كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

ودخل بها على المنصور فلما رآها اشتد غيظه على صاعد وقال للحاضرين غدا أمتحنه فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد ولم يبق في موضع لي عليه سلطان فلما أصبح وجه إليه فأحضر وأحضر جميع الندماء فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعد فيه طبقا عظيما فيه السقائف مصنوعة من جميع النواوير ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري وتحت سقائف بركة ماء قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء وفي البركة حية تسبح فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا وإما أن تشقى بالضد عندنا لأنه قد زعم قوم أن كل ما تأتي به دعوى وقد وقفت من ذلك على حقيقة وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله فصفه بجميع ما فيه وعبر بعض عن هذه القصة بقوله أمر فعبئ له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ وكان في البركة حية تسبح وأحضرها صاعد فلما شاهد ذلك قال له المنصور إن هؤلاء يذكرون أن كل ما تأتي به دعوى لا صحة لها وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحة ما تذكره فقال صاعد بديهة
( أبا عامر هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف )
( يسوق إليك الدهر كل غريبة ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف )
( وشائع نور صاغها هامر الحيا ... على حافتيها عبقر ورفارف )
( ولما تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي الوصائف )
( كمثل الظباء المستكنة كنسا ... تظللها بالياسمين السقائف )
( وأعجب منها أنهن نواظر ... إلى بركة ضمت إليها الطرائف )
( حصاها اللآلي سابح في عبابها ... من الرقش مسموم الثعابين زاحف )

( ترى ما تراه العين في جنباتها ... من الوحش حتى بينهن السلاحف )
فاستغربت له يومئذ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع وكتبها المنصور بخطه وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجذف بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد فقال له المنصور أحسنت إلا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية فقال للوقت
( وأعجب منها غادة في سفينة ... مكللة تصبو إليها المهاتف )
( إذا راعها موج من الماء تتقي ... بسكانها ما أنذرته العواصف )
( متى كانت الحسناء ربان مركب ... تصرف في يمنى يديه المجاذف )
( ولم تر عيني في البلاد حديقة ... تنقلها في الراحتين الوصائف )
( ولا غرو أن شاقت معاليك روضة ... وشتها أزاهير الربى والزخارف )
( فأنت امرؤ لو رمت نقل متالع ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف )
( إذا قلت قولا أو بدهت بديهة ... فكلني له إني لمجدك واصف )
فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب ورتب له في كل شهر ثلاثين دينارا وألحقه بالندماء قال وكان شديد البديهة في ادعاء الباطل قال له المنصور يوما ما الخنبشار فقال حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب وفي ذلك يقول شاعرهم
( لقد عقدت محبتها بقلبي ... كما عقد الحليب بخنبشار

وقال له يوما وقد قدم إليه طبق فيه تمر ما التمركل في كلام العرب فقال يقال تمركل الرجل تمركلا إذا التف في كسائه
وكان مع ذلك عالما
قال وكان لأبن أبي عامر فتى يسمى فاتنا أوحد لا نظير له في علم كلام العرب فناظر صاعدا هذا فقطعه وظهر عليه وبكته فأعجب المنصور منه فتوفي فاتن هذا سنة 402 وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصححة وكان منقادا لما نزل به من المثلة فلم يتخذ النساء كغيره وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممن أخذ بأوفر نصيب من الأدب
قال ورأيت تأليفا لرجل منهم يعرف بحبيب ترجمه بكتاب الاستظهار والمغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة وذكر فيه جملة من أشعارهم وأخبارهم ونوادرهم
وقال ابن بسام وغيره ومن عجائب ما جرى لصاعد أنه أهدى أيلا إلى المنصور وكتب على يد موصله
( يا حرز كل مخوف وأمان كل ... مشرد ومعز كل مذلل )
( يا سلك كل فضيلة ونظام كل ... جزيلة وثراء كل معيل ) ومنها
( ما إن رأت عيني وعلمك شاهد ... شروى علائك في معم مخول ) ومنها

( وأبي مؤانس غربتي وتحفظي ... من صفر أيامي ومن ومستعملي )
( عبد جذبت بضبعه ورفعت من ... مقداره أهدى إليك بأيل )
( سميته غرسية وبعثته ... في حبله ليصح فيه تفاؤلي )
( فلئن قبلت فتلك أنفس منة ... أسدى بها ذو منحة وتطول )
( صبحتك غادية السرور وجللت ... أرجاء ربعك بالسحاب المخضل ) فقضي في سابق علم الله سبحانه وتعالى أن ملك الروم أسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه بالإيل وسماه باسمه على التفاؤل انتهى
وكان غرسية أمنع من النجم وسبب أخذه أنه خرج يتصيد فلقيته خيل للمنصور من غير قصد فأسرته وجاءته به فكان هذا الاتفاق مما عظم به العجب
ولنزد من أخبار صاعد فنقول حكي أن المنصور قال بسبب هذه القضية إنه لم يتفق لصاعد هذا الفأل الغريب إلا لحسن نيته وسريرته وصفاء باطنه فرفع قدره من ذلك اليوم فوق ما كان ورجحه على أعدائه وحق له ذلك
وفي الزهرة الثامنة والعشرين من كتاب الأزهار المنثورة في الأخبار المأثورة حكي أن صاعدا قال جمعت خرق الأكياس والصرر التي قبضت فيها صلات المنصور محمد بن أبي عامر فقطعت لكافور الأسود غلامي منها قميصا كالمرقعة وبكرت به معي إلى قصر المنصور فاحتلت في تنشيطه حتى طابت نفسه فقلت يا مولانا لعبدك حاجة فقال أذكرها قلت

وصول غلامي كافور إلى هنا فقال وعلى هذه الحال فقلت لا أقنع بسواه إلا بحضوره بين يديك فقال أدخلوه فمثل قائما بين يديه في موقعته وهو كالنخلة إشرافا فقال قد حضر وإنه لباذ الهيئة فمالك أضعته فقلت يا مولانا هنالك الفائدة اعلم يا مولاي أنك وهبت لي اليوم ملء جلد كافور مالا فتهلل وقال لله درك من شاكر مستنبط لغوامض معاني الشكر ! وأمر لي بمال واسع وكسوة وكسا كافورا أحسن كسوة انتهى
ولما دخل صاعد دانية وحضر مجلس الموفق مجاهد العامري أمير البلد كان في المجلس أديب يقال له بشار فقال للموفق دعني أعبث بصاعد فقال له لا تتعرض إليه فإنه سريع الجواب فأبى إلا مساءلته وكان بشار المذكور أعمى فقال لصاعد يا أبا العلاء ما الجرنفل في كلام العرب فعرف صاعد أنه وضع هذه الكلمة وليس لها أصل في اللغة فقال بعد أن أطرق ساعة الجرنفل في اللغة الذي يفعل بنساء العميان ولا يتجاوزهن إلى غيرهن وهو في ذلك كله يصرح ولا يكني فخجل بشار وانكسر وضحك من كان حاضرا فقال له الموفق قلت لك لا تفعل فلم تقبل انتهى
والجرنفل بضم الجيم والراء وسكون النون وضم الفاء وبعدها لام
ولصاعد أخبار ونوادر كثيرة غير ما تقدم وله مع المنصور بن أبي عامر رحمه الله تعالى من ذلك كثير وبعضه ذكرناه في هذا الكتاب
ومن حكاياته أنه خرج معه يوما إلى رياض الزاهرة فمد المنصور يده إلى شيء من الريحان المعروف بالترنجان فعبث به ورماه إلى صاعد وأشار إليه أن يقول فيه فارتجل
( لم أدر قبل ترنجان عبثت به ... ) الأبيات الآتية

طرف من أخبار المنصور
وهذا المنصور بن أبي عامر قد تقدمت جملة من أخباره ومن أعجب ما وقع له ما رأيته بخزانة فاس في كتاب ألفه صاحبه في الأزهار والأنوار حكى فيه في ترجمة النيلوفر أن المنصور لما قدم عليه رسول ملك الروم الذي هو أعظم ملوكهم في ذلك الزمان ليطلع على أحوال المسلمين وقوتهم فأمر المنصور أن يغرس في بركة عظيمة ذات أميال نيلوفر على ما تسع ثم أمر بأربعة قناطير من الذهب وأربعة قناطير من الفضة فسبكت قطعا صغارا على قدر ما تسع النيلوفرة ثم ملأ بها جميع النيلوفر الذي في البركة وأرسل إلى الرومي فحضر عنده قبل الفجر في مجلسه السامي بالزاهرة بحيث يشرف على موضع البركة فلما قرب طلوع الشمس جاء ألف من الصقالبة عليهم أقبية الذهب والفضة ومناطق الذهب والفضة وبيد خمسمائة أطباق ذهب وبيد خمسمائة أطباق فضة فتعجب الرسول من حسن صورهم وجمال شارتهم ولم يدر ما المراد فحين أشرقت الشمس ظهر النيلوفر من البركة فبادروا لأخذ الذهب والفضة من النيلوفر وكانوا يجعلون الذهب في أطباق الفضة والفضة في أطباق الذهب حتى التقطوا جميع ما فيها وجاؤوا به فوضعوه بين يدي المنصور حتى صار كوما بين يديه فتعجب النصراني من ذلك وأعظمه وطلب المهادنة من المسلمين وذهب مسرعا إلى مرسله وقال له لا تعاد هؤلاء القوم فإني رأيت الأرض تخدمهم بكنوزها انتهى
وهذه القضية من الغرائب وإنها لحيلة عجيبة في إظهار عز الإسلام وأهله
وكان المنصور بن أبي عامر آية الله سبحانه في السعد ونصرة الإسلام قال ابن بسام نقلا عن ابن حيان إنه لما انتهت خلافة بني مروان بالأندلس إلى الحكم تاسع الأئمة وكان مع فضله قد استهواه حب الولد حتى خالف الحزم

في توريثه الملك بعده في سن الصبا دون مشيخة الإخوة وفتيان العشيرة ومن كان ينهض بالأمر ويستقل بالملك قال ابن بسام وكان يقال لا يزال ملك بني أمية بالأندلس في إقبال ودوام ما توارثه الأبناء عن الآباء فإذا انتقل إلى الإخوة وتوارثوه فيما بينهم أدبر وانصرم ولعل الحكم لحظ ذلك فلما مات الحكم أخفى جؤذر وفائق فتياه ذلك وعزما على صرف البيعة إلى أخيه المغيرة وكان فائق قد قال له إن هذا لا يتم لنا إلا بقتل جعفر المصحفي فقال له جؤذر ونستفتح أمرنا بسفك دم شيخ مولانا فقال له هو والله ما أقول لك ثم بعثنا إلى المصحفي ونعيا إليه الحكم وعرفاه رأيهما في المغيرة فقال لهما المصحفي وهل أنا إلا تبع لكما وأنتما صاحبا القصر ومدبرا الأمر فشرعا في تدبير ما عزما عليه وخرج المصحفي وجمع أجناده وقواده ونعى إليهم الحكم وعرفهم مقصود جؤذر وفائق في المغيرة وقال إن بقينا على ابن مولانا كانت الدولة لنا وإن بدلنا استبدل بنا فقالوا الرأي رأيك فبادر المصحفي بإنفاذ محمد بن أبي عامر مع طائفة من الجند إلى دار المغيرة لقتله فوافاه ولا خبر عنده فنعى إليه الحكم أخاه فجزع وعرفه جلوس ابنه هشام في الخلافة فقال أنا سامع مطيع فكتب إلى المصحفي بحاله وما هو عليه من الاستجابة فأجابه المصحفي بالقبض عليه وإلا وجه غيره ليقتله فقتله خنقا
فلما قتل المغيرة واستوثق الأمر لهشام بن الحكم افتتح المصحفي أمره بالتواضع والسياسة واطراح الكبر ومساواة الوزراء في الفرش وكان ذلك من أول ما استحسن منه وتوفر على الاستئثار بالأعمال والاحتجان للأموال وعارضه محمد بن أبي عامر فتى ماجد أخذ معه بطرفي نقيض بالبخل جودا وبالاستبداد أثرة وتملك قلوب الرجال إلى أن تحركت همته للمشاركة في التدبير بحق الوزارة وقوي على أمره بنظره في الوكالة وخدمته

للسيدة صبح أم هشام وكانت حاله عند جميع الحرم أفضل الأحوال بتصديه لمواقع الإرادة ومبالغته في تأدية لطيف الخدمة فأخرجن له أمر هشام الخليفة إلى الحاجب جعفر المصحفي بأن لا ينفرد عنه برأي وكان غير متخيل منه سكونا إلى ثقته فامتثل الأمر وأطلعه على سره وبالغ في بره وبالغ محمد بن أبي عامر في مخادعته والنصح له فوصل المصحفي يده بيده واستراح إلى كفايته وابن أبي عامر يمكر به ويضرب عليه ويغري به الحسدة ويناقضه في أكثر ما يعامل به الناس ويقضي حوائجهم ولم يزل على ما هذه سبيله إلى أن انحل أمر المصحفي وهوى نجمه وتفرد محمد بن أبي عامر بالأمر ومنع أصحاب الحكم وأجلاهم وأهلكهم وشردهم وشتتهم وصادرهم وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم وصادر الصقالبة وأهلكهم وأبادهم في أسرع مدة
قال ابن حيان وجاشت النصرانية بموت الحكم وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة وكان مما أتى عليه أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سد نهرهم لما تخيله من أن في ذلك النجاة من العدو ولم تتسع حيلته لأكثر منه مع وفور الجيوش وجموم الأموال وكان ذلك من سقطات جعفر فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدنية وأشار على جعفر بتجريد الجيش بالجهاد وخوفه سوء العاقبة في تركه وأجمع الوزراء على ذلك إلا من شذ منهم واختار ابن أبي عامر

الرجال وتجهز للغزاة واستصحب مائة ألف دينار ونفذ بالجيش ودخل على الثغر الجوفي إلى جليقية ونازل حصن الحامة ودخل الربض وغنم وقفل فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوما فعظم السرور به وخلصت قلوب الأجناد له واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه
ومن أخبار كرمه ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي ولم يبق معي سوى لجام محلى ولما ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضرب حين كان صاحبها والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة فأعلمته ما جئت له فابتهج بما سمعه مني وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره فملأ حجري وكنت غير مصدق بما جرى لعظمه وعملت العرس وفضلت لي فضلة كثيرة وأحبه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد ابن أبي عامر الذروة
وقال غير واحد إنه صنع يومئذ قصرا من فضة لصبح أم هشام وحمله على رؤوس الرجال فجلب حبها بذلك وقامت بأمره عند سيدها الحكم وحدث الحكم خواصه بذلك وقال إن هذا الفتى قد خلب عقول حرمنا بما يتحفهن به قالوا وكان الحكم لشدة نظره في علم الحدثان يتخيل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان ويقول لأصحابه أما تنظرون إلى صفرة كفيه ويقول في بعض الأحيان لو كانت به شجة لقلت إنه هو بلا شك فقضى الله أن تلك الشجة حصلت للمنصور يوم ضربه غالب بعد موت الحكم بمدة
قال ابن حيان وكان بين المصحفي وغالب صاحب مدينة سالم وشيخ الموالي وفارس الأندلس عداوة عظيمة ومباينة شديدة ومقاطعة مستحكمة

وأعجز المصحفي أمره وضعف عن مباراته وشكا ذلك إلى الوزراء فأشاروا عليه بملاطفته واستصلاحه وشعر بذلك ابن أبي عامر فأقبل على خدمته وتجرد لإتمام إرادته ولم يزل على ذلك حتى خرج الأمر بأن ينهض غالب إلى تقدمة جيش الثغر وخرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثانية واجتمع به وتعاقدا على الإيقاع بالمصحفي وقفل ابن أبي عامر ظافرا غانما وبعد صيته فخرج أمر الخليفة هشام بصرف المصحفي عن المدينة وكانت في يده يومئذ وخلع على ابن أبي عامر ولا خبر عند المصحفي وملك ابن أبي عامر الباب بولايته للشرطة وأخذ عن المصحفي وجوه الحيلة وخلاه وليس بيده من الأمر إلا أقله وكان ذلك بإعانة غالب له وضبط المدينة ضبطا أنسى به أهل الحضرة من سلف من الكفاة أولي السياسة وانهمك ابن أبي عامر في صحبة غالب ففطن المصحفي لتدبير ابن أبي عامر عليه فكاتب غالبا يستصلحه وخطب أسماء بنته لابنه عثمان فأجابه غالب لذلك وكادت المصاهرة تتم له وبلغ ابن أبي عامر الأمر فقامت قيامته وكاتب غالبا يخوفه الحيلة ويهيج حقوده وألقى عليه أهل الدار وكاتبوه فصرفوه عن ذلك ورجع غالب إلى ابن أبي عامر فأنكحه البنت المذكورة وتم له العقد في محرم سنة سبع وستين وثلاثمائة فأدخل السلطان تلك الابنة إلى قصره وجهزها إلى محمد بن أبي عامر من قبله فظهر أمره وعز جانبه وكثر رجاله وصار جعفر المصحفي بالنسبة إليه كلا شيء واستقدم السلطان غالبا وقلده الحجابة شركة مع جعفر المصحفي ودخل ابن أبي عامر على ابنته ليلة النيروز وكانت أعظم ليلة عرس في الأندلس وأيقن المصحفي بالنكبة وكف عن اعتراض ابن أبي عامر في شيء من التدبير وابن أبي عامر يساتره ولا يظاهره وانفض عنه الناس وأقبلوا على ابن أبي عامر إلى أن صار المصحفي يغدو إلى قصر قرطبة

ويروح وهو وحده وليس بيده من الحجابة سوى اسمها وعوقب المصحفي بإعانته على ولاية هشام وقتل المغيرة
ثم سخط السلطان على المصحفي وأولاده وأهله وأسبابه وأصحابه وطولبوا بالأموال وأخذوا برفع الحساب لما تصرفوا فيه وتوصل ابن أبي عامر بذلك إلى اجتثاث أصولهم وفروعهم وكان هشام ابن أخي المصحفي قد توصل إلى أن سرق من رؤوس النصارى التي كانت تحمل بين يدي ابن أبي عامر في الغزاة الثالثة ليقدم بها على الحضرة وغاظه ذلك منه فبادره بالقتل في المطبق قبل عمه جعفر المصحفي فلما استقصى ابن أبي عامر مال جعفر حتى باع داره بالرصافة وكانت من أعظم قصور قرطبة واستمرت النكبة عليه سنتين مرة يحتبس ومرة يترك ومرة يقر بالحضرة ومرة ينفر عنها ولا براح له من المطالبة بالمال ولم يزل على هذا الحكم حتى استصفي ولم يبق فيه محتمل واعتقل في المطبق بالزهراء إلى أن هلك وأخرج إلى أهله ميتا وذكر أنه سمه في ماء شربه قال محمد بن إسماعيل سرت مع محمد بن مسلمة إلى الزهراء لنسلم جسد جعفر بن عثمان إلى أهله بأمر المنصور وسرنا إلى منزله فكان مغطى بخلق كساء لبعض البوابين ألقاه على سريره وغسل على فردة باب اختلع من ناحية الدار وأخرج وما حضر أحد جنازته سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه ومن حضر من ولده فعحبت من الزمان انتهى
وما أحسن عبارة صاحب المطمح عن هذه القضية إذ قال قال محمد بن إسماعيل كاتب المنصور سرت بأمره لتسليم جسد جعفر إلى أهله وولده

والحضور على إنزاله في ملحده فنظرته ولا أثر فيه وليس عليه شيء يواريه غير كساء خلق لبعض البوابين فدعا له محمد بن مسلمة بغاسل فغسله والله على فردة باب اقتطع من جانب الدار وأنا أعتبر من تصرف الأقدار وخرجنا بنعشه إلى قبره وما معنا سوى إمام مسجده المستدعى للصلاة عليه وما تجاسر أحد منا للنظر إليه وإن لي في شأنه لخبرا ما سمع بمثله طالب وعظ ولا وقع في سمع ولا تصور في لحظ وقفت له في طريقه من قصره أيام نهيه وأمره أروم أن أناوله قصة كانت به مختصة فوالله ما تمكنت من الدنو منه بحيلة لكثافة موكبه وكثرة من حف به وأخذ الناس السكك عليه وأفواه الطرق داعين ومارين بين يديه وساعين حتى ناولت قصتي بعض كتابه الذين نصبهم جناحي موكبه لأخذ القصص فانصرفت وفي نفسي ما فيها من الشرق بحاله والغصص فلم تطل المدة حتى غضب عليه المنصور واعتقله ونقله معه في الغزوات واحتمله واتفق أن نزلت بجليقية إلى جانب خبائه في ليلة نهى فيها المنصور عن وقود النيران ليخفى على العدو أثره ولا ينكشف إليه خبره فرأيت والله عثمان ولده يسفه دقيقا قد خلطه بماء يقيم به أوده ويمسك بسببه رمقه بضعف حال وعدم زاد وهو يقول
( تعاطيت صرف الحادثات فلم أزل ... أراها توفي عند موعدها الحرا )
( فلله أيام مضت بسبيلها ... فإني لا أنسى لها أبدا ذكرا )
( تجافت بها عنا الحوادث برهة ... وأبدت لنا منها الطلاقة والبشرا )
( ليالي ما يدري الزمان مكانها ... ولا نظرت منها حوادثه شزرا )
( وما هذه الأيام إلا سحائب ... على كل أرض تمطر الخير والشرا )
انتهى
وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات وصعد إلى بعض القلاع لينظرا في أمرها فجرت محاورة بين ابن أبي عامر وغالب فسبه غالب وقال له يا كلب أنت الذي أفسدت الدولة وخربت القلاع وتحكمت في الدولة وسل سيفه فضربه وكان بعض الناس حبس يده فلم تتم الضربة وشجه فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفا من أن يجهز عليه فقضى الله تعالى أنه وجد شيئا في الهوي منعه من الهلاك فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برئ ولحق غالب بالنصارى فجيش بهم وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام فحكمت الأقدار بهلاك غالب وتم لابن أبي عامر ما جد له وتخلصت دولته من الشوائب
قالوا ولما وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيد وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما وعلم أنه ما دهي إلا من جانب حاشية القصر فرقهم ومزقهم ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به أو عجز عنه ثم ذكر له أن الحرم قد انبسطت أيديهن في الأموال المختزنة بالقصر وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضة وموهت ذلك كله بالمري والشهد وغيره

( تجافت بها عنا الحوادث برهة ... وأبدت لنا منها الطلاقة والبشرا )
( ليالي ما يدري الزمان مكانها ... ولا نظرت منها حوادثه شزرا )
( وما هذه الأيام إلا سحائب ... على كل أرض تمطر الخير والشرا )
انتهى
وأما غالب الناصري فإنه حضر مع ابن أبي عامر في بعض الغزوات وصعد إلى بعض القلاع لينظرا في أمرها فجرت محاورة بين ابن أبي عامر وغالب فسبه غالب وقال له يا كلب أنت الذي أفسدت الدولة وخربت القلاع وتحكمت في الدولة وسل سيفه فضربه وكان بعض الناس حبس يده فلم تتم الضربة وشجه فألقى ابن أبي عامر نفسه من رأس القلعة خوفا من أن يجهز عليه فقضى الله تعالى أنه وجد شيئا في الهوي منعه من الهلاك فاحتمله أصحابه وعالجوه حتى برئ ولحق غالب بالنصارى فجيش بهم وقابله ابن أبي عامر بمن معه من جيوش الإسلام فحكمت الأقدار بهلاك غالب وتم لابن أبي عامر ما جد له وتخلصت دولته من الشوائب
قالوا ولما وقعت وحشة بين ابن أبي عامر والمؤيد وكان سببها تضريب الحساد فيما بينهما وعلم أنه ما دهي إلا من جانب حاشية القصر فرقهم ومزقهم ولم يدع فيه منهم إلا من وثق به أو عجز عنه ثم ذكر له أن الحرم قد انبسطت أيديهن في الأموال المختزنة بالقصر وما كانت السيدة صبح أخت رائق تفعله من إخراج الأموال عندما حدث من تغيرها على ابن أبي عامر وأنها أخرجت في بعض الأيام مائة كوز مختومة على أعناق الخدم الصقالبة فيها الذهب والفضة وموهت ذلك كله بالمري والشهد وغيره

والأصباغ المتخذة بقصر الخلافة وكتبت على رؤوس الكيزان أسماء ذلك ومرت على صاحب المدينة فما شك أنه ليس فيها إلا ما هو عليها وكان مبلغ ما حملت فيها من الذهب ثمانين ألف دينار فأحضر ابن أبي عامر جماعة وأعلمهم أن الخليفة مشغول عن حفظ الأموال بانهماكه في العبادة وأن في إضاعتها آفة على المسلمين وأشار بنقلها إلى حيث يؤمن عليها فيه فحمل منها خمسة آلاف ألف دينار عن قيمة ورق وسبعمائة ألف دينار وكانت صبح قد دافعت عما بالقصر من الأموال ولم تمكن من إخراجها فاجتمع ابن أبي عامر بالخليفة هشام واعترف له بالفضل والغناء في حفظ قواعد الدولة فخرست ألسنة الأعدا والحسدة وعلم المنصور ما في نفوس الناس لظهور هشام ورؤيتهم له إذ كان منهم من لم يره قط فأبرزه للناس وركب الركبة المشهورة واجتمع لذلك من الخلق ما لا يحصى وكانت عليه الطويلة والقضيب في يده زي الخلافة والمنصور يسايره
ثم خرج المنصور لآخر غزواته وقد مرض المرض الذي مات فيه وواصل شن الغارات وقويت عليه العلة فاتخذ له سرير خشب ووطئ عليه ما يقعد عليه وجعلت عليه ستارة وكان يحمل على أعناق الرجال والعساكر تحف به وكان هجر الأطباء في تلك العلة لاختلافهم فيها وأيقن بالموت وكان يقول إن زماني يشتمل على عشرين ألف مرتزق ما أصبح

فيهم أسوأ حالة مني ولعله يعني من حضر تلك الغزاة وإلا فعساكر الأندلس ذلك الزمان أكثر من ذلك العدد - واشتغل ذهنه بأمر قرطبة وهو في مدينة سالم فلما أيقن بالوفاة أوصى ابنه عبد الملك وجماعته وخلا بولده وكان يكرر وصاته وكلما أراد أن ينصرف يرده وعبد الملك يبكي وهو ينكر عليه بكاءه ويقول وهذا من أول العجز وأمره أن يستخلف أخاه عبد الرحمن على العسكر
وخرج عبد الملك إلى قرطبة ومعه القاضي أبن ذكوان فدخلها أول شوال وسكن الإرجاف بموت والده وعرف الخليفة كيف تركه
ووجد المنصور خفة فأحضر جماعة بين يديه وهو كالخيال لا يبين الكلام وأكثر كلامه بالإشارة كالمسلم المودع وخرجوا من عنده فكان آخر العهد به ومات لثلاث بقين من شهر رمضان وأوصى أن يدفن حيث يقبض فدفن في قصره بمدينة سالم
واضطرب العسكر وتلوم ولده أياما وفارقه بعض العسكر إلى هشام وقفل هو إلى قرطبة فيمن بقي معه ولبس فتيان المنصور المسوح والأكسية بعد الوشي والحبر والخز
وقام ولده عبد الملك المظفر بالأمر وأجراه هشام الخليفة على عادة أبيه وخلع عليه وكتب له السجل بولاية الحجابة وكان الفتيان قد اضطربوا فقوم المائل وأصلح الفاسد وجرت الأمور على السداد وانشرحت الصدور بما شرع فيه من عمارة البلاد فكان أسعد مولود ولد في الأندلس
ولنمسك عنان القلم في أمر ابن أبي عامر فقد قدمنا في محله جملة من أحواله وما ذكرناه هنا وإن كان محله ما سبق وبعضه قد تكرر معه فهو لا يخلو من فوائد زوائد والله تعالى ولي التوفيق

رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي
359 - رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي رجع إلى أخبار صاعد اللغوي البغدادي وحكي أنه دخل على المنصور يوم عيد وعليه ثياب جدد وخف جديد فمشى على حافة البركة لازدحام الحاضرين في الصحف فزلق فسقط في الماء فضحك المنصور وأمر بإخراجه وقد كاد البرد أن يأتي عليه فخلع عليه وأدنى مجلسه وقال له هل حضرك شيء فقال
( كانا في الزمان عجيبة ... ضرط ابن وهب ثم وقعة صاعد )
فاستبرد ما أتى به فقال أبو مروان الكاتب الجزيري هلا قلت
( سروري بغرتك المشرقه ... وديمة راحتك المغدقه )
( ثناني نشوان حتى غرقت ... في لجة البركة المطبقه )
( لئن ظل عبدك فيها الغريق ... فجودك من قبلها أغرقه )
فقال له المنصور لله درك يا أبا مروان ! قسناك بأهل بغداد ففضلتهم فبمن نقيسك بعد انتهى
وقال في الذخيرة في ترجمة صاعد وفد على المنصور نجما من المشرق غرب ولسانا عن العرب أعرب وأراد المنصور أن يعفي به آثار أبي علي القالي فألفى سيفه كهاما وسحابه جهاما من رجل يتكلم بملء فيه ولا يوثق بكل ما يذره ولا ما يأتيه انتهى باختصار
وأصل صاعد من ديار الموصل وقال ارتجالا وقد عبث المنصور بترنجان
( لم أدر قبل ترنجان عبثت به ... أن الزمرد أغصان وأوراق )
( من طيبه سرق الأترج نكهته ... يا قوم حتى من الأشجار سراق )
( كأنما الحاجب المنصور علمه ... فعل الجميل فطابت منه أخلاق )
وقدمه الحجاري بقوله
( كأن إبريقنا والراح في فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار )
وقبله
( وقهوة من فم الإبريق صافية ... كدمع مفجوعة بالإلف معبار )
وقال في بدائع البدائه دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب فملأ الساقي قدحا من إبريق فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكونت ولم تقطر فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال
( وقهوة من فم الإبريق ساكبة ... ) البيتين
ثم قال بعدهما وإنما اهتدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين العلوي
( كأن ريح الروض لما أتت ... فتت علينا مسك عطار )
( كأنما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتا بمنقار ) انتهى

( من طيبه سرق الأترج نكهته ... يا قوم حتى من الأشجار سراق )
( كأنما الحاجب المنصور علمه ... فعل الجميل فطابت منه أخلاق )
وقدمه الحجاري بقوله
( كأن إبريقنا والراح في فمه ... طير تناول ياقوتا بمنقار )
وقبله
( وقهوة من فم الإبريق صافية ... كدمع مفجوعة بالإلف معبار )
وقال في بدائع البدائه دخل صاعد اللغوي على بعض أصحابه في مجلس شراب فملأ الساقي قدحا من إبريق فبقيت على فم الإبريق نقطة من الراح قد تكونت ولم تقطر فاقترح عليه الحاضرون وصف ذلك فقال
( وقهوة من فم الإبريق ساكبة ... ) البيتين
ثم قال بعدهما وإنما اهتدم صاعد قول الشريف أبي البركات علي بن الحسين العلوي
( كأن ريح الروض لما أتت ... فتت علينا مسك عطار )
( كأنما إبريقنا طائر ... يحمل ياقوتا بمنقار ) انتهى

