهى وفيه بعض مخالفة لما قبله في وقت أخذها وسيأتى قريبا بعض ما يؤيده

قال وهي مدينة حصينة قديمة ازلية من بناء العمالقة على ضفة النهر الكبير ولها قصبة حصينة في غاية المنعة ولها قنطرة واحدة عجيبة البنيان على قوس واحد والماء يدخل تحته بعنف وشدة جري ومع آخر النهر ناعورة ارتفاعها في الجو تسعون ذراعا وهي تصعد الماء إلى أعلى القنطرة ويجرى الماء على ظهرها فيدخل المدينة وطليطلة هذه دار مملكة الروم وبها كان البيت المغلق الذي كانوا يتحامون فتحه حتى فتحه لذريق فوجد فيه صورة العرب انتهى
وقد تقدم شيء من هذا فيما مر من هذا الكتاب
وقد حكى ابن بدرون في شرح العبدونية أن المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة بنى بها قصرا تأنق في بنائه وأنفق فيه مالا كثيرا وصنع فيه بحيرة وبنى في وسطها قبة وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون فكان الماء ينزل من أعلى القبة حواليها محيطا بها متصلا بعضه ببعض فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر والمأمون بن ذي النون قاعد فيها لا يمسه من الماء شيء ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل فبينما هو فيها إذ سمع منشدا ينشد
( أتبني بناء الخالدين وإنما ... بقاؤك فيها لو علمت قليل )
( لقد كان في ظل الأراك كفاية ... لمن كل يوم يعتريه رحيل )
فلم يلبث إلا يسيرا حتى قضى نحبه انتهى
وقال ابن خلكان إن طليطلة أخذت يوم الثلاثاء مستهل صفر سنة 478 بعد حصار شديد انتهى

وقال ابن علقمة إن طليطلة اخذت يوم الأربعاء لعشر خلون من المحرم سنة 478 وكانت وقعة الزلاقة فى السنة بعدها انتهى

وقعة الزلاقة نقلا عن الروض المعطار وغيره
ورأيت أن أذكر هنا وقعة الزلاقة التى نشأت عن أخذ طليطلة وما يتبع ذلك من كلام صاحب الروض المعطار وغيره فنقول إنه لما ملك يوسف ابن تاشفين اللمتوني المغرب وبني مدينتي مراكش وتلمسان الجديدة وأطاعته البربر مع شكيمتها الشديدة وتمهدت له الأقطار الطويلة المديدة تاقت نفسه إلى العبور لجزيرة الأندلس فهم بذلك وأخذ في إنشاء المراكب والسفن ليعبر فيها فلما علم بذلك ملوك الأندلس كرهوا إلمامه بجزيرتهم وأعدوا له العدة والعدد وصعبت عليهم مدافعته وكرهوا أن يكونوا بين عدوين الفرنج من شمالهم والمسلمين من جنوبهم وكانت الفرنج تشتد وطأتها عليهم وتغير تنهب وربما يقع بينهم صلح على شيء معلوم كل سنة يأخذونه من المسلمين والفرنج ترهب ملك المغرب يوسف بن تاشفين إذ كان له اسم كبير وصيت عظيم لنفاذ أمره وسرعة تملكه بلاد المغرب وانتقال الأمر إليه في أسرع وقت مع ما ظهر لأبطال الملثمين ومشايخ صنهاجة في المعارك من ضربات السيوف التى تقد الفارس والطعنات التى تنظم الكلى فكان له بسبب ذلك ناموس ورعب في قلوب المنتدبين لقتاله وكان ملوك الأندلس يفيئون إلى ظله ويحذرونه خوفا على ملكهم مهما عبر إليهم وعاين بلادهم فلما رأوا ما دلهم على عبوره إليهم وعلموا ذلك راسل بعضهم بعضا يستنجدون آراءهم في أمره وكان مفزعهم في ذلك إلى المعتمد بن عباد لأنه أشجع القوم وأكبرهم مملكة فوقع اتفاقهم

على مكاتبته لما تحققوا انه يقصدهم يسألونه الإعراض عنهم وانهم تحت طاعته فكتب عنهم كاتب من أهل الأندلس كتابا وهو أما بعد فإنك إن أعرضت عنا نسبت إلى كرم ولم تنسب إلى عجز وإن أجبنا داعيك نسبنا إلى عقل ولم ننسب إلى وهن وقد اخترنا لأنفسنا أجمل نسبتينا فاختر لنفسك أكرم نسبتيك فإنك بالمحل الذى لا يجب أن تسبق فيه الى مكرمة وإن في استبقائك ذوي البيوت ما شئت من دوام لأمرك وثبوت والسلام فلما وصله الكتاب مع تحف وهدايا وكان يوسف بن تاشفين لا يعرف باللسان العربي لكنه ذكي الطبع يجيد فهم المقاصد وكان له كاتب يعرف اللغتين العربية والمرابطية فقال له أيها الملك هذا الكتاب من ملوك الأندلس يعظمونك فيه ويعرفونك أنهم أهل دعوتك وتحت طاعتك ويلتمسون منك أن لا تجعلهم في منزلة الأعادي فانهم مسلمون وذوو بيوتات فلا تغير بهم وكفى بهم من وراءهم من الأعداء الكفار وبلدهم ضيق لا يحتمل العساكر فأعرض عنهم إعراضك عمن أطاعك من أهل الغرب فقال يوسف بن تاشفين لكاتبه فما ترى أنت فقال أيها الملك أعلم أن تاج الملك وبهجته شاهده الذي لا يرد فإنه خليق بما حصل في يده من الملك والمال أن يعفو إذا استعفي وأن يهب إذا استوهب وكلما وهب جليلا جزيلا كان لقدره أعظم فإذا عظم قدره تأصل ملكه وإذا تأصل ملكه تشرف الناس بطاعته وإذا كانت طاعته شرفا جاءه الناس ولم يتجشم المشقة إليهم وكان وارث الملك من غير إهلاك لآخرته واعلم أن بعض الملوك الحكماء الأكابر البصراء بطريق تحصيل الملك قال من جاد ساد ومن ساد قاد ومن قاد ملك البلاد فلما ألقى الكاتب هذا الكلام على السلطان يوسف بلغته فهمه وعلم صحته فقال للكاتب أجب القوم واكتب بما يجب في ذلك واقرأ علي كتابك فكتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم من يوسف بن تاشفين سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته تحية من سالمكم وسلم عليكم وإنكم مما في أيديكم من الملك في أوسع إباحة مخصوصين منا بأكرم إيثار

وسماحة فاستديموا وفاءنا بوفائكم واستصلحوا إخاءنا بإصلاح إخائكم والله ولي التوفيق لنا ولكم والسلام فلما فرغ من كتابه قرأه على يوسف بن تاشفين بلسانه فاستحسنه وقرن به ما يصلح لهم من التحف ودرق اللمط التى لا توجد إلا ببلاده وأنفذ ذلك إليهم فلما وصلهم ذلك وقرأوا كتابه فرحوا به وعظموه وسروا بولايته وتقوت نفوسهم على دفع الفرنج عنهم وازمعوا إن راوا من الفرنج ما يريبهم أنهم يرسلون إلى يوسف بن تاشفين ليعبر إليهم أو يمدهم بإعانة منه
وكان ملك الإفرنج الأذفونش لما وقعت الفتنة بالأندلس وثار الخلاف وكان كل من حاز بلدا وتقوى فيه ملكه وادعى الملك وصار مثل ملوك الطوائف فطمع فيهم الأذفونش بسبب ذلك وأخذ كثيرا من ثغورهم فقوي شأنه وعظم سلطانه وكثرت عساكره وأخذ طليطلة من صاحبها القادر بالله بن المأمون يحيى بن ذي النون بعد أن حاصرها سبع سنين وكان أخذه لها في منتصف محرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فزاد لعنه الله تعالى بملكه طليطلة قوة إلى قوته وأخذ يجوس خلال الديار ويستفتح المعاقل والحصون
قال ابن الأثير في الكامل وكان المعتمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس ومتملك أكثر بلادها مثل قرطبة وإشبيلية وكان مع ذلك يؤدي الضريبة إلى الأذفونش كل سنة فلما تملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة المعتادة فلم يقبلها منه وأرسل إليه يهدده ويتوعده بالمسير إلى قرطبة ليفتحها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون المنيعة ويبقى السهل للمسلمين وكان الرسول في جمع كثير نحو خمسمائة فارس فأنزله المعتمد وفرق أصحابه على قواد

عسكره ثم أمر قواده أن يقتل كل منهم من عنده من الكفرة وأحضر الرسول وصفعه حتى خرجت عيناه وسلم من الجماعة ثلاثة نفر فعادوا إلى الأذفونش وأخبروه الخبر وكان متوجها إلى قرطبة ليحاصرها فرجع إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار ويكثر العدد والعدة انتهى
وقال الفقيه أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن عبدالمنعم الحميري في كتابه الروض المعطار في ذكر المدن والأقطار ما ملخصه إنه لما اشتغل المعتمد بغزو ابن صمادح صاحب المرية حتى تأخر الوقت الذي كان يدفع فيه الضريبة للأذفونش وأرسلها إليه بعد ذلك استشاط الطاغية غضبا وتشطط وطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة وامعن في التجني وسأل في دخول امرأته القمجيطة إلى جامع قرطبة لتلد فيه إذ كانت حاملا لما أشار عليه بذلك القسيسون والأساقفة لمكان كنيسة كانت في الجانب الغربي منه معظمة عندهم عمل عليها المسلمون الجامع الأعظم وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بالمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة وهي التى أنشأ بناءها الناصر لدين الله وأمعن في بنائها وأغرب في حسنها وجلب إليها الرخام الملون والمرمر الصافي والحوض المشهور من البلاد والأقطار وكان يثيب على السارية بكذا وكذا غير الثمن وأجرة الحمل وأنفق فيها الأموال العظيمة واشتغل بها وكان يباشر الصناع بنفسه حتى تخلف عن حضور الجمعة ثلاث مرات متواليات وحضر في الرابعة وكان الخطيب يومئذ الفقيه الزاهد منذر بن سعيد البلوطي فعرض به في الخطبة ووبخه على رؤوس الملأ وقصته في ذلك مشهورة وبناء الزهراء أيضا من أغرب مباني الإسلام فمن أراد الوقوف على ذلك فعليه بتاريخ ابن حيان

ولنرجع إلى الأذفونش فإن الأطباء والقسوس لما أشاروا أن تكون المرأة المذكورة ساكنة بالزهراء وتتردد إلى الجامع المذكور حتى تكون ولادتها بين طيب نسيم الزهراء وفضيلة موضع الكنيسة من الجامع المذكور وكان السفير في ذلك يهوديا كان وزير الأذفونش فامتنع ابن عباد من ذلك فراجعه فأباه وأيأسه من ذلك فراجعه اليهودي في ذلك وأغلظ له في القول وواجهه بما لم يحتمله ابن عباد فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه وضرب بها رأس اليهودي فأنزل دماغه في حلقه وامر به فصلب منكوسا بقرطبة واستفتى لما سكن غضبه الفقهاء عن حكم ما فعله اليهودي فبادره الفقيه محمد بن الطلاع بالرخصة في ذلك لتعدي الرسول حدود الرسالة إلى ما استوجب به القتل إذ ليس له ذلك وقال للفقهاء إنما بادرت بالفتوى خوفا أن يكسل الرجل عما عزم عليه من منابذة العدو وعسى الله أن يجعل في عزيمته للمسلمين فرجا
وبلغ الأذفونش ما صنعه ابن عباد فأقسم بآلهته ليغزونه بإشبيلية ويحاصره في قصره فجرد جيشين جعل احدهما كلبا من مساعير كلابه وأمره أن يسير على كورة باجة من غرب الأندلس ويغير على تلك التخوم والجهات ثم يمر على لبلة إلى إشبيلية وجعل موعده إياه طريانة للاجتماع معه ثم زحف الأذفونش بنفسه في جيش آخر عرمرم فسلك طريقا غير الطريق التى سلكها الآخر وكلاهما عاث في البلاد وخرب ودمر حتى اجتمعا لموعدهما بضفة النهر الأعظم قبالة قصر ابن عباد وفي أيام مقامه هنالك كتب الى ابن عباد زاريا عليه كثر بطول مقامي في مجلسي الذبان واشتد علي الحر فأتحفني من قصرك بمروحة أروح بها على نفسي وأطرد بها الذباب عن وجهي فوقع له ابن عباد بخط يده في ظهر الرقعة قرأت كتابك وفهمت خيلاءك وإعجابك وسأنظر لك في مراوح من الجلود اللمطية تروح منك لا تروح عليك إن شاء الله

تعالى فلما وصلت الأذفونش رسالة ابن عباد وقرئت عليه وعلم مقتضاها أطرق إطراق من لم يخطر له ذلك ببال
وفشا في الأندلس توقيع ابن عباد وما أظهر من العزيمة على جواز يوسف بن تاشفين والاستظهار به على العدو فاستبشر الناس وفرحوا بذلك وفتحت لهم أبواب الآمال واما ملوك طوائف الأندلس فلما تحققوا عزم ابن عباد وانفراده برأيه في ذلك اهتموا منه ومنهم من كاتبه ومنهم من كلمه مواجهة وحذروه عاقبة ذلك وقالوا له الملك عقيم والسيفان لا يجتمعان في غمد واحد فاجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلا رعي الجمال خير من رعي الخنازير ومعناه أن كونه مأكولا ليوسف بن تاشفين أسيرا يرعى جماله في الصحراء خير من كونه ممزقا للأذفونش أسيرا له يرعى خنازيره في قشتالة وقال لعذاله ولوامه ياقوم إني من أمري على حالتين حالة يقين وحالة شك ولابد لي من إحداهما أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش ففي الممكن أن يفي لي ويبقي على وفائه ويمكن أن لا يفعل فهذه حالة شك واما حالة اليقين فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فانا أرضي الله وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه فحينئذ قصر أصحابه عن لومه
ولما عزم أمر صاحب بطليوس المتوكل عمر بن محمد وعبدالله بن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة أن يبعث إليه كل منهما قاضي حضرته ففعلا واستحضر قاضي الجماعة بقرطبة أبا بكر عبيدالله بن أدهم وكان أعقل أهل زمانه فلما اجتمع عنده القضاة بإشبيلية أضاف إليهم وزيره أبا بكر ابن زيدون وعرفهم أربعتهم أنهم رسله إلى يوسف بن تاشفين وأسند إلى القضاة ما يليق بهم من وعظ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد وأسند إلى وزيره ما لا بد منه في تلك السفارة من إبرام العقود السلطانية وكان يوسف بن تاشفين لا تزال

تفد عليه وفود ثغور الأندلس مستعطفين مجهشين بالبكاء ناشدين الله والإسلام مستنجدين بفقهاء حضرته ووزراء دولته فيسمع إليهم ويصغي لقولهم وترق نفسه لهم
فما عبرت رسل ابن عباد البحر الا ورسل يوسف بالمرصاد ولما انتهت الرسل إلى ابن تاشفين أقبل عليهم واكرم مثواهم واتصل ذلك بابن عباد فوجه من إشبيلية أسطولا نحو صاحب سبتة فانتظمت في سلك يوسف ثم جرت بينه وبين الرسل مراوضات ثم انصرفت إلى مرسلها ثم عبر يوسف البحر عبورا سهلا حتى اتى الجزيرة الخضراء ففتحوا له وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات وأقاموا له سوقا جلبوا إليه ما عندهم من سائر المرافق وأذنوا للغزاة في دخول البلد والتصرف فيه فامتلأت المساجد والرحبات بالمطوعين وتواصوا بهم خيرا هذا مساق صاحب الروض المعطار
واما ابن الأثير فإنه لما ذكر وقعة الزلاقة ذكر ما تقدم من فعل المعتمد بالأرسال وقتلهم وتخوف اكابر الأندلس من الأذفونش وأنه اجتمع منهم رؤساء وساروا إلى القاضي عبيد الله بن محمد بن أدهم وقالوا له ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة وإعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها وقالوا قد غلب على البلاد الفرنج ولم يبق إلا القليل وإن طال هذا الأمر عادت نصرانية كما كانت أولا وقد رأينا رأيا نعرضه عليك قال وماهو قالوا نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم إذا وصلوا إلينا شطر اموالنا ونخرج معهم مجاهدين في سبيل الله فقال لهم إ`نا نخشى إن وصلوا إلينا أن يخربوا بلادنا كما فعلوا بإفريقية ويتركوا الإفرنج ويبدأوا بنا والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا فقالوا له فكاتب أمير المسلمين واسأله العبور إلينا أو إعانتنا بما تيسر من الجند فبينما هم في ذلك يتراوضون إذ قدم عليهم المعتمد بن عباد

قرطبة فعرض عليه القاضي ابن أدهم ماكانوا فيه فقال له ابن عباد أنت رسولي إليه في ذلك فامتنع وإنما أراد أن يبرىء نفسه من ذلك فألح عليه المعتمد فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين فوجده بسبتة وأبلغه الرسالة وأعلمه بما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من العساكر فأقبلت إليه يتلو بعضها بعضا فلما تكاملت عنده عبر البحر واجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية وكان المعتمد قد جمع عساكره أيضا وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير وقصده المطوعة من سائر بلاد الأندلس ووصلت الأخبار إلى الأذفونش فجمع عساكره وحشد جنوده وسار من طليطلة وكتب إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين كتابا كتبه له بعض غواة أدباء المسلمين يغلظ له في القول ويصف ما معه من القوة والعدد والعدد وبالغ في ذلك فلما وصله وقرأه يوسف أمر كاتبه أبا بكر ابن القصيرة أن يجيبه وكان كاتبا مفلقا فكتب وأجاد فلما قرأه على أمير المسلمين قال هذا كتاب طويل أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون ستراه وأرسله إليه فلما وقف عليه الأذفونش ارتاع له وعلم أنه بلي برجل لا طاقة له به
وذكر ابن خلكان ان يوسف بن تاشفين امر بعبور الجمال فعبر منها ما أغص الجزيرة وارتفع رغاؤها إلى عنان السماء ولم يكن أهل الجزيرة رأوا جملا قط ولا خيلهم فصارت الخيل تجمح من رؤية الجمال ومن رغائها وكان ليوسف في عبور الجمال رأي مصيب فكان يحدق بها عسكره ويحضرها للحرب فكانت خيل الفرنج تجمح منها وقدم يوسف بين يديه كتابا للأذفونش يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام أو الجزية أو الحرب كما هي السنة ومن جملة مافي الكتاب بلغنا يا أذفونش أنك دعوت إلى الاجتماع بنا وتمنيت أن

تكون لك سفن تعبر بها البحر إلينا فقد عبرنا إليك وقد جمع الله تعالى في هذه الساحة بيننا وبينك وسترى عاقبة دعائك ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) غافر 50 انتهى بمعناه وأكثره بلفظه
ولنرجع إلى كلام صاحب الروض المعطار فإنه أقعد بتاريخ الأندلس إذ هو منهم وصاحب البيت أدرى بالذي فيه قال رحمه الله تعالى فلما عبر يوسف وجميع جيوشه إلى الجزيرة الخضراء انزعج إلى إشبيلية على أحسن الهيئات جيشا بعد جيش وأميرا بعد أمير وقبيلا بعد قبيل وبعث المعتمد ابنه إلى لقاء يوسف وأمر عمال البلاد بجلب الأقوات والضيافات ورأى يوسف من ذلك ماسره ونشطه وتواردت الجيوش مع امرائها إلى إشبيلية وخرج المعتمد إلى لقاء يوسف من إشبيلية في مائة فارس ووجوه أصحابه فلما اتى محله يوسف ركض نحو القوم وركضوا نحوه فبرز إليه يوسف وحده والتقيا منفردين وتصافحا وتعانقا وأظهر كل منهما لصاحبه المودة والخلوص وشكرا نعم الله تعالى وتواصيا بالصبر والرحمة وبشرا أنفسهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر وتضرعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصا لوجهه مقربا إليه وافترقا فعاد يوسف لمحلته وابن عباد إلى جهته وألحق ابن عباد ماكان أعده من هدايا وتحف وضيافات أوسع بها على محلة يوسف بن تاشفين وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا وصلوا الصبح ركب الجميع وأشار ابن عباد على يوسف بالتقدم نحو إشبيلية ففعل ورأى الناس من عزه سلطانه ما سرهم ولم يبق من ملوك الطوائف بالأندلس إلا من بادر أو أعان وخرج أو أخرج وكذلك فعل الصحراويون مع يوسف كل صقع من أصقاعه رابطوا وصابروا وكان الأذفونش لما تحقق الحركة والحرب استنفر جميع اهل بلاده وما يليها وما

وراءها ورفع القسيسون والرهبان والأساقفة صلبانهم ونشروا اناجيلهم فاجتمع له من الجلالقة والإفرنجة ما لا يحصى عدده وجواسيس كل فريق تتردد بين الجميع وبعث الأذفونش إلى ابن عباد إن صاحبكم يوسف قد تعنى من بلاده وخاض البحور وانا اكفيه العناء فيما بقي ولا اكلفكم تعبا أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقا بكم وتوفيرا عليكم وقال لخاصته واهل مشورته إني رأيت أني إن مكنتهم من الدخول إلى بلادي فناجزوني فيها وبين جدرها وربما كانت الدائرة علي يستحكمون البلاد ويحصدون من فيها غداة واحدة ولكني أجعل يومهم معي في حوز بلادهم فإن كانت علي اكتفوا بما نالوه ولم يجعلوا الدروب وراءهم إلا بعد أهبة أخرى فيكون في ذلك صون لبلادي وجبر لمكاسري وإن كانت الدائرة عليهم كان مني فيهم وفي بلادهم ما خفت أنا أن يكون في وفي بلادي إذا ناجزوني في وسطها ثم برز بالمختار من جنوده وأنجاد جموعه على باب دربه وترك بقية جموعه خلفه وقال حين نظر إلى ما اختاره منهم بهؤلاء أقاتل الجن والإنس وملائكة السماء فالمقلل يقول المختارون أربعون ألف دارع ولكل واحد أتباع واما النصارى فيعجبون ممن يزعم ذلك ويرون أنهم أكثر من ذلك كله واتفق الكل أن عدد المسلمين أقل من الكفرة ورأى الأذفونش في نومه كانه راكب فيل يضرب نقيره طبل فهالته الرؤيا وسأل عنها القسوس والرهبان فلم يجبه أحد فدس يهوديا عمن يعلم تأويلها من المسلمين فدل على معبر فقصها عليه ونسبها لنفسه فقال له المعبر كذبت ماهذه الرؤيا لك ولا أعبرها له إلا إن صدقتني بصاحب الرؤيا فقال له اكتم علي الرؤيا للأذفونش فقال المعبر صدقت ولا يراها غيره والرؤيا تدل على بلاء عظيم ومصيبة فادحة فيه وفي عسكره وتفسيرها قوله تعالى ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) الفيل 1 واما ضربة النقيرة فتأويلها ( فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير ) المدثر 8 - 9 فانصرف اليهودي وذكر للأذفونش

ماوافق خاطره
ثم خرج الأذفونش ووقف على الدروب ومال بجيوشه إلى الجهة الغربية من بلاد الأندلس وتقدم السلطان يوسف فقصده وتأخر ابن عباد لبعض مهماته ثم انزعج يقفو أثره بجيش فيه حماة الثغور ورؤساء الأندلس وجعل ابنه عبدالله على مقدمته وسار وهو ينشد لنفسه متفائلا مكملا البيت المشهور
( لابد من فرج قريب ... يأتيك بالعجب العجيب )
( غزو عليك مبارك ... سيعود بالفتح القريب )
( لله سعدك إنه ... نكس على دين الصليب )
( لابد من يوم يكون ... له أخا يوم القليب )
ووافت الجيوش كلها بطليوس فاناخوا بظاهرها وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس فلقيهم بما يجب من الضيافات والأقوات وبذل المجهود وجاءهم الخبر بشخوص الأذفونش ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين خوفا عليهم من مكايد الأذفونش إذ هم غرباء لاعلم لهم بالبلاد وجعل يتولى ذلك بنفسه حتى قيل إن الرجل من الصحراويين لا يخرج على طرف المحلة لقضاء أمر أو حاجة إلا ويجد ابن عباد بنفسه مطيفا بالمحلة بعد ترتيب الخيل والرجال على أبواب المحلات وقد تقدم كتاب السلطان يوسف إلى الأذفونش يدعوه إلى إحدى الثلاث المأمور بها شرعا فامتلأ الكافر غيظا وعتا وطغى وراجعه بما يدل على شقائه وقامت الأساقفة والرهبان فرفعوا صلبانهم ونشروا اناجيلهم وتبايعوا على الموت ووعظ يوسف وابن عباد أصحابهما وقام الفقهاء والصالحون مقام الوعظ وحضوهم على الصبر والثبات وحذروهم من الفشل والفرار

وجاءت الطلائع تخبر ان العدو مشرف عليهم صبيحة يومهم وهو يوم الأربعاء فأصبح المسلمون وقد أخذوا مصافهم فكع الأذفونش ورجع إلى إعمال المكر والخديعة فعاد الناس إلى محلاتهم وباتوا ليلتهم ثم أصبح يوم الخميس فبعث الأذفونش إلى ابن عباد يقول غدا يوم الجمعة وهو عيدكم والأحد عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما وهو يوم السبت فعرف المعتمد بذلك السلطان يوسف واعلمه أنها حيلة منه وخديعة وإنما قصده الفتك بنا يوم الجمعة فليكن الناس على استعداد له يوم الجمعه كل النهار وبات الناس ليلتهم على أهبة واحتراس وبعد مضي جزء من الليل انتبه الفقيه الناسك أبو العباس أحمد ابن رميلة القرطبي وكان في محلة ابن عباد فرحا مسرورا يقول إنه رأى النبي تلك الليلة في النوم فبشره بالفتح والموت على الشهادة في صبيحة تلك الليلة فتأهب ودعا وتضرع ودهن رأسه وتطيب وانتهى ذلك إلى ابن عباد فبعث إلى يوسف يخبره بها تحقيقا لما توقعه من غدر الكافر بالله تعالى
ثم جاء بالليل فارسان من طلائع المعتمد يخبران أنهما أشرفا على محلة الأذفونش وسمعا ضوضاء الجيوش واضطراب الأسلحة ثم تلاحق بقية الطلائع متحققين بتحرك الأذفونش ثم جاءت الجواسيس من داخل محلتهم تقول استرقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه ابن عباد مسعر هذه الحروب وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا اهل حفاظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد وإنما قادهم ابن عباد فاقصدوه واهجموا عليه واصبروا فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر ابن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش ويستحث نصرته فمضى ابن القصيرة يطوى المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين فعرفه بجلية الأمر فقال له قل له إني سأقرب منه إن شاء الله تعالى وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي

بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها نارا مادام الأذفونش مشتغلا مع ابن عباد
وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد فلم يصله إلا وقد غشيه جنود الطاغية فصدم ابن عباد صدمة قطعت آماله ومال الأذفونش عليه بجموعه واحاطوا به من كل جهة فهاجت الحرب وحمي الوطيس واستحر القتل في أصحاب ابن عباد وصبر ابن عباد صبرا لم يعهد مثله لأحد واستبطأ السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه وعضته الحرب واشتد عليه وعلى من معه البلاء وأبطأ عليه الصحراويون وساءت الظنون وانكشف بعض أصحاب ابن عباد وفيهم ابنه عبدالله وأثخن ابن عباد جراحات وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يديه وطعن في أحد جانبيه وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدم له آخر وهو يقاسي حياض الموت ويضرب يمينا وشمالا وتذكر في تلك الحالة ابنا له صغيرا كان مغرما به تركه في إشبيلية عليلا وكنيته أبو هاشم فقال
( أبا هاشم هشمتني الشفار ... فلله صبري لذاك الأوار )
( ذكرت شخيصك تحت العجاج ... فلم يثنني ذكره للفرار )
ثم كان أول من وافى ابن عباد من قواد ابن تاشفين داود بن عائشة وكان بطلا شجاعا شهما فنفس بمجيئه عن ابن عباد ثم أقبل يوسف بعد ذلك وطبوله تصعد أصواتها إلى الجو فلما أبصره الأذفونش وجه حملته إليه وقصده بمعظم جنوده فبادر إليهم السلطان يوسف وصدمهم بجمعه فردهم إلى مركزهم وانتظم به شمل ابن عباد واستنشق ريح الظفر وتباشر بالنصر ثم صدقوا جميعا الحملة فتزلزلت الأرض بحوافر خيولهم وأظلم النهار بالعجاج والغبار وخاضت الخيل في الدماء وصبر الفريقان صبرا عظيما ثم تراجع ابن عباد إلى يوسف وحمل معه حملة جاء معها النصر وتراجع

المنهزمون من أصحاب ابن عباد حين علموا بالتحام الفئتين وصدقوا الحملة فانكشف الطاغية ومر هاربا منهزما وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي يخمع بها بقية عمره
وعلى سياق ابن خلكان أن ابن تاشفين نزل على أقل من فرسخ من عسكر العدو في يوم الأربعاء وكان الموعد في المناجزة في يوم السبت فعذر الأذفونش ومكر فلما كان سحر يوم الجمعة منتصف رجب أقبلت طلائع ابن عباد والروم في أثرها والناس على طمأنينة فبادر ابن عباد للركوب وبث الخبر في العساكر فماجت بأهلها ووقع البهت ورجفت الأرض وصار الناس فوضى على غير تعبية ولا اهبة ودهمتهم خيل العدو فأحاطت بابن عباد وحطمت ما تعرض لها وتركت الأرض حصيدا خلفها وجرح ابن عباد جرحا أشواه وفر رؤساء الأندلس وتركوا محلاتهم وأسلموها وظنوا انه وهي لا يرقع ونازلة لا تدفع وظن الأذفونش أن السلطان يوسف في المنهزمين ولم يعلم أن العاقبة للمتقين فركب أمير المسلمين واحدق به أنجاد خيله ورجله من صنهاجة رؤساء القبائل وقصدوا محلة الأذفونش فاقتحموها ودخلوها وفتكوا فيها وقتلوا وضربت الطبول وزعقت البوقات فاهتزت الأرض وتجاوبت الجبال والآفاق وتراجع الروم إلى محلاتهم بعد أن علموا أن أمير المسلمين فيها فصدموا امير المسلمين فأفرج لهم عنها ثم كر عليهم فأخرجهم منها ثم كروا عليه فخرج لهم عنها ولم تزل الكرات بينهم تتوالى إلى أن أمر أمير المسلمين حشمه السودان فترجل منهم زهاء أربعة آلاف

ودخلوا المعترك بدرق اللمط وسيوف الهند ومزاريق الران فطعنوا الخيل فرمحت بفرسانها واجحمت عن أقرانها وتلاحق الأذفونش بأسود نفدت مزاريقه فأهوى ليضربه بالسيف فلصق به الأسود وقبض على عنانه وانتضى خنجرا كان متمنطقا به فأثبته في فخذه فهتك حلق درعه ونفذ من فخذه مع بداد سرجه وكان وقت الزوال وهبت ريح النصر فأنزل الله سكينته على المسلمين ونصر دينه القويم وصدقوا الحملة على الأذفونش وأصحابه فأخرجوهم عن محلتهم فولوا ظهورهم وأعطوا أعناقهم والسيوف تصفعهم والرماح تطعنهم إلى ان لحقوا ربوة لجأوا إليها واعتصموا بها وأحدقت بهم الخيل فلما أظلم الليل انساب الأذفونش وأصحابه من الربوة وأفلتوا بعدما تشبثت بهم أظفار المنية واستولى المسلمون على ماكان في محلتهم من الآلات والسلاح والمضارب والأواني وغير ذلك وامر ابن عباد بضم رؤوس قتلى المشركين فاجتمع من ذلك تل عظيم انتهى وبعضه بالمعنى

رجع إلى كلام صاحب الروض المعطار
قال
ولجأ الأذفونش إلى تل كان يلي محلته في نحو خمسمائة فارس كل واحد منهم مكلوم وأباد القتل والأسر من عداهم من أصحابهم وعمل المسلمون من رؤوسهم مآذن يؤذنون عليها والمخذول ينظر إلى موضع الوقيعة ومكان الهزيمة فلا يرى إلا نكالا محيطا به وبأصحابه وأقبل ابن عباد على السلطان يوسف وصافحه وهنأه وشكره وأثنى عليه وشكر يوسف صبر ابن عباد ومقامه وحسن

بلائه وجميل صبره وسأله عن حاله عندما أسلمته رجاله بانهزامهم عنه فقال له هم هؤلاء قد حضروا بين يديك فليخبروك
وكتب ابن عباد إلى إبنه بإشبيلية كتابا مضمونه كتابي هذا من المحلة المنصورة يوم الجمعة الموفي عشرين من رجب وقد أعز الله الدين ونصر المسلمين وفتح لهم الفتح المبين وهزم الكفرة والمشركين وأذاقهم العذاب الأليم والخطب الجسيم فالحمدلله على مايسره وسناه من هذه المسرة العظيمة والنعمة الجسيمة في تشتيت شمل الأذفونش والاحتواء على جميع عساكره أصلاه الله نكال الجحيم ولا اعدمه الوبال العظيم المليم بعد إتيان النهب على محلاته واستئصال القتل في جميع أبطاله وحماته حتى اتخذ المسلمون من هاماتهم صوامع يؤذنون عليها فلله الحمد على جميل صنعه ولم يصبني والحمد لله إلا جراحات يسيرة آلمت لكنها فرجت بعد ذلك فلله الحمد والمنة والسلام
واستشهد في ذلك اليوم جماعة من الفضلاء والعلماء وأعيان الناس مثل ابن رميلة صاحب الرؤيا المذكورة وقاضي مراكش أبي مروان عبدالملك المصمودي وغيرهما رحمهم الله تعالى
وحكي ان موضع المعترك كان على اتساعه ماكان فيه موضع قدم إلا على ميت أو دم وأقامت العساكر بالموضع أربعة أيام حتى جمعت الغنائم واستؤذن في ذلك السلطان يوسف فعف عنها وآثر بها ملوك الأندلس وعرفهم أن مقصده الجهاد والأجر العظيم وماعند الله في ذلك من الثواب المقيم فلما رأت ملوك الأندلس إيثار يوسف لهم بالغنائم استكرموه وأحبوه وشكروا له ذلك
ولما بلغ الأذفونش إلى بلاده وسأل عن أبطاله وشجعانه وأصحابه ففقدهم ولم يسمع إلا نواح الثكلى عليهم اهتم ولم يأكل ولم يشرب حتى هلك غما وهما وراح إلى أمه الهاوية ولم يخلف إلا بنتا واحدة جعل الأمر إليها فتحصنت بطليطلة
ورحل المعتمد إلى إشبيلية ومعه السلطان يوسف بن تاشفين فأقام السلطان

يوسف بن تاشفين بظاهر إشبيلية ثلاثة أيام ووردت عليه من المغرب أخبار تقتضي العزم فسافر وذهب معه ابن عباد يوما وليلة فحلف ابن تاشفين وعزم عليه في الرجوع وكانت جراحاته تورمت عليه فسير معه ولده عبدالله إلى أن وصل البحر وعبر إلى المغرب
ولما رجع ابن عباد إلى إشبيلية جلس للناس وهنىء بالفتح وقرأت القراء وقام على رأسه الشعراء فأنشدوه قال عبدالجليل بن وهبون حضرت ذلك اليوم وأعددت قصيدة أنشدها بين يديه فقرأ القارىء ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) التوبة 40 فقلت بعدا لي ولشعري والله ما أبقت لي هذه الآية معنى أحضره وأقوم به
ولما عزم السلطان يوسف بن تاشفين إلى بلاده ترك الأمير سير بن أبي بكر أحد قواده المشاهير وترك معه جيشا برسم غزو الفرنج فاستراح الأمير المذكور أياما قلائل ودخل بلاد الأذفونش وأطلق الغارة ونهب وسبى وفتح الحصون المنيعة والمعاقل الصعبة العويصة وتوغل في البلاد وحصل أموالا وذخائر عظيمة ورتب رجالا وفرسانا في جميع ما أخذه وأرسل للسلطان يوسف جميع ما حصله وكتب له يعرفه أن الجيوش بالثغور مقيمة على مكابدة العدو وملازمة الحرب والقتال في أضيق العيش وانكده وملوك الأندلس في بلادهم وأهليهم فى أرغد العيش وأطيبه وسأله مرسومه فكتب إليه أن يأمرهم بالنقلة والرحيل إلى أرض العدوة فمن فعل فذاك ومن أبى فحاصره وقاتله ولا تنفس عليه ولتبدأ بمن والى الثغور ولا تتعرض للمعتمد بن عباد إلا بعد استيلائك على البلاد وكل بلد أخذته فول فيه أميرا من عساكرك فأول من ابتدأ به من ملوك الأندلس بنوهود وكانوا بروطة بضم الراء المهماة وبعدها واو ساكنة وطاء مهملة مفتوحة وبعدها هاء ساكنة وهي قلعة منيعة من

عاصمات الذرا وماؤها ينبع من أعلاها وفيها من الأقوات والذخائر المختلفات ما لا تفنيه الأزمان فحاصرها فلم يقدر عليها ورحل عنها وجند أجنادا على هيئة الفرنج وزيهم وأمرهم أن يقصدوها ويغيروا عليها وكمن هو وأصحابه بقرب منها فلما رآهم أهل القلعة استضعفوهم فنزلوا إليهم ومعهم صاحب القلعة فخرج عليه سير المذكور وقبضه باليد وتسلم الحصن ثم نازل بني طاهر بشرق الأندلس فأسلموا له البلاد ولحقوا ببر العدوة ثم نازل بني صمادح بالمرية ولها قلعة حصينة فحاصرهم وضيق بهم ولما علم ابن صمادح الغلب أسف ومات غبنا فأخذ القلعة واستولى على المرية وجميع أعمالها ثم قصد بطليوس وكان بها المتوكل عمر بن محمد بن الأفطس المتقدم ذكره فحاصره واخذه واستولى على جميع أعماله وماله ولم يبق له إلا المعتمد بن عباد فكتب للسلطان يوسف يعرفه بما فعل ويسأله مرسومه في ابن عباد فكتب إليه يأمره أنه يعرض عليه النقلة لبر العدوة وبجميع الأهل والعشيرة فإن رضي وإلا فحاصره وخذه وأرسل به كسائر أصحابه فواجهه وعرفه بما رسم به السلطان يوسف وسأله الجواب فلم يجب بنفي ولا إثبات ثم إنه نازل إشبيلية وحاصره بها وألح عليه فأقام الحصار شهرا ودخل البلد قهرا واستخرجه من قصره فحمل وجميع أهله وولده إلى العدوة فأنزل بأغمات وأقام بها إلى أن مات رحمه الله تعالى وعفا عنه
واما إبن الأثير ففي كلامه تقديم وتأخير وبعض خلاف لما مر
واخبار المعتمد بن عباد وما رآه من الملك والعز على كل حاضر وباد وما قاساه في الأسر من الضيق والعسر وسوء العيش أمر عجيب يتعظ به العاقل الأريب واما ما مدحته به الشعراء وأجوبته لهم في حالي يسره وعسره وملكه وأسره وطيه ونشره وتجهمه وبشره فهو كثير وفي كتب التواريخ منه نظيم ونثير وقد قدمنا منه في هذا الكتاب ما يبعث الاعتبار ويثير وخصوصا في الباب السابع من هذا التأليف الذي هو عند المنصف أثير وفي المعتمد وأبيه

المعتضد يقول بعض الشعراء
( من بني منذر وذاك انتساب ... زاد في فخرهم بنو عباد )
( فتية لم تلد سواها المعالي ... والمعالي قليلة الأولاد )
وقال ابن القطاع في كتابه لمح الملح في حق المعتمد إنه اندى ملوك الأندلس راحة وأرحبهم ساحة واعظمهم ثمادا وأرفعهم عمادا ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال وموسم الشعراء وقبلة الامال ومألف الفضلاء حتى إنه لم يجتمع بباب أحد من الملوك من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه وتشتمل عليه حاشيتا جنابه
وقال ابن بسام في الذخيرة للمعتمد شعر كما انشق الكمام عن الزهر لو صار مثله ممن جعل الشعر صناعة واتخذه بضاعة لكان رائقا معجبا ونادرا مستغربا فمن ذلك قوله
( أكثرت هجرك غير أنك ربما ... عطفتك أحيانا على أمور )
( فكأنما زمن التهاجر بيننا ... ليل وساعات الوصال بدور )
قال وهذا المعنى ينظر إلى قول بعضهم من أبيات
( أسفر ضوء الصبح عن وجهه ... فقام ذاك الخال فيه بلال )
( كأنما الخال على خده ... ساعات هجر في زمان الوصال )

وعزم على إرسال حظاياه من قرطبة إلى إشبيلية فخرج معهن يشيعهن فسايرهن من اول الليل إلى الصبح فودعهن ورجع وانشد أبياتا منها
( سايرتهم والليل عقد ثوبه ... حتى تبدى للنواظر معلما )
( فوقفت ثم مودعا وتسلمت ... مني يد الإصباح تلك الأنجما )
وهذا المعنى في نهاية الحسن ثم ذكر من كلامه جملة

عود وانعطاف
ولما جاء أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى ناحية غرناطة بعدما حصر بعض حصون الفرنج فلم يقدر عليه خرج إلى لقائه صاحب غرناطة عبد الله بن بلكين فسلم عليه ثم عاد إلى بلده ليخرج له التقادم فغدر به ودخل البلد وأخرج عبدالله ودخل قصره فوجد فيه من الذخائر والأموال ما لايحد ولا يحصى ثم رجع إلى مراكش وقد أعجبه حسن بلاد الأندلس وبهجتها وما بها من المباني والبساتين والمطاعم وسائر الأصناف التى لا توجد في بلاد العدوة إذ هي بلاد بربر وأجلاف عربان فجعل خواص يوسف يعظمون عنده بلاد الأندلس ويحسنون له أخذها ويوغرون قلبه على المعتمد بأشياء نقلوها عنه فتغير على المعتمد وقصد مشارفة الأندلس
وحكى ابن خلدون أن علماء الأندلس أفتوا ابن تاشفين بجواز خلع المعتمد وغيره من ملوك الطوائف وبقتالهم إن امتنعوا فجهز يوسف العساكر إلى الأندلس وحاصر سير بن أبي بكر أحد عظماء دولة يوسف إشبيلية وبها المعتمد فكان من دفاعه وشدة ثباته ما هو معلوم ثم أخذ أسيرا وصارف طرف الملك بعده حسيرا

وفي وصف ذلك يقول صاحب القلائد بعد كلام ثم جمع هو وأهله وحملتهم الجواري المنشآت وضمتهم جوانحها كانهم أموات بعدما ضاق عنهم القصر وراق منهم المصر والناس قد حشروا بضفتي الوادي يبكون بدموع كالغوادي فساروا والنوح يحدوهم والبوح باللوعة لا يعدوهم انتهى
ولما فرغ أمير المسلمين يوسف بن تاشفين من أمر غزوة الزلاقة المتقدم ذكرها ورجع تكرم له ابن عباد وسأله أن ينزل عنده فعرج إلى بلاده إذ أجابه إلى ما طلب فلما انتهى ابن تاشفين إلى إشبيلية مدينة المعتمد وهي من أحسن المدن وأجلها منظرا أمعن يوسف النظر فيها وفي محلها وهي على نهر عظيم مستبحر تجري فيه السفن بالبضائع جالبة من بر المغرب وحاملة إليه وفي غربيها رستاق عظيم مسيرة عشرين فرسخا يشتمل على آلاف من الضياع كلها تين وعنب وزيتون وهذا هو المسمى بشرف إشبيلية وتمتار بلاد المغرب كلها بهذه الأصناف منه وفي جانب المدينة قصور المعتمد وأبيه المعتضد في غاية الحسن والبهاء وفيها انواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش وغير ذلك فانزل المعتمد يوسف بن تاشفين في احدها وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتاملها وماهي عليه من النعمة والإتراف ويغرونه باتخاذ مثلها ويقولون له إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة كما هو المعتمد وأصحابه وكان ابن تاشفين داهية عاقلا مقتصدا

في اموره غير متطاول ولا مبذر غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم إذ ذهب صدر عمره في بلاده بالصحراء في شظف العيش فأنكر على من أغراه بذلك الإسراف وقال له الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل يعنى المعتمد انه مضيع لما في يده من الملك لأن هذه الأموال الكثيرة التى تصرف في هذه الأحوال لابد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبدا فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه الترهات من أفحش استهتار ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى تستنجد همته في ضبط بلاده وحفظها وصون رعينه والتوقير لمصالحها ولعمري لقد صدق في كل ذلك
ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته هل تختلف فتنقص عما عليه في بعض الأوقات فقيل له بل كل زمانه على هذا فقال أفكل أصحابه وأنصاره على عدوه ومنجديه على الملك ينال حظا من ذلك فقالوا لا قال فكيف ترون رضاهم عنه فقالوا لا رضى لهم عنه فأطرق وسكت وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياما
وفي أثنائها استأذن رجل على المعتمد فدخل وهو ذو هيئة رثة وكان من أهل البصائر فلما مثل بين يديه قال أصلحك الله أيها السلطان وإن من اوجب الواجبات شكر النعمة وإن من شكر النعمة إهداء النصائح وإني رجل من رعيتك حالي في دولتك إلى الإختلال أقرب منها إلى الإعتدال ولكنني مع ذلك مستوجب لك من النصيحة ما للملك على رعيته فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدل على انهم يرون انفسهم وملكهم أحق بهذه النعمة منك وقد رأيت رأيا فإن آثرت الإصغاء

إليه قلته فقال المعتمد له قله فقال له رأيت ان هذا الرجل الذى أطلعته على ملكك مستأسد على الملوك قد حطم على زناتة ببر العدوة واخذ الملك من أيديهم ولم يبق على واحد منهم ولا يؤمن أن يطمح إلى الطمع في ملكك بل في ملك جزيرة الأندلس كلها لما قد عاينه من هناءة عيشك وإنه لمتخيل في مثل حالك سائر ملوك الأندلس وإن له من الولد والأقارب وغيرهم من يود له الحلول بما انت فيه من خصب الجناب وقد أردى الأذفونش وجيشه واستأصل شأفتهم وأعدمك منه أقوى ناصر عليه لو احتجت إليه فقد كان لك منه أقوى عضد وأوقى مجن وبعد فإنه إن فات الأمر في الأذفونش فلا يفتك الحزم فيما هو ممكن اليوم فقال له المعتمد وماهو الحزم اليوم فقال أن تجمع امرك على قبض ضيفك هذا واعتقاله في قصرك وتجزم انك لا تطلقه حتى يأمر كل من بجزيرة الأندلس من عسكره أن يرجع من حيث جاء حتى لا يبقى منهم أحد بالجزيرة طفل فمن فوقه ثم تتفق أنت وملوك الجزيرة على حراسة هذا البحر من سفينة تجري فيه له ثم بعد ذلك تستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يضمر في نفسه عودا إلى هذه الجزيرة إلا باتفاق منكم ومنه وتأخذ منه على ذلك رهائن فإنه يعطيك من ذلك ما تشاء فنفسه أعز عليه من جميع ما يلتمس منه فعند ذلك يقتنع هذا الرجل ببلاده التى لا تصلح إلا له وتكون قد استرحت منه بعدما استرحت من الأذفونش وتقيم في موضعك على خير حال ويرتفع ذكرك عند ملوك الجزيرة ويتسع ملكك وينسب هذا الاتفاق لك إلى سعادة وحزم وتهابك الملوك ثم اعمل بعد هذا ما يقتضيه حزمك في مجاورة من عاملته هذه المعاملة واعلم أنه قد تهيأ لك من هذا أمر سماوي تتفانى الأمم وتجري بحار الدم دون حصول مثله فلما سمع المعتمد كلام

الرجل استصوبه وجعل يفكر في انتهاز الفرصة
وكان للمعتمد ندماء قد انهمكوا معه في اللذات فقال أحدهم لهذا الرجل الناصح ماكان المعتمد على الله وهو إمام أهل المكرمات ممن يعامل بالحيف ويغدر بالضيف فقال الرجل إنما الغدر أخذ الحق من يد صاحبه لا دفع الرجل عن نفسه المحذور إذا ضاق به فقال ذلك النديم ضيم مع وفاء خير من حزم مع جفاء ثم إن ذلك الناصح استدرك الأمر وتلافاه فشكر له المعتمد ووصله بصلة واتصل هذا الخبر بيوسف فأصبح غاديا فقدم له المعتمد الهدايا السنية والتحف الفاخرة فقبلها ثم رحل
انتهى خبر وقعة الزلاقة وما يتبعه ملخصا من كتب التاريخ
ولما انقرض بالأندلس ملك ملوك الطوائف بني عباد وبني ذي النون وبني الأفطس وبني صمادح وغيرهم انتظمت في سلك اللمتونيين وكانت لهم فيها وقعات بالأعداء مشهورة في كتب التواريخ

دخول الأندلس في طاعة الموحدين
ولما مات يوسف بن تاشفين سنة خمسمائة قام بالملك بعده ابنه أمير المسلمين على بن يوسف وسلك سنن أبيه وإن قصر عنه في بعض الأمور ودفع العدو عن الأندلس مدة إلى أن قيض الله تعالى للثورة عليه محمد بن تومرت الملقب بالمهدي الذي أسس دولة الموحدين فلم يزل يسعى في هدم بنيان لمتونة إلى أن مات ولم يملك حضرة سلطنتهم مراكش ولكنه ملك كثيرا من البلاد فاستخلف عبدالمؤمن بن علي فكان من استيلائه على مملكة اللمتونيين ماهو معروف ثم جاز إلى الأندلس وملك كثيرا منها ثم أخرج الإفرنج من مهدية إفريقية وملك بلادإفريقية وضخم ملكه وتسمى بأمير المسلمين

عبدالمؤمن بن علي
ولما كانت سنة 545 سار الأذفونش صاحب طليطلة وبلاد الجلالقة إلى قرطبة ومعه أربعون ألف فارس فحاصرها وكان أهلها في غلاء شديد فبلغ الخبر عبدالمؤمن فجهز إليهم جيشا يحتوي على اثني عشر ألف فارس فلما أشرفوا على الأذفونش رحل عنها وكان فيها القائد أبو الغمر السائب فسلمها إلى صاحب جيش عبدالمؤمن يحيى بن ميمون فبات فيها فلما أصبح رأى الفرنج عادوا إلى مكانهم ونزلوا في المكان الذي كانوا فيه فلما عاين ذلك رتب هنالك ناسا وعاد إلى عبدالمؤمن ثم رحل الفرنج إلى ديارهم
وفي السنة بعدها دخل جيش عبدالمؤمن إلى الأندلس في عشرين ألفا عليهم الهنتاتي فصار إليه صاحب غرناطة ميمون وابن همشك وغيرهما فدخلوا تحت طاعة الموحدين وحرصوا على قصد ابن مردنيش ملك شرق الأندلس وبلغ ذلك ابن مردنيش فخاف وأرسل إلى صاحب برشلونة من الإفرنج يستنجده فتجهز إليه في عشرة آلاف من الإفرنج عليهم فارس وسار صاحب جيش عبدالمؤمن إلى أن قارب ابن مردنيش فبلغه أمر البرشلوني الإفرنجي فرجع ونازل مدينة المرية وهي بأيدي الروم فحاصرها فاشتد الغلاء في عسكره فرجع إلى إشبيلية فأقام فيها وسار عبدالمؤمن إلى سبتة فجهز الأساطيل وجمع العساكر
ثم سار عبدالمؤمن سنة 547 إلى المهدية فملكها وملك إفريقية وضخم ملكه كما قدمناه
يوسف بن عبدالمؤمن
ولما مات بويع بعده ولده يوسف بن عبدالمؤمن ولما تمهدت له الأمور

واستقرت قواعد ملكه دخل إلىجزيرة الأندلس لكشف مصالح دولته وتفقد أحوالها وكان ذلك سنة ست وستين وخمسمائة وفي صحبته مائة ألف فارس من الموحدين والعرب فنزل بحضرة إشبيلية وخافه ملك شرق الأندلس مرسية وما انضاف إليها الأمير الشهير أبو عبدالله محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش وحمل على قلب ابن مردنيش فمرض مرضا شديدا ومات وقيل إنه سم ولما مات جاء أولاده وأهله إلى أمير المؤمنين يوسف بن عبدالمؤمن وهو بإشبيلية فدخلوا تحت حكمه وسلموا لأحكامه البلاد فصاهرهم وأحسن إليهم وأصبحوا عنده في أعز مكان ثم شرع في استرجاع البلاد التي استولى عليها الإفرنج فاتسعت مملكته بالأندلس وصارت سراياه تغير إلى باب طليطلة وقيل إنه حاصرها فاجتمع الفرنج كافة عليه واشتد الغلاء في عسكره فرجع عنها إلى مراكش حضرة ملكه ثم ذهب إلى إفريقية فمهدها ثم رجع إلى حضرته مراكش ثم جاز البحر إلى الأندلس سنة ثمانين وخمسمائة ومعه جمع كثيف وقصد غربي بلادها فحاصر مدينة شنترين وهي من أعظم بلاد العدو وبقي محاصرا لها شهرا فأصابه المرض فمات في السنة المذكورة وحمل في تابوت إلى إشبيلية وقيل أصابه سهم من قبل الإفرنج والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة الحال
وفي ابنه السيد أبي إسحاق يقول مطرف التجيبي رحمه الله تعالى
( سعد كما شاء العلا والفخار ... تصرف الليل به والنهار )
( مادانت الأرض لكم عنوة ... وإنما دانت لأمر كبار )
( مهدتموها فصفا عيشها ... واتصل الأمن فنعم القرار )

ومنها
( فالشاة لا يختلها ذئبها ... وإن أقامت معه في وجار )

يعقوب المنصور
ولما مات يوسف قام بالأمر بعده ابنه الشهير أمير المؤمنين يعقوب المنصور ابن يوسف بن عبدالمؤمن فقام بالأمر أحسن قيام ولما مات يوسف المذكور رثاه أديب الأندلس أبو بكر يحيى بن مجبر بقصيدة طويلة أجاد فيها وأولها
( جل الأسى فأسل دم الأجفان ... ماء الشؤون لغير هذا الشان )
ويعقوب المنصور هو الذي أظهر أبهة ملك الموحدين ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط الأحكام الشرعية وأظهر الدين وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأقام الحدود على القريب والبعيد وله في ذلك أخبار وفيه يقول الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الكانمي الأسود الشاعر المشهور
( أزال حجابه عني وعيني ... تراه من المهابة في حجاب )
( وقربني تفضله ولكن ... بعدت مهابة عند اقترابي )
وكثرت الفتوحات في أيامه واول ما نظر فيه عند صيرورة الأمر إليه بلاد الأندلس فنظر في شأنها ورتب مصالحها وقرر المقاتلين في مراكزهم ورجع إلى كرسي مملكته مراكش المحروسة وفي سنة 586 بلغه أن الإفرنج ملكوا مدينة شلب وهي من غرب الأندلس فتوجه إليها بنفسه وحاصرها وأخذها وانفذ في الوقت جيشا من الموحدين والعرب ففتح أربع مدن مما بأيدي الإفرنج من البلاد التى كانوا أخذوها من المسلمين قبل ذلك بأربعين سنة وخافه صاحب طليطلة وسأله الهدنة والصلح فهادنه خمس سنين وعاد إلى مراكش

وأنشد القائد أبو بكر بن عبدالله بن وزير الشلبي وهو من أمراء كتائب إشبيلية قصيدة يخاطب بها يعقوب المنصور فيما جرى في وقعة مع الفرنج كان الشلبي المذكور مقدما فيها
( ولما تلاقينا جرى الطعن بيننا ... فمنا ومنهم طائحون عديد )
( وجال غرار الهند فينا وفيهم ... فمنا ومنهم قائم وحصيد )
( فلا صدر إلا فيه صدر مثقف ... وحول الوريد للحسام ورود )
( صبرنا ولا كهف سوى البيض والقنا ... كلانا على حر الجلاد جليد )
( ولكن شددنا شدة فتبلدوا ... ومن يتبلد لا يزال يجيد )
( فولوا وللسمر الطوال بهامهم ... ركوع وللبيض الرقاق سجود )

رجع إلى أخبار المنصور بعد هدنة الإفرنج
ولما انقضت مدة الهدنة ولم يبق منها إلا القليل خرج طائفة من الإفرنج في جيش كثيف إلى بلاد المسلمين فنهبوا وسعوا وعاثوا عيثا فظيعا فانتهى الخبر إليه فتجهز لقصدهم في جيوش موفرة وعساكر مكتبة واحتفل في ذلك وجاز إلى الأندلس سنة 591 فعلم به الإفرنج فجمعوا جمعا كثيرا من أقاصي بلادهم وأدانيها وأقبلوا نحوه وقيل إنه لما أراد الجواز من مدينة سلا مرض مرضا شديدا ويئس منه أطباؤه فعاث الأذفونش في بلاد المسلمين بالأندلس وانتهز الفرصة وتفرقت جيوش المسلمين بسبب مرض السلطان فأرسل

الأذفونش يتهدد ويتوعد ويرعد ويبرق ويطلب بعض الحصون المتاخمة له من بلاد الأندلس وخلاصة الأمر ان المنصور توجه بعد ذلك إلى لقاء النصارى وتزاحف الفريقان فكان المصاف شمالي قرطبة على قرب قلعة رباح في يوم الخميس تاسع شعبان سنة 591 فكانت بينهم وقعة عظيمة استشهد فيها جمع كبير من المسلمين
وحكي ان يعقوب المنصور جعل مكانه تحت الأعلام السلطانية الشيخ أبا يحيى ابن أبي حفص عم السلطان أبي زكريا الحفصي الذى ملك بعد ذلك إفريقية وخطب له ببعض الأندلس فقصد الإفرنج الأعلام ظنا أن السلطان تحتها فأثروا في المسلمين أثرا قبيحا فلم يرعهم إلا والسلطان يعقوب قد أشرف عليهم بعد كسر شوكتهم فهزمهم شر هزيمة وهرب الأذفونش في طائفة يسيرة وهذه وقعة الأرك الشهيرة الذكر
وحكي أن الذي حصل لبيت المال من دروع الإفرنج ستون ألفا وأما الدواب على اختلاف أنواعها فلم يحصر لها عدد ولم يسمع بعد وقعة الزلاقة بمثل وقعة الأرك هذه وربما صرح بعض المؤرخين بأنها أعظم من وقعة الزلاقة
وقيل ان فل الإفرنج هربوا إلى قلعة رباح فتحصنوا بها فحاصرها السلطان يعقوب حتى أخذها وكانت قبل للمسلمين فأخذها العدو فردت في هذه المرة ثم حاصر طليطلة وقاتلها أشد قتال وقطع أشجارها وشن الغارات على أرجائها وأخذ من أعمالها حصونا وقتل رجالها وسبى حريمها وخرب منازلها وهدم أسوارها وترك الإفرنج في أسوأ حال ولم يبرز إليه أحد من المقاتلة ثم رجع إلى إشبيلية وأقام إلى سنة 593 فعاد إلى بلاد الفرنج وفعل فيها الأفاعيل فلم يقدر العدو على لقائه وضاقت على الإفرنج الأرض بما رحبت فطلبوا الصلح فأجابهم إليه لما بلغه من ثورة الميرقي عليه بإفريقية مع قراقوش مملوك بني أيوب سلاطين مصر والشام
ثم توفي السلطان يعقوب سنة 595 وما يقال إنه ساح في الأرض

وتخلى عن الملك ووصل الى الشام ودفن بالبقاع لا أصل له وإن حكى ابن خلكان بعضه وممن صرح ببطلان هذا القول الشريف الغرناطي في شرح مقصورة حازم وقال إن ذلك من هذيان العامة لولوعهم بالسلطان المذكور

محمد الناصر ووقعة العقاب
وولي بعده والده محمد الناصر المشؤوم على المسلمين وعلى جزيرة الأندلس بالخصوص فإنه جمع جموعا اشتملت على ستمائة ألف مقاتل فيما حكاه صاحب الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية ودخله الإعجاب بكثرة من معه من الجيوش فصاف الإفرنج فكانت عليه وعلى المسلمين وقعة العقاب المشهورة التى خلا بسببها أكثر المغرب واستولى الإفرنج على أكثر الأندلس بعدها ولم ينج من الستمائة ألف مقاتل غير عدد يسير جدا لم يبلغ الأف فيما قيل وهذه الوقعة هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعا وماذاك إلا لسوء التدبير فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره فشنق بعضهم ففسدت النيات فكان ذلك من بخت الإفرنج والله غالب على أمره وكانت وقعة العقاب هذه المشؤومة سنة 609 ولم تقم بعدها للمسلمين قائمة تحمد
نهاية الموحدين
ولما مات الناصر سنة عشرين وستمائة ولي بعده ابنه يوسف المستنصر وكان مولعا بالراحة فضعفت الدولة في أيامه وتوفي سنة 620

فتولى عم أبيه عبدالواحد بن يوسف بن عبدالمؤمن فلم يحسن التدبير وكان إذ ذاك بالأندلس العادل بن المنصور فرأى أنه أحق بالأمر فاستولى على ما بقي في أيدي المسلمين من الأندلس بغير كلفة ولما خلع عبدالواحد وخنق بمراكش ثارت الإفرنج على العادل بالأندلس وتصاف معهم فانهزم ومن معه من المسلمين هزيمة شنعاء فكانت الأندلس قرحا على قرح فهرب العادل وركب البحر يروم مراكش وترك بإشبيلية اخاه أبا العلاء إدريس ودخل العادل مراكش بعد خطوب ثم قبض عليه الموحدون وقدموا يحيى بن الناصر صغير السن غير مجرب للأمور فادعى حينئذ الخلافة أبو العلاء إدريس بإشبيلية وبايعه أهل الأندلس ثم بايعه أهل مراكش وهو مقيم بالأندلس فثار على أبي العلاء بالأندلس الأمير المتوكل محمد بن يوسف الجذامي ودعا إلى بني العباس فمال الناس إليه ورجعوا عن أبي العلاء فخرج عن الأندلس أعنى أبا العلاء وترك ماوراء البحر لابن هود ولم يزل أبو العلاء يتحارب مع يحيى ابن الناصر إلى أن قتل يحيى وصفا الأمر لأبي العلاء بالمغرب دون الأندلس ثم مات سنة 630
وبويع ابنه الرشيد وبايعه بعض أهل الأندلس ثم توفي سنة 640
وولي بعده اخوه السعيد وقتل على حصن بينه وبين تلمسان سنة 646
وولي بعده المرتضى عمر بن ابراهيم بن يوسف بن عبدالمؤمن وفي سنة 665 دخل عليه الواثق المعروف بأبي دبوس ففر ثم قبض وسيق إلى الواثق فقتله ثم قتل الواثق بنو مرين سنة 668 وبه انقرضت دولة بني عبدالمؤمن وكانت من أعظم الدول الإسلامية فاستولى بنو مرين على المغرب

ظهور ابن هود وابن الأحمر
وأما المتوكل بن هود فملك معظم الأندلس ثم كثرت عليه الخوارج قريب موته وقتله غدرا وزيره ابن الرميمي بالمرية واغتنم الإفرنج الفرصة بافتراق

الكلمة فاستولوا على كثير مما بقي بأيدي المسلمين من البلاد والحصون
ثم آل الأمر إلى ان ملك بنو الأحمر وخطب بعض أهل الأندلس لأبي زكريا الحفصي صاحب إفريقية وقد سبق الكلام على أكثر المذكور هنا وأعدناه لتناسق الحديث ولما في بعضه من زيادة الفائدة على البعض الآخر وذلك لايخفى على المتأمل وقد بسطنا في الباب الثالث احوال ابن هود وابن الأحمر وغيرهما رحم الله تعالى الجميع

الدولة المرينية
ثم استفحل ملك يعقوب بن عبدالحق صاحب المغرب وحضرة ملك فاس فانتصر به أهل الأندلس على الإفرنج الذين تكالبوا عليهم فاجتاز إلى الأندلس وهزم الإفرنج أشد هزيمة حتى قال بعضهم ما نصر المسلمون من العقاب حتى دخل يعقوب المريني وفتك في بعض غزواته بملك من النصارى يقال له ذوننه ويقال إنه قتل من جيشه أربعين ألفا وهزمهم أشد هزيمة ثم تتابعت غزواته بالأندلس وجوازه للجهاد وكان له من بلاد الأندلس رندة والجزيرة الخضراء وطريف وجبل طارق وغير ذلك وأعز الله تعالى به الدين بعد تمرد الفرنج المعتدين ولما مات ولي بعده ابنه يوسف بن يعقوب ففر إليه الأذفونش ملك النصارى لائذا به وقبل يده ورهن عنده تاجه فاعانه على استرجاع ملكه
ولم يزل ملوك بني مرين يعينون أهل الأندلس بالمال والرجال وتركوا منهم حصة معتبرة من أقارب السلطان بالأندلس غزاة فكانت لهم وقائع في العدو مذكورة ومواقف مشكورة وكان عند ابن الأحمر منهم جماعة بغرناطة وعليهم رئيس من بيت ملك بني مرين يسمونه شيخ الغزاة
ولما أفضى الملك إلى السلطان الكبير الشهير أبي الحسن المريني وخلص له المغرب وبعض بلاد الأندلس أمر بإنشاء الأساطيل الكثيرة برسم الجهاد بالأندلس

واهتم بذلك غاية الاهتمام فقضى الله تعالى أن استولى الإفرنج على كثير من تلك المراكب بعد أخذهم الجزيرة الخضراء وكان الإفرنج جمعوا جموعا كثيرة برسم الاستيلاء على مابقي للمسلمين بالأندلس فاستنفر أهل الأندلس السلطان أبا الحسن المذكور فجاء بنفسه إلى سبتة فرضة المجاز ومحل أساطيل المسلمين فإذا بالإفرنج جاءوا بالسفن التي لا تحصى ومنعوه العبور وإغاثة أهل الأندلس حتى استولوا على الجزيرة الخضراء وأنكوه في مراكبه أعظم نكاية ولله الأمر وقد أفصح عن ذلك كتاب صدر من السلطان أبي الحسن المذكور إلى سلطان مصر والشام والحجاز الملك الصالح ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الصالحي الألفي رحم الله تعالى الجميع
رسالة من أبي الحسن المريني إلى الملك الصالح 745ه
وهذه نسخة الكتاب المذكور الذي خاطب به أمير المسلمين السلطان أبو الحسن المريني المذكور ملك المغرب رحمه الله تعالى السلطان الملك الصالح ابن السلطان الملك الشهير الكبير الناصر محمد بن قلاوون ووصل إلى مصر في النصف وقيل في العشر الأواخر من شعبان المكرم سنة 745 بعد البسملة والصلاة من عند عبدالله أمير المسلمين المجاهد في سبيل الله رب العالمين المنصور بفضل الله المتوكل عليه المعتمد في جميع اموره لديه سلطان البرين حامي العدوتين مؤثر المرابطة والمثاغرة مؤازر حزب الإسلام حق المؤازرة ناصر الاسلام مظاهر دين الملك العلام ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين فخر السلاطين حامي حوزة الدين ملك البرين إمام العدوتين ممهد البلاد مبدد شمل الأعاد مجند الجنود المنصور الرايات والبنود محط الرحال مبلغ الآمال أبي سعيد ابن مولانا أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين حسنة الأيام حسام الإسلام أبي الأملاك شجا أهل العناد والإشراك مانع البلاد رافع علم الجهاد

مدوخ أقطار الكفار مصرخ من ناداه للانتصار القائم لله باعلاء دين الحق أبي يوسف يعقوب بن عبدالحق أخلص الله لوجهه جهاده ويسر في قهر عداة الدين مراده
إلى محل ولدنا الذي طلع في أفق العلاء بدرا تما وصدع بانواع الفخار فجلا ظلاما وظلما وجمع شمل المملكة الناصرية فأعلى منها علما وأحيا لها رسما حائط الحرمين القائم بحفظ القبلتين باسط الأمان قابض كف العدوان الجزيل النوال الكفيل تامينه بحياطة النفوس والأموال قطب المجد وسماكه حب الحمد وملاكه السلطان الجليل الرفيع الأصيل الحافل العادل الفاضل الكامل الشهير الخطير الأضخم الأفخم المعان المؤزر المؤيد المظفر الملك الصالح ابو الوليد إسماعيل ابن محل أخينا الشهير علاؤه المستطير في الآفاق ثناؤه زين الأيام والليال كمال عين إنسان المجد وإنسان عين الكمال وارث الدول النافث بصحيح رأيه في عقود اهل الملل والنحل حامي القبلتين بعدله وحسامه النامي في حفظ الحرمين أجر اضطلاعه بذلك وقيامه هازم أحزاب المعاندين وجيوشها هادم الكنائس والبيع فهي خاوية على عروشها السلطان الأجل الهمام الأحفل الأفخم الأضخم الفاضل العادل الشهير الكبير الرفيع الخطير المجاهد المرابط المقسط عدله في الجائر والقاسط المؤيد المظفر المنعم المقدس المطهر زين السلاطين ناصر الدنيا والدين أبي المعالي محمد ابن الملك الأرضى الهمام الأمضى والد السلاطين الأخيار عاقد لواء النصر في قهر الأرمن والفرنج والتتار ومحيي رسوم الجهاد معلي كلمة الإسلام في البلاد جمال الأيام ثمال الأعلام فاتح الأقالم صالح ملوك عصره المتقادم الإمام المؤيد المنصور المسدد قسيم أمير المؤمنين فيما تقلد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون مكن الله له تمكين اوليائه ونمى دولته التى أطلعها السعد شمسا في سمائه وأحسن إيزاغه للشكر أن جعله وارث آبائه

سلام كريم يفوح زهر الربى مسراه وينافح نسيم الصبا مجراه يصحبه رضوان يدوم مادامت تقل الفلك حركاته ويتولاه روح وريحان تحييه به رحمة الله وبركاته اما بعد حمد الله مالك الملك جاعل العاقبة للتقوى صدعا باليقين ودفعا للشك وخاذل من أسر في النفاق النجوى فأصر على الدخن والإفك على سيدنا محمد رسوله الذي محا بانوار الهدى ظلم الشرك ونبيه الذي ختم به الأنبياء وهو واسطة ذلك السلك ودحا به حجة الحق فمادت بالكفرة محمولة الأفلاك وماجت بهم حاملة الفلك والرضى عن آله وصحبه الذين سلكوا سبيل هداه فسلك في قلوبهم أجمل السلك وملكوا أعنة هواهم فلزموا من محجة الصواب أنجح السلك وصابروا في جهاد الأعداء فزاد خلوصهم مع الابتلاء والذهب يزيد خلوصا على السبك والدعاء لأولياء الإسلام وحماته الأعلام بنصر لمضائه في العدا أعظم الفتك ويسر بقضائه درك آمال الظهور وأحفل بذلك الدرك فكتبناه إليكم كتب الله لكم رسوخ القدم وسبوغ النعم من حضرتنا بمدينة فاس المحروسة وصنع الله سبحانه يعرف مذاهب الألطاف ويكيف مواهب تلهج الألسنة في القصور عن شكرها بالاعتراف ويصرف من أمره العظيم وقضائه المتلقى بالتسليم ما يتكون بين النون والكاف ومكانكم العتيد سلطانه وسلطانكم المجيد مكانه وولاؤكم الصحيح برهانه وعلاؤكم الفسيح في مجال الجلال ميدانه وإلى هذا زاد الله سلطانكم تمكينا وأفاد مقامكم تحصينا وتحسينا وسلك بكم من سنن من خلفتموه سبيلا مبينا فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى ومهدته الرسائل التى على الصفاء تطوى بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدسه وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه من مواخاة احكمت منها العهود تالية الكتب والفاتحة وحفظ عليها محكم الإخلاص معوذتاها المحبة والنية الصالحة فانعقدت على التقوى والرضوان واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان حتى استحكمت وصلة الولاء والتأمت كلحمة النسب لحمة

الإخاء فما كان إلا وشيكا من الزمان ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ورد وارد رنق المشارب وحقق قول ومن يسأل الركبان عن كل غائب أنبأ باستئثار الله تعالى بنفسه الزكية وإكنان درته السنية وانقلابه إلى ما أعد له من المنازل الرضوانية بجليل ما وقر لفقده في الصدور وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور حنانا للإسلام بتلك الأقطار وإشفاقا من أن يعتور قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار ومساهمة في مصاب الملك الكريم والولي الحميم ثم عميت الأخبار وطويت طي السجل الآثارفلم نر مخبرا صدقا ولا معلما بمن استقر له ذلكم الملك حقا
وفي أثناء ذلك أحفزنا للحركة عن حضرتنا استصراخ اهل الأندلس وسلطانها وتواتر الأخبار بأن النصارى اجمعوا على خراب أوطانها ونحن أثناء ذلكم الشان نستخبر الوراد من تلكم البلدان عما اجلى عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان فبعد لأي وقعنا منها على الخبير وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه وتداركه الله تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه فأطفأ بكم نار الفتنة واخمدها وأبرأ من أدواء النفاق ما أعل البلاد وأفسدها فقام سبيل الحج سابلا وتعبد طريقه لمن جاء قاصدا وقافلا ولما احتفت بهذا الخبر القرائن وتواتر بنقل الحاضر له والمعاين أثار حفظ الاعتقاد البواعث والود الصحيح تجره حقا الموارث فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار الجامعة بين الخبر والاستخبار الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه وتحل عرى الاصطبار بموته ولات حين اوانه لكن الصبر أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين ومثلكم من لايخف وقاره ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره ومن خلفكم فما مات ذكره ومن

قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئا بما من الأجر اكتسب وصار حميدا إلى خير المنقلب ووفد من كرم الله على أفضل ما منح موقنا ووهب فقد ارتضاكم الله بعده لحياطة أرضه المقدسة وحماية زوار بيته مقيلة أو معرسة ونحن بعد بسط هذه التعزية نهنيكم بما يخولكم الله أجمل التهنية وفي ذات الله الإيراد والإصدار وفي مرضاته سبحانه الإضمار والإظهار فاستقبلوا دولة ألقى العز عليها رواقه وعقد الظهور عليها نطاقه وأعطاها أمان الزمان عقده وميثاقه ونحن على ما عاهدنا عليه الملك الناصر رضوان الله عليه من عهود موثقة وموالاة محققة وثناء كمائمه عن أذكى من الزهر غب القطر مفتقة
ولم يغب عنكم ماكان من بعثنا المصحفين الأكرمين اللذين خطتهما منا اليمين وأوت بهما الرغبة من الحرمين الشريفين إلى قرار مكين وإنه كان لوالدكم الملك الناصر تولاه الله برضوانه واورده موارد إحسانه في ذلكم من الفعل الجميل والصنع الجليل ما ناسب مكانه الرفيع وشاكله فضله من البر الذي لا يضيع حتى طبق فعله الآفاق ذكرا وطوق أعناق الوراد والقصاد برا وكان من اجمل ما به تحفى واتحف وأعظم ما بعرفه إلى رضى الملك العلام في ذلك تعرف إذنه للمتوجهين إذ ذاك في شراء رباع توقف على المصحفين ورسم المراسم المباركة بتحرير ذلك الوقف مع اختلاف الجديدين فجرت أحوال القراء فيهما بذلك الخراج المستفاد ريثما يصلحهم من خراج ما وقفناه عليهم بهذه البلاد على ما رسمه رحمة الله عليه من عناية بهم متصلة واحترام في تلك الأوقاف فوائدها به متوفرة متحصلة وقد أمرنا مؤدي هذا لكمالكم وموفده على جلالكم كاتبنا الأسني الفقيه الأجل الأحظى الأكمل أبا المجد ابن كاتبنا الشيخ الفقيه الأجل الحاج الأتقى الأرضى الأفضل الأحظى الأكمل المرحوم أبي عبدالله ابن أبي مدين حفظ الله عليه رتبته ويسر في قصد

البيت الحرام بغيته بان يتفقد أحوال تلك الأوقاف ويتعرف تصرف الناظر عليها وما فعله من سداد وإسراف وأن يتخير لها من يرتضى لذلك ويحمد تصرفه فيما هنالك وخاطبنا سلطانكم في هذا الشأن جريا على الود الثابت الأركان وإعلاما بما لوالدكم رحمه الله تعالى في ذلك من الأفعال الحسان وكمالكم يقتضي تخليد ذلكم البر الجميل وتجديد عمل ذلكم الملك الجليل وتشييد ما اشتمل عليه من الشكر الأصيل والأجر الجزيل والتقدم بالإذن السلطاني في إعانة هذا الوفد بهذا الكتاب على ما يتوخاه في ذلك الشأن من طرق الصواب وثناؤنا عليكم الثناء الذي يفاوح زهر الربى ويطارح نغم حمام الأيك مطربا
وبحسب المصافاة ومقتضى الموالاة نشرح لكم المتزايدات بهذه الجهات وننبئكم بموجب إبطاء هذا الخطاب على ذلكم الجناب وذلك انه لما وصلنا من الأندلس الصريخ ونادى مناد للجهاد عزما لمثل ندائه يصيخ أنبأنا أن الكفار قد جمعوا أحزابهم من كل صوب وحتم عليهم باباهم اللعين التناصر من كل أوب وان تقصد طوائفهم البلاد الأندلسية بإيجافها وتنقص بالمنازلة أرضها من أطرافها ليمحوا كلمة الإسلام منها ويقلصوا ظل الإيمان عنها فقدمنا من يشتغل بالأساطيل من القواد وسرنا على إثرهم إلى سبتة منتهى المغرب الأقصى وباب الجهاد فما وصلناها إلا وقد أخذ أخذه العدو الكفور وسدت أجفان الطواغيت على التعاون مجاز العبور واتوا من أجفانهم بما لا يحصى عددا وأرصدوها بمجمع البحر حيث المجاز إلى دفع العدا وتقلصوا عن الانبساط في البلاد واجتمعوا إلى الجزيرة الخضراء أعادها الله بكل من جمعوه من الأعاد لكنا مع انسداد تلك السبيل وعدم أمور نستعين بها في ذلكم العمل الجليل حاولنا إمداد تلكم البلاد بحسب الجهد وأصرخناهم بمن أمكن من الجند وجهزنا أجفانا مختلسين فرصة الإجازة تتردد على خطر بمن جهز للجهاد جهازه وأمرنا لصاحب الأندلس من المال بما يجهز به حركته

لمداناة محلة حزب الضلال وأجرينا له و لجيشه العطاء الجزل مشاهرة وأرضخنا لهم في النوال ما نرجو به ثواب الآخرة وجعلت أجفاننا تتردد في ميناء السواحل وتلج أبواب الخوف العاجل لإحراز الأمن الآجل مشحونة بالعدد الموفورة والأبطال المشهورة والخيل المسومة والأقوات المقومة فمن ناج حارب دونه الأجل وشهيد مضى لما عند الله عز و جل ومازالت الأجفان تتردد على ذلك الخطر حتى تلف منها سبع وستون قطعة غزوية أجرها عند الله يدخر ثم لم نقنع بهذا العمل في الأمداد فبعثنا أحد أولادنا أسعدهم الله تعالى مساهمة به لأهل تلك البلاد فلقي من هول البحر وارتجاجه وإلحاح العدو ولجاجه مابه الأمثال تضرب وبمثله يتحدث ويستغرب ولما خلص لتلك العدوة بمن أبقته الشدائد نزل بإزاء الكافر الجاحد حتى كان منه بفرسخين أو أدنى وقد ضرب بعطن يصابح العدو ويماسيه بحرب بها يمنى
وقد كان من مددنا بالجزيرة جيش شريت شرارته وقويت في الحرب إدارته يبلون البلاد الأصدق ولا يبالون بالعدو وهم منه كالشامة البيضاء في البعير الأورق إلا أن المطاولة بحصرها في البحر مدة ثلاثة أعوام ونصف ومنازلتها في البر نحو عامين معقودا عليها الصف بالصف أدى إلى فناء الأقوات بالبلد حتى لم يبق لأهله قوت نصف شهر مع انقطاع المدد وبه من الخلق مايربي على عشرة آلاف دون الحرم والولد فكتب إلينا سلطان الأندلس يرغب في الإذن له في عقد الصلح ووقع الاتفاق على انه لاستخلاص المسلمين من وجوه النجح فأذنا له فيه الإذن العام إذ في إصراخه وإصراخ من بقطره من المسلمين توخينا ذلك المرام هنالك دعي النصارى إلى السلم فاستجابوا وقد كانوا علموا فناء القوت وما استرابوا فتم الصلح إلى عشر سنين وخرج من بها من فرسان ورجال وأهل وبنين ولم يرزأوا مالا ولا عدة ولا لقوا في خروجهم غير النزوع عن أول أرض مس الجلد ترابها شدة ووصلوا إلينا فأجزلنا لهم العطاء وأسليناهم عما جرى بالحباء فمن خيل تزيد على الألف

عتاقها وخلع تربي على عشرة آلاف أطواقها واموال عمت الغني والفقير ورعاية شملت الجميع بالعيش النضير وكف الله ضر الطواغيت عما عداها وما انقلبوا بغير مدرة عفا رسمها وصم صداها
وقد كان من لطف الله حين قضى باخذ هذا الثغر ان قدر لنا فتح جبل طارق من أيدي الكفر وهو المطل على هذه المدرة والفرصة منها إن شاء الله متيسرة حتى يفرق عقد الكفار ويفرج بهذه الجهة منهم مجاورو هذه الأقطار فلولا إجلابهم من كل جانب وكونهم سدوا مسلك العبور بما لجميعهم من الأجفان والمراكب لما بالينا بإصعاقهم ولحللنا بعون الله عقد اتفاقهم ولكن للموانع أحكام ولاراد لما جرت به الأقلام وقد أمرنا لذلك الثغر بمزيد المدد وتخيرنا له ولسائر تلك البلاد العدد والعدد وعدنا لحضرتنا فاس لتستريح الجيوش من وعثاء السفر وترتبط الجياد وتنتخب العدد لوقت الظهور المنتظر وتكون على أهبة الجهاد وعلى مرقبة الفرصة عند تمكنها في الأعاد
وعند عودنا من تلك المحاولة تيسر الركب الحجازي موجها إلى هنالكم رواحله فأصدرنا إليكم هذا الخطاب إصدار الود الخالص والحب اللباب وعندنا لكم ماعند أحنى الآباء واعتقادنا فيكم في ذات الله لا يخشى جديده من البلاء وما لكم من غرض بهذه الأنحاء فموفى قصده على أكمل الأهواء موالى تتميمه على أجمل الآراء والبلاد باتحاد الود متحدة والقلوب والأيدي على ما فيه مرضاة الله عز و جل منعقدة جعل الله ذلكم خالصا لرب العباد مدخورا ليوم التناد مسطورا في الأعمال الصالحة يوم المعاد بمنه وفضله وهو سبحانه وتعالى يصل إليكم سعدا تتفاخر به سعود الكواكب

وتتضافر على الانقياد له صدور المواكب وتتقاصر عن نيل مجده متطاولات المناكب والسلام الأتم يخصكم كثيرا أثيرا ورحمة الله وبركاته وكتب في يوم الخميس السادس والعشرين لشهر صفر المبارك من عام خمسة وأربعين وسبعمائة وصورة العلامة وكتب في التاريخ المؤرخ

جواب الملك الصالح من إنشاء الصفدي
ونسخة الجواب عن ذلك من إنشاء خليل الصفدي شارح لامية العجم في سادس شهر رمضان سنة خمس وأربعين وسبعمائة بعد البسملة في قطع النصف بقلم الثلث عبدالله ووليه صورة العلامة ولده إسماعيل بن محمد السلطان الممالك الصالح السيد العالم العادل المؤيد المجاهد المرابط المثاغر المظفر المنصور عماد الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين محيي العدل في العالمين منصف المظلومين من الظالمين وارث الملك ملك العرب والعجم والترك فاتح الأقطار واهب الملك والأمصار إسكندر الزمان مملك أصحاب المنابر والأسرة والتخوت والتيجان ظل الله في أرضه القائم بسنته وفرضه مالك البحرين خادم الحرمين الشريفين سيد الملوك والسلاطين جامع كلمة الموحدين ولي أمير المؤمنين أبو الفداء إسماعيل ابن السلطان الشهيد السعيد الملك الناصر ناصر الدنيا والدين أبي الفتح محمد ابن السلطان الشهيد السعيد الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون خلد الله تعالى سلطانه وجعل الملائكة أنصاره وأعوانه يخص المقام العالي الملك الأجل الكبير المجاهد المؤيد المرابط المثاغر المعظم المكرم المظفر المعمر الأسعد الأصعد الأوحد الأمجد الأنجد السني السري المنصور أبا الحسن على ابن أمير المسلمين أبي سعيد ابن أمير المسلمين أبي يوسف

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24