كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

( فدع شهوات النفس عنك بمعزل ... فعذب الليالي مقتضاه عذاب )
( وسل فؤادا عن رباب وزينب ... فما القصد منها زينب ورباب )
( وأنوي متابا ثم أنقض نيتي ... فربع صلاحي بالفساد خراب )
( أقر بتقصيري وأطمع في الرضى ... وما القصد إلا مرجع ومتاب )
( ويعتبني في العجز خل وصاحب ... وهل نافع في الجامدات عتاب )
( أطهر أثوابي وقلبي مدنس ... وأزعم صدقا والمقال كذاب )
( وفارقت من غرب البلاد مواطنا ... فسقى ربي غرب البلاد سحاب )
( فبالقلب من نار التشوق حرقة ... وبالعين من فيض الدموع عباب )
( وما بلغ المملوك قصدا ولا منى ... ولا حط عن وجه المراد نقاب )
( وأخشى سهام الموت تفجأ غفلة ... وما سار بي نحو الرسول ركاب )
( وقلبي معمور بحب محمد ... فمالي في غير الحجاز طلاب )
( يحن إلى أوطانه كل مسلم ... فقدس منها منزل وجناب )
( فأسعد أيامي إذا قيل هذه ... منازل من وادي الحمى وقباب )
( فجسمي في مصر وروحي بطيبة ... فللروح عن جسمي هناك مناب )
( على مثل هذا العجز والعمر منقض ... تشق قلوب لا تشق ثياب )
( وأرجو ثوابا بامتداحي محمدا ... وما كل مثن في الزمان يثاب )
( به أخمدت من قبل نيران فارس ... وحقق من ظبي الفلاة خطاب )
( وكم قد سقى من كفه الجيش فارتووا ... وكم قد شفى منه العيون رضاب )
( أجيب لما يختار في حضرة العلا ... وما كل خلق حيث قال يجاب )
( فلم تلهه دنياه عن خوف ربه ... ولا شغلته عن رضاه كعاب )
( محمد المختار أعلى الورى ندى ... وأكرم مبعوث أتاه كتاب )
( أتحسب أن تحصى بعد صفاته ... وهيهات ما يحصي علاه حساب )
( ثناء رسول الله خير ذخيرة ... وقد ذل جبار وخيف عقاب )
( وقد نصب الميزان والله حاكم ... وذلت لأحكام الإله رقاب )

( فكل ثناء واجب لصفاته ... فما مدح مخلوق سواه صواب )
( إليك رسول الله أنهي مدائحي ... وإن رجائي راحة وثواب )
( إذا قيل من تعني بمدحك كله ... فأنت إذا خبرت عنه جواب )
( فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب )
( فأنت أجل العالمين مكانة ... وأكرم مدفون حواه تراب )
وله يرثي العز بن عبد السلام
( أمد الحياة كما علمت قصير ... وعليك نقاد بها وبصير )
( عجبا لمغتر بدار فنائه ... وله إلى دار البقاء مصير )
( فسليمها للنائبات معرض ... وعزيزها بيد الردى مقهور )
( أيظن أن العمر ممدود له ... والعمر فيه على الردى مقصور )
وهي طويلة ولم يحضرني سوى ما ذكرته
237 - ومنهم عبد البر بن فرسان بن إبراهيم بن عبد الرحمن الغساني الوادي آشي أبو محمد وله أخبار كثيرة في الحماسة وعلو الهمة
ومن نظمه لما تعمم مخدومه ابن غانية بعمامة بيضاء ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء
( فديتك بالنفس التي قد ملكتها ... بما أنت موليها من الكرم الغض )
( ترديت للحسن الحقيقي بهجة ... فصار لها الكلي في ذاك كالبعض )
( ولما تلالا نور غرتك التي ... تقسم في طول البلاد وفي عرض )

( تلفعتها خضراء أحسن ناظر ... نبت عنك إجلالا وذاك من الفرض )
( وأسدلت حمراء الملابس فوقها ... بمفرق تاج المجد والشرف المحض )
( فأصبحت بدرا طالعا في غمامة ... على شفق دان إلى خضرة الأرض )
وقال رحمه الله تعالى
( أجبنا ورمحي ناصري وحسامي ... وعجزا وعزمي قائدي وإمامي )
( ولي منك بطاش اليدين غضنفر ... يحارب عن أشباله ويحامي )
وقال رحمه الله تعالى لما أسن يستأذن مخدومه في الحج والزيارة
( امنن بتسريح علي فعله ... سبب الزيارة للحطيم ويثرب )
( ولئن تقول كاشح أن الهوى ... درست معالمه وأنكر مذهبي )
( فمقالتي ما إن مللت وإنما ... عمري أبى حمل النجاد ومنكبي )
( وعجزت عن أن أستثير كمينها ... وأشق بالصمصام صدر الموكب )
وقال رحمه الله تعالى ولا خفاء ببراعته
( ندى مخضلا ذاك الجناح المنمنما ... وسقيا وإن لم تشك يا ساجعا ظما )
( أعدهن ألحانا على سمع معرب ... يطارح مرتاحا على القضب معجما )
( وطر غير مقصوص الجناح مرفها ... مسوغ أشتات الحبوب منعما )
( مخلى وأفراخا بوكرك نوما ... ألا ليت أفراخي معي كن نوما )
وقال رحمه الله تعالى

( كفى حزنا أن الرماح صقيلة ... وأن الشبا رهن الصدى بدمائه )
( وأن بياذيق الجوانب فرزنت ... ولم يعد رخ الدست بيت بنائه )
وكان - رحمه الله تعالى - من جلة الأدباء وفحول الشعراء وبرعة الكتاب كتب عن ابن غانية الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن محمد بن علي المسوفي الميرقي الثائر على منصور بني عبد المؤمن ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم وكان منقطعا إليه وممن صحبه في حركاته وكان آية في بعد الهمة والذهاب بنفسه والغناء في مواقف الحرب والجنسية علة الضم إذ ابن غانية كان غاية في ذلك أيضا ووجهه الميرقي المذكور عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق وقد طال العراك وكاد الناس ينفصلون عن الحرب [ إلى أن يباكروها من الغد فلما بلغ الصدر اشتد على الناس ] وذمر أرباب الحفيظة وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة فانهزم عدوهم شر هزيمة ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة فقال له الأمير وما حملك على ما صنعت فقال الذي عملت 13 هو شأني وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحه فانظر غيري
وتشاجر له ولد صغير مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا فنال منه ولد الأمير وقال وما قدر أبيك فلما بلغ ذلك أباه خرج مغضبا لحينه ولقي ولد الأمير المخاطب لولده فقال حفظك الله تعالى لست أشك في أني خديم أبيك ولكني أحب أن أعرفك بنفسي ومقداري ومقدار أبيك اعلم أن أباك وجهني رسولا إلى دار الخلافة ببغداد بكتاب عن نفسه فلما بلغت بغداد أنزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر وأجري على سبعة دراهم في

اليوم وطولع بكتابي وقيل من الميرقي الذي وجهه فقال بعض الحاضرين هو رجل مغربي ثائر على أستاذه فأقمت شهرا ثم استدعيت فلما دخلت دار الخلافة وتكلمت مع من بها من الفضلاء وأرباب المعارف والآداب اعتذروا إلي وقالوا للخليفة هذا رجل جهل مقداره فأعدت إلى محل اكتري لي بسبعين درهما وأجري علي مثلها في اليوم ثم استدعيت فودعت الخليفة واقتضيت ما تيسر من حوائجه وصدر لي شيء له حظ من صلته وانصرفت إلى أبيك فالمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار والثانية كانت على قدري وترجمته رحمه الله تعالى متسعة
238 - ومنهم عبد المنعم بن عمر الغساني الوادي آشي المؤلف الرحالة المتجول ببلاد المشرق سائحا صاحب المؤلفات الكثيرة التي منها جامع أنماط السائل في العروض والخطب والرسائل
ومن نظمه قوله رحمه الله
( ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت ... فما أكثر الغرقى على الجنبات )
( وأكثر من لاقيت يغرق إلفه ... وقل فتى ينجي من الغمرات )
توفي سنة 603 رحمه الله تعالى
239 - ومنهم أبو العباس أحمد بن مسعود بن محمد القرطبي الخزرجي كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب وله تآليف حسان وشعر رائق فمنه قوله رحمه الله تعالى

( وفي الوجنات ما في الروض لكن ... لرونق زهرها معنى عجيب )
( وأعجب ما التعجب عنه أني ... أرى البستان يحمله قضيب )
وتوفي رحمه الله تعالى سنة 601
240 - ومنهم أبو العباس القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم وهو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر الأنصاري المالكي الفقيه المحدث المدرس الشاهد بالإسكندرية
ولد بقرطبة سنة 578 وسمع الكثير هنالك ثم انتقل إلى المشرق واشتهر وطار صيته وأخذ الناس عنه وانتفعوا بكتبه وقدم مصر وحدث بها واختصر الصحيحين وكان بارعا في الفقه والعربية عارفا بالحديث وممن أخذ عنه القرطبي صاحب التذكرة ومن تصانيفه رحمه الله تعالى المفهم في شرح مسلم وهو من أجل الكتب ويكفيه شرفا اعتماد الإمام النووي رحمه الله تعالى عليه في كثير من المواضع وفيه أشياء حسنة مفيدة ومنها اختصاره للصحيحين كما مر وله غير ذلك وتوفي رحمه الله تعالى بالإسكندرية رابع ذي القعدة سنة 656 وكان يعرف في بلاده بابن المزين وله كتاب كشف القناع عن الوجد والسماع أجاد فيه وأحسن وكان يشتغل أولا بالمعقول وله اقتدار على توجيه المعاني بالاحتمال
قال الشيخ شرف الدين الدمياطي أخذت عنه وأجاز لي مصنفاته رحمه الله تعالى وحدث بالإسكندرية وغيرها وصنف غير ما ذكرناه وكان إماما عالما جامعا لمعرفة الحديث والفقه والعربية وغيرها

241 - ومنهم العارف الكبير الولي الصالح الشهير أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيد بونة الخزاعي الأندلسي أحد الأعلام المنقطعين المقربين أولي الهداية كان - رضي الله تعالى عنه ونفعنا به - كثير الأتباع بعيد الصيت فذا شهيرا
قال الحافظ ابن الزبير هو أحد الأعلام المشاهير فضلا وصلاحا قرأ ببلنسية وتفقه وحفظ نصف المدونة وأقرأها وكان يؤثر التفسير والحديث والفقه على غيرها أخذ عن أبوي الحسن بن النعمة وابن هذيل وحج ولقي في رحلته من الأندلس جلة أكبرهم الولي الكبير سيد أبو مدين شعيب أفاض الله تعالى علينا من أنواره وانتفع به ورجع عنه بعجائب فشهر بالعبادة وتبرك الناس به فظهرت عليه بركته توفي رحمه الله تعالى في شوال سنة 624 وعاش نيفا وثمانين سنة
وله ترجمة في الإحاطة ملخصها ما ذكرناه
242 - ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب الخزرجي الأنصاري الشاطبي الفقيه القاضي الصدر المتفنن المحصل المجيد له علم محكم وعقد صحيح مبرم رحل إلى المشرق وحج وكانت رحلته بعد تحصيله فزاد فضلا إلى فضل ونبلا إلى نبل وكان متثبتا في فقهه لا يستحضر من النقل الكثير ولكنه يستحضر ما يحتاج إليه وكان له علم بالعربية وأصول الفقه ومشاركة في أصول الدين له شرح على الجزولية وكان أبوه قاضيا وبيتهم بيت قضاء وعلم وسؤدد متوارث ومجد مكسوب ومنسوب ثم ولي قضاء بجاية فكان في قضائه على سنن الفضلاء وطريق الأولياء العقلاء بالحق مع

الصدق معارضا للولاة وكان يرى أن لا يقدم الشهود إلا عند الحاجة وأما إن حصل من تحصل به الكفاية فلا يقدم غيره ويرى أن الكثرة مفسدة وقد طلب منه الملك أن يقدم رجلا من أهل بجاية فقال له مشافهة إن شئتم قدمتموه وأخرتموني وكان إذا جرى الأمر في مجرى الشهادة وما قاله القاضي ابن العربي أبو بكر وغيره من أنها قبول قول الغير على الغير بغير دليل يرى أن هذا من الأمر العظيم الذي لا يليق أن يمكن منه إلا الآحاد الذين تبين فضلهم في الوجود وكان يرى أن جنايات الشاهد إنما هي في صحيفة من يقدمه من باب قوله عليه الصلاة و السلام " من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة " وقد سئل من أولياء الله فقال شهود القاضي لأنهم لا يأتون كبيرة ولا يواظبون على صغيرة وإن كانت الشهادة على هذه الصفة فلا شيء أجل منها وإن كانت خطة لا صفة فلا شيء أخس منها ولما كانت واقعة بني مرين بطنجة عرض عليه أهلها أن يتقدم وأن يبايعوه فقال والله لا أفسد ديني
ولما توفي عجز القاضي الذي تولى بعده عن سلوك منحاه واقتفاء سننه الذي اقتفاه قال هذا كله بمعناه وبعضه بحروفه الغبريني في عنوان الدراية في علماء بجاية
243 - ومنهم محمد بن يحيى الأندلسي اللبسي - بلام فموحدة فسين - قاضي القضاة أخذ عن الحافظ ابن حجر ونوه به عند الأشرف حتى ولاه قضاء المالكية بحماة وسار سيرة السلف الصالح ثم حنق على نائبها في بعض الأمور وسافر إلى حلب مظهرا إرادة السماع على حافظها البرهان
ووصفه ابن حجر في بعض مجاميعه بقوله الشيخ الإمام العالم العلامة في الفنون قاضي الجماعة
وقال إنه إنسان حسن إمام في علوم منها الفقه

والنحو وأصول الدين يستحضر علوما كأنها بين عينيه ووصفه أيضا بعلامة دهره وخلاصة عصره وعين زمانه وإنسان أوانه جامع العلوم وفريد كل منثور ومنظوم قاضي القضاة لا زالت رايات الإسلام به منصورة وأعلام الإيمان به منشورة ووجوه الأحكام الشرعية بحسن نظره محبورة ولد سنة 806 وتوفي ببرسا من بلاد الروم أواخر شعبان سنة 884 قاله السخاوي في الضوء اللامع
244 - ومنهم الوزير الشهير أبو عبد الله بن الحكيم الرندي ذو الوزارتين رحل إلى مصر والحجاز والشام وأخذ الحديث عن جماعة وقد ترجمناه في باب مشيخة لسان الدين عند تعرضنا لذكر ابنه الشيخ أبي بكر بن الحكيم ولا بأس أن نزيد هنا ما ليس هنالك فنقول إن من مشايخه برندة الشيخ الأستاذ النحوي أبا الحسن علي بن يوسف العبدري السفاح أخذ عنه العربية وقرأ عليه القرآن بالروايات السبع وأخذ عن الخطيب بها أبي القاسم بن الأيسر وأخذ - رحمه الله تعالى - عن جماعة من أعلام الأندلس وأخذ في رحلته عن الجلة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر فمن شيوخه الحافظ أبو اليمن بن عساكر لقيه بالحرم الشريف وانتفع به وأكثر من الرواية عنه والشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني المعروف بابن هبة الله والشيخ الشرف أبو العباس أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي ابن الإمام الجزائري - جزائر المغرب - نزيل بغداد والشيخ أبو الصفاء خليل بن أبي بكر الحنبلي لقيه بالقاهرة والشيخ رضي الدين أبو بكر القسمطيني والشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث وحافظها ومؤرخها

والشهاب ابن الخيمي قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها
( يا مطلبا ليس لي في غيره أرب ... إليك آل التقصي وانتهى الطلب )
وفيها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه
( يا بارقا بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك الشنب )
والشيخ جمال الدين أبو صادق محمد بن يحيى القرشي ومن تخريجه الأربعون المروية بالأسانيد المصرية وسمع الحلبيات من ابن العماد الحراني والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة ومولده سنة 598 وزينب بنت الإمام أبي محمد عبد اللطيف بن يوسف البغدادي وتكنى أم الفضل وسمعت من أبيها
ومن أشياخ ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور الملك الأوحد يعقوب ابن الملك الناصر صلاح الدين داود بن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب والشيخ عبد الرحمن بن سليمان بن طرخان وأخوه محمد بن سليمان في طائفة كبيرة من مشايخ مصر والشام والعراق وغيرها من البلاد يطول تعدادهم وأخذ ببجاية عن خطيبها أبي عبد الله بن رحيمة الكناني وبتونس عن قاضيها أبي العباس بن الغماز البلنسي وأخذ العربية عن قدوة النحاة أبي الحسين عبد الله بن أحمد بن عبيد الله بن أبي الربيع القرشي
ومن شعر ذي الوزارتين ابن الحكيم المذكور قوله
( هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال )
( حالة يسري بها الوهم إلى ... أنها تثبت برءا باعتلال )
( وليال ما تبقى بعدها ... غير أشواقي إلى تلك الليالي )

( إذ مجال الوصل فيها مسرحي ... ونعيمي آمر فيها ووال )
( ولحالات التراضي جولة ... مرحت بين قبول واقتبال )
( فبوادي الخيف خوفي مسعد ... وبأكناف منى أسنى موال )
( لست أنسى الأنس فيها أبدا ... لا ولا بالعذل في ذاك أبالي )
( وغزال قد بدا لي وجهه ... فرأيت البدر في حال الكمال )
( ما أمال التيه من أعطافه ... لم يكن إلا على خصل اعتدال )
( خص بالحسن فما أنت ترى ... بعده للناس حظا في الجمال )
( من تسلى عن هواه فأنا ... بسواه عن هواه غير سال )
( فلئن أتعبني حبي له ... فلكم نلت به أنعم حال )
( إذ لآلي جيده من قبلي ... ووشاحاه يميني وشمالي )
( خلف النوم لي السهد به ... وترامى الشخص لا طيف الخيال )
( فتداوى بلماه ظمإي ... مزجك الصهباء بالماء الزلال )
( أو إشادات بناء الملك الأوحد ... الأسمى الهمام المتعالي )
( ملك إن قلت فيه ملكا ... لم تكن إلا محقا في المقال )
( أيد الإسلام بالعدل فما ... إن ترى رسما لأصحاب الضلال )
( ذو أياد شملت كل الورى ... ومعال يا لها خير معال )
( همة هامت بأحوال التقى ... وصفات بالجلالات حوال )
( وقف النفس على إجهادها ... بين صوم وصلاة ونوال )
وهي طويلة ومنها
( أيها المولى الذي نعماؤه ... أعجزت عن شكرها كنه المقال )

( ها أنا أنشدكم مهنئا ... من بديع النظم بالسحر الحلال )
( فأنا العبد الذي حبكم ... لم يزل والله في قلبي وبالي )
( أورقت روضة آمالي بكم ... مذ تولاها الرباب المتوالي )
( واقتنيت الجاه من خدمتكم ... فهي ما أذخره من كنز مال )
( ومنها يا أمير المسلمين هذه خدمتي ... تنبيء عن صادق حال )
( هي بنت ساعة أو ليلة ... سهلت بالحب في ذاك الجلال )
( ما عليها إذ أجادت مدحها ... من بعيد الفهم يلغيها وقال )
( فهي في تأدية الشكر لكم ... أبدا بين احتفاء واحتفال )
وكتب رحمه الله تعالى يخاطب أهله من مدينة تونس
( حي حيي بالله يا ريح نجد ... وتحمل عظيم شوقي ووجدي )
( وإذا ما بثثت حالي فبلغ ... من سلامي لهم على قدر ودي )
( ما تناسيتهم وهل في مغيبي ... قد نسوني على تطاول بعدي )
( بي شوق إليهم ليس يعزى ... لجميل ولا لسكان نجد )
( يا نسيم الصبا إذا جئت قوما ... ملئت أرضهم بشيح ورند )
( فتلطف عند المرور عليهم ... وحقوقا لهم علي فأد )
( قل لهم قد غدوت من وجدهم في ... حال شوق لكل رند وزند )
( وإن استفسروا حديثي فإني ... باعتناء الإله بلغت قصدي )

( فله الحمد إن حباني بلطف ... عنده قل كل شكر وحمد )
وافتتح مخاطبته لأخيه الأكبر أبي إسحاق إبراهيم بقصيدة أولها
( ذكر اللوى شوقا إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من تذكاره )
( وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناته بشراره )
( لو كنت تبصر خطه في خده ... لقرأت سر الوجد من أسطاره )
( يا عاذليه أقصروا فلشد ما ... أفضى عتابكم إلى إضراره )
( إن لم تعينوه على برحائه ... لا تنكروا بالله خلع عذاره )
( ما كان أكتمه لأسرار الهوى ... لو أن جند الصبر من أنصاره )
( ما ذنبه والبين قطع قلبه ... أسفا وأذكى النار في أعشاره )
( بخل اللوى بالساكنيه وطيفهم ... وحديثه ونسيمه ومزاره )
( يا برق خذ دمعي وعرج باللوى ... فاسفحه في باناته وعراره )
( وإذا لقيت بها الذي بإخائه ... ألقى خطوب الدهر أو بجواره )
( فاقر السلام عليه قدر محبتي ... فيه وترفيعي إلى مقداره )
( والمم بسائر إخوتي وقرابتي ... من لم أكن لجوارهم بالكاره )
( ما منهم إلا أخ أو سيد ... أبدا أرى دأبي على إكباره )
( فابثث لذاك الحي أن أخاهم ... في حفظ عهدهم على استبصاره )
وقال رحمه الله تعالى في غرض كلفه سلطانه القول فيه
( ألا واصل مواصلة العقار ... ودع عنك التخلق بالوقار )

( وقم واخلع عذارك في غزال ... يحق لمثله خلع العذار )
( قضيب مائس من فوق دعص ... تعمم بالدجى فوق النهار )
( ولاح بخده ألف ولام ... فصار معرفا بين الدراري )
( رماني قاسم والسين صاد ... بأشفار تنوب عن الشفار )
( وقد قسمت محاسن وجنتيه ... على ضدين من ماء ونار )
( فذاك الماء من دمعي عليه ... وتلك النار من فرط استعاري )
( عجبت له أقام بربع قلبي ... على ما شب فيه من الأوار )
( ألفت الحب حتى صار طبعا ... فما أحتاج فيه إلى ادكار )
( فما لي عن مذاهبه ذهاب ... وهذا فيه أشعاري شعاري )
وقال العلامة ابن رشيد في ملء العيبة لما قدمنا المدينة سنة 684 كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكيم وكان أرمد فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار وقوي الشوق لقرب المزار فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا لتلك الآثار وإعظاما لمن حل تلك الديار فأحس بالشفاء فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله
( ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا )
( وبالترب منها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا )
( وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أديلت لنا قربا )
( نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيها أن نلم به ركبا )
( نسح سجال الدمع في عرصاتها ... ونلثم من حب لواطئه التربا )
( وإن بقائي دونه لخسارة ... ولو أن كفي تملأ الشرق والغربا )
( فيا عجبا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكتبا )

( وزلات مثلي لا تعدد كثرة ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا )
انتهى وخط الوزير ابن الحكيم في غاية الحسن وقد رأيته مرارا وملكت بعض كتبه ونثره - رحمه الله تعالى - أعلى من شعره كما نبه عليه لسان الدين في الإحاطة
ومن نثره في رسالة طويلة كتبها عن سلطانه ما صورته وقد تقرر عند الخاص والعام من أهل الإسلام واشتهر في آفاق الأقطار اشتهار الصباح في سواد الظلام أنا لم نزل نبذل جهدنا في أن تكون كلمة الله هي العليا ونسمح في ذلك بالنفوس والأموال رجاء ثواب الله لا لعرض الدنيا
وأنا ما قصرنا في الاستنفار والاستنصار ولا أقصرنا عن الاعتضاد بكل من أملنا معاملته والاستظهار ولا اكتفينا بمطولات الرسائل وبنات الأفكار حتى اقتحمنا بنفسنا لجج البحار فسمحنا بالطارف من أموالنا والتلاد وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد واشترينا بما أنعم الله به علينا ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد فلم يكن بين تلبية المدعو وزهده ولا بين قبوله ورده إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد ويأبى الله أن يكل نصرة الإسلام بهذه الجزيرة إلى سواه ولا يجعل فيها شيئا إلا لمن أخلص لوجهه الكريم علانيته ونجواه ولما أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مناويه وبقي المسلمون يتوقعون حادثا ساءت ظنونهم لمباديه ألقينا

إلى الثقة بالله تعالى يد الاستسلام وشمرنا عن ساعد الجد في جهاد عبدة الأصنام وأخذنا بمقتضى قوله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ) [ البقرة195 ] أخذ الاعتزام فأمدنا الله تعالى في ذلك بتوالي البشائر ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قود العساكر ونفلنا على أيدي قوادنا ورجالنا من السبابا والغنائم ما غدا ذكره في الآفاق كالمثل السائر ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) [ إبراهيم34 ] وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر وحين أبدت لنا العناية الربانية وجوه الفتح سافرة المحيا وانتشقنا نسائم النصر الممنوح عبقة الريا استخرنا الله تعالى في الغزو بنفسنا ونعم المستخار وكتبنا بما قد علمتم إلى ما قرب من أعمالنا بالحض على الجهاد والاستنفار وحين وافى من خف للجهاد من الأجناد والمطوعين وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتمعين خرجنا بهم ونصر الله تعالى أهدى دليل وعناية الله تعالى بهذه الفئة المفردة من المسلمين تقضي بتقريب البعيد من آمالنا وتكثير القليل ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادة الرضى والقبول وأن يرشدنا إلى طريق تفضي إلى بلوغ الأمنية والمأمول
وهذه رسالة طويلة سقنا بعضها كالعنوان لسائرها
ونال ابن الحكيم - رحمه الله تعالى ! - من الرياسة والتحكم في الدولة ما صار كالمثل السائر وخدمته العلماء الأكابر كابن خميس وغيره وأفاض عليهم سجال خيره ثم ردت الأيام منه ما وهبت وانقضت أيامه كأن لم تكن وذهبت وقتل يوم خلع سلطانه ومثل به سنة 708 رحمه الله تعالى

وانتهب من أمواله وكتبه وتحفه ما لا يعلم قدره إلا الله تعالى أثابه الله تعالى بهذه الشهادة بجاه نبينا محمد وشرف وكرم ومجد وعظم
245 - ومن المرتحلين من الأندلس إلى المشرق الحافظ نجيب الدين أبو محمد عبد العزيز بن الأمير القائد أبي علي الحسن بن عبد العزيز بن هلال اللخمي الأندلسي ولد سنة 577 تقريبا ورحل فسمع بمكة من زاهر بن رستم وببغداد من أبي بكر أحمد بن سكينة وابن طبرزد وطائفة وبواسط من أبي الفتح بن المنداني وبأصبهان من عين الشمس الثقفية وجماعة وبخراسان من المؤيد الطوسي وأبي روح وأصحاب الفراوي وهذه الطبقة وخطه مليح مغربي في غاية الدقة وكان كثير الأسفار دينا متصوفا كبير القدر قال الضياء في حقه رفيقنا وصديقنا توفي بالبصرة عاشر رمضان سنة 617 ودفن إلى جانب قبر سهل التستري رضي الله تعالى عنه وما رأينا من أهل المغرب مثله وقال ابن نقطة كان ثقة فاضلا صاحب حديث وسنة كريم الأخلاق وقال مفضل القرشي كان كثير المروءة غزير الإنسانية وقال ابن الحاجب كان كيس الأخلاق محبوب الصورة لين الكلام كريم النفس حلو الشمائل محسنا إلى أهل العلم بماله وجاهه وقيل إنه أوصى بكتبه للشرف المرسي رحمه الله تعالى
246 - ومنهم محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد أبو بكر بن العربي الإشبيلي حفيد القاضي الحافظ الكبير أبو بكر بن العربي قرأ لنافع على قاسم بن محمد الزقاق صاحب شريح وحج فسمع من السلفي وغيره ثم رحل بعد نيف وعشرين سنة إلى الشام والعراق وأخذ عن عبد الوهاب بن سكينة وطبقته ورجع فأخذوا عنه بقرطبة وإشبيلية ثم سافر سنة 612 وتصوف

وتعبد وتوفي بالإسكندرية سنة 617 قاله الذهبي في تاريخه الكبير
247 - ومن المرتحلين من الأندلس يحيى بن عبد العزيز المعروف بابن الخراز أبو زكريا القرطبي سمع من العتبي وعبد الله بن خالد ونظرائهما من رجال الأندلس ورحل فسمع بمصر من المزني والربيع بن سليمان المؤذن ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن ميمون وعبد الغني بن أبي عقيل وغيرهم وسمع بمكة من علي بن عبد العزيز وكانت رحلته ورحلة سعيد بن عثمان الأعناقي وسعيد بن حميد وابن أبي تمام واحدة وسمع الناس من يحيى المذكور مختصر المزني ورسالة الشافعي وغير ذلك من علم محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وكان يميل في فقهه إلى مذهب الشافعي وكان مشاورا مع عبيد الله بن يحيى وأضرابه وحدث عنه من أهل الأندلس محمد بن قاسم وابن بشر وابن عبادة وغير واحد ولم يسمع منه ابنه محمد لصغره وتوفي سنة 295 رحمه الله تعالى ورضي عنه
248 - ومنهم الشيخ الإمام العالم العامل الكامل الزاهد الورع العلامة جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله البكري الشريشي المالكي كان من أكابر الصالحين المتورعين ومولده سنة 601 بشريش وتوفي برباط الملك الناصر بسفح قاسيون سنة 685 في 24 رجب ودفن قبالة الرباط وله المصنفات المفيدة تولى مشيخة الصخرة بحرم القدس الشريف وقدم دمشق وتولى مشيخة الرباط الناصري فلما توفي قاضي القضاة جمال الدين المالكي ولوه مشيخة المالكية بدمشق وعرضوا عليه القضاء فلم يقبل وبقي في المشيخة إلى أن توفي رحمه الله تعالى ونفعنا به وبأمثاله آمين

249 - ومن الراحلين من الأندلس الفقيه الصالح أبو بكر بن محمد بن علي بن ياسر الجياني المحدث الشهير
ذكره ابن السمعاني وغيره سافر الكثير وورد العراق وطاف في بلاد خراسان سكن بلخ وأكثر من الحديث وحصل الأصول ونسخ بخطه ما لا يدخل تحت حصر قال ابن السمعاني وله أنس ومعرفة بالحديث لقيته بسمرقند وكان قدمها سنة 549 مع جماعة من أهل الحجاز لدين له عليهم وسمعت منه جزءا خرجه من حديث يزيد بن هارون مما وقع له عاليا وجزءا صغيرا من حديث أبي بكر بن أبي الدنيا وأحاديث أبي بكر الشافعي في أحد عشر جزءا المعروف بالغيلانيات بروايته عن ابن الحصين عن ابن غيلان وكان مولده بجيان سنة 493 [ أو في التي بعدها الشك منه ثم لقيته بنسف في أواخر سنة خمسين ] ولم أسمع منه شيئا ثم قدم علينا في بخارى في أوائل سنة إحدى وخمسين وسمعت من لفظه جميع كتاب الزهد لهناد بن السري الكوفي بروايته عن أبي القاسم سهل بن إبراهيم المسجدي عن الحاكم أبي عبد الرحمن محمد بن أحمد الشاذياخي عن الحاكم أبي الفضل محمد بن الحسين الحدادي عن حماد بن أحمد السلمي عن مصنفه وأخبرنا الجياني بسمرقند أنبأنا أبو القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين الكاتب ببغداد أنبأنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزار أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي أخبرنا محمد بن مسلمة أنبأنا يزيد بن هارون أنبأنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي قال " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ناداهم مناد يا أهل الجنة إن

لكم عند الله موعدا لم تروه قالوا وما هو ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة وينجنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ثم تلا هذه الآية ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) [ يونس26 ]
وقال ابن السمعاني أيضا وأخبرنا الجياني المذكور بسمرقند أنبأنا هبة الله بن محمد بن عبد الواحد ببغداد أنبأنا أبو طالب بن غيلان أنبأنا أبو بكر الشافعي أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي أنبأ محمد بن حسان أنبأنا مبارك بن سعيد قال أردت سفرا فقال لي الأعمش سل ربك أن يرزقك صحابة صالحين فإن مجاهدا حدثني قال خرجت من واسط فسألت ربي أن يرزقني صحابة ولم أشترط في دعائي فاستويت أنا وهم في السفينة فإذا هم أصحاب طنابير
وقال ابن السمعاني أيضا أخبرنا أبو بكر الجياني المغربي بسمرقند سمعت الإمام أبا طالب إبراهيم بن هبة الله ببلخ يقول قرأت على أبي يعلى محمد بن أحمد العبدي بالبصرة قال قرأت على شيخنا أبي الحسين بن يحيى في كتاب العين بإسناده إلى الخليل بن أحمد أنه أنشده قول الشاعر
( في بيتنا ثلاث حبالى ... فوددنا أن قد وضعن جميعا )
( زوجتي ثم هرتي ثم شاتي ... فإذا ما وضعن كن ربيعا )
( زوجتي للخبيص والهر للفار ... وشاتي إذا اشتهينا مجيعا )
قال أبو يعلى قال شيخنا ابن يحيى وذكر عن الخليل بن أحمد في العين أن المجيع أكل التمر باللبن انتهى
250 - ومنهم أبو الخطاب العلاء بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن حزم الأندلسي المري ذكره الحميدي في تاريخه وأثنى

عليه وقال كان من أهل العلم والأدب والذكاء والهمة العالية [ في طلب العلم ] وكتب بالأندلس فأكثر ورحل إلى المشرق فاحتفل في العلم والرواية والجمع وذكره الحافظ الخطيب أبو بكر [ أحمد بن علي ] بن ثابت البغدادي وقال هو من بيت جلالة وعلم ورياسة وأخرج عنه في غير موضع من مصنفاته وقدم بغداد ودمشق وحدث فيهما ثم عاد إلى المغرب فتوفي ببلده المرية سنة 454 وحدث عن أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري ويعرف بابن الإفليلي الأندلسي النحوي وغيره وكان صدوقا ثقة رحمه الله تعالى
251 - ومنهم أبو زكريا يحيى بن قاسم بن هلال القرطبي الفقيه المالكي أحد الأئمة الزهاد كان يصوم حتى يخضر توفي سنة 272 وقيل سنة 278 ورحل إلى المشرق وسمع من عبد الله بن نافع صاحب مالك بن أنس ومن سحنون بن سعيد وغيرهما وكان فاضلا فقيها عابدا عالما بالمسائل وروى عنه أحمد بن خالد وكان يفضله ويصفه بالفضل والعلم وهو صاحب الشجرة قال عباس بن أصبغ كانت في داره شجرة تسجد لسجوده إذا سجد قاله ابن الفرضي رحمه الله تعالى ورضي عنه ونفعنا به 252 - ومنهم أبو بكر يحيى بن مجاهد بن عوانة الفزاري الإلبيري

الزاهد سكن قرطبة قال ابن الفرضي كان منقطع القرين في العبادة بعيد الاسم في الزهد حج وعني بعلم القرآن والقراءات والتفسير وسمع بمصر من الأسيوطي وابن الورد وابن شعبان وغيرهم وكان له حظ من الفقه والرواية إلا أن العبادة غلبت عليه وكان العمل أملك به ولا أعلمه حدث توفي رحمه الله تعالى سنة ست وستين وثلاثمائة ودفن في مقبرة الربض وصلى عليه القاضي محمد بن إسحاق بن السليم ثم صلى عليه حيان مرة ثانية رحمه الله تعالى وأفاض علينا من أنوار عنايته آمين 253 - ومنهم أبو بكر محمد بن أحمد بن إبراهيم الصدفي الإشبيلي الأديب البارع له نظم حسن وموشحات رائقة قرأ على الأستاذ الشلوبين وغيره ومدح الملوك ورحل من الأندلس فقدم ديار مصر ومدح بها بعض من كان يوصف بالكرم فوصله بنزر يسير فكر راجعا إلى المغرب فتوفي ببرقة رحمه الله تعالى ! وكان من النجباء في النحو وغيره
ومن نظمه من قصيدة
( ما بي موارد أمس بل مصادره ... اللحظ أوله واللحد آخره )
( أرسلت طرفي مرتادا فطل دمي ... روض من الحسن مطلول أزاهره )
( رعيت في خصبه لحظي فأعقبني ... جدبا بجسمي ما يرويه هامره )
( وبي وإن لم أكن بالذكر أشهره ... فالوصف فيه لفقد المثل شاهره )
وهي طويلة وأثنى عليه أثير الدين أبو حيان وأورد جملة من محاسن كلامه وبدائع نظامه رحم الله تعالى الجميع

254 - ومنهم أبو يحيى زكريا بن خطاب الكلبي التطيلي رحل سنة 293 فسمع بمكة كتاب النسب للزبير بن بكار من الجرجاني الذي حدث به عن علي بن عبد العزيز بن الجمحي عن الزبير وروى موطأ مالك بن أنس رواية أبي مصعب أحمد بن عبد الملك الزهري عن إبراهيم بن سعيد الحذاء وسمع بها من إبراهيم بن عيسى الشيباني والقزاز في آخرين وقدم الأندلس فكان الناس يرحلون إليه إلى تطيلة للسماع منه واستقدمه المستنصر الحكم وهو ولي عهد فسمع منه أكثر مروياته وسمع منه جماعة من أهل قرطبة وكان ثقة مأمونا ولي قضاء بلده تطيلة إحدى مدائن الأندلس بعد عمر بن يوسف بن الإمام 255 - ومنهم سعد الخير بن محمد بن سعد أبو الحسن الأنصاري البلنسي المحدث رحل إلى أن دخل الصين ولذا كان يكتب البلنسي الصيني وركب البحار وقاسى المشاق وتفقه ببغداد على أبي حامد الغزالي وسمع بها أبا عبد الله النعال وطرادا وغيرهما وبأصبهان أبا سعد المطرز وسكنها وتزوج بها وولدت له فاطمة بها ثم سكن بغداد وروى عنه ابن عساكر وابن السمعاني وأبو موسى المديني وأبو اليمن الكندي وأبو الفرج بن الجوزي وابنته فاطمة بنت سعد الخير في آخرين وتأدب على أبي زكريا التبريزي وتوفي في المحرم سنة 541 رحمه الله تعالى ببغداد وصلى عليه الغزنوي والشيخ الواعظ بجامع القصر وكان وصيه وحضر جنازته قاضي القضاة الزينبي والأعيان ودفن إلى جانب عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنهم أجمعين بوصية منه

256 - ومنهم أبو عثمان سعيد بن نصر بن عمر بن خلفون الإستجي سمع بقرطبة من قاسم بن أصبغ وابن أبي دليم وغيرهما ورحل فسمع بمكة من ابن الأعرابي وببغداد من أبي علي الصفار وجماعة وبها مات
257 - ومنهم أبو عثمان سعيد الأعناقي ويقال العناقي القرطبي كان ورعا زاهدا عالما بالحديث بصيرا بعلله سمع من محمد بن وضاح وصحبه ومن يحيى بن إبراهيم بن مزين ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهم ورحل فلقي جماعة من أصحاب الحديث منهم نصر بن مرزوق كتب عنه مسند أسد بن موسى وغير ذلك من كتبه ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والحارث بن مسكين في آخرين وحدث عنه أحمد بن خالد وابن أيمن ومحمد بن قاسم وابن أبي زيد في عدد كثير ومولده سنة 233 وتوفي سنة 305 بصفر
والأعناقي نسبة إلى موضع يقال له أعناق وعناق
258 - ومنهم أبو المطرف عبد الرحمن بن خلف التجيبي الإقليشي روى عن أبي عثمان سعيد بن سالم المجريطي وأبي ميمونة دراس بن إسماعيل فقيه فاس ورحل حاجا سنة 349 فسمع بمكة من أبي بكر الآجري وأبي حفص الجمحي وبمصر من أبي إسحاق بن شعبان وروى عنه كتاب الزاهي جميعه وقد قرئ عليه جميعه وحمل عنه ومولده سنة 303 رحمه الله تعالى

259 - ومنهم أبو الأصبع عبد العزيز بن علي المعروف بابن الطحان الإشبيلي المقريء ولد بإشبيلية سنة 498 ورحل فدخل مصر والشام وحلبا وتوفي بحلب بعد سنة 559 وله كتاب نظام الأداء في الوقف والابتداء ومقدمة في مخارج الحروف ومقدمة في أصول القراءات وكتاب الدعاء وكان من القراء المجودين الموصوفين بالإتقان ومعرفة وجوه القراءات وسمع الحديث على شريح بن محمد بن أحمد بن شريح الرعيني خطيب إشبيلية وأبي بكر يحيى بن سعادة القرطبي
وله شعر حسن منه قوله
( دع الدنيا لعاشقها ... سيصبح من رشائقها )
( وعاد النفس مصطبرا ... ونكب عن خلائقها )
( هلاك المرء أن يضحي ... مجدا في علائقها )
( وذو التقوى يذللها ... فيسلم من بوائقها )
وأخذ القراءات ببلده عن أبي العباس بن عيشون وشريح بن محمد وروى عنهما وعن أبي عبد الله بن عبد الرزاق الكلبي وروى مصنف النسائي عن أبي مروان بن مسرة وتصدى للإقراء ثم انتقل إلى فاس وحج ودخل العراق وقرأ بواسط القراءات وأقرأها أيضا ودخل الشام واشتهر ذكره وجل قدره وروى عنه أبو محمد عبد الحق الإشبيلي الحافظ وعلي بن يونس قال بعضهم سمعت غير واحد يقول ليس بالغرب أعلم بالقراءات من ابن الطحان قرأ عليه الأثير أبو الحسن محمد بن أبي العلاء وأبو طالب بن عبد السميع وغيرهما رحم الله تعالى الجميع
261 - ومنهم أبو الأصبغ عبد العزيز بن خلف المعافري قدم مصر سنة 502 وولد سنة 448 وحدث بالموطأ عن سليمان بن أبي القاسم أنبأنا أبو عمر بن عبد البر أنبأنا سعيد بن نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن يحيى بن يحيى عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله تعالى عنه
261 - ومنهم أبو محمد عبد العزيز بن عبد الله بن ثعلبة السعدي الشاطبي قدم مصر ودمشق طالب علم وسمع أبا الحسن بن أبي الحديد وأبا منصور العكبري وغيرهما وصنف غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام على حروف المعجم وسمعه عليه أبو محمد الأكفاني وتوفي بأرض حوران من أعمال دمشق في رمضان سنة 465 رحمه الله تعالى ورضي عنه
262 - ومنهم الحكيم الطبيب أبو الفضل محمد عبد المنعم الغساني الجلياني وهو عبد المنعم بن عمر بن عبد الله بن أحمد بن خضر بن مالك بن حسان ولد بقرية جليانة من أعمال غرناطة سابع المحرم سنة 531 وقدم إلى القاهرة وسار إلى دمشق فسكنها مدة ثم سافر إلى بغداد فدخلها سنة 601 ونزل بالمدرسة النظامية وكتب الناس عنه كثيرا من نظمه وكان أديبا فاضلا له شعر مليح المعاني أكثره في الحكم والإلهيات وآداب النفوس والرياضيات وكان طبيبا حاذقا وله رياضات ومعرفة بعلم الباطن وله كلام مليح على طريق القوم وكان مليح السمت حسن الأخلاق لطيفا حاضر الجواب

ومات بدمشق سنة 602 وكان يقال له حكيم الزمان وأراد القاضي الفاضل أن يغض منه فقال له بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كم بين جليانة وغرناطة فقال مثل ما بين بيسان 8 وبيت المقدس
ومن شعره قوله
( خبرت بني عصري على البسط والقبض ... وكاشفتهم كشف الطبائع بالنبض )
( فأنتج لي فيهم قياسي تخليا ... عن الكل إذ هم آفة الوقت والعرض )
( ألازم كسر البيت خلوا وإن يكن ... خروج ففردا ملصق الطرف بالأرض )
( أرى الشخص من بعد فأغضي تغافلا ... كمشدوه بال في مهمته يمضي )
( ويحسبني في غفلة وفراستي ... على الفور من لمحي بما قد نوى تقضي )
( أجانبهم سلما ليسلم جانبي ... وليس لحقد في النفوس ولا بغض )
( تخليت عن قومي ولو كان ممكني ... تخليت عن بعضي ليسلم لي بعضي )
وقال
( قالوا نراك عن الأكابر تعرض ... وسواك زوار لهم متعرض )
( قلت الزيارة للزمان إضاعة ... وإذا مضى زمن فما يتعوض )
( إن كان لي يوما إليهم حاجة ... فبقدر ما ضمن القضاء تقيض )
وقال
( حاول مفازك قبل أن يتحولا ... فالحال آخرها كحالك أولا )
( إن المني من المنية لفظه ... لتدل في أصل البناء على البلى )
وسماه بعضهم عبد المنعم وذكره العماد في الخريدة وقال هو صاحب البديع البعيد والتوشيح والترشيح والترصيع والتصريع والتجنيس والتطبيق والتوفيق والتلفيق والتقريب والتقرير والتعريف والتعريب وهو مقيم

بدمشق وقد أتى العسكر المنصور الناصري سنة 586 بظاهر ثغر عكا وكتب إلى السلطان صلاح الدين وقد جرح فرسه
( أيا ملكا أفنى العداة حسامه ... ومنتجعا أقنى العفاة ابتسامه )
( لقاؤك يوما في الزمان سعادة ... فكيف بثاو في حماك حمامه )
( وعبدك شاك دينه وهو شاكر ... نداك الذي يغني الغمام غمامه )
( ولي فرس أصماه سهم فرده ... أثافي ربع بالثلاث قيامه )
( تعمر فيه بالجراحة ساحة ... وعطل منه سرجه ولجامه )
( أتينا لما عودتنا من مكارم ... يلوذ بها الراجي فيشفى غرامه )
( فرحماك غوث لا يغيب نصيره ... ونعماك غيث لا يغب انسجامه )
وله رحمه الله تعالى غير هذا وترجمته واسعة
263 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد القدوس القرطبي مؤلف المفتاح في القراءات ومقرئ أهل قرطبة رحل وقرأ القراءات على أبي علي الأهوازي وبحران على أبي القاسم الريدي وبمصر على أبي العباس بن نفيس وبمكة على أبي العباس الكازريني وسمع بدمشق من أبي الحسن بن السمسار وكان عجبا في تحرير القراءات ومعرفة فنونها وكانت الرحلة إليه في وقته ولد سنة 403 ومات في ذي القعدة سنة 461 قرأ عليه أبو القاسم خلف بن النحاس وجماعة رحمه الله تعالى
264 - ومنهم عبيد الله وقيل عبد الله بغير تصغير ابن المظفر بن عبد الله بن محمد أبو الحكم الباهلي الأندلسي ولد بالمرية سنة 486

وحج سنة 516 وحج أيضا سنة 518 ودخل دمشق وقرأ بصعيد مصر وبالإسكندرية ثم مضى إلى العراق وأقام ببغداد يعلم الصبيان وخدم السلطان محمود بن ملك شاه سنة 521 وأنشأ له في معسكره مارستانا ينقل على أربعين جملا فكان طبيبه ثم عاد إلى دمشق ومات بها سنة 549 ودفن بباب الفراديس وكان ذا معرفة بالأدب والطب والهندسة وله ديوان شعر سماه نهج الوضاعة لأولي الخلاعة ذكر فيه جملة شعراء كانوا بمدينة دمشق كطالب الصوري ونصر الهيتي وغيرهما كعرقلة وفيه نزهات أدبية ومفاكهات غريبة ممزوج جدها بسخفها وهزلها بظرفها ورثى فيه أنواعا من الدواب وأنواعا من الأثاث وخلقا من المغنين والأطراف وشرح هذا الديوان ابنه الحكيم الفاضل أبو المجد محمد بن أبي الحكم الملقب بأفضل الدولة وكان كثير الهزل والمداعبة دائم اللهو والمطايبة وكان إذا أتاه الغلام وما به شيء فيجس نبضه ثم يقول له تصلح لك الهريسة وكان أعور فقال فيه عرقلة
( لنا طبيب شاعر أعور ... أراحنا من طبه الله )
( ما عاد في صبحة يوم فتى ... إلا وفي باقيه رثاه )
وله أيضا يرثيه
( يا عين سحي بدمع ساكب ودم ... على الحكيم الذي يكنى أبا الحكم )
( قد كان لا رحم الرحمن شيبته ... ولا سقى قبره من صيب الديم )
( شيخا يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم )
ومن كنايات أبي الحكم المستحسنة قوله
( ألم ترني أكابد فيك وجدي ... وأحمل منك ما لا يستطاع )

( إذا ما أنجم الجو استقلت ... ومال الدلو وارتفع الذراع )
ومن شعره قوله
( محاسن العالم قد جمعت ... في حسنه المستكمل البارع )
( وليس لله بمستنكر ... أن يجمع العالم في الجامع )
265 - ومنهم أبو الربيع سليمان بن إبراهيم بن صافي الغرناطي القيساني وقيسانة من عمل غرناطة الفقيه المالكي ولد سنة 564 وقدم القاهرة وناب في الحسبة وله شعر حسن توفي بالقاهرة سنة 634 رحمه الله تعالى
267 - ومنهم طالوت بن عبد الجبار المعافري الأندلسي دخل مصر وحج ولقي إمامنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه وعاد إلى قرطبة وكان ممن خرج على الحكم بن هشام بن عبد الرحمن من أهل ربض شقندة يريد خلعه وإقامة أخيه المنذر وزحفوا إلى قصره بقرطبة فحاربهم وقتلهم وفر من بقي منهم فاستتر الفقيه طالوت عاما عند يهودي ثم ترامى على صديقه أبي البسام الكاتب ليأخذ له أمانا من الحكم فوشى به إلى الحكم وأحضره إليه فعنفه ووبخه فقال له كيف يحل لي أن أخرج إليك وقد سمعت مالك بن أنس يقول سلطان جائر مدة خير من فتنة ساعة فقال ألله تعالى لقد سمعت هذا من مالك فقال طالوت اللهم إني قد سمعته فقال انصرف إلى منزلك وأنت آمن ثم سأله أين أستتر فقال عند يهودي مدة عام ثم إني قصدت هذا الوزير فغدر بي فغضب الحكم على أبي البسام وعزله عن وزارته وكتب عهدا أن لا يخدمه أبدا فرؤي أبو البسام بعد ذلك في فاقة وذل فقيل استجيبت فيه دعوة الفقيه طالوت رحمه

الله تعالى
267 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد ضياء الدين ونظامه ابن خروف الأديب القيسي القرطبي القيذافي الشاعر قدم إلى مصر ثم سار إلى حلب ومات بها مترديا في جب حنطة سنة 602 وقيل في التي بعدها وقيل سنة خمس وستمائة وله شرح كتاب سيبويه وحمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار وله شرح جمل الزجاجي وكتب في الفرائض ورد على أبي زيد السهيلي وغير ذلك ومدح الأفضل ابن السلطان صلاح الدين ومدح الظاهر بن الناصر أيضا
وشعره جيد فمنه قوله في كأس
( أنا جسم للحميا ... والحميا لي روح )
( بين أهل الظرف أغدو ... كل يوم وأروح )

وقال في صبي حبس
( أقاضي المسلمين حكمت حكما ... غدا وجه الزمان به عبوسا )
( حبست على الدراهم ذا جمال ... ولم تسجنه إذ سلب النفوسا )
وقال
( ما أعجب النيل ما أحلى شمائله ... في ضفتيه من الأشجار أدواح )
( من جنة الخلد فياض على ترع ... تهب فيها هبوب الريح أرواح )
( ليست زيادته ماء كما زعموا ... وإنما هي أرزاق وأرباح )
والقيذافي بقاف ثم ياء آخر الحروف بعدها ذال معجمة ثم ألف وفاء وله رسالة كتب بها إلى بهاء الدين بن شداد بحلب يطلب منه فروة وهي
( بهاء الدين والدنيا ... ونور المجد والحسب )
( طلبت مخافة الأنواء ... من جدواك جلد أبي )
( وفضلك عالم أني ... خروف بارع الأدب )
( حلبت الدهر أشطره ... وفي حلب صفا حلبي )
ذو الحسب الباهر والنسب الزاهر يسحب ذيول سير السيراء ويحب النحاة من أجل الفراء ويمن على الخروف النبيه بجلد أبيه قاني الصباغ قريب عهد بالدباغ ما ضل طالب قرظه ولا ضاع بل ذاع ثناء صانعه وضاع إذا طهر إهابه يخافه البرد ويهابه أثيث خمائل الصوف يهزأ

بكل هوجاء عصوف ما في اللباس له ضريب إذا نزل الجليد والضريب ولا في الثياب له نظير إذا عري من ورقه الغصن النضير والمولى يبعثه فرجي النوع أرجي الضوع يكون تارة لحافا وتارة بردا وهو في الحالين يحيى حرا ويميت بردا لا كطيلسان ابن حرب ولا كجلد عمرو الممزق بالضرب إن عزاه السواد إلى حام فحام أو نماه البياض إلى سام فسام كأنه من جلد جمل الحرباء الذي يرعى القمر والنجم لا من جلد السخلة الجرباء التي ترعى الشجر والنجم لا زال مهديه سعيدا ينجز للأخيار وعدا وللأشرار وعيدا بالمنة والطول والقوة والحول
268 - ومنهم مالك بن مالك من أهل جيان رحل حاجا فأدى الفريضة وسكن حلب ولقي عبد الكريم بن عمران وأنشد له قوله
( يا رب خذ بيدي مما دفعت له ... فلست منه على ورد ولا صدر )
( الأمر ما أنت رائيه وعالمه ... وقد عتبت ولاعتب على القدر )
( من يكشف السوء إلا أنت بارئنا ... ومن يزيل بصفو حالة الكدر )
269 - ومنهم أبو علي بن خميس وهو منصور بن خميس بن محمد بن إبراهيم اللخمي من أهل المرية سمع من أبي عبد الله البوني وابن صالح وأخذ عنهما القراءات وروى أيضا عن الحافظ القاضي أبي بكر بن العربي وأبوي القاسم ابن رضا وابن ورد وأبي محمد الرشاطي وأبي الحجاج القضاعي وأبي محمد عبد الحق بن عطية وأبي عمرو الخضر بن عبد الرحمن وأبي القاسم عبد الرحمن بن محمد الخزرجي وغيرهم ورحل حاجا فنزل الإسكندرية

وسمع منه أبو عبد الله بن عطية الداني سنة 596 وحدث عنه بالإجازة أبو العباس العزفي وغيره 270 - ومنهم منصور بن لب بن عيسى الأنصاري من أهل المرية يكنى أبا علي أخذ القراءات ببلده عن ابن خميس المذكور قبله ورحل بعده فنزل الإسكندرية وأجازه أبو الطاهر السلفي في صغره وقد أخذ عنه فيما ذكر بعضهم ومولده سنة 571 رحمه الله تعالى
271 - ومنهم مفرج بن حماد بن الحسين بن مفرج المعافري من أهل قرطبة وهو جد ابن مفرج صاحب كتاب الاحتفال بعلم الرجال صحب المذكور محمد بن وضاح في رحلته الثانية وشاركه في كثير من رجاله وصدر عن المشرق معه فاجتهد في العبادة وانتبذ عن الناس ثم كر راجعا إلى مكة عند موت ابن وضاح فنزلها واستوطنها إلى أن مات فقبره هنالك
وقال في حقه أبو عمر عفيف إنه كان من الصالحين رحل فحج وجاور بمكة نحو عشرين سنه إلى أن مات بها رحمه الله تعالى
272 - ومنهم محب بن الحسين من أهل الثغر الشرقي كانت له رحلة حج فيها وسمع بالقيروان من أبي عبد الله بن سفيان الكتاب الهادي في القراءات من تأليفه وكان رجلا صالحا حدث عنه أبو عبد الله محمد بن عبد

الملك التجيبي من شيوخ أبي مروان بن الصيقل
273 - ومنهم مساعد بن أحمد بن مساعد الأصبحي من أهل أوريولة يكنى أبا عبد الرحمن ويعرف بابن زعوقة روى عن ابن أبي تليد وابن جحدر والحافظين أبي علي الصدفي وأبي بكر بن العربي وكتب إليه أبو بكر بن غالب بن عطية ورحل حاجا في سنة أربعة وتسعين وأربعمائة فأدى الفريضة سنة خمس بعدها ولقي بمكة أبا عبد الله الطبري فسمع منه صحيح مسلم مشتركا في السماع مع أبي محمد بن أبي جعفر الفقيه ولقي أبا محمد بن العرجاء وأبا بكر بن الوليد الطرطوشي وأصحاب الإمام أبي حامد الغزالي وأبا عبد الله المازري وجماعة سواهم ساوى بلقائهم مشيخته وانصرف إلى بلده فسمع منه الناس وأخذوا عنه لعلو روايته وكان من أهل المعرفة والصلاح والورع وممن حدث عنه من الجلة أبو القاسم بن بشكوال وأبو الحجاج الثغري الغرناطي وأبو محمد عبد المنعم بن الفرس وغيرهم وأغفله ابن بشكوال فلم يذكره في الصلة مع كونه روى عنه وقال تلميذه أبو الحجاج الثغري الغرناطي أخبرني أبو سليمان بن حوط الله وغيره عنه قال أخبرني الحاج أبو عبد الرحمن بن مساعد رضي الله تعالى عنه أنه لقي بالمشرق امرأة تعرف بصباح عند باب الصفا وكان يقرأ عليها بعض التفاسير فجاء بيت شعر شاهد فسألت هل له صاحب فسألوا الشيخ أبا محمد بن العرجاء فقال الشيخ لا أذكر له صاحبا فأنشدت
( طلعت شمس من أحبك ليلا ... واستضاءت فما لها من مغيب )
( إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب دون غروب )
ولد في صفر سنة 468 وتوفي بأوريولة سنة 545 قاله ابن سفيان

274 - ومنهم أبو حبيب نصر بن القاسم
قال ابن الأبار أظنه من أهل غرناطة له رحلة حج فيها وسمع من أبي الطاهر السلفي وحدث عنه عن ابن فتح بمسند الجوهري انتهى
275 - ومنهم النعمان بن النعمان المعافري من أهل ميورقة منسوب إلى جده رحل حاجا فأدى الفريضة وجاور بمكة ثم قفل إلى بلده واعتزل الناس وكان يشار إليه بإجابة الدعوة وتوفي سنة 616 رحمه الله تعالى ! ونفعنا به !
276 - ومنهم نعم الخلف بن عبد الله بن أبي ثور الحضرمي من أهل طرطوشة أو ناحيتها رحل إلى المشرق وأدى الفريضة ولقي بمكة أبا عبد الله الأصبهاني فسمع منه سنة 422 حدث عنه ابنه القاسم بن نعم الخلف بيسير 277 - ومنهم نابت - بالنون - ابن المفرج بن يوسف الخثعمي أصله من بلنسية وسكن مصر يكنى أبا الزهر قال السلفي قدم مصر بعد خروجي منها وتفقه على مذهب الشافعي وتأدب وقال الشعر الفائق وكتب إلي بشيء من شعره ومات في رجب سنة 545 بمصر
278 - ومنهم ضمام بن عبد الله الأندلسي رحل إلى المشرق

ودخل بغداد وهو ممن يروي عن عبد السلام بن مسلمة الأندلسي
وممن روى عن ضمام أبو الفرج أحمد بن القاسم الخشاب البغدادي من شيوخ الدارقطني قال ابن الأبار هكذا وقع في نسخة عتيقة من تأليف الدارقطني في الرواة عن مالك في باب مسلمة منه ضمام - بالضاد المعجمة - وهكذا ثبت في رواية أبي زكريا بن مالك بن عائذ عن الدارقطني وقال فيه غيره همام بن عبد الله - بالهاء وتشديد الميم - وفي حرف الهاء أثبته أبو الوليد بن الفرضي من تاريخه والأول عندي أصح والله تعالى أعلم انتهى
279 - ومنهم ضرغام بن عروة بن حجاج بن أبي فريعة واسمه زيد مولى عبد الرحمن بن معاوية والداخل معه إلى الأندلس من أهل لبلة له رحلة إلى المشرق وكان فقيها ذكره الرازي
280 - ومنهم عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر المعافري من أهل قرطبة وأصله من الجزيرة الخضراء وهو والد المنصور بن أبي عامر ويكنى أبا حفص سمع الحديث وكتبه عن محمد بن عمر بن لبابة وأحمد بن خالد ومحمد بن فطيس وغيرهم ورحل إلى المشرق فأدى الفريضة وكان من أهل الخير والدين والصلاح والزهد والقعود عن السلطان أثنى عليه الرواية أبو محمد الباجي وقال كان لي خير صديق أنتفع به وينتفع بي وأقابل معه كتبه وكتبي ومات منصرفه من حجه ودفن بمدينة طرابلس المغرب وقيل بموضع يقال له رقادة وكان رجلا عالما صالحا وقال بعضهم إنه توفي في آخر خلافة عبد الرحمن الناصر

281 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن حمود الزبيدي الإشبيلي ابن عم أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي اللغوي كان من مشاهير أصحاب أبي علي البغدادي ورحل إلى المشرق فلم يعد إلى الأندلس ولازم السيرافي في بغداد إلى أن توفي فلازم بعده صاحبه أبا علي الفارسي ببغداد والعراق وحيثما جال واتبعه إلى فارس وحكى أبو الفتوح الجرجاني أن أبا علي البغدادي غلس لصلاة الصبح في المسجد فقام إليه أبو محمد الزبيدي من مذود كان لدابته خارج الدار قد بات فيه أو أدلج إليه ليكون أول وارد عليه فارتاع منه وقال ويحك ! من تكون قال أنا عبد الله الأندلسي فقال له إلى كم تتبعني والله إن على وجه الأرض أنحى منك وكان من كبار النحاة وأهل المعرفة التامة والشعر وجمع شرحا لكتاب سيبويه ويقال إنه توفي ببغداد سنة 372
282 - ومنهم عبد الله بن رشيق القرطبي رحل من الأندلس فأوطن القيروان واختص بأبي عمران الفاسي وتفقه به وكان أديبا شاعرا عفيفا خيرا وفي شيخه أبي عمران أكثر شعره ورحل حاجا فأدى الفريضة وتوفي في انصرافه بمصر سنة 419 وأنشد له ابن رشيق في الأنموذج قوله رحمه الله تعالى
( خير أعمالك الرضى ... بالمقادير والقضا )

( بينما المرء ناضر ... قيل قد مات وانقضى )
وقوله
( سأقطع حبلي من حبالك جاهدا ... وأهجر هجرا لا يجر لنا عرضا )
( وقد يعرض الإنسان عمن يوده ... ويلقى ببشر من يسر له البغضا ) قال في الأنموذج وأراد الحج فناله وجع فمات بمصر بعد اشتهاره فيها بالعلم والجلالة وقد بلغ عمره نحو الأربعين سنة رحمه الله تعالى وهو مخالف لما قدمناه من أنه أدى الفريضة وقد ذكر ابن الأبار العبارتين والله تعالى أعلم
283 - ومنهم أبو بكر اليابري ويكنى أيضا أبا محمد وهو عبد الله بن طلحة بن محمد بن عبد الله أصله من يابرة ونزل هو إشبيلية وروى عن أبي الوليد الباجي وعن جماعة بغرب الأندلس منهم أبو بكر بن أيوب وأبو الحزم بن عليم وأبو عبد الله بن مزاحم البطليوسيون وغيرهم وكان ذا معرفة بالنحو والأصول والفقه وحفظ التفسير والقيام عليه وحلق به مدة بإشبيلية وغيرها وهو كان الغالب عليه مع القصص فيسرد منه جملا على العامة وكان متكلما وله رد على أبي محمد بن حزم وكان أحد الأئمة بجامع العدبس ورحل إلى المشرق فروى عن أبي بكر محمد بن زيدون بن علي كتابه المؤلف في الحديث المعروف بالزيدوني وألف كتابا في شرح صدر رسالة ابن أبي زيد وبين ما فيها من العقائد وله مجموعة في الأصول والفقه منها كتاب سماه المدخل إلى كتاب آخر سماه سيف الإسلام على مذهب مالك الإمام ألفه للأمير علي بن تميم بن المعز الصنهاجي صاحب المهدية وذكر

في فصل الحج منه أنه رحل إلى المهدية سنة 514 واستوطن مصر مدة ثم رحل إلى مكة وبها توفي رحمه الله تعالى وروى عنه أبو المظفر الشيباني وأبو محمد العثماني وأبو الحجاج يوسف بن محمد القيرواني وأبو عمرو عثمان بن فرج العبدري وأبو محمد بن صدقة المنكبي وأبو عبد الله بن يعيش البلنسي وغيرهم وكان سماع أبي الحجاج منه موطأ مالك سنة 516 رحم الله تعالى الجميع
284 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن مرزوق اليحصبي الأندلسي رحل حاجا فسمع منه بالإسكندرية أبو الطاهر السلفي كتاب طبقات الأمم لأبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي وحدث به عنه عن ابن برال عن صاعد
285 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد الصريحي المرسي ويعرف بابن مطحنة روى عن أبي بكر بن الفرضي النحوي وتأدب به ورحل إلى المشرق ولقي أبا محمد العثماني وغيره وحج وقعد لتعليم الآداب وممن أخذ عنه أبو عبد الله محمد بن عبد السلام وأبو عبد الله المكناسي وغيرهما وأنشد رحمه الله تعالى قال أنشدني أبو محمد عبد الله بن البياسي بالإسكندرية لنفسه
( يمد الدهر من أجلي وعمري ... كما أني أمد من المداد )
( لنا خطان مختلفان جدا ... كما اختلف الموالي والمعادي )
( فأكتب بالسواد على بياض ... ويكتب بالبياض على السواد )

وهذا نظير قول الآخر
( ولي خط وللأيام خط ... وبينهما مخالفة المداد )
( فأكتبه سوادا في بياض ... وتكتبه بياضا في سواد )
وبعضهم ينسب الأبيات الثلاثة السابقة للسلفي الحافظ فالله تعالى أعلم 286 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن عيسى الشلبي سمع من الصدفي وغيره وكان من أهل الحفظ للحديث ورجاله والعلم بالأصول والفروع ومسائل الخلاف وعلم العربية والهيئة مع الخير والدين والزهد وامتحن بالأمراء في قضاء بلده بعد أن تقلده نحو تسعة أعوام لإقامته الحق وإظهاره العدل حتى أدى ذلك إلى اعتقاله بقصر إشبيلية ثم سرح فرحل حاجا إلى المشرق ودخل المهدية فلقي بها المازري وأقام في صحبته نحو ثلاث سنين ثم انتقل إلى مصر وحج سنة 527 وأقام بمكة مجاورا وحج ثانية سنة 528 ولقي بمكة أبا بكر عتيق بن عبد الرحمن الأوريولي في هذه السنة فحمل عنه ودخل العراق وخراسان وأقام بها أعواما وطار ذكره في هذه البلاد وعظم شأنه في العلم والدين وكان من بيت شرف وجاه في بلده عريض مع سعة الحال والمال وتوفي بهراة سنة 551 وقيل إن وفاته سنة 548 وذكره العماد في الخريدة والسمعاني في الذيل وأنشد له
( تلونت الأيام لي بصروفها ... فكنت على لون من الصبر واحد )
( فإن أقبلت أدبرت عنها وإن نأت ... فأهون بمفقود لأكرم فاقد )
وولد سنة 484 بشلب رحمه الله تعالى
287 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن موسى الأزدي المرسي ويعرف ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! ! !

بابن برطلة سمع من صهره القاضي الشهيد أبي علي الصدفي ورحل حاجا سنة 510 فأدى الفريضة وسمع من الطرطوشي والأنماطي والسلفي وغيرهم وانصرف إلى مرسية بلده وكان حسن السمت خاشعا مخبتا خيرا متواضعا نبيها نزها سالم الباطن وحكى عن شيخه أبي عبد الله الرازي عن أبيه أنه أخبره أن قاضي البرلس وكان رجلا صالحا خرج ذات ليلة إلى النيل فتوضأ وأسبغ وضوءه ثم قام فقرن قدميه وصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فسمع قائلا يقول
( لولا أناس لهم سرد يصومونا ... وآخرون لهم ورد يقومونا )
( لزلزلت أرضكم من تحتكم سحرا ... لأنكم قوم سوء لا تبالونا )
قال فتجوزت في صلاتي وأدرت طرفي فما رأيت شخصا ولا سمعت حسا فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى
وقال ابن برطل رحمه الله تعالى أنشدني أبو عامر قال دخلت بعض مراسي الثغر فوجدت في حجر منقوش هذه الأبيات
( نزلت ولي أمل عودة ... ولكنني لست أدري متى )
( ودافعني قدر لم أطق ... دفاعا لمكروهه إذ أتى )
( ومن أمره في يدي غيره ... سيغلب إن لان أو إن عتا )
( فيا نازلا بعدنا ههنا ... نحييك إن كنت نعم الفتى )
فسألت عن منشدها فقيل لي هو أبو بكر بن أبي درهم الوشقي وكان قد حج وأراد العودة فقال هذه الأبيات ورواها بعضهم رحلت مكان نزلت وهو أصوب وأبدل قوله يا نازلا بيا ساكنا والخطب سهل

فيه وبعض يقول إن الأبيات وجدت بجامع مصر والله تعالى أعلم
289 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن محمد بن خلف بن سعادة الداني الأصبحي لازم ابن سعد الخير واحتذى أول أمره مثال خطه فقاربه وسمع منه ثم رحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من أبي الطاهر بن عوف والسلفي وغير واحد قال التجيبي كان معنا بالإسكندرية بالعادلية منها وبقراءته سمعنا صحيح البخاري على السلفي سنة 573 قال وأنشدنا لشيخه الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سعد الخير البلنسي
( يا لاحظا تمثال نعل نبيه ... قبل مثال النعل لا متكبرا )
( والثم له فلطالما عكفت به ... قدم النبي مروحا ومبكرا )
( أولا ترى أن المحب مقبل ... طللا وإن لم يلف فيه مخبرا )
وقد سبق ابن سعادة أبو عبد الله وهو غير هذا والله تعالى أعلم
289 - ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف القضاعي المري سمع من أبي جعفر بن غزلون صاحب الباجي وغير واحد ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية من السلفي والرازي وتجول هنالك وأخذ عنه أبو الحسن بن المفضل المقدسي وغير واحد وقال ابن المفضل أنشدني المذكور قال أنشدني أبو محمد بن صارة
( وكوكب أبصر العفريت مسترقا ... للسمع فانقض يدني خلفه لهبه )

( كفارس حل إعصار عمامته ... فجرها كلها من خلفه عذبه )
290 - شهاب الدين بن أحمد بن عبد الله ابن مهاجر الوادي آشي الحنفي 291 - ومنهم شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن مهاجر الوادي آشي الحنفي سكن طرابلس الشام ثم انتقل إلى حلب وأقام بها وصار من العدول المبرزين في العدالة بحلب يعرف النحو والعروض ويشتغل فيهما وله انتماء إلى قاضي القضاة الناصر بن العديم قال الصفدي رأيته بحلب أيام مقامي بها سنة 723 فرأيته حسن التودد وأنشدني لنفسه من لفظه
( ما لاح في درع يصول بسيفه ... والوجه منه يضيء تحت المغفر )
( إلا حسبت البحر مد بجدول ... والشمس تحت سحائب من عنبر )
قال الصفدي جمع هذا المقطوع بين قول ابن عباد
( ولما اقتحمت الوغى دارعا ... وقنعت وجهك بالمغفر )
( حسبنا محياك شمس الضحى ... عليها سحاب من العنبر )
وبين قول أبي بكر الرصافي
( لو كنت شاهده وقد غشي الوغى ... يختال في درع الحديد المسبل )
( لرأيت منه والقضيب بكفه ... بحرا يريق دم الكماة بجدول )
وقال يمدح الشيخ كمال الدين محمد بن الزملكاني وقد توجه إلى حلب قاضي القضاة

( يمن ترنم فوق الأيك طائره ... وطائر عمت الدنيا بشائره )
( وسؤدد أصبح الإقبال ممتثلا ... في أمره ما أخوه العز آمره )
( ومنها
( من مخبر عني الشهباء أن كمال ... الدين قد شيدت فيه مقاصره )
( وأن تقليده الزاهي وخلعته التي ... تطرز عطفيها مآثره )
( بالنفس أفديك من تقليد مجتهد ... سواه يوجد في الدنيا مناظره )
( أنشدت حين أدار البشر كأس طلى ... حكت أوائله صفوا أواخره )
( وقد بدت في بياض الطرس أسطره ... سودا لتبدي ما أهدت محابره )
( ساق تكون من صبح ومن غسق ... فابيض خداه واسودت غدائره )
( وخلعة قلت إذ لاحت لتزرينا ... بالروض تطفو على نهر أزاهره )
( وقد رآها عدو كان يضمر لي ... من قبل سوءا فخانته ضمائره )
( ورام صبرا فأعيته مطالبه ... وغيض الدمع فانهلت بوادره )
( بعودة الدولة الغراء ثالثة ... أمنت منك ونام الليل ساهره )
وقال أيضا
( تسعر في الوغى نيران حرب ... بأيديهم مهندة ذكور )
( ومن عجب لظى قد سعرتها ... جداول قد أقلتها بدور )
وقال ملغزا في قالب لبن
( ما آكل في فمين ... يغوط من مخرجين )
( مغرى بقبض وبسط ... وما له من يدين )
( ويقطع الأرض سعيا ... من غير ما قدمين )

وخمس لامية العجم مدحا في رسول الله قال الصفدي ولما كنت في حلب كتب إلى أبياتا انتهى
291 - ومنهم أبو جعفر أحمد بن صابر القيسي قال أبو حيان كان المذكور رفيقا للأستاذ أبي جعفر بن الزبير شيخنا وكان كاتبا مترسلا شاعرا حسن الخط على مذهب أهل الظاهر وكان كاتب أبي سعيد فرج بن السلطان الغالب بالله بن الأحمر ملك الأندلس وسبب خروجه من الأندلس أنه كان يرفع يديه في الصلاة على ما صح في الحديث فبلغ ذلك السلطان أبا عبد الله فتوعده بقطع يديه فضج من ذلك وقال إن إقليما تمات فيه سنة رسول الله حتى يتوعد بقطع اليد من يقيمها لجدير أن يرحل منه فخرج وقدم ديار مصر وسمع بها الحديث وكان فاضلا نبيلا ومن شعره أتنكر أن يبيض رأسي لحادث ... من الدهر لا يقوى له الجبل الراسي )
( وكان شعارا في الهوى قد لبسته ... فرأسي أمي وقلبي عباسي )
قلت لو قال شيبي لكان الغاية
وأنشد له بعضهم
( فلا تعجبا ممن عوى خلف ذي علا ... لكل علي في الأنام معاويه ) قلت لا يخفى ما فيه من عدم سلوك الأدب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين ويرحم الله بعض الأندلسيين حيث قال في رجز كبير
( ومن يكن يقدح في معاويه ... فذاك كلب من كلاب عاويه )

وأنشد أبو حيان للمذكور
( أرى الدهر ساد به الأرذلون ... كالسيل يطفو عليه الغثا )
( ومات الكرام وفات المديح ... فلم يبق للقول إلا الرثا )
وأنشد له أيضا
( لولا ثلاث هن والله من ... أكبر آمالي في الدنيا )
( حج لبيت الله أرجو به ... أن يقبل النية والسعيا )
( والعلم تحصيلا ونشرا إذا ... رويت أوسعت الورى ريا )
( وأهل ود أسأل الله أن ... يمتع بالبقيا إلى اللقيا )
( ما كنت أخشى الموت أنى أتى ... بل لم أكن ألتذ بالمحيا )
وقال أبو حيان في هذه المادة
( أما إنه لولا ثلاث أحبها ... تمنيت أني لا أعد من الأحيا )
( فمنها رجائي أن أفوز بتوبة ... تكفر لي ذنبا وتنجح لي سعيا )
( ومنهن صوني النفس عن كل جاهل ... لئيم فلا أمشي إلى بابه مشيا )
( ومنهن أخذي بالحديث إذا الورى ... نسوا سنة المختار واتبعوا الرأيا )
( أتترك نصا للرسول وتقتدي ... بشخص لقد بدلت بالرشد 7 الغيا )
292 - ومنهم الأستاذ أبو القاسم ابن الإمام القاضي أبي الوليد الباجي سكن سرقسطة وغيرها وروى عن أبيه معظم علمه وخلفه بعد وفاته في حلقته وغلب عليه علم الأصول والنظر وله تآليف تدل على حذقه منها العقيدة في المذاهب السديدة ورسالة الاستعداد للخلاص من المعاد

وكان غاية في الورع توفي بجدة بعد منصرفه من الحج سنة 493 رحمه الله تعالى 294 - ومنهم الإمام الفاضل الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الساحلي الغرناطي قال العز بن جماعة قدم علينا من المغرب سنة 724 ثم رجع إلى المغرب في هذه السنة وبلغنا أنه توفي بمراكش سنة نيف وأربعين وسبعمائة وأنشد والدي قصيدة من نظمه امتدحه بها وأنا أسمع ومن خطه نقلت وهي
( قفا موردا عينا جرت بعدكم دما ... أناضي أسفار طوين على ظما )
( غدون أهلات تناقل أنجما ... ورحن حنيات تفوق أسهما )
( يجشمها الحادي الأمرين حسرا ... ويوطئها الحادي الأحرين هيما )
( على منسميها للشقائق منبت ... وفي فمويها للشقاشق مرتمى )
إلى أن قال
( وتعسا لآمال جهام سحابها ... تزجى ركاما ما استهل ولا همى ) تجاذبها نفس تجيش نفيسة ... ومن لم يجد إلا صعيدا تيمما )
( فهل ذمم يرعاه ليل طويته ... طواني سرا بين جنبيه منهما )
( أقبل منه للبروق مباسما ... وأرشف من بهماء ظلمائه لمى )
( إلى أن تجلى من كنانة بدرها ... فعرس ركبي في حماه وخيما )

( ثمال اليتامى حيث ليس مظلل ... وكهف الأيامى أيما عز مرتمى )
ومنها
( فيا كفه هل أنت أم غيث ديمة ... أسالت عبابا في ثرى الجود عيلما )
( ويا سعيه يهنيك أجر ثنى به ... على معطفي علياه بردا مسهما )
( قضى بمنى أوطار نفس كريمة ... وروى صداها حين حل بزمزما )
( وناداه داعي الحق حي على الهدى ... فأسرج طوعا في رضاه وألجما )
( فلله ما أهدى وأرشد واهتدى ... ولله ما أعطى وأوفى وأنعما )
ومنها
( أمت بآداب وعلم كليهما ... أقاما لديك الدعي فرضا وألزما )
وهي طويلة
294 - ومن الراحلين من الأندلس الوليد بن هشام من ولد المغيرة بن عبد الرحمن الداخل فيما حكى بعض المؤرخين خرج من الأندلس على طريقة الفقر والتجرد ووصل برقة بركوة لا يملك سواها فعرف بأبي ركوة وأظهر الزهد والعبادة واشتغل بتعليم الصبيان وتلقينهم القرآن وتغيير المنكر حتى خدع البربر بقوله وفعله وزعم أن مسلمة بن عبد الملك بشر بخلافته بما كان عنده من علم الحدثان وكان يقال عن مسلمة إنه أخذ علم الحدثان عن خالد بن يزيد بن معاوية وأخرج لهم أرجوزة أسندها إلى مسلمة ومنها في وصفه
( وابن هشام قائم في برقه ... به ينال عبد شمس حقه )

( يكون في بربرها قيامه ... وقرة العرب لها إكرامه )
واتفق أن قرة انحرفوا عن الحاكم فمالوا إليه وحصروا معه مدينة برقة حتى فتحوها وخطبوا له فيها بالخلافة وكان قيامه في رجب سنة 397 فهزم عسكر باديس الصنهاجي صاحب إفريقية وعسكر الحاكم بمصر وأحيا أمره وخاطبه بطانة الحاكم لكثرة خوفهم من سفك الحاكم الدماء ورغبوه في الوصول إلى أوسيم وهو مكان بالجيزة قبالة القاهرة فلما وصل إليها قام بمحاربته الفضل بن صالح القيام المشهور إلى أن هزم أبا ركوة ثم جاء به إلى القاهرة فأمر الحاكم أن يطاف به على جمل ثم قتل صبرا في 13 رجب سنة 399 ولما حصل في يد الحاكم كتب إليه
( فررت ولم يغن الفرار ومن يكن ... مع الله لم يعجزه في الأرض هارب )
( ووالله ما كان الفرار لحاجة ... سوى فزعي الموت الذي أنا شارب )
( وقد قادني جرمي إليك برمتي كما اجتر ميتا في رحى الحرب سالب )
( وأجمع كل الناس أنك قاتلي ... فيا رب ظن ربه فيه كاذب )
( وما هو إلا الانتقام وينتهي ... وأخذك منه واجبا وهو واجب )
ولأبي ركوة المذكور أشعار كثيرة منها قوله
( بالسيف يقرب كل أمر ينزح ... فاطلب به إن كنت ممن يفلح )
وله
( على المرء أن يسعى لما فيه نفعه ... وليس عليه أن يساعده الدهر ) وقوله
( إن لم أجلها في ديار العدا ... تملأ وعر الأرض والسهلا )
( فلا سمعت الحمد من قاصد ... يوما ولا قلت له أهلا )

وله غير ذلك مما يطول وخبره مشهور
295 - ومنهم أبو زكريا الطليطلي يحيى بن سليمان قدم إلى الإسكندرية ثم رحل إلى الشام واستوطن حلب وله ديوان شعر أكثر فيه من المديح والهجاء قال بعض من طالعه ما رأيته مدح أحدا إلا وهجاه وله مصنفات في الأدب ومن نظمه قوله
( أرض سقت غيطانها أعطانها ... وزهت على كثبانها قضبانها ) ومنها
( فتكت بألباب الكماة فسيفها ... من طرفها وسنانها وسنانها )
( لم يبق شخص بالبسيطة سالما ... إلا سبى إنسانه إنسانها ) ومنها
( وتصاحبت وتجاوبت أطيارها ... وتداولت وتناولت ألحانها )
( وتنسمت وتبسمت أيامها ... وتهللت وتكللت أزمانها )
( بمديرها ومنيرها ونميرها ... ومعيرها حسنا جلاه عيانها )
296 - أبو بكر يحيى بن عبد الله بن محمد القرطبي المعروف بالمغيلي سمع من محمد بن عبد الملك بن أيمن وقاسم بن أصبغ وغيرهما ورحل فسمع من أبي سعيد بن الأعرابي وكان بصيرا بالعربية والشعر ومؤلفا جيد النظر حسن الاستنباط حدث وتوفي فجأة في شهر ربيع الأول سنة 362 قاله ابن الفرضي

297 - ومنهم الإمام المحدث أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن سلمة الأنصاري الغرناطي قدم المشرق وتوفي بمصر سنة 703 عن نحو خمسين سنة بالبيمارستان المنصوري قال قاضي القضاة عبد العزيز بن جماعة الكناني في كتابه نزهة الألباب أنشدنا المذكور لنفسه بالقاهرة بعد قدومه من مكة والمدينة وقد رام أن يعود إليهما فلم يتيسر له
( لئن بعدت عني ديار الذي أهوى ... فقلبي على طول التباعد لا يقوى )
( فحدث رعاك الله عن عرب رامة ... فإني لهم عبد على السر والنجوى )
( فإن مت شوقا في الهوى وصبابة ... فيا شرفي إن مت في حب من أهوى )
( فيا أيها العذال كفوا ملامكم ... فما عندكم بعض الذي بي من الشكوى )
( ويا جيرة الحي الذي ولهي بهم ... أما ترحموا صبا يحن إلى حزوى )
( ويا أهل ذياك الحمى وحياتكم ... يمين وفي صادق القول والدعوى )
( ملكتم قيادي فارحموا وترفقوا ... فأنتم مرادي لا سعاد ولا علوى )
( فما لي سواكم سادتي لا عدمتكم ... فجودوا بوصل أنتم الغاية القصوى )
انتهى
298 - ومنهم الفاضل الأديب أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن علي الغرناطي قال ابن جماعة في الكتاب المسمى قريبا أنشدني المذكور لنفسه على قبر سيدنا حمزة رضي الله تعالى عنه
( يا سيد الشهداء بعد محمد ... ورضيع ذي المجد المرفع أحمد )
( يا ابن الأعزة من خلاصة هاشم ... سرج المعالي والكرام المجد )
( يا أيها البطل الشجاع المحتمي ... دين الإله ببأسه المستأسد ...
( يا نبعة الشرف الأصيل المعتلي ... يا ذروة الحسب الأثيل الأتلد )

( يا نجدة الملهوف في قحم الوغى ... عند التهاب جحيمها المتوقد )
( يا غيث ذي الأمل البعيد مرامه ... يا غوث موتور الزمان الأنكد )
( يا من لعظم مصابه خص الأسى ... قلب الرسول وعم كل موحد )
( يا حمزة الخير المؤمل نفعه ... يوم الهياج وعند فقد المنجد )
( وافاك يا أسد الإله وسيفه ... وفد ألموا من حماك بمعهد )
( جئناك يا عم الرسول وصنوه ... قصد الزيارة فاحتفل بالقصد )
( واسأل إلهك في اغتفار ذنوبنا ... شيم المزور قيامه بالعود )
( لذنا بجانبك الكريم توسلا ... وكذا العبيد ملاذهم بالسيد )
( فاشفع لضيفك فالكريم مشفع ... عند الكريم ومن يشفع يقصد )
( يا ابن الكرام المكرمين نزيلهم ... أهل المكارم والعلا والسؤدد )
( نزل الضيوف جناب ساحتك التي ... منها يؤمل كل عطف مسعد )
( فاجعل أبا يعلى قرانا عطفة ... وارغب لربك في هدانا واقصد )
( فعسى يمن على الجميع بتوبة ... يهدي بها نهج الطريق الأرشد )
( فقد اعتمدنا منك خير وسيلة ... نرجو بها حسن التجاوز في غد )
( لم لا تؤم وأنت عم محمد ... ولدينه قد صلت صولة أيد )
( وصحبته ونصرته وعضدته ... وذببت عنه باللسان وباليد )
( وبذلت نفسك في رضاه بجنة ... فقبلت في ذات الإله الأوحد )
( فجزاك عنا الله خير جزائه ... وسقا ثراك حيا الغمام المرعد )
( وعلى رسول الله منه سلامة ... وعليك متصل الرضى المتجدد
ولد ببعض أعمال غرناطة قبل التسعين وستمائة وتوفي بالمدينة الشريفة طابة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام سنة 715 ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى انتهى
299 - ومنهم الشيخ نور الدين أبو الحسن المايرقي من أقارب بعض

ملوك المغرب وكان من الفضلاء العلماء الأدباء وله مشاركة جيدة في العلوم ونظم حسن ومنه قوله
( القضب راقصة والطير صادحة ... والنشر مرتفع والماء منحدر )
( وقد تجلت من اللذات أوجهها ... لكنها بظلال الدوح تستتر )
( فكل واد به موسى يفجره ... وكل روض على حافاته الخضر )
وقوله
( وذي هيف راق العيون انثناؤه ... بقد كريان من البان مورق )
( كتبت إليه هل تجود بزورة ... فوقع لا خوف الرقيب المصدق )
( فأيقنت من لا بالعناق تفاؤلا ... كما اعتنقت لا ثم لم تتفرق )
وهذا أحسن من قول ذي القرنين بن حمدان
( إني لأحسد لا في أحرف الصحف ... إذا رأيت اعتناق اللام للألف )
( وما أظنهما طال اجتماعهما ... إلا لما لقيا من لوعة الأسف )
وأحسن من هذا قول القيسراني
( أستشعر اليأس في لا ثم يطمعني ... إشارة في اعتناق اللام للألف )
وكانت وفاة أبي الحسن المذكور في ربيع الأول سنة 655 ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى والأبيات التي أولها القضب راقصة الخ نسبها له اليونيني وغير واحد والصواب أنها ليست له وإنما هي لنور الدين ابن سعيد صاحب المغرب وقد تقدم ذكره ولعل السهو سرى من تشارك الاسم واللقب والقطر ومثل هذا كثيرا ما يقع والله تعالى أعلم
300 - ومن الراحلين من أهل الأندلس إلى المشرق ابن عتبة الإشبيلي

وكان فارق إشبيلية حين تولاها ابن هود واضطرمت بفتنته الأندلس نارا ولما قدم مصر هاربا من تلك الأهوال تغيرت عليه البلاد وتعدلت به الأحوال فلما سئل عن حاله بعد بعده عن أرضه وترحاله بادر وأنشد
( أصبحت في مصر مستضاما ... أرقص في دولة القرود )
( واضيعة العمر في أخير ... مع النصارى أو اليهود )
( بالجد رزق الأنام فيهم ... لا بذوات ولا جدود )
( لا تبصر الدهر من يراعي ... معنى قصيد ولا قصود )
( أود من لؤمهم رجوعا ... للغرب في دولة ابن هود )
وتذكرت بقوله أرقص في دولة القرود ما وقع لأبي القاسم بن القطان وهو مما يستطرف ويستظرف وذلك أنه لما ولي الوزارة الزينبي دخل عليه أبو القاسم المذكور والمجلس حافل بالرؤساء والأعيان فوقف بين يديه ودعا له وأظهر الفرح والسرور ورقص فقال الوزير لبعض من يفضي إليه بسره قبح الله هذا الشيخ فإنه يشير برقصه إلى قول الشاعر وأرقص للقرد في دولته
301 - ومن المرتحلين أبو عبد الله ابن جابر محمد بن جابر الضرير من أهل المرية ويعرف بشمس الدين بن جابر الضرير وله ترجمة في الإحاطة ذكرناها مع زيادة عليها عند تعرضنا لأولاد لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى ! ورحل إلى المشرق ودخل مصر والشام واستوطن حلب وهو صاحب البديعية المعروفة ببديعية العميان وله أمداح نبوية كثيرة وتواليف منها شرح ألفية ابن مالك وغير ذلك وله ديوان شعر وأمداح نبوية في غاية الإجادة ومن نظمه رحمه الله تعالى موريا بأسماء الكتب

( عرائس مدحي كم أتين لغيره ... فلما رأته قلن هذا من الأكفا )
( نوادر آدابي ذخيرة ماجد ... شمائل كم فيهن من نكت تلفى )
( مطالعها هن المشارق للعلا ... قلائد قد راقت جواهرها رصفا )
( رسالة مدحي فيك واضحة ولي ... مسالك تهذيب لتنبيه من أغفى )
( فيا منتهى سؤلي ومحصول غايتي ... لأنت امرؤ من حاصل المجد مستصفى )
وقد اشتملت هذه الأبيات الخمسة على التورية بعشرين كتابا وهي العرائس للثعالبي والنوادر للقالي وغيره والذخيرة لابن بسام وغيره والشمائل للترمذي والنكت لعبد الحق الصقلي وغيره والمطالع لابن قرقول وغيره والمشارق للقاضي عياض وغيره والقلائد لابن خاقان وغيره ورصف المباني في حروف المعاني للأستاذ ابن عبد النور وهو كتاب لم يصنف في فنه مثله والرسالة لابن أبي زيد وغيره والواضحة لابن حبيب والمسالك للبكري وغيره والجواهر لابن شاس وغيره والتهذيب في اختصار المدونة وغيره والتنبيه لأبي إسحاق وغيره ومنتهى السؤل لابن الحاجب والمحصول للإمام الرازي والغاية للنووي وغيره والحاصل مختصر المحصول والمستصفى للغزالي
وما أحسن قول الحكيم موفق الدين
( لله أيامنا والشمل منتظم ... نظما به خاطر التفريق ما شعرا )
( والهف نفسي على عيش ظفرت به ... قطعت مجموعه المختار مختصرا )
وهذه ثلاثة كتب مشهورة المختار والمجموع والمختصر وأحسن منه قول الآخر
( عن حالتي يا نور عيين لا تسل ... ترك الجواب جواب تلك المسأله )

( حالي إذا حدثت لا لمعا ولا ... جملا لإيضاحي بها من تكمله )
( عندي جوى يذر الفصيح مبلدا ... فاترك مفصله ودونك مجمله )
( القلب ليس من الصحاح فيرتجى ... إصلاحه والعين سحب مثقله )
( وقد أوردنا في ترجمة أبي عبد الله بن جزى الكاتب الأندلسي جملة مستكثرة في التورية بأسماء الكتب فلتراجع ثمة
رجع إلى الشمس بن جابر فنقول ومن نظمه رحمه الله تعالى تثمينه للأبيات المشهورة
( لم يبق في اصطبار ... )
( مذ خلفوني وساروا ... )
( وللحبيب أشاروا ... )
( جار الكرام فجاروا ... )
( لله ذاك الأوار ... )
( بانوا فما الدار دار ... )
( يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري )
( كانوا من الود أهلي ... )
( ما عاملوني بعدل ... ) أصموا فؤادي بنبل ... )
( يا بين بينت ثكلي ... )
( يا روح قلبي قل لي ... أهم دعوك لقتلي ... )
( وحرموا لك وصلي ... وحللوا لك هجري ... )

( حسبي وماذا عناد ... )
( هم المنى والمراد ... )
( وإن عن الحق حادوا ... )
( أو جاملوني وجادوا ... ) يا من به الكل سادوا ... )
( والكل عندي سداد ... )
( فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر ... )
( وتذكرت بهذا قول أبي البركات أيمن بن محمد السعدي رحمه الله تعالى
( للعاشقين انكسار ... وذلة وافتقار )
( وللملاح افتخار ... وعزة واقتدار )
( وأهل بدري أشاروا وودعوني وساروا )
يا بدر - إلخ
كتبت والوصل يملي ... جد الهوى بعد هزل )
( وحار ذهني وعقلي ... ما بين بدري وأهلي )
( يا بدر فاحكم بعدل ... إذا أتوك بعذل )
وحرموا - إلخ
( لولا هواك المراد ... ما كنت ممن يصاد )
( ولا شجاني البعاد ... يا بدر أهلك جادوا )
( غلطت جاروا وزادوا ... لكنهم بك سادوا )
فليفعلوا - إلخ

رجع إلى ابن جابر فنقول
توفي رحمه الله تعالى في إلبيرة في جمادى الآخرة سنة 780 ومن نظمه قوله
( يا أهل طيبة في مغناكم قمر ... يهدي إلى كل محمود من الطرق )
( كالغيث في كرم والليث في حرم ... والبدر في أفق والزهر في خلق )
وله
( ولما وقفنا كي نودع من نأى ... ولم يبق إلا أن تحث الركائب )
( بكينا وحق للمحب إذا بكى ... عشية سارت عن حماه الحبائب )
وقال
( أما معاني المعاني فهي قد جمعت ... في ذاته فبدت نارا على علم )
( كالبدر في شيم والبحر في ديم ... والزهر في نعم والدهر في نقم )
وقال
( ضحكت فقلت كأن جيدك قد غدا ... يهدي لثغرك من جواهر عقده )
( وكأن ورد الخد منك بمائه ... قد شاب عذب لماك حالة ورده )
وقال
( منعتنا قرى الجمال وقالت ... ليس في غير زادنا من مجال )
( فأقمنا على الرحال وقلنا ... مالنا حاجة بحط الرحال )

وقال
( عذب قلبي رشأ ناعم ... أسهر جفني طرفه الناعس )
( يحرس باللحظ جنى خده ... يا ليته لو غفل الحارس ) وله
( وافيت ربعهم وقد بعد المدى ... ونأى الفريق من الديار وسارا )
( ما كدت أعرف بعد طول تأمل ... دارا بها طاف السرور ودارا )
وله
( ولست أرى الرجال سوى أناس ... همومهم موافاة الرجال )
( أطالوا في الندى إهلاك مال ... فعاشوا في الأنام ذوي كمال )
وقال
( أيها المتهمون نفسي فداكم ... أنجدوني على الوصول لنجد )
( وقفوا بي على منازل ليلى ... فوجودي هناك يذهب وجدي )
وما كتبه على كتاب نسيم الصبا لابن حبيب وصورته لما وقفت على الفصول الموسومة بنسيم الصبا المرسومة في صفحات الحسن فإذا أبصرها اللبيب صبا انتعش بها الخاطر انتعاش النبت بالغمام وهمت سحائب بيانها فأثمرت حدائق الكلام وأخرجت أرض القرائح ما فيها من النبات وسمعت الآذان صخبة الأذهان بهذه الأبيات
( هذي فصول الربيع في الزمن ... كم حسن أسندت إلى حسن )

( رقت وراقت فمن شمائلها ... بمثل صرف الشمول تتحفني )
( كم ملح قد حوت وكم لمح ... يعجبني لفظها ويعجزني )
( كم فيه من نفث ومن نكت ... أشهدني حسنها فأدهشني )
( جمع عدمنا له النظير فلا ... يصرف عن خاطر ولا أذن )
( يا خير أهل العلا وبحرهم ... أي بديع الكلام لم ترني )
( بدرك في مطلع الفضائل لا ... يكون مثل له ولم يكن )
( هذي الفصول التي أتيت بها ... قد أفحمت كل ناطق لسن )
( كم فن معنى بها يذكرني ... شجوي لشدو الحمام في فنن )
( فمن نسيب مع النسيم جرى ... لطفا فأزرى بالجوهر الثمن )
( وحسن سجع كالزهر في أفق ... والزهر في ناعم من الغصن )
( له معان أعيت مداركها ... كل معان بنيلهن عني )
( لا زال راق للمجد راقمها ... ذا سنن حاز أحسن السنن ) فصول هي للحسن أصول وشمول لها على كل القلوب شمول ليس لقدامة على التقدم إليها حصول ولا لسحبان لأن يسحب ذيلها وصول ولا انتهى قس الإيادي لهذه الأيادي ولا ظفر بديع الزمان بهذه البدائع الحسان لقد قصر فيها حبيب عن ابنه وحار بين لطافة فضله وفضل ذهنه نزهت في طرف خمائلها ونبهت بلطف شمائلها تالله إنها لسحر حلال وخلال ما مثلها خلال كلام كله كمال ومجال لا يرى فيه إلا جمال راقم بردها وناظم عقدها في كل فصل جاء بكمال فضل وفي كل معنى عمر بالبراعة مغنى أعرب فأغرب وأوجر فأعجز وأطال فأطاب وأجاد حين أجاب فما أنفس فرائده وأنفع فوائده وأفصح مقاله وأفسح مجاله وأطوع للنظم طباعه وأطول في النثر باعه أزاهر نبتت في كتاب وجواهر تكونت من ألفاظ عذاب ومواهب لا تدرك

بيد اكتساب فسبحان من يرزق من يشاء بغير حساب فصول أحلى في الأفواه من الشهد وأشهى إلى النواظر من النوم بعد السهد سبك أدبها في قالب النكت الحسان وذهب بمحامد عبد الحميد ومحاسن حسان فما أحقها أن تسمى فصول الربيع وأصول البديع لا زال حسنها يملأ الأوراق بما راق ويزين الآفاق بما فاق ولا برحت حدائق براعته نزهة للأحداق وحقائق بلاغته في جيد الإجازة بمنزلة الأطواق بمن الله تعالى وكرمه انتهى
وحيث جرى ذكر كتاب نسيم الصبا فلا بأس أن نذكر تقاريظ العلماء له فمن ذلك قول القاضي شرف الدين بن ريان وقفت على هذا الكتاب الذي أبدع فيه مؤلفه ونظم فيه الجواهر النفيسة مصنفه وأينعت حدائق أدبه فدنا ثمرها لمن يقطفه وعرفت مقدار ما فيه من الإنشاء وأين من يعرفه فوجدته ألطف من اسمه وأحسن من الدرر في نظمه وأطيب من الورد عند شمه هبت على رياض فصوله نسيم صباها ففاقت الأزهار في رباها وتشوقت قلوب الأدباء إلى انتشاق شذاها وطيب رياها وفاضت عليه أنوار البدر فأغنى سناها عن الشمس وضحاها وتحلت نحور البلغاء من كلامه بالدر اليتيم ومن معانيه بالعقد النظيم وترنحت أفنان فنون الفصاحة لما هب عليها ذلك النسيم كل فصل له في الفضل أسلوب على بابه وطريق انفرد به منشئه محاسن لا توجد إلا في كتابه صدر هذا الكتاب عن علم سابق وفكر ثاقب وذهن رائق ونفس صادق وروية ملأت تصانيفها المغارب والمشارق وقريحة إذا ذقت جناها وشمت سناها تذكرت ما بين العذيب وبارق فالله تعالى يبقي مصنفه قبلة لأهل الأدب ويديمه ويبلغه من سعادة الدنيا والآخرة ما يرومه بمنه وكرمه انتهى
وقرظ عليه بعضهم بقوله وقف المملوك سليمان بن داود المصري على فصول الحكم من هذه الفصول ووجد من نسيم الصبا أمارات القبول ونزه طرفه في رياض هذا الكتاب وخاطب فكره العقيم في وصفه فعجز عن

رد الجواب
( ماذا أقول وكل وصف دونه ... أين الحضيض من السماك الأعزل )
يا لها كلمات نقصت قدر الأفاضل وفضحت فصحاء الأوائل وسحبت ذيل الفصاحة على سحبان وائل وزادت في البلاغة على فريد وغيرت حال القدماء فما عبد الرحيم الفاضل وما عبد الحميد وذلت لها تشبيهات ابن المعتز طوعا وملكت زمام البيان فما تركت للبديع منه نوعا
( قطف الرجال القول حين نباته وقطفت أنت القول لما نورا )
وخطاب أعجز الخطباء وصفه وجواب ألغى البلغاء رصفه وغرائب تعرفت بمبديها وشوارد تألفت بمهديها وجنان بلاغة لم يطمث أبكارها إنس قبلك ولا جان ولم يقطف أزهارها عين ناظر ولا يد جان معان تطرب السمع لها حكم وأحكام وألفاظ هي الأرواح للأرواح أجسام فلما ألقى فهمه عروة المتماسك وضاقت عليه في وصفه المسالك وعجز عن وصف بلوغ بلاغته عطف على حسن كتابته فرأى خطا يسبي الطرف ويستغرق الظرف نسج قلمه الكريم من وشي البلاغة ديباجا واتخذ من محاسن الحسان طريقا ومنهاجا فألفى ألفات كاعتدال القدود ونونات كأهلة السعود وسينات كالطرر ونقطا كالدرر جعل للأقلام حجة قاطعة على السيوف وحلى الأسماع بحلية زائدة على الشنوف فعطف ساعة يطنب في دعائه وشكره وآونة يميل من طربه بألفاظه وسكره فلله در ألفاظك ودرر فضلك وأحسن بوابلك الهاطل بالبيان وطلك

لسانك غواص ولفظك جوهر ... وصدرك بحر بالفضائل زاخر )
والله المسؤول أن يرفع قدر مقالك
( ومقام قدرك ويوضح منهاج الأدب بنور بدرك بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير
وكتب قاضي القضاة تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى في تقريظ الكتاب المذكور ما نصه الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم حدقت نحو الحدائق وفوقت سهمي تلقاء الغرض الشائق وطرقت إلى ما يضيء أخا الحجى أسهل الطرائق فما علل صداي كنسيم الصبا ولا كمثله سهما صائبا صابه من لا صبا ولا نظرت نظيره حديقة تنبت فضة وذهبا
( وتجيء من ملح الكلام بطارف أو تالده )
( كلم نوابغ نحو آفاق ... المطالع صاعده )
( لو رامها قس لما ... ألفى أباه ساعده )
( أبدى نتائج عيه ... في ذي المعاني الشارده )
فعين الله تعالى عليها كلمات عليها منه رقيب ومحاسن تسلى عندها بالحسن حبيب وفوائد حسان يذكرنا بها حسان البعيد حسن القريب كتبه عبد الوهاب السبكي انتهى
وكتب ناصر الدين صاحب دواوين الإنشاء ما صورته وقفت على هذا الكتاب الذي أشبه الدر في انتظامه والثغر في ابتسامه وقطر الندى في انسجامه وزهر الروض في البكر إذا غنت على غصونه مطربات حمامه فوجدت بين اسمه ومسماه مناسبة اقتضاها طبع مؤلفه السليم واتصالا قريبا كاتصال الصديق الحميم فتحققت أن مؤلفه - أبقاه الله تعالى وحرسه - أبدع في

تأليفه وأصاب في تمييزه بهذا الاسم وتعريفه فهو في اللطافة كالماء في إروائه وكالهواء المعتدل في ملاءمة الأرواح بجوهر صفائه وكالسلك إذا انتقى جوهره وأجيد في انتقائه قد أينعت ثمرات فضائله فأصبحت دانية القطوف وتجلت عرائس بلاغته فظهر بدرها بلا كسوف وانجابت ظلمات الهموم بسماع موصول مقاطعه التي هي في الحقيقة لأذن الجوزاء شنوف فأكرم به من كتاب ما الروض أبهى من وسيمه ولا الريحان بأعطر من شميمه ولا المدامة بأرق من هبوب نسيمه ولا الدر بأسنى زهرا بل زهوا من رسومه إذا تدبره الأديب أغنته تلك الأفانين عن نغمات القوانين وإذا تأمله الأريب نزه طرفه في رياض البساتين قد سور على كل نوع من البديع باب لا يدخله إلا من خص من البلاغة باللباب والله تعالى يؤتيه الحكمة وفصل الخطاب ويمتع بفضائله التي شهدها أهل العلم وذوو الألباب بمنه وكرمه وكتبه محمد بن يعقوب الشافعي
وكتب الصفدي شارح لامية العجم بما نصه وقفت على هذا المصنف الموسوم بنسيم الصبا والتأليف الذي لو مر بالمجنون لما ألف ليلاه ولا مال إليها ولا صبا والإنشاء الذي إن شاء قائله جعل الكلام غيره في هبات الهواء هبا والنثر الذي أغار قائله على سبائك الذهب الإبريز وسبى والكلام الذي نبا عنه الجاحظ جاحدا وما له ذكر ولا نبا فسبحت جواهر حروفه لمن أوجده في هذا العصر وعلمت أن ألفاظه ترمي قلوب حساده بشرر كالقصر وتحققت أن قعقعة طروسه أصوات أعلامه التي تخفق له بالنصر وتيقنت أن سطوره غصون لا تصل إليها كف جناية بجنى ولا هصر
( لأهل النظم والنثر قابلوا ... ( ترائبها مصقولة كالسجنجل )
( وميلوا بأعطاف التعجب إنها ... ( نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
ولما ملت بعدما ثملت وغزلت بعدما هزلت جردت من نفسي شخصا

أخاطبه وأجاريه في أوصاف محاسنها التي أناهبه منها وأناهيه فقال لي هذا الفن الفذ والنثر الذي قهر أقران هذه الصناعة وبذ والأدب الذي سد الطرق على أوابده فما فاته شيء ولا شذ وهذا الإنشاء الذي ما له عديل في هذا العديد ولا ضريب وهذا الكلام الذي فاق في الآفاق فما لحبيب بن أوس حسن حسن بن حبيب فعين الله تعالى على هذه الكلم الساحرة والفوائد التي أيقظت جفن الأدب بعد ما كان بالساهرة ومتع الله تعالى الزمان وأهله بهذا النوع الغض والنقد النض والبز البض والبديع الذي رم ما تشعث من ربع هذا الفن ورض واقتض المعاني أبكاره وافتض وأرسل جارح بلاغته على الجوارح فصادها وانقص وانقض وأنبط ماء الفصاحة لما تحدر وارفض واستمال القلب الفظ لما فك ختم ذهوله وفض إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير بمنه وكرمه وكتبه خليل الصفدي انتهى
302 - ومنهم الأديب أبو جعفر الإلبيري رفيق ابن جابر السابق الذكر وهو البصير وابن جابر الأعمى وله نظم بديع منه قوله
( أبدت لي الصدغ على خدها ... فأطلع الليل لنا صبحه )
( فخدها مع قدها قائل ... ( هذا شقيق عارض رمحه )
وقوله وقد دخل حمص
( حمص لمن أضحى بها جنة ... يدنو لديها الأمل القاصي )
( حل بها العاصي ألا فاعجبوا ... من جنة حل بها العاصي ) وقوله
( إن بين الحبيب عندي موت ... وبه قد حييت منذ زمان )

( ليت شعري متى تشاهده العين ... وتقضي من اللقاء الأماني )
قال وفيه استخدام لأن البين يطلق على البعد والقرب انتهى ومن نظمه أيضا رحمه الله تعالى
( ومورد الوجنات دب عذاره ... فكأنه خط على قرطاس )
( لما رأيت عذاره مستعجلا ... قد رام يخفي الورد منه بآس )
( ناديته قف كي أودع ورده ... ( ما في وقوفك ساعة من باس )
وهذا المعنى قد تبارى فيه الشعراء وتسابقوا في مضماره فمنهم من جلى وبرز وحاز خصل السبق وأحرز ومنهم من كان مصليا ومنهم من غدا لجيد الإحسان محليا ومنهم من عاد قبل الغاية موليا
رجع - ومن تأليفه رحمه الله تعالى شرحه لبديعية رفيقه ابن جابر المذكور
وقال في خطبته ولما كانت القصيدة المنظومة في علم البديع المسماة بالحلة السيرا في مدح خير الورى التي أنشأها صاحبنا الإمام العلامة شمس الدين أبو عبد الله بن جابر الأندلسي نادرة في فنها فريدة في حسنها يجنى ثمر البلاغة من غصنها وتنهل سواكب الإجادة من مزنها لم ينسج على منوالها ولا سمحت قريحة بمثالها رأيت أن أضع لها شرحا يجلو عرائس معانيها لمعانيها ويبدي غرائب ما فيها لموافيها لا أمل الناظر فيه بالتطويل ولا أعوقه بكثرة الاختصار عن مدارك التحصيل فخير الأمور أوسطها والغرض ما يقرب المقاصد ويضبطها فأعرب من ألفاظها كل خفي وأسكت من لغاتها عن كل جلي والله أسأل أن يبلغنا ما قصدناه ويوردنا أحسن الموارد فيما أردناه انتهى
وسمي الشرح المذكور طراز الحلة وشفاء الغلة ومما أورده رحمه الله تعالى في ذلك الشرح من نظم نفسه قوله

( طيبة ما أطيبها منزلا ... سقى ثراها المطر الصيب )
( طابت بمن حل بأرجائها ... فالترب منها عنبر طيب )
( يا طيب عيشي عند ذكري لها ... والعيش في ذاك الحمى أطيب )
وقال رحمه الله تعالى في هذا الشرح بعد كلام ما نصه وإذا أردت أن تنظر إلى تفاوت درجات الكلام في هذا المقام فانظر إلى إسحاق الموصلي كيف جاء إلى قصر مشيد ومحل سرور جديد فخاطبه بما يخاطب به الطلول البالية والمنازل الدارسة الخالية فقال
( يا دار غيرك البلى ومحاك ... )
فأحزن في موضع السرور وأجرى كلامه على عكس الأمور وانظر إلى قول القطامي
( إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ... وإن بليت وإن طالت بك الطيل )
فانظر كيف جاء إلى طلل بال ورسم خال فأحسن حين حياه ودعا له بالسلامة كالمبتهج برؤية محياه فلم يذكر دروس الطلل وبلاه حتى آنس المسامع بأوفى التحية وأزكى السلامة والذي فتح هذا الباب وأطنب فيه غاية الإطناب صاحب اللواء ومقدم الشعراء حيث قال
( ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي ) وهل يعمن إلا سعيد مخلد

( ولما وقفنا للوداع وقد بت ... قباب بنجد قد علت ذلك الوادي )
( نظرت فألفيت السبيكة فضة ... لحسن بياض الزهر في ذلك النادي )
( فلما كستها الشمس عاد لجينها ... لها ذهبا فاعجب لإكسيرها البادي )
والسبيكة موضع خارج غرناطة
وقال رحمه الله
( هذه عشرة تقضت وعندي ... من أليم البعاد شوق شديد )
( وإذا رأيت إطفاء شوقي بالتلاقي فذاك رأي سديد )
وقال رحمه الله تعالى وقد أهدى طاقية
( خذها إليك هدية ... ممن يعز على أناسيك )
( اخترتها لك عندما ... أضحت هدية كل ناسك )
( أرسلتها طاقية ... لتنوب عن تقبيل راسك )
وله من رسالة وافى كتابك فوجدنا أزهى من الأزهار وأبهى من حسن الحباب على الأنهار يشرق إشراق نجوم السماء ويسمو إلى الأسماع سمو حباب الماء
وقال رحمه الله تعالى في العوض على مذهب الخليل (
( خل الأنام ولا تخالط منهم ... أحدا ولو أصفى إليك ضمائره )
( إن الموفق من يكون كأنه ... متقارب فهو الوحيد بالدائرة )
وقال على مذهب الأخفش
( إن الخلاص من الأنام لراحة ... لكنه ما نال ذلك سالك )
( أضحى بدائرة له متقارب ... يرجو الخلاص فعاقه متدارك )

متدارك وله
( دائرة الحب قد تناهت ... فما لها في الهوى مزيد )
( فبحر شوقي بها طويل ... وبحر دمعي بها مديد )
( وإن وجدي بها بسيط ... فليفعل الحسن ما يريد )
وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيرا ومنهم الشيخ شهاب الدين بن صارو البعلي قال أبو جعفر المترجم له أنشدنا شهاب الدين المذكور لنفسه بحماة
( وبي عروضي سريع الجفا ... يغار غصن البان من عطفه )
( الورد من وجنته وافر ... لكنه يمنع من قطفه )
قال وأنشدنا أيضا لنفسه
( وبي عروضي سريع الجفا ... وجدي به مثل جفاه طويل )
( قلت له قطعت قلبي أسى ... فقال لي التقطيع دأب الخليل )
انتهى
وأنشد رحمه الله تعالى لرفيقه ابن جابر الضرير السابق الترجمة في ذلك
( إن صد عني فإني لا أعاتبه ... فما التنافر في الغزلان تنقيص )
( شوقي مديد وحبي كامل أبدا ... لأجل ذلك قلبي فيه موقوص )
وأنشد له أيضا في ذلك
( عالم بالعروض يخبن قلبي ... في مديد الهوى بلحظ سريع )
( عنده وافر من الردف يبدو ... وخفيف من خصره المقطوع )

وله
( صدود لي مديد ... وأمر حبي طويل )
( وفيه أسباب حسن ... وتلك عندي الأصول )
( فحضره لي حفيف وردفه لي ثقيل )
وله
( سبب خفيف خصرها ووراءه ... من ردفها سبب ثقيل ظاهر )
( لم يجمع النوعان في تركيبها ... إلا لأن الحسن فيها وافر )
وقد ذكر أبو جعفر - رحمه الله تعالى - لرفيقه ابن جابر السابق الذكر مقطوعات كثيرة منها قوله
( يا أيها الحادي اسقني كأس السرى ... نحو الحبيب ومهجتي للساقي )
( حي العراق على النوى واحمل إلى ... أهل الحجاز رسائل العشاق )
( يا حسن ألحان الحداة إذا جرت ... نغماتها بمسامع المشتاق )
وأورده له أيضا
( يا حسن ليلتنا التي قد زارني ... فيها فأنجز ما مضى من وعده )
( قومت شمس جماله فوجدتها ... في عقرب الصدغ الذي في خده )
رجع إلى أبي جعفر - رحمه الله تعالى - ومن فوائده أنه لما ذكر فذلكة الحساب قال هي التي يضعها أهل الحساب آخر جملهم المتقدمة فيقولون فذلك كذا كذا انتهى

ولما أنشد رحمه الله تعالى قول بعضهم
( غزال قد غزا قلبي ... بألحاظ وأحداق )
( له الثلثان من قلبي ... وثلثا ثلثه الباقي )
( وثلثا ثلث ما يبقى ... وباقي الثلث للساقي )
( وتبقى أسهم ست ... تقسم بين عشاق )
قال ما نصه هذا الشاعر قسم قلبه إلى 81 سهما فجعل لمحبوبه منها الثلثين 54 وبقي الثلث 27 فزاده ثلثيه 18 فصار له 72 يبقى ثلث الثلث وهو 9 زاده منها ثلثي ثلثها وهو اثنان وبقي من الثلث واحد أعطاه للساقي فبقي من التسعة ستة قسمها بين العشاق فاجتمع لمحبوبه 74 وللساقي سهم واحد وللعشاق ستة والجملة 81 انتهى
وأنشد رحمه الله تعالى في علم الحساب لرفيقه ابن جابر السابق الذكر
( قسم القلب في الغرام بلحظ ... يضرب القلب حين يرسل سهمه )
( هذه في هواه يا قوم حالي ... ضاع قلبي ما بين ضرب وقسمه )
وأنشد له في الهندسة
( محيط بأشكال الملاحة وجهه ... كأن به إقليدسا يتحدث )
( فعارضه خط استواء وخاله ... به نقطة والشكل شكل مثلث )
وأنشد له في خط الرمل
( فوق خديه للعذار طريق ... قد بدا تحته بياض وحمره )
( قيل ماذا فقلت أشكال حسن ... تقتضي أن أبيع قلبي بنظره )
وأنشد له في علم الخط
( قد حقق الحسن نور حاجبه ... وخط في الصدغ واو ريحان )

( ومد من حسن قده ألفا ... أوقف عيني وقوف حيران )
وأنشد له أيضا
( ألف ابن مقلة في الكتاب كقده ... والنون مثل الصدغ في التحسين )
( والعين مثل العين لكن هذه ... شكلت بحسن وقاحة ومجون )
( وعلى الجبين لشعره سين بدت ... حار ابن مقلة عند تلك السين )
( قل للذي قد خط تحت الصدغ من ... خيلانه نقطا لجلب فنون )
( يا للرجال ويا لها من فتنة ... في وضع ذاك النقط تحت النون )
وأورد له في ذكر الأقلام السبعة وغيرها
( تعليق ردفك بالخصر الخفيف له ... ثلث الجمال وقد وفته أجفان )
( خذ عليه رقاع الروض قد جعلت ... وفي حواشيه للصدغين ريحان )
( خط الشباب بطومار العذار به ... سطرا ففضاحه للناس فتان )
( محقق نسخ صبري عن هواه ومن ... توقيع مدمعي المنثور برهان )
( يا حسن ما قلم الأشعار خط على ... ذاك الجبين فلا يسلوه إنسان )
( أقسمت بالمصحف الشامي وأحرفه ... ما مر بالبال يوما عنك سلوان )
( ولا غبار على حبي فعندك لي ... حساب شوق له في القلب ديوان )
وأنشد له
( يا صاحب المال ألم تستمع ... ) لقوله ( ما عندكم ينفد )
( فاعمل به خيرا فوالله ما ... يبقى ولا أنت به مخلد
وله
( إن شئت أن تجد العدو وقد غدا ... لك صاحبا يولي الجميل ويحسن )
( فاعمل كما قال الخبير بخلقه ... في قوله ( ادفع بالتي هي أحسن )

وله
( إذا شئت رزقا بلا حسبة ... فلذ بالتقى واتبع سبله )
( وتصديق ذلك في قوله ( ومن يتق الله يجعل له )
وأورد له أيضا
( عمل إن لم يوافق نية ... فهو غرس لا يرى منه ثمر )
( ( إنما الأعمال بالنيات ) قد ... نصه عن سيد الخلق عمر )
وقوله
( الخير في أشياء عن خير الورى ... وردت فأبدت كل نهج بين )
( دع ما يريبك واعملن بنية ... وازهد ولا تغضب وخلقك حسن )
وقوله
( حياء المرء يزجره فيخشى ... فخف من لا يكون له حياء )
( فقد قال الرسول بأن مما ... به نطق الكرام الأنبياء ) إذا ما أنت لم تستحي فاصنع ... كما تختار وافعل ما تشاء )
وقوله
( قال الرسول " الحياء خير " ... فاصحب من الناس ذا حياء )
( وعن قليل الحياء فابعد ... فخيره ليس ذا رجاء )
وقوله
( من سلم المسلمون كلهم ... وآمنوا من لسانه ويده )

( فذلك المسلم الحقيق بذا ... جاء حديث لا شك في سنده )
( ولابن جابر مما كتب به إلى الصلاح الصفدي )
( إن البراعة لفظ أنت معناه ... وكل شيء بديع أنت معناه )
( إنشاد نظمك أشهى عند سامعه ... من نظم غيرك لو إسحاق غناه )
وهي طويلة فأجابه الصفدي )
بقوله
( يا فاضلا كرمت فينا سجاياه ... وخصنا باللآلي في هداياه )
( خصصتني بقريض شف جوهره ... لما تألق منه نور معناه )
( من كل بيت مبانيه مشيدة ... كم من خبايا معان في زواياه )
وهي طويلة
رجع إلى نظم أبي جعفر - فمن ذلك قوله
( تريك قدا على ردف تجاذبه ... كخوطة في كثيب الرمل قد نبتت )
( ريا القرنفل في ريح الصبا سحرا ... يضوع منها إذا نحوي قد التفتت )
عقد بهما ألفاظ قول امرئ القيس
( إذا التفتت نحوي تضوع ريحها ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل )
وأورد له قوله
( ولولا نجاء العيس حول ديارها ... غداة منى لم يبق في الركب محرم )
( ففوق ذرا المتنين برد مهلل ... وتحت رداء الخز وجه معلم )

عقد في الأول قول قيس بن الخطيم
( ديار
( التي كنا ونحن على منى ... تحوط بنا لولا نجاء الركائب )
وعقد في الثاني قول ابن أخي ربيعة
( أماطت رداء الخز عن حر وجهها ... وأرخت على المتنين بردا مهللا )
وأورد له قوله
( إن ادعى لك مروان الجلال فقل ... لا يجهل المرء بين الناس رتبته )
( إن الجلالة حقا للمقول له ... هذا الذي تعرف البطحاء وطأته )
وقوله
( من منصفي يا قوم من ظبية ... تسرف في هجري وتأبى الوصال )
( وكلما أسأل عن عذرها ... تقول لي ما كل عذر يقال )
وقوله
( هم حسدوا الرسول فلم يجيبوا ... وكم حسدوا فصار لهم فرار )
( وهاجر عند ما هجروا فأضحى ... لخيمة أم معبد الفخار )
وقوله
( بحسبك أن تبيت على رجاء ... ولو حطتك لليأس الخطوب )
( ومهما أكربتك صروف دهر ... فقل ما قاله الرجل الأريب )
( عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب )

وقوله
( خليلي هذا قبر أشرف مرسل ... قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل )
( رويدكما نبكي الذنوب التي خلت ... ( بسقط اللوى بين الدخول فحومل ) )
( منازل كانت للتصابي فأقفرت ... ( لما نسجتها من جنوب وشمأل ) )
قال ثم جرى على هذا النمط واستخرج الدرر النفيسة من ذلك السفط وقال قبله إنه أخذ أعجاز هذه القصيدة من أولها إلى آخرها على التوالي وصنع لها صدورا وصرفها إلى مدح النبي فجاء في ذلك بما لم يسبق إليه ولم يقف أحد في تلك المعاني على ما وقف عليه انتهى
وقوله
( كم ليال خلت بكم كاللآلي ... نظمتها لنا يد الأزمان )
( أيها النازحون عن رأي عيني ... وهم في جوانحي وجناني )
( ما ألذ الوصال بعد التنائي ... وأمر الفراق بعد التداني )
( قد وكلناكم لرب كريم ... غير وان عن عبده في أوان )
( ما رحلنا عن اختيار ولكن ... رحلتنا تلونات الزمان )
وقوله
( تشتكي الصفر من يديه وترضى السمر ... عن راحتيه عند الحروب )
( أحمر السيف أخضر السيب حيث الأرض ... غبراء من سواد الخطوب )
وقوله مما التزم في أوله الدال
( دفاع لمكروه أمان لخائف ... سحاب لمستجد هلاك لمستعدي )
( دروب على الحسنى عفو لمن جنى ... مثيب لمن أثنى مجيب لذي قصد )

( دع الغيث إن أعطى دع الليث إن سطا ... دع الروض إذ يهدي دع البدر إذ يهدي )
وقوله
( غزال ما توسد ظل ... بان بهاجرة ولا عرف الظلالا )
( تبسم لؤلؤا واهتز غصنا ... وأعرض شادنا وبدا هلالا )
وقوله
( رفع الخصر فوق منصوب ردف ... ولجزم القلوب فرعيه جرا )
( مال غصنا رنا رشا فاح مسكا ... تاه درا أرخى دجى لاح بدرا )
وقوله حين زار قبر قس بن ساعدة بجبل سمعان
( هذي منازل ذي العلاقس ... بن ساعدة الإيادي )
( كم عاش في الدنيا وكم ... أسدى إلينا من أيادي )
( قد زانها بحلى البلاغة ... مفصحا في كل نادي )
( قد قر في بطن الثرى ... متفردا بين العباد )
قال أبو جعفر زرنا قبره فرأينا موضعا ترتاح إليه النفس ويلوح عليه الأنس وعند قبره عين ماء يقال إنه ليس بجبل سمعان عين تجري غيرها هنالك وأورد له قوله
( كرام فخام من ذؤابة هاشم ... يقولون للأضياف أهلا ومرحبا )
( فيفعل في فقر المقلين جودهم ... كفعل علي يوم حارب مرحبا )
رجع إلى أبي جعفر رحمة الله تعالى فنقول إنه كان بمدينة النبي سنة 755 ولما ذكر الروضة قال قيل ولا تكون الروضة إلا بماء يسقيها أو إلى جنبها ولا يقال في موضع الشجر روضة انتهى وقال

( لقوامه الألف التي ... جاءت بحسن ما ألف )
( عانقته فكأنني ... لام معانقة الألف )
وقال رحمه الله تعالى معتذرا عمن لم يسلم
( لا تعتبن على ترك السلام فقد ... جاءتك أحرفه كتبا بلا قلم )
( فالسين من طرتي واللام مع ألف ... من عارضي وهذا الميم ميم فمي )
وقال رحمه الله تعالى
( لا يقنطنك ذنب ... قد كان منك عظيم )
( فالله قد قال قولا ... وهو الجواد الكريم ) ( نبئ عبادي أني ... أنا الغفور الرحيم )
وقال
( إذا ظلم المرء فاصبر له ... فبالقرب يقطع منه الوتين )
( فقد قال ربك وهو القوي ... ( وأملي لهم إن كيدي متين )
ومن نثره لما ذكر قصيدة كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه ما نصه وهذه القصيدة لها الشرف الراسخ والحكم الذي لم يوجد له ناسخ أنشدها كعب في مسجد المصطفى بحضرته وحضرة أصحابه وتوسل بها فوصل إلى العفو عن عقابه فسد خلته وخلع عليه حلته وكف عنه كف من أراده وأبلغه في نفسه وأهله مراده وذلك بعد إهدار دمه وما سبق من هذر كلمه فمحت حسناتها تلك الذنوب وسترت محاسنها وجه تلك العيوب ولولاها لمنع المدح والغزل وقطع من أخذ الجوائز على الشعر

الأمل فهي حجة الشعراء فيما سلكوه وملاك أمرهم فيما ملكوه حدثني بعض شيوخنا بالإسكندرية بإسناده أن بعض العلماء كان لا يستفتح مجلسه إلا بقصيدة كعب فقيل له في ذلك فقال رأيت رسول الله فقلت يا رسول الله قصيدة كعب أنشدها بين يديك فقال نعم وأنا أحبها وأحب من يحبها قال فعاهدت الله أني لا أخلو من قراءتها كل يوم قلت ولم تزل الشعراء من ذلك الوقت إلى الآن ينسجون على منوالها ويقتدون بأقوالها تبركا بمن أنشدت بين يديه ونسب مدحها إليه ولما صنع القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر قصيدة في مدح النبي على وزن بانت سعاد قال
( لقد قال كعب في النبي قصيدة ... وقلنا عسى في مدحه نتشارك )
( فإن شملتنا بالجوائز رحمة ... كرحمة كعب فهو كعب مبارك )
انتهى
وقال رحمه الله تعالى
( لقد كر العذار بوجنتيه ... كما كر الظلام على النهار )
( فغابت شمس وجنته وجاءت ... على مهل عشيات العذار )
( فقلت لناظري لما رآها ... وقد خلط السواد بالاحمرار )
( تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار ) وقال
( قالوا عشقت وقد أضر بك الهوى ... فأجبتهم يا ليتني لم أعشق )
( قالوا سبقت إلى محبة حسنه ... فأجبتهم ما فاز من لم يسبق
ولما أنشد رحمه الله تعالى قول ابن الخشاب في المستضيء بالله

( ورد الورى سلسال جودك فارتووا ... ووقفت دون الورد وقفة حائم )
( ظمآن أطلب خفة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم )
قال ما نصه فانظر حسن هذين البيتين كيف جريا كالماء في سلاسته ووقعا من القلوب كالشهد في حلاوته مع أن ناظمهما ما خرج عن وصف الماء كلامه ولا تعدى ذلك المعنى نظامه حتى قيل إن فيهما عشرة مواضع من مراعاة النظير فهما في الحسن ما لهما من نظير لكنه ما سلم مليح من عيب ولا خلا من وقوع ريب فمع هذه المحاسن الوافية ما سلما من عيب القافية انتهى
ولنختم ترجمته بقوله عند شرح بيت رفيقه
( خير الليالي ليالي الخير في إضم ... والقوم قد بلغوا أقصى مرادهم ) ما نصه يقول إن خير الليالي التي تنشرح لها الصدور ويحمد فيها الورود والصدور ليالي الخير في إضم حيث النزيل لم يضم والقوم قد وردوا موارد الكرم وبلغوا أقصى مرادهم في ذلك الحرم
303 - ومن الراحلين الولي الصالح أبو مروان عبد الملك بن إبراهيم بن بشر القيسي وهو ابن أخت ابن صاحب الصلاة البجانسي نسبة إلى بجانس قرية من قرى وادي آش وكان - رحمه الله تعالى ! - في أواسط المائة السابعة وقد ذكره الفقيه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن يحيى الأزدي الفشتالي في تأليفه الذي سماه تحفة المغرب ببلاد المغرب وقال فيه راضوا نفوسهم لتنقاد للمولى سرا وعلنا وزهدوا في الدنيا فلم يقولوا معنا ولا لنا وانتدبوا لقول الله تعالى ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [ العنكبوت69 ] وقال صاحب التأليف المذكور سألت الشيخ أبا مروان يوما في مسيري معه من وادي آش إلى بلده بجانس سنة تسع وأربعين وستمائة فقلت له أنت

يا سيدي لم تكن قرأت ولا لازمت المشايخ قبل سفرك للمشرق ولا سافرت مع عالم تقتدي ببركته في هذا الطريق فقال لي أقام الله تعالى لي من باطني شيخا قلت له كيف قال كنت إذا عرض لي أمر نظرت في خاطري فيخطر لي خاطران في ذلك أحدهما محمود والآخر مذموم فكنت أجتنب المذموم وأرتكب المحمود فإذا وصلت إلى أقرب بلد سألت عمن فيه من المشايخ والعلماء فأسأله عن ذلك فكان يذكر لي المحمود محمودا والمذموم مذموما فأحمد الله تعالى أن وفقني ومع تتابع ذلك واتصاله دون مخالفة لم أعتمد على ما يقع بخاطري من الأمور الشرعية إلى الآن حتى أسأل عنه من حضر من العلماء انتهى ومن كلام صاحب التأليف المذكور قوله في حق الصوفية نفعنا الله تعالى بهم حموا طريق الحق فحاماهم ونور بصائرهم فأصمهم عن الباطل وأعماهم وأهانوا في رضاه نفوسهم ورفضوا نعماهم فأعلى قدرهم عنده وعند الناس وأسماهم انتهى وما أحسن قوله في التأليف المذكور يا هذا من حافظ حوفظ عليه ومن طلب الخير بصدق وصل إليه ومن أخلص العبودية لربه قام الأحرار خدمة بين يديه انتهى
304 - ومنهم الطيب الماهر الشهير ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن البيطار المالقي نزيل القاهرة وهو الذي عناه ابن سعيد في كتابه المغرب بقوله وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر كتابا في هذا الشأن حشر فيه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها وضبطه على حروف المعجم وهو النهاية في مقصده

وقد ذكرت كلام ابن سعيد هذا بجملته في غير هذا الموضع فليراجع وكان ابن البيطار أوحد زمانه في معرفة النبات سافر إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم والمغرب واجتمع بجماعة كثيرة من الذين يعانون هذا الفن وعاين منابته وتحققها وعاد بعد أسفاره وخدم الكامل بن العادل وكان يعتمد عليه في الأدوية والحشائش وجعله في الديار المصرية رئيسا على سائر العشابين وأصحاب البسطات ومن بعده خدم ولده الصالح وكان حظيا عنده إلى أن توفي بشعبان سنة 646 التي توفي بها ابن الحاجب وله من المصنفات كتاب الجامع في الأدوية المفردة وكتاب المغني أيضا في الأدوية وكتاب الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام وكتاب الأفعال العجيبة والخواص الغريبة وشرح كتاب ديسقوريدوس قال الذهبي انتهت إليه معرفة تحقيق النبات وصفاته وأماكنه ومنافعه وتوفي بدمشق انتهى
305 - ومنهم الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن علي القرشي البسطي الشهير بالقلصادي - بفتحات - كما قال السخاوي الصالح الرحلة المؤلف الفرضي آخر من له التآليف الكثيرة من أئمة الأندلس وأكثر تصانيفه في الحساب والفرائض كشرحيه العجيبين على تلخيص ابن البناء والحوفي وكفاه فخرا أن الإمام السنوسي صاحب العقائد أخذ عنه جملة من الفرائض والحساب وأجازه جميع مروياته وأصله من بسطة ثم انتقل إلى غرناطة فاستوطنها وأخذ بها عن جماعة كابن فتوح والسرقسطي وغيرهما ثم ارتحل إلى المشرق ومر بتلمسان فأخذ بها عن الإمام عالم الدنيا ابن مرزوق والقاضي أبي الفضل قاسم العقباني وأبي العباس ابن زاغ وغيرهم

ثم ارتحل فلقي بتونس تلامذة ابن عرفة كابن عقاب والقلشاني وحلولو وغيرهم ثم حج ولقي أعلاما وعاد فاستوطن غرناطة إلى أن حل بوطنه ما حل فتحيل في خلاصه من الشرك وارتحل ومر بتلمسان فنزل بها على الكفيف ابن مرزوق ابن شيخه ثم جدت به الرحلة إلى أن وافته منيته بباجة إفريقية منتصف ذي الحجة سنة 891 وكان كثير المواظبة على الدرس والكتابة والتأليف ومن تآليفه أشرف المسالك إلى مذهب مالك وشرح مختصر خليل وشرح الرسالة وشرح التلقين وهداية الأنام في شرح مختصر قواعد الإسلام وهو شرح مفيد وشرح رجز القرطبي وتنبيه الإنسان إلى علم الميزان والمدخل الضروري وشرح إيساغوجي في المنطق وله شرح الأنوار السنية لابن جزى وشرح رجز الشراز في الفرائض الذي أوله
( بحمد خير الوارثين أبتدي ... وبالسراج النبوي أهتدي )
وشرح حكم ابن عطاء الله ورجز أبي عمرو بن منظور في أسماء النبي وشرح البردة ورجز ابن بري ورجز شيخه أبي إسحاق بن فتوح في النجوم الذي أوله
( سبحان رافع السماء سقفا ... ناصبها دلالة لا تخفى ) وشرح رجز أبي مقرعة وله النصيحة في السياسة العامة والخاصة وهداية النظار في تحفة الأحكام والأسرار وكشف الجلباب عن علم الحساب وكشف الأسرار عن علم الغبار والتبصرة وقانون الحساب في قدر التلخيص وشرحه وشرحان على التلخيص كبير وصغير وشرح ابن الياسمين في الجبر والمقابلة ومختصره وكليات الفرائض وشرحها

وشرحان للتلمسانية كبير وصغير وشرح فرائض صالح بن شريف وابن الشاط وفرائض مختصر خليل والتلقين وابن الحاجب وله كتاب الغنية في الفرائض وغنية النحاة وشرحاها الكبير والصغير وتقريب المواريث ومنتهى العقول البواحث وشرح مختصر العقباني ولم يتم ومدخل الطالبين ومختصر مفيد في النحو وشرح رجز ابن مالك والجرومية وجمل الزجاجي وملحة الحريري والخزرجية ومختصر في العروض وغير ذلك وأخذ بمصر عن الحافظ ابن حجر والزين طاهر النويري وأبي القاسم النويري والعلامة الجلال المحلي والتقى الشمني وأبي الفتح المراغي وغيرهم حسبما ذكر ذلك في رحلته الشهيرة وهي حاوية لشيوخه بالمغرب والمشرق وجملة من أحوالهم رحم الله تعالى الجميع !
306 - ومنهم أبو عبد الله الراعي وهو شمس الدين محمد بن إسماعيل الأندلسي الغرناطي ولد بها سنة 782 تقريبا ونشأ بها وأخذ الفقه والأصول والعربية عن جماعة منهم أبو جعفر أحمد بن إدريس بن سعيد الأندلسي وسمع على أبي بكر عبد الله بن محمد بن محمد المعافري ابن الدب ويعرف بابن أبي عامر والخطيب أبي عبد الله محمد بن علي بن الحفار ومحمد بن عبد الملك بن علي القيسي المنتوري صاحب الفهرسة الكبيرة الشهيرة ومما أخذ عنه الجرومية بأخذه لها عن الخطيب أبي جعفر أحمد بن محمد بن سالم الجذامي عن القاضي أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحضرمي عن مؤلفها أبي عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي عرف بابن آجروم وجميع خلاصة الباحثين في حصر حال الوارثين للقاضي أبي بكر عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاري بأخذه لها عن مؤلفها وأجاز له أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن الجذامي والقاضي

أبو الفضل قاسم بن سعيد العقباني والعلامة أبو الفضل محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن الإمام وعالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق التلمساني وغيرهم من المغاربة ومن أشياخه من أهل المشرق الكمال بن خير السكندري والزين أبو بكر المراغي والزين محمد الطبري وأبو إسحاق إبراهيم بن العفيف النابلسي في آخرين ودخل القاهرة سنة 825 فحج واستوطنها وسمع بها من الشهاب المتبولي وابن الجزري والحافظ ابن حجر وطائفة وأم بالمؤيدية وقتا وتصدى للاشتغال فانتفع به الناس طبقة بعد أخرى لا سيما في العربية بل هي كانت فنه الذي اشتهر به وبجودة الإرشاد لها وشرح كلا من الجرومية والألفية والقواعد وغيرها مما حمله عنه الفضلاء وله نظم وسط قال السخاوي كتبت عنه منه الكثير ومما لم أسمعه منه ما أودعه في مقدمة كتاب صنفه في نصرة مذهبه وأثبته دفعا لشيء نسب إليه فقال
( عليك بتقوى الله ما شئت واتبع ... أئمة دين الحق تهد وتسعد )
( فمالكهم والشافعي وأحمد ... ونعمانهم كل إلى الخير يرشد )
( فتابع لمن أحببت منهم ولا تمل ... لذي الجهل والتصيب إن شئت تحمد )
( فكل سواء في وجيبة الاقتدا ... متابعهم جنات عدن يخلد )
( وحبهم دين يزين وبغضهم ... خروج عن الإسلام والحق يبعد )
( فلعنة رب العرش والخلق كلهم ... على من قلاهم والتعصب يقصد )
وكان حاد اللسان والخلق شديد النفرة من الشيخ يحيى العجيسي أضر بأخرة ومات بسكنه بالصالحية يوم الثلاثاء 27 ذي الحجة سنة 853 بعد أن أنشد قبيل موته بشهر في حال صحته الشيخ جمال الدين ابن الأمانة من نظمه قوله
( أفكر في موتي وبعد فضيحتي ... فيحزن قلبي من عظيم خطيئتي )
( وتبكي دما عيني وحق لها البكا ... على سوء أفعالي وقلة حيلتي )

( وقد ذابت اكبادي عناء وحسرة ... على بعد أوطاني وفقد أحبتي )
( فما لي إلا الله أرجوه دائما ... ولا سيما عند اقتراب منيتي )
( فنسأل ربي في وفاتي مؤمنا ... بجاه رسول الله خير البرية )
قال السخاوي ومما كتبته عنه
( ألفيته حول المعلم باكيا ... ودموعه قد صاغها من كوثر )
( نثر الدموع على الخدود فخلتها ... درا تناثر في عقيق أحمر ) وقوله
( عليك بنعمة رب العلا ... وراع الملوك لرعي الذمم )
( وذو العلم فارع له حقه ... وإلا تفارق وتلق الندم ) فهذا مقالي فلتسمعوا ... نصيحة حبر من أهل الحكم )
( إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم ) وقال
( للغرب فضل شائع لا يجهل ... ولأهله شرف ودين يكمل )
( ظهرت به أعلام حق حققت ... ما قاله خير الأنام المرسل )
( من أنهم حتى القيامة لن يزا لوا ... ظاهرين على الهدى لن يخذلوا )
وممن حدث عن الراعي الحافظ ابن فهد والبرهان البقاعي ومن تأليفه شرح القواعد وكتاب انتصار الفقير السالك لمذهب الإمام الكبير مالك في كراريس أربعة حسن في موضوعة وله النوازل النحوية في عشرة كراريس أو أكثر وفيها فوائد حسنة وأبحاث رائقة تكلم معه في بعضها أبو

عبد الله بن العباس التلمساني وذكر بعضهم أنه اختصر شرح شيخه ابن مرزوق على مختصر الشيخ خليل من باب القضاء إلى آخر الكتاب انتهى وجرت له في صغره حكاية دلت على نبله وهي أنه دخل على الطلبة رجل وهم بجامع غرناطة فسألهم عمن كان وراء إمام فحدث للإمام عذر ذهب لأجله مثل الرعاف مثلا فصلوا بعض الصلاة لأنفسهم ثم اقتدوا بإمام منهم قدموه فيما بقي فهل تصح صلاتهم أم لا فلم يكن عند أحد من الحاضرين فيها علم فقال هو إن الصلاة باطلة لأن النحاة يقولون الإتباع بعد القطع لا يجوز وقد حكى ذلك في شرحه للجرومية الذي سماه بعنوان الإفادة في باب النعت إذ قال ما نصه كنت جالسا بمسجد قيسارية غرناطة أنتظر سيدنا وشيخنا أبا الحسن علي بن سمعة رحمه الله تعالى مع جماعة من كبار طلبته وكنت إذ ذاك أصغرهم سنا وأقلهم علما فدخل سائل سأل عن مسألة فقهية نصها إن إماما صلى بجماعة جزءا من صلاة ثم غلب عليه الحدث فخرج ولم يستخلف عليهم فقام كل واحد من الجماعة وصلى وحده جزءا من الصلاة ثم بعد ذلك استخلفوا من أتم بهم الصلاة فهل تصح تلك الصلاة أم لا فلم يكن فيها عند الحاضرين جواب فقلت أنا أجاوب فيها بجواب نحوي فقال هات الجواب فقلت هذا إتباع بعد القطع وهو ممتنع عند النحويين فصلاة هؤلاء باطلة فاستظرفها مني من حضر لصغر سني ثم طلبنا النص فيها فلم نلقه في ذلك التاريخ ولو لقيناه لكان حسنا انتهى ومن ألغازه قوله
( حاجيتكم نحاتنا المصرية ... أولي الذكا والعلم والطعميه )
( ما كلمات أربع نحويه ... جمعن في حرفين للأحجيه )

يعني فعل الأمر للواحد من وأى يئي إذا أضمر فإنك تقول فيه إ يا زيد على حرف واحد وهو الهمزة المقطوعة فإذا قلت قل إ ونقلت حركته على لغة النقل إلى الساكن صار هكذا قل فذهب فعل الأمر وفاعله فهي كلمات أربع فعلا أمر وفاعلاهما جمعن في حرفين القاف واللام فافهم وأحسن من هذا قوله ملغزا في ذلك أيضا
( في أي لفظ يا نحاة الملة ... حركة قامت مقام الجملة ) وبالجملة فمحاسنه كثيرة رحمه الله تعالى ورضي عنه ومن فوائده قوله حكى لي بعض علماء المالكية قال كنا نقرأ المدونة على الشيخ سراج الدين البلقيني الشافعي فوقعت مسألة خلافية بين مالك والشافعي فقال الشيخ في مسألة مذهبنا كذا في مسألة لم يقل فيها الشافعي بما قال وإنما نسبها البلقيني لنفسه ثم فطن وخاف ينتقد عليه المالكية ويقولوا له أنت شافعي وهذا ليس مذهب الشافعي فقال فإن قلتم يا مالكية لسنا بمالكية وإنما أنتم شافعية قلنا كذلك أنتم قاسمية وقد اجتمعنا الكل في مالك قال وهذا الكلام حلو حسن في غاية الإنصاف من الشيخ قال ولما قرئ عليه كتاب الشفاء مدحه وأثنى عليه إلى الغاية وكان يحضره جماعة من المالكية فقال القاضي جمال الدين ابنه ما لكم يا مالكية لا تكونون مثل القاضي عياض فقال له أبوه الشيخ سراج الدين المذكور وما لك لا تقول للشافعية ما لكم يا شافعية لا تكونون مثل القاضي عياض ومن فوائد الراعي في باب العلم من شرحه على الألفية في الكلب عشر خصال محمودة ينبغي أن تكون في كل فقير لا يزال جائعا وهو من دأب الصالحين ولا يكون له موضع يعرف به وذلك من علامة المتوكلين ولا ينام من الليل إلا القليل وذلك من صفات المحبين وإذا مات لا يكون له ميراث وذلك من أخلاق الزاهدين ولا يهجر صاحبه وإن جفاه وطرده

وذلك من شيم المريدين ويرضى من الدنيا بأدنى يسير وذلك من إشارة القانعين وإذا غلب عن مكانه تركه وانصرف إلى غيره وذلك من علامة المتواضعين وإذا ضرب وطرد ثم دعي أجاب وذلك من أخلاق الخاشعين وإذا حضر شيء من الأكل وقف ينظر من بعيد وذلك من أخلاق المساكين وإذا رحل لم يرحل معه بشيء وذلك من علامة المتجردين انتهى بمعناه وقد نسبه للحسن البصري رحمه الله تعالى ورضي عنه بمنه ومن تصانيفه رحمه الله تعالى كتاب الفتح المنير في بعض ما يحتاج إليه الفقير في غاية الإفادة ملكته بالمغرب ولم أره بهذه البلاد المشرقية وحفظت منه فوائد ممتعة
307 - ومن الراحلين من الأندلس إلى المشرق بعد أخذ جميع بلاد الأندلس - أعادها الله تعالى قاضي الجماعة بغرناطة أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الأزرق قال السخاوي إنه لازم الأستاذ إبراهيم بن أحمد بن فتوح مفتي غرناطة في النحو والأصلين والمنطق بحيث كان جل انتفاعه به وحضر مجالس أبي عبد الله محمد بن محمد السرقسطي العالم الزاهد مفتيها أيضا في الفقه ومجالس الخطيب أبي الفرج عبد الله بن أحمد البقني والشهاب قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس أحمد بن أبي يحيى بن شرف التلمساني انتهى وله رحمه الله تعالى تآليف منها بدائع السلك في طبائع الملك كتاب حسن مفيد في موضوعه لخص فيه كلام ابن خلدون في مقدمة تاريخه وغيره مع زوائد كثيرة ومنها روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام

مجلد ضخم فيه فوائد وحكايات لم يؤلف في فنه مثله وقفت عليه بتلمسان وحفظت منه ما أنشده لبعض أهل عصره مما يكتب في سيف
( إن عمت الأفق من نقع الوغى سحب ... فشم بها بارقا من لمع إيماضي )
( وإن نوت حركات النصر أرض عدى ... فليس للفتح إلا فعلي الماضي ) ومن إنشائه في التأليف المذكور ما صورته قلت ولقد كان شيخنا العلامة أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن فتوح قدس الله تعالى روحه يفسح لصاحب البحث مجالا رحبا ويوسع المراجع له قبولا ورحبا بل يطالب بذلك ويقتضيه ويختار طريق التعليم به ويرتضيه توفيقا على ما خلص له تحقيقه ووضح له في معيار الاختيار تدقيقه وإلا فقد كان ما يلقيه غاية ما يتحصل ويتمهد به مختار ما يحفظ ويتأصل انتهى وهو يدل على ملكته في الإنشاء ويحقق ما يحصله إلا أن ذلك إذا طال حتى وقع الملل والضجر أو كاد فينبغي الإمساك عن البحث لئلا يفضي الحال إلى ما ينهى عنه قال ومخالفة التلميذ الشيخ في بعض المسائل إذا كان لها وجه وعليها دليل قائم يقبله غير الشيخ من العلماء ليس من سوء أدب التلميذ مع الشيخ ولكن مع ملازمة التوقير الدائم والإجلال الملائم فقد خالف ابن عباس عمر وعليا وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم وكان قد أخذ عنهم وخالف كثير من التابعين بعض الصحابة وإنما أخذوا العلم عنهم وخالف مالك كثيرا من أشياخه وخالف الشافعي وابن القاسم وأشهب مالكا في كثير من المسائل وكان مالك أكبر أساتيذ الشافعي وقال لا أحد أمن علي من مالك وكاد كل من أخذ العلم أن يخالفه بعض تلامذته في عدة مسائل ولم يزل ذلك دأب التلاميذ مع الأساتيذ إلى زماننا هذا وقال وشاهدنا ذلك في أشياخنا مع أشياخهم رحمهم الله تعالى قال ولا ينبغي للشيخ أن يتبرم من هذه المخالفة

إذا كانت على الوجه الذي وصفناه والله تعالى أعلم انتهى ولما أنشد ابن الأزرق المذكور في كتابه روضة الأعلام قول القائل في مدح ابن عصفور
( نقل النحو إلينا الدؤل ... ي عن أمير المؤمنين البطل ) بدأ النحو علي وكذا ... ختم النحو ابن عصفور علي )
قال بعده ما نصه على أن صاحبنا الكاتب الأديب الأبرع أبا عبد الله محمد بن الأزرق الوادي آشي رحمه الله تعالى قد قال فيما يدافع ابن عصفور عما اقتضاه هذا المدح له بتفضيل الأستاذ المحقق أبي الحسن بن الضائع عليه ولقد أبدع في ذلك ما شاء لما تضمن من التورية
( بضائعك ابن الضائع الندب قد أتت ... بحظ من التحقيق والعلم موفور )
( فطرت عقابا كاسرا أو ما ترى ... مطارك قد أعيا جناح ابن عصفور ) انتهى وقد نقل عن ابن الأزرق صاحب المعيار في جامعه وأثنى عليه غير واحد ومن أعظم تآليفه شرحه الحافل على مختصر خليل المسمى ب شفاء الغليل في شرح مختصر خليل وقد توارد معه الشيخ ابن غازي على هذه التسمية وكان مولانا العم الإمام شيخ الإسلام سيدي سعيد بن أحمد المقري رضي الله تعالى عنه قال لي حين سألته عن هذا التوارد لعل تسمية ابن الأزرق شفاء العليل بالعين قلت يبعد ذلك أن جماعة من تلامذته الأكابر كالوادي آشي وغيره كتبوه بخطوطهم بالغين المعجمة فبان أنه من توارد الخواطر وأن كلا منهما لم يقف على تسمية الآخر والله تعالى أعلم وقد رأيت جملة من هذا الشرح بتلمسان وذلك نحو ثلاثة مجلدات ولا أدري هل أكمله أم لا لأن تقديره بحسب ما رأيت يكون عشرين مجلدا إذ المجلد الأول ما أتم مسائل الصلاة

ورأيت الخطبة وحدها في أكثر من كراسة أبان فيها عن علوم ولم أر في شروح خليل مع كثرتها مثله ودخل تلمسان لما استولى العدو على بلاد الأندلس ثم ارتحل إلى المشرق فدخل مصر واستنهض عزائم السلطان قايتباي لاسترجاع الأندلس فكان كمن يطلب بيض الأنوق أو الأبيض العقوق ثم حج ورجع إلى مصر فجدد الكلام في غرضه فدافعوه عن مصر بقضاء القضاة في بيت المقدس فتولاه بنزاهة وصيانة وطهارة ولم تطل مدته هنالك حتى توفي به بعد سنة خمس وتسعين وثمانمائة حسبما ذكره صاحب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل فليراجع فإنه طال عهدي به ومن بارع نظمه رحمه الله تعالى قوله في المجبنات
( ورب محبوبة تبدت ... كأنها الشمس في حلاها )
( فأعجب لحال الأنام من قد ... أحبها منهم قلاها )
ومنه قوله رحمه الله تعالى
( عذري في هذا الدخان الذي ... جاور داري واضح في البيان )
( قد قلتم إن بها زخرفا ... ولا يلي الزخرف إلا الدخان ) وقوله
( تأملت من حسن الربيع نضارة ... وقد غردت فوق الغصون البلابل )
( حكت في غصون الدوح قسا فصاحة ... لتعلم أن النبت في الروض باقل ) وقوله
( وقائلة صف للربيع محاسنا ... فقلت وعندي للكلام بدار )
( همي ببطاح الأرض صوب من الحيا ... فللنبت في وجه الزمان عذار )

وقوله
( تعجبت من يانع الورد في ... سنا وجنة نبتها بارض )
( ولم لا يرى وردها يانعا ... وقد سال من فوقها العارض )
وقوله رحمه الله تعالى عند وفاة والدته
( تقول لي ودموع العين واكفة ... ما أفظع البين والترحال يا ولدي )
( فقلت أين السرى قالت لرحمة من ... قد عز في الملك لم يولد ولم يلد )
قال تلميذه الحافظ ابن داود مما ألفيته بخط قاضي الجماعة أبي عبد الله بن الأزرق عن علي رضي الله تعالى عنه من أراد أن يطول الله عمره ويظفر بعدوه ويصان من فتن الدنيا ويوسع عليه باب رزقه فليقل هذا التسبيح إذا أصبح ثلاثا وإذا أمسى ثلاثا سبحان الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش والحمد لله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش ولا إله إلا الله ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش والله أكبر ملء الميزان ومنتهى العلم ومبلغ الرضى وعدد النعم وزنة العرش ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم مثل ذلك وصلى الله على سيدنا محمد وآله مثل ذلك قال وبخطه أيضا لنيل الرزق وما يراد يا باسط يا جواد يا علي في عرشك بحق حقك على جميع خلقك ابسط لي رزقك وسخر لي خلقك وبخطه أيضا بسم الله الرحمن الرحيم الدافع المانع الحافظ الحي القيوم القوي القادر الولي الناصر الغالب الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم وبخطه أيضا يا فتاح يا عليم يا نور يا هادي يا حق يا مبين

افتح لي فتحا تنور به قلبي وتشرح به صدري واهدني إلى طريق ترضاه وبين لي أمري وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا انتهى وقال رحمه الله تعالى موريا
( من تكن صنعته الإنشاء ... لا ينكر الرزق لأقصى العمر )
( ولو استعلى على السبع الدرا ... ري بما فيه فمه من درر )
( فأنا الكاتب لكن لو يباع ... لي العتق لكنت المشترى )
هكذا رأيت نسبتها إليه
ولنختم ترجمته بل والباب جميعا بقوله رحمه الله تعالى عند نزول طاغية النصارى بمرج غرناطة أعادها الله تعالى للإسلام بجاه النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام
( مشوق بخيمات الأحبة مولع ... تذكره نجد وتغريه لعلع )
( مواضيعكم يا لائمين على الهوى ... فلم يبق للسلوان في القلب موضع )
( ومن لي بقلب تلتظي فيه زفرة ... ومن لي بجفن تنهمي منه أدمع )
( رويدك فارقب للطائف موضعا ... وخل الذي من شره يتوقع )
( وصبرا فإن الصبر خير غنيمة ... ويا فوز من قد كان للصبر يرجع )
( وبت واثقا باللطف من خير راحم ... فألطافه من لحمه العين أسرع )
( وإن جاء خطب فانتظر فرجا له ... فسوف تراه في غد عنك يرفع )
( وكن راجعا لله في كل حالة ... فليس لنا إلا إلى الله مرجع )

وأنكر غير واحد دخول أحد من الصحابة الأندلس
وذكر بعض الحفاظ المنيذر المذكور وقال إنه المنيذر اليماني وذكر الحجاري أنه من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وأنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير غازيا وقال ابن بشكوال يقال فيه المنيذر لكونه من أحداث الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقد حكى ذلك الرازي وذكره ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب في الصحابة وسماه بالمنيذر الإفريقي وقال ابن بشكوال إن ابن عبد البر روى عنه حديثا سمعه من رسول الله وذكره أبو علي بن السكن في كتاب الصحابة وقال روي عنه حديث واحد وأرجو أن يكون صحيحا وذكره ابن قانع في معجم الصحابة له وذكره البخاري في تاريخه الكبير إذ قال أبو المنيذر صاحب رسول الله وكان قد حدث بإفريقية عن رسول الله قال " من قال رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا فأنا الزعيم لآخذن بيده فأدخله الجنة " كذا ذكره البخاري بالكنية وهذا الحديث هو الذي رووه عنه لا يعرف له غيره وذكره أبو جعفر أحمد بن رشدين في كتاب مسند الصحابة له فقال المنيذر اليماني إما من مذحج أو غيرها وذكر الحديث سواء وقد أشرنا فيما سبق إلى المنيذر هذا ومن التابعين الداخلين الأندلس أميرها موسى بن نصير وقد سبق الكلام عليه ما فيه كفاية

3 - ومن التابعين الداخلين الأندلس حنش الصنعاني
وفي كتاب ابن بشكوال قال ابن وضاح حنش لقب له واسمه حسين بن عبد الله وكنيته أبو علي ويقال أبو رشدين قال ابن بشكوال وهو من صنعاء الشام وذكره أبو سعيد ابن يونس في تاريخ أهل مصر وإفريقية والأندلس فقال إنه كان مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وغزا المغرب مع رفيقه رويفع بن ثابت وغزا الأندلس مع موسى بن نصير وكان فيمن ثار مع ابن الزبير على عبد الملك بن مروان فأتى به عبد الملك في وثاق فعفا عنه وكان أول من ولي عشور إفريقية في الإسلام وتوفي بإفريقية سنة مائة
وذكر ابن يونس عن حنش أنه كان إذا فرغ من عشائه وحوائجه وأراد الصلاة من الليل أوقد المصباح وقرب المصحف وإناء فيه ماء فإذا وجد النعاس استنشق الماء وإذا تعايا في آية نظر في المصحف وإذا جاء سائل يستطعم لم يزل يصيح بأهله أطعموا السائل حتى يطعم
قال ابن حبيب دخل الأندلس من التابعين حنش بن عبد الله الصنعاني وهو الذي أشرف على قرطبة من الفج المسمى بفج المائدة وأذن وذلك في غير وقت الأذان فقال له أصحابه في ذلك فقال إن هذه الدعوة لا تنقطع من هذه البقعة إلا أن تقوم الساعة هكذا ذكره غير واحد وقد كشف الغيب خلاف ذلك فلعل الرواية موضوعة أو مؤولة والله تعالى أعلم
وذكره ابن عساكر في تاريخه وطول ترجمته وقال إن صنعاء المنسوب إليها قرية من قرى الشام وليست صنعاء اليمن وقد قيل إنه لم يرو عن حنش الشاميون وإنما روى عنه المصريون وحدث حنش عن عبد الله بن عباس أنه قال له إن استطعت أن تلقى الله تعالى وسيفك حليته حديد فافعل

وكان عبد الملك بن مروان حين غزا المغرب مع معاوية بن حديج نزل عليه بإفريقية سنة خمسين فحفظ له ذلك فعفا عنه حين أتي به في وثاق حين ثار مع ابن الزبيرس
وسئل أبو زرعة عن حنش فقال ثقة ولم يذكر ابن عساكر أن حنشا لقب له وأن اسمه حسين بل اقتصر على اسمه حنش ولعله الصواب لا ما قاله ابن وضاح والله تعالى أعلم
وفي تاريخ ابن الفرضي أبي الوليد أن حنشا كان بسرقسطة وأنه الذي أسس جامعها وبها مات وقبره بها معروف عند باب اليهود بغربي المدينة
وفي تاريخ ابن بشكوال أنه أخذ أيضا قبلة جامع إلبيرة وعدل وزن قبلة جامع قرطبة الذي هو فخر الأندلس
4

ومن التابعين الداخلين للأندلس أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي ذكر ابن يونس في تاريخ مصر أنه ولد سنة خمس عشرة عام اليرموك وكان أعور ذهبت عينه يوم ذات السواري في البحر مع عبد الله بن سعد سنة أربع وثلاثين وكان يفد لليمانية من أهل مصر على عبد الملك بن مروان وكانت له من عبد العزيز بن مروان منزلة وهو الذي زف أم البنين بنت عبد العزيز إلى الوليد بن عبد الملك ثم عنت عليه عبد العزيز فأغزاه إفريقية فلم يزل بإفريقية إلى أن توفي بها ويقال كانت وفاته سنة أربع عشرة ومائة
قال ابن بشكوال أهل مصر يقولون علي بن رباح بفتح العين وأما أهل العراق فعلي بضم العين وقد سبق هذا الكلام عن ابن معين في الباب الثاني وقال وقال ابنه موسى بن علي من قال لي موسى بن علي بالتصغير لم أجعله في حل
5 - ومن التابعين الداخلين أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي قال ابن بشكوال إنه يروي عن أبي أيوب الأنصاري وعبد الله ابن عمرو رضي الله تعالى عنهم وغيرهم وروى عنه جماعة
وذكر البخاري في تاريخه الكبير أنه يعد في المصريين وذكر ابن يونس في تاريخ المغرب أنه توفي بإفريقية سنة مائة وكان رجلا صالحا فاضلا رحمه الله تعالى ! ويذكر أهل قرطبة أنه توفي بقرطبة وأنه دفن بقبليها وقبره مشهور يتبرك به والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر في ذلك 6 - ومن الداخلين من التابعين حبان بن أبي جبلة
ذكر ابن بشكوال أنه مولى قريش ويكنى أبا النضر وذكره أبو العرب محمد بن تميم في تاريخ إفريقية وقال حدثني فرات بن محمد أن عمر بن عبد العزيز أرسل عشرة من التابعين يفقهون أهل إفريقية منهم حبان بن أبي جبلة روى عن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم
ويقال توفي بإفريقية سنة اثنتين وعشرين ومائة وقيل سنة خمسة وعشرين ومائة وذكر ابن الفرضي أنه غزا مع موسى بن نصير حين افتتح الأندلس حتى انتهى إلى حصن من حصونها يقال له قرقشونة فتوفي به قال وقال لنا أبو محمد الثغري بين قرقشونة وبرشلونة مسافة خمس وعشرين ميلا وفيها الكنيسة المعظمة عندهم المسماة شنت مرية ذكر أن فيها سبع سوار فضة خالصة لم ير الراؤون مثلها لا يحزم الإنسان بذراعيه واحدة منها مع طول مفرط هكذا نقله ابن سعيد عمن ذكر والله تعالى أعلم

7 - ومن الداخلين من التابعين فيما ذكر المغيرة بن أبي بردة نشيط بن كنانة العذري روى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ويروي عنه مالك في موطئه وذكره البخاري في تاريخه الكبير وفي كتاب الحافظ ابن بشكوال أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير فكان موسى بن نصير يخرجه على العساكر
8 - ومن التابعين حيوة بن رجاء التميمي ذكر ابن حبيب أنه دخل الأندلس مع موسى بن نصير وأصحابه وأنه من جملة التابعين رضي الله تعالى عنهم ! قاله ابن بشكوال في مجموعه المترجم ب التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين
قال ابن الأبار وقد سمعته من أبي الخطاب بن واجب وسمعه هو منه انتهى
وقال ابن الأبار في موضع آخر ما صورته رجاء بن حيوة مذكور في الذين دخلوا الأندلس من التابعين وفي ذلك عندي نظر وما أراه يصح والله تعالى أعلم انتهى فانظر هذا فإنه سماه رجاء بن حيوة وذلك السابق حيوة بن رجاء فالله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر في ذلك
9 - ومنهم عياض بن عقبة الفهري من خيار التابعين ذكره ابن حبيب في الأربعة الذين حضروا غنائم الأندلس ولم يغلوا
10 - ومنهم عبد الله بن شماسة الفهري ذكر ابن بشكوال أنه مضري وأن البخاري ذكره في تاريخه

11 - ومنهم عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري جده عبد الرحمن أحد العشرة رضي الله تعالى عنهم وهو ممن ذكره ابن بشكوال في الأربعة من التابعين الذين لم يغلوا
12 - ومنهم منصور بن خزامة فيما يذكر قال ابن بشكوال قرأت في كتاب روايات الشيخ أبي عبد الله بن عابد الراوية رحمه الله تعالى قال وممن دخل الأندلس من المعمرين ما وجدت بخط المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الناصر رضي الله تعالى عنه في بعض كتبه المختزنة أنه قال طرأ علينا رجل أسود من ناحية السودان في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة فذكر أنه منصور بن حزامة مولى رسول الله وكان يزعم أنه أدرك أيام عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وأنه كان مراهقا وكان مع عائشة رضي الله تعالى عنها يوم الجمل وأنه شهد صفين وأن حزامة أعتقه رسول الله وخرج عن الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة إلى المغرب انتهى
قلت هذا كله لا أصل له ويرحم الله تعالى حافظ الإسلام ابن حجر حيث كتب على هذا الكلام ما صورته هذا هذيان لا أصل له ولا يغتر به وكذلك ترجمة أشج الغرب اتفق الحفاظ على كذبه انتهى قلت وما هو إلا من نمط عكراش والله تعالى يحفظنا من سماع الأباطيل بمنه
ومن هذه الأكاذيب ما يذكرون عن أبي الحسن علي بن عثمان بن خطاب وأنه يعرف بأبي الدنيا وأنه كان معمرا مشهورا بصحبة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأنه رأى جماعة من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم ووصفهم بصفاتهم وأنه رأى عائشة رضي الله تعالى عنها فيما زعم وقدم قرطبة على المستنصر الحكم بن الناصر وهو ولي عهد وسأله أبو بكر ابن القوطية عن مغازي علي وكتبها عنه وقد ذكره ابن بشكوال وغيره في كتبهم وتواريخهم فقد ذكر الثقات العارفون بالفن أنه كذاب دجال مائن

جاهل فإياك والاغترار بمثل ذلك مما يوجد في كتب كثير من المؤرخين بالمشرق والأندلس ولا يلتفت إلى قول تميم بن محمد التميمي إنه كان إذ لقيه ابن ثلاثمائة سنة وخمس سنين قال تميم واتصلت بنا وفاته ببلده في نحو سنة عشرين وثلاثمائة وبالجملة فلا أصل له وإنما ذكرناه للتنبيه عليه
وقد عرفت بما ذكرناه التابعين الداخلين الأندلس على أن للتحقيق أنهم لم يبلغوا ذلك العدد وإنما هم نحو خمسة أو أربعة كما ألمعنا به في غير هذا الموضع والله تعالى
13 - ومن الداخلين إلى الأندلس مغيث فاتح قرطبة وقد تقدم بعض الكلام عليه وذكر ابن حيان والحجاري أنه رومي زاد الحجاري وليس برومي على الحقيقة وتصحيح نسبه أنه مغيث بن الحارث بن الحويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني سبي من الروم بالمشرق وهو صغير فأدبه عبد الملك بن مروان مع ولده الوليد وأنجب في الولادة وصار منه بنو مغيث الذين نجبوا في قرطبة وسادوا وعظم بيتهم وتفرعت دوحتهم وكان منهم عبد الرحمن بن مغيث حاجب عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس وغيره
ونشأ مغيث بدمشق ودخل الأندلس مع طارق فاتحها وجاز على ما في طريقها من البلاد إلى الشام وقدمه طارق لفتح قرطبة ففتحها ووقع بينه وبين طارق ثم وقع بينه وبين موسى بن نصير سيد طارق فرحل معهما إلى دمشق ثم عاد ظافرا عليهما إلى الأندلس وأنسل بقرطبة البيت المذكور وفي المسهب أنه فتح قرطبة في شوال سنة 92 ثم فتح الكنيسة التي تحصن بها ملك قرطبة بعد حصار ثلاثة أشهر في محرم سنة 93 ولم يذكر له مولدا ولا وفاة
وذكر الحجاري أنه تأدب بدمشق مع بني عبد الملك فأفصح بالعربية وصار يقول من الشعر والنثر ما يجوز كتبه وتدرب على الركوب وأخذ نفسه بالإقدام

في مضايق الحروب حتى تخرج في ذلك تخرجا أهله للتقدم على الجيش الذي فتح قرطبة وكان مشهورا بحسن الرأي والكيد وقد قدمنا كيفية فتحه قرطبة وأسره ملكها الذي لم يؤسر من ملوك الأندلس غيره لأن منهم من عقد على نفسه أمانا ومنهم من فر إلى جليقية
وذكر الحجاري أنه لما حصل بيده ملك قرطبة وحريمه رأى فيهن جارية كأنها بينهن بدر بين نجوم وهي تكثر التعرض له بجمالها فوكل بها من عرض عليها العذاب إن لم تقر بما عزمت عليه في شأن مغيث وأنه قد فطن من كثرة تعرضها له بحسنها لما أضمرته من المكر في شأنه فأقرت أنها أكثرت التعرض لتقع بقلبه إذ حسنها فتان وقد أعدت له خرقة مسمومة لتمسح بها ذكره عند وقاعها فحمد الله تعالى على ما ألهمه إليه من مكرها وقال لو كانت نفس هذه الجارية في صدر أبيها ما أخذت قرطبة من ليلة وذكر أن سليمان بن عبد الملك لما أصغى إلى طارق في شأن سيده موسى بن نصير فعذبه واستصفى أمواله أراد أن يصرف سلطان الأندلس إلى طارق وكان مغيث قد تغير عليه فاستشار سليمان مغيثا في تولية طارق وقال له كيف أمره بالأندلس فقال لو أمر أهلها بالصلاة إلى أي قبلة شاءها لتبعوه ولم يروا أنهم كفروا فعملت هذه المكيدة في نفس سليمان وبدا له في ولايته فلقيه بعد ذلك طارق فقال له ليتك وصفت أهل الأندلس بعصياني ولم تضمر في الطاعة ما أضمرت فقال مغيث ليتك تركت لي العلج فتركت لك الأندلس وكان طارق قد أراد أن يأخذ منه ملك قرطبة الذي حصل في يده فلم يمكنه منه فأغرى به سيده موسى بن نصير وقال له يرجع إلى دمشق وفي يده عظيم من عظماء الأندلس وليس في أيدينا مثله فأي فضل يكون لنا عليه فطلبه منه فامتنع من تسليمه قال ابن حيان فهجم موسى على العلج وانتزعه من مغيث فقيل له إن سرت به معك حيا ادعاه مغيث والعلج لا ينكر ولكن اضرب عنقه ففعل فاضطغنها عليه مغيث وبالغ

في أذيته عند سليمان
وذكر الحجاري في المسهب أن لمغيث من الشعر ما يجوز كتبه فمن ذلك شعر خاطب به موسى بن نصير ومولاه طارقا ويكفي منه هنا قوله
( أعنتكم ولكن ما وفيتم ... فسوف أعيث في غرب وشرق ) وعنوان طبقته في النثر أن موسى بن نصير قال له وقد عارضه بكلام في محفل من الناس كف لسانك فقال لساني كالمفصل ما أكفه إلا حيث يقتل
وأضافه ابن حيان والحجاري إلى ولاء الوليد بن عبد الملك وهو الذي وجهه إلى الأندلس غازيا ففتح قرطبة ثم عاد إلى المشرق فأعاده الوليد رسولا عنه إلى موسى بن نصير يستحثه على القدوم عليه فوفد معه فوجدوا الوليد قد مات فخدم بعده سليمان بن عبد الملك
14 - 15 - ومن الداخلين أيوب بن حبيب اللخمي ذكر ابن حيان أنه ابن أخت موسى بن نصير وأن أهل إشبيلية قدموه على سلطان الأندلس بعد قتل عبد العزيز بن موسى واتفقوا في أيامه على تحويل السلطان من إشبيلية إلى قرطبة فدخل إليها بهم وكان قيامه بأمرهم ستة أشهر وقيل إن الذي نقل السلطنة من إشبيلية إلى قرطبة الحر بن عبد الرحمن الثقفي
قال الرازي قدم الحر واليا على الأندلس في ذي الحجة سنة سبع وتسعين ومعه أربعمائة رجل من وجوه إفريقية فمنهم أول طوالع الأندلس المعدودين وقال ابن بشكوال كانت مدة الحر سنتين وثمانية أشهر وكانت ولايته بعد قيام أيوب بن حبيب اللخمي
16 - 26 - ومن الداخلين السمح بن مالك الخولاني ولي الأندلس

بعد الحر بن عبد الرحمن السابق قال ابن حيان ولاه عمر بن عبد العزيز وأوصاه أن يخمس من أرض الأندلس ما كان عنوة ويكتب إليه بصفتها وأنهارها وبحارها قال وكان من رأيه أن ينقل المسلمين عنها لانقطاعهم وبعدهم عن أهل كلمتهم قال وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلا أن يستنقذهم الله تعالى برحمته
وذكر ابن حيان أن قدوم السمح كان في رمضان سنة مائة وأنه الذي بنى قنطرة قرطبة بعدما استأذن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى ! وكانت دار سلطانه قرطبة
قال ابن بشكوال استشهد بأرض الفرنجة يوم التروية سنة اثنتين ومائة
قال ابن حيان كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر وذكر أنه قتل في الوقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه فأحاطت بالمسلمين فلم ينج من المسلمين أحد قال ابن حيان فيقال إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن
وقدم أهل الأندلس على أنفسهم بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي
وذكر ابن بشكوال أنه من التابعين الذين دخلوا الأندلس وأنه يروي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وقال وكانت ولايته للأندلس في حدود العشر ومائة من قبل عبيدة بن عبد الرحمن القيسي صاحب إفريقية واستشهد في قتال العدو بالأندلس سنة خمس عشرة انتهى
وفيه مخالفة لما سبق أنه ولي بعد السمح وأن السمح قتل سنة 102 وهذا يقول تولى سنة 110 فأين ذا من ذاك والله تعالى أعلم

ووصفه الحميدي بحسن السيرة والعدل في قسمة الغنائم وذكر الحجاري أنه ولي الأندلس مرتين وربما يجاب بهذا عن الإشكال الذي قدمناه قريبا ويضعفه أن ابن حيان قال دخل الأندلس حين وليها الولاية الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد وأصيب عسكره في شهر رمضان سنة 114 في موضع يعرف ببلاط الشهداء
قال ابن بشكوال وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط وقد تقدم مثل هذا في غزوة السمح فكانت ولايته سنة وثمانية أشهر وفي رواية سنتين وثمانية أشهر وقيل غير ذلك وكان سرير سلطانه حضرة قرطبة وولي الأندلس بعده عنبسة بن سحيم الكلبي وذكر ابن حيان أنه قدم على الأندلس واليا من قبل يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج حين كان صاحب إفريقية وكان قدومه الأندلس في صفر سنة 103 فتأخر بقدومه عبد الرحمن المتقدم الذكر قال ابن بشكوال فاستقامت به الأندلس وضبط أمرها وغزا بنفسه إلى أرض الإفرنجة وتوفي في شعبان سنة 107 فكانت ولايته أربعة أعوام وأربعة أشهر وقيل ثمانية أشهر

وذكر ابن حيان أنه في أيامه قام بجليقية علج خبيث يدعى بلاي فعاب على العلوج طول الفرار وأذكى قرائحهم حتى سما بهم إلى طلب الثار ودافع عن أرضه ومن وقته أخذ نصارى الأندلس في مدافعة المسلمين عما بقي بأيديهم من أرضهم والحماية عن حريمهم وقد كانوا لا يطمعون في ذلك وقيل إنه لم يبق بأرض جليقية قرية فما فوقها لم تفتح إلا الصخرة التي لاذ بها هذا العلج ومات أصحابه جوعا إلى أن بقي في مقدار ثلاثين رجلا ونحو عشر نسوة وما لهم عيش إلا من عسل النحل في جباح معهم في خروق الصخرة وما زالوا ممتنعين بوعرها إلى أن أعيا المسلمين أمرهم واحتقروهم وقالوا ثلاثون علجا ما عسى أن يجيء منهم فبلغ أمرهم بعد ذلك في القوة والكثرة والاستيلاء ما لا خفاء به
وملك بعده أذفونش جد عظماء الملوك المشهورين بهذه السمة
قال ابن سعيد فآل احتقار تلك الصخرة ومن احتوت عليه إلى أن ملك عقب من كان فيها المدن العظيمة حتى إن حضرة قرطبة في يدهم الآن جبرها الله تعالى ! وهي كانت سرير السلطنة لعنبسة اه
قال ابن حيان والحجاري إنه لما استشهد عنبسة قدم أهل الأندلس عليهم عذرة بن عبد الله الفهري ولم يعده ابن بشكوال في سلاطين الأندلس بل قال ثم تتابعت ولاة الأندلس مرسلين من قبل صاحب إفريقية أولهم يحيى بن سلمة وذكر الحجاري أن عذرة كان من صلحائهم وفرسانهم وصار لعقبه نباهة

وولده هشام بن عذرة هو الذي استولى على طليطلة قصبة الأندلس وفي عقبه بوادي آش من مملكة غرناطة نباهة وأدب قال ابن سعيد وهم إلى الآن ذوو بيت مؤصل ومجد مؤثل وكان سرير سلطنة عذرة قرطبة
وولي بعده يحيى بن سلمة الكلبي قال ابن بشكوال أنفذه إلى الأندلس بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية إذ استدعى منه أهلها واليا بعد مقتل أميرهم عنبسة فقدمها في شوال سنة سبع ومائة وأقام عليها سنة وستة أشهر لم يغز فيها بنفسه غزوة ونحوه لابن حيان وكان سريره قرطبة
وتولى بعده عثمان بن أبي نسعة الخثعمي وذكر ابن بشكوال أنه قدم عليها واليا من قبل عدي بن عبد الرحمن السلمي صاحب إفريقية في شعبان سنة عشر ومائة ثم عزل سريعا بعد خمسة أشهر وكان سرير سلطانه بقرطبة
وولي بعده حذيفة بن الأحوص القيسي قال ابن بشكوال وأتى إليها واليا من قبل عبيدة المذكور على اختلاف فيه وفي ابن أبي نسعة أيهما تولى قبل صاحبه وكان قدوم حذيفة في ربيع الأول سنة عشر ومائة وعزل عنها سريعا أيضا وقيل إن ولايته استتمت سنة وكان بقرطبة وولي بعده الأندلس الهيثم بن عبيد الكلابي قال ابن بشكوال ولاه عبيدة المذكور فوافى الأندلس في المحرم سنة إحدى عشرة ومائة وقيل إنه ولي سنتين وأياما وقد قيل أربعة أشهر وكان بقرطبة وولي بعده محمد بن عبد الله الأشجعي قال ابن بشكوال قدمه الناس عليهم وكان فاضلا فصلى بهم شهرين
قال ثم قدم عليهم واليا عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي الذي تقدمت ترجمته وذكرت ولايته الأولى للأندلس وليها من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية إلى أن استشهد كما تقدم
وولي الأندلس بعده عبد الملك بن قطن الفهري وذكر الحجاري أن من نسله بني القاسم أصحاب البونت وبني الجد أعيان إشبيلية قال ابن بشكوال قدم الأندلس في شهر رمضان سنة أربع عشرة ومائة فكانت مدة ولايته عامين

وقيل أربع سنين ثم عزل عنها ذميما في شهر رمضان سنة ست عشرة ومائة قال وكان ظلوما في سيرته جائرا في حكومته وغزا أرض البشكنس فأوقع بهم
وذكر ابن بشكوال أنه لما عزل وولي عقبة بن الحجاج وثب ابن قطن عليه فخلعه لا أدري أقتله أم أخرجه وملك الأندلس بقية إحدى وعشرين ومائة إلى أن رحل بلج بن بشر بأهل الشام إلى الأندلس فغلبه عليها وقتل عبد الملك بن قطن وصلب في ذي القعدة سنة ثلاث وعشرين ومائة بعد ولاية بلج بعشرة أشهر وصلب بصحراء ربض قرطبة بعدوة النهر حيال رأس القنطرة وصلبوا عن يمينه خنزيرا وعن يساره كلبا وأقام شلوه على جذعه إلى أن سرقه مواليه بالليل وغيبوه فكان المكان بعد ذلك يعرف بمصلب ابن قطن فلما ولي ابن عمه يوسف بن عبد الرحمن الفهري استأذنه ابنه أمية بن عبد الملك وبنى فيه مسجدا نسب إليه فقيل مسجد أمية وانقطع عنه اسم المصلب وكان سن عبد الملك عند مقتله نحو التسعين
وذكر ابن بشكوال أن عقبة بن الحجاج السلولي ولاه عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية الأندلس ودخلها سنة سبع عشرة ومائة وقيل في السنة التي قبلها فأقام بها سنين محمود السيرة مثابرا على الجهاد مفتتحا للبلاد حتى بلغ سكنى المسلمين أربونة وصار رباطهم على نهر رودونة فأقام عقبة بالأندلس سنة إحدى وعشرين ومائة وكان قد اتخذ بأقصى ثغر الأندلس الأعلى مدينة يقال لها أربونة كان ينزلها للجهاد وكان إذا أسر الأسير لم يقتله حتى يعرض عليه الإسلام ويبين له عيوب دينه فأسلم على يده ألفا رجل وكانت ولايته خمس سنين وشهرين قال الرازي فثار أهل الأندلس بعقبة فخلعوه في صفر سنة ثلاث وعشرين في خلافة هشام بن عبد الملك وولوا على أنفسهم عبد الملك بن قطن وهي ولايته الثانية

فكانت ولاية عقبة الأندلس ستة أعوام وأربعة أشهر وتوفي في صفر سنة 123 وسريره قرطبة
27 - 31 - ومن الداخلين إلى الأندلس بلج بن بشر بن عياض القشيري قال ابن حيان لما انتهى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك ما كان من أمر خوارج البربر بالمغرب الأقصى والأندلس وخلعهم لطاعته وعيثهم في الأرض شق عليه فعزل عبيد الله بن الحبحاب عن إفريقية وولى عليها كلثوم بن عياض القشيري ووجه معه جيشا كثيفا لقتالهم كان فيه مع ما انضاف إليه من جيوش البلاد التي صار عليها سبعون ألفا ومع ذلك فإنه لما تلاقى مع مسيرة البربري المدعي للخلافة هزمه ميسرة وجرح كلثوم ولاذ بسبتة وكان بلج ابن أخيه معه فقامت قيامة هشام لما سمع بما جرى عليه فوجه لهم حنظلة بن صفوان فأوقع بالبربر ففتح الله تعالى على يديه
ولما اشتد حصار بلج وعمه كلثوم ومن معهما من فل أهل الشام بسبتة وانقطعت عنهم الأقوات وبلغوا من الجهد إلى الغاية استغاثوا بإخوانهم من عرب الأندلس فتثاقل عنهم صاحب الأندلس عبد الملك بن قطن لخوفه على سلطانه منهم فلما شاع خبر ضرهم عند رجال العرب أشفقوا عليهم فأغاثهم زياد بن عمرو اللخمي بمركبين مشحونين ميرة أمسكا من أرماقهم فلما بلغ ذلك عبد الملك بن قطن ضربه سبعمائة سوط ثم اتهمه بعد ذلك بتغريب الجند عليه فسمل عينيه ثم ضرب عنقه وصله وصلب عن يساره كلبا واتفق في هذا الوقت أن برابر الأندلس لما بلغهم ما كان من ظهور برابر العدوة على العرب انتقضوا على عرب الأندلس واقتدوا بما فعله إخوانهم ونصبوا عليهم إماما فكثر إيقاعهم بجيوش ابن قطن واستفحل أمرهم فخاف ابن قطن أن يلقى منهم ما لقي العرب ببر العدوة من إخوانهم وبلغه أنهم قد عزموا على قصده فلم ير أجدى من الاستعداد بصعاليك عرب الشام أصحاب بلج الموتورين فكتب

لبلج وقد مات عمه كلثوم في ذلك الوقت فأسرعوا إلى إجابته وكانت أمنيتهم فأحسن إليهم وأسبغ النعم عليهم وشرط عليهم أن يأخذ منهم رهائن فإذا فرغوا له من البربر جهزمهم إلى إفريقية وخرجوا له عن أندلسه فرضوا بذلك وعاهدوه عليه فقدم عليهم وعلى جنده ابنيه قطنا وأمية والبربر في جموع لا يحصيها غير رازقها فاقتتلوا قتالا صعب فيه المقام إلى أن كانت الدائرة على البربر فقتلتهم العرب بأقطار الأندلس حتى ألحقوا فلهم بالثغور وخفوا عن العيون فكر الشاميون وقد امتلأت أيديهم من الغنائم فاشتدت شوكتهم وثابت همتهم وبطروا ونسوا العهود وطالبهم ابن قطن بالخروج عن الأندلس إلى إفريقية فتعللوا عليه وذكروا صنيعه بهم أيام انحصارهم في سبتة وقتله الرجل الذي أغاثهم بالميرة فخلعوه وقدموا على أنفسهم أميرهم بلج بن بشر وتبعه جند ابن قطن وحملوا عليه في قتل ابن قطن فأبى فثارت اليمانية وقالوا قد حميت لمضرك والله لا نطيعك فلما خاف تفرق الكلمة أمر بابن قطن فأخرج إليهم وهو شيخ كبير كفرخ نعامة قد حضر وقعة الحرة مع أهل اليمامة فجعلوا يسبونه ويقولون له أفلت من سيوفنا يوم الحرة ثم طالبتنا بتلك الترة فعرضتنا لأكل الكلاب والجلود وحبستنا بسبتة محبس الضنك حتى أمتنا جوعا فقتلوه وصلبوه كما تقدم وكان أمية وقطن ابناه عندما خلع قد هربا وحشدا لطلب الثأر واجتمع عليهما العرب الأقدمون والبربر وصار معهم عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري كبير الجند وكان في أصحاب بلج فلما صنع بابن عمه عبد الملك ما صنع فارقه فانحاز فيمن يطلب ثأره وانضم إليهم عبد الرحمن بن علقمة اللخمي صاحب أربونة وكان فارس الأندلس في وقته فأقبلوا نحو بلج في مائة ألف أو يزيدون وبلج قد استعد

لهم في مقدار اثني عشر ألفا سوى عبيد له كثيرة وأتباع من البلديين فاقتتلوا وصبر أهل الشام صبرا لم يصبر مثله أحد قط وقال عبد الرحمن بن علقمة اللخمي أروني بلجا فوالله لأقتلنه أو لأموتن دونه فأشاروا إليه نحوه فحمل بأهل الثغر حملة انفرج لها الشاميون والراية في يده فضربه عبد الرحمن ضربتين مات منهما بعد ذلك بأيام قلائل
ثم إن البلديين انهزموا بعد ذلك هزيمة قبيحة واتبعهم الشاميون يقتلون ويأسرون فكان عسكرا منصورا مقتولا أميره وكان هلاك بلج في شوال سنة أربع وعشرين ومائة وكانت مدته أحد عشر شهرا وسريره قرطبة والعرب الشاميون الداخلون معه إلى الأندلس يعرفون عند أهل الأندلس بالشاميين والذين كانوا في الأندلس قبل دخوله يشهرون بالبلديين
ولما هلك بلج قدم الشاميون عليهم بالأندلس ثعلبة بن سلامة العاملي وقد كان عندهم عهد الخليفة هشام بذلك فسار فيهم بأحسن سيرة ثم إن أهل الأندلس الأقدمين من العرب والبربر سموا بعد الوقعة لطلب الثأر فآل أمره معهم إلى أن حصروه بمدينة ماردة وهم لا يشكون في الظفر إلى أن حضر عيد تشاغلوا به فأبصر ثعلبة منهم غرة وانتشارا وأشرا بكثرة العدد والاستيلاء فخرج عليهم في صبيحة عيدهم وهم ذاهلون فهزمهم هزيمة قبيحة وأفشى فيهم القتل وأسر منهم ألف رجل وسبى ذريتهم وعيالهم وأقبل إلى قرطبة من سبيهم بعشرة آلاف أو يزيدون حتى نزل بظاهر قرطبة يوم خميس وهو يريد أن يحمل الأسارى على السيف بعد صلاة الجمعة
وأصبح الناس منتظرين لقتل الأسارى فإذا بهم قد طلع عليهم لواء فيه موكب فنظروا فإذا أبو الخطار قد أقبل واليا على الأندلس وهو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي وذكر ابن حيان أنه قدم واليا من قبل حنظلة بن صفوان صاحب إفريقية والخليفة حينئذ الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وذلك في رجب سنة خمس وعشرين ومائة بعد عشرة أشهر وليها ثعلبة بن سلامة قال وكان

مع فروسيته شاعرا محسنا وكان في أول ولايته قد أظهر العدل فدانت له الأندلس إلى أن مالت به العصبية اليمانية على المضرية فهاج الفتنة العمياء وكان سبب هذه الفتنة أن أبا الخطار بلغ به التعصب لليمانية أن اختصم عنده رجل من قومه مع خصم له من كنانة كان أبلج حجة من ابن عم أبي الخطار فمال أبو الخطار مع ابن عمه فأقبل الكناني إلى الصميل بن حاتم الكلابي أحد سادات مضر فشكا له حيف أبي الخطار وكان أبيا للضيم حاميا للعشيرة فدخل على أبي الخطار وأمض عتابه فنجهه أبو الخطار وأغلظ له فرد الصميل عليه فأمر به أبو الخطار فأقيم ودع قفاه حتى مالت عمامته فلما خرج قال له بعض من على الباب أبا جوشن ما بال عمامتك مائلة فقال إن كان لي قوم فسيقيمونها
وأقبل إلى داره فاجتمع إليه قومه حين بلغهم ذلك ممتعضين فباتوا عنده فلما أظلم الليل قال ما رأيكم فيما حدث علي فإنه منوط بكم فقالوا أخبرنا بما تريد فإن رأينا تبع رأيك فقال أريد والله إخراج هذا الأعرابي من هذا السلطان على ما خيلت وأنا خارج لذلك عن قرطبة فإنه ما يمكنني ما أريد إلا بالخروج فإلى أين ترون أقصد فقالوا اذهب حيث شئت ولا تأت أبا عطاء القيسي فإنه لا يواليك على أمر ينفعك وكان أبو عطاء هذا سيدا مطاعا يسكن بإستجة وكان مشاحنا للصميل مساميا له في القدر فسكت عند ذكره أبو بكر بن الطفيل العبدي وكان من أشرافهم إلا أنه كان حديث السن فقال له الصميل ألا تتكلم فقال أتكلم بواحدة ما عندي غيرها قال وما هي قال إن عدوت إتيان أبي عطاء وشتت أمرك به لم يتم أمرنا وهلكنا وإن أنت قصدته لم ينظر في شيء مما سلف بينكما وحركته الحمية لك فأجابك إلى ما تريد فقال له الصميل أصبت الرأي وخرج من ليلته وقام أبو عطاء في نصرته على ما قدره العبدي وعمد إلى ثوابة بن يزيد الجذامي أحد أشراف اليمن وساداتهم وكان ساكنا بمورور وقد استفسد إليه أبو الخطار فأجابهما في

والتقدم على المضرية فاجتمعوا في شذونة وآل الأمر إلى أن هزموا أبا الخطار على وادي لكة وحصل أسيرا في أيديهم فأرادوا قتله ثم أرجأوه وأوثقوه وأقبلوا به إلى قرطبة وذلك في رجب سنة 127 بعد ولاية أبي الخطار بسنتين
ولما سجن أبو الخطار في قرطبة امتعض له عبد الرحمن بن حسان الكلبي فأقبل إلى قرطبة ليلا في ثلاثين فارسا معهم طائفة من الرجالة فهجموا على الحبس وأخرجوه منه ومضوا به إلى غرب الأندلس فعاد في طلب سلطانه ودب في يمانيته حتى اجتمع له عسكر أقبل بهم إلى قرطبة فخرج إليه ثوابة ومعه الصميل فقام رجل من المضرية ليلا فصاح بأعلى صوته يا معشر اليمن ما لكم تتعرضون إلى الحرب وتردون المنايا عن أبي الخطار أليس قد قدرنا عليه لو أردنا قتله لفعلنا لكننا مننا وعفونا وجعلنا الأمير منكم أفلا تفكرون في أمركم فلو أن الأمير من غيركم عذرتم ولا والله لا نقول هذا رهبة منكم ولا خوفا لحربكم ولكن تحرجا من الدماء ورغبة في عافية العامة فتسامع الناس به وقالوا صدق فتداعوا للرحيل ليلا فما أصبحوا إلا على أميال
قال الرازي ركب أبو الخطار البحر من ناحية تونس في المحرم سنة 125 وفي كتاب أبي الوليد ابن الفرضي كان أبو الخطار أعرابيا عصبيا أفرط في التعصب لليمانيين وتحامل على مضر وأسخط قيسا فثار به زعيمهم الصميل فخلعه ونصب مكانه ثوابة وهاج بين الفريقين الحروب المشهورة وخلع أبو الخطار بعد أربع سنين وتسعة أشهر وذلك سنة 128 وآل أمره إلى أن قتله الصميل
وولي الأندلس ثوابة بن سلامة الجذامي قال ابن بشكوال لما اتفقوا عليه خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب القيروان فكتب إليه بعهد الأندلس وذلك سلخ رجب سنة 127 فضبط البلد وقام بأمره كله

الصميل واجتمع عليه أهل الأندلس وأقام واليا سنة أو نحوها ثم هلك وفي كتاب ابن الفرضي أنه ولي سنتين
ثم ولي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ابن عقبة ابن نافع الفهري وجده عقبة بن نافع صاحب إفريقية وباني القيروان المجاب الدعوة صاحب الغزوات والآثار الحميدة ولهذا البيت في السلطنة بإفريقية والأندلس نباهة
وذكر الرازي أن مولده بالقيروان ودخل أبوه الأندلس من إفريقية مع حبيب بن أبي عبيدة الفهري عند افتتاحهم ثم عاد إلى إفريقية وهرب عنه ابنه يوسف هذا من إفريقية إلى الأندلس مغاضبا له فهوي الأندلس واستوطنها فساد بها قال الرازي كان يوسف يوم ولي الأندلس ابن سبع وخمسين سنة وأقامه أهل الأندلس بعد أميرهم ثوابة وقد مكثوا بغير وال أربعة أشهر فاجتمعوا عليه بإشارة الصميل من أجل أنه قرشي رضي به الحيان فرفعوا الحرب ومالوا إلى الطاعة فدانت له الأندلس تسع سنين وتسعة أشهر وقال ابن حيان قدمه أهل الأندلس في ربيع الآخر سنة 129 واستبد بالأندلس دون ولاية أحد له غير من بالأندلس وحكى ابن حيان أنه أنشد قول حرقة بنت النعمان بن المنذر يوم خلعه بالأمان من سلطانه ودخوله عسكر عبد الرحمن الداخل المرواني
( فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف )
قال ابن حيان لما سمع أبو الخطار بتقديمه حرك يمانيته فأجابوا دعوته فأدى ذلك إلى وقعة شقندة بين اليمانية والمضرية فيقال إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب حرب أصدق منها جلادا ولا أصبر رجالا طال صبر بعضهم على بعض إلى أن فني السلاح وتجاذبوا بالشعور وتلاطموا بالأيدي وكل بعضهم عن بعض وثابت للصميل غرة في اليمانية في بعض الأيام فأمر بتحريك أهل الصناعات بأسواق قرطبة فخرجوا في نحو أربعمائة رجل من

أنجادهم بما حضرهم من السكاكين والعصي ليس فيهم حامل رمح ولا سيف إلا قليلا فرماهم على اليمانية وهم على غفلة وما فيهم من يبسط يدا لقتال ولا ينهض لدفاع فانهزمت اليمانية ووضعت المضربة السيف فيهم فأبادوا منهم خلقا واختفى أبو الخطار تحت سرير رحى فقبض عليه وجيء به إلى الصميل فضرب عنقه وقد ذكرنا خبر انخلاع يوسف عن سلطانه في ترجمة عبد الرحمن الداخل وهو آخر سلاطين الأندلس الذين ولوها من غير موارثة حتى جاءت الدولة المروانية
وذكر ابن حيان أن القائم بدولة يوسف والمستولي عليها الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الكلابي وجده شمر هو قاتل الحسين رضي الله تعالى عنه وكان شمر قد فر من المختار بولده من الكوفة إلى الشام فلما خرج كلثوم بن عياض للمغرب كان الصميل فيمن خرج معه ودخل الأندلس في طالعة بلج وكان شجاعا جوادا جسورا على قلب الدول فبلغ ما بلغ وآل أمره إلى أن قتله عبد الرحمن الداخل المرواني في سجن قرطبة مخنوقا
وذكر ابن حيان أنه كان ممن ثار على يوسف الفهري عبد الرحمن بن علقمة اللخمي فارس الأندلس ووالي ثغر أربونة وكان ذا بأس شديد ووجاهة عظيمة فبينما هو في تدبير غزو يوسف إذ اغتاله أصحابه وأقبلوا برأسه إليه
ثم ثار عليه بعد ذلك بمدينة باجة عروة بن الوليد في أهل الذمة وغيرهم فملك إشبيلية وكثر جمعه إلى أن خرج له يوسف فقتله وثار عليه بالجزيرة الخضراء عامر العبدري فخرج له وأنزله على أمان في سكنى قرطبة ثم ضرب عنقه بعد ذلك
وقيل إن أول من خرج على يوسف عمرو بن يزيد الأزرق في إشبيلية فظفر به فقتله وثار عليه في كورة سرقسطة الحباب الزهري إلى أن ظفر به يوسف فقتله ثم جاءته الداهية العظمى بدخول عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس وسعيه في إفساد سلطانه فتم له ما أراده والله تعالى أعلم

32 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس ملكها عبد الرحمن بن معاوية ابن أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك بن مروان المعروف بالداخل وذلك أنه لما أصاب دولتهم ما أصاب واستولى بنو العباس على ما كان بأيديهم واستقر قدمهم في الخلافة فر عبد الرحمن إلى الأندلس فنال بها ملكا أورثه عقبه حقبة من الدهر
قال ابن حيان في المقتبس إنه لما وقع الاختلال في دولة بني أمية والطلب عليهم فر عبد الرحمن ولم يزل في فراره منتقلا بأهله وولده إلى أن حل بقرية على الفرات ذات شجر وغياض يريد المغرب لما حصل في خاطره من بشرى مسلمة فمما حكي عنه أنه قال إني لجالس يوما في تلك القرية في ظلمة بيت تواريت فيه لرمد كان بي وابني سليمان بكر ولدي يلعب قدامي وهو يومئذ ابن أربع سنين أو نحوها إذ دخل الصبي من باب البيت فازعا باكيا فأهوى إلى حجري فجعلت أدفعه لما كان بي ويأبى إلا التعلق وهو دهش يقول ما يقوله الصبيان عند الفزع فخرجت لأنظر فإذا بالروع قد نزل بالقرية ونظرت فإذا بالرايات السود عليها منحطة وأخ لي حديث السن كان معي يشتد هاربا ويقول لي النجاء يا أخي فهذه رايات المسودة فضربت بيدي على دنانير تناولتها ونجوت بنفسي والصبي أخي معي وأعلمت أخواتي بمتوجهي ومكان مقصدي وأمرتهن أن يلحقنني ومولاي بدر معهن وخرجت فكمنت في موضع ناء عن القرية فما كان إلا ساعة حتى أقبلت

الخيل فأحاطت بالدار فلم تجد أثرا ومضيت ولحقني بدر فأتيت رجلا من معارفي بشط الفرات فأمرته أن يبتاع لي دواب وما يصلح لسفري فدل علي عبد سوء له العامل فما راعنا إلا جلبة الخيل تحفزنا فاشتددنا في الهرب فسبقناها إلى الفرات فرمينا فيه بأنفسنا والخيل تنادينا من الشط ارجعا لا بأس عليكما فسبحت حاثا لنفسي وكنت أحسن السبح وسبح الغلام أخي فلما قطعنا نصف الفرات قصر أخي ودهش فالتفت إليه لأقوي من قلبه وإذا هو قد أصغى إليهم وهم يخدعونه عن نفسه فناديته تقتل يا أخي إلي إلي فلم يسمعني وإذا هو قد اغتر بأمانهم وخشي الغرق فاستعجل الانقلاب نحوهم وقطعت أنا الفرات وبعضهم قد هم بالتجرد للسباحة في أثري فاستكفه أصحابه عن ذلك فتركوني ثم قدموا الصبي أخي الذي صار إليهم بالأمان فضربوا عنقه ومضوا برأسه وأنا أنظر إليه وهو ابن ثلاث عشرة سنة فاحتملت فيه ثكلا ملأني مخافة ومضيت إلى وجهي أحسب أني طائر وأنا ساع على قدمي فلجأت إلى غيضة آشبة فتواريت فيها حتى انقطع الطلب ثم خرجت أؤم المغرب حتى وصلت إلى إفريقية
قال ابن حيان وسار حتى أتى إفريقية وقد ألحقت به أخته شقيقته أم الأصبغ مولاه بدرا ومولاه سالما ومعهما دنانير للنفقة وقطعة من جوهر فنزل بإفريقية وقد سبقه إليها جماعة من فل بني أمية وكان عند واليها عبد الرحمن بن حبيب الفهري يهودي حدثاني صحب مسلمة ابن عبد الملك وكان يتكهن له ويخبره بتغلب القرشي المرواني الذي هو من أبناء ملوك القوم واسمه عبد

الرحمن وهو ذو ضفيرتين يملك الأندلس ويورثها عقبه فاتخذ الفهري عند ذلك ضفيرتين أرسلهما رجاء أن تناله الرواية فلما جيء بعبد الرحمن ونظر إلى ضفيرتيه قال لليهودي ويحك هذا هو وأنا قاتله فقال له اليهودي إنك إن قتلته فما هو به وإن غلبت على تركه إنه لهو
وثقل فل بني أمية على ابن حبيب صاحب إفريقية فطرد كثيرا منهم مخافة وتجنى على ابنين للوليد بن يزيد كانا قد استجارا به فقتلهما وأخذ مالا كان مع إسماعيل بن أبان بن عبد العزيز بن مروان وغلبه على أخته فتزوجها بكرهه وطلب عبد الرحمن فاستخفى انتهى
وذكر ابن عبد الحكم أن عبد الرحمن الداخل أقام ببرقة مستخفيا خمس سنين وآل أمره في سفره إلى أن استجار ببني رستم ملوك تيهرت من المغرب الأوسط وتقلب في قبائل البربر إلى أن استقر على البحر عند قوم من زنانة وأخذ في تجهيز بدر مولاه إلى العبور للأندلس لموالي بني أمية وشيعتهم بها وكانت الموالي المروانية المدونة بالأندلس في ذلك الأوان ما بين الأربعمائة والخمسمائة ولهم جمرة وكانت رياستهم إلى شخصين أبي عثمان عبيد الله بن عثمان وعبد الله بن خالد وهما من موالي عثمان رضي الله تعالى عنه وكانا يتوليان لواء بني أمية يعتقبان حمله ورياسة جند الشام النازلين بكورة إلبيرة فعبر بدر مولى عبد الرحمن إلى أبي عثمان بكتاب عبد الرحمن يذكره فيه أيادي سلفه من بني أمية وسببه بهم ويعرفه مكانه من السلطان وسعيه لنيله إذ كان الأمر لجده هشام فهو حقيق بوراثته ويسأله القيام بشأنه وملاقاة من يثق به من الموالي الأموية وغيرهم ويتلطف في إدخاله إلى الأندلس ليبلي عذرا في الظهور عليها ويعده بإعلاء الدرجة ولطف المنزلة ويأمره أن يستعين في ذلك بمن يأمنه ويرجو قيامه معه ويأخذ فيه مع اليمانية ذوي الحنق على المضرية لما بين الحيين من الترات فمشى أبو عثمان لما دعاه إليه وبانت له فيه طماعية وكان عند ورود بدر قد تجهز إلى ثغر سرقسطة لنصرة

صاحبها الصميل بن حاتم وجه دولة يوسف بن عبد الرحمن صاحب الأندلس فقال لصهره عبد الله بن خالد المذكور لو كنا ذاكرنا الصميل خبر بدر وما جاء به لنختبر ما عنده في موافقتنا وكانا على ثقة في أنه لا يظهر على سرهما أحدا لمروءته وأنفته فقال له إن نحن فعلنا لم نأمن من أن تدركه الغيرة على سلطان يوسف لما هو عليه من شرف القدر وجلالة المنزلة فيتوقع سقوط رياسته فلا يساعدنا قال أبو عثمان فنمسح إذا على أمره ونذكر له أنه قصد لإرادة الإيواء والأمان وطلب أخماس جده هشام لدينا ليتعيش بها لا يريد غير ذلك فاتفقنا على هذا
فلما ودعا الصميل خلوا به في ذلك وقد ظهر لهما منه حقد على صاحبه يوسف في إبطائه عن إمداده لما حاربه الحباب الزهري بكورة سرقسطة فقال لهما أنا معكما فيما تحبان فاكتبا إليه أن يعبر فإذا حضر سألنا يوسف أن ينزله في جواره وأن يحسن له ويزوجه بابنته فإن فعل وإلا ضربنا صلعته بأسيافنا وصرفنا الأمر عنه إليه فشكراه وقبلا يده ثم ودعاه وأقام بطليطلة وقد ولاه يوسف عليها وعزله عن الثغر وانصرفا إلى وطنهما بإلبيرة وقد كانا لقيا من كان معهما في العسكر من وجوه الناس وثقاتهم فطارحاهم أمر ابن معاوية ثم دسا في الكور إلى ثقاتهما بمثل ذلك فدب أمره فيهم دبيب النار في الجمر وكانت سنة خلف بالأندلس بعد خروج من المجاعة التي دامت بالناس
وفي رواية أن الصميل لأن لهما في أن يطلب الأمر عبد الرحمن الداخل لنفسه ثم دبر ذلك لما انصرفا فتراجع فيه فردهما وقال إني رويت في الأمر الذي أدرته معكما فوجدت الفتى الذي دعوتماني إليه من قوم لو بال أحدهم بهذه الجزيرة غرقنا نحن وأنتم في بوله وهذا رجل نتحكم عليه ونميل على جوانبه ولا يسعنا بدل منه ووالله لو بلغتما بيوتكما ثم بدا لي فيما

فارقتكما عليه لرأيت أن لا أقصر حتى ألقاكما لئلا أغركما من نفسي فإني أعلمكما أن أول سيف يسل عليه سيفي فبارك الله لكما في رأيكما فقالا له ما لنا رأي إلا رأيك ولا مذهب لنا عنك
ثم انصرفا عنه على أن يعينهما في أمره إن طلب غير السلطان وانفصلا عنه إلى إلبيرة عازمين على التصميم في أمره ويئسا من مضر وربيعة ورجعا إلى اليمانية وأخذا في تهييج أحقاد أهل اليمن على مضر فوجداهم قوما قد وغرت صدورهم عليهم يتمنون شيئا يجدون به السبيل إلى إدراك ثأرهم واغتنما بعد يوسف صاحب الأندلس في الثغر وغيبة الصميل فابتاعا مركبا ووجها فيه أحد عشر رجلا منهم مع بدر الرسول وفيهم تمام بن علقمة وغيره وكان عبد الرحمن قد وجه خاتمه إلى مواليه فكتبوا تحت ختمه إلى من يرجونه في طلب الأمر فبثوا من ذلك في الجهات ما دب به أمرهم ولما وجه أبو عثمان المركب المذكور مع شيعته ألفوه بشط مغيلة من بلاد البربر وهو يصلي وكان قد اشتد قلقه وانتظاره لبدر رسوله فبشره بدر بتمكن الأمر وخرج إليه تمام مكثرا لتبشيره فقال له عبد الرحمن ما اسمك قال تمام قال وما كنيتك قال أبو غالب فقال الله أكبر ! الآن تم أمرنا وغلبنا بحول الله تعالى وقوته وأدنى منزلة أبي غالب لما ملك ولم يزل حاجبه حتى مات عبد الرحمن
وبادر عبد الرحمن بالدخول إلى المركب فلما هم بذلك أقبل البربر فتعرضوا دونه ففرقت فيهم من مال كان مع تمام صلات على أقدارهم حتى لم يبق أحد حتى أرضاه فلما صار عبد الرحمن بداخل المركب أقبل عات منهم لم يكن أخذ شيئا فتعلق بحبل الهودج يعقل المركب فحول رجل اسمه شاكر يده بالسيف فقطع يد البربري وأعانتهم الريح على التوجه بمركبهم حتى حلوا بساحل إلبيرة في جهة المنكب وذلك في ربيع الآخر سنة 138 فأقبل إليه نقيباه أبو عثمان وصهره أبو خالد فنقلاه إلى

قرية طرش منزل أبي عثمان فجاءه يوسف بن بخت وانثالت عليه الأموية وجاء جدار بن عمرو المذحجي من أهل مالقة فكان بعد ذلك قاضيه في العساكر وجاءه أبو عبدة حسان بن مالك الكلبي من إشبيلية فاستوزره وانثال عليه الناس انثيالا فقوي أمره مع الساعات فضلا عن الأيام وأمده الله تعالى بقوة عالية فكان دخوله قرطبة بعد ذلك بسبعة أشهر
وكان خبر دخوله للأندلس قد صادف صاحبها يوسف الفهري بالثغر وقد قبض على الحباب الزهري الثائر بسرقسطة وعلى عامر العبدري الثائر معه فبينما هو بوادي الرمل بمقربة من طليطلة وقد ضرب عنق عامر العبدري وابن عامر برأي الصميل إذ جاءه قبل أن يدخل رواقه رسول يركض من عند ولده عبد الرحمن بن يوسف من قرطبة يعلمه بأمر عبد الرحمن ونزوله بساحل جند دمشق واجتماع الموالي المروانية إليه وتشوف الناس لأمره فانتشر الخبر في العسكر لوقته وشمت الناس بيوسف لقتله القرشيين عامرا وابنه وختره بعهدهما فسارع عدد كثير إلى البدار لعبد الرحمن الداخل وتنادوا بشعارهم وقوضوا عن عسكره واتفق أن جادت السماء بوابل لا عهد بمثله لما شاء الله تعالى من التضييق على يوسف فأصبح وليس في عسكره سوى غلمانه وخاصته وقوم الصميل قيس وأتباعه فأقبل إلى طليطلة وقال للصميل ما الرأي فقال بادره الساعة قبل أن يغلظ أمره فإني لست آمن عليك هؤلاء اليمانية لحنقهم علينا فقال له يوسف أتقول ذلك ومع من نسير إليه وأنت ترى الناس قد ذهبوا عنا وقد أنفضنا من المال وأنضينا الظهر ونهكتنا المجاعة في سفرتنا هذه ولكن نسير إلى قرطبة فنستأنف الاستعداد له بعد أن ننظر في أمره ويتبين لنا خبره فلعله دون ما كتب

إلينا فقال الصميل الرأي ما أشرت به عليك وليس غيره وسوف تتبين غلطك فيما تنكبه ومضوا إلى قرطبة
وسار عبد الرحمن الداخل إلى إشبيلية وتلقاه رئيس عربها أبو الصباح بن يحيى اليحصبي واجتمع الرأي على أن يقصدوا به دار الإمارة قرطبة فلما نزلوا بطشانة قالوا كيف نسير بأمير لا لواء له ولا علم نهتدي إليه فجاءوا بقناة وعمامة ليعقدوها عليه فكرهوا أن يميلوا القناة لتعقد تطيرا فأقاموها بين زيتونتين متجاورتين فصعد رجل فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة كما سيأتي وحكي أن فرقدا العالم صاحب الحدثان مر بذلك الموضع فنظر إلى الزيتونتين فقال سيعقد بين هاتين الزيتونتين لواء لأمير لا يثور عليه لواء إلا كسره فكان ذلك اللواء يسعد به هو وولده من بعده ولما أقبل إلى قرطبة خرج له يوسف وكانت المجاعة توالت قبل ذلك ست سنين فأورثت أهل الأندلس ضعفا ولم يكن عيش عامة الناس بالعسكر ما عدا أهل الطاقة مذ خرجوا من إشبيلية إلا الفول الأخضر الذي يجدونه في طريقهم وكان الزمان زمان ربيع فسمي ذلك العام عام الخلف وكان نهر قرطبة حائلا فسار يوسف من قرطبة وأقبل ابن معاوية على بر إشبيلية والنهر بينهما فلما رأى يوسف تصميم عبد الرحمن إلى قرطبة رجع مع النهر محاذيا له فتسايرا والنهر حاجز بينهما إلى أن حل يوسف بصحراء المصارة غربي قرطبة وعبد الرحمن في مقابلته وتراسلا في الصلح وقد أمر يوسف بذبح الجزر وتقدم بعمل الأطعمة وابن معاوية آخذ في خلاف ذلك قد أعد للحرب عدتها واستكمل أهبتها وسهر الليل كله على نظام أمره كما سنذكره ثم انهزم أهل قرطبة وظفر عبد الرحمن الداخل ونصر نصرا لا كفاء له وانهزم

الصميل وفر إلى شوذر من كورة جيان وفر يوسف إلى جهة ماردة
وذكر أن أبا الصباح رئيس اليمانية قال لهم عند هزيمة يوسف يا معشر يمن هل لكم إلى فتحين في يوم قد فرغنا من يوسف وصميل فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية فيصير الأمر لنا نقدم عليه رجلا منا ونحل عنه هذه المضرية فلم يجبه أحد لذلك وبلغ الخبر عبد الرحمن فأسرها في نفسه إلى أن اغتاله بعد عام فقتله
ولما انقضت الهزيمة أقام ابن معاوية بظاهر قرطبة ثلاثة أيام حتى أخرج عيال يوسف من القصر وعف وأحسن السيرة ولما حصل بدار الإمارة وحل محل يوسف لم يستقر به قرار من إفلات يوسف والصميل فخرج في إثر عدوه واستخلف على قرطبة القائم بأمره أبا عثمان واستكتب كاتب يوسف أمية بن زياد واستنام إليه إذ كان من موالي بني أمية ونهض في طلب يوسف فوقع يوسف على خبره فخالفه إلى قرطبة ودخل القصر وتحصن أبو عثمان خليفة عبد الرحمن بصومعة الجامع فاستنزله بالأمان ولم يزل عنده إلى أن عقد الصلح بينه وبين ابن معاوية وكان عقد الصلح المشتمل عليه وعلى وزيره الصميل في صفر سنة 139 وشارطه على أن يخلي بينه وبين أمواله حيثما كانت وأن يسكن بلاط الحر منزلة بشرقي قرطبة - على أن يختلف كل يوم إلى ابن معاوية ويريه وجهه وأعطاه رهينة على ذلك ابنه أبا الأسود محمد بن يوسف زيادة على ابنه عبد الرحمن الذي أسره ابن معاوية يوم الوقعة ورجع العسكران وقد اختلطا إلى قرطبة
وذكر ابن حيان أن يوسف بن عبد الرحمن نكث سنة 141 فهرب من قرطبة وسعى بالفساد في الأرض وقد كانت الحال اضطربت به في قرطبة ودس له قوم قاموا عليه في أملاكه زعموا أنه غصبهم إياها فدفع معهم إلى الحكام

فأعنتوه وحمل عنه في التألم بذلك كلام رفع إلى ابن معاوية أصاب أعداء يوسف به السبيل إلى السعاية به والتخويف منه فاشتد توحشه فخرج إلى جهة ماردة واجتمع إليه عشرون ألفا من أهل الشتات فغلظ أمره وحدثته نفسه بلقاء ابن معاوية فخرج نحوه من ماردة وخرج ابن معاوية من قرطبة فبينما ابن معاوية في حصن المدور مستعد إذ التقى بيوسف عبد الملك بن عمر بن مروان صاحب إشبيلية فكانت بينهما حرب شديدة انكشف عنها يوسف بعد بلاء عظيم منهزما واستحر القتل في أصحابه فهلك منهم خلق كثير وسار يوسف لناحية طليطلة فلقيه في قرية من قراها عبد الله بن عمرو الأنصاري فلما عرفه قال لمن معه هذا الفهري يفر قد ضاقت عليه الأرض وقتله الراحة له والراحة منه فقتله واحتز رأسه وقدم به إلى عبد الرحمن فلما قرب وأوذن عبد الرحمن به أمره أن يتوقف به دون جسر قرطبة وأمر بقتل ولده عبد الرحمن المحبوس عنده وضم إلى رأسه رأسه ووضعا على قناتين مشهرين إلى باب القصر
وكان عبد الرحمن لما فر يوسف قد سجن وزيره الصميل لأنه قال له أين توجه فقال لا أعلم فقال ما كان ليخرج حتى يعلمك ومع ذلك فإن ولدك معه وأكد عليه في أن يحضره فقال لو أنه تحت قدمي هذه ما رفعتها لك عنه فاصنع ما شئت فحينئذ أمر به للحبس وسجن معه ولدي يوسف أبا الأسود محمدا المعروف بعد بالأعمى وعبد الرحمن فتهيأ لهما الهرب من نقب فأما أبو الأسود فنجا سالما واضطرب في الأرض يبغي الفساد إلى أن هلك حتف أنفه وأما عبد الرحمن فأثقله اللحم فانبهر فرد إلى الحبس حتى قتل كما تقدم وأنف الصميل من الهرب فأقام بمكانه فلما

قتل يوسف أدخل ابن معاوية على الصميل من خنقه فأصبح ميتا فدخل عليه مشيخة المضرية في السجن فوجدوه ميتا وبين يديه كأس ونقل كأنه بغت على شرابه فقالوا والله إنا لنعلم يا أبا جوشن أنك ما شربتها ولكن سقيتها ومما ظهر من بطش الأمير عبد الرحمن بن معاوية وصرامته فتكه بأحدى دعائم دولته رئيس اليمانية أبي الصباح يحيى وكان قد ولاه إشبيلية وفي نفسه منه ما أوجب فتكه به
ومن ذلك النوع حكايته مع العلاء بن مغيث اليحصبي إذ ثار بباجة وكان قد وصل من إفريقية على أن يظهر الرايات السود بالأندلس فدخل في ناس قليلين فأرسى بناحية باجة ودعا أهلها ومن حولهم فاستجاب له خلق كثير إلى أن لقيه عبد الرحمن بجهة إشبيلية فهزمه وجيء به وبأعلام أصحابه فقطع يديه ورجليه ثم ضرب عنقه وأعناقهم وأمر فقرطت الصكاك في آذانهم بأسمائهم وأودعت جوالقا محصنا ومعها اللواء الأسود وأنفذ بالجوالق تاجرا من ثقاته وأمره أن يضعه بمكة أيام الموسم ففعل ووافق أبا جعفر المنصور قد حج فوضعه على باب سرادقه فلما كشفه ونظر إليه سقط في يده واستدعى عبد الرحمن وقال عرضنا هذا البائس يعني العلاء - للحتف ما في هذا الشيطان مطمع فالحمد لله الذي صير هذا البحر بيننا وبينه
ولما أوقع عبد الرحمن باليمانية الذين خرجوا في طلب ثأر رئيسهم أبي الصباح اليحصبي وأكثر القتل فيهم استوحش من العرب قاطبة وعلم أنهم على دغل وحقد فانحرف عنهم إلى اتخاذ المماليك فوضع يده في الابتياع فابتاع موالي الناس بكل ناحية واعتضد أيضا بالبرابر ووجه عنهم إلى بر العدوة فأحسن لمن وفد عليه إحسانا رغب من خلفه في المتابعة قال ابن

حيان واستكثر منهم ومن العبيد فاتخذ أربعين ألف رجل صار بهم غالبا على أهل الأندلس من العرب فاستقامت مملكته وتوطدت
وقال ابن حيان كان عبد الرحمن راجح الحلم فاسح العلم ثاقب الفهم كثير الحزم نافذ العزم بريئا من العجز سريع النهضة متصل الحركة لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة ولا يكل الأمور إلى غيره ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه شجاعا مقداما بعيد الغور شديد الحدة قليل الطمأنينة بليغا مفوها شاعرا محسنا سمحا سخيا طلق اللسان وكان يلبس البياض يعتم به ويؤثره وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها ويصلي بالناس إذا كان حاضرا الجمع والأعياد ويخطب على المنبر ويعود المرضى ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم إلى أن حضر في يوم جنازة فتصدى له في منصرفه عنها رجل متظلم عامي وقاح ذو عارضة فقال له أصلح الله الأمير ! إن قاضيك ظلمني وأنا أستجيرك من الظلم فقال له تنصف إن صدقت فمد الرجل يده إلى عنانه وقال أيها الأمير أسألك بالله لما برحت من مكانك حتى تأمر قاضيك بإنصافي فإنه معك فوجم الأمير والتفت إلى من حوله من حشمه فرآهم قليلا ودعا بالقاضي وأمر بإنصافه فلما عاد إلى قصره كلمه بعض رجاله ممن كان يكره خروجه وابتذاله فيما جرى فقال له إن هذا الخروج الكثير - أبقى الله تعالى الأمير ! - لا يجمل بالسلطان العزيز وإن عيون العامة تخلق تجلته ولا تؤمن بوادرهم عليه فليس الناس كما عهدوا فترك من يومئذ شهود الجنائز وحضور المحافل ووكل بذلك ولده هشاما

ومن نظم عبد الرحمن الداخل ما كتب به إلى أخته بالشام
( أيها الراكب الميمم أرضي ... اقر مني بعض السلام لبعضي )
( إن جسمي كما تراه بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض )
( قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي )
( قد قضى الدهر بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي ) الوفود
وكتب إلى بعض من وفد عليه من قومه لما سأله الزيادة في رزقه واستقل ما قابله به وذكره بحقه بهذه الأبيات
( من قام ذا امتعاض ... منتضي الشفرتين نصلا )
( فجاب قفرا وشق بحرا ... مساميا لجة ومحلا )
( دبر ملكا وشاد عزا ... ومنبرا للخطاب فصلا )
( وجند الجند حين أودى ... ومصر المصر حين أجلى )
( ثم دعا أهله إليه ... حيث أنتأوا أن هلم أهلا )
( فجاء هذا طريد جوع ... شديد روع يخاف قتلا )
( فنال أمنا ونال شبعا ... ونال مالا ونال أهلا )
( ألم يكن حق ذا على ذا ... أعظم من منعم ومولى )
وحكى ابن حيان أن عبد الرحمن لما أذعن له يوسف صاحب الأندلس

واستقر ملكه استحضر الوفود إلى قرطبة فانثالوا عليه ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم بكلام سرهم وطيب نفوسهم مع أنه كساهم وأطعمهم ووصلهم فانصرفوا عنه محبورين مغتبطين يتدارسون كلامه ويتهافتون بشكره ويتهانون بنعمة الله تعالى عليهم فيه
وفي بعض مجالسهم هذه مثل بين يديه رجل من جند قنسرين يستجديه فقال له يا ابن الخلائف الراشدين والسادة الأكرمين إليك فررت وبك عذت من زمن ظلوم ودهر غشوم قلل المال وكثر العيال وشعث الحال فصير إلى نداك المآل وأنت ولي الحمد والمجد والمرجو للرفد فقال له عبد الرحمن مسرعا قد سمعنا مقالتك وقضينا حاجتك وأمرنا بعونك على دهرك على كرهنا لسوء مقامك فلا تعودن ولا سواك لمثله من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة والإلحاف في الطلبة وإذا ألم بك خطب أو حزبك أمر فارفعه إلينا في رقعة لا تعدوك كيما نستر عليك خلتك ونكف شمات العدو عنك بعد رفعك لها إلى مالكك ومالكنا عز وجهه بإخلاص الدعاء وصدق النية وأمر له بجائزة حسنة وخرج الناس يتعجبون منه من حسن منطقه وبراعة أدبه وكف فيما بعد ذوو الحاجات عن مقابلته بها شفاها في مجلسه
قال ابن حيان ووقع إلى سليمان بن يقظان الأعرابي على كتاب منه سلك به سبيل الخداع أما بعد فدعني من معاريض المعاذير والتعسف عن جادة الطريق لتمدن يدا إلى الطاعة والاعتصام بحبل الجماعة أو لأزوين بنانها عن رصف المعصية نكالا بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد
وفي المسهب أن عبد الرحمن كان من البلاغة بالمكان العالي الذي يرتد عنه أكثر بني مروان حسيرا
وقد جرى بينه وبين مولاه بدر ما لا يجب إهماله

وذلك أنه لما سعى بدر في تكميل دولته من ابتدائها إلى استقرارها صحبه عجب وامتنان كادا يردان به حياض المنية فأول ما بدأ به أن قال بعنا أنفسنا وخاطرنا بها في شأن من هانت عليه لما بلغ أقصى أمله
وقال وقد أمره بالخروج إلى غزاة إنما تعبنا أولا لنستريح آخرا وما أرانا إلا في أشد مما كنا وأطال أمثال هذه الأقوال وأكثر الاستراحة في جانبه فهجره وأعرض عنه فزاد كلامه وكتب له رقعة منها أما كان جزائي في قطع البحر وجوب القفر والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى غير الهجر الذي أهانني في عيون أكفائي وأشمت بي أعدائي وأضعف أمري ونهيي عند من يلوذ بي وبتر مطامع من كان يكرمني ويحفدني على الطمع والرجاء وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت بأيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا فإنا لله وإنا إليه راجعون
فلما وقف عبد الرحمن على رقعته اشتد غيظه عليه فوقع عليها وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك وسوء خطابك ودناءة أدبك ولئيم معتقدك والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا متاتا أتيت بما يهدم كل متات مشيد مما تمن به مما قد أضجر الأسماع تكراره وقدحت في النفوس إعادته مما استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك وزدنا في هجرك وإبعادك وهضنا جناح إدلالك فلعل ذلك يقمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما نريد إن شاء الله تعالى فنحن أولى بتأديبك من كل أحد إذ شرك مكتوب في مثالبنا وخيرك معدود في مناقبنا
فلما ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده وسلم للقضاء وعلم أنه لا ينفع فيه قول ووجه عبد الرحمن من استأصل ماله وألزمه داره وهتك حرمته وقص جناح جاهه وصيره أهون من قعيس على عمته ومع هذا فلم ينته بدر عن الإكثار من مخاطبة مولاه تارة يستلينه وتارة يذكره وتارة ينفث مصدورا بخط قلمه ما يلقيه عليه بلسانه غير مفكر فيما يؤول إليه إلى أن كتب له قد طال هجري وتضاعف همي وفكري وأشد ما علي كوني سليبا من مالي فعسى أن تأمر

لي بإطلاق مالي وأتحد به في معزل لا أشتغل بسلطان ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت فوقع له إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته ولا سبيل إلى رد مالك فإن تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة فايأس من ذلك فإن اليأس مريح
فسكت لما وقف على هذه الإجابة مدة إلى أن أتى عيد فاشتد به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس فكتب إليه في ذلك رقعة منها وقد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك ممن عفوت عنه فتبنك النعمة في ذراك واقتعد ذروة العز وأنا على ضد من هذا سليبا من النعمة مطرحا في حضيض الهوان أيأس مما يكون وأقرع السن على ما كان
فلما وقف على هذه الرقعة أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر وكتب له على ظهر رقعته لتعلم أنك لم تزل بمقتك حتى ثقلت على العين طلعتك ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر فبالله إلا ما أقصرت ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق بك معي الدنيا ورأيتك تشكو لفلان وتتألم من فلان وما تقولوه عليك وما لك عدو أكبر من لسانك فما طاح بك غيره فاقطعه قبل أن يقطعك ولما فتح الداخل سرقسطة وحصل في يده ثائرها الحسين الأنصاري وشدخت رؤوس وجوهها بالعمد وانتهى نصره فيها إلى غاية أمله أقبل خواصه يهنئونه فجرى بينهم أحد من لا يؤبه به من الجند فهنأه بصوت عال فقال والله لولا أن هذا اليوم يوم أسبغ علي فيه النعمة من هو فوقي فأوجب علي ذلك أن أنعم فيه على من هو دوني لأصلينك ما تعرضت له من

سوء النكال من تكون حتى تقبل مهنئا رافعا صوتك غير متلجلج ولا متهيب لمكان الإمارة ولا عارف بقيمتها حتى كأنك تخاطب أباك أو أخاك وإن جهلك ليحملك على العود لمثلها فلا تجد مثل هذا الشافع في مثلها من عقوبة فقال ولعل فتوحات الأمير يقترن اتصالها باتصال جهلي وذنوبي فتشفع لي متى أتيت بمثل هذه الزلة لا أعدمنيه الله تعالى فتهلل وجه الأمير وقال ليس هذا باعتذار جاهل ثم قال نبهونا على أنفسكم إذا لم تجدوا من ينبهنا عليها ورفع مرتبته وزاد في عطائه
ولما أنحى أصحابه على أصحاب الفهري بالقتل يوم هزيمتهم على قرطبة قال لا تستأصلوا شأفة أعداء ترجون صداقتهم واستبقوهم لأشد عداوة منهم يشير إلى استبقائهم ليستعان بهم على أعداء الدين
ولما اشتد الكرب بين يديه يوم حربه مع الفهري ورأى شدة مقاساة أصحابه قال هذا اليوم هو أس ما يبنى عليه إما ذل الدهر وإما عز الدهر فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون تربحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون ولما خرج من البحر أول قدومه على الأندلس أتوه بخمر فقال إني محتاج لما يزيد في عقلي لا لما ينقصه فعرفوا بذلك قدره ثم أهديت إليه جارية جميلة فنظر إليها وقال إن هذه من القلب والعين بمكان وإن أنا اشتغلت عنها بهمتي فيما أطلبه ظلمتها وإن اشتغلت بها عما أطلبه ظلمت همتي ولا حاجة لي بها الآن وردها على صاحبها
ولما استقامت له الدولة بلغه عن بعض من أعانه أنه قال لولا أنا ما توصل لهذا الملك ولكان منه أبعد من العيوق وأن آخر قال سعده أعانه لا عقله وتدبيره فحركه ذلك إلى أن قال
( لا يلف ممتن علينا قائل ... لولاي ما ملك الأنام الداخل )
( سعدي وحزمي والمهند والقنا ... ومقادر بلغت وحال حائل )

( إن الملوك مع الزمان كواكب ... نجم يطالعنا ونجم آفل )
( والحزم كل الحزم أن لا يغفلوا أيروم تدبير البرية غافل ويقول قوم سعده لا عقله خير السعادة ما حماها العاقل أبني أمية قد جبرنا صدعكم بالغرب رغما والسعود قبائل ما دام من نسلي إمام قائم فالملك فيكم ثابت متواصل )
وحكى ابن حيان أن جماعة من القادمين عليه من قبل الشام حدثوه يوما في بعض مجالسهم عنده ما كان من الغمر بن يزيد بن عبد الملك أيام محنتهم وكلامه لعبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس الساطي بهم وقد حضروا رواقه وفيه وجوه المسودة من دعاة القوم وشيعتهم رادا على عبد الله فيما أراقه من دماء بني أمية وثلبهم والبراءة منهم فلم تردعه هيبته وعصف ريحه واحتفال جمعه عن معارضته والرد عليه بتفضيله لأهل بيته والذب عنهم وأنه جاء في ذلك بكلام غاظ عبد الله وأغصه بريقه وعاجل الغمر بالحتف فمضى وخلف في الناس ما خلف من تلك المعارضة في ذلك المقام وكثر القوم في تعظيم ذلك فكأن الأمير عبد الرحمن احتقر ذلك الذي كان من الغمر في جنب ما كان منه في الذهاب بنفسه عن الإذعان لعدوهم والأنف من طاعتهم والسعي في اقتطاع قطعة من مملكة الإسلام عنه وقام عن مجلسه فصاغ هذه الأبيات بديهة
( من قام ذا امتعاض ... فشال ما قل واضمحلا )
( ومن غدا مصلتا لعزم ... مجردا للعداة نصلا )
( فجاب قفرا وشق بحرا ... ولم يكن في الأنام كلا )
( فشاد ملكا وشاد عزا ... ومنبرا للخطاب فصلا )

( وجند الجند حين أودى ... ومصر المصر حين أجلى )
( ثم دعا أهله جميعا ... حيث انتأوا أن هلم أهلا )
وله غير ذلك من الشعر وسيأتي بعضه مما يقارب هذه الطبقة وأول ناصر لعبد الرحمن سائر معه في الخمول والاستخفاء مولاه المتقدم الذكر سعى في سلطانه شرقا وغربا وبرا وبحرا فلما كمل له الأمر سلبه من كل نعمة وسجنه ثم أقصاه إلى أقصى الثغر حتى مات وحاله أسوأ حال والله تعالى أعلم بالسرائر فلعل له عذرا ويلومه من يسمع مبدأه ومآله
ورأس الجماعة الذين توجه إليهم بدر في القيام بسلطانه أبو عثمان ولما توطدت دولة الداخل استغنى عنه وعن أمثاله فأراد أبو عثمان أن يشغل خاطره وينظر في شيء يحتاج به إليه فجعل ابن أخته يثور عليه في حصن من حصون إلبيرة فوجه عبد الرحمن من قبض عليه وضرب عنقه ثم أخذ أبو عثمان مع ابن أخي الداخل وزين له القيام عليه فسعي لعبد الرحمن بابن أخيه قبل أن يتم أمره فضرب عنقه وأعناق الذين دبروا معه وقيل له إن أبا عثمان كان معه وهو الذي ضمن له تمام الأمر فقال هو أبو سلمة هذه الدولة فلا يتحدث الناس عنه بما تحدثوا عن بني العباس في شأن أبي سلمة لكن سأعتبه عتبا أشد من القتل وجعل يوعده ثم ورجع له إلى ما كان عليه في الظاهر
وكان صاحبه الثاني في المؤازرة والقيام بالدولة صهره عبد الله بن خالد وكان قد ضمن لأبي الصباح رئيس اليمانية عن الداخل أشياء لم يف بها الداخل وقتل أبا الصباح فانعزل عبد الله وأقسم لا يشتغل بشغل سلطان حياته فمات منفردا عن السلطان

وكان ثالثهما في النصرة والاختصاص تمام بن علقمة وهو الذي عبر البحر إليه وبشره باستحكام أمره فقتل هشام بن عبد الرحمن ولد تمام المذكور وكذلك فعل بولد أبي عثمان المتقدم الذكر قال ابن حيان فذاقا من ثكل ولديهما على يدي أعز الناس عليهما ما أراهما أن أحدا لا يقدر أن ينظر في تحسين عاقبته
وإذا تتبع الأمر في الذين يقومون في قيام دولة كان مآلهم مع من يظهرونه هذا المآل وأصعب وذكر أن أول حجاب الداخل تمام بن علقمة مولاه ذو العمر الطويل ثم يوسف بن بخت الفارسي مولى عبد الملك بن مروان وله بقرطبة عقب نابه ثم عبد الكريم بن مهران من ولد الحارث بن أبي شمر الغساني ثم عبد الرحمن بن مغيث بن الحارث بن حويرث بن جبلة بن الأيهم الغساني وأبوه مغيث فاتح قرطبة الذي تقدمت ترجمته ثم منصور الخصي وكان أول خصي استحجبه بنو مروان بالأندلس ولم يزل حاجبه إلى أن توفي الداخل
ولم يكن للداخل من ينطلق عليه سمة وزير لكنه عين أشياخا للمشاورة والمؤازرة أولهم أبو عثمان المتقدم الذكر وعبد الله بن خالد السابق الذكر وأبو عبدة صاحب إشبيلية وشهيد بن عيسى بن شهيد مولى معاوية بن مروان ابن الحكم وكان من سبي البرابر وقيل إنه رومي وبنو شهيد الفضلاء من نسله وعبد السلام بن بسيل الرومي مولى عبد الله بن معاوية ولولده نباهة عظيمة في الوزارة وغيرها وثعلبة بن عبيد بن النظام الجذامي صاحب سرقسطة لعبد الرحمن وعاصم بن مسلم الثقفي من كبار شيعته وأول من خاض النهر وهو عريان يوم الوقعة بقرطبة ولعقبه في الدولة نباهة

وأول من كتب له عند خلوص الأمر له واحتلاله بقرطبة كبير نقبائه أبو عثمان وصاحبه عبد الله بن خالد المتقدما الذكر ثم لزم كتابته أمية بن يزيد مولى معاوية بن مروان وكان في عديد من يشاوره أيضا ويفضل أمره وآراءه وكان يكتب قبله ليوسف الفهري وقيل إنه ممن اتهم في ممالأة اليزيدي في إفساد دولة عبد الرحمن فاتفق أن مات قبل قتل اليزيدي واطلاع عبد الرحمن على الأمر وذكر ابن زيدون أن الداخل ألفى على قضاء الجماعة بقرطبة يحيى ابن يزيد اليحصبي فأقره حينا ثم ولى بعده أبا عمرو معاوية بن صالح الحمصي ثم عمر ابن شراحيل ثم عبد الرحمن بن طريف وكان جدار بن عمرو يقضي في العساكر وكان الداخل يرتاح لما استقر سلطانه بالأندلس إلى أن يفد عليه فل بيته بني مروان حتى يشاهدوا ما أنعم الله تعالى عليه وتظهر يده عليهم فوفد عليه من بني هشام بن عبد الملك أخوه الوليد بن معاوية وابن عمه عبد السلام بن يزيد بن هشام قال ابن حيان وفي سنة 163 قتل الداخل عبد السلام ابن يزيد بن هشام المعروف باليزيدي وقتل معه من الوافدين عليه عبيد الله بن أبان بن معاوية بن هشام وهو ابن أخي الداخل وكانا تحت تدبير يبرمانه في طلب الأمر فوشى بهما مولى لعبيد الله بن أبان وكان قد ساعدهما على ما هما به من الخلاف أبو عثمان كبير الدولة فلم ينله ما نالهما
وذكر الحجاري أن الداخل كان يقول أعظم ما أنعم الله تعالى به علي بعد تمكني من هذا الأمر القدرة على إيواء من يصل إلي من أقاربي والتوسع في الإحسان إليهم وكبري في أعينهم وأسماعهم ونفوسهم بما منحني الله تعالى من هذا السلطان الذي لا منة علي فيه لأحد غيره
وذكر ابن حزم أنه كان فيمن وفد عليه ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية فسعى في طلب الأمر لنفسه فقتله سنة 167 وقتل معه من أصحابه هذيل بن الصميل بن حاتم ونفى أخاه الوليد بن معاوية والد المغيرة المذكور إلى العدوة

بماله وولده وأهله
وفي المسهب حدث بعض موالي عبد الرحمن الخاصين به أنه دخل على الداخل إثر قتله ابن أخيه المغيرة المذكور وهو مطرق شديد الغم فرفع رأسه إلي وقال ما عجبي إلا من هؤلاء القوم سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة وخاطرنا فيه بحياتنا حتى إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا ويسر الله تعالى أسبابه أقبلوا علينا بالسيوف ولما أويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به حتى أمنوا ودرت عليهم أخلاف النعم هزوا أعطافهم وشمخوا بآنافهم وسموا إلى العظمى فنازعونا فيما منحنا الله تعالى فخذلهم الله بكفرهم النعم إذ أطلعنا على عوراتهم فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البريء منهم وساء أيضا ظنه فينا وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه وإن أشد ما علي في ذلك أخي والد هذا المخذول كيف تطيب لي نفس بمجاورته بعد قتل ولده وقطع رحمه أم كيف يجتمع بصري مع بصره اخرج له الساعة فاعتذر إليه وهذه خمسة آلاف دينار ادفعها إليه واعزم عليه في الخروج عني من هذه الجزيرة إلى حيث شاء من بر العدوة
قال فلما وصلت إلى أخيه فوجدته أشبه بالأموات منه بالأحياء فآنسته وعرفته ودفعت له المال وأبلغته الكلام فتأوه وقال إن المشؤوم لا يكون بليغا في الشؤم حتى يكون على نفسه وعلى سواه وهذا الولد العاق الذي سعى في حتفه قد سرى ما سعى فيه إلى رجل طلب العافية وقنع بكسر بيت في كنف من يحمل عنه معرة الزمان وكله ولا حول ولا قوة إلا بالله لا مرد لما حكم به وقضاه ثم ذكر أنه أخذ في الحركة إلى بر العدوة
قال ورجعت إلى الأمير فأعلمته بقوله فقال إنه نطق بالحق ولكن لا يخدعني بهذا القول عما في نفسه والله لو قدر أن يشرب من دمي ما عف عنه لحظة فالحمد لله الذي أظهرنا

عليهم بما نويناه فيهم وأذلهم بما نووه فينا
واعلم أنه دخل الأندلس أيام الداخل من بني مروان وغيرهم من بني أمية جماعة كثيرون سرد أسماءهم غير واحد من المؤرخين وذكر أعقابهم بالأندلس ومنهم جزي بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز وسيأتي قريبا وقد ثار على عبد الرحمن الداخل من أعيان الغرب وغيرهم جماعة كثيرون ظفره الله تعالى بهم وقد سبق ذكر بعضهم ومنهم الدعي الفاطمي البربري بشنت مرية فأعيا الداخل أمره وطال شره سنين متوالية إلى أن فتك به بعض أصحابه فقتله
ومنهم حيوة بن ملابس الحضرمي رئيس إشبيلية وعبد الغفار بن حميد اليحصبي رئيس لبلة وعمرو بن طالوت رئيس باجة اجتمعوا وتوجهوا نحو قرطبة يطلبون دم رئيس اليمانية أبي الصباح فقتلوا في هزيمة عظيمة وقيل نجوا بالفرار فأمنهم الداخل
وفي سنة 157 ثار بسرقسطة الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عبادة الخزرجي وشايعه سليمان بن يقظان الأعرابي الكلبي رأس الفتن وآل أمرهما إلى أن فتك الحسين بسليمان وقتل الداخل الحسين كما
مر وفي سنة 163 ثار الرماحس بن عبد العزيز الكناني بالجزيرة الخضراء فتوجه له عبد الرحمن الداخل ففر في البحر إلى المشرق
قال ابن حيان كان مولد عبد الرحمن الداخل سنة 113 وقيل في التي قبلها بالعلياء من تدمر وقيل بدير حنا من دمشق وبها توفي أبوه معاوية في حياة أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك وكان قد رشحه للخلافة - وبقبر معاوية المذكور استجار الكميت الشاعر حين أهدر هشام دمه -
وتوفي الداخل لست بقين من ربيع الآخر سنة 171 وهو ابن سبع وخمسين سنة وأربعة

أشهر وقيل اثنتان وستون سنة ودفن بالقصر من قرطبة وصلى عليه ابنه عبد الله
وكان منصورا مؤيدا مظفرا على أعدائه وقد سردنا من ذلك جملة حتى قال بعضهم إن الراية التي عقدت له بالأندلس حين دخلها لم تهزم قط وإن الوهن ما ظهر في ملك بني أمية إلا بعد ذهاب تلك الراية قال أكثر هذا مؤرخ الأندلس الثبت الثقة أبو مروان ابن حيان رحمه الله تعالى
ولا بأس أن نورد زيادة على ما سلف وإن تكرر بعض ذلك فنقول قال بعض المؤرخين من أهل المغرب بعد كلام ابن حيان الذي قدمنا ذكره ما نصه كان الإمام عبد الرحمن الداخل راجح العقل راسخ الحلم واسع العلم كثير الحزم نافذ العزم لم ترفع له قط راية على عدو إلا هزمه ولا بلد إلا فتحه شجاعا مقداما شديد الحذر قليل الطمأنينة لا يخلد إلى راحة ولا يسكن إلى دعة ولا يكل الأمر إلى غيره كثير الكرم عظيم السياسة يلبس البياض ويعتم به ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويصلي بالناس في الجمع والأعياد ويخطب بنفسه جند الأجناد وعقد الرايات واتخذ الحجاب والكتاب وبلغت جنوده مائة ألف فارس
وملخص دخوله الأندلس أنه لما اشتد الطلب على فل بني أمية بالمشرق من وارثي ملكهم بني العباس خرج مستترا إلى مصر فاشتد الطلب على مثله فاحتال حتى وصل برقة ثم لم يزل متوغلا في سيره إلى أن بلغ المغرب الأقصى ونزل بنفزة وهم أخواله فأقام عندهم أياما ثم ارتحل إلى مغيلة بالساحل فأرسل مولاه بدرا بكتابه إلى مواليهم بالأندلس عبيد الله بن عثمان وعبد الله ابن خالد وتمام بن علقمة وغيرهم فأجابوه واشتروا مركبا وجهزوه بما يحتاج

إليه وكان الذي اشتراه عبيد الله بن عثمان وأركب فيه بدرا وأعطاه خمسمائة دينار برسم النفقة وركب معه تمام بن علقمة وبينما هو يتوضأ لصلاة المغرب على الساحل إذ نظر إلى المركب في لجة البحر مقبلا حتى أرسى أمامه فخرج إليه بدر سابحا فبشره بما تم له بالأندلس وبما اجتمع عليه الأمويون والموالي ثم خرج إليه تمام ومن معه في المركب فقال له ما اسمك وما كنيتك فقال اسمي تمام وكنيتي أبو غالب فقال تم أمرنا وغلبنا عدونا إن شاء الله تعالى ثم ركبوا المركب معه فنزل بالمنكب وذلك غرة ربيع الأول سنة 138
فلما اتصل خبر جوازه بالأموية أتاه عبيد الله بن عثمان وجماعة فتلقوه بالإعظام والإكرام وكان وقت العصر فصلى بهم العصر وركبوا معه إلى قرية طرش من كور إلبيرة فنزل بها وأتاه بها جماعة من وجوه الموالي وبعض العرب فبايعوه وكان من أمره ما يذكر وقيل إنه أقام بإلبيرة حتى كمل من معه ستمائة فارس من موالي بني أمية ووجوه العرب فخرج من إلبيرة إلى كورة رية فدخلت في جماعته ثم بايعته أهلها وأجنادها ثم ارتحل إلى شذونة ثم إلى مورور ثم سار إلى إشبيلية
وقال بعضهم لما أراد عبد الرحمن قصد قرطبة عند دخوله الأندلس من المشرق نزل بطشانة فأشاروا عليه أن يعقد له لواء فجاءوا بعمامة وقناة فكرهوا أن يميلوا القناة تطيرا فأقاموها بين شجرتين من الزيتون متجاورتين وصعد رجل على فرع إحداهما فعقد اللواء والقناة قائمة وتبرك هو وولده بهذا اللواء فكان بعد أن بلي لا تحل منه العقدة التي عقدت أولا بل تعقد فوقها الألوية الجدد وهي مستكنة تحتها ولم يزل الأمر على ذلك حتى انتهت الدولة إلى عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل وقيل إلى ابنه محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل فاجتمع الوزراء على تجديد اللواء فلما رأوا تحت اللواء أسمالا خلقة ملفوفة

معقدة جهلوها فاسترذلوها وأمروا بحلها ونبذها وجددوا غيرها وكان جهور بن يوسف بن بخت شيخهم غائبا فحضر في اليوم الثاني وطولع بالقصة فأنكرها أشد إنكار وساءه ما فعلوه وقال إن جهلتم شأن تلك الأخلاق فكان ينبغي أن تتوقفوا عن نبذها حتى تسألوا المشايخ وتتفكروا في أمرها وخبرهم خبرها فتطلبوا تلك الأخلاق فلم توجد ويقال كما قال ابن حيان إنه لم يزل يعرف الوهن في ملك بني أمية بالأندلس من ذلك اليوم وقد كان الذي عقده أولا عبد الله بن خالد من موالي بني أمية وكان والده خالد عقد لواء مروان بن الحكم جد عبد الرحمن الأعلى لما اجتمع عليه بنو أمية وبنو كلب بعد انقراض دولة بني حرب على قتال الضحاك بن قيس الفهري يوم مرج راهط فانتصر على الضحاك وقتله ولما عرف الأمير بقصة اللواء حزن أشد حزن وانفتقت عليه إثر ذلك الفتوق العظام وكانوا يرون أنها جرت بسبب اللواء لأنه لم ينهزم قط جيش كان تحته على ما اقتضته حكمة الله التي لا تتوصل إليها الأفكار وتولى حمل هذا اللواء لعبد الرحمن الداخل أبو سليمان داود الأنصاري ولم يزل يحمله ولده من بعده إلى أيام محمد بن عبد الرحمن
ولما تلاقى عبد الرحمن الداخل مع أمير الأندلس يوسف الفهري بالقرب من قرطبة وتراسلا فخادعه يومين آخرهما يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائة أظهر عبد الرحمن قبول الصلح فبات الناس على ذلك ليلة العيد وكان قد أسر خلاف ما أظهر واستعد للحرب ولما أصبح يوم الأضحى لم ينشب أن غشيت الخيل ووكل عبد الرحمن بخالد بن زيد الكاتب رسول يوسف جماعة وأمرهم إن كانت الدائرة عليهم أن يضربوا عنقه وإلا فلا فكان خالد يقول ما كان شيء في ذلك الوقت أحب إلي من غلبة عبد الرحمن الداخل عدو صاحبي وركب عبد الرحمن جوادا فقالت اليمانية الذين أعانوه هذا فتى حديث السن تحته جواد وما نأمن أول ردعة يردعها أن يطير منهزما

على جواده ويدعنا فأتى عبد الرحمن أحد مواليه فأخبره بمقالتهم فدعا أبا الصباح وكان له بغل أشهب يسميه الكوكب فقال له إن فرسي هذا قلق تحتي لا يمكنني من الرمي فقدم إلي بغلك المحمود أركبه فقدمه فلما ركب اطمأن أصحابه وقال عبد الرحمن لأصحابه أي يوم هذا قالوا الخميس يوم عرفة فقال فالأضحى غدا يوم الجمعة والمتزاحفان أموي وفهري والجندان قيس ويمن قد تقابل الأشكال جدا وأرجو أنه أخو يوم مرج راهط فأبشروا وجدوا فذكرهم يوم مرج راهط الذي كانت فيه الوقعة بين جده مروان بن الحكم وبين الضحاك بن قيس الفهري وكانت يوم جمعة ويوم أضحى فدارت الدائرة لمروان على الضحاك فقتل الضحاك وقتل معه سبعون ألفا من قبائل قيس وأحلافهم وقيل إنه لم يحضر مرج راهط من قيس مع مروان غير ثلاثة نفر عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري وابن هبيرة المحاربي وصالح الغنوي وكذا لم يحضر مع عبد الرحمن الداخل يوم المصارة غربي قرطبة من قيس غير ثلاثة جابر بن العلاء بن شهاب والحصين بن الدجن العقيليان وهلال بن الطفيل العبدي وكان الظفر لعبد الرحمن وانهزم يوسف وصبر الصميل بن حاتم بعده معذرا وعشيرته يحفونه فلما خاف انهزامهم عنه تحول على بغله الأشهب معارضة لعبد الرحمن الداخل فمر به أبو عطاء فقال له يا أبا جوشن احتسب نفسك فإن للأشباه أشباها أموي بأموي وفهري بفهري وكلبي بكلبي ويوم أضحى بيوم أضحى ويمني بقيسي والله إني لأحسب هذا اليوم بمثل مرج راهط سواء فقال له الصميل كبرت وكبر علمك الآن تنجلي الغماء وسحرك منتفخ فانثنى أبو عطاء لوجهه منقلبا وانهزم الصميل وملك عبد الرحمن قرطبة

ويوسف الفهري هو ابن عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري باني القيروان وأمير معاوية على إفريقية والمغرب وهو مشهور
وأما الصميل فهو ابن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن وقيل الصميل بن حاتم بن عمرو بن جندع بن شمر بن ذي الجوشن كان جده شمر من أشراف الكوفة وهو أحد قتلة الحسين رضي الله تعالى عنه ودخل الصميل الأندلس حين دخل كلثوم بن عياض المغرب غازيا وساد بها وكان شاعرا كثير السكر أميا لا يكتب ومع ذلك فانتهت إليه في زمانه رياسة العرب بالأندلس وكان أميرها يوسف الفهري كالمغلوب معه وكانت ولاية الفهري الأندلس سنة تسع وعشرين ومائة فدانت له تسع سنين وتسعة أشهر وعنه كما مر انتقل سلطانها إلى بني أمية واستفحل ملكهم بها إلى بعد الأربعمائة ثم انتثر سلكهم وباد ملكهم كما وقع لغيرهم من الدول في القرون السالفة سنة الله التي قد خلت في عباده
وكانت مدة الأمراء قبل عبد الرحمن الداخل من يوم فتحت الأندلس إلى هزيمة يوسف الفهري والصميل ستا وأربعين سنة وشهرين وخمسة أيام لأن الفتح كان حسبما تقدم لخمس خلون من شوال سنة اثنتين وتسعين وهزيمة يوسف يوم الأضحى لعشر خلون من ذي الحجة سنة ثمان وثلاثين ومائة والله غالب على أمره
وحكي أن عبد الرحمن بن معاوية دخل يوما على جده هشام وعنده أخوه مسلمة بن عبد الملك وكان عبد الرحمن إذ ذاك صبيا فأمر هشام أن ينحى عنه فقال له مسلمة دعه يا أمير المؤمنين وضمه إليه ثم قال يا أمير المؤمنين هذا صاحب بني أمية ووزرهم عند زوال ملكهم فاستوص به خيرا قال فلم أزل أعرف مزية من جدي من ذلك الوقت
وكان الداخل يقاس بأبي جعفر المنصور في عزمه وشدته وضبط المملكة ووافقه في أن أم كل منهما بربرية وأن كلا منهما قتل ابن أخيه إذ قتل

المنصور ابن السفاح وقتل عبد الرحمن ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية ومن شعر عبد الرحمن وقد رأى نخلة برصافته
( تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل )
( فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول اكتئابي عن بني وعن أهلي )
( نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي )
( سقتك غوادي المزن في المنتأى الذي ... يسح ويستمري السماكين بالوبل )
وكان نقش خاتمه بالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم
وأشاع سنة 163 الرحيل إلى الشام لانتزاعها من بني العباس وكاتب جماعة من أهل بيته ومواليه وشيعته وعمل على أن يستخلف ابنه سليمان بالأندلس في طائفة ويذهب بعامة من أطاعه ثم أعرض عن ذلك بسبب أمر الحسين الأنصاري الذي انتزى عليه بسرقسطة فبطل ذلك العزم
ومن شعر عبد الرحمن أيضا قوله يتشوق إلى معاهد الشام
( أيها الراكب الميمم أرضي ... اقر مني بعض السلام لبعضي )
( إن جسمي كما علمت بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض )
( قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضي )
( قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضي )
وترجمة الداخل طويلة وقد ذكر منها ما فيه مقنع انتهى والله تعالى الموفق للصواب

وفي بنائه جامع قرطبة يقول بعضهم
( وأبرز في ذات الإله ووجهه ... ثمانين ألفا من لجين وعسجد )
( وأنفقها في مسجد زانه التقى ... وقر به دين النبي محمد )
( ترى الذهب الوهاج بين سموكه ... يلوح كلمح البارق المتوقد )
33 - ومن الوافدين على الأندلس أبو الأشعث الكلبي دخل الأندلس وكان شيخا مسنا يروي عن أمه عن عائشة رضي الله تعالى عنها إلا أنه كان مندرا صاحب دعابة وكان مختصا بعبد الرحمن بن معاوية وله منه مكانة لطيفة يدل بها عليه ولما توفي حبيب بن عبد الملك بن عمر بن الوليد ابن عبد الملك بن مروان وكانت له من عبد الرحمن خاصة لم تكن لأحد من أهل بيته جعل عبد الرحمن يبكي ويجتهد في الدعاء والاستغفار لحبيب وكان إلى جنبه أبو الأشعث هذا قائما وكانت له دالة عليه ودعابة يحتملها منه فأقبل عند استعباره كالمخاطب للمتوفى علانية يقول يا أبا سلميان لقد نزلت بحفرة قلما يغني عنك فيها بكاء الخليفة عبد الرحمن بعره فأعرض عنه عبد الرحمن وقد كاد التبسم يغلبه هكذا ذكره ابن حيان رحمه الله تعالى في المقتبس ونقله عنه الحافظ ابن الأبار
34 - ومن الداخلين إلى الأندلس جزي بن عبد العزيز أخو عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه ! دخل الأندلس ومات في مدة الداخل وكان من أولياء الله تعالى مقتفيا سبيل أخيه عمر بن عبد العزيز رحمهما الله تعالى
35 - ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي ويكنى أبا ثمامة وجده صحابي وكان بكر هذا فقيها كبيرا من التابعين روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبان بن سمح الصدائي وقيد اسمه الدارقطني رحمه الله تعالى حبان بكسر الحاء المهملة وبباء معجمة بواحدة ونقله الأمير كذلك وهو ممن وفد على رسول الله وشهد فتح مصر قال ابن يونس ويقال فيه حبان بالكسر وحبان بالفتح أصح انتهى وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت
رجع - وممن روى عنه بكر من الصحابة أبو ثور الفهمي وأبو عميرة المزني وروى عن جماعة من التابعين أيضا كسعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم منهم ربيعة بن قيس الجملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانئ الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتباني وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ممن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس
وممن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر ابن ربيعة وأبو زرعة بن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم
قال ابن يونس توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبد الملك وقيل بل

35 - ومنهم بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي ويكنى أبا ثمامة وجده صحابي وكان بكر هذا فقيها كبيرا من التابعين روى عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن عمرو بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وسهل بن سعد الساعدي وسفيان بن وهب الخولاني وحبان بن سمح الصدائي وقيد اسمه الدارقطني رحمه الله تعالى حبان بكسر الحاء المهملة وبباء معجمة بواحدة ونقله الأمير كذلك وهو ممن وفد على رسول الله وشهد فتح مصر قال ابن يونس ويقال فيه حبان بالكسر وحبان بالفتح أصح انتهى وضبطه بعضهم بالياء المثناة تحت
رجع - وممن روى عنه بكر من الصحابة أبو ثور الفهمي وأبو عميرة المزني وروى عن جماعة من التابعين أيضا كسعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير وجماعة سواهم يكثر عددهم ويطول سردهم منهم ربيعة بن قيس الجملي وأبو عبد الرحمن الحبلي وزياد بن نعيم الحضرمي وسفيان بن هانئ الجيشاني وسعيد بن شمر السبائي وعبد الله بن المستورد بن شداد الفهري وعبد الرحمن بن أوس المزني وزيادة بن ثعلبة البلوي وشيبان بن أمية القتباني وعامر بن ذريح الحميري وعمير بن الفيض اللخمي وأبو حمزة الخولاني وعياض بن فروخ المعافري ومسلم بن مخشي المدبجي وهانئ بن معاوية الصدفي وغيرهم ممن اشتمل على ذكرهم التاريخان لابن عبد الحكم وابن يونس
وممن روى عن بكر المذكور عبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحارث وجعفر ابن ربيعة وأبو زرعة بن عبد الحكم الإفريقي وغيرهم
قال ابن يونس توفي بإفريقية في خلافة هشام بن عبد الملك وقيل بل

غرق في مجاز الأندلس سنة ثمان وعشرين ومائة قال وجده ثمامة من أصحاب رسول الله وله بمصر حديث رواه عمرو بن الحارث
وقال أبو بكر عبد الله بن محمد القيرواني المالكي في تاريخه المسمى ب رياض النفوس وقد ذكر بكرا هذا إنه كان أحد العشرة التابعين يعني الموجهين إلى إفريقية من قبل عمر بن عبد العزيز في خلافته ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم قال وأغرب بحديث عن عقبة بن عامر لم يروه غيره فيما علمت حدث عبد الله بن لهيعة عنه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله " إذا كان رأس مائتين فلا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر وعليك بخاصة نفسك " وحكى المالكي أيضا عن أبي سعيد بن يونس قال كان فقيها مفتيا سكن القيروان وكانت وفاته كما تقدم وذكره الحميدي في الداخلين إلى الأندلس ولم يذكره ابن الفرضي
36 - ومنهم رزيق بن حكيم أحد المعدودين في الداخلين إلى الأندلس ذكره أبو الحسن بن النعمة عن أبي المطرف عبد الرحمن بن يوسف الرفاء القرطبي وحكى أنه كتب ذلك من خطه وسماه مع جماعة منهم حبان بن أبي جبلة وعلي بن أبي رباح وأبو عبد الرحمن الحبلي وحنش بن عبد الله الصنعاني ومعاوية ابن صالح وزيد بن الحباب العكلي وانتهى عددهم برزيق هذا سبعة ولم يذكره ابن الفرضي ولا غيره قاله الحافظ أبو عبد الله القضاعي
37 - ومنهم زيد بن قاصد السكسكي قال ابن الأبار وهو تابعي دخل الأندلس وحضر فتحها وأصله من مصر يروي عن عبد الله بن عمرو

ابن العاص رضي الله تعالى عنه ! وروى عنهس عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ذكره يعقوب بن سفيان وأورد له حديثا من كتاب الحميدي انتهى ش
38 - ومنهم زرعة بن روح الشامي دخل الأندلس وحدث عنه ابنه مسلمة بن زرعة بحكاية عن القاضي مهاجر بن نوفل
39 - ومنهم محمد بن أوس بن ثابت الأنصاري قال ابن الأبار تابعي دخل الأندلس يروي عن أبي هريرة قرأته بخط ابن حبيش وقال أبو سعيد بن يونس مؤرخ مصر إنه يروي عنه الحارث بن يزيد ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان وكان غزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير ويروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال الحميدي إنه كان من أهل الدين والفضل معروفا بالفقه ولي بحر إفريقية سنة ثلاث وتسعين وغزا المغرب والأندلس مع موسى بن نصير فيما حكاه ابن يونس صاحب تاريخ مصر وكان على بحر تونس سنة ثنتين ومائة على ما حكاه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم
ولما قتل يزيد بن أبي مسلم والي إفريقية اجتمع رأي أهلها عليه فولوه أمرهم وذلك في خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان إلى أن ولي بشر بن صفوان الكلبي إفريقية وكان على مصر فخرج إليها واستخلف أخاه حنظله انتهى
40 - ومنهم عبد الملك بن عمر بن مروان بن الحكم الأموي فر من الشام خوفا من المسودة فمر بمصر ومضى إلى الأندلس وقد غلب عليها الأمير عبد الرحمن بن معاوية الداخل فأكرمه ونوه به وولاه إشبيلية لأنه

كان قعدد بني أمية ثم إنه لما وجد الداخل يدعو لأبي جعفر المنصور أشار عليه بقطع اسمه من الخطبة وذكره بسوء صنيع بني العباس ببني أمية فتوقف عبد الرحمن في ذلك فما زال به عبد الملك حتى قطع الدعاء له وذلك أنه قال له حين امتنع من ذلك إن لم تقطع الخطبة لهم قتلت نفسي فقطع حينئذ عبد الرحمن الخطبة بالمنصور بعد أن خطب باسمه عشرة أشهر ولما زحف أهل غرب الأندلس نحو قرطبة لحرب الأمير عبد الرحمن أنهض إليهم عبد الملك هذا فنهض في معظم الجيش وقدم ابنه أمية أمامه في أكثر العساكر فخالطهم أمية فوجد فيهم قوة فخاف الفضيحة معهم فانحاز منهزما إلى أبيه فلما جاءه سقط في يده وقال له ما حملك على أن استخففت بي وجرأت الناس علي والعدو إن كنت قد فررت من الموت فقد جئت إليه فأمر بضرب عنقه وجمع أهل بيته وخاصته وقال لهم طردنا من الشرق إلى أقصى هذا الصقع ونحسد على لقمة تبقي الرمق اكسروا جفون السيوف فالموت أولى أو الظفر ففعلوا وحملوا وتقدمهم فهزم اليمانية وأهل إشبيلية ولم تقم بعدها لليمانية قائمة وقتل بين الفريقين ثلاثون ألفا وجرح عبد الملك فأتاه عبد الرحمن وجرحه يجري دما وسيفه يقطر دما وقد لصقت يده بقائم سيفه فقبل بين عينيه وجزاه خيرا وقال له يا ابن عم قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاما ابنتك فلانة وأعطيتها كذا وكذا وأعطيتك كذا ولأولادك كذا وأقطعتك وإياهم كذا ووليتكم الوزارة
ومن شعره لما نظر نخلة منفردة بإشبيلية فتذكر وطنه بالشام وقال
( يا نخل أنت فريدة مثلي ... في الأرض نائية عن الأهل )
( تبكي وهل تبكي مكممة ... عجماء لم تجبل على جبل )
( ولو أنها عقلت إذا لبكت ... ماء الفرات ومنبت النخل )
( لكنها حرمت وأخرجني ... بغضي بني العباس عن أهلي )
41 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين
ونزل حين دخوله بلبلة وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب 42 - ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة الكناني حليف بني عبد الدار سماه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين حكى ذلك عنه أبو القاسم بن بشكوال في مجموعه المسمى ب التنبيه والتعيين قال ابن الأبار وما أراه يتابع عليه وذكره أبو سعيد ابن يونس من أهل إفريقية انتهى وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني
43 - ومنهم عبد الله المعمر الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين
قال ابن الأبار روى عنه أبو محمد أسد الجهني ذكر ذلك القيشي وفيه عندي نظر انتهى
44 - ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب المهري روى عن أبي ذر وقيل عن أبي نضرة عن أبي ذر وعائشة وعمرو بن العاص

( يا نخل أنت فريدة مثلي ... في الأرض نائية عن الأهل )
( تبكي وهل تبكي مكممة ... عجماء لم تجبل على جبل )
( ولو أنها عقلت إذا لبكت ... ماء الفرات ومنبت النخل )
( لكنها حرمت وأخرجني ... بغضي بني العباس عن أهلي )
41 - ومن الداخلين من المشرق إلى الأندلس هاشم بن الحسين بن إبراهيم ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين
ونزل حين دخوله بلبلة وتعرف منازلهم فيها بمنازل الهاشمي وذكره أمير المؤمنين الحكم المستنصر في كتابه أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب 42 - ومن الداخلين إلى الأندلس عبد الله بن المغيرة الكناني حليف بني عبد الدار سماه أبو محمد الأصيلي الفقيه في الداخلين الأندلس من التابعين حكى ذلك عنه أبو القاسم بن بشكوال في مجموعه المسمى ب التنبيه والتعيين قال ابن الأبار وما أراه يتابع عليه وذكره أبو سعيد ابن يونس من أهل إفريقية انتهى وذكر أنه يروي عن سفيان بن وهب الخولاني
43 - ومنهم عبد الله المعمر الذي طرأ على الأندلس في آخر الزمان وكان يزعم أنه لقي بعض التابعين
قال ابن الأبار روى عنه أبو محمد أسد الجهني ذكر ذلك القيشي وفيه عندي نظر انتهى
44 - ومنهم أبو عمرو عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب المهري روى عن أبي ذر وقيل عن أبي نضرة عن أبي ذر وعائشة وعمرو بن العاص

وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وأبي نضرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني وعوف ابن مالك الأشجعي ومعاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد وأبي رهم ذكره ابن يونس في تاريخ مصر وسماه ابن بشكوال في الداخلين الأندلس من التابعين وروي ذلك عن الحميدي قاله ابن الأبار وقال ابن يونس وآخر من حدث عنه بمصر حرملة بن عمران
45 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق عبد الله بن سعيد بن عمار ابن ياسر رضي الله تعالى عنه ! وقد ذكره ابن حيان في مقتبسه وأخبر أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كتب له أن يدافع عبد الرحمن المرواني الداخل للأندلس وكان المذكور إذ ذاك أميرا على اليمانية من جند دمشق وإنما ركن إليه في محاربة عبد الرحمن لما بين بني عمار وبني أمية من الثأر بسبب قتل عمار بصفين وكان عمار رضي الله تعالى عنه من شيعة علي كرم الله وجهه
وهذا عبد الله بن سعيد هو جد بني سعيد أصحاب القلعة الذين منهم عدة رؤساء وأمراء وكتاب وشعراء ومنهم صاحب المغرب وغير واحد ممن عرفنا به في هذا الكتاب ومن مشاهيرهم أبو بكر محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد صاحب أعمال غرناطة في مدة الملثمين قال وهو القائل يفتخر
( إن لم أكن للعلاء أهلا ... بما تراه فمن يكون )
( فكل ما أبتغيه دوني ... ولي على همتي ديون )
( ومن يرم ما يقل عنه ... فذاك من فعله جنون )

( فرع بأفق السماء سام ... وأصله راسخ مكين )
وقوله
( الله يعلم أني ... أحب كسب المعالي )
( وإنما أتوانى ... عنها لسوء المآل )
( تحتاج للكد والبذل ... واصطناع الرجال )
( دع كل من شاء يسمو ... لها بكل احتيال )
( فحالهم في انعكاس ... بها وحالي حالي )
وتراجمهم واسعة وقد بسطت في المسهب و المغرب وغيرهما وقد قدمنا في الباب قبل هذا من أخبار بني سعيد هؤلاء ما يثلج الصدر فليراجع
46 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو زكريا عبد الرحيم بن أحمد بن نصر بن إسحاق بن عمرو بن مزاحم بن غياث التميمي البخاري الحافظ نزيل مصر
سمع ببخارى بلده من إبراهيم بن محمد بن يزداد وأخيه أحمد وكانا يرويان معا عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وعن أبي الفضل السليماني ببيكند وأبي عبد الله محمد بن أحمد المعروف بغنجار وأبي يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي وأقرانه باليمن وأبي القاسم تمام بن محمد الرازي بدمشق وابن أبي كامل بأطرابلس الشام وأبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ بمصر وله رواية عن أبي نصر الكلاباذي وأبي عبد الله الحاكم وأبي بكر بن فورك المتكلم وأبي العباس ابن الحاج الإشبيلي وأبي القاسم علي بن أحمد الخزاعي صاحب الهيثم ابن كليب وأبي الفضل العباس بن محمد الحداد التنيسي وأبي الفتح محمد بن إبراهيم الجحدري وأبي بكر محمد

ابن داود العسقلاني وهلال الحفار وصدقة بن محمد بن مروان الدمشقي ولقي بإفريقية العابد ولي الله سيدي محرز بن خلف التميمي مولاهم وصحبه وقال لقد هبته يوم لقيته هيبة لم أجدها لأحد في نفسي من الناس ودخل الأندلس وبلاد المغرب وكتب بها عن شيوخها ولم يزل يكتب إلى أن مات حتى كتب عمن دونه وله رسالة الرحلة وأسبابها وقول لا إله إلا الله وثوابها فسمع منه أبو عبد الله الرازي وذكره في مشيخته قال الحافظ ابن الأبار ومنها نقلت اسمه وتعرفت دخوله الأندلس وحدث عنه هو وجماعة منهم أبو مروان الطبني وقال هو من الرحالين في الآفاق أخبرني أنه يحدث عن مئين من أهل الحديث وأبو عبد الله الحميدي وأبو بكر جماهر بن عبد الرحمن الطليطلي وأبو عبد الله بن منصور الحضرمي وأبو سعيد الرهاوي وأبو محمد جعفر بن محمد السراج وأبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي وأبو الحسن ابن مشرف الأنماطي وأبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي وأبو محمد شعيب بن سبعون الطرطوشي وأبو بكر ابن نعمة العابد وأبو الحسن علي بن الحسين الموصلي الغراف وأبو عثمان سعد بن عبد الله الحيدري من شيوخ السلفي وأبو محمد عبد الكريم بن حمزة بن الخضر السلمي وأبو إسحاق الكلاعي من شيوخ أبي بحر الأسدي وأبو محمد ابن عتاب كتب إليه بجميع ما رواه ولم يعرف ذلك في حياته
وسماه أبو الوليد بن الدباغ في الطبقة العاشرة من طبقات أئمة المحدثين من تأليفه مع أبي عمر ابن عبد البر وأبي محمد ابن حزم وأبي بكر بن ثابت الخطيب وذكره أبو القاسم ابن عساكر في تاريخه وقال سمع بما وراء النهر والعراق ومصر واليمن والقيروان ثم سكن مصر وقدم دمشق قديما وحدث بها وسمى جماعة كثيرة من الرواة عنه وحكى أنه قال لي ببخارى أربعة عشر ألف جزء حديث أريد أن أمضي وأجيء بها

قال وسئل عن مولده فقال في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة قال وتوفي بالحوراء سنة إحدى وسبعين وأربعمائة رحمه الله تعالى ورضي عنه ! انتهى
قلت والذي أعتقده أنه لم يدخل الأندلس من أهل المشرق أحفظ منه للحديث وهو ثقة عدل ليس له مجازفة والحق أبلج
47 - وممن دخل الأندلس من المشرق عبد الجبار بن أبي سلمة الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري دخل الأندلس مع موسى بن نصير وكان على ميسرة معسكره ونزل باجة ثم بطليوس ومن نسله الزهريون الأشراف الذين كانوا بإشبيلية انتقلوا إلى سكناها قديما هكذا في خبر القاضي أبي الحسين الزهري منهم عن أبي بكر بن خير وغيره قال ابن بشكوال في مجموعه المسمى ب التنبيه والتعيين لمن دخل الأندلس من التابعين عبد الجبار بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف من التابعين وقع ذكره في كتاب شيخنا أبي الحسن بن مغيث انتهى
قال ابن الأبار ولم يزد على هذا انتهى أبو
48 - ومن الداخلين إلى الأندلس من المشرق أبو محمد عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الوهاب من أهل مصر وسكن بغداد ويعرف بالطندتائي قرية بمصر نسب إليها روى عن أبي محمد الشارمساحي وتفقه به وقدم الأندلس رسولا بزعمه من عند الخليفة العباسي فسكن مرسية ودرس بها وخرج منها سنة اثنتين وأربعين وستمائة بعد أن تملكها النصارى صلحا وأسر بناحية صقلية قال ابن الأبار ثم بلغني أنه تخلص ولحق ببلده رحمه الله تعالى
49 - ومنهم عبد الخالق بن إبراهيم الخطيب يكنى أبا القاسم قال

ابن الأبار لا أعرف موضعه من بلاد المشرق وكان أديبا قوي العارضة مطبوع الشعر مديد النفس ومن شعره من قصيدة صنعها في وقت رحلته إلى الأندلس قوله
( على الذل أو فاحلل عقال الركائب ... وللضيم أو فاحلل صدور الكتائب )
( فإما حياة بعد إدراك منية ... وإما ممات تحت عز القواضب )
( فما العيش في ظل الهوان بطيب ... وما الموت في سبل العلاء بعائب ) 50 - ومنهم أبو محمد عبد اللطيف بن أبي الطاهر أحمد بن محمد بن هبة الله الهاشمي الصدفي من أهل بغداد يعرف بالنرسي دخل الأندلس وكان يزعم أنه روى عن أبي الوقت السجزي وأبي الفرج الجوزي وغيرهما وله تأليف سماه الدليل في الطريق من أقاويل أهل التحقيق ذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الطراز وضعفه بعد ما سمع منه أخذ عنه وسمع منه هو وأبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم المغيلي وغيرهما وقال ورد علينا غرناطة قريبا من سنة ثلاث عشرة وستمائة وتوفي - عفا الله تعالى عنه بإشبيلية قريبا من هذا التاريخ وقال فيه أبو القاسم ابن فرقد عبد اللطيف بن عبد الله الهاشمي البغدادي النرسي منسوب إلى قرية من قرى بغداد سمع صحيح البخاري من أبي الوقت السجزي وروى عن غيره وله تآليف قال ابن الأبار في التصوف منها تأليف في إباحة السماع قرأت عليه أكثره وقرأت عليه عوالي النقيب بمدينة إشبيلية بحومة القصر المبارك عام خمسة عشر وستمائة
51 - ومنهم أبو بكر عمر بن عثمان بن محمد بن أحمد الخراساني

الباخرزي الماليني يكني أبا بكر سمع من أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني القزويني وأبي يعقوب يوسف بن عمر بن أحمد الخالدي الزنجاني وقدم الأندلس وحدث بصحيفتي الأشج وجعفر بن نسطور الرومي وسمع منه بغرناطة ومرسية وغيرهما من بلاد الأندلس وحدث عنه أبو القاسم الملاحي وسمع منه بمالقة أبو جعفر ابن عبد الجبار وأبو علي ابن هاشم في صفر سنة 600 ومولده في ربيع الأول سنة 560 انتهى من تكملة ابن الأبار قلت ولا يخفى على من له بصر بعلم الحديث أن الأشج وابن نسطور لا يلتفت إليهما ويرحم الله تعالى السلفي الحافظ إذ قال
( حديث ابن نسطور وقيس ويعنم ... وبعد أشج الغرب ثم خراش )
( ونسخة دينار ونسخة تربه ... أبي هدبة القيسي شبه فراش )
قال ابن عات كان الحافظ السلفي إذا فرغ من إنشاد هذين البيتين ينفخ في يديه إشارة إلى أن هذه الأشياء كالريح انتهى
52 - ومن الوافدين على الأندلس من أهل المشرق علي بن بندار بن إسماعيل بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي من أهل بغداد قدم الأندلس تاجرا سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة وكان قد أخذ عن أبي الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه الداودي وتلمذ له وسمع منه الموضح والمنجح من تآليفه في الفقه وما تم له من أحكام القرآن هكذا نقله الحافظ ابن حزم عن أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله المعتني بهذا الشأن رحمه الله تعالى
53 - ومنهم أبو العلاء عبيد بن محمد بن عبيد أبو العلاء النيسابوري

لقيه الحافظ أبو علي الصدفي ببغداد وأخذ عنه إذ قدمها حاجا وهو يحدث عن أبي سعيد عبد الرحمن بن أحمد البصروي قال أبو علي وأراه دخل الأندلس ويغلب على ظني أني لقيته بسرقسطة ذكر ذلك القاضي عياض في المعجم من تأليفه والله تعالى أعلم
54 - ومنهم سهل بن علي بن عثمان التاجر النيسابوري يكني أبا نصر سمع جماعة من الخراسانيين وغيرهم منهم أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي وأبو الفتح السمرقندي وأدرك الإمام أبا المعالي الجويني وحضر مدلسه ودرسه ولقي بعده أصحابه القشيري والطوسي وغيرهما وكان شافعي المذهب ذكره عياض وقال حدثني بحكايات وفوائد وأنشدني لأبي طاهر السلفي وأجازني جميع رواياته وحدثني أن وفاة أبي المعالي كانت بنيسابور سنة خمس أو أربع وسبعين وأربعمائة وقال أبو محمد العثماني أنشدنا أبو نصر سهل بن علي النيسابوري الحقواني قال أنشدنا أبو الفتح نصر ابن الحسن أنشدنا أبو العباس العذري قال أنشدنا أبو محمد بن حزم الحافظ لنفسه
( ولما رأيت الشيب حل مفارقي ... نذيرا بترحال الشباب المفارق )
( رجعت إلى نفسي فقلت لها انظري ... إلى ما أتى هذا ابتداء الحقائق )
( دعي دعوات اللهو قد فات وقتها ... كما قد أفات الليل نور المشارق )
( دعي منزل اللذات ينزل أهله ... وجدي لما ندعي إليه وسابقي )
قال عياض توفي سهل هذا غريقا في البحر منصرفا إلى بلده من المرية رحمه الله تعالى

55 - ومنهم أبو المكارم هبة الله بن الحسين المصري كان من أهل العلم عارفا بالأصول حافظا للحديث متيقظا حسن الصورة والشارة دخل الأندلس وولي قضاء إشبيلية منها آخر شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة قال ابن الأبار وبه صرف أبو القاسم الخولاني وأقام بها سنة وحضر غزوة شنترين وكان قدوم أبي المكارم هذا الأندلس خوفا من صلاح الدين يوسف بن أيوب في قوم من شيعة العبيدي ملك مصر ووفد أيضا معه أبو الوفاء المصري ثم استصحبه أمير المؤمنين يعقوب المنصور معه في غزوة قفصة الثانية وولاه حينئذ قضاء تونس وكان قد ولي قضاء فاس وولي أيضا أبو الوفاء صاحبه القضاء وتوفي وهو يتولى قضاء تونس سنة ست وثمانين وخمسمائة رحمه الله تعالى
56 - ومنهم يحيى بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن عبد الله القيسي الدمشقي أصله من دمشق وبها ولد ويعرف بالأصبهاني في مجلس أبي طاهر السلفي لدخوله إياها وإقامته بها أزيد من خمسة أعوام لقراءة الخلافيات ويكنى أبا زكريا وسمع بالمشرق أبا بكر بن ماشاذة السكري وأبا الرشيد بن خالد البيع وأبا الطاهر السلفي وغيرهم وقصد المغرب بعد أداء الفريضة فلقي ببجاية أبا محمد عبد الحق الإشبيلي وأجازه وحضه على الوعظ والتذكير فامتثل ذلك ودخل الأندلس وتجول ببلادها واستوطن غرناطة منها وكان فقيها على مذهب الشافعي عارفا بالأصول والتصوف زاهدا ورعا كثير المعروف والصدقة يعظ الناس ويسمع الحديث ولم يكن بالضابط فيما قاله الحافظ ابن الأبار قال وله كتاب الروضة الأنيقة من تأليفه حدث عنه جماعة من الجلة منهم أبو جعفر ابن عميرة الضبي وابنا حوط الله أبو محمد وأبو

سليمان وأبو القاسم الملاحي وأبو العباس بن الجيار وأبو الربيع بن سالم وقال أنشدني عند توديعي إياه بغرناطة قال سمعت بعض المذكورين ينشد
( يا زائرا زار وما زارا ... كأنه مقتبس نارا )
( مر بباب الدار مستعجلا ... ما ضره لو دخل الدارا )
( نفسي فداء لك من زائر ... ما زار حتى قيل قد سارا )
وسمع منه أبو جعفر بن الدلال كتاب المعالم للخطابي في شرح سنن أبي داود بقراءة جميعه عليه
ومولده في شوال سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وتوفي بغرناطة بعد أن سكنها يوم الاثنين سادس شوال سنة ثمان وستمائة قال ابن الأبار وفي هذا اليوم يعينه كانت وفاة شيخنا أبي عبد الله بن نوح ببلنسية رحمهما الله تعالى
57 - ومن الوافدين من المشرق إلى الأندلس إسماعيل بن عبد الرحمن بن علي القرشي من ذرية عبد بن زمعة أخي سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها ! رحل من مصر إلى الأندلس في زمن السلطان الحاكم المستنصر بالله أعوام الستين وثلاثمائة حين ملك بنو عبيد مصر وأظهروا فيها معتقدهم الخبيث فحل يومئذ من الحكم المستنصر محل الرحب والسعة ولما ثارت الدولة العامرية أوى إلى إشبيلية وأوطنها دارا واتخذها قرارا وبها لقيه أبو عمر بن عبد البر علامة الأندلس فدرس عليه واقتبس مما لديه وقد ذكره في تاريخ شيوخه ولم يزل عقبه بها إلى أن نجم منهم أبو الحسين سالم بن محمد بن سالم وهو من رجال الذخيرة وله نثر كما تفتح الزهر وتدفق البحر ونظم كما اتسق الدر وسفرت عن محاسنها الأوجه الغر

فمن نظمه قوله
( خليلي هل ليلى ونجد كعهدنا ... فيا حبذا ليلى ويا حبذا نجد )
( عسى الدهر أن يقضي لنا بالتفاتة ... فيا رب قرب قد يجدده بعد )
وله أثناء رسالة
( قوس العلا وضعت في كف باريها ... وأسهم الخطب عادت نحو راميها )
( ومنها وإنما الشمس لاحت في مطالعها ... بلى وأجرى جياد الخيل مجريها )
ونشأن هذا النجم الثاقب والصيب الساكب وقد أخذ من العلوم في غير ما فن وحقق فيه كل ما ظن وذكره في المسهب وسمط الجمان وفضله شهر رحمه الله تعالى
58 - ومنهم أبو علي القالي صاحب الأمالي والنوادر وفد على الأندلس أيام الناصر أمير المؤمنين عبد الرحمن فأمر ابنه الحكم - وكان يتصرف عن أمر أبيه كالوزير - عاملهم ابن رماحس أن يجيء مع أبي علي إلى قرطبة ويتلقاه في وفد من وجوه رعيته ينتخبهم من بياض أهل الكورة تكرمة لأبي علي ففعل وسار معه نحو قرطبة في موكب نبيل فكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم ويتناشدون الأشعار إلى أن تحاوروا يوما وهم سائرون أدب عبد الملك بن مروان ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب

( ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل )
وكان الذاكر للحكاية الشيخ أبا علي فأنشد الكلمة في البيت أعرافها لأيدينا مناديل فأنكرها ابن رفاعة الإلبيري وكان من أهل الأدب والمعرفة وفي خلقه حرج وزعارة فاستعاد أبا علي البيت متثبتا مرتين في كلتيهما أنشده أعرافها فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفا وقال مع هذا يوفد على أمير المؤمنين وتتجشم الرحلة لتعظيمه وهو لا يقيم وزن بيت مشهور بين الناس لا تغلط الصبيان فيه ! والله لا تبعته خطوة وانصرف عن الجماعة وندبه أميره ابن رماحس أن لا يفعل فلم يجد فيه حيلة وكتب إلى الحكم يعرفه ويصف له ما جرى لابن رفاعة ويشكوه فأجابه على ظهر كتابه الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وافد أهل العراق إلينا وابن رفاعة أولى بالرضى عنه من السخط فدعه لشأنه وأقدم بالرجل غير منتقص من تكرمته فسوف يعليه الاختبار إن شاء الله تعالى أو يحطه
وبعض المؤرخين يزعم أن وفادة أبي علي القالي إنما كانت في خلافة الحكم المستنصر بالأندلس لا في خلافة أبيه الناصر والصواب أن وفادته في أيام الناصر لما ذكره غير واحد من حصره وعيه عن الخطبة يوم احتفال الناصر لرسول الإفرنج كما ألمعنا به في غير هذا الموضع
وفي القالي يقول شاعر الأندلس الرمادي
( من حاكم بيني وبين عذولي ... الشجو شجوي والعويل عويلي )
( في أي جارحة أصون معذبي ... سلمت من التعذيب والتنكيل )

( إن قلت في بصري فثم مدامعي ... أو قلت في قلبي فثم غليلي )
( لكن جعلت له المسامع موضعا ... وحجبتها عن عذل كل عذول ) ولما سمع المتنبي البيت الثاني قال يصونه في استه وكان الرمادي لما سمع قول المتنبي
( كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني )
قال أظنه ضرطة والجزاء من جنس العمل
وباسم أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله طرز الشيخ أبو علي القالي كتاب الأمالي
وكان الحكم كريما معنيا بالعلم وهو الذي وجه إلى الحافظ أبي الفرج الأصبهاني ألف دينار على أن يوجه له نسخة من كتاب الأغاني وألف أبو محمد الفهري كتابا في نسب أبي علي البغدادي ورواياته ودخوله الأندلس
وحكى ابن الطيلسان عن ابن جابر أنه قرأ هذين البيتين في لوح رخام كان سقط من القبة المبنية على قبر أبي علي البغدادي عند تهدمها وهما
( صلوا لحد قبري بالطريق وودعوا ... فليس لمن وارى التراب حبيب )
( ولا تدفنوني بالعراء فربما ... بكى أن رأى قبر الغريب غريب ) واسم أبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى بن محمد ابن سليمان وجده سليمان مولى عبد الملك بن مروان وكان أبو علي أحفظ أهل زمانه باللغة والشعر ونحو البصريين وأخذ الأدب عن أبي بكر بن دريد الأزدي وأبي بكر بن الأنباري وابن درستويه وغيرهم وأخذ عنه أبو بكر الزبيدي الأندلسي صاحب مختصر العين ولأبي علي التصانيف الحسان ك الأمالي والبارع وطاف البلاد وسافر إلى بغداد سنة 303 وأقام بالموصل لسماع الحديث من أبي يعلى الموصلي ودخل بغداد سنة 303 وأقام بها إلى سنة 328 وكتب بها الحديث ثم خرج من بغداد قاصدا الأندلس وسمع

من البغوي وغيره
قال ابن خلكان ودخل قرطبة لثلاث بقين من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة انتهى
وهو مما يعين أنه قدم في زمن الناصر لا في زمن ابنه الحكم كما تقدم وقد صرح بذلك الصفدي في الوافي فقال ولما دخل المغرب قصد صاحب الأندلس الناصر لدين الله عبد الرحمن فأكرمه وصنف له ولولده الحكم تصانيف وبث علومه هناك انتهى وقال ابن خلكان إنه استوطن قرطبة إلى أن توفي بها في شهر ربيع الآخر وقيل جمادى الأولى سنة 356 ليلة السبت لست خلون من الشهر المذكور ودفن ظاهر قرطبة ومولده بمنازجرد من ديار بكر
سنة 288 وقيل سنة 280 وإنما قيل له القالي لأنه سافر إلى بغداد مع أهل قاليقلا وهي من أعمال ديار بكر
وهو من محاسن الدنيا رحمه الله تعالى
وعيذون بفتح العين وسكون الياء المثناة التحتية وضم الذال المعجمة
وقال ابن خلكان في ترجمة ابن القوطية إن أبا علي القالي لما دخل الأندلس اجتمع به وكان يبالغ في تعظيمه قال له الحكم بن عبد الرحمن الناصر من أنبل من رأيته ببلدنا هذا في اللغة فقال محمد بن القوطية وكان ابن القوطية مع هذه الفضائل من العباد النساك وكان جيد الشعر صحيح الألفاظ حسن المطالع والمقاطع إلا أنه تركه ورفضه وقال الأديب أبو بكر ابن هذيل إنه توجه يوما إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة وهي من بقاع الأرض الطيبة

المونقة فصادف أبا بكر بن القوطية المذكور صادرا عنها وكانت له أيضا هناك ضيعة قال فلما رآني عرج علي واستبشر بلقائي فقلت مداعبا له
( من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له ) فلك قال فتبسم وأجاب بسرعة
( من منزل تعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا )
فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي ودعوت له انتهى
وهو صاحب كتاب الأفعال الذي فتح فيه هذا الباب فتلاه ابن القطاع وله كتاب المقصور والممدود جمع فيه ما لا يحد ولا يعد وأعجز من بعده به وفاق من تقدمه رحمه الله تعالى ورضي عنه
وممن أخذ عن أبي علي القالي بالأندلس أبو بكر محمد الزبيدي صاحب كتاب مختصر العين وغيره وكان الزبيدي كثيرا ما ينشد
( الفقر في أوطاننا غربة ... والمال في الغربة أوطان )
( والأرض شيء كلها واحد ... والناس إخوان وجيران ) وترجمة الزبيدي واسعة وكان مؤدب المؤيد هشام ووصفه بأنه كان في صباه في غاية الحذق والذكاء رحمه الله تعالى
وكان القالي قد بحث على ابن درستويه كتاب سيبويه ودقق النظر وانتصر للبصريين وأملى شيئا من حفظه ككتاب النوادر والأمالي والمقصور الممدود والإبل والخيل والبارع في اللغة نحو خمسة آلاف

ورقة لم يصنف مثله في الإحاطة والجمع ولم يتم ورتب كتاب المقصور والممدود على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق مستقصى في بابه لا يشذ منه شيء وكتاب فعلت وأفعلت وكتاب مقاتل الفرسان وتفسير السبع الطوال
وكان الزبيدي إماما في الأدب ولكنه عرف فضل القالي فمال إليه واختص به واستفاد منه وأقر له
وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمر وبعدها ينشط أبا علي ويعينه على التأليف بواسع العطاء ويشرح صدره بالإفراط في الإكرام وكانوا يسمونه البغدادي لوصوله إليها من بغداد ويقال إن الناصر هو الذي استدعاه من بغداد لولائه فيهم وفيه يقول الرمادي متخلصا في لاميته السابق بعضها
( روض تعاهده السحاب كأنه ... متعاهد من عهد إسماعيل )
( قسه إلى الأعراب تعلم أنه ... أولى من الأعراب بالتفضيل )
( حازت قبائلهم لغات فرقت ... فيهم وحاز لغات كل قبيل )
( فالشرق خال بعده وكأنما ... نزل الخراب بربعه المأهول )
( فكأنه شمس بدت في غربنا ... وتغيبت عن شرقهم بأفول )
( يا سيدي هذا ثنائي لم أقل ... زورا ولا عرضت بالتنويل )
( من كان يأمل نائلا فأنا امرؤ ... لم أرج غير القرب في تأميلي )
وقد تقدمت أبيات القالي التي أجاب بها منذر بن سعيد في الباب قبل هذا فلتراجع ثمة والله تعالى أعلم 59 - ومن الوافدين إلى الأندلس من المشرق أبو العلاء صاعد بن الحسين بن عيسى البغدادي اللغوي

وأصله من الموصل قال ابن بسام ولما دخل صاعد قرطبة أيام المنصور بن أبي عامر عزم المنصور على أن يعفي به آثار أبي علي البغدادي الوافد على بني أمية فما وجد عنده ما يرتضيه وأعرض عنه أهل العلم وقدحوا في علمه وعقله ودينه ولم يأخذوا عنه شيئا لقلة الثقة به وكان ألف كتابا سماه كتاب الفصوص فدحضوه ورفضوه ونبذوه في النهر ومن شعره قوله
( ومهفهف أبهى من القمر ... قهر الفؤاد بفاتن النظر )
( خالسته تفاح وجنته ... فأخذتها منه على غرر )
( فأخافني قوم فقلت لهم ... لا قطع في ثمر ولا كثر ) والكثر الجمار وهذا اقتباس من الحديث
وقال الحميدي سمعت أبا محمد بن حزم الحافظ يقول سمعت أبا العلاء صاعدا ينشد بين يدي المظفر عبد الملك بن أبي عامر من قصيدة يهنيه فيها بعيد الفطر سنة 396
( حسبت المنعمين على البرايا ... فألفيت اسمه صدر الحساب )
( وما قدمته إلا كأني ... أقدم تاليا أم الكتاب )
وذكر الحميدي أن عبد الله بن ماكان الشاعر تناول نرجسة فركبها في وردة ثم قال لصاعد ولأبي عامر بن شهيد صفاها فأفحما ولم يتجه لهما القول فبينما هم على ذلك إذ دخل الزهيري صاحب أبي العلاء وتلميذه وكان شاعرا

أديبا أميا لا يقرأ فلما استقر به المجلس أخبر بما هم فيه فجعل يضحك ويقول
( ما للأديبين قد اعيتهما ... مليحة من ملح الجنه )
( نرجسة في وردة ركبت ... كمقلة تطرف في وجنه )
انتهى ومن غريب ما جرى لصاعد أن المنصور جلس يوما وعنده أعيان مملكته ودولته من أهل العلم كالزبيدي والعاصمي وابن العريف وغيرهم فقال لهم المنصور هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدم في هذه العلوم وأحب أن يمتحن فوجه إليه فلما مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور محله وأقبل عليه وسأله عن أبي سعيد السيرافي فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب فلم يحضره جوابها واعتذر بأن النحو ليس جل بضاعته فقال له الزبيدي فما تحسن أيها الشيخ فقال حفظ الغريب قال فما وزن أولق فضحك صاعد وقال أمثلي يسأل عن هذا إنما يسأل عنه صبيان المكتب قال الزبيدي قد سألناك ولا نشك أنك تجهله فتغير لونه وقال أفعل وزنه فقال الزبيدي صاحبكم ممخرق فقال له صاعد إخال الشيخ صناعته الأبنية فقال له أجل فقال صاعد وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ورواية الأخبار وفك المعمى وعلم الموسيقى فقال فناظره ابن العريف فظهر عليه صاعد وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعرا شاهدا وأتى بحكاية يجانسها فأعجب المنصور ثم أراه كتاب النوادر لأبي علي القالي فقال

إن أراد المنصور أمليت على كتاب دولته كتابا أرفع منه وأجل لا أورد فيه خبرا مما أورده أبو علي فأذن له المنصور في ذلك وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي كتابه المترجم ب الفصوص فلما أكمله تتبعه أدباء الوقت فلم تمر فيه كلمة صحيحة عندهم ولا خبر ثبت لديهم وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها حتى توهم القدم وترجم عليه كتاب النكت تأليف أبي الغوث الصنعاني فترامى إليه صاعد حين رآه وجعل يقبله وقال إي والله قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان فأخذه المنصور من يده خوفا أن يفتحه وقال له إن كنت قد قرأته كما تزعم فعلام يحتوي فقال وأبيك لقد بعد عهدي به ولا أحفظ الآن منه شيئا ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها شعر ولا خبر فقال له المنصور أبعد الله مثلك ! فما رأيت أكذب منك وأمر بإخراجه وأن يقذف كتاب الفصوص في النهر فقال فيه بعض الشعراء
( قد غاص في النهر كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص )
فأجابه صاعد
( عاد إلى معدنه إنما ... توجد في قعر البحار الفصوص )
قال ابن بسام وما أظن أحدا يجترئ على مثل هذا وإنما صاعد اشترط أن لا يأتي إلا بالغريب غير المشهور وأعانهم على نفسه بما كان يتنفق به من الكذب
وحكى ابن خلكان أن المنصور أثابه على كتاب الفصوص بخمسة

آلاف دينار
ومن أعجب ما جرى له أنه كان بين يدي المنصور فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها فقال فيها صاعد مرتجلا
( أتتك أبا عامر وردة ... يذكرك المسك أنفاسها )
( كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها )
فسر بذلك المنصور وكان ابن العريف حاضرا فحسده وجرى إلى مناقضته وقال لابن أبي عامر هذان البيتان لغيره وقد أنشدنيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه وهما عندي على ظهر كتاب بخطه فقال له المنصور أرنيه فخرج ابن العريف وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر وكان أحسن أهل زمانه بديهة فوصف له ما جرى فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد
( عشوت إلى قصر عباسة ... وقد جدل النوم حراسها )
( فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صرع السكر أناسها )
( فقالت أسار على هجعة ... فقلت بلى فرمت كاسها )
( ومدت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها )
( كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها )
( وقالت خف الله لا تفضحن ... في ابنة عمك عباسها )
( فوليت عنها على غفلة ... وما خنت ناسي ولا ناسها )
فطار ابن العريف بها وعلقها على ظهر كتاب بخط مصري ومداد أشقر

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24