ومن نظم صاعد
( قلت له والرقيب يعجله ... مودعا للفراق أين أنا )
( فمد كفا إلى ترائبه ... وقال سر وادعا فأنت هنا )
وقال صاعد لما أمر المنصور بن أبي عامر بمعارضة قصيدة لأبي نواس
( إني لأستحيي علاك ... من ارتجال القول فيه )
( من ليس يدرك بالروية ... كيف يدرك بالبديه )
وقال حاشد البغدادي في صاعد اللغوي وكان صاعد ينشدهما ويبكي ويقول ما هجيت بشيء أشد علي منهما
( إقبل هديت أبا العلاء نصيحتي ... بقبولها وبواجب الشكر )
( لا تهجون أسن منك فربما ... تهجو أباك وأنت لا تدري )
نعوذ بالله من لسان الشعراء وأنواع البلاء بجاه نبينا محمد
ومن نظم صاعد قوله
( بعثت إليك من خيري روض ... مكرمة كأوراق العقيق )
( توكل بالغروب عن التصابي ... وتصطاد الخليع من الطريق )
وروى صاعد عن القاضي أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي وأبي علي

الحسن بن أحمد الفارسي وأبي بكر بن مالك القطيعي وأبي سليمان الخطابي وغيرهم
قال الحميدي خرج من الأندلس في الفتنة وقصد صقلية فمات بها قريبا من سنة عشر وأربعمائة
وقال ابن حزم توفي بصقلية سنة سبع عشرة وأربعمائة
وقال ابن بشكوال في حقه إنه يتهم بالكذب وقلة الصدق فيما يورده عفا الله تعالى عنه ! وقدم الأندلس من مصر أيام المؤيد وتحكم المنصور بن أبي عامر في حدود سنة 380 فأكرمه المنصور وزاد في الإحسان إليه والإفضال عليه وكان عالما باللغة والآداب والأخبار سريع الجواب حسن الشعر طيب المعاشرة فكه المجالسة
وقال بعضهم دخل صاعد على المنصور وعنده كتاب ورد عليه من عامل له في بعض الجهات اسمه مبرمان بن يزيد يذكر فيه القلب والتزبيل وهما عندهم اسم الأرض قبل زراعتها فقال له يا أبا العلاء قال لبيك يا مولانا فقال هل رأيت أو وصل إليك من الكتب القوالبة والزوالبة لمبرمان ابن يزيد قال إي والله ببغداد في نسخة لأبي بكر ابن دريد بخط ككراع النمل في جوانبها علامات الوضاع فقال له أما تستحيي أبا العلاء من هذا الكذب هذا كتاب عاملي ببلد كذا واسمه كذا يذكر فيه كذا فجعل يحلف له أنه ما كذب ولكنه أمر وافق ومات عن سن عالية رحمه الله تعالى

60 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق الشيخ تاج الدين بن حمويه السرخسي ولد سنة 572 وقد ذكر في رحلته عجائب شاهدها بالمغرب ومشايخ لقيهم فمنهم الحافظ أبو محمد عبد الله بن سليمان بن داود بن حوط الله الأنصاري قال سمعت عليه سنة سبع وتسعين وخمسمائة الحديث وشيئا من تصانيف المغاربة وروى لنا عن الحافظ أبي إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم بن قرقول وولي ابن حوط الله المذكور قضاء غرناطة وأدرك ابن بشكوال وابن حبيش وابن حميد المرسي النحوي وأبا يزيد السهيلي صاحب الروض وغيرهم
ومن الشيوخ الذين لقيهم السرخسي المذكور بالمغرب الفقيه ابن أبي تميم قال وأنشدني
( إسمع أخي نصيحتي ... والنصح من محض الديانه )
( لا تقربن إلى الشهادة ... والوساطة والأمانه )
( تسلم من ان تعزى لزور ... فضول أو خيانه وذكر ) أنه أدرك الشيخ الولي العارف بالله سيدي أبا العباس أحمد بن جعفر الخزرجي السبتي صاحب الحالات والكرامات الظاهرة والطريقة الغريبة والأحوال العجيبة قال أدركته بمراكش سنة أربع وتسعين وخمسمائة وقد ناهز الثمانين ومهما حصل عنده مال فرقه في الحال وتركته في سنة ثمان وتسعين حيا يرزق انتهى
وولي الله السبتي قد ذكرت في غير هذا الموضع بعض أحواله فلتراجع في الباب الثامن من ترجمة لسان الدين بن الخطيب ومحله مقصود

لقضاء الحاجات وقد زرته مرارا عديدة سنة 1010
وقال لسان الدين في نفاضة الجراب كتبت عن السلطان الغني بالله محمد بن يوسف بن نصر ونحن بفاس يخاطب الضريح المقصود والمنهل المورود والمرعى المنتجع والخوان الذي يكفي الغرثى ويمرض المرضى ويقوت الزمنى ويتعداهم إلى أهل الجدة زعموا والغنى قبر ولي الله سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله به وجبر حالنا وأعاد علينا النعم ودفع عنا النقم
( يا ولي الإله أنت جواد ... وقصدنا إلى حماك المنيع )
( راعنا الدهر بالخطوب فجئنا ... نرتجي من علاك حسن الصنيع )
( فمددنا لك الأكف نرجي عودة العز تحت شمل جميع )
( قد جعلنا وسيلة تربك الزا كي ... وزلفى إلى العليم السميع )
( كم غريب أسرى إليك فوافى ... برضا عاجل وخير سريع )
يا ولي الله الذي جعل جاهه سببا لقضاء الحاجات ورفع الأزمات وتصريفه باقيا بعد الممات وصدق لقول الحكايات ظهور الآيات نفعني الله بنيتي في بركة تربك وأظهر علي أثر توسلي بك إلى الله ربك مزق شملي وفرق بيني وبين أهلي وتعدي علي وصرفت وجوه المكايد إلي حتى أخرجت من وطني وبلدي ومالي وولدي ومحل جهادي وحقي الذي صار لي طوعا عن آبائي وأجدادي عن بيعة لم يحل عقدتها الدين ولا ثبوت جرحة تشين وأنا قد قرعت باب الله سبحانه بتأميلك فالتمس لي قبوله بقبولك وردني إلى وطني على أفضل حال وأظهر علي كرامتك التي تشد إليها ظهور الرحال فقد جعلت وسيلتي إليك رسول الحق إلى جميع الخلق والسلام عليك أيها الولي الكريم الذي يأمن به الخائف وينتصف الغريم ورحمة الله
انتهى رجع والسرخسي المذكور قال في حقه بعض الأئمة إنه الشيخ الإمام

شيخ الشيوخ تاج الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن علي بن محمد بن حمويه له رحلة مغربية انتهى
وهو من بيت كبير وقال البدري في تاريخه في حقه ما صورته تاج الدين شيخ الشيوخ بدمشق أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين له كتاب في ثماني مجلدات ذكر فيه أصول الأشياء وله السياسة الملوكية صنفها للملك الكامل محمد وغير ذلك وسمع الحديث وحفظ القرآن وكان قد بلغ الثمانين وقيل لم يبلغها وقد سافر إلى بلاد المغرب سنة ثلاث وتسعين واتصل بمراكش عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فأقام هنالك إلى سنة ستمائة وقدم مصر وولي مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين ابن حمويه انتهى
وقال غيره إنه كان فاضلا متواضعا نزها حسن الاعتقاد قال أبو المظفر كان يحضر مجالسي وأنشدني يوما
( لم ألق مستكبرا إلا تحول لي ... عند اللقاء له الكبر الذي فيه )
( ولا حلا لي من الدنيا ولذتها ... إلا مقابلتي للتيه بالتيه )
وقال السرخسي المذكور في رحلته إني وإن كنت خراساني الطينة لكني شامي المدينة وإن كانت العمومة من المشرق فإن الخؤولة من المغرب فحدث باعث يدعو إلى الحركات والأسفار ومشاهدة الغرائب في النواحي والأقطار وذلك في حال ريعان الشباب الذي تعضده عزائم النفوس بنشاطها والجوارح بخفة حركاتها وانبساطها فخرجت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة إلى زيارة البيت المقدس وتجديد العهد ببركاته واغتنام الأجر في حلول بقاعه ومزاراته ثم سرت منه إلى الديار المصرية وهي آهلة بكل ما تتجمل به البلاد وتزدهي وينتهي وصف الواصف لشؤونها ولا تنتهي ثم دخلت الغرب من الإسكندرية في البحر ودخلت مدينة مراكش أيام السيد الإمام أمير المؤمنين

أبي يوسف يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي فاتصلت بخدمته والذي علمت من حاله أنه كان يجيد حفظ القرآن ويحفظ متون الأحاديث ويتقنها ويتكلم في الفقه كلاما بليغا وكان فقهاء الوقت يرجعون إليه في الفتاوى وله فتاوى مجموعة حسبما أدى إليه اجتهاده وكان الفقهاء ينسبونه إلى مذهب الظاهر وقد شرحت أحوال سيرته وما جرى في أيام دولته في كتاب التاريخ المسمى عطف الذيل وقد صنف كتابا جمع فيه متون أحاديث صحاح تتعلق بها العبادات سماه الترغيب وتهدده ملك الإفرنج ألفنش في كتابه فمزقه وقال لرسوله ( ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ) [ النمل37 ] إن شاء الله تعالى ثم قال للكاتب اكتب على هذه القطعة يعني من كتابه الذي مزقه الجواب ما ترى لا ما تسمع
( فلا كتب إلا المشرفية والقنا ... ولا رسل إلا الخميس العرمرم )
ومن شعره أبيات كتب بها إلى العرب وهي
( يا أيها الراكب المزجي مطيته ... على عذافرة تشقى بها الأكم )
( بلغ سليما على بعد الديار بها ... بيني وبينكم الرحمن والرحم )
( يا قومنا لا تشبوا الحرب إن خمدت ... واستمسكوا بعرى الإيمان واعتصموا )
( كم جرب الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون فبادت دونها الأمم )
( حاشا الأعارب أن ترضى بمنقصة ... يا ليت شعري هل ترآهم علموا )
( يقودهم أرمني لا خلاق له ... كأنه بينهم من جهلهم علم ) يعني بالأرمني قراقوش مملوك بني أيوب الذي كان ذهب إلى بلاد الغرب

الأدنى وأوقد النار الحربية من طرابلس إلى تونس مع ابن غانية اللمتوني وحديثه مشهور وتمام الأبيات
( الله يعلم أني ما دعوتكم ... دعاء ذي قوة يوما فينتقم )
( ولا لجأت لأمر يستعان به ... من الأمور وهذا الخلق قد علموا )
( لكن لأجزي رسول الله عن نسب ... ينمى إليه وترعى تلكم الذمم )
( فإن أتيتم فحبل الوصل متصل ... وإن أبيتم فعند السيف نحتكم )
ثم قال السرخسي وبلغني أن قوما من الغرباء قصدوه ومعهم حيوانات معلمة منها أسد وغراب أما الأسد فيقصده من دون أهل المجلس ويربض بين يديه وربما أومأ بالسجود ومد ذراعيه وأما الغراب فكان يقول النصر والتمكين لسيدنا أمير المؤمنين وفي ذلك يقول بعض الشعراء
( أنس الشبل ابتهاجا بالأسد ... ورأى شبه أبيه فقصد )
( أنطق الخالق مخلوقاته ... شهدوا والكل بالحق شهد )
( أنك الخيرة من صفوته ... بعد ما طال على الناس الأمد )
فأعطاهم وكساهم وأحسن حباهم
وبلغني أن قوما أتوه بفيل من بلاد السودان هدية فأمر لهم بصلة ولم يقبله منهم وقال نحن لا نريد أن نكون أصحاب الفيل
وقال لي يوما كيف ترى هذه البلاد وأين هي من بلادك الشامية فقلت يا سيدنا بلادكم حسنة أنيقة مجملة مكملة وفيها عيب واحد فقال ما هو فقلت أنها تنسي الأوطان فتبسم وظهر لي إعجابه

بالجواب وأمر لي من غد بزيادة رتبة وإحسان
وحدثني بعض عمالهم أنه فرق على الجند والأمراء والفقراء في عيد سنة أربع وتسعين ثلاثة وسبعين ألف شاة من ضأن ومعز ودرج إلى رحمة الله تعالى سنة خمس وتسعين وخمسمائة وكان قد استخلف ولده محمدا وقرر الأمر له انتهى
قلت بهذا وأمثاله تعلم فساد ما زعمه غير واحد أن يعقوب المنصور هذا تخلى عن الملك وفر زهدا فيه إلى المشرق وأنه دفن بالبقاع لأن هذه مقالة عامية لا يثبتها علماء المغرب وسبب هذه المقالة تولع العامة به فكذبوا في موته وقالوا إنه ترك الملك وحكوا ما شاع إلى الآن وذاع مما ليس له أصل
ويرحم الله تعالى الإمام العلامة القاضي الشريف الغرناطي شارح الخزرجية إذ قال في شرح مقصورة حازم عند ذكره وقعة الأرك ما معناه إن بعض الناس يزعمون أن المنصور ترك الملك وذهب إلى المشرق وهذا كلام لا يصح ولا أصل
له انتهى
وقال في المغرب كان أبوه يوسف قد استوزره في حياته وتخرج بين يديه وتمرس وهزم الفرنج الهزيمة العظيمة وتولع بالعلم حتى نفى التقليد وحرق كتب المذاهب وقتل على السكر انتهى
وحكى لسان الدين الوزير ابن الخطيب في شرح كتابه رقم الحلل في نظم الدول أن المنصور طلب من بعض أعيان دولته رجلين لتأديب ولده يكون أحدهما برا في عمله والآخر بحرا في علمه فجاءه بشخصين زعم أنهما على وفق مقترح المنصور فلما اختبرهما لم يجدهما كما وصف فكتب إلى الآتي بهما ( ظهر الفساد في البر والبحر ) [ الروم41 ] انتهى وناهيك

بهذا دلالة على قوة فطنته ومعرفته رحمه الله تعالى

رجع إلى أخبار السرخسي
وقال في رحلته لما ذكر السيد أبا الربيع سليمان بن عبد الله ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي وكان في تلك المدة يلي مدينة سجلماسة وأعمالها اجتمعت به حين قدم إلى مراكش بعد وفاة المنصور يعقوب لمبايعة ولده محمد فرأيته شيخا بهي المنظر حسن المخبر فصيح العبارة باللغتين العربية والبربرية ومن كلامه في جواب رسالة إلى ملك السودان بغانة ينكر عليه تعويق التجار قوله نحن نتجاور بالإحسان وإن تخالفنا في الأديان ونتفق على السيرة المرضية ونتألف على الرفق بالرعية ومعلوم أن العدل من لوازم الملوك في حكم السياسة الفاضلة والجور لا تعانيه إلا النفوس الشريرة الجاهلة وقد بلغنا احتباس مساكين التجار ومنعهم من التصرف فيما هم بصدده وتردد الجلابة إلى البلد مفيد لسكانها ومعين على التمكن من استيطانها ولو شئنا لاحتبسنا من في جهاتنا من أهل تلك الناحية لكنا لا نستصوب فعله ولا ينبغي لنا أن ننهى عن خلق ونأتي مثله والسلام
ووقع إلى عامل له كثرت الشكاوى منه قد كثرت فيك الأقوال وإغضائي عنك رجاء أن تتيقظ فتنصلح الحال وفي مبادرتي إلى ظهور الإنكار عليك نسبة إلى شر الاختيار وعدم الاختبار فاحذر فإنك على شفا جرف هار
ومن شعره المشهور قصيدة يمدح فيها ابن عمه المنصور يعقوب

( هبت بنصركم الرياح الأربع ... وجرت بسعدكم النجوم الطلع )
( واستبشر الفلك الأثير تيقنا ... أن الأمور إلى مرادك ترجع )
( وأمدك الرحمن بالفتح الذي ... ملأ البسيطة نوره المتشعشع )
( لم لا وأنت بذلت في مرضاته ... نفسا تفديها الخلائق أجمع )
( ومضيت في نصر الإله مصمما ... بعزيمة كالسيف بل هي أقطع )
( لله جيشك والصوارم تنتضى ... والخيل تجري والأسنة تلمع )
( من كل من تقوى الإله سلاحه ... ما إن له غير التوكل مفزع )
( لا يسلمون إلى النوازل جارهم ... يوما إذا أضحى الجوار يضيع ) ومنها يصف انهزام العدو
( إن ظن أن فراره منج له ... فبجهله قد ظن ما لا ينفع )
( أين المفر ولا فرار لهارب ... والأرض تنشر في يديك وتجمع )
( أخليفة الله الرضى هنيته ... فتح يمد بما سواه ويشفع )
( فلقد كسوت الدين عزا شامخا ... ولبست منه أنت ما لا يخلع )
( هيهات سر الله أودع فيكم ... والله يعطي من يشاء ويمنع )
( لكم الهدى لا يدعيه سواكم ... ومن ادعاه يقول ما لا يسمع )
( إن قيل من خير الخلائق كلها ... فإليك يا يعقوب تومي الإصبع )
( إن كنت تتلو السابقين فإنما ... أنت المقدم والخلائق تبع )
( خذها أمير المؤمنين مديحة ... من قلب صدق لم يشنه تصنع )
( واسلم أمير المؤمنين لأمة ... أنت الملاذ لها وأنت المفزع )
( فالمدح مني في علاك طبيعة ... والمدح من غيري إليك تطبع )
( وعليك يا علم الهداة تحية ... يفنى الزمان وعرفها يتضوع )

قال لي الفقيه أبو عبد الله محمد القسطلاني دخلت إلى السيد أبي الربيع بقصر سجلماسة وبين يديه أنطاع عليها رؤوس الخوارج الذين قطعوا الطريق على السفار بين سجلماسة وغانة وهو ينكت الأرض بقضيب من الآبنوس ويقول
( ولا غرو أن كانت رؤوس عداته ... جوابا إذا كان السيوف رسائله )
ومات بعد الستمائة رحمه الله تعالى انتهى
وقال لما هجره أمير المؤمنين يعقوب المنصور ووافق ذلك أن وفد على حضرة الخلافة مراكش جمع من العرب والغز من بلاد المشرق ونزلوا بتمرتانسقت ظاهر مراكش واستأذنوا في وقت الدخول فكتب إلى المنصور
( يا كعبة الجود التي حجت لها ... عرب الشآم وغزها والديلم )
( طوبى لمن أمسى يطوف بها غدا ... ويحل بالبيت الحرام ويحرم )
( ومن العجائب أن يفوز بنظرة ... من بالشآم ومن بمكة يحرم )
فعفا عنه وأحسن إليه وأمره بالدخول بهم والتقدم عليهم 370 حديث لأبي سعيد صاحب المغرب عن أبي الربيع سليمان بن عبد المؤمن وقال في المغرب في حق السيد أبي الربيع المذكور ما ملخصه لم يكن في بني عبد المؤمن مثله في هذا الشأن الذي نحن بصدده وكان تقدم على مملكتي سجلماسة وبجاية وكان كاتبا شاعرا أديبا ماهرا وشعره مدون وله ألغاز

وهو القائل في جارية حارية اسمها ألوف
( قولا أين قلبي ومن به ... وكيف بقاء المرء من بعد قلبه )
( ولو شئتما اسم الذي قد هويته ... لصحفتما أمري لكم بعد قلبه ) وله الأبيات المشهورة التي منها
( أقول لركب أدلجوا بسحيرة ... قفوا ساعة حتى أزور ركابها )
( وأملأ عيني من محاسن وجهها ... وأشكو إليها أن أطالت عتابها )
( فإن هي جادت بالوصال وأنعمت ... وإلا فحسبي أن رأيت قبابها )
وقال يخاطب ابن عمه يعقوب المنصور
( فلأملأن الخافقين بذكركم ... ما دمت حيا ناظما ومرسلا )
( ولأبذلن نصحي لكم جهدي وذا ... جهد المقل وما عسى أن أفعلا )
( ولأخلصن لك الدعاء وما أنا ... أهل له ولعله أن يقبلا )
وله مختصر كتاب الأغاني انتهى
رجع وذكر السرخسي أيضا في رحلته السيد أبا الحسن علي بن عمر ابن أمير المؤمنين عبد المؤمن وقال في حقه إنه كان من أهل الأدب والطرب ولي بجاية مدة ثم عزل عنها لإهماله وإغفاله وانهماكه في ملاذه أنشدني محمد بن سعيد المهدوي كاتبه قال كتب الأمير أبو الحسن إلى أمير المؤمنين يعقوب يمدحه ويستزيده ويطلب منه ما يقضي به ديونه

( وجوه الأماني بكم مسفره ... وضاحكة لي مستبشره )
( ولي أمل فيكم صادق ... قريب عسى الله أن يسره )
( علي ديون وتصحيفها ... وعندكم الجود والمغفره )
يعني ذنوب
وحدثني الشيخ أبو الحسن ابن فشتال الكاتب وقد أنشدته
( أوحشتني ولو اطلعت على الذي ... لك في ضميري لم تكن لي موحشا ) فقال أنشدته هذا البيت في مجلس السيد أبي الحسن فقال لي ولمن حضر هل تعرفون لهذا البيت ثانيا فما فينا من عرفه فأنشدنا
( أترى رشيت على اطراح مودتي ... ولقد عهدتك ليس تثنيك الرشا ) أوحشتني - البيت انتهى
وقال في المغرب في حق السيد المذكور ما ملخصه كان هذا السيد أبو الحسن قد ولي مملكة تلمسان وبجاية وله حكايات في الجود برمكية ونفس عالية زكية كتب إليه السيد أبو الربيع يوم جمعة
( اليوم يوم الجمعه ... يوم سرور ودعه )
( وشملنا مفترق فهل ترى أن نجمعه )
فأجابه بقوله
( اليوم يوم الجمعه ... وربنا قد رفعه )
( والشرب فيه بدعة ... فهل ترى أن ندعه )
قال ولفظة السيد في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلا على بني عبد المؤمن بن علي انتهى
رجع قال السرخسي وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره
( ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم ... وترجو نداهم غاديات السحائب )
( يخطون بالخطي في حومة الوغى ... سطور المنايا في نحور المقانب )
( كتابا بأطراف العوالي ونقسه ... دم القلب مشكولا بنضح الترائب )
( وما كنت أدري قبلهم أن معشرا ... أقاموا كتابا من نفوس الكتائب ) وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن يكيت قال أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن
( فديت من أصبحت في أسره وليس لي من حكمه فادي )
( إن حل يوما واديا كان لي ... جنة عدن ذلك الوادي )
ثم ذكر رحمه الله تعالى جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى
( يا ساهر المقلة لا عن كرى ... غفلت عن هجعي وأوصابي )
( لو لم يكن وجهك لي قبلة ... ما أصبح الحاجب محرابي ) وكان متفننا في العلوم وهو عم الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته ومن مصنفاته المسالك والممالك وعطف الذيل في التاريخ وله أمال وتخاريج وقدمه المنصور صاحب المغرب على جماعة وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع وكان عالي الهمة

قال ولفظة السيد في المغرب بذلك العصر لا تطلق إلا على بني عبد المؤمن بن علي انتهى
رجع قال السرخسي وقد ذكر في الرحلة المذكورة السيد أبا محمد عبد الله صاحب فاس وله من أبيات في الفخر وقد انتحلها غيره
( ألست ابن من تخشى الليالي انتقامهم ... وترجو نداهم غاديات السحائب )
( يخطون بالخطي في حومة الوغى ... سطور المنايا في نحور المقانب )
( كتابا بأطراف العوالي ونقسه ... دم القلب مشكولا بنضح الترائب )
( وما كنت أدري قبلهم أن معشرا ... أقاموا كتابا من نفوس الكتائب ) وأنشدني المقدم الأمير أبو زيد بن يكيت قال أنشدني بعض السادة من بني عبد المؤمن
( فديت من أصبحت في أسره وليس لي من حكمه فادي )
( إن حل يوما واديا كان لي ... جنة عدن ذلك الوادي )
ثم ذكر رحمه الله تعالى جملة من علماء الأندلس والمغرب لقيهم في هذه الرحلة ومن نظم السرخسي المذكور قوله رحمه الله تعالى
( يا ساهر المقلة لا عن كرى ... غفلت عن هجعي وأوصابي )
( لو لم يكن وجهك لي قبلة ... ما أصبح الحاجب محرابي ) وكان متفننا في العلوم وهو عم الأمراء الوزراء الرؤساء فخر الدين وإخوته ومن مصنفاته المسالك والممالك وعطف الذيل في التاريخ وله أمال وتخاريج وقدمه المنصور صاحب المغرب على جماعة وتوفي رحمه الله تعالى بدمشق ودفن في مقابر الصوفية عند المنيبع وكان عالي الهمة

حذف

شريف النفس قليل الطمع لا يلتفت إلى أحد رغبة في دنياه لا من أهله ولا من غيرهم وذكره صاحب المرآة وغيره وترجمته واسعة رحمه الله تعالى
61 - ومن الوافدين على الأندلس ظفر البغدادي سكن قرطبة وكان من رؤساء الوراقين المعروفين بالضبط وحسن الخط كعباس بن عمرو الصقلي ويوسف البلوطي وطبقتهما واستخدمه الحكم المستنصر بالله في الوراقة لما علم من شدة اعتناء الحكم بجمع الكتب واقتنائها وقد أشار ابن حيان في كتاب المقتبس إلى ظفر هذا رحمه الله تعالى ! محمد بن موسى الكناني 372 محمد بن موسى الكناني 62 - ومنهم الرازي وهو محمد بن موسى بن بشير بن جناد بن لقيط الكناني الرازي والد أبي بكر أحمد بن محمد صاحب التاريخ غلب عليه اسم بلده وكان يفد من المشرق على ملوك بني مروان تاجرا وكان مع ذلك متقنا في العلوم وهلك منصرفه من الوفادة على الأمير المنذر بن محمد بإلبيرة في شهر ربيع الآخر سنة 273 ذكره ابن حيان في المقتبس الوزير 63 - ومنهم الوزير أبو الفضل محمد بن عبد الواحد بن عبد العزيز ابن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان التميمي الدارمي البغدادي
سمع من أبي طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص

وغيره وخرج من بغداد رسولا عن أمير المؤمنين القائم بأمر الله العباسي رضي الله تعالى عنه إلى صاحب إفريقية المعز بن باديس واجتمع مع أبي العلاء المعري بالمعرة وأنشده قصيدة لامية يمدح بها صاحب حلب فقبل عينيه وقال له لله أنت من ناظم وخرج من إفريقية من أجل فتنة العرب وخيم عند المأمون بن ذي النون بطليطلة وله فيه أمداح كثيرة ومن فرائد شعره قوله
( يا ليل ألا انجليت عن فلق ... طلت ولا صبر لي على الأرق )
( جفت لحاظي التغميض فيك فما ... تطبق أجفانها على الحدق )
( كأنني صورة ممثلة ... ناظرها الدهر غير منطبق )
وقال
( يزرع وردا ناضرا ناظري ... في وجنة كالقمر الطالع )
( أمنع أن أقطف أزهاره ... في سنة المتبوع والتابع )
( فلم منعتم شفتي قطفها ... والحكم أن الزرع للزارع )
هكذا نسبها له غير واحد كابن سعيد وابن كتيلة وبعضهم ينسبها للقاضي عبد الوهاب قلت وقد أجاب عنها بعض المغاربة بقوله
( سلمت أن الحكم ما قلتم ... وهو الذي نص عن الشارع )

( فكيف تبغي شفة قطفه ... وغيرها المدعو بالزارع )
ورده شيخ شيوخ شيوخنا الإمام الحافظ أبو عبد الله التنسي ثم التلمساني بقوله
( في ذا الذي قد قلتم مبحث ... إذ فيه إيهام على السامع )
( سلمتم الحكم له مطلقا ... وغير ذا نص عن الشارع )
يعني أنه يلزم على قول المجيب أن يباح له النظر مطلقا والشرع خلافه
وأجاب بعض الحنفية بقوله
( لأن أهل الحب في حكمنا ... عبيدنا في شرعنا الواسع )
( والعبد لا ملك له عندنا ... فحقه للسيد المانع )
وهو جواب حسن لا بأس به ورأيت جوابا لبعض المغاربة على غير رويه وهو
( قل لأبي الفضل الوزير الذي ... باهى به مغربنا الشرق )
( غرست ظلما وأردت الجنى ... وما لعرق ظالم حق )
قلت وهذا مما يعين أن الأبيات لأبي الفضل الدارمي المذكور في الذخيرة لا للقاضي عبد الوهاب والله تعالى أعلم
ومن شعر الوزير المذكور قوله
( بين كريمين منزل واسع ... والود حال تقرب الشاسع )
( والبيت إن ضاق عن ثمانية ... متسع بالوداد للتاسع )
وولد رحمه الله تعالى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وهو من بيت علم وأدب قال الحميدي أخبرني بذلك أبو عمر رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز

ابن الحارث وتوفي بطليطلة سنة أربع وخمسين وأربعمائة وقال ابن حيان توفي ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة خلت من شوال سنة خمس وخمسين وأربعمائة في كنف المأمون يحيى بن ذي النون وذكر أنه كان يتهم بالكذب فالله تعالى أعلم بحقيقة الأمر
وقال ابن ظافر في كتابه بدائع البدائه ما نصه حضر أبو الفضل الدارمي البغدادي مجلس المعز بن باديس وبالمجلس ساق وسيم قد مسك عذاره ورد خديه وعجزت الراح أن تفعل في الندامى فعل عينيه فأمره المعز بوصفه فقال بديها
( ومعذر نقش الجمال بمسكه ... خدا له بدم القلوب مضرجا )
( لما تيقن أن سيف جفونه ... من نرجس جعل العذار بنفسجا )
وقوله في جارية تبخرت بالند ومحطوطة والمتنين مهضومة الحشا ... منعمة الأرداف تدمى من اللمس )
( إذا ما دخان الند من جيبها علا ... على وجهها أبصرت غيما على شمس )
وقوله لأغررن بمهجتي في حبه ... غررا يطيل مع الخطوب خطابي )
( ولئن تعزز إن عندي ذلة ... تستعطف الأعداء للأحباب )
وقوله

( دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء يكرر في كل ساعه )
( ولولا وحقك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعا وطاعه )
وقد تمثل بهذين البيتين لسان الدين بن الخطيب في خطبة تأليفه المسمى ب روضة التعريف بالحب الشريف
وقال أبو الفضل الدارمي المذكور أيضا
( سطا الفراق عليهم غفلة فغدوا ... من جوره فرقا من شدة الفرق )
( فسرت شرقا وأشواقي مغربة ... يا بعد ما نزحت عن طرقهم طرقي )
( لولا تدارك دمعي يوم كاظمة ... لأحرق الركب ما أبديت من حرق )
( يا سارق القلب جهرا غير مكترث ... أمنت في الحب أن تعدى على السرق )
( أرمق بعين الرضى تنعش بعاطفة ... قبل المنية ما أبقيت من رمقي )
( لم يبق مني سوى لفظ يبوح بما ... ألقى فيا عجبا للفظ كيف بقي )
( صلني إذا شئت أو فاهجر علانية ... فكل ذلك محمول على الحدق ) وقال
( تذكر نجدا والحمى فبكى وجدا ... وقال سقى الله الحمى وسقى نجدا )
( وحيته أنفاس الخزامى عشية ... فهاجت إلى الوجد القديم به وجدا )
( فأظهر سلوانا وأضمر لوعة ... إذا طفئت نيرانها وقدت وقدا )
( ولو أنه أعطى الصبابة حكمها ... لأبدى الذي أخفى وأخفى الذي أبدى )

وقال أيضا
( قلت للملقي على الخدين ... من ورد خمارا )
( أسبل الصدغ على خدك ... من مسك عذارا )
( أم أعان الليل حتى ... قهر الليل النهارا )
( قال ميدان جرى الحسن ... عليه فاستدارا )
( ركضت فيه عيون ... فأثارته غبارا ) وقال
( وكاتب أهديت نفسي له ... فهي من السوء فدا نفسه ) فلست أدري بعد ما حل بي بمسكه أتلف أم نقسه سلط خديه على مهجتي فاستأصلتها وهي من غرسه وقال
( وشادن أسرف في صده ... وزاد في التيه على عبده )
( الحسن قد بث على خده ... بنفسجا يزهو على ورده )
( رأيته يكتب في طرسه ... خطا يباري الدر من عقده )
( فخلت ما قد خطه كفه ... للحسن قد خط على خده ) وقال
( إني عشقت صغيرا ... قد دب فيه الجمال )
( وكاد يغشى حديث الفضول ... منه الدلال )
( لو مر في طرق الهجر ... لاعتراه ضلال ) 117
( يريك بدرا منيرا ... في الحسن وهو هلال ) وقال
( ظبي إذا حرك أصداغه ... لم يلتفت خلق إلى العطر )
( غنى بشعري منشدا ليتني اللفظ ... الذي أودعته شعري )
( فكلما كرر إنشاده ... قبلته فيه ولم يدر ) وقال
( أينفع قولي إنني لا أحبه ... ودمعي بما يمليه وجدي يكتب )
( إذا قلت للواشين لست بعاشق ... يقول لهم فيض المدامع يكذب )
وقال
( وهبني قد أنكرت حبك جملة ... وآليت أني لا أروم محطها )
( فمن أين لي في الحب جرح شهادة ... سقامي أملاها ودمعي خطها ) وقال
( أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ينشط ... من حبه عقال وثاقي )
( فأريح الفؤاد مما اعتراه ... وأرد الهوى على العشاق )
وقال
( كلانا لعمري ذائبان من الهوى ... فنارك من جمر وناري من هجر )
( فأنت على ما قد تقاسين من أذى ... فصدرك في نار وناري في صدري )

( يريك بدرا منيرا ... في الحسن وهو هلال ) وقال
( ظبي إذا حرك أصداغه ... لم يلتفت خلق إلى العطر )
( غنى بشعري منشدا ليتني اللفظ ... الذي أودعته شعري )
( فكلما كرر إنشاده ... قبلته فيه ولم يدر ) وقال
( أينفع قولي إنني لا أحبه ... ودمعي بما يمليه وجدي يكتب )
( إذا قلت للواشين لست بعاشق ... يقول لهم فيض المدامع يكذب )
وقال
( وهبني قد أنكرت حبك جملة ... وآليت أني لا أروم محطها )
( فمن أين لي في الحب جرح شهادة ... سقامي أملاها ودمعي خطها ) وقال
( أنا أخشى إن دام ذا الهجر أن ينشط ... من حبه عقال وثاقي )
( فأريح الفؤاد مما اعتراه ... وأرد الهوى على العشاق )
وقال
( كلانا لعمري ذائبان من الهوى ... فنارك من جمر وناري من هجر )
( فأنت على ما قد تقاسين من أذى ... فصدرك في نار وناري في صدري )

وقال
( ومن عجب العشق أن القتيل ... يحن ويصبو إلى القاتل )
وقال ألم أجعل مثار النقع بحرا ... على أن الجياد له سفين ) وقال
( أصبحت أحلب تيسا لا مدر له ... والتيس من ظن أن التيس محلوب )
وأما الحكيم أبو محمد المصري وهو القائل
( رعى الله دهرا قد نعمنا بطيبه ... لياليه من شمس الكؤوس أصائل )
( ونرجسنا در على التبر جامد ... وخمرتنا تبر على الدر سائل )
فقد ترجمته في الذخيرة فليراجع فإن الذخيرة غريبة في البلاد المشرقية
وقد كان عندي بالمغرب من هذا النوع ما أستعين به فخلفته هنالك والله تعالى يلم الشمل
وقد ذكر فيها أنه مغربي سافر إلى مصر فقيل له المصري لذلك فليعلم والله تعالى أعلم
64 - ومن الوافدين على الأندلس أشهب بن العضد الخراساني قال ابن سعيد أنشدنا لما وفد على ابن هود في إشبيلية قصيدة ابن النبيه
( طاب الصبوح لنا فهاك وهات ... وادعاها وفيها في روضة غنا تخال طيورها ... وغصونها همزا على ألفات )
ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه انتهى
65 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك وهو مذكور في الذخيرة وكان حلو الجواب مليح التندر يضحك من حضر ولا يضحك هو إذا ندر وكان قصيرا دميما
قال ورأيته يوما وقد لبس طاقا أحمر على بياض وفي رأسه طرطور أخضر عمم عليه عمة لازوردية وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعرا قال فيه
( وأنت سليمان في ملكه ... وبين يديك أنا الهدهد )
وأنشد له في المعتمد
( أبا القاسم الملك المعظم قدره ... سواك من الأملاك ليس يعظم )
( لقد أصبحت حمص يعدلك جنة ... وقد أبعدت عن ساكنيها جهنم )
( ولي حياك الريع عاما وأشهر ... وإنني أزخرف أعلام الثناء وأرقم )
( وأنفقت ما أعطيتني ثقة بما ... أؤمل فالدينار عندي درهم )
( وقلبي إلى بغداد يصبو وإنني ... لنشر صباها دائما أتنسم )
وقال
( وذرى على ربع العقيق دموعه ... عقيقا ففيها توأم وفريد )
( شهدت وما تغني شهادة عاشق ... بأن قتيل الغانيات شهيد ) ومنها

في روضة غنا تخال طيورها ... وغصونها همزا على ألفات )
ولم أجد هذا البيت في قصيدة ابن النبيه انتهى
65 - ومن الوافدين على الأندلس من المشرق أبو الحسن البغدادي الفكيك وهو مذكور في الذخيرة وكان حلو الجواب مليح التندر يضحك من حضر ولا يضحك هو إذا ندر وكان قصيرا دميما
قال ورأيته يوما وقد لبس طاقا أحمر على بياض وفي رأسه طرطور أخضر عمم عليه عمة لازوردية وهو بين يدي المعتمد بن عباد ينشد شعرا قال فيه
( وأنت سليمان في ملكه ... وبين يديك أنا الهدهد )
وأنشد له في المعتمد
( أبا القاسم الملك المعظم قدره ... سواك من الأملاك ليس يعظم )
( لقد أصبحت حمص يعدلك جنة ... وقد أبعدت عن ساكنيها جهنم )
( ولي حياك الريع عاما وأشهر ... وإنني أزخرف أعلام الثناء وأرقم )
( وأنفقت ما أعطيتني ثقة بما ... أؤمل فالدينار عندي درهم )
( وقلبي إلى بغداد يصبو وإنني ... لنشر صباها دائما أتنسم )
وقال
( وذرى على ربع العقيق دموعه ... عقيقا ففيها توأم وفريد )
( شهدت وما تغني شهادة عاشق ... بأن قتيل الغانيات شهيد ) ومنها

( إذا قابلوه قبلوا ترب أرضه ... وهم لعلاه ركع وسجود )
( وقد هز منه الله للملك صارما ... تقام بحدي شفرتيه حدود ) وقال
( لأية حال حال عن سنة الكرى ... ولم أصغ يوما في هواه إلى العذل ) ومنها
( كأن بقاء الطل فوق جفونها ... دموع التصابي حرن في الأعين النجل )
ومنها
( تملكت رقي بالعوارف منعما ... وأغنيتني بالجود عن كل ذي فضل ) وأنسيتني أرض العراق ودجلة وربعي حتى ما أحن إلى أهلي ) وقال في المقتدر بن هود
( لعزك ذلت ملوك البشر ... وعفرت تيجانهم في العفر )
( وأصبحت أخطرهم بالقنا ... وأركبهم لجواد الخطر )
( سهرت وناموا غن المأثرات ... فما لهم في المعالي أثر )
( وجليت في حيث صلى الملوك ... فكل بذيل المنى قد عثر ) ومنها
( وأنتم ملوك إذا شاجروا ... أظلتهم من قناهم شجر ) وقال الفكيك من قصيدة
( غنى حسامك في أرجاء قرطبة ... صوتا أباد العدى والليل معتكر )
( حيث الدماء مدام والقنا زهر ... والقوم صرعى بكأس الحتف قد سكروا )

وكان مشهورا بالهجاء وله في نقيب بغداد وكانت في عنقه غدة
( بلغ الأمانة فهي في حلقومه ... لا ترتقي صعدا ولا تتنزل )
وقال في ناصر الدولة بن حمدان
( ولئن غلطت بأن مدحتك طالبا ... جدواك مع علمي بأنك باخل )
( فالدولة الغراء قد غلطت بأن ... سمتك ناصرها وأنت الخاذل )
( إن تم أمرك مع يد لك أصبحت ... شلاء فالأمثال شيء باطل )
ومما ينسب إليه وقيل لغيره
( ووعدتني وعدا حسبتك صادقا ... فجعلت من طمعي أجيء وأذهب )
( فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب )
66 - ومنهم إبراهيم بن سليمان الشامي دخل الأندلس من المشرق في أخريات أيام الحكم شاديا للشعر وهو من موالي بني أمية ولم ينفق على الحكم وتحرك في أيام ولده الأمير عبد الرحمن فنفق عليه ووصله ثم في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن وكان أدرك بالمشرق كبار المحدثين كأبي نواس وأبي العتاهية
ومن شعره ما كتب به إلى الأمير عبد الرحمن
( يا من تعالى من أمية في الذرى ... قدما فأصبح عالي الأركان )
( إن الغمام غياثه في وقته ... والغيث من كفيك كل أوان )
( فالغيث قد عم البلاد وأهلها ... وظمئت بينهم فبل لساني ) وله في الأمير عبد الرحمن بن الحكم
( ومن عبد شمس بالمغارب عصبة ... فأسعدها الرحمن حيث أحلها )
( دحا تحتها مهدا من العز آمنا ... ومد جناحا فوقها فأظلها )

67 - ومنهم أبو بكر ابن الأزرق وهو محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حامد بن موسى بن العباس بن محمد بن يزيد وهو الحصني ابن محمد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان من أهل مصر خرج من مصر سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة وصار إلى القيروان وامتحن بها مع الشيعة وأقام محبوسا بالمهدية ثم أطلق ووصل الأندلس سنة تسع وأربعين فأحسن إليه المستنصر بالله الحكم وكان أديبا حكيما سمع من خاله أبي بكر أحمد بن مسعود الزهري وولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة بمصر وتوفي بقرطبة في ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة رحمه الله تعالى
68 - ومن الواردين على الأندلس من المشرق رئيس المغنين أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب مولى أمير المؤمنين المهدي العباسي
قال في المقتبس زرياب لقب غلب عليه ببلاده من أجل سواد لونه مع فصاحة لسانه وحلاوة شمائله شبه بطائر أسود غرد عندهم وكان شاعرا مطبوعا وكان ابنه أحمد قد غلب عليه الشعر أيضا وكان من خبره في الوصول إلى الأندلس أنه كان تلميذا لإسحاق الموصلي ببغداد فتلقف من أغانيه استراقا وهدي من فهم الصناعة وصدق العقل مع طيب الصوت وصورة الطبع إلى ما فاق به إسحاق وإسحاق لا يشعر بما فتح عليه إلى أن جرى للرشيد مع إسحاق خبره المشهور في الاقتراح عليه بمغن غريب مجيد للصنعة لم يشتهر مكانه إليه فذكر له تلميذه هذا وقال إنه مولى لكم وسمعت له نزعات حسنة ونغمات رائقة ملتاطة بالنفس إذا أنا وقفته على ما استغرب منها وهو من اختراعي واستنباط فكري أحدس أن يكون له شأن فقال الرشيد هذا طلبتي فأحضرنيه لعل حاجتي عنده فأحضره فلما كلمه الرشيد أعرب عن نفسه

بأحسن منطق وأوجز خطاب وسأله عن معرفته بالغناء فقال نعم أحسن منه ما يحسنه الناس وأكثر ما أحسنه لا يحسنونه مما لا يحسن إلا عندك ولا يدخر إلا لك فإن أذنت غنيتك ما لم تسمعه أذن قبلك فأمر بإحضار عود أستاذه إسحاق فلما أدني إليه وقف عن تناوله وقال لي عود نحته بيدي وأرهفته بإحكامي ولا أرتضي غيره وهو بالباب فليأذن لي أمير المؤمنين في استدعائه فأمر بإدخاله إليه فلما تأمله الرشيد وكان شبيها بالعود الذي دفعه قال له ما منعك أن تستعمل عود أستاذك فقال إن كان مولاي يرغب في غناء أستاذي غنيته بعوده وإن كان يرغب في غنائي فلا بد لي من عودي فقال له ما أراهما إلا واحدا فقال صدقت يا مولاي ولا يؤدي النظر غير ذلك ولكن عودي وإن كان في قدر جسم عوده ومن جنس خشبه فهو يقع من وزنه في الثلث أو نحوه وأوتاري من حرير لم يغزل بماء سخن يكسبها أناثة ورخاوة وبمها ومثلثها اتخذتهما من مصران شبل أسد فلها في الترنم والصفاء والجهارة والحدة أضعاف ما لغيرها من مصران سائر الحيوان ولها من قوة الصبر على تأثير وقع المضارب المتعاورة بها ما ليس لغيرها فاستبرع الرشيد وصفه وأمره بالغناء فحبس ثم اندفع فغناه
( يا أيها الملك الميمون طائره ... هارون راح إليك الناس وابتكروا ) فأتم النوبة وطار الرشيد طربا وقال لإسحاق والله لولا أني أعلم من صدقك لي على كتمانه إياك لما عنده وتصديقه لك من أنك لم تسمعه قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه فخذه إليك واعتن بشأنه حتى أفرغ له فإن لي فيه نظرا فسقط في يد إسحاق وهاج به من داء الحسد ما غلب صبره فخلا بزرياب وقال يا علي إن الحسد أقدم الأدواء وأدواها والدنيا فتانة والشركة في الصناعة عداوة ولا حيلة في حسمها وقد مكرت بي فيما انطويت عليه من إجادتك وعلو طبقتك وقصدت منفعتك

فإذا أنا قد أتيت نفسي من مأمنها بإدنائك وعن قليل تسقط منزلتي وترتقي أنت فوقي وهذا ما لا أصاحبك عليه ولو أنك ولدي ولولا رعيي لذمة تربيتك لما قدمت شيئا على أن أذهب نفسك يكون في ذلك ما كان فتخير في ثنتين لا بد لك منهما إما أن تذهب عني في الأرض العريضة لا أسمع لك خبرا بعد أن تعطيني على ذلك الأيمان الموثقة وأنهضك لذلك بما أردت من مال وغيره وإما أن تقيم على كرهي ورغمي مستهدفا إلي فخذ الآن حذرك مني فلست والله أبقي عليك ولا أدع اغتيالك باذلا في ذلك بدني ومالي فاقض قضاءك
فخرج زرياب لوقته وعلم قدرته على ما قال واختار الفرار قدامه فأعانه إسحاق على ذلك سريعا وراش جناحه فرحل عنه ومضى يبغي مغرب الشمس واستراح قلب إسحاق منه
وتذكره الرشيد بعد فراغه من شغل كان منغمسا فيه فأمر إسحاق بحضوره فقال ومن لي به يا أمير المؤمنين ذاك غلام مجنون يزعم أن الجن تكلمه وتطارحه ما يزهى به من غنائه فما يرى في الدنيا من يعدله وما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين وترك استعادته فقدر التقصير به والتهوين بصناعته فرحل مغاضبا ذاهبا على وجهه مستخفيا عني وقد صنع الله تعالى في ذلك لأمير المؤمنين فإنه كان به لمم يغشاه ويفرط خبطه فيفزع من رآه فسكن الرشيد إلى قول إسحاق وقال على ما كان به فقد فاتنا منه سرور كثير
ومضى زرياب إلى المغرب فنسي بالمشرق خبره إذ لم يكن اسمه شهر هنالك شهرته بالصقع الذي قطنه ونزعت إليه نفسه وسمت به همته فأم أمير الأندلس الحكم المباين لمواليه وخاطبه وذكر له نزاعه إليه واختياره إياه ويعلمه بمكانه من الصناعة التي ينتحلها ويسأله الإذن في الوصول إليه فسر الحكم بكتابه وأظهر له من الرغبة فيه والتطلع إليه وإجمال الموعد ما تمناه فسار زرياب نحوه بعياله وولده وركب بحر الزقاق إلى الجزيرة الخضراء فلم يزل بها حتى توالت عليه الأخبار بوفاة الحكم فهم بالرجوع إلى العدوة فكان معه منصور

اليهودي المغني رسول الحكم إليه فثناه عن ذلك ورغبه في قصد القائم مقام الحكم وهو عبد الرحمن ولده وكتب إليه بخبر زرياب فجاءه كتاب عبد الرحمن يذكر تطلعه إليه والسرور بقدومه عليه وكتب إلى عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة وأمر خصيا من أكابر خصيانه أن يتلقاه ببغال ذكور وإناث وآلات حسنة فدخل هو وأهله البلد ليلا صيانة للحرم وأنزله في دار من أحسن الدور وحمل إليها جميع ما يحتاج إليه وخلع عليه وبعد ثلاثة أيام استدعاه وكتب له في كل شهر بمائتي دينار راتبا وأن يجرى على بنيه الذين قدموا معه - وكانوا أربعة عبد الرحمن وجعفر وعبيد الله ويحيى عشرون دينارا لكل واحد منهم كل شهر وأن يجرى على زرياب من المعروف العام ثلاثة آلاف دينار منها لكل عيد ألف دينار ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار وأن يقطع له من الطعام العام ثلاثمائة مدي ثلثاها شعير وثلثها قمح وأقطعه من الدور والمستغلات بقرطبة وبساتينها ومن الضياع ما يقوم بأربعين ألف دينار
فلما قضى له سؤله وأنجز موعوده وعلم أن قد أرضاه وملك نفسه استدعاه فبدأ بمجالسته على النبيذ وسماع غنائه فما هو إلا أن سمعه فاستهوله واطرح كل غناء سواه وأحبه حبا شديدا وقدمه على جميع المغنين وكان لما خلا به أكرمه غاية الإكرام وأدنى منزلته وبسط أمله وذاكره في أحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء فحرك منه بحرا زخر عليه مده فأعجب الأمير به وراقه ما أورده وحضر وقت الطعام فشرفه بالأكل معه هو وأكابر ولده ثم أمر كاتبه بأن يعقد له صكا بما ذكرناه آنفا ولما ملك قلبه واستولى عليه حبه فتح له بابا خاصا يستدعيه منه متى أراده
وذكر أن زريابا ادعى أن الجن كانت تعلمه كل ليلة ما بين نوبة إلى

صوت واحد كان يهب من نومه سريعا فيدعو بجاريتيه غزلان وهنيدة فتأخذان عودهما ويأخذ هو عوده فيطارحهما ليلته ويكتب الشعر ثم يعود عجلا إلى مضجعه وكذلك يحكى عن إبراهيم الموصلي في لحنه البديع المعروف بالماخوري أن الجن طارحته إياه والله تعالى أعلم بحقيقة ذلك
وزاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وترا خامسا اختراعا منه إذ لم يزل العود ذا أربعة أوتار على الصنعة القديمة التي قوبلت بها الطبائع الأربع فزاد عليها وترا خامسا أحمر متوسطا فاكتسب به عوده ألطف معنى وأكمل فائدة وذلك أن الزير صبغ أصفر اللون وجعل في العود بمنزلة الصفراء من الجسد وصبغ الوتر الثاني بعده أحمر وهو من العود مكان الدم من الجسد وهو في الغلظ ضعف الزير ولذلك سمي مثنى وصبغ الوتر الرابع أسود وجعل من العود مكان السوداء من الجسد وسمي البم وهو أعلى أوتار العود وهو ضعف المثلث الذي عطل من الصبغ وترك أبيض اللون وهو من العود بمنزلة البلغم من الجسد وجعل ضعف المثنى في الغلظ ولذلك سمي المثلث فهذه الأربعة من الأوتار مقابلة للطبائع الأربع تقضي طبائعها بالاعتدال فالبم حار يابس يقابل المثنى وهو حار رطب وعليه تسويته والزير حار يابس يقابل المثلث وهو حار رطب قوبل كل طبع بضده حتى اعتدل واستوى كاستواء الجسم بأخلاطه إلا أنه عطل من النفس والنفس مقرونة بالدم فأضاف زرياب من أجل ذلك إلى الوتر الأوسط الدموي هذا الوتر الخامس الأحمر الذي اخترعه بالأندلس ووضعه تحت المثلث وفوق المثنى فكمل في عوده قوى الطبائع الأربع وقام الخامس المزيد مقام النفس في الجسد
وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر معتاضا به من مرهف الخشب فأبرع في ذلك للطف قشر الريشة ونقائه وخفته على

الأصابع وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه
وكان زرياب عالما بالنجوم وقسمة الأقاليم السبعة واختلاف طبائعها وأهويتها وتشعب بحارها وتصنيف بلادها وسكانها مع ما سنح له من فك كتاب الموسيقى مع حفظه لعشرة آلاف مقطوعة من الأغاني بألحانها وهذا العدد من الألحان غاية ما ذكره بطليموس واضع هذه العلوم ومؤلفها
وكان زرياب قد جمع إلى خصاله هذه الاشتراك في كثير من ضروب الظرف وفنون الأدب ولطف المعاشرة وحوى من آداب المجالسة وطيب المحادثة ومهارة الخدمة الملوكية ما لم يجده أحد من أهل صناعته حتى اتخذه ملوك أهل الأندلس وخواصهم قدوة فيما سنه لهم من آدابه واستحسنه من أطعمته فصار إلى آخر أيام أهل الأندلس منسوبا إليه معلوما به فمن ذلك أنه دخل إلى الأندلس وجميع من فيها من رجل أو امرأة يرسل جمته مفروقا وسط الجبين عاما للصدغين والحاجبين فلما عاين ذوو التحصيل تحذيفه هو وولده ونساؤه لشعورهم وتقصيرها دون جباههم وتسويتها مع حواجبهم وتدويرها إلى آذانهم وإسدالها إلى أصداغهم - حسبما عليه اليوم الخدم الخصية والجواري هوت إليه أفئدتهم واستحسنوه
ومما سنه لهم استعمال المرتك المتخذ من المرداسنج لطرد ريح الصنان من مغابنهم ولا شيء يقوم مقامه وكانت ملوك الأندلس تستعمل قبله ذرور الورد وزهر الريحان وما شاكل ذلك من ذوات القبض والبرد فكانوا لا تسلم ثيابهم من وضر فدلهم على تصعيدها بالملح وتبييض لونها فلما جربوه أحمدوه جدا
وهو أول من اجتنى بقلة الهليون المسماة بلسانهم الإسفراج ولم يكن أهل الأندلس يعرفونها قبله ومما اخترعوه من الطبيخ اللون المسمى عندهم بالتفايا وهو مصطنع بماء الكزبرة

الرطبة محلى بالسنبوسق والكباب ويليه عندهم لون التقلية المنسوبة إلى زرياب
ومما أخذه عنه الناس بالأندلس تفضيله آنية الزجاج الرفيع على آنية الذهب والفضة وإيثاره فرش أنطاع الأديم اللينة الناعمة على ملاحف الكتان واختياره سفر الأديم لتقديم الطعام فيها على الموائد الخشبية إذ الوضر يزول عن الأديم بأقل مسحة ولبسه كل صنف من الثياب في زمانه الذي يليق به فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس للباس البياض وخلعهم للملون من يوم مهرجان أهل البلد المسمى عندهم بالعنصرة الكائن في ست بقين من شهر يوفيه الشمسي من شهورهم الرومية فيلبسونه إلى أول شهر أكتوبر الشمسي منها ثلاثة أشهر متوالية ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة ورأى أن يلبسوا في الفصل الذي بين الحر والبرد المسمى عندهم الربيع من مصبغهم جباب الخز والملحم والمحرر والدراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض الظهائر التي ينتقلون إليها لخفتها وشبهها بالمحاشي ثياب العامة وكذا رأى أن يلبسوا في آخر الصيف وعند أول الخريف المحاشي المروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف الثياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة وذلك عند قرس البرد في الغدوات إلى أن يقوى البرد فينتقلون إلى أثخن منها من الملونات ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا إلى صنوف الفراء
واستمر بالأندلس أن كل من افتتح الغناء فيبدأ بالنشيد أول شدوه بأي نقر كان ويأتي إثره بالبسيط ويختم بالمحركات والأهزاج تبعا لمراسم زرياب وكان إذا تناول الإلقاء على تلميذ يعلمه أمره بالقعود على الوساد المدور المعروف بالمسورة وأن يشد صوته جدا إذا كان قوي الصوت فإن كان لينه أمره أن يشد على بطنه عمامة فإن ذلك مما يقوي الصوت ولا يجد متسعا في الجوف

عند الخروج على الفم فإن كان ألص الأضراس لا يقدر على أن يفتح فاه أو كانت عادته زم أسنانه عند النطق راضه بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاث أصابع يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه وكان إذا أراد أن يختبر المطبوع الصوت المراد تعليمه من غير المطبوع أمره أن يصيح بأقوى صوته يا حجام أو يصيح آه ويمد بها صوته فإن سمع صوته بهما صافيا نديا قويا مؤديا لا يعتريه غنة ولا حبسة ولا ضيق نفس عرف أن سوف ينجب وأشار بتعليمه وإن وجده خلاف ذلك أبعده
وكان له من ذكور الولد ثمانية عبد الرحمن وعبيد الله ويحيى وجعفر ومحمد وقاسم وأحمد وحسن
ومن الإناث ثنتان علية وحمدونة
وكلهم غنى ومارس الصناعة واختلفت بهم الطبقة فكان أعلاهم عبيد الله ويتلوه عبد الرحمن لكنه ابتلي من فرط التيه وشدة الزهو وكثرة العجب بغنائه والذهاب بنفسه بما لم يكن له شبه فيه وقلما يسلم مجلس حضوره من كدر يحدثه ولا يزال يجترئ على الملوك ويستخف بالعظماء ولقد حمله سخفه على أن حضر يوما مجلس بعض الأكابر الأعاظم في أنس قد طاب به سروره وكان صاحب قنص تغلب عليه لذته فاستدعى بازيا كان كلفا به كثير التذكر له فجعل يمسح أعطافه ويعدل قوادمه ويرتاح لنشاطه فسأله عبد الرحمن أن يهبه له فاستحيا من رده وأعطاه إياه مع ضنه به فدفعه عبد الرحمن إلى غلامه ليعجل به إلى منزله وأسر إليه فيه بسر لم يطلع عليه فمضى لشأنه ولم يلبث أن جاءه بطيفورية مغطاة مكرمة بطابع مختوم عليها من فضة فإذا به لون مصوص قد اتخذ من البازي بعد ذبحه على ما حده لأهله وذهب إلى الانتقال عليه في شرابه وقال لصاحب المجلس شاركني في نقلي هذا فإنه شريف المركب بديع الصنعة فلما رآه الرجل أنكر صفته وعاب

لحمه وسأله عنه فقال هو البازي الذي كنت تعظم قدره ولا تصبر عنه قد صيرته إلى ما ترى فغضب صاحب المنزل حتى ربا في أثوابه وفارقه حلمه وقال له قد كان والله أيها الكلب السفيه على ما قدرته وما اقتديت فيه إلا بكبار الناس المؤثرين لمثله وما أسعفتك به إلا معظما من قدرك ما صغرت من قدري وأظهرت من هوان السنة عليك باستحلالك لسباع الطير المنهي عنها ولا أدع والله الآن تأديبك إذ أهملك أبوك معلم الناس المروءة ودعا له بالسوط وأمر بنزع قلنسوته وساط هامته مائة سوط فاستحسن جميع الناس فعله به وأبدوا الشماتة به
وكان محمد منهم مؤنثا وكان قاسمهم أحذقهم غناء مع تجويده وتزوج الوزير هشام بن عبد العزيز حمدونة أول من
وذكر عبادة الشاعر أن أول من دخل الأندلس من المغنين علون وزرقون دخلا في أيام الحكم بن هشام فنفقا عليه وكانا محسنين لكن غناؤهما ذهب لغلبة غناء زرياب عليه
وقال عبد الرحمن بن الشمر منجم الأمير عبد الرحمن ونديمه في زرياب
( يا علي بن نافع يا علي ... أنت أنت المهذب اللوذعي )
( أنت في الأصل حين يسأل عنه ... هاشمي وفي الهوى عبشمي )
وقال ابن سعيد وأنشد لزرياب والدي في معجمه
( علقتها ريحانة ... هيفاء عاطرة نضيره )
( بين السمينة والهزيلة ... والطويلة والقصيره )
( لله أيام لنا ... سلفت على دير المطيره ) لا عيب فيها للمتيم ... غير أن كانت يسيره ) انتهى

وكان لزرياب جارية اسمها متعة أدبها وعلمها أحسن أغانيه حتى شبت وكانت رائعة الجمال وتصرفت بين يدي الأمير عبد الرحمن بن الحكم تغنيه مرة وتسقيه أخرى فلما فطنت لإعجابه بها أبدت له دلائل الرغبة فأبى إلا التستر فغنته بهذه الأبيات وهي لها في ظن بعض الحفاظ
( يا من يغطي هواه ... من ذا يغطي النهارا )
( قد كنت أملك قلبي ... حتى علقت فطارا )
( يا ويلتا أتراه ... لي كان أو مستعارا )
( يا بأبي قرشي ... خلعت فيه العذارا )
فلما انكشف لزرياب أمرها أهداها إليه فحظيت
وكانت حمدونة بنت زرياب متقدمة في أهل بيتها محسنة لصناعتها متقدمة على أختها علية وهي زوجة الوزير هاشم بن عبد العزيز كما مر وطال عمر علية بعد أختها حمدونة ولم يبق من أهل بيتها غيرها فافتقر الناس إليها وحملوا عنها
وكانت مصابيح جارية الكاتب أبي حفص عمر بن قلهيل أخذت عن زرياب الغناء وكانت غاية في الإحسان والنبل وطيب الصوت وفيها يقول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد وكتب به إلى مولاها
( يا من يضن بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا الضن من أحد )
( لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد )
من أبيات فخرج حافيا لما وقف على ذلك وأدخله إلى مجلسه وتمتع من سماعها رحم الله تعالى الجميع

وقال علويه كنت مع المأمون لما قدم الشام فدخلنا دمشق وجعلنا نطوف فيها على قصور بني أمية فدخلنا قصرا مفروشا بالرخام الأخضر وفيه بركة يدخلها الماء ويخرج منها فيسقي بستانا وفي القصر من الأطيار ما يغني صوته عن العود والمزمار فاستحسن المأمون ما رأى وعزم على الصبوح فدعا بالطعام فأكلنا وشربنا ثم قال لي غن بأطيب صوت وأطربه فلم يمر على خاطري غير هذا الصوت
( لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا )
فنظر إلي مغضبا وقال عليك لعنة الله وعلى بني أمية ! فعلمت أني قد أخطأت فجعلت أعتذر من هفوتي وقلت يا أمير المؤمنين أتلومني أن أذكر موالي بني أمية وهذا زرياب مولاك عندهم بالأندلس يركب في أكثر من مائة مملوك وفي ملكه ثلاثمائة ألف دينار دون الضياع وإني عندكم أموت جوعا وفي الحكاية طول واختلاف ومحل الحاجة منها ما يتعلق بزرياب رحم الله تعالى الجميع
وذكرها الرقيق في كتاب معاقرة الشراب على غير هذا الوجه ونصه وركب المأمون يوما من دمشق يريد جبل الثلج فمر ببركة عظيمة من برك بني أمية وعلى جانبها أربع سروات وكان الماء يدخل سيحا فاستحسن المأمون الموضع ودعا بالطعام والشراب وذكر بني أمية فوضع منهم وتنقصهم فأخذ علويه العود واندفع يغني
( أرى أسرتي في كل يوم وليلة ... يروح بهم داعي المنون ويغتدي )
( أولئك قوم بعد عز وثروة تفانوا ... فإلا أذرف العين أكمد ) فضرب المأمون بكأسه الأرض وقال لعلويه يا بن الفاعلة لم يكن لك وقت تذكر مواليك فيه إلا هذا الوقت فقال مولاكم زرياب عند موالي بالأندلس يركب في مائة غلام وأنا عندكم بهذه الحالة فغضب عليه نحو شهر ثم

رضي عنه
انتهى ونحوه لابن الرقيق في كتابه قطب السرور وقال في آخر الحكاية وأنا عندكم أموت من الجوع ثم قال وزرياب مولى المهدي ووصل إلى بني أمية بالأندلس فعلت حاله حتى كان كما قال علويه انتهى
ولما غنى زرياب بقوله
( ولو لم يشقني الظاعنون لشاقني ... حمام تداعت في الديار وقوع )
( تداعين فاستبكين من كان ذا هوى ... نوائح ما تجري لهن دموع )
ذيلها عباس بن فرناس يمدح بعض الرؤساء بديهة فقال
( شددت بمحمود يدا حين خانها ... زمان لأسباب الرجاء قطوع )
( بنى لمساعي الجود والمجد قبلة ... إليها جميع الأجودين ركوع ) وكان محمود جوادا فقال له يا أبا القاسم أعز ما يحضرني من مالي القبة يعني قبة قامت عليه بخمسمائة دينار وهي لك بما فيها مع كسوتي هذه ونكون في ضيافتك بقية يومنا ودعا بكسوة فلبسها ودفع إليه الكسوة
69 - ومن الوافدين من المشرق الأمير شعبان بن كوجبا من غز الموصل وفد على أمير المؤمنين يعقوب المنصور ملك الموحدين ورفع له أمداحا جليلة وقدمه على إمارة مدينة بسطة من الأندلس
قال أبو عمران بن سعيد أنشدني لنفسه
( يقولون إن العدل في الناس ظاهر ... ولم أر شيئا منه سرا ولا جهرا )

( ولكن رأيت الناس غالب أمرهم ... إذا ما جنى زيد أقادوا به عمرا )
( وإلا فما بال النطاسي كلما ... شكوت له يمنى يدي فصد اليسرى )
70 - ومن الوافدين من المشرق على الأندلس أبو اليسر إبراهيم بن أحمد الشيباني من أهل بغداد وسكن القيروان ويعرف بالرياضي وكان له سماع ببغداد من جلة المحدثين والفقهاء والنحويين لقي الجاحظ والمبرد وثعلبا وابن قتيبة ولقي من الشعراء أبا تمام والبحتري ودعبلا وابن الجهم ومن الكتاب سعيد بن حميد وسليمان بن وهب وأحمد بن أبي طاهر وغيرهم وهو الذي أدخل إفريقية رسائل المحدثين وأشعارهم وطرائف أخبارهم وكان عالما أديبا ومرسلا بليغا ضاربا في كل علم وأدب سمع وكتب بيده أكثر كتبه مع براعة خطه وحسن وراقته
وحكي أنه كتب على كبره كتاب سيبويه كله بقلم واحد ما زال يبريه حتى قصر فأدخله في قلم آخر وكتب به حتى فني بتمام الكتاب
وله تآليف منها لقيط المرجان وهو أكبر من عيون الأخبار وكتاب سراج الهدى في القرآن ومشكله وإعرابه ومعانيه والمرصعة والمدبجة
وجال في البلاد شرقا وغربا من خراسان إلى الأندلس وقد ذكر ذلك في أشعار له
وكان أديب الأخلاق نزيه النفس كتب لأمير إفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ثم لابنه أبي العباس عبد الله وكان أيام زيادة الله بن عبد الله آخر ملوك الأغالبة على بيت الحكمة وتوفي بالقيروان سنة ثمان وتسعين ومائتين في أول ولاية عبيد الله الشيعي وهو ابن خمس وسبعين سنة
وممن ألم بذكره المؤرخ الأديب أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم المعروف بالرقيق
وقال عريب بن سعد في حقه إنه كان أديبا شاعرا مرسلا حسن التأليف

وقدم الأندلس على الإمام محمد بن عبد الرحمن وذكر له معه قصة ذكرها ابن الأبار في كتابه إفادة الوفادة وحكى أن له مسندا في الحديث وكتابا في القرآن سماه سراج الهدى والرسالة الوحيدة والمؤنسة وقطب الأدب وغير ذلك من الأوضاع
قال وكتب لبني الأغلب حتى انصرمت أيامهم ثم كتب لعبيد الله حتى مات ومن الرواة عنه أبو سعيد عثمان بن سعيد الصيقل مولى زيادة الله بن الأغلب وأسند إليه الحافظ ابن الأبار رواية شعر أبي تمام بأن قال قرأت شعر حبيب على أبي الربيع بن سالم وقرأت جملة منه على غيره وناولني جميعه وحدثني به عن أبي عبد الله بن زرقون عن الخولاني عن أبي القاسم حاتم بن محمد عن أبي غالب تمام بن غالب بن عمر اللغوي عن أبيه أبي تمام عن أبي سعيد المذكور يعني ابن الصيقل عن أبي اليسر عن حبيب وهو إسناد غريب انتهى حذف بن 71 - ومنهم أبو إسحاق إبراهيم بن خلف بن منصور الغساني الدمشقي المعروف بالسنهوري وسنهور من بلاد مصر روى عن أبي القاسم ابن عساكر وأبي اليمن الكندي وأبي المعالي الفراوي وأبي الطاهر الخشوعي وغيرهم
قال أبو العباس النباتي قدم علينا - يعني إشبيلية - سنة ثلاث وستمائة وسمى جماعة من شيوخه وحكى أنه كان يروي موطأ أبي مصعب وصحيح مسلم بعلو
وقال أبو سليمان بن حوط الله أجازني وابني محمدا جميع ما رواه عن شيوخه الذين منهم أبو الفخر فناخسرو بن فيروز الشيرازي وذكر أن روايته بنزول لأنه لم يرحل إلا بعد وفاة الشيوخ المشاهير بهذا الشأن
وقال أبو الحسن ابن القطان وسماه في شيوخه قدم علينا تونس

سنة اثنتين وستمائة واستجزته لابني حسن فأجازه وإياي قال وانصرف من تونس إلى المغرب ثم الأندلس وقدم علينا بعد ذلك مراكش مفلتا من الأسر فظهر في حديثه عن نفسه تجازف واضطراب وكذب زهد فيه وإثر ذلك انصرف إلى المشرق راجعا وقد كان إذا أجاز ابني كتب بخطه جملة من أسانيده وسمى كتبا منها الموطأ والصحيحان وغير ذلك قال وقد تبرأت من عهدة جميعه لما أثبت من حاله وحدثني أبو القاسم بن أبي كرامة صاحبنا بتونس أن السنهوري هذا لما انصرف إلى مصر امتحن بملكها الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب لأجل معاداته أبا الخطاب بن الجميل فضرب بالسياط وطيف به على جمل مبالغة في إهانته انتهى
وقال بعض المؤرخين في حقه ما نصه الشيخ المحدث الرحالة إبراهيم السنهوري صاحب الرحلة إلى البلاد دخل الأندلس كما ذكره ابن النجار وغيره وهو الذي ذكر لمشايخ الأندلس وعلمائها أن الشيخ أبا الخطاب بن دحية يدعي أنه قرأ على جماعة من شيوخ الأندلس القدماء فأنكروا ذلك وأبطلوه وقالوا لم يلق هؤلاء ولا أدركهم وإنما اشتغل بالطلب أخيرا وليس نسبه بصحيح فيما يقوله ودحية لم يعقب فكتب السنهوري محضرا وأخذ خطوطهم فيه بذلك وقدم به ديار مصر فعلم أبو الخطاب بن دحية بذلك فاشتكى إلى السلطان منه وقال هذا يأخذ عرضي ويؤذيني فأمر السلطان بالقبض عليه فقبض وضرب بالسياط وأشهر على حمار وأخرج من ديار مصر وأخذ ابن دحية المحضر وحرقه ولم يزل ابن دحية على قرب من السلطان إلى حين وفاته وبنى له دارا للحديث وهي الكاملية ببين القصرين فلم يزل يحدث بها إلى أن مات
وقد ذكرنا في ترجمة ابن دحية من هذا الكتاب شيئا من أحواله وأن الناس

فيه معتقد ومنتقد وهكذا جرت العادة خصوصا في حق الغريب المنتسب للعلم
( وعند الله تجتمع الخصوم ... ) وممن كان عليه لا له أبو المحاسن محمد بن نصر المعروف بابن عنين فإنه قال فيه
( دحية لم يعقب فلم تعتزي ... إليه بالبهتان والإفك )
( ما صح عند الناس شيء سوى ... أنك من كلب بلا شك ) هكذا ذكره ابن النجار وأطال في الوقيعة في أبي الخطاب ابن دحية وقال الذهبي قرأت بخط الضياء عندما ذكر ابن دحية أنه قال لقيته بأصبهان ولم أسمع منه شيئا وأخبرني إبراهيم السنهوري بأصبهان أنه دخل المغرب وأن مشايخه كتبوا له جرحه وتضعيفه وقد رأيت أنا منه غير شيء مما يدل على ذلك وبسببه بنى السلطان الملك الكامل دار الحديث بالقاهرة وجعله شيخها وقد سمع منه الإمام أبو عمرو ابن الصلاح الموطأ سنة نيف وستمائة وأخبره به عن جماعة منهم أبو عبد الله ابن زرقون
وقال ابن واصل كان أبو الخطاب - مع فرط معرفته بالحديث وحفظه الكثير منه - متهما بالمجازفة في النقل وبلغ ذلك الملك الكامل فأمره أن يعلق شيئا على كتاب الشهاب فعلق كتابا تكلم فيه على أحاديثه وأسانيده فلما وقف الملك الكامل على ذلك قال له بعد أيام قد ضاع مني ذلك الكتاب فعلق لي مثله ففعل فجاء في الثاني مناقضة للأول فعلم الملك الكامل صحة ما قيل عنه ونزلت مرتبته عنده وعزله عن دار الحديث أخيرا وولى أخاه أبا عمرو عثمان

وقال ابن نقطة كان أبو الخطاب موصوفا بالمعرفة والفضل ولم أره إلا أنه كان يدعي أشياء لا حقيقة لها ذكر لي أبو القاسم بن عبد السلام - وكان ثقة - قال نزل عندنا ابن دحية فقال إني أحفظ صحيح مسلم والترمذي فأخذت خمسة أحاديث من الترمذي ومثلها من المسند ومثلها من الموضوعات فجعلتها في جزء ثم عرضت عليه حديثا من الترمذي فقال ليس بصحيح وآخر فقال لا أعرفه ولم يعرف منها شيئا فأفسد نفسه بذلك
وقال سبط ابن الجوزي إنه كان يتزيد في كلامه ويثلب المسلمين ويقع فيهم فترك الناس الرواية عنه وكذبوه وقد كان الملك الكامل مقبلا عليه فلما انكشف له شأنه أخذ منه دار الحديث وأهانه
وقال العماد ابن كثير قد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب وكنت أود أن أقف على إسناده ليعلم كيف رجاله وقد أجمع العلماء - كما ذكره ابن المنذر وغيره - على أن صلاة المغرب لا تقصر واتفق أنه وصل في جمادى الأولى سنة 616 إلى غزة فخرج كل من في غزة بالأسلحة والعصي والحجارة إلى الموضع الذي هو فيه وضربوه ضربا شديدا بعد أن انهزم من كان معه انتهى
وقدمنا في ترجمته توثيق جماعة له فربك أعلم بحاله 72 - ومنهم عبد الله بن محمد بن آدم القارىء الخراساني رحل من خراسان إلى الأندلس يكنى أبا محمد ذكره أبو عمرو المقرىء وقال سمعته يقرأ مرات كثيرة فكان من أحسن الناس صوتا ولم تكن له معرفة بالقراءة ولا دراية بالأداء انتهى

73 - ومنهم عبد الرحمن بن داود بن علي الواعظ من أهل مصر يعرف بالزبزاري يكنى أبا البركات وأبا القاسم ويلقب زكي الدين قدم على الأندلس وتجول في بلادها واعظا ومذكرا وسمع منه الناس بقرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسية سنة 608
قال ابن الأبار وسمعت وعظه إذ ذاك بالمسجد الجامع من بلنسية وادعى الرواية عن أبي الوقت السجزي والسلفي وأبي الفضل عبد الله بن أحمد الطوسي وأبي محمد ابن المبارك بن الطباخ وأبي الفضل محمد بن يوسف الغزنوي وشهدة الكاتبة بنت الأبري زعم أنه قرأ عليها صحيح البخاري وجماعة بالمشرق والأندلس لم يلقهم ولم يسمع منهم وربما حدث بواسطة عن بعضهم وأكثرهم مجهولون وقفت على ذلك في فهرست روايته فزهد أكثر السامعين منه واطرحوا الرواية عنه ومنهم أبو العباس النباتي وأبو عبد الله بن أبي البقاء وجمع أربعين حديثا مسلسلة سماها باللآلئ المفصلة حدث فيها عن ابن بشكوال وابن غالب الشراط وغيرهما من الأندلسيين الذين لم يلقهم ولا أجازوا له أخذها عنه ابن الطيلسان وغيره وكان - مع هذا - فقيها على مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه فصيحا مشاركا في فنون من العلم سمح الله تعالى له انتهى ولا بأس أن نذكر جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس ثم نعود أيضا إلى ذكر أعلام الرجال فنقول 74 - من النساء الداخلات الأندلس من المشرق عابدة المدنية أم ولد حبيب بن الوليد المرواني المعروف بدحون
وكانت جارية سوداء من رقيق المدينة حالكة اللون غير أنها تروي عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة

وغيره من علماء المدينة حتى قال بعض الحفاظ إنها تروي عشرة آلاف حديث
وقال ابن الأبار إنها تسند حديثا كثيرا وهي أم ولده بشر بن حبيب والذي وهبها لدحون في رحلته إلى الحج هو محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك بن مروان فقدم بها الأندلس وقد أعجب بعلمها وفهمها واتخذها لفراشه رحم الله تعالى الجميع 75 - ومنهن فضل المدنية وكانت حاذقة بالغناء كاملة الخصال وأصلها لإحدى بنات هارون الرشيد ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام فازدادت ثم طبقتها في الغناء واشتريت هنالك للأمير عبد الرحمن صاحب الأندلس مع صاحبتها علم المدنية وصواحب غيرها إليهن تنسب دار المدنيات بالقصر وكان يؤثرهن لجودة غنائهن ونصاعة ظرفهن ورقة أدبهن وتضاف إليهن جارية يقال لها قلم وهي ثالثة فضل وعلم في الحظوة عند الأمير المذكور وكانت أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس وحملت صبية إلى المشرق فوقعت بمدينة النبي وتعلمت هنالك الغناء فحذقته وكانت أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حافظة للأخبار عالمة بضروب الآداب
76 - ومن النساء الداخلات إلى الأندلس من المشرق قمر جارية إبراهيم بن حجاج اللخمي صاحب إشبيلية وكانت من أهل الفصاحة والبيان والمعرفة بصوغ الألحان وجلبت إليه من بغداد وجمعت أدبا وظرفا ورواية وحفظا مع فهم بارع وجمال رائع وكانت تقول الشعر بفضل

أدبها ولها في مولاها تمدحه
( ما في المغارب من كريم يرتجى ... إلا حليف الجود إبراهيم )
( إني حللت لديه منزل نعمة ... كل المنازل ما عداه ذميم ) وأنشد لها السالمي لما ذكرها عدة أشعار منها قولها تتشوق إلى بغداد
( آها على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها )
( ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها )
( متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذري من أخلاقها )
( نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سنا إشراقها ) 77 - ومنهن الجارية العجفاء قال الأرقمي قال لي أبو السائب وكان من أهل الفضل والنسك هل لك في أحسن الناس غناء فجئنا إلى دار مسلم بن يحيى مولى بني زهرة فأذن لنا فدخلنا بيتا عرضه اثنا عشر ذراعا في مثلها وطوله في السماء ستة عشر ذراعا وفي البيت نمرقتان قد ذهب عنهما اللحمة وبقي السدى وقد حشيتا بالليف وكرسيان قد تفككا من قدمهما ثم اطلعت علينا عجفاء كلفاء عليها قرقل هروي أصفر غسيل وكأن وركيها في خيط من رسخها فقلت لأبي السائب بأبي أنت ! ما هذه فقال اسكت فتناولت عودا فغنت
( بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم )
( فاستيقني أن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم )
( قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم )

قال فتحسنت في عيني وبدا ما أذهب الكلف عنها وزحف أبو السائب وزحفت معه ثم تغنت
( برح الخفاء فأيما بك تكتم ... ولسوف يظهر ما تسر فيعلم )
( مما تضمن من عزيرة قلبه ... يا قلب إنك بالحسان لمغرم )
( يا ليت أنك يا حسام بأرضنا ... تلقي المراسي طائعا وتخيم )
( فتذوق لذة عيشنا ونعيمه ... ونكون إخوانا فماذا تنقم )
فقال أبو السائب إن نقم هذا فأعضه الله تعالى بكذا وكذا من أبيه ولا يكنى فزحفت مع أبي السائب حتى فارقنا النمرقتين وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق بماء مزنة ثم غنت
( يا طول ليلي أعالج السقما ... إذ حل كل الأحبة الحرما )
( ما كنت أخشى فراقكم أبدا ... فاليوم أمسى فراقكم عزما ) فألقيت طيلساني وأخذت شاذكونة فوضعتها على رأسي وصحت كما يصاح على اللوبيا بالمدينة وقام أبو السائب فتناول ربعة في البيت فيها قوارير ودهن فوضعها على رأسه وصاح صاحب الجارية وكان ألثغ قوانيني يعني قواريري فاصطكت القوارير وتكسرت وسال الدهن على رأس أبي السائب وصدره وقال للعجفاء لقد هجت لي داء قديما ثم وضع الربعة
وكنا نختلف إليها حتى بعث عبد الرحمن بن معاوية صاحب الأندلس فابتيعت له العجفاء وحملت إليه

78 - ومن القادمين على الأندلس من المشرق الشيخ عبد القاهر بن محمد بن عبد الرحمن الموصلي
قال أبو حيان قدم علينا رسولا من ملك مصر إلى ملك الأندلس فسمعت منه بالمرية انتهى
79 - ومنهم أحمد بن الحسن بن الحارث بن عمرو بن جرير بن إبراهيم بن مالك المعروف بالأشتر بن الحارث النخعي يكنى أبا جعفر دخل الأندلس في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن وأصله من الكوفة وكان يروي أحاديث عظيمة العدد ذكر ذلك الرازي وحكى أن الأمير محمدا روى عنه منها وأنزله
80 - ومنهم أحمد بن أبي عبد الرحمن واسمه يزيد بن أحمد بن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف من أهل مصر وفد على الناصر بقرطبة وكان دخوله إليها في محرم سنة 343 فأكرم الناصر مثواه وكان فقيه أهل مصر ذكره ابن حيان
81 - ومنهم أبو الطاهر إسماعيل بن الإسكندراني لقي ببلده أبا طاهر السلفي وسمع منه ودرس عليه كتاب الاصطلاح للسمعاني وقدم الأندلس ودخل مرسية تاجرا وكان فقيها على مذهب الشافعي وأنشد على السلفي قوله
( أنا من أهل الحديث ... وهم خير فئه )
( عشت تسعين وأر جو ... أن أعيش لمائه ) فعاش كما تمنى رحمه الله تعالى

82 - ومنهم أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر الأنطاكي الإمام أبو الحسن التميمي نزيل الأندلس ومقرئها ومسندها أخذ القراءة عرضا وسماعا عن إبراهيم بن عبد الرزاق ومحمد بن الأخرم وأحمد بن يعقوب التائب وأحمد بن محمد بن خشيش ومحمد بن جعفر بن بيان وصنف قراءة ورش قرأ عليه جماعة منهم أبو الفرج الهيثم الصباغ وإبراهيم بن مبشر المقرئ وطائفة آخرون من قراء الأندلس وسمع منه عبد الله بن أحمد بن معاذ الداراني
قال أبو الوليد بن الفرضي أدخل الأنطاكي الأندلس علما جما وكان بصيرا بالعربية والحساب وله حظ من الفقه قرأ الناس عليه وسمعت أنا منه وكان رأسا في القراءات لا يتقدمه أحد في معرفتها في وقته وكان مولده بأنطاكية سنة 299 ومات بقرطبة في ربيع الأول سنة 377 رحمه الله تعالى
83 - ومنهم عمر بن مودود بن عمر الفارسي البخاري يكنى أبا البركات ولد بسلماس ونشأ بها كتب الحديث هنالك وتعلم العربية والفقه وهو من أبناء الملوك وانتقل إلى المغرب فدخل الأندلس ونزل مالقة في حدود ثلاثين وستمائة ودخل إشبيلية وكانت له رواية بالمشرق
قال ابن الأبار أجاز لي ما رواه ولم يسم أحدا من شيوخه وبلغني أنه سمع صحيح البخاري بالدامغان على أبي عبد الله محمد بن محمود وكانت إجازته لي سنة 631 وعاش بعد ذلك وتوفي بمراكش بعد الأربعين وستمائة وحدث بالأندلس وأخذ عنه الناس وكان من أهل التصوف والتحقق بعلم

الكلام رحمه الله تعالى 84 - ومنهم الشريف الأجل الرحالة الشيخ نجم الدين بن مهذب الدين وكنت لا أتحقق من أي البلاد هو من المشرق ثم إني علمت أنه من بغداد إذ وقفت على كتابين كتبهما في شأن العناية به الأديب العلامة أبو المطرف أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزومي أحدهما لأبي العلاء حسان والثاني للكاتب أبي الحسن العنسي وهو الذي يفهم منه أنه من بغداد
ونص الأول
( يا ابن الوصي إذا حملت وصيتي ... أوجبت حقا للحقوق يضاف )
( وتحيتي كل التحايا دونها ... وكذاك دون رسولها الأشراف )
( أحسن بأن تلقى ابن حسان بها ... مهتزة لورودها الأعطاف )
( كالروض باكره الندى فلعرفها ... يا ابن النبي على الندي مطاف )
( وعلاك إن أبا العلا ومكانه ... يلفى به الإسعاد والإسعاف )
( وأحق من عرف الكرام بوصفهم ... من جمعت منهم له أوصاف ) هذه يا سيدي تحية تجب لها إجابة وحية وتصلح بها هشاشة وأريحية أودعتها بطن هذه العجالة وبعثتها مع صدر من أبناء الرسالة ولله دره من راضع در النبوة متواضع مع شرف الأبوة نازعته طرق الأشعار وأطراف الأخبار فوجدت بحرا حصاه الدر النفيس وروضا يجني منه أطايب السمر الجليس وينعت بنجم الدين وهو كنعته نجم يضيء سناه ويحل بيتا من الشرف ربه بناه وقد جاب الفضاء العريض ورأى القصور الحمر والبيض وورد الحجون بعد ما شرب من ماء جيحون وزار مشاهد الحرمين ثم سار في أرض الهرمين وفارق إفريقية لهذا الأفق مختارا وعبر إلى الأندلس فأطال بها اعتبارا وتشوق إلى حضرة الأنوار المفاضة والنعم السابغة الفضفاضة وجعل قصدها بحجة سفره طواف الإفاضة وهمه أن

يشاهد سناها العلوي ويبصر ما يحقر عنده المرئي والمروي وهي غاية يقول للأمل عليها أطلت حومي وجنة يتلو الداخل لها ( يا ليت قومي ) وسيدي هو منها باب على الفتح بني وجناب عنان الأمل إليه ثني وقصده من هذا الشريف أجل قاصد وأظلته سماء المجد بجمال المشتري وظرف عطارد ومتى نعتناه فالخبر ليس كالعيان ومتى شبهناه فالتمويه بالشبه عقوق العقيان ومن يفضح قريحته بأن يقول لها صفيه لكن يعرف عن نفسه بما ليس في وسع واصفيه ويقتضي من عزيمة بره ما لا سعة للمترخص فيه إن شاء الله تعالى وهو يديم علاكم ويحرس مجدكم وسناكم بمنه والسلام الكريم الطيب العميم يخصكم به معظم مجدكم المعتد بذخيرة ودكم المحافظ على كريم عهدكم ابن عميرة ورحمة الله تعالى وبركاته في الرابع والعشرين لربيع الآخر من سنة 639
انتهى ونص الثاني
( لك يا سيدي أبا الحسن ... فيمن له كل شاهد حسن )
( في الشرف المنتقى له قدم ... أثبتها بالوصي والحسن )
أيها الأخ الذي ملكته قيادي وأسكنته فؤادي عهدي بك تعتام الآداب النقية وتشتاق اللطائف المشرقية وتنصف فترى أن في سيلنا جفاء وفي مغربنا جفاء وأن المحاسن نبت أرض ما بها ولدنا وزرع واد ليس مما عهدنا وأنا في هذا أشايعك وأتابعك وأناضل من ينازلك وينازعك وقد أتانا الله تعالى بحجة تقطع الحجج وتسكت المهج وهو الشريف الأجل السيد المبارك نجم الدين بن مهذب الدين نجل الذرية المختارة ونجم الدرية السيارة جرى مع زعزع ونسيم ورتع في جميم وهشيم وشاهد عجائب كل إقليم وشرق إلى مطلع ابن جلا وغرب حتى نزل شاطئ سلا وقد توجه الآن إلى حضرة الإمامة الرشيدية أيدها الله تعالى لينتهي من أصابع العد

إلى العقدة ويحصل من مخض الحقيقة على الزبدة وقد علم أنه ما كل الخطب كخطبة المنبر ولا جميع الأيام مثل يوم الحج الأكبر وأدبه يا سيدي من نسبه أفقه بل على شكل حسبه وخلقه فإذا رأيته شهدت بأن الشرق قد أتحف إفريقية ببغداده بل رمانا بجملة أفلاذه والحظ فيما يجب من بره وتأنيسه إنما هو في الحقيقة لجليسه فيا غبطة من يسبق لجواره ويقبس من أنواره وأنت لا محالة تفهمه فهمي وتشيم من شيمه عارضا بري القلوب الهيم يهمي وتضرب في الأخذ من فوائده وقلائده بسهم وددت أنه سهمي والسلام انتهى
85 - ومنهم تقي الدين محمد ابن الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن الغرس الحنفي المصري
قال الوادي آشي فيه إنه من أعيان مصر قال وسألته هل يقع بين أهل مصر تنازع في تفضيل بعض المذاهب على بعض فأجابني بأن هذا لا يقع عندهم بين أهل الرسوخ في العلم وذوي المعرفة والفهم وإنما يصدر هذا بين الناشئين قال وللحنفية الظهور عليهم حين يقولون لهم لنا عليكم اليد الطولى في الخبز لكونه بمصر يطبخ في الفرن بأرواث الدواب وكذلك تسخين الحمام فإن المالكية وغيرهم بمصر يقلدون الحنفية في ذلك قال وسألته حفظه الله تعالى هل للوباء بمصر وقت معلوم فقال لي جرت العادة عندهم بقدر الله تعالى وسره في خليقته أن كل سنة أولها ثاء مثلثة يكون فيها الوباء والله تعالى أعلم وأن هذا متعارف عندهم هكذا قال لي
وعيب ما يقع من بعض النقاد بتونس وما يصدر عنهم بكثرة من إلقائهم الأسئلة العويصة في أصول الدين وغيرها على من يرد عليهم قصدا في تعجيزه وتعنيته ثم قال إن من المنقول عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن من حفظت عنه تسعة وتسعون خصلة تقتضي الكفر وواحدة تقتضي الإيمان

أن الواحدة المقتضية للإيمان تغلب وتبقى حرمتها عليه انتهى
وقد ذكرنا في الباب الأول من هذا القسم حكاية البصري المغني القادم من المشرق من البصرة على عبد الوهاب الحاجب بإفريقية في دولة بني المعز بن باديس وسردنا دخوله عليه في مجلس أنسه وما اتفق في ذلك له معه وأنه وصف له بلاد الأندلس وحسنها وطيبها فارتحل المغني إليها ومات بها حسبما لخصناه من كلام الكاتب ابن الرقيق الأديب المؤرخ في كتابه قطب السرور ولولا أنه لم يسم المغني المذكور لجعلنا له ترجمة في هذا الباب إذ هو به أليق والأمر في ذلك سهل والله تعالى الموفق
86 - ومنهم الولي الصالح العارف بالله سيدي يوسف الدمشقي رضي الله تعالى عنه وهو كما قال ابن داود من كبار الأولياء شاذلي الطريقة قدم من المشرق إلى الأندلس وكان يأتي مدينة وادي آش الكرة بعد الكرة لزيارة معارف له بها وكان من الذين أخفاهم الله لا يعرف به إلا من تعرف له أعاد الله تعالى علينا من بركاته
قال العلامة ابن داود وحدثني مولاي والدي رضي الله تعالى عنه من لفظه بتلمسان أمنها الله تعالى يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة 895 قال دخل علي سنة شهر رمضان المعظم في زمان ولايتي الخطابة والإمامة بالعراص من خارج وادي آش أعادها الله تعالى ! فقعدت أول ليلة منه منفردا بالمسجد الأعظم من الرباط المذكور بين العشاءين وفكرت في ذكر أتخذه في هذا الشهر المبارك يكون جامعا بين الدنيا والآخرة فأجمعت على مطالعة حلية النواوي لعلي أقف على ما أختاره لذلك فلما أصبحت دخلت إلى المدينة ولم أكن أطلعت على فكرتي أحدا فلقيني الحاج الأستاذ أبو عبد الله ابن خلف رحمه الله تعالى في الطريق فقال لي سيدي يوسف الدمشقي يسلم عليك ويقول لك الذكر الذي تعمر به هذا الشهر الفاضل

اللهم ارزقني الزهد في الدنيا ونور قلبي بنور معرفتك قال لي والدي رضي الله تعالى عنه وكان هذا سبب تعرفي له ولقائي إياه وكنت قبل ذلك منكرا عليه لكثرة الدعاوى في هذا الطريق نفع الله تعالى به
انتهى ولنجعل هذه الترجمة آخر هذا الباب تبركا بهذا الولي الصالح نفعنا الله تعالى ببركاته ! مع علمي بأن الوافدين من المشرق على الأندلس كثيرون جدا إلا أن عدم المادة التي أستعين بها في هذه البلاد تبين عذري ولو اجتمعت على كتبي المخلفة بالمغرب لأتيت في ذلك وغيره بما يشفي ويكفي
( وفي الإشارة ما يغني عن الكلم ... )

الباب السابع
في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي ما عز أو هان وحوزهم في ميدان البراعة من قصب اليراعة خصل الرهان وجملة من أجوبتهم الدالة على لوذعيتهم وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان
نقول في فضائل الأندلس
1 - عن فرحة الأنفس
اعلم أن فضل أهل الأندلس ظاهر كما أن حسن بلادهم باه
ر ولذلك ذكر ابن غالب في فرحة الأنفس لما أثنى على الأندلس وأهلها أن بطليموس جعل لهم - من أجل ولاية الزهرة لبلادهم - حسن الهمة في الملبس والمطعم والنظافة والطهارة والحب للهو والغناء وتوليد اللحون ومن أجل ولاية عطارد حسن التدبير والحرص على طلب العلم وحب الحكمة والفلسفة والعدل والإنصاف
وذكر ابن غالب أيضا ما خصوا به من تدبير المشتري والمريخ
وانتقد عليه بعضهم بأن أقاليم الأندلس الرابع والخامس والسادس في ساحلها الشمالي والسابع في جزائر المجوس وللإقليم الرابع الشمس وللخامس الزهرة وللسادس عطارد وللسابع القمر والمشتري للإقليم الثاني والمريخ للثالث ولا مدخل لهما في الأندلس انتهى
ثم قال صاحب الفرحة وأهل الأندلس عرب في الأنساب والعزة

والأنفة وعلو الهمم وفصاحة الألسن وطيب النفوس وإباء الضيم وقلة احتمال الذل والسماحة بما في أيديهم والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية هنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم وحبهم فيها وضبطهم لها وروايتهم بغداديون في ظرفهم ونظافتهم ورقة أخلاقهم ونباهتهم وذكائهم وحسن نظرهم وجودة قرائحهم ولطافة أذهانهم وحدة أفكارهم ونفوذ خواطرهم يونانيون في استنباطهم للمياه ومعاناتهم لضروب الغراسات واختيارهم لأجناس الفواكه وتدبيرهم لتركيب الشجر وتحسينهم للبساتين بأنواع الخضر وصنوف الزهر فهم أحكم الناس لأسباب الفلاحة ومنهم ابن بصال صاحب كتاب الفلاحة الذي شهدت له التجربة بفضله وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال ومقاساة النصب في تحسين الصنائع أحذق الناس بالفروسية وأبصرهم بالطعن والضرب
وعد رحمه الله تعالى من فضائلهم اختراعهم للخطوط المخصوصة بهم قال وكان خطهم أولا مشرقيا
قال ابن سعيد أما أصول الخط المشرقي وما تجد له في القلب واللحظ من القبول فمسلم له لكن خط الأندلس الذي رأيته في مصاحف ابن غطوس الذي كان بشرق الأندلس وغيره من الخطوط المنسوبة عندهم له حسن فائق ورونق آخذ بالعقل وترتيب يشهد لصاحبه بكثرة الصبر والتجويد انتهى
ونحو صدر كلام ابن غالب السابق مذكور في رسالة لابن حزم وقال فيها إن أهل الأندلس صينيون في إتقان الصنائع العملية وإحكام المهن الصورية تركيون في معاناة الحروب ومعالجات آلاتها والنظر في مهماتها انتهى
4 - ابن غالب يذكر فضائل الأندلس والأندلسيين في كتابه فرحة الأنفس وعد ابن غالب من فضائلهم اختراعهم للموشحات التي قد استحسنها

أهل المشرق وصاروا ينزعون منزعها وأما نظمهم ونثرهم فلا يخفى على من وقف عليهما علو طبقاتهم
ثم قال ابن غالب ولما نفذ قضاء الله تعالى على أهل الأندلس بخروج أكثرهم عنها في هذه الفتنة الأخيرة المبيرة تفرقوا ببلاد المغرب الأقصى من بر العدوة مع بلاد إفريقية فأما أهل البادية فمالوا في البوادي إلى ما اعتادوه وداخلوا أهلها وشاركوهم فيها فاستنبطوا المياه وغرسوا الأشجار وأحدثوا الأرحي الطاحنة بالماء وغير ذلك وعلموهم أشياء لم يكونوا يعلمونها ولا رأوها فشرفت بلادهم وصلحت أمورهم وكثرت مستغلاتهم وعمتهم الخيرات فهم أشبه الناس باليونانيين فيما ذكرت ولأن اليونانيين سكنوا الأندلس فورثوا عنهم ذلك وأما أهل الحواضر فمالوا إلى الحواضر واستوطنوها فأما أهل الأدب فكان منهم الوزراء والكتاب والعمال وجباة الأموال والمستعملون في أمور المملكة ولا يستعمل بلدي ما وجد أندلسي وأما أهل الصنائع فإنهم فاقوا أهل البلاد وقطعوا معاشهم وأخملوا أعمالهم وصيروهم أتباعا لهم ومتصرفين بين أيديهم ومتى دخلوا في شغل عملوه في أقرب مدة وأفرغوا فيه من أنواع الحذق والتجويد ما يميلون به النفوس إليهم ويصير الذكر لهم قال ولا يدفع هذا عنهم إلا جاهل أو مبطل انتهى
2 - عن بن سعيد
وقال ابن سعيد لما ذكر جملة من محاسن الأندلسيين يعلم الله تعالى أني ما أقصد إلا إنصاف المنصفين الذين لا يميل بهم التعصب ولا يجمع بهم الهوى ولكن الحق أحق أن يتبع فلعل مطلعا يقف على ما ذكره ابن غالب فيقول تعصب هذا الرجل لأهل بلده ثم يغمس التابع له والراضي بنقل قوله في هذه الصبغة ويحمله على ذلك بعده عن الأرضين

( ولو أبصروا ليلى أقروا بحسنها ... وقالوا بأني في الثناء مقصر )
ويكفي في الإنصاف أن أقول إن حضرة مراكش هي بغداد المغرب وهي أعظم ما في بر العدوة وأكثر مصانعها ومبانيها الجليلة وبساتينها إنما ظهرت في مدة بني عبد المؤمن وكانوا يجلبون لها صناع الأندلس من جزيرتهم وذلك مشهور معلوم إلى الآن
ومدينة تونس بإفريقية قد انتقلت إليها السعادة التي كانت في مراكش بسلطان إفريقية الآن أبي زكريا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص فصار فيها من المباني والبساتين والكروم ما شابهت به بلاد الأندلس وعرفاء صناعه من الأندلس وتماثيله التي يبنى عليها وإن كان أعرف خلق الله باختراع محاسن هذا الشأن فإنما أكثرها من أوضاع الأندلسيين وله من خاطره تنبيهات وزيادة ظهر حسن موقعها ووجوه صنائع دولته لا تكاد تجدهم إلا من الأندلس فصح قول ابن غالب انتهى قال الحميدي أنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعة لبعض أهل المشرق وهي
( وماذا عليهم لو أجابوا فسلموا ... وقد علموا أني المشوق المتيم )
( سروا ونجوم الليل زهر طوالع ... على أنهم بالليل للناس أنجم )
( وأخفوا على تلك المطايا مسيرهم ... فنم عليها في الظلام التبسم )
فأفرط بعض الحاضرين في استحسانها وقال هذا ما لا يقدر أندلسي

على مثله وبالحضرة أبو بكر يحيى بن هذيل فقال بديها
( عرفت بعرف الريح أين تيمموا ... وأين استقل الظاعنون وخيموا )
( خليلي رداني إلى جانب الحمى ... فلست إلى غير الحمى أتيمم )
( أبيت سمير الفرقدين كأنما ... وسادي قتاد أو ضجيعي أرقم )
( وأحور وسنان الجفون كأنه ... قضيب من الريحان لدن منعم )
( نظرت إلى أجفانه وإلى الهوى ... فأيقنت أني لست منهن أسلم )
( كما أن إبراهيم أول نظرة ... رأى في الدراري أنه سوف يسقم ابن انتهى
4 - عن ابن بسام
ومن كلام ابن بسام صاحب الذخيرة في جزيرة الأندلس أشراف عرب المشرق افتتحوها وسادات أجناد الشام والعراق نزلوها فبقي النسل فيها بكل إقليم على عرق كريم فلا يكاد بلد منها يخلو من كاتب ماهر وشاعر قاهر
وذكر أن أبا علي البغدادي صاحب الأمالي الوافد على الأندلس في زمان بني مروان قال لما وصلت القيروان وأنا أعتبر من أمر به من أهل الأمصار فأجدهم درجات في العبارات وقلة الفهم بحسب تفاوتهم في مواضعهم منها بالقرب والبعد كأن منازلهم من الطريق هي منازلهم من العلم محاصة ومقايسة
قال أبو علي فقلت إن نقص أهل الأندلس عن مقادير من رأيت في أفهامهم بقدر نقصان هؤلاء عمن قبلهم فسأحتاج إلى ترجمان في هذه الأوطان قال ابن بسام فبلغني أنه كان يصل كلامه هذا بالتعجب

من أهل هذا الأفق الأندلسي في ذكائهم ويتغطى عنهم عند المباحثة والمفاتشة ويقول لهم إن علمي بعلم رواية وليس علم دراية فخذوا عني ما نقلت فلم آل لكم أن صححت هذا مع إقرار الجميع له يومئذ بسعة العلم وكثرة الروايات والأخذ عن الثقات انتهى ومن كلام الحجاري في المسهب د الأندلس عراق المغرب عزة أنساب ورقة آداب واشتغالا بفنون العلوم وافتنانا في المنثور والمنظوم لم تضق لهم في ذلك ساحة ولا قصرت عنه راحة فما مر فيها بمصر إلا وفيه نجوم وبدور وشموس وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيار والكؤوس لا ينازعهم أحد في هذا الشان و ابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان
وأما إذا هب نسيم ودار كأس في كف ظبي رخيم ورجع بم وزير وصفق للماء خرير أو رقت العشية وخلعت السحب أبرادها الفضية والذهيبه أو تبسم عن شعاع ثغر نهر أو ترقرق بطل جفن زهر أو خفق بارق أو وصل طيف طارق أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح وبات مع من يهواه كالماء والراح إلى أن ودع حين أقبل رائد الصباح أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها أو قوضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها فأولئك هم السابقون السابقون الذين لا يجارون ولا يلحقون وليسوا بالمقصرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح وسالت خلجان الصوارم بين قضبان الرماح وبنت الحرب من العجاج سماء وأطلعت شبه النجوم أسنة وأجرت شبه الشفق دماء وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيلات أئمة ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضلهم فيه على أصناف الأمة

وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية وبقاعهم النضرة وهممهم الأبية
ولشطار الأندلس من النوادر والتنكيتات والتركيبات وأنواع المضحكات ما تملأ الدواوين كثرته وتضحك الثكلى وتسلي المسلوب قصته مما لو سمعه الجاحظ لم يعظم عنده ما حكى وما ركب ولا استغرب أحد ما أورده ولا تعجب إلا أن مؤلفي هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنيف في هذا الشأن فكاد يمر ضياعا فقمت محتسبا للظرف فتداركته جامعا فيه ما أمسى شعاعا انتهى
6 - رسالة ابن حزم في فضائل الأندلسي قلت وقد رأيت أن أذكر رسالة أبي محمد بن حزم الحافظ التي ذكر فيها بعض فضائل علماء الأندلس لاشتمالها على ما نحن بصدده
وذلك أنه كتب أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن الربيب التميمي القيرواني إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم يذكر تقصير أهل الأندلس في تخليد أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم وسير ملوكهم ما صورته كتبت يا سيدي وأجل عددي كتب الله تعالى لك السعادة وأدام لك العز والسيادة سائلا مسترشدا وباحثا مستخبرا وذلك أني فكرت في بلادكم إذ كانت قرارة كل فضل ومنهل كل خير ومقصد كل طرفة ومورد كل تحفة وغاية آمال الراغبين ونهاية أماني الطالبين إن بارت تجارة فإليها

تجلب وإن كسدت بضاعة ففيها تنفق مع كثرة علمائها ووفور أدبائها وجلالة ملوكها ومحبتهم في العلم وأهله يعظمون من عظمه علمه ويرفعون من رفعه أدبه وكذلك سيرتهم في رجال الحرب يقدمون من قدمته شجاعته وعظمت في الحروب نكايته فشجع الجبان وأقدم الهيبان ونبه الخامل وعلم الجاهل ونطق العيي وشعر البكي واستنسر البغاث وتثعبن الحفاث فتنافس الناس في العلوم وكثر الحذاق في جميع الفنون ثم هم مع ذلك على غاية التقصير ونهاية التفريط من أجل أن علماء الأمصار دونوا فضائل أمصارهم وخلدوا في الكتب مآثر بلدانهم وأخبار الملوك والأمراء والكتاب والوزراء والقضاة والعلماء فأبقوا لهم ذكرا في الغابرين يتجدد على مر الليالي والأيام ولسان صدق في الآخرين يتأكد مع تصرف الأعوام وعلماؤكم مع استظهارهم على العلوم كل امرىء منهم قائم في ظله لا يبرح وراتب على كعبه لا يتزحزح يخاف إن صنف أن يعنف وإن ألف أن يخالف ولا يؤالف أو تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق لم يتعب أحد منهم نفسا في جمع فضائل أهل بلده ولم يستعمل خاطره في مفاخر ملوكه ولا بل قلما بمناقب كتابه ووزرائه ولا سود قرطاسا بمحاسن قضاته وعلمائه على أنه لو أطلق ما عقل الإغفال من لسانه وبسط ما قبض الإهمال من بيانه لوجد للقول مساغا ولم تضق عليه المسالك ولم تخرج به المذاهب ولا اشتبهت عليه المصادر والموارد ولكن هم أحدهم أن يطلب شأو من تقدمه من العلماء ليحوز قصبات السبق ويفوز بقدح ابن مقبل ويأخذ بكظم دغفل ويصير شجا في حلق أبي

العميثل فإذا أدرك بغيته واخترمته منيته دفن معه أدبه وعلمه فمات ذكره وانقطع خبره ومن قدمنا ذكره من علماء الأمصار احتالوا لبقاء ذكرهم احتيال الأكياس فألفوا دواوين بقي لهم بها ذكر مجدد طول الأبد فإن قلت إنه كان مثل ذلك من علمائنا وألفوا كتبا لكنها لم تصل إلينا فهذه دعوى لم يصحبها تحقيق لأنه ليس بيننا وبينكم غير روحة راكب أو رحلة قارب لو نفث من بلدكم مصدور لأسمع من ببلدنا في القبور فضلا عمن في الدور والقصور وتلقوا قوله بالقبول كما تلقوا ديوان أحمد بن عبد ربه الذي سماه بالعقد على أنه يلحقه فيه بعض اللوم لا سيما إذ لم يجعل فضائل بلده واسطة عقده ومناقب ملوكه يتيمة سلكه أكثر الحز وأخطأ المفصل وأطال الهز لسيف غير مقصل وقعد به ما قعد بأصحابه من ترك ما يعنيهم وإغفال ما يهمهم
فأرشد أخاك أرشدك الله واهده هداك الله إن كانت عندك في ذلك الجلية وبيدك فصل القضية والسلام عليك ورحمة الله وبركاته
فكتب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم عند وقوفه على هذه الرسالة ما نصه الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد عبده ورسوله وعلى أصحابه الأكرمين وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته الفاضلين الطيبين
أما بعد يا أخي يا أبا بكر سلام عليك سلام أخ مشوق طالت بينه وبينك الأميال والفراسخ وكثرت الأيام والليالي ثم لقيك في حال سفر ونقلة ووادك في خلال جولة ورحلة فلم يقض من مجاورتك أربا ولا بلغ في

محاورتك مطلبا وإني لما احتللت بك وجالت يدي في مكنون كتبك ومضمون دواوينك لمحت عيني في تضاعيفها درجا فتأملته فإذا فيه خطاب لبعض الكتاب من مصاقبينا في الدار أهل إفريقية ثم ممن ضمته حاضرة قيروانهم إلى رجل أندلسي لم يعينه باسمه ولا ذكره بنسبه يذكر له فيها أن علماء بلدنا بالأندلس - وإن كانوا على الذروة العليا من التمكن بأفانين العلوم وفي الغاية القصوى من التحكم على وجوه المعارف - فإن هممهم قد قصرت عن تخليد مآثر بلدهم ومكارم ملوكهم ومحاسن فقهائهم ومناقب قضاتهم ومفاخر كتابهم وفضائل علمائهم ثم تعدى ذلك إلى أن أخلى أرباب العلوم منا من أن يكون لهم تأليف يحيي ذكرهم ويبقي علمهم بل قطع على أن كل واحد منهم قد مات فدفن علمه معه وحقق ظنه في ذلك واستدل على صحته عند نفسه بأن شيئا من هذه التآليف لو كان منا موجودا لكان إليهم منقولا وعندهم ظاهرا لقرب المزار وكثرة السفار وترددهم إليهم وتكررهم علينا
ثم لما ضمنا المجلس الحافل بأصناف الآداب والمشهد الآهل بأنواع العلوم والقصر المعمور بأنواع الفضائل والمنزل المحفوف بكل لطيفة وسيعة من دقيق المعاني وجليل المعالي قرارة المجد ومحل السؤدد ومحط رحال الخائفين وملقى عصا التسيار عند الرئيس الأجل الشريف قديمه وحسبه الرفيع حديثه ومكتسبه الذي أجله عن كل خطة يشركه فيها من لا توازي قومته نومته ولا ينال حضره هويناه وأربأ به عن كل مرتبة يلحقه فيها من لا يسمو إلى المكارم سموه ولا يدنو من المعالي دنوه ولا يعلو في حميد

الخلال علوه بل أكتفي من مدحه باسمه المشهور وأجتزي من الإطالة في تقريظه بمنتماه المذكور فحسبي بذينك العلمين دليلا على سعيه المشكور وفضله المشهور أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن قاسم صاحب البونت أطال الله بقاءه وأدام اعتلاءه ولا عطل الحامدين من تحليهم بحلاه ولا أخلى الأيام من تزينها بعلاه فرأيته أعزه الله تعالى حريصا على أن يجاوب هذا المخاطب وراغبا في أن يبين له ما لعله قد رآه فنسي أو بعد عنه فخفي فتناولت الجواب المذكور بعد أن بلغني أن ذلك المخاطب قد مات رحمنا الله تعالى وإياه فلم يكن لقصده بالجواب معنى وقد صارت المقابر له مغنى فلسنا بمسمعين من في القبور فصرفت عنان الخطاب إليك إذ من قبلك صرت إلى الكتاب المجاوب عنه ومن لدنك وصلت إلى الرسالة المعارضة وفي وصول كتابي على هذه الهيئة حيثما وصل كفاية لمن غاب عنه من أخبار تآليف أهل بلدنا مثل ما غاب عن هذا الباحث الأول ولله الأمر من قبل ومن بعد وإن كنت في إخباري إياك بما ارسمه في كتابي هذا كمهد إلى البركان نار الحباحب وباني صوى في مهيع القصد اللاحب فإنك وإن كنت المقصود والمواجه فإنما المراد من أهل تلك الناحية من نأى عنه علم ما استجلبه السائل الماضي وما توفيقي إلا بالله سبحانه
فأما مآثر بلدنا فقد الف في ذلك أحمد بن محمد الرازي التاريخي كتبا جمة منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة وخواص كل بلد منها وما فيه مما ليس في غيره وهو

كتاب مريح مليح وأنا اقول لو لم يكن لأندلسنا إلا ما رسول الله بشر به ووصف أسلافنا المجاهدين فيه بصفات الملوك على الأسرة في الحديث الذي رويناه من طريق ابي حمزة أنس بن مالك أن خالته أم حرام بنت ملحان زوج أبي الوليد عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وعنهم أجمعين حدثته عن النبي أنه أخبرها بذلك لكفى شرفا بذلك يسر عاجله ويغبط آجله
فإن قال قائل فلعله صلوات الله تعالى عليه إنما عنى بذلك الحديث أهل صقلية وإقريطش وما الدليل على ما ادعيته من أنه عنى الأندلس حتما ومثل هذا من التأويل لا يتساهل فيه ذو ورع دون برهان واضح وبيان لائح لا يحتمل التوجيه ولا يقبل التجريح فالجواب - وبالله التوفيق - أنه قد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب وأمر بالبيان لما أوحي إليه وقد أخبر في ذلك الحديث المتصل سنده بالعدول عن العدول بطائفتين من أمته يركبون ثبج هذا البحر غزاة واحدة بعد واحدة فسألته أم حرام أن يدعو ربه تعالى أن يجعلها منهم فأخبرها وخبره الحق بأنها من الأولين وهذا من أعلام نبوته وهو إخباره بالشيء قبل كونه وصح البرهان على رسالته بذلك وكانت من الغزاة إلى قبرس وخرت عن بغلتها هناك فتوفيت رحمها الله تعالى ! وهي أول غزاة ركب فيها المسلمون البحر فثبت يقينا أن الغزاة إلى قبرس هم الأولون الذين بشر بهم النبي وكانت أم حرام منهم كما أخبر صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولا سبيل أن يظن به

وقد أوتي ما أوتي من البلاغة والبيان أنه يذكر طائفتين قد سمى إحداهما أولى إلا والتالية لها ثانية فهذا من باب الإضافة وتركيب العدد وهذا يقتضي طبيعة صناعة المنطق إذ لا تكون الأولى أولى إلا لثانية ولا ثانية إلا لأولى فلا سبيل إلى ذكر ثالث إلا بعد ثان ضرورة وهو إنما ذكر طائفتين وبشر بفئتين وسمى إحداهما الأولين فاقتضى ذلك بالقضاء الصدق آخرين والآخر من الأول هو الثاني الذي أخبر أنه خير القرون بعد قرنه وأولى القرون بكل فضل بشهادة رسول الله بأنه خير من كل قرن بعده ثم ركب البحر بعد ذلك أيام سليمان بن عبد الملك إلى القسطنطينية وكان الأمير بها في تلك السفن هبيرة الفزاري وأما صقلية فإنها فتحت صدر أيام الأغالبة سنة 212 أيام قاد إليها السفن غازيا أسد بن الفرات القاضي صاحب أبي يوسف رحمه الله تعالى وبها مات وأما إقريطش فإنها فتحت بعد الثلاث والمائتين افتتحها أبو حفص عمر بن شعيب المعروف بابن الغليظ من أهل قرية بطروج من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة من بلاد الأندلس وكان من فل الربضيين وتداولها بنوه بعده إلى أن كان آخرهم عبد العزيز بن شعيب الذي غنمها في أيامه أرمانوس بن قسطنطين ملك الروم سنة 350 وكان أكثر المفتتحين لها أهل الأندلس

وأما في قسم الأقاليم فإن قرطبة مسقط رؤوسنا ومعق تمائمنا مع سر من رأى في إقليم واحد فلنا من الفهم والذكاء ما اقتضاه إقليمنا وإن كانت الأنوار لا تأتينا إلا مغربة عن مطالعها على الجزء المعمور وذلك عند المحسنين للأحكام التي تدل عليها الكواكب ناقص من قوى دلائلها فلها من ذلك على كل حال حظ يفوق حظ أكثر البلاد بارتفاع أحد النيرين بها تسعين درجة وذلك من أدلة التمكن في العلوم والنفاذ فيها عند من ذكرنا وقد صدق ذلك الخبر وأبانته التجربة فكان أهلها من التمكن في علوم القراءات والروايات وحفظ كثير من الفقه والبصر بالنحو والشعر واللغة والخبر والطب والحساب والنجوم بمكان رحب الفناء واسع العطن متنائي الأقطار فسيح المجال والذي نعاه علينا الكاتب المذكور لو كان كما ذكر لكنا فيه شركاء لأكثر أمهات الحواضر وجلائل البلاد ومتسعات الأعمال فهذه القيروان بلد المخاطب لنا ما اذكر أني رأيت في أخبارها تأليفا غير المعرب عن أخبار المغرب وحاشا تواليف محمد بن يوسف الوراق فإنه ألف للمستنصر رحمه الله تعالى في مسالك إفريقية وممالكها ديوانا ضخما وفي أخبار ملوكها وحروبهم والقائمين عليهم كتبا جمة وكذلك ألف أيضا في أخبار تيهرت ووهران وتنس وسجلماسة ونكور والبصرة وغيرها تواليف حسانا ومحمد هذا اندلسي الأصل والفرع آباؤه من وادي الحجارة ومدفنه بقرطبة وهجرته إليها وإن كانت نشأته بالقيروان
ولا بد من إقامة الدليل على ما أشرت إليه ها هنا إذ مرادنا أن نأتي منه

بالمطلب فيما يستأنف إن شاء الله تعالى وذلك أن جميع المؤرخين من ائمتنا السالفين والباقين دون محاشاة أحد بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكناها إلى أن مات فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة رضي الله تعالى عنهم وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهرا وقد بقي 58 عاما وأشهرا بمكة والمدينة شرفهما الله تعالى
وكذلك أيضا أكثر أعمار من ذكرنا وإن ذكروا البصريين بدأوا بعمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر وأبي بكرة وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف وجمهرة أعمارهم خلت هنالك وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وأبي عبيدة بن الجراح ومعاذ ومعاوية والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم وكذلك في المصريين عمرو بن العاص وخارجة بن حذافة العدوي وفي المكيين عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحق به وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض اتباعه وخلافه محرم اقترافه ومن هاجر منا إلى غيرنا فلا حظ لنا فيه والمكان الذي اختاره أسعد به فكما لا ندع إسماعيل بن القاسم فكذلك لا ننازع في محمد بن هانئ سوانا والعدل أولى ما حرص عليه والنصف أفضل ما دعي إليه بعد التفصيل الذي ليس هذا موضعه وعلى ما ذكرنا من الأنصاف تراضى الكل

وهذه بغداد حاضرة الدنيا ومعدن كل فضيلة والمحلة التي سبق أهلها إلى حمل ألوية المعارف والتدقيق في تصريف العلوم ورقة الأخلاق والنباهة والذكاء وحدة الأفكار ونفاد الخواطر وهذه البصرة وهي عين المعمور في كل ما ذكرنا وما أعلم في أخبار بغداد تأليفا غير كتاب أحمد بن أبي طاهر وأما سائر التواريخ التي ألفها أهلها فلم يخصوا بلدتهم بها دون سائر البلاد ولا أعلم في أخبار البصرة غير كتاب عمر بن شبة وكتاب لرجل من ولد الربيع ابن زياد المنسوب إلى أبي سفيان في خطط البصرة وقطائعها وكتابين لرجلين من أهلها يسمى أحدهما عبد القاهر كريزي النسب في صفاتها وذكر أسواقها ومحالها وشوارعها ولا أعلم في أخبار الكوفة غير كتاب عمر بن شبة وأما الجبال وخراسان وطبرستان وجرجان وكرمان وسجستان والري والسند وأرمينية وأذربيجان وتلك الممالك الكثيرة الضخمة فلا أعلم في شيء منها تأليفا قصد به أخبار ملوك تلك النواحي وعلمائها وشعرائها وأطبائها ولقد تاقت النفوس إلى أن يتصل بها تأليف في أخبار فقهاء بغداد وما علمناه علم على أنهم العلية الرؤساء والأكابر العظماء ولو كان في شيء من ذلك تأليف لكان الحكم في الأغلب أن يبلغنا كما بلغ سائر تأليفهم وكما بلغنا كتاب حمزة بن الحسن الأصبهاني في أخبار أصبهان وكتاب

الموصلي وغيره في أخبار مصر وكما بلغنا سائر تواليفهم في أنحاء العلوم وقد بلغنا تأليف القاضي أبي العباس محمد بن عبدون القيرواني في الشروط واعتراضه على الشافعي رحمه الله تعالى وكذلك بلغنا رد القاضي أحمد بن طالب التميمي على أبي حنيفة وتشيعه على الشافعي وكتب ابن عبدوس ومحمد بن سحنون وغير ذلك من خوامل تآليفهم دون مشهورها
وأما جهتنا فالحكم في ذلك ما جرى به المثل السائر ( ( أزهد الناس في عالم أهله ) ) وقرأت في الإنجيل أن عيسى عليه السلام قال ( ( لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده ) ) وقد تيقنا ذلك بما لقي النبي من قريش - وهم أوفر الناس أحلاما وأصحهم عقولا وأشدهم تثبتا مع ما خصوا به من سكناهم أفضل البقاع وتغذيتهم بأكرم المياه - حتى خص الله تعالى الأوس والخزرج بالفضيلة التي أبانهم بها عن جميع الناس والله يؤتي فضله من يشاء ولا سيما أندلسنا فإنها خصت من حسد أهلها للعالم الظاهر فيهم الماهر منهم واستقلالهم

كثير ما يأتي به واستهجانهم حسناته وتتبعهم سقطاته وعثراته وأكثر ذلك مدة حياته بأضعاف ما في سائر البلاد إن أجاد قالوا سارق مغير ومنتحل مدع وإن توسط قالوا غث بارد وضعيف ساقط وإن باكر الحيازة لقصب السبق قالوا متى كان هذا ومتى تعلم وفي أي زمان قرأ ولأمه الهبل ! وبعد ذلك إن ولجت به الأقدار أحد طريقين إما شفوفا بائنا يعليه على نظرائه أو سلوكا في غير السبيل التي عهدوها فهنالك حمي الوطيس على البائس وصار غرضا للأقوال وهدفا للمطالب ونصبا للتسبب إليه ونهبا للألسنة وعرضة للتطرق إلى عرضه وربما نحل ما لم يقل وطوق ما لم يتقلد وألحق به ما لم يفه به ولا أعتقده قلبه وبالحرى وهو السابق المبرز إن لم يتعلق من السلطان بحظ أن يسلم من المتالف وينجو من المخالف فإن تعرض لتأليف غمز ولمز وتعرض وهمز واشتط عليه وعظم يسير خطبه واستشنع هين سقطه وذهبت محاسنه وسترت فضائله وهتف ونودي بما أغفل فتنكس لذلك همته وتكل نفسه وتبرد حميته وهكذا عندنا نصيب من ابتدأ يحوك شعرا أو يعمل بعمل رسالة فإنه لا يفلت من هذه الحبائل ولا يتخلص من هذه النصب إلا الناهض الفائت والمطفف المستولي على الأمد
وعلى ذلك فقد جمع ما ظنه الظان غير مجموع وألفت عندنا تآليف في غاية الحسن لنا خطر السبق في بعضها فمنها كتاب الهداية لعيسى بن دينار وهي أرفع كتب جمعت في معناها على مذهب مالك و ابن القاسم وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب فمنها كتاب الصلاة و كتاب البيوع وكتاب الجدار في الأقضية وكتاب النكاح والطلاق ومن الكتب المالكية التي

ألفت بالأندلس كتاب القطني مالك بن علي وهو رجل قرشي من بني فهر لقي أصحاب مالك وأصحاب أصحابه وهو كتاب فيه غرائب ومستحسنات من الرسائل المولدات ومنها كتاب أبي إسحاق يحيى بن إبراهيم بن مزين في تفسير الموطأ والكتب المستقصية لمعاني الموطأ وتوصيل مقطوعاته من تآليف ابن مزين أيضا وكتابه في رجال الموطأ وما لمالك عن كل واحد منهم من الآثار في موطإه وفي تفسير القرآن كتاب أبي عبد الرحمن بقي بن مخلد فهو الكتاب الذي أقطع قطعا لا أستثني فيه أنه لم يؤلف في الإسلام تفسير مثله ولا تفسير محمد بن جرير الطبري ولا غيره
ومنها في الحديث مصنفه الكبير الذي رتبه على أسماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف ثم رتب حديث كل صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام فهو مصنف ومسند وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث وجودة شيوخه فإنه روى عن مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلا ليس فيهم عشرة ضعفاء وسائرهم أعلام مشاهير
ومنها مصنفه في فضل الصحابة والتابعين ومن دونهم

الذي اربى فيه على مصنف أبي بكر بن أبي شيبة ومصنف عبد الرزاق بن همام ومصنف سعيد بن منصور وغيرها وانتظم علما عظيما لم يقع في شيء من هذه فصارت تآليف هذا الإمام الفاضل قواعد للإسلام لا نظير لها وكان متخيرا لا يقلد أحدا وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه
ومنها في أحكام القرآن كتاب ابن أمية الحجاري وكان شافعي المذهب بصيرا بالكلام على اختياره وكتاب القاضي أبي الحكم منذر بن سعيد وكان داودي المذهب قويا على الانتصار له وكلاهما في أحكام القرآن غاية ولمنذر مصنفات منها كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة
ومنها في الحديث مصنف أبي محمد قاسم بن أصبغ بن يوسف بن ناصح ومصنف محمد بن عبد الملك بن أيمن وهما مصنفان رفيعان احتويا من صحيح الحديث وغريبه على ما ليس في كثير من المصنفات و لقاسم بن أصبغ هذا تآليف حسان جدا منها أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل وكلامه ومنها كتاب المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى وهو خير منه وأنقى حديثا وأعلى سندا وأكثر فائدة ومنها كتاب في فضائل قريش وكنانة وكتابه في الناسخ والمنسوخ وكتاب غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطأ
ومنها كتاب التمهيد لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبد البر وهو الآن بعد في الحياة لم يبلغ سن الشيخوخة وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلا فكيف أحسن منه ومنها كتاب الاستذكار وهو اختصار التمهيد المذكور ولصاحبنا أبي عمر بن عبد البر

المذكور كتب لا مثيل لها منها كتابه المسمى بالكافي في الفقه على مذهب مالك وأصحابه خمسة عشر كتابا اقتصر فيه على ما بالمفتي الحاجة إليه وبوبه وقربه فصار مغنيا عن التصنيفات الطوال في معناه ومنها كتابه في الصحابة ليس لأحد من المتقدمين مثله على كثرة ما صنفوا في ذلك ومنها كتاب الاكتفاء في قراءة نافع وأبي عمرو ابن العلاء والحجة لكل واحد منهما ومنها كتاب بهجة المجالس وأنس المجالس مما يجري في المذاكرات من غرر الأبيات ونوادر الحكايات ومنها كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته
ومنها كتاب شيخنا القاضي أبي الوليد عبد الله بن محمد بن يوسف بن الفرضي في المختلف والمؤتلف في أسماء الرجال ولم يبلغ عبد الغني الحافظ البصري في ذلك إلا كتابين وبلغ أبو الوليد رحمه الله تعالى نحو الثلاثين لا أعلم مثله في فنه البتة ومنها تاريخ أحمد بن سعيد ما وضع في الرجال أحد مثله إلا ما بلغنا من تاريخ محمد بن موسى العقيلي البغدادي ولم أره و أحمد بن سعيد هو المتقدم إلى التأليف القائم في ذلك ومنها كتب محمد بن أحمد بن يحيى بن مفرج القاضي وهي كثيرة منها أسفار سبعة جمع فيها فقه الحسن البصري وكتب كثيرة جمع فيها فقه الزهري
ومما يتعلق بذلك شرح الحديث لقاسم بن ثابت السرقسطي فما شآه

أبو عبيد إلا بتقدم العصر فقط
ومنها في الفقه ( ( الواضحة ) ) والمالكيون لا تمانع بينهم في فضلها واستحسانهم إياها ومنها المستخرجة من الأسمعة وهي المعروفة ب العتبية ولها عند أهل إفريقية القدر العالي والطيران الحثيث والكتاب الذي جمعه أبو عمر أحمد ابن عبد الملك بن هشام الإشبيلي المعروف بابن المكوي و القرشي أبو مروان المعيطي في جمع أقاويل مالك كلها على نحو الكتاب الباهر الذي جمع فيه القاضي أبو بكر محمد بن أحمد بن الحداد البصري أقاويل الشافعي كلها ومنها كتاب المنتخب الذي ألفه القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة وما رأيت لمالكي قط كتابا أنبل منه في جمع روايات المذهب وشرح مستغلقها وتفريع وجوهها وتأليف قاسم بن محمد المعروف بصاحب الوثائق وكلها حسن في معناه وكان شافعي المذهب نظارا جاريا في ميدان البغداديين
ومنها في اللغة الكتاب البارع الذي ألفه إسماعيل بن القاسم يحتوي على لغة العرب وكتابه في المقصور والممدود والمهموز لم يؤلف مثله في بابه وكتاب الأفعال لمحمد بن عمر بن عبد العزيز المعروف بابن القوطية بزيادات ابن طريف مولى العبديين فلم يوضع في فنه مثله كتاب جمعه أبو

غالب تمام بن غالب المعروف ابان التياني في اللغة لم يؤلف مثله اختصارا وإكثارا وثقة نقل وهو أظن في الحياة بعد
وههنا قصة لا ينبغي أن تخلو رسالتنا منها وهي أن أبا الوليد عبد الله بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الفرضي حدثني أن أبا الجيش مجاهدا صاحب الجزائر ودانية وجه إلى أبي غالب أيام غلبته على مرسية وأبو غالب ساكن بها ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة الكتاب المذكور ( ( مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد ) ) فرد الدنانير وأبى من ذلك ولم يفتح في هذا بابا البتة وقال والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت ولا استجزت الكذب لأني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب فأعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها وأعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها
ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد في اللغة المعروف بكتاب العالم نحو مائة سفر على الأجناس في غاية الإيعاب بدأ بالفلك وختم بالذرة وكتاب النوادر لأبي علي إسماعيل بن القاسم وهو مبار لكتاب الكامل لأبي العباس المبرد ولعمري لئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحوا وخبرا فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرا وكتاب الفصوص لصاعد بن الحسن الربعي وهو جار في مضمار الكتابين المذكورين
ومن الأنحاء تفسير الجرفي لكتاب الكسائي حسن في معناه وكتاب

ابن سيده في ذلك المنبوز ب العالم والمتعلم وشرح له لكتاب الأخفش
ومما ألف في الشعر كتاب عبادة بن ماء السماء في أخبار شعراء الأندلس كتاب حسن وكتاب الحدائق لأبي عمر أحمد بن فرج عارض به كتاب الزهرة لأبي محمد ابن داود رحمه الله تعالى إلا أن أبا بكر إنما أدخل مائة باب في كل باب مائة بيت و أبو عمر أورد مائتي باب في كل باب مائة بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر ولم يورد فيه لغير أندلسي شيئا وأحسن الاختيار ما شاء وأجاد فبلغ الغاية وأتى الكتاب فردا في معناه ومنها كتاب التشبيهات من أشعار أهل الأندلس جمعه أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسن الكاتب وهو حي بعد ومما يتعلق بذلك شرح أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن الإفليلي لشعر المتنبي وهو حسن جدا
ومن الأخبار تواريخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وذلك كثير جدا وكتاب له في صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها على نحو ما بدأ به ابن أبي طاهر في اخبار بغداد وذكر منازل صحابة أبي جعفر المنصور بها وتواريخ متفرقة رأيت منها أخبار عمر بن حفصون القائم برية ووقائعه وسيره وحروبه وتاريخ آخر في أخبار عبد الرحمن بن مروان الجليقي القائم بالجوف وفي أخبار بني

قسي والتجيبيين وبني الطويل بالثغر فقد رأيت من ذلك كتبا مصنفة في غاية الحسن وكتاب مجزأ في أجزاء كثيرة في أخبار رية وحصونها وحروبها وفقهائها وشعرائها تأليف إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني وكتاب محمد بن الحارث الخشني في ( ( أخبار القضاة بقرطبة وسائر الأندلس وكتاب في أخبار الفقهاء بها وكتاب لأحمد بن محمد بن موسى في أنساب مشاهير أهل الأندلس في خمسة أسفار ضخمة من أحسن كتاب في الأنساب وأوسعها وكتاب قاسم بن أصبغ في الأنساب في غاية الحسن والإيعاب والإيجاز وكتابه في فضائل بني أمية وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره ومنها كتب مؤلفة في أصحاب المعاقل والأجناد الستة بالأندلس ومنها كتب كثيرة جمعت فيها أخبار شعراء الأندلس للمستنصر رحمه الله تعالى رأيت منها أخبار شعراء إلبيرة في نحو عشرة أجزاء ومنها كتاب الطوالع في أنساب أهل الأندلس ومنها كتاب التاريخ في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان ابن حيان نحو عشرة أسفار من أجل كتاب ألف في هذا المعنى وهو في الحياة بعد لم يتجاوز الاكتهال وكتاب المآثر العامرية لحسين بن عاصم في سير ابن أبي عامر وأخباره وكتاب الأقشتين محمد بن عاصم النحوي في

طبقات الكتاب بالأندلس وكتاب سكن بن سعيد في ذلك وكتاب أحمد ابن فرج في المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم وكتاب أخبار أطباء الأندلس لسليمان بن جلجل وأما الطب فكتب الوزير يحيى بن إسحاق وهي كتب حسان رفيعة وكتب محمد بن الحسن المذحجي أستاذنا رحمه الله تعالى وهو المعروف بابن الكتاني وهي كتب رفيعة حسان وكتب التصريف لأبي القاسم خلف بن عياش الزهراوي وقد أدركناه وشاهدناه ولئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع لنصدقن وكتب ابن الهيثم في الخواص والسموم والعقاقير من أجل الكتب وأنفعها
وأما الفلسفة فإني رأيت فيها رسائل مجموعة وعيونا مؤلفة لسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار دالة على تمكنه من هذه الصناعة وأما رسائل أستاذنا أبي عبد الله محمد بن الحسن المذحجي في ذلك فمشهورة متداولة وتامة الحسن فائقة الجودة عظيمة المنفعة

وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ولا تحققنا به فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من المقصر في المؤلفين فيه من أهل بلدنا إلا أني سمعت من أثق بعقله ودينه من أهل العلم ممن اتفق على رسوخه فيه يقول إنه لم يؤلف في الأزياج مثل زيج مسلمة وزيج ابن السمح وهما من أهل بلدنا وكذلك كتاب المساحة المجهولة لأحمد بن نصر فما تقدم إلى مثله في معناه
وإنما ذكرنا التآليف المستحقة للذكر والتي تدخل تحت الأقسام السبعة التي لا يؤلف عاقل عالم إلا في أحدها وهي إما شيء لم يسبق إليه يخترعه أو شيء ناقص يتمه أو شيء مستغلق يشرحه أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه أو شيء متفرق يجمعه أو شيء مختلط يرتبه أو شيء أخطأ فيه مؤلفه يصلحه
وأما التواليف المقصرة عن مراتب غيرها فلم نلتفت إلى ذكرها وهي عندنا من تأليف أهل بلدنا أكثر من أن نحيط بعلمها
وأما علم الكلام فإن بلادنا وإن كانت لم تتجاذب فيها الخصوم ولا اختلفت فيها النحل فقل لذلك تصرفهم في هذا الباب فهي على كل حال غير عرية عنه وقد كان فيهم قوم يذهبون إلى الاعتزال نظار على أصوله ولهم فيه تواليف منهم خليل بن إسحاق ويحيى بن السمينة والحاجب موسى بن حدير وأخوه الوزير صاحب المظالم أحمد وكان داعية إلى الاعتزال

لا يستتر بذلك ولنا على مذهبنا الذي تخيرناه من مذاهب أصحاب الحديث كتاب في هذا المعنى وهو وإن كان صغير الجرم قليل عدد الورق يزيد على المائتين زيادة يسيرة فعظيم الفائدة لأنا أسقطنا فيه المشاغب كلها وأضربنا عن التطويل جملة واقتصرنا على البراهين المنتخبة من المقدمات الصحاح الراجعة إلى شهادة الحس وبديهة العقل لها بالصحة
ولنا فيما تحققنا به تآليف جمة منها ما قد تم ومنها ما شارف التمام ومنها ما قد مضى منه صدر ويعين الله تعالى على باقيه لم نقصد به قصد مباهاة فنذكرها ولا أردنا السمعة فنسميها والمراد بها ربنا جل وجهه وهو ولي العون فيها والملي بالمجازاة عليها وما كان لله تعالى فسيبدو وحسبنا الله ونعم الوكيل
وبلدنا هذا - على بعده من ينبوع العلم ونأيه من محلة العلماء - فقد ذكرنا من تآليف أهله ما إن طلب مثلها بفارس والأهواز وديار مضر وديار ربيعة واليمن والشام أعوز وجود ذلك على قرب المسافة في هذه البلاد من العراق التي هي دار هجرة الفهم وذويه ومراد المعارف وأربابها
ونحن إذا ذكرنا أبا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به إلا جريرا والفرزدق لكونه في عصرهما ولو أنصف لاستشهد بشعره فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين وإذا سمينا بقي بن مخلد لم نسابق به إلا محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج النيسابوري و سليمان ابن الأشعث السجستاني و أحمد بن شعيب النسائي وإذا ذكرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال و محمد بن عقيل الفرياني وهو شريكهما في صحبة المزني أبي إبراهيم والتلمذة له وإذا نعتنا عبد الله بن قاسم بن هلال و منذر بن سعيد لم نجار

بهما إلا أبا الحسن بن المفلس و الخلال و الديباجي و رويم بن أحمد
وقد شاركهم عبد الله في أبي سليمان وصحبته وإذا أشرنا إلى محمد بن عمر بن لبابة وعمه محمد بن عيسى و فضل بن سلمة لم نناطح بهم إلا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم و محمد بن سحنون و محمد بن عبدوس وإذا صرحنا بذكر محمد بن يحيى الرباحي و أبي عبد الله محمد بن عاصم لم يقصرا عن أكابر أصحاب محمد بن يزيد المبرد
ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن محمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد و حبيب والمتنبي فكيف ولنا معه جعفر بن عثمان الحاجب و أحمد بن عبد الملك بن مروان و أغلب بن شعيب و محمد بن شخيص و احمد بن فرج و عبد الملك بن سعيد المرادي وكل هؤلاء فحل يهاب جانبه وحصان ممسوح الغرة
ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد صديقنا وصاحبنا وهو حي بعد لم يبلغ سن الاكتهال وله من التصرف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار يكاد ينطق فيه بلسان مركب من لساني عمرو وسهل ومحمد بن عبد الله بن مسرة في طريقه التي سلك فيها وإن كنا لا نرضى مذهبه في جماعة يكثر تعدادهم

وقد انتهى ما اقتضاه خطاب الكاتب رحمه الله تعالى من البيان ولم نتزيد فيما رغب فيه إلا ما دعت الضرورة إلى ذكره لتعلقه بجوابه والحمد لله الموفق لعلمه والهادي إلى الشريعة المزلفة منه والموصلة وصلى الله على محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وكرم
انتهت الرسالة
وكتب الحافظ ابن حجر على هامش قوله فيها ( ( وإنما سكن على الكوفة خمسة أعوام وأشهرا ) ) ما نصه صوابه أربعة أعوام انتهى
7 - تذييل ابن سعيد على رسالة ابن حزم
وقال ابن سعيد بعد ذكره هذه الرسالة ما صورته رأيت أن أذيل ما ذكره الوزير الحافظ أبو محمد بن حزم من مفاخر أهل الأندلس بما حضرني والله تعالى ولي الإعانة أما القرآن فمن أجل ما صنف في تفسيره كتاب الهداية إلى بلوغ النهاية في نحو عشرة أسفار صنفه الإمام العالم الزاهد أبو محمد مكي بن أبي طالب القرطبي وله كتاب تفسير إعراب القرآن وعد ابن غالب في كتاب فرحة الأنفس تآليف مكي المذكور فبلغ بها 77 تأليفا وكانت وفاته سنة 437 و لأبي محمد بن عطية الغرناطي في تفسير القرآن الكتاب الكبير الذي اشتهر وطار في الغرب والشرق وصاحبه من فضلاء المائة السادسة وأما القراءات فلمكي المذكور فيها كتاب التبصرة وكتاب التيسير

لأبي عمرو الداني مشهور في أيدي الناس
وأما الحديث فكان بعصرنا في المائة السابعة الإمام أبو الحسن علي بن القطان القرطبي الساكن بحضرة مراكش وله في تفسير غرائبه وفي رجاله مصنفات وإليه كانت النهاية والإشارة في عصرنا وسمعت أنه كان اشتغل بجمع أمهات كتب الحديث المشهورة وحذف المكرر وكتاب رزين بن عمار الأندلسي في جمع ما يتضمنه كتاب مسلم و البخاري و الموطأ و السنن و النسائي و الترمذي كتاب جليل مشهور في أيدي الناس بالمشرق والمغرب وكتاب الأحكام لأبي محمد عبد الحق الإشبيلي مشهور متداول القراءة وهي أحكام كبرى وأحكام صغرى قيل ووسطى وكتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي مشهور
وأما الفقه فالكتاب المعتمد عليه الآن الذي ينطلق عليه اسم الكتاب عند المالكية حتى بالإسكندرية فكتاب التهذيب للبراذعي السرقسطي وكتاب النهاية لأبي الوليد بن رشد كتاب جليل معظم معتمد عليه عند المالكية وكذلك كتاب المنتقى للباجي
وأما أصول الدين وأصول الفقه فللإمام أبي بكر ابن العربي الإشبيلي من

ذلك ما منه كتاب العواصم والقواصم المشهور بأيدي الناس وله تآليف في غير هذا ولأبي الوليد ابن رشد في أصول الفقه ما منه مختصر المستصفى وأما التواريخ فكتاب ابن حيان الكبير المعروف بالمتين في نحو ستين مجلدة وإنما ذكر ابن حزم كتاب المقتبس وهو في عشر مجلدات والمتين يذكر فيه أخبار عصره ويمعن فيها مما شاهده ومنه ينقل صاحب الذخيرة وقد ذيل عليه أبو الحجاج البياسي أحد معاصرينا وهو الآن بإفريقية في حضرتها تونس عند سلطانها تحت إحسانه الغمر وكتاب المظفر بن الأفطس ملك بطليوس المعروف بالمظفري نحو كتاب المتين في الكبر وفيه تاريخ على السنين وفنون آداب كثيرة وتاريخ ابن صاحب الصلاة في الدولة اللمتونية وذكر ابن غالب أن ابن الصيرفي الغرناطي له كتاب في أخبار دولة لمتونة وأن أبا الحسن السالمي له كتاب في أخبار الفتنة الثانية بالأندلس بدأ من سنة 539 ورتبه على السنين وبلغ به سنة 547 وأبو القاسم خلف بن بشكوال له كتاب في تاريخ أصحاب الأندلس من فتحها إلى زمانه وأضاف إلى ذلك من أخبار قرطبة وغيرها ما جاء في خاطره وله كتاب الصلة في تاريخ العلماء وللحميدي قبله جذوة المقتبس وقد ذيل كتاب الصلة في عصرنا هذا أبو عبد الله بن الأبار البلنسي كاتب سلطان إفريقية
وذكر ابن غالب أن الفقيه أبا جعفر بن عبد الحق الخزرجي القرطبي له كتاب كبير بدأ فيه من بدء

الخليقة إلى أن انتهى في أخبار الأندلس إلى دولة عبد المؤمن قال وفارقته سنة 565 و أبو محمد ابن حزم صاحب الرسالة المتقدمة الذكر له كتب جمة في التواريخ مثل كتاب نقط العروس في تواريخ الخلفاء وقد صنف أبو الوليد بن زيدون كتاب التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس على منزع كتاب التعيين في خلفاء المشرق للمسعودي
وللقاضي أبي القاسم صاعد بن أحمد الطليطلي كتاب التعريف بأخبار علماء الأمم من العرب والعجم وكتاب جامع أخبار الأمم
وأبو عمر بن عبد البر له كتاب القصد والأمم في معرفة أخبار العرب والعجم وعريب
بن سعد القرطبي له كتاب اختصار تاريخ الطبري قد سعد باغتباط الناس به وأضاف إليه تاريخ إفريقية والأندلس و لأحمد بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن أبي الفياض كتاب العبر وكتاب أبي بكر الحسين بن محمد الزبيدي في أخبار النحويين واللغويين بالمشرق والأندلس ) ) وكتاب القاضي أبي الوليد ابن الفرضي في أخبار العلماء والشعراء وما يتعلق بذلك وليحيى بن حكم الغزال تاريخ ألفه كله منظوما كما صنع أيضا بعده أبو طالب المتنبي من جزيرة شقر في التاريخ الذي أورد منه صاحب الذخيرة ما أورد وكتاب الذخيرة لابن بسام في جزيرة الأندلس ليس هذا مكان الإطناب في تفصيلها وهي كالذيل على حدائق ابن فرج وفي عصرها صنف الفتح كتاب القلائد وهو مملوء بلاغة

والمحاكمة بين الكتابين ذكرت بمكان آخر ذكرت بمكان ولصاحب القلائد كتاب المطمح وهو ثلاث نسخ كبرى ووسطى وصغرى يذكر فيها من الذين ذكرهم في القلائد ومن غيرهم الذين كانوا قبل عصرهم وكتاب سمط الجمان وسقط المرجان لأبي عمرو بن بعد الإمام بعد الكتابين المذكورين ذكر من أخلا بتوفيته حقه من الفضلاء واستدرك من أدركه بعصره في بقية المائة السادسة وذيل عليه - وإن كان ذيلا قصيرا - أبو بحر صفوان بن إدريس المرسي بكتاب زاد المسافر ذكر فيه جماعة ممن أدرك المائة السابعة وكتاب أبي محمد عبد الله بن إبراهيم الحجاري المسمى ب المسهب في فضائل المغرب صنفه بعد الذخيرة و القلائد من أول ما عمرت الأندلس إلى عصره وخرج فيه عن مقصد الكتابين إلى ذكر البلاد وخواصها مما يختص بعلم الجغرافيا وخلطه بالتاريخ وتفنن الأدب على ما هو مذكور في غير هذا المكان ولم يصنف في الأندلس مثل كتابه ولذلك فضله المصنف له عبد الملك بن سعيد وذيل عليه ثم ذيل على ذلك ابناه أحمد ومحمد ثم موسى بن محمد ثم علي بن موسى كاتب هذه النسخة ومكمل كتاب فلك الأدب المحيط بحلى لسان العرب المحتوي على كتابي المشرق في حلى المشرق و المغرب في حلى المغرب فيكفي الأندلس في هذا الشأن تصنيف هذا الكتاب بين ستة أشخاص في 115 سنة آخرها سنة 645 وقد احتوى على جميع ما يذاكر به ويحاضر بحلاه من فنون الأدب المختارة على جهد الطاقة في شرق وغرب على النوع الذي هو مذكور في غير هذا الموضع ومن أغفلت التنبيه على عصره وغير ذلك من المصنفين المتقدمي الذكر فيطلب الملتمس منهم في مكانه المنسوب إليه كابن

بسام في شنترين والفتح في إشبيلية وابن الإمام في إستجة والحجاري في وادي الحجارة وأما ما جاء منثورا من فنون الأدب فكتاب سراج الأدب لأبي عبد الله بن أبي الخصال الشقوري رئيس كتاب الأندلس صنفه على منزع كتاب النوادر لأبي علي و زهر الآداب للحصري وكتاب واجب الأدب لوالدي لوالدي موسى بن محمد بن سعيد واسمه يغني عن المراد به وكتاب اللآلئ لأبي عبيد البكري على كتاب الأمالي لأبي علي البغدادي مفيد في الأدب وكذلك كتاب الاقتضاب في شرح أدب الكتاب لأبي محمد ابن السيد البطليوسي وأما شرح سقط الزند له فهو الغاية ويكفي ذكره عند أرباب هذا الشأن وثناؤهم عليه وشروح أبي الحجاج الأعلم لشعر المتنبي والحماسة وغير ذلك مشهورة وأما النحو فلأهل الأندلس من الشروح على ( ( الجمل ) ) ما يطول ذكره فمنها شرح ابن خروف ومنها شرح الرندي ومنها شيخنا أبي الحسن ابن عصفور الإشبيلي وإليه انتهت علوم النحو وعليه الإحالة الآن من المشرق والمغرب وقد أتيت له من إفريقية بكتاب المقرب في النحو فتلقي باليمين من كل جهة وطار بجناح الاغتباط ولشيخنا أبي علي الشلوبين كتاب التوطئة على الجزولية وهو مشهور و لابن السيد و ابن الطراوة و السهيلي من التقييدات في النحو ما هو مشهور عند أصحاب هذا الشأن معتمد عليه و لأبي الحسن بن خروف شرح مشهور على كتاب سيبويه وأما علم الجغرافيا فيكفي في ذلك كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري

الأونبي وكتاب معجم ما استعجم من البقاع والأماكن وفي كتاب المسهب للحجاري في هذا الشأن وتذييلنا عليه في هذا الكتاب الجامع ما جمع زبد الأولين والآخرين في ذلك وأما الموسيقى فكتاب أبي بكر بن باجة الغرناطي في ذلك فيه كفاية وهو في المغرب بمنزلة ابي نصر الفارابي بالمشرق وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد و ليحيى الخدوج المرسي كتاب الأغاني الأندلسية على منزع الأغاني لأبي الفرج وهو ممن أدرك المائة السابعة وأما الطب فالمشهور بأيدي الناس الآن في المغرب وقد سار أيضا في المشرق لنبله كتاب التيسير لعبد الملك بن أبي العلاء ابن زهر وله كتاب الأغذية ايضا مشهور مغتبط به في المغرب والمشرق و لأبي العباس ابن الرومية الإشبيلي من علماء عصرنا بهذا الشأن كتاب في الأدوية المفردة وقد جمع أبو محمد المالقي الساكن الآن بقاهرة مصر كتابا في هذا الشأن حشر عليه ما سمع به فقدر عليه من تصانيف الأدوية المفردة ككتاب الغافقي وكتاب الزهراوي وكتاب الشريف الإدريسي الصقلي وغيرها وضبطه على حروف المعجم وهو النهاية في مقصده
وأما الفلسفة فإمامها في عصرنا أبو الوليد بن رشد القرطبي وله فيها تصانيف جحدها لما رأى انحراف منصور بني عبد المؤمن عن هذا العلم

وسجنه بسببها وكذلك ابن حبيب الذي قتله المأمون بن المنصور المذكور على هذا العلم بإشبيلية وهو علم ممقوت بالأندلس لا يستطيع صاحبه إظهاره فلذلك تخفى تصانيفه
وأما التنجيم فلابن زيد الأسقف القرطبي فيه تصانيف وكان مختصا بالمستنصر بن الناصر المرواني وله ألف كتاب تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان وفيه من ذكر منازل القمر وما يتعلق بذلك ما يستحسن مقصده وتقريبه وكان مطرف الإشبيلي في عصرنا قد اشتغل بالتصنيف في هذا الشأن إلا أن أهل بلده كانوا ينسبونه للزندقة بسبب اعتكافه على هذا الشأن فكان لا يظهر شيئا مما يصنف رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس ثم قال ابن سعيد أخبرني والدي قال كنت يوما في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى بن أبي زكريا صهر ناصر بني عبد المؤمن فجرى بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى بن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين فقال الشقندي لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة ولا سارت عنه فضيلة ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلم فقال الأمير أبو يحيى أتريد أن تقول كون أأهل برنا عربا وأهل بركم بربر فقال حاش لله ! فقال الأمير والله ما أردت غير هذا فظهر في وجهه أنه أراد ذلك فقال ابن المعلم أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة فقال الأمير الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكما رسالة في تفضيل بره فالكلام هنا يطول ويمر ضياعا وأرجو إذا أخليتما له فكر كما يصدر عنكما ما يحسن تخليده ففعلا ذلك

فكانت رسالة الشقندي الحمد لله الذي جعل لمن يفخر بجزيرة الأندلس أن يتكلم ملء فيه ويطنب ما شاء فلا يجد من يعترض عليه ولا من يثنيه إذ لا يقال للنهار يا مظلم ولا لوجه النعيم يا قبيح
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل )
أحمده على أن جعلني ممن أنشأته وحباني بأن كنت ممن أظهرته فامتد في الفخر باعي وأعانني على الفضائل كرم طباعي وأصلي على سيدنا محمد نبيه الكريم وعلى آله وصحبه الأكرمين وأسلم تسليما
أما بعد فإنه حرك مني ساكنا وملأ مني فارغا فخرجت عن سجيتي في الإغضاء مكرها إلى الحمية والإباء منازع في فضل الأندلس أراد أن يخرق الإجماع ويأتي بما لم تقبله النواظر والأسماع إذ من رأى ومن سمع لا يجوز عنده ذلك ولا يضله من تاه في تلك المسالك رام أن يفضل بر العدوة على بر الأندلس فرام أن يفضل على اليمين اليسار ويقول الليل أضوأ من النهار فيا عجبا كيف قابل العوالي بالزجاج وصادم الصفاة بالزجاج فيا من نفخ في غير ضرم ورام صيد البزاة بالرخم كيف تتكثر بما جعله الله قليلا وتتعزر بما حكم الله أن يكون ذليلا ماهذه المباهتة التي لا تجوز وكيف تبدي أمام الفتاة العجوز سل العيون إلى وجه من تميل واستخبر الأسماع إلى حديث من تصغي

( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم )
اقن حياءك أيها المغرد بالنحيب المتزين بالخلق المتحبب إلى الغواني بالمشيب الخضيب أين عزب عقلك وكيف نكص على عقبه فهمك ولبك أبلغت العصبية من قلبك أن تطمس على نوري بصرك ولبك أما قولك ( ( الملوك منا ) ) فقد كان الملوك منا أيضا وما نحن إلا كما قال الشاعر
( فيوم علينا ويوم لنا ... ويوم نساء ويوم نسر )
إن كان الآن كرسي جميع بلاد المغرب عندكم بخلافة بني عبد المؤمن - أدامها الله تعالى فقد كان عندنا بخلافة القرشيين الذين يقول مشرقيهم
( وإني من قوم كرام أعزة ... لأقدامهم صيغت رؤوس المنابر )
( خلائف في الإسلام في الشرك قادة ... بهم وإليهم فخر كل مفاخر )
ويقول مغربيهم
( ألسنا بني مروان كيف تبدلت ... بنا الحال أو دارت علينا الدوائر )
( إذا ولد المولود منا تهللت ... له الأرض واهتزت إليه المنابر )
وقد نشأ في مدتهم من الفضلاء والشعراء ما اشتهر في الآفاق وصار أثبت في صحائف الأيام من الأطواق في أعناق الحمام

( وسار مسير الشمس في كل بلدة ... وهب هبوب الريح في البر والبحر ) ولم تزل ملوكهم في الاتساق كما قيل
( إن الخلافة فيكم لم تزل نسقا ... كالعقد منظومة فيه فرائده ) إلى أن حكم الله بنثر سلكهم وذهاب ملكهم فذهبوا وذهبت أخبارهم ودرسوا ودرست آثارهم
( جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جمال الكتب والسير )
فكم مكرمة أنالوها وكم عثرة أقالوها
( وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى ) وكان من حسنات ملكهم المنصور بن أبي عامر وما أدراك الذي بلغ في بلاد النصارى غازيا إلى البحر الأخضر ولم يترك أسيرا في بلادهم من المسلمين ولم يبرح في جيش الهرقل وعزمة الإسكندر ولما قضى نحبه كتب على قبره
( آثاره تنبيك عن أوصافه ... حتى كأنك بالعيان تراه )
( تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبدا ولا يحمي الثغور سواه )
وقد قيل فيه من الأمداح وألف له من الكتب ما سمعت وعلمت حتى قصد من بغداد وعم خيره وشره أقاصي البلاد ولما ثار بعد انتثار

هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد كان في تفرقهم اجتماع على النعم لفضلاء العباد إذ نفقوا سوق العلوم وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول العالم الفلاني عند الملك الفلاني والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم وقد سمعت ما كان منالفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران وسمعت عن الملوك العربية بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود كل منهم قد خلد فيه من الأمداح ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهادي النواسم بين الرياض وتفتك في أموالهم فتكة البراض حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحدا منهم بقصيدة إلا بمائة دينار وأن المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه في قسمه ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختا أن ابا غالب اللغوي ألف كتابا فبذل له مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار ومركوبا وكسى على أن يجعل الكتاب باسمه فلم يقبل ذلك أبو غالب وقال كتاب ألفته لينتفع به الناس وأخلد فيه همتي أجعل في صدره اسم غيري وأصرف الفخر له لا أفعل ذلك فلما بلغ هذا مجاهدا استحسن أنفته وهمته وأضعف له العطاء وقال هو في حل من أن يذكرني فيه لا نصده عن غرضه
وإن كان كل ملوك الأندلس المعروفين بملوك الطوائف قد تنازعوا في ملاءة الحضر فإني أخص منهم بني عباد كما قال الله

تعالى " ( فيهما فاكهة ونخل ورمان ) الرحمن فإن الأيام لم تزل بهم كأعياد وكان لهم من الحنو على الأدب ما لم يقم به بنو حمدان في حلب وكانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدورا في بلاغتي النظم والنثر مشاركين في فنون العلم وآثارهم مذكورة وأخبارهم مشهورة وقد خلدوا من المكارم التامة ما هو متردد في ألسن الخاصة والعامة وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هذه الدعوة المهدية أبسقوت الحاجب أم بصالح البرغواطي أم بيوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا له ذكرا ولا رفعوا لملكه قدرا وبعدما ذكروه بوساطة المعتمد ابن عباد فإن المعتمد قال له وقد أنشدوه أيعلم أمير المسلمين ما قالوه قال لا أعلم ولكنهم يطلبون الخبز ولما انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد رسالة فيها
( بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا )
( حالت لفقدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا )
فلما قرئ عليه هذان البيتين قال للقارئ يطلب منا جواري سودا وبيضا قال لا يا مولانا ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهارا لأن ليالي السرور بيض فعاد نهاره ببعده ليلا لأن أيام الحزن ليال سود فقال والله جيد أكتب له في جوابه إن دموعنا

تجري عليه ورؤوسنا توجعنا من بعده فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هذا الفاضل رقة الشوق
( ولا تنكرن مهما رأيت مقدما ... على حمر بغلا فثم تناسب ) فاسكتوا فلولا هذه الدولة لما كان لكم على الناس صولة
( وإن الورد يقطف من قتاد ... وإن النار تقبس من رماد )
وإنك إن تعرضت للمفاضلة بالعلماء فأخبرني هل لكم في الفقه مثل عبد الملك بن حبيب الذي يعمل بأقواله إلى الآن ومثل أبي الوليد الباجي ومثل أبي بكر ابن العربي ومثل أبي الوليد ابن رشد الأكبر ومثل أبي الوليد ابن رشد الأصغر وهو ابن ابن الأكبر نجوم الإسلام ومصابيح شريعة محمد عليه السلام وهل لكم في الحفظ مثل أبي محمد ابن حزم الذي زهد في الوزارة والمال ومال إلى رتبة العلم ورآها فوق كل رتبة وقال وقد احرقت كتبه
( دعوني من إحراق رق وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري )
( فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس إذ هو في صدري )
ومثل أبي عمر بن عبد البر صاحب الاستذكار و التمهيد ومثل أبي بكر بن الجد حافظ الأندلس في هذه الدولة وهل لكم في حفاظ اللغة كابن سيده صاحب كتاب المحكم وكتاب السماء والعالم الذي إن أعمى الله بصره فما أعمى بصيرته وهل لكم في النحو مثل أبي محمد ابن السيد وتصانيفه ومثل ابن الطراوة ومثل أبي علي الشلوبين الذي بين أظهرنا الآن وقد سار في المغارب والمشارق ذكره وهل لكم في علوم اللحون والفلسفة كابن باجة

وهل لكم في علم النجوم والفلسفة والهندسة ملك كالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة فإنه كان في ذلك آية وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان المقدم في علم الفلسفة ومثل بني زهر أبي العلاء ثم ابنه عبد الملك ثم ابنه أبي بكر ثلاثة على نسق وهل لكم في علم التاريخ كابن حيان صاحب المتين و المقتبس وهل عندكم في رؤساء علم الأدب مثل أبي عمر بن عبد ربه صاحب العقد وهل لكم في الاعتناء بتخليد مآثر فضلاء إقليمه والاجتهاد في حشد محاسنهم مثل ابن بسام صاحب الذخيرة وهب أنه كان يكون لكم مثله فما تصنع الكيسة في البيت الفارغ وهل لكم في بلاغة النثر كالفتح بن عبيد الله الذي إن مدح رفع وإن ذم وضع وقد ظهر له من ذلك في كتاب القلائد ما هو أعدل شاهد ومثل ابن أبي الخصال في ترسيله ومثل أبي الحسن سهل بن مالك الذي بين أظهرنا الآن في خطبه وهل لكم في الشعر ملك مثل المعتمد بن عباد في قوله
( وليل بسد النهر أنسا قطعته ... بذات سوار مثل منعطف النهر )
( نضت بردها عن غصن بان منعم ... فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر )
وقوله في أبيه
( سميدع يهب الآلاف مبتدئا ... وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر )
( له يد كل جبار يقبلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر ) ومثل ابنه الراضي في قوله

( مروا بنا أصلا من غير ميعاد ... فأوقدوا نار قلبي أي إيقاد )
( لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم ... فرؤية الماء تذكي غلة الصادي ) وهل لكم ملك ألف في فنون الآدب كتابا في نحو مائة مجلدة مثل المظفر بن الأفطس ملك بطليوس ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب زهل لكم من الوزراء مثل ابن عمار في قصيدته التي سارت أشرد من مثل وأحب إلى الأسماع من لقاء حبيب وصل التي منها
( أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم ... لما رأيت الغصن يعشق مثمرا )
( وصبغت درعك من دماء كماتهم ... لما رأيت الحسن يلبس أحمرا )
ومثل ابن زيدون في قصيدته التي لم يقل مع طولها في التسيب ارق منها وهي التي يقول فيها
( كأننا لم نبت والوصل ثالثنا ... والسعد قد غض من أجفان واشينا )
( سران في خاطر الظلماء يكتمنا ... حتى يكاد لسان الصبح يفشينا )
وهل لكم من الشعراء مثل ابن وهبون في بديهته بين يدي المعتمد بن عباد وإصابته الغرض حين إستحسن المعتمد قول المتنبي
( إذا ظفرت منك المطي بنظرة ... أثاب بها معيي المطي ورازمه )
فارتجل
( لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما تجيد العطايا واللها تفتح اللها )
( تنبأ عجبا بالقريض ولو درى ... بأنك تروي شعره لتألها )

وهل لكم مثل شاعر الأندلس ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي ( هو بالصقع الأندلسي كالمتنبي بصقع الشام الذي إن مدح الملوك قال مثل قوله
( ألم تعلمي أن الثواء هو التوى ... وأن بيوت العاجزين قبور )
( وأن خطيرات المهالك ضمن ... لراكبها أن الجزاء خطير )
( تخوفني طول السفار وإنه ... بتقبيل كف العامري جدير )
( مجير الهدى والدين من كل ملحد ... وليس عليه للضلال مجير )
( تلاقت عليه من تميم ويعرب ... شموس تلاقت في العلا وبدور )
( هم يستقلون الحياة لراغب ... ويستصغرون الخطب وهو كبير )
( ولما توافوا للسلام ورفعت ... عن الشمس في أفق الشروق ستور )
( وقد قام من زرق الأسنة دونها ... صفوف ومن بيض السيوف سطور )
( رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها ... وآيات صنع الله كيف تنير )
( وكيف استوى بالبر والبحر مجلس ... وقام بعبء الراسيات سرير )
( فجاؤوا عجالا والقلوب خوافق ... وولوا بطاء والنواظر صور )
( يقولون والإجلال يخرس ألسنا ... وحازت عيون ملأها وصدور )
( لقد حاط أعلام الهدى بك حائط ... وقدر فيك المكرمات قدير ) وأنا أقسم بما حازته هذه الأبيات من غرائب الآيات لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلا به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر ورأى أن هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر
وإن ذكر الغربة عن الأوطان ومكابدة نوائب الزمان قال

( قالت وقد مزج الفراق مدامعا ... بمدامع وترائبا بترائب )
( أتفرق حتى بمنزل غربة ... كم نحن للأيام نهبة ناهب )
( ولئن جنيت عليك ترحة راحل ... فأنا الزعيم لها بفرحة آيب )
( هل أبصرت عيناك بدرا طالعا ... في الأفق إلا من هلال غارب )
( وإن شبه قال
( كمعاقل من سوسن قد شيدت ... أيدي الربيع بناءها فوق القضب )
( شرفاتها من فضة وحماتها ... حول الأمير لهم سيوف من ذهب )
وهل من شعرائكم من تعرض لذكر العفة فاستنبط ما يسحر به السحر ويطيب به الزهر وهو أبو عمر بن فرج في قوله
( وطائعة الوصال عففت عنها ... وما الشيطان فيها بالمطاع )
( بدت في الليل سافرة فباتت ... دياجي الليل سافرة القناع )
( وما من لحظة إلا وفيها ... إلى فتن القلوب لها دواعي )
( فملكت النهى جمحات شوقي ... لأجري في العفاف على طباعي )
( وبت بها مبيت السقب يظما ... فيمنعه الكعام من الرضاع )
( كذاك الروض ما فيه لمثلي ... سوى نظر وشم من متاع )
( ولست من السوائم مهملات ... فأتخذ الرياض من المراعي ) وهل بلغ أحد من مشبهي شعرائكم أن يقول مثل قول أبي جعفر اللمائي

( عارض أقبل في جنح الدجى ... يتهادى كتهادي ذي الوجى )
( بددت ريح الصبا لؤلؤه ... فانبرى يوقد عنها سرجا )
ومثل قول أبي حفص بن برد
( وكأن الليل حين لوى ... ذاهبا والصبح قد لاحا )
( كلة سوداء أحرقها ... عامد أسرج مصباحا )
وهل منكم من وصف ما تحدثه الحمرة على الوجنة بمثل قول الشريف الطليق
( أصبحت شمسا وفوه مغربا ... ويد الساقي المحيي مشرقا )
( وإذا ما غربت في فمه ... تركت في الخد منه شفقا ) بمثل هذا الشعر فليطلق اللسان ويفخر كل إنسان
وهل منكم من عمد إلى قول امرئ القيس
( سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالا على حال )
فاختلسه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار واستلبه بلطف استلاب ثغر الشمس لرضاب طل الأسحار فلطفه تلطيفا يمتزج بالأرواح ويغني في

الارتياح عن شرب الراح وهو ابن شهيد في قوله
( ولما تملأ من سكره ... ونام ونامت عيون الحرس )
( دنوت إليه على رقبة ... دنو رفيق درى ما التمس )
( أدب إليه دبيب الكرى ... وأسمو إليه سمو النفس )
( أقبل منه بياض الطلى ... وأرشف منه سواد اللعس )
( فبت به ليلتي ناعما ... إلى أن تبسم ثغر الغلس )
وقد تناول هذا المعنى ابن أبي ربيعة على عظم قدره وتقدمه فعارض الصهيل بالنهاق وقابل العذب بالزعاق فقال وليته سكت
( ونفضت عني العين أقبلت مشية الحباب ... وركني خيفة القوم أزور ) وأنا أقسم لو زار جمل محبوبة له لكان ألطف في الزيارة من هذا الأزور الركن المنفض للعيون لكنه إن أساء هنا فقد أحسن في قوله
( قالت لقد أعييتنا حجة ... فأت إذا ما هجع الساهر )
( واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا زاجر ) ولله در محمد بن سفر أحد شعرائنا المتأخرين عصرا المتقدمين قدرا حيث نقل السعي إلى محبوبته فقال وليته لم يزل يقول مثل هذا فبمثله ينبغي أن يتكلم ومثله يليق أن يدون
( وواعدتها والشمس تجنح للنوى ... بزورتها شمسا وبدر الدجى يسري )
( فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطورا كما مر النسيم على النهر )
( فعطرت الآفاق حولي فأشعرت ... بمقدمها والعرف يشعر بالزهر )
( فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصى قارئ أحرف السطر )
( فبت بها والليل قد نام والهوى ... تنبه بين الغصن والحقف والبدر )
( أعانقها طورا وألثم تارة ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر )
( ففضت عقودا للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر ) وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر فقال وهو ابن اللبانة
( بنفسي وأهلي جيرة ما استعنتهم ... على الدهر إلا وانثنيت معانا )
( أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا ) ومن يقول وقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان فقابل ذلك بقطع مدحه له فبلغه أنه عتبه على ذلك وهو ابن وضاح
( هل كنت إلا طائرا بثنائكم ... في دوح مجدكم أقوم وأقعد )
( إن تسلبوني ريشكم وتقلصوا ... عني ظلالكم فكيف أغرد )
وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم وتشبيه الخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديدا وكليله في الأفكار حديدا فأغرب أحسن إغراب وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب وهو ابن الزقاق
( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا )
وقال
( أديراها على الروض المندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماضي )
( وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض )
( وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض ) وقال
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق وفضح كل من طمع بعده في اللحاق وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل
( وعشي أنس أضجعتنا نشوة ... فيها يمهد مضجعي ويدمث )
( خلعت علي بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث )
( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

( وواعدتها والشمس تجنح للنوى ... بزورتها شمسا وبدر الدجى يسري )
( فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى ... وطورا كما مر النسيم على النهر )
( فعطرت الآفاق حولي فأشعرت ... بمقدمها والعرف يشعر بالزهر )
( فتابعت بالتقبيل آثار سعيها ... كما يتقصى قارئ أحرف السطر )
( فبت بها والليل قد نام والهوى ... تنبه بين الغصن والحقف والبدر )
( أعانقها طورا وألثم تارة ... إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر )
( ففضت عقودا للتعانق بيننا ... فيا ليلة القدر اتركي ساعة النفر ) وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر فقال وهو ابن اللبانة
( بنفسي وأهلي جيرة ما استعنتهم ... على الدهر إلا وانثنيت معانا )
( أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا ) ومن يقول وقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان فقابل ذلك بقطع مدحه له فبلغه أنه عتبه على ذلك وهو ابن وضاح
( هل كنت إلا طائرا بثنائكم ... في دوح مجدكم أقوم وأقعد )
( إن تسلبوني ريشكم وتقلصوا ... عني ظلالكم فكيف أغرد )
وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح وتشبيه الزهر بالنجوم وتشبيه الخدود بالشقائق فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديدا وكليله في الأفكار حديدا فأغرب أحسن إغراب وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب وهو ابن الزقاق
( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا )
وقال
( أديراها على الروض المندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماضي )
( وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض )
( وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض ) وقال
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق وفضح كل من طمع بعده في اللحاق وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل
( وعشي أنس أضجعتنا نشوة ... فيها يمهد مضجعي ويدمث )
( خلعت علي بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث )
( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلما تبسم افتضحا )
وقال
( أديراها على الروض المندى ... وحكم الصبح في الظلماء ماضي )
( وكأس الراح تنظر عن حباب ... ينوب لنا عن الحدق المراض )
( وما غربت نجوم الأفق لكن ... نقلن من السماء إلى الرياض ) وقال
( ورياض من الشقائق أضحت ... يتهادى بها نسيم الرياح )
( زرتها والغمام يجلد منها ... زهرات تروق لون الراح )
( قلت ما ذنبها فقال مجيبا ... سرقت حمرة الخدود الملاح )
فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق وفضح كل من طمع بعده في اللحاق وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل
( وعشي أنس أضجعتنا نشوة ... فيها يمهد مضجعي ويدمث )
( خلعت علي بها الأراكة ظلها ... والغصن يصغي والحمام يحدث )
( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

( والشمس تجنح للغروب مريضة ... والرعد يرقي والغمامة تنفث )
والقائل
( لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء )
( متعطف مثل السوار كأنه ... والزهر يكنفه مجر سماء )
( قد رق حتى ظن قرصا مفرغا ... من فضة في بردة خضراء )
( وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء )
( ولطالمها عاطيت فيه مدامة ... صفراء تخضب أيدي الندماء )
( والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء )
والقائل
( حث المدامة والنسيم عليل ... والظل خفاق الرواق ظليل )
( والروض مهتز المعاطف نعمة ... نشوان تعطفه الصبا فيميل )
( ريان فضضه الندى ثم انجلى ... عنه فذهب صفحتيه أصيل ) والقائل
( أذن الغمام بديمة وعقار ... فامزج لجينا منهما بنضار )
( واربع على حكم الربيع بأجرع ... هزج الندامى مفصح الأطيار )
( متقسم الألحاظ بين محاسن ... من ردف رابية وخصر قرار )
( نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا ... درر الندى ودراهم الأنوار )
( وهفت بتغريد هنالك أيكة ... خفاقة بمهب ريح عرار )
( هزت له أعطافها ولربما ... خلعت عليه ملاءة النوار )

والقائل
( سقيا لها من بطاح خز ... ودوح نهر بها مطل )
( إذ لا ترى غير وجه شمس ... أطل فيه عذار ظل ) والقائل
( نهر كما سال اللمى سلسال ... وصبا بليل ذيلها مكسال )
( ومهب نفحة روضة مطلولة ... في جانبيها للنسيم مجال )
( غازلتها والأقحوانة مبسم ... والآس صدغ والبنفسج خال ) والقائل
( وساق كحيل اللحظ في شأو حسنه ... جماح وبالصبر الجميل حران )
( ترى للصبا نارا بخديه لم يثر ... لها من سوادي عارضيه دخان )
( سقاها وقد لاح الهلال عشية ... كما اعوج في درع الكمي سنان )
( عقارا نماها الكرم فهي كريمة ... ولم تزن بابن المزن فهي حصان )
( وقد جال من جون الغمامة أدهم ... له البرق سوط والشمال عنان )
( وضمخ درع الشمس نحر حديقة ... عليه من الطل السقيط جمان )
( ونمت بأسرار الرياض خميلة ... لها النور ثغر والنسيم لسان ) والقائل في وصف فرس ولم يخرج عن طريقته
( وأشقر تضرم منه الوغى ... بشعلة من شعل الباس )
( من جلنار ناضر لونه ... وأذنه من ورق الآس )
( يطلع للغرة في شقرة ... حبابة تضحك في كاس )

وهل منكم من يقول منادما لنديمه وقد باكر روضا بمحبوب وكأس فألفاه قد غطى محاسنه ضباب فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك وهو أبو الحسن افبن بسام
( ألا بادر فما ثان سوى ما ... عهدت الكأس والبدر التمام )
( ولا تكسل برؤيته ضبابا ... تغص به الحديقة والمدام )
( فإن الروض ملتثم إلى أن ... توافيه فينحط اللثام )
وهل منكم من تغزل في غلام حائك بمثل قول الرصافي
( قالوا وقد أكثروا في حبه عذلي ... لو لم تهم بمذال القدر مبتذل )
( فقلت لو كان أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذاك ولكن ليس ذلك لي )
( علقته حببي الثغر عاطره ... حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل )
( غزيل لم تزل في الغزل جائلة ... بنانه جولان الفكر في الغزل )
( جذلان تلعب بالمحواك أنمله ... على السدى لعب الأيام بالأمل )
( ضما بكفيه أو فحصا بأخمصه ... تخبط الظبي في أشراك محتبل ) ومثل قوله في تغلب مسكة الظلام على خلوق الأصيل
( وعشي رائق منظره ... قد قطعناه على صرف الشمول )
( وكأن الشمس في أثنائه ... ألصقت بالأرض خدا للنزول )
( والصبا ترفع أذيال الربى ... ومحيا الجو كالنهر الصقيل )
( حبذا منزلنا مغتبقا ... حيث لا يطرقنا غير الهديل )

( طائر شاد وغصن منثن ... والدجى تشرب صهباء الأصيل )
وهل منكم من يقول في موشح فيما يجره هذا المعنى رداء الأصيل تطويه كف الظلام وهو أبو قاسم بن الفرس
وهل منكم من زصف غلاما جميل الصورة راقصا بمثل قول ابن خروف
( ومنزع الحركات يلعب بالنهى ... لبس المحاسن عند خلع لباسه )
( متأودا كالغصن وسط رياضه ... متلاعبا كالظبي عند كناسه )
( بالعقل يلعب مقبلا أو مدبرا ... كالدهر يلعب كيف شاء بناسه )
( ويضم للقدمين منه رأسه ... كالسيف ضم ذبابه لرئاسه
وهل منكم من وصف خالا بأحسن من قول النشار
( ألوامي على كلفي بيحيى ... متى من حبه أرجو سراحا )
( وبين الخد والشفتين خال ... كزنجي أتى روضا صباحا )
( تحير في جناه فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا )
وهل منكم الذي اهتدى إلى معنى في لثم وردة الخد ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره وهو أبو الحسن سلام بن سلام المالقي في قوله

( لما ظفرت بليلة من وصله ... والصب غير الوصل لا يشفيه )
( أنضجت وردة خده بتنفسي ... وطفقت أرشف ماءها من فيه )
وهل منكم من هجا من غير النطق بإقذاع فبلغ ما لم يبلغه المقذع وهو المخزومي في قوله
( يود عيسى نزول عيسى ... عساه من دائه يريح )
( وموضع الداء منه عضو ... لا يرتضي مسه المسيح )
ولما أقذع أتى أيضا بأبدع فقال
( يا فارس الخيل ولا فارس ... إلا على متن جواد الخصى )
( زدت على موسى وآياته ... تفجر الماء وتخفي العصا )
وهل منكم من مدح بمعنى فبلغ به النهاية من المدح ثم نقله إلى الهجاء فبلغ به النهاية من الذم وهو اليكي في قوله مادحا
( قوم لهم شرف العلا في حمير ... وإذا انتموا لمتونة فهم هم )
( لما حووا أحراز كل فضيلة ... غلب الحياء عليهم فتلثموا )
وفي قوله هاجيا
( إن المرابط باخل بنواله ... لكنه بعياله يتكرم )

( الوجه منه مخلق بقبيح ما ... يأتيه فهو من اجله يتلثم )
وهل منكم من هجا أشتر العين بمثل قول أبي العباس بن حنون الإشبيلي
( يا طلعة أبدت قبائح جمة ... فالكل منها إن نظرت قبيح )
( أبعينك الشتراء عين ثرة ... منها ترقرق دمعها المسفوح )
( شترت فقلنا زورق في لجة ... مالت بإحدى دفتيه الريح )
( وكأنما إنسانها ملاحها ... قد خاف من غرق فظل يميح )
وهل منكم من حضر مع عدو له جاحد لما فعله معه من الخير وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر فقال له الحسود المذكور إن كنت شاعرا فقل في هذه فقال ارتجالا وهو ابن مجبر
( سأشكو إلى الندمان أمر زجاجة ... تردت بثوب حالك اللون أسحم )
( نصب بها شمس المدامة بيننا ... فتغرب في جنح من الليل مظلم )
( وتجحد أنوار الحميا بلونها ... كقلب حسود جاحد يد منعم )
وهل منكم من قال لفاضل جمع بينه وبين فاضل وهو أبو جعفر الذهبي

( أيها الفاضل الذي قد هداني ... نحو من قد حمدته باختبار )
( شكر الله ما أتيت وجازا ك ... ولا زلت نجم هدى لساري )
( أي برق أفاد أي غمام ... وصباح أدى لضوء نهار )
( وإذا ما غدا النسيم دليلي ... لم يحلني إلا على الأزهار )
وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره وهو التطيلي
( أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عن من وطري )
( ولا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما طل في الشعر ) وهل منكم الذي طار في مشارق الأرض ومغاربها قوله وهو أبو القاسم محمد بن هانئ الإلبيري
( فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدكم فلق الصباح المسفر )
( وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر )
وقد سمعت فائيته في النجوم ولولا طولها لأنشدتها هنا فإنها أحسن ما قيل في معناها وهل منكم من قال في الزهد مثل قول أبي وهب العباسي القرطبي
( أنا في حالتي التي قد تراني ... إن تأملت أحسن الناس حالا )
( منزلي حيث شئت من مستقر الأرض ... أسقى من المياه زلالا )
( ليس لي كسوة أخاف عليها ... من مغير ولا ترى لي مالا )
( أجعل الساعد اليمين وسادي ... ثم أثني إذا انقلبت الشمالا )

( ليس لي والد ولا مولود ... ولا لي حزت مذ عقلت عيالا )
( قد تلذذت حقبة بأمور ... فتأملتها فكانت خيالا )
ومثل قول أبي محمد عبد الله بن العسال الطليطلي
( أنظر الدنيا فإن أبصرتها شيئا يدوم فاغد منها في أمان إن يساعدك النعيم وإذا أبصرتها منك ... على كره تهيم )
( فاسل عنها واطرحها ... وارتحل حيث تقيم ) وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولادة المروانية التي تقول مداعبة للوزير ابن زيدون وكان له غلام اسمه ( علي )
( ما لابن زيدون على فضله ... يغتابني ظلما ولا ذنب لي )
( ينظرني شزرا إذا جئته ... كأنما جئت لأخصي علي )
ومثل زينب بنت زياد المؤدب الوادي آشية التي تقول
( ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار )
( وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقل حماتي عند ذاك وأنصاري )
( غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والماء والنار )
وأنا أختم هذه القطع المتخيرة بقول أبي بكر ابن بقي ليكون الختام مسكا
( عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق )
( وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي )
( حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئا وكان معانقي
( باعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على وساد خافق )
ويقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي
( هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لب شاربها المدام )
( يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام )
( سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشمس ينسكب الغمام )
( وأذكر قدها فأنوح وجدا ... على الأغصان تنتدب الحمام )
( وأعقب بينها في الصدر غما ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام )
وبقوله أيضا
( لها ردف تعلق في لطيف ... وذاك الردف لي ولها ظلوم )
( يعذبني إذا فكرت فيه ... ويتعبها إذا رامت تقوم )
وقد أطلت عنان النظم على أني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح فبالله إلا ما أخبرتني من شاعركم الذي تقابلون به شاعرا ممن ذكرت لا أعرف لكم أشهر ذكرا وما أضخم شعرا من أبي العباس الجراوي

( عاطيته والليل يسحب ذيله ... صهباء كالمسك الفتيق لناشق )
( وضممته ضم الكمي لسيفه ... وذؤابتاه حمائل في عاتقي )
( حتى إذا مالت به سنة الكرى ... زحزحته شيئا وكان معانقي
( باعدته عن أضلع تشتاقه ... كيلا ينام على وساد خافق )
ويقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي
( هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لب شاربها المدام )
( يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام )
( سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشمس ينسكب الغمام )
( وأذكر قدها فأنوح وجدا ... على الأغصان تنتدب الحمام )
( وأعقب بينها في الصدر غما ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام )
وبقوله أيضا
( لها ردف تعلق في لطيف ... وذاك الردف لي ولها ظلوم )
( يعذبني إذا فكرت فيه ... ويتعبها إذا رامت تقوم )
وقد أطلت عنان النظم على أني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح فبالله إلا ما أخبرتني من شاعركم الذي تقابلون به شاعرا ممن ذكرت لا أعرف لكم أشهر ذكرا وما أضخم شعرا من أبي العباس الجراوي

وأولى لكم أن تجحدوا فخره وتنسوا ذكره فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة
( إذا كان أملاك الزمان أراقما ... فإنك فيهم دائم الدهر ثعبان )
فما أقبح ما وقع ( ( ثعبان ) ) وما أضعف ما جاء ( ( دائم الدهر ) ) ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت فقال لا ينكر هذا على مثل الجراوي فسبحان من جعل نسبه وروحه وشعره تتناسب في الثقالة وإن أردت الافتخار بالفرسان والتفاضل بالشجعان فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورة وآثارهم مذكورة وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها يمينا ويسارا منشدا
( أكر على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها ) حتى أنه دفع يوما في موكب من النصارى فصرع وقتل وظهر منه ما أعجبت به نفسه فقال لشيخ من خواصه عالم بأمور الحرب مشهور بها كيف رأيت فقال له لو رآك السلطان زاد فيما لك في بيت المال وأعلى مرتبتك أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك جيشه فقال له دعني فإني لا أموت مرتين وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي
والقائد أبو عبد الله ابن قادس الذي اشتهر من شجاعته ومواقعه في النصارى وحسن بلائه ما صير النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول

أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء ما لك أرأيت ابن قادس في الماء وهذه مرتبة عظيمة
( والفضل ما شهدت به الأعداء ... ) ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكر في كتيبة مجردة برسم الغارة على بلاد النصارى فوقع في جمع كبير منهم فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر فجعل يقاتل مع أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه وفر عنه فناداه مستغيثا فقال اصبر ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق فقال اجر إلى هذا النصراني فخذ فرسه وركض نحوه فأسقطه وقال لصاحبه اركب فركب ونجا معه سالما وأمثال هذا كثير وإنما جئت بحصاة من ثبير وأما كرم النفس وشمائل الرياسة فأنا أحكي لك حكاية تتعجب منها وهي مما جرى في عصرنا وذلك أن أبا بكر بن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر ابن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية فأجرى ابن زهر يوما ذكره في جماعة من أصحابه وقال لقد آذانا هذا الرجل أشد أذية ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواص الناس وعوامهم فقال له أحد عوامهم إني أذكر لك عليه عقدا فيه مخاصمة في موضع مما يعز عليه من مواضعه ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشد مبلغ فحرج ابن زهر وأظهر الغضب الشديد والإنكار لذلك وقال لوكيله أمثلي يجازي على العداوة بما يجازى به السفل والأوباش وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام وأمر بأن يحمل له العقد ثم قال وإني

والله ما أروم بذلك أن أصالحه فإن عداوته من حسد وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها لأنها مقترنة بدوام نعم الله علي
وإن تعرضت إلى ذكر البلاد وتفسير محاسنها وما خصها الله تعالى به مما حرمها غيرها فاسمع ما يميت الحسود كمدا أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء وحسن المباني وتزيين الخارج والداخل وتمكن التمصر حتى أن العامة تقول لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد ونهرها الأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر وفيه يقول ابن سفر
( شق النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطيه يطلب ثاره )
( فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزءا فضم من الحياء إزاره )
وزيادته على الأنهار كون ضفتيه مطرزتين بالمنازه والبساتين والكروم والأنشام متصل ذلك اتصالا لا يوجد على غيره
وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه لا تتصل بشطيه البساتين والمنازه اتصالها بنهر إشبيلية وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرة وأن جميع ادوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناه عن ذلك ولا منتقد ما لم يؤد السكر إلى شر وعربدة وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك فلم يستطيعوا إزالته وأهله أخف الناس أرواحا وأطبعهم نوادر وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السب قد مرنوا على ذلك فصار لهم ديدنا حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتا ثقيلا
وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد بن عباد

( إشبيليا عروس ... وبعلها عباد )
( وتاجها الشرف ... وسلكها الواد )
أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عم أقطار الأرض خيره وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها وتهمم سكانها فيها داخلا وخارجا إذ هي من تبييضهم لها نجوم في سماء الزيتون وقيل لأحد من رأى مصر والشام أيها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية فقال بعد تفضيل إشبيلية وشرفها غابة بلا أسد ونهرها نيل بلا تمساح
وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري وهذان الصنفان أجمع المتجولون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثل لهما وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس والكثيرة والفنار والزلامي والشقرة والنورة - وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه - والبوق وإن كان جميع هذا موجودا في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا ما جلب إليه من الأندلس وحسبهم الدف وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر وأما جواريها ومراكبها برا وبحرا ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف

أخذت من التفضيل بأوفر نصيب وأما مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها بها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليم والليمون والزنبوع وغير ذلك وأما علماؤها في كل صنف رفيع أو وضيع جدا أو هزلا فأكثر من أن يعدوا وأشهر من أن يذكروا وأما ما فيها من الشعراء والوشاحين والزجالين فما لو قسموا على بر العدوة ضاق بهم والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلا وقصدي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس فما تخلو بلادها من ذلك ولكن جعلت إشبيلية بل الله جعلها أم قراها ومركز فخرها وعلاها إذ هي أكبر مدنها وأعظم أمصارها
وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم والتقديم بها استقرت ملوك الفتح وعظماؤه ثم الملوك المروانية وبها كان يحيى بن يحيى راوية مالك وعبد الملك بن حبيب وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة ومنافستهم في السؤدد بعلمها وأن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها ويرفعون أقدارهم ويصدرون عن آرائهم وأنهم كانوا لا يقدمون وزيرا ولا مشاورا ما لم يكن عالما حتى أن الحكم المستنصر لما كره له العلماء شرب الخمر هم بقطع شجرة العنب من الأندلس فقيل له فإنها تعصر من سواها فأمسك عن ذلك وأنهم كانوا لا يقدمون أحدا للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره وتعقد له مجالس المذاكرة ويكون ذا مال في غالب الحال خوفا من أن يميل به الفقر إلى الطمع فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء فقالوا له هو أهل ولكنه شديد الفقر ومن

يكون في هذه الحالة لا تأمنه على حقوق المسلمين لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك فسكت ولم ير منازعتهم وبقي مهموما من كونهم لم يقبلوا قوله فنظر إليه ولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده وعلى وجهه أثر ذلك فقال ما بالك يا مولاي فقال ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط بل ما لا يعيبهم ولا هو مما يرزؤهم شيئا صدونا عنه وغلقوا أبواب الشفاعة وذكر له ما كان منهم فقال يا مولاي أنت أولى الناس بالإنصاف إن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوهت بهم وإنما قدمهم ونوه بهم علمهم أو كنت تأخذ قوما جهالا فتضعهم في مواضعهم قال لا قال فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة قال صدقت ثم قال وأما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكرا قال وما هو قال تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهله لتلك المنزلة ويزيل عنك هذا خجل ردهم لك وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد فتهلل وجه الحكم وقال إلي إلي إنها والله شنشنة عبشمية وإن الذي قال فينا لصادق
( وأبناء أملاك خضارم سادة ... صغيرهم عند الأنام كبير )
ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى فذكر له عددا فأمر له به في الحين ونبه قدره بأن أعطاه من إصطبله مركوبا وكانت هذه أكرومة لا خفاء بعظمها

( يفنى الزمان وما بنته مخلد ... )
ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفه عن أموال الناس ومن الدين ما يصده عن محارم الله تعالى ومن العلم ما لا يجهل به التصرف في الشريعة أباحوا له الفتوى والشهادة وجعلوا علامة لذلك بين الناس القالس والرداء
وأهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية حتى أنهم كانوا لا يولون حاكما إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم
وقال ابن سارة لما دخل قرطبة
( الحمد لله قد وافيت قرطبة ... دار العلوم وكرسي السلاطين )
وهي كانت مجمع جيوش الإسلام ومنها نصر الله على عبدة الصليب
يقال إن المنصور بن أبي عامر - حين تم له ملك البرين وتوفرت الجيوش والأموال - عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله وقد جمع من أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدو وتدويخ بلاده فنيف الفرسان على مائتي ألف والرجالة على ستمائة ألف
وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة ولا يمل من مضاربة من أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة وآثارهم فيها مأثورة وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزاهرة اتصلت إلى أن كان يمشى فيها لضوء السرج المتصلة عشرة أميال وأما جامعها الأعظم فقد سمعت أن ثرياته من نواقيس النصارى وأن الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم مما هدم من كنائس بلادهم وقد

سمعت أيضا عن قنطرتها العظمى وكثرة أرحي واديها يقال إنها تنيف على خمسة آلاف حجر وقد سمعت عن كنبانيتها وما فضل الله تعالى به تربها من بركة وما ينبت فيها من القمح وطيبه وفيها جبال الورد الذي بلغ الربع منه مرات إلى ربع درهم وصار أصحابه يرون الفضل لمن قطف بيده ما يمنحونه منه ونهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبيلية فإن لتقارب بريه هنالك وتقطع غدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أخرى وزيادة أنس وكثرة أمان من الغرق وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة
وأما جيان فإنها لبلاد الأندلس قلعة إذ هي أكثرها زرعا وأصرمها أبطالا وأعظمها منعة وكم رامتها من عساكر النصارى عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العيوق وأعز منالا من بيض الأنوق ولا خلت من علماء ولا من شعراء ويقال لها ( ( جيان الحرير ) ) لكثرة اعتناء باديتها وحاضرتها بدود الحرير
ومما يعد في مفاخرها ما ببياسة إحدى بلاد أعمالها من الزعفران الذي يسفر برا وبحرا وما في أبدة من الكروم التي كاد العنب فيها لا يباع فيها ولا يشترى كثرة وما كان بأبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك وإخراج القروى والمرابط والمتوجه
وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس ومسرح الأبصار ومطمح الأنفس لها القصبة المنيعة ذات الأسوار الشامخة والمباني الرفيعة وقد اختصت بكون النهر يتوزع على ديارها وحماماتها وأسواقها وأرحاها الداخلة والخارجة وبساتينها وزانها الله تعالى بأن جعلها مرتبة على بسيطها الممتد الذي تفرعت

فيه سبائك الأنهار بين زبرجد الأشجار ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار استلطاف يروق الطباع ويحدث فيها ماشاءه الإحسان من الاختراع والابتداع ولم تخل من أشراف أماثل وعلماء أكابر وشعراء افاضل ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها من الشواعر مثل نزهون القلاعية وزينب بنت زياد وقد تقدم شعرهما وحفصة بنت الحاج وناهيك في الظرف والأدب وهل ترى أظرف منها في جوابها للوزير للحسيب الناظم الناثر أبي جعفر بن القائد الأجل أبي مروان بن سعيد وذلك أنهما باتا بحور مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم من طيب النفحة ونضارة النعيم فلما حان الانفصال قال أبو جعفر
( رعى الله ليلا لم يرع بمذمم ... عشية وارانا بحور مؤمل )
( وقد خفقت من نحو نجد أريجة ... إذا نفحت هبت بريا القرنفل )
( وغرد قمري على الدوح وانثنى ... قضيب من الريحان من فوق جدول )
( ترى الروض مسرورا بما قد بدا له ... عناق وضم وارتشاف مقبل ) وكتبه إليها بعد الافتراق لتجاوبه على عادتها في ذلك فكتبت له ما لا يخفى فيه قيمتها
( لعمرك ما سر الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغل والحسد )
( ولا صفق النهر ارتياحا لقربنا ... ولا صدح القمري إلا بما وجد )
( فلا تحسن الظن الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن بالرشد )
( فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمر سوى كيما تكون لنا رصد )
وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبر بالكروم المتصلة التي

لا تكاد ترى فيها فرجة لموضع غامر والبروج التي شابهت نجوم السماء كثرة عدد وبهجة ضياء وتخلل الوادي الزائر لها في فصلي الشتاء والربيع في سرر بطحائها وتوشيحه لخصور أرجائها ومما اختصت به من بين سائر البلاد التين الريي المنسوب إليها لأن اسمها في القديم رية ولقد أخبرت أنه يباع في بغداد على جهة الاستطراف وأما ما يسفر منه المسلمون والنصارى في المراكب البحرية فأكثر من أن يعبر عنه بما يحصره ولقد اجتزت بها مرة وأخذت على طريق الساحل من سهيل إلى أن بلغت إلى بليش قدر ثلاثة أيام متعجبا فيما حوته هذه المسافة من شجر التين وإن بعضها ليجتني جميعها الطفل الصغير من لزوقها بالأرض وقد حوت ما يتعب الجماعة كثرة وتين بليش هو الذي قيل فيه للبربري كيف رأيته قال لا تسألني عنه وصب في حلقي بالقفة وهو لعمر الله معذور لأنه نعمة حرمت بلاده منها وقد خصت بطيب الشراب الحلال والحرام حتى سار المثل بالشراب المالقي وقيل لأحد الخلعاء وقد أشرف على الموت اسأل ربك المغفرة فرفع يديه وقال يا رب أسألك من جميع ما في الجنة خمر مالقة وزبيبي إشبيلية وفيها تنسج الحلل الموشية التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم وساحلها محط تجارة لمراكب المسلمين والنصارى
وأما المرية فإنها البلد المشهور الذكر العظيم القدر الذي خص أهله باعتدال المزاج ورونق الديباج ورقة البشرة وحسن الوجوه والأخلاق وكرم المعاشرة والصحبة وساحلها أنظف السواحل وأشرحها وأملحها منظرا

وفيها الحصى الملون العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد والرخام الصقيل الملوكي وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية ضفتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر فحق أن ينشد فيها
( أرض وطئت الدر رضراضا بها ... والترب مسكا والرياض جنانا )
وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر وقطع سفرهم فيه وضرب على بلاد الرمانية فقتل وسبى وملأ صدور أهلها رعبا حتى كان منه كما قال أشجع
( فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام ) وبها كان محط مراكب النصارى ومجتمع ديوانهم ومنها كانت تسفر لسائر البلاد بضائعهم ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم ولم يوجد لهذا الشأن مثلها لكونها متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر وهي أيضا مصنع للحلل الموشية النفيسة وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس ولأهلها من الصرامة والإباء ما هو معروف مشهور وواديها قسيم وادي إشبيلية كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المتهدبة الأغصان والنواعير المطربة الألحان والأطيار المغردة والأزهار المتنضدة ما قد سمعت وهي من أكثر البلاد فواكه وريحانا وأهلها أكثر الناس راحات وفرجا لكون خارجها معينا على ذلك

بحسن منظره وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة وقد اختصت بالبسط التنتلية التي تسفر لبلاد المشرق وبالحصر التي تغلف بها الحيطان المبهجة للبصر إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولم تخل من علماء وشعراء وابطال
وأما بلنسية فإنها لكثرة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس ورصافتها من أحسن متفرجات الأرض وفيها البحيرة المشهورة الكثيرة الضوء والرونق ويقال إنه لمواجهة الشمس لتلك البحيرة يكثر ضوء بلنسية إذ هي موصوفة بذلك ومما خصت به النسيج البلنسي الذي يسفر لأقطار المغرب ولم تخل من علماء ولا شعراء ولا فرسان يكابدون معاقبة الأعداء ويتجرعون فيها النعماء ممزوجة بالضراء وأهلها أصلح الناس مذهبا وأمتنهم دينا وأحسنهم صحبة وأرفقهم بالغريب
وأما جزيرة ميورقة فمن أخصب بلاد الله تعالى أرجاء وأكثرها زرعا ورزقا وماشية وهي على انقطاعها من البلاد مستغنية عنها يصل فاضل خيرها إلى غيرها إذ فيها من الحضارة والتمكن والتمصر وعظم البادية ما يغنيها وفيها من الفوائد ما فيها ولها فضلاء وأبطال اقتصروا على حمايتها من الأعداء المحدقة بها
( من كل من جعل الحسام خليله ... لا يبتغي أبدا سواه معينا )
هذا - زان الله تعالى فضلك بالإنصاف وشرف كرمك بالاعتراف ما حضرني الآن في فضل جزيرة الأندلس ولم أذكر من بلادها إلا ما كل

بلد منها مملكة مستقلة يليها ملوك بني عبد المؤمن على انفراد وغيرها في حكم التبع
وأما علماؤها وشعراؤها فإني لم أعرض منهم إلا لمن هو في الشهرة كالصباح وفي مسير الذكر كمسير الرياح وأنا أحكي لك حكاية جرت لي في مجلس الفقيه الرئيس أبي بكر بن زهر وذلك أني كنت يوما بين يديه فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان وكان ابن زهر يكرمه فقلت له ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم فقال كبرت فلم أفهم مقصده واستبردت ما أتى به وفهم مني أبو بكر بن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر فقال لي أقرأت شعر المتنبي قلت نعم وحفظت جميعه قال فعلى نفسك إذن فلتنكر وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم فذكرني بقول المتنبي
( كبرت حول ديارهم لما بدت ... منها الشموس وليس فيها المشرق )
فاعتذرت للخراساني وقلت له قد والله كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي عندي حين لم أفهم نبل مقصدك فالحمد لله الذي أطلع من المغرب هذه الشموس وجعلها بين جميع أهله بمنزلة الرؤوس وصلى الله على سيدنا محمد نبيه المختار من صفوة العرب وعلى آله وصحبه صلاة متصلة إلى غابر الحقب
كملت رسالة الشقندي

ترجمة الشقندي
وهو أبو الوليد إسماعيل بن محمد وشقنده المنسوب إليها قرية مطلة

على نهر قرطبة مجاورة لها من جهة الجنوب قال ابن سعيد وهو ممن كان بينه وبين والدي صحبة أكيدة ومجالسات أنس عديدة ومزاورات تتصل ومحاضرات لا تكاد تنفصل وانتفعت بمجالسته وله رسالة في تفضيل الأندلس يعارض بها أبا يحيى في تفضيل بر العدوة أورد فيها من المحاسن ما يشهد له بلطافة المنزع وعذوبة المشرع وكان جامعا لفنون من العلوم الحديثة والقديمة وعني بمجلس المنصور فكانت له فيه مشاهد غير ذميمة وولي قضاء بياسة وقضاء لورقة ولم يزل محفوظ الجانب محمود المذاهب سمعته ينشد والدي قصيدة في المنصور وقد نهض للقاء العدو منها
( إذا نهضت فإن السيف منتهض ... ترمي السعود سهاما والعدا غرض )
( لك البسيطة تطويها وتنشرها ... فليس في كل ما تنويه معترض )
قال وسمعته يقول له أنشدت الوزير أبا سعيد ابن جامع قصيدة أولها
( استوقف الركب قد لاحت لك الدار ... واسأل بربع تناءت عنه أقمار )
( لا خفف الله عني بعد بينهم ... فإنني سرت والأجباب ما ساروا )
ومنها
( ألا رعى الله ظبيا في قبابهم ... منه لهم في ظلام الليل أنوار )
وله
( عللاني بذكر من همت فيه ... وعداني عنه بما أرتجيه )

( وإذا ما طربتما لارتياحي ... فاجعلا خمرتي مدامة فيه )
( ليت شعري وكم أطيل الأماني ... أي يوم في خلوة ألتقيه )
( وإذا ما ظفرت يوما بشكوى ... قال لي أين كل ما تدعيه )
( لا دموع ولا سقام فماذا ... شاهد عنك بالذي تدعيه )
( قلت دعني أمت بدائي فإني ... لو براني الغرام لا أبديه )
وقال في عودة لما مرض
( إني مرضت مرضة ... أسقط منها في يدي )
( فكان في الإخوان من ... لم أره في العود )
( فقلت في كلهم ... قول امرئ مقتصد )
( أير الذي قد عادني ... في است الذي لم يعد )
مات بإشبيلية سنة 629

استطراد في الإشادة بالأندلس
وقال ابن سعيد أنشدني والدي للحافظ أبي الطاهر السلفي قال وكفى به شاهدا وبقوله مفتخرا
( بلاد أذربيجان في الشرق عندنا ... كأندلس بالغرب في العلم والأدب )
( فما إن تكاد الدهر تلقى مميزا ... من اهليهما إلا وقد جد في الطلب )
وحكى غير واحد كابن الأبار أن عباس بن ناصح الشاعر لما توجه من قرطبة

إلى بغداد ولقي أبا نواس قال له أنشدني لأبي الأجرب قال فأنشدته ثم قال أنشدني لبكر الكناني فأنشدته وهذان شاعران من الأندلس

حكايات وأشعار أندلسية
واعلم أنا إن تتبعنا كلام الأندلسيين وحكاياتهم الدالة على سبقهم طال بنا الكتاب ولم نستوف المراد فرأينا أن نذكر بعضا من ذلك بحسب ما اقتضاه الحال وأبداه ليكون عنوانا دالا على ما عداه
( يكفي من الحلي ما قد حف بالعنق ) ولنبدأ ما نسوقه من أخبار الأندلسيين وأشعارهم وحكاياتهم في الجد والهزل والتولية والعزل بقول الفقيه الزاهد أبي عمران موسى بن عمران المارتلي وكان سكن إشبيلية
( لا تبك ثوبك إن أبليت جدته ... وابك الذي أبلت الأيام من بدنك )
( ولا تكونن مختالا بجدته ... فربما كان هذا الثوب من كفنك )
( ولا تعفه إذا أبصرته دنسا ... فإنما اكتسب الأوساخ من درنك ) وقال أبو عمرو اليحصبي اللوشي
( شرد النوم عن جفونك وانظر ... حكمة توقظ النفوس النياما )

( فحرام على امرئ لم يشاهد ... حكمة الله أن يذوق المناما )
وقال أيضا
( ليس للمرء اختيار في الذي ... يتمنى من حراك وسكون )
( إنما الأمر لرب واحد إن يشأ قال له كن فيكون وقال أبو وهب القرطبي
( تنام وقد أعد لك السهاد ... وتوقن بالرحيل وليس زاد )
( وتصبح مثل ما تمسي مضيعا ... كأنك لست تدري ما المراد )
( أتطمع أن تفوز غدا هنيئا ... ولم يك منك في الدنيا اجتهاد )
( إذا فرطت في تقديم زرع ... فكيف يكون من عدم حصاد )
وقيل إن الأبيات السابقة التي أولها أنا في حالتي التي - إلخ وجدت في تركته بخطه في شقف وبعضهم ينسبها لغيره واسم أبي وهب المذكور عبد الرحمن وذكره ابن بشكوال في الصلة وأثنى عليه بالزهد والانقطاع وكان في أول أمره قد حسب عامة الناس أنه مختل العقل فجعلوا يؤذونه ويرمونه بالحجارة ويصيحون عليه يا مجنون يا أحمق فيقول
( يا عاذلي أنت به جاهل ... دعني به لست بمغبون )
( أما تراني أبدا والها ... فيه كمسحور ومفتون )
( أحسن ما أسمع في حبه ... وصفي بمختل ومجنون )

وقال الخطيب أبو محمد ابن برطلة
( بأربعة أرجو نجاتي وإنها ل ... أكرم مذخور لدي وأعظم )
( شهادة إخلاصي وحبي محمدا ... وحسن ظنوني ثم أني مسلم )
وقال ابن حبيش
( قالوا تصبر عن الدنيا الدنية أو ... كن عبدها واصطبر للذل واحتمل ) لا بد من أحد الصبرين قلت نعم الصبر عنها بعون الله أوفق لي وقال ابن الشيخ
( أطلب لنفسك فوزها واصبر لها ... نظر الشفيق وخف عليها واتق )
( من ليس يرحم نفسه ويصدها ... عما سيهلكها فليس بمشفق )
وقال ابو محمد القرطبي
( لعمرك ما الدنياوسرعة سيرها ) بسكانها إلا طريق مجاز )
( حقيقتها أن المقام بغيرها ... ولكنهم قد أولعوا بمجاز ) وقال السمير
( لله في الدنيا وفي أهلها ... معميات قد فككناها )
( من بشر نحن فمن طبعنا ... نحب فيها المال والجاها )
( دعني من الناس ومن قولهم ... فإنما الناسك خلاها

( لم تقبل الدنيا على ناسك
إلا وبالرحب تلقاها )
( وإنما يعرض عن وصلها ... من صرفت عنه محياها ) وقال أبو القاسم بن بقي
( ألا إنما الدنيا كراح عتيقة ... أراد مديروها بها جلب الأنس )
( فلما أداروها أثارت حقودهم ... فعاد الذي راموا من الأنس بالعكس )
وقال أبو محمد عبد الله بن العسال الطليطلي
( انظر الدنيا فإن أبصرتها ... شيئا يدوم )
( فاغد منها في أمان ... إن يساعدك النعيم )
( وإذا أبصرتها منك ... على كره تهيم فاسل عنها واطرحها وارتحل حيث تقيم ) وقال ابن هشام القرطبي
( وأبي المدامة لا أريد بشربها ... صلف الرقيع ولا انهماك اللاهي ) ( لم يبق من عهد الشباب وطيبه ... شيء كعهدي لم يحل إلا هي )
( إن كنت أشربها لغير وفائها ... فتركتها للناس لا لله ) وقال أبو محمد ابن السيد البطليوسي مما نسبه إليه في ( المغرب )
( أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم )
( وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم د )
وقال أبو الفضل بن شرف
( لعمرك ما حصلت على خطير ... من الدنيا ولا أدركت شيا )
( وها أنا خارج منها سليبا ... أقلب نادما كلتا يديا )
( وأبكي ثم أعلم أن مبكاي ... لا يجدي فأمسح مقلتيا )
( ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلة الباكي عليا )
( وأن الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديا )
( زمان سوف أنشر فيه نشرا ... إذا أنا بالحمام طويت طيا )
( أسر بأنني سأعيش ميتا ... به ويسوءني أن مت حيا ) وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس بن العريف نفعنا الله تعالى به [ البسيط ]
( سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم ... أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي )
( فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم ... عن مشكل من سؤال الصب ملتبس )
( حلوا فؤادي فما يندى ولو وطئوا ... صخرا لجاد بماء منه منبجس )
( وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قروا على أذكى من القبس )
( لأنهضن إلى حشري بحبهم ... لا بارك الله فيمن خانهم ونسي )
قلت وقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف وهو ممن

وقال أبو الفضل بن شرف
( لعمرك ما حصلت على خطير ... من الدنيا ولا أدركت شيا )
( وها أنا خارج منها سليبا ... أقلب نادما كلتا يديا )
( وأبكي ثم أعلم أن مبكاي ... لا يجدي فأمسح مقلتيا )
( ولم أجزع لهول الموت لكن ... بكيت لقلة الباكي عليا )
( وأن الدهر لم يعلم مكاني ... ولا عرفت بنوه ما لديا )
( زمان سوف أنشر فيه نشرا ... إذا أنا بالحمام طويت طيا )
( أسر بأنني سأعيش ميتا ... به ويسوءني أن مت حيا ) وقال الزاهد العارف بالله سيدي أبو العباس بن العريف نفعنا الله تعالى به [ البسيط ]
( سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم ... أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي )
( فمن رسولي إلى قلبي ليسألهم ... عن مشكل من سؤال الصب ملتبس )
( حلوا فؤادي فما يندى ولو وطئوا ... صخرا لجاد بماء منه منبجس )
( وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قروا على أذكى من القبس )
( لأنهضن إلى حشري بحبهم ... لا بارك الله فيمن خانهم ونسي )
قلت وقد زرت قبره المعظم بمراكش سنة عشر وألف وهو ممن

يتبرك به في تلك الديار ويستسقى به الغيث وهو من أهل المرية وأحضره السلطان إلى مراكش فمات بها وله كرامات شهيرة ومقامات كبيرة نفعنا الله تعالى به واعلم أن أهل الأندلس كانوا في القديم على مذهب الأوزاعي وأهل الشام منذ أول الفتح ففي دولة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل - وهو ثالث الولاة بالأندلس من الأمويين - انتقلت الفتوى إلى رأي مالك بن أنس وأهل المدينة فانتشر علم مالك ورأيه بقرطبة والأندلس جميعا بل والمغرب وذلك برأي الحكم واختياره واختلفوا في السبب المقتضي لذلك فذهب الجمهور إلى أن سببه رحلة علماء الأندلس إلى المدينة فلما رجعوا إلى الأندلس وصفوا فضل مالك وسعة علمه وجلالة قدره فأعظموه كما قدمنا ذلك وقيل إن الإمام مالكا سأل بعض الأندلسيين عن سيرة ملك الأندلس فوصف له سيرته فأعجبت مالكا لكون سيرة بني العباس في ذلك الوقت لم تكن بمرضية وكابد لما صنع أبو جعفر المنصور بالعلوية بالمدينة من الحبس والإهانة وغيرهما على ما هو مشهور في كتب التاريخ فقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه لذلك المخبر نسأل الله تعالى أن يزين حرمنا بملككم أو كلاما هذا معناه فنميت المسألة إلى ملك الأندلس مع ما علم من جلالة مالك ودينه فحمل الناس على مذهبه وترك مذهب الأوزاعي والله تعالى أعلم من شعر ابن يغمور 61 من شعر وحكي أن القاضي الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن أبي يغمور لما ندبه أهل الأمر لولاية القضاء بمدينة فاس استعفى فلم يقبل منه وخرج إلى تلك الناحية وخرج الناس لوداعه فأنشد
( عليكم سلام الله إني راحل ... وعيناي من خوف التفرق تدمع )

( فإن نحن عشنا فهو يجمع بيننا ... وإن نحن متنا فالقيامة تجمع ) وأنشد أصحابه رحمه الله تعالى ولا أدري هل هي له أو لغيره
( كنا نعظم بالآمال قدركم ... حتى انقضت فتساوى عندنا الناس )
( لم تفضلونا بشيء غير واحدة ... هي الرجاء فسوى بيننا الياس )
وأنشد أيضا
( بلوتهم مذ كنت طفلا فلم أجد ... كما أشتهي منهم صديقا وصاحبا )
( فصوبت رأيي في فراري منهم ... وشمرت أذيالي وأمعنت هاربا )
وأنشد لغيره في الكتمان
( أخفى الغرام فلا جوارحه ... شعرت بذاك ولا مفاصله )
( كالسيف يصحبه الحمام ولم ... يعلم بما حملت حمائله )
وأنشد
( قد كنت أمرض في الشبيبة دائما ... والموت ليس يمر لي في البال )
( والآن شبت وصحتي موجودة ... وأرى كأن الموت في أذيالي )
ولما أنشده تاج الدين بن حمويه السرخسي الوافد على المغرب من المشرق قول بعضهم
( فلا تحقرن عدوا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر )
( فإن السيوف تحز الرقاب ... وتعجز عما تنال الإبر ) قال حسن جيد ولكن اسمع ما قال شاعرنا القسطلي وأنشد

( أثرني لكشف الخطب والخطب مشكل ... وكلني لليث الغاب وهو هصور )
( فقد تخفض الأسماء وهي سواكن ... ويعمل في الفعل الصريح ضمير )
( وتنبو الردينيات والطول وافر ... ويبعد وقع السهم وهو قصير )
وكان الوزير الكريم أبو محمد عبد الرحمن بن مالك المعافري أحد وزراء الأندلس كثير الصنائع جزل المواهب عظيم المكارم على سنن عظماء الملوك وأخلاق السادة لم ير بعده مثله في رجال الأندلس ذاكرا للفقه والحديث بارعا في الآداب شاعرا مجيدا وكاتبا بليغا كثير الخدم والأهل ومن آثاره الحمام بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة وزاد في سقف الجامع من صحنه وعوض أرجل قسيه أعمدة الرخام وجلب الرؤوس والموائد من قرطبة وفرش صحنه بكذان الصخر
ووجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنائها فلما حلها سأل قاضيها فكتب له جملة من أهلها ممن ضعفت حاله وقل تصرفه من ذوي البيوتات فاستعملهم أمناء ووسع أرزاقهم حتى كمل له ما أراد من عمله ومن عجز أن يستعمله وصله من ماله فصدر عنها وقد أنعش خلقا رضي الله تعالى عنه ورحمه
ومن شعره في مجلس أطربه سماعه وبسط احتشاد الأنس فيه واجتماعه فقال
( لا تلمني إذا طربت لشجو ... يبعث الأنس فالكريم طروب )
( ليس شق الجيوب حقا علينا ... إنما الحق أن تشق القلوب )
وقطف غلام من غلمانه نوارة ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله فقال أبو نصر

( وبدر بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رائق النور كوكب ) فقال أبو محمد ابن مالك
( يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب )
( ويحسد منه الغصن أي مهفهف ... يجيء على مثل الكثيب ويذهب )
وقد سبق هذا
وكتب إلى الفتح من غير ترو يا سيدي جرت الأيام بفراقك وكان الله جارك في انطلاقك فغيرك روع بالظعن وأوقد للوداع جاحم الشجن فإنك من أبناء هذا الزمن خليفة الخضر لا يستقر على وطن كأنك - والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه - موكل بفضاء الأرض تذرعه فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع فلا يأسف على قلة الثوا وينشد
( وفارقت حتى ما أبالي من النوى ... )
ومات رحمه الله تعالى بغرناطة سنة 518 وحضر جنازته الخاصة والعامة وهو من محاسن الأندلس رحمه الله تعالى
ومن نوادر الاتفاق أن جارية مشت بين يدي المعتمد وعليها قميص لا تكاد تفرق بينه وبين جسمها وذوائبها تخفي آثار مشيها فسكب

عليها ماء ورد كان بين يديه وقال
( علقت جائلة الوشاح غريرة ... تختال بين أسنة وبواتر )
وقال لبعض الخدم سر إلى أبي الوليد البطليوسي المشهور بالنحلي وخذه بإجازة هذا البيت ولا تفارقه حتى يفرغ منه فأجاب النحلي لأول وقوع الرقعة بين يديه
( راقت محاسنها ورق أديمها ... فتكاد تبصر باطنا من ظاهر )
( وتمايلت كالغصن في دعص النقا ... تلتف في ورق الشباب الناضر )
( يندى بماء الورد مسبل شعرها ... كالطل يسقط من جناح الطائر )
( تزهى برونقها وعز جمالها ... زهو المؤيد بالثناء العاطر )
( ملك تضاءلت الملوك لقدره ... وعنا له صرف الزمان الجائر )
( وإذا لمحت جبينه ويمينه ... أبصرت بدرا فوق بحر زاخر )
فلما قرأها المعتمد استحضره وقال له أحسنت أو معنا كنت فقال له يا قاتل المحل أما تلوت ( وأوحى ربك إلى النحل ) [ النحل68 ]
وأصبح المعتمد يوما ثملا فدخل الحمام وأمر أن يدخل النحلي معه فجاء وقعد في مسيح الحمام حتى يستأذن عليه فجعل المعتمد يحبق في الحمام وهو خال وقد بقيت في رأسه بقية من السكر وجعل كلما سمع دوي ذلك الصوت يقول الجوز اللوز القسطل ومر على هذا ساعة إلى أن تذكر النحلي فصادفه فلما دخل قال له من أي وقت أنت هنا قال من أول ما رتب مولانا الفواكه في النصبة فغشي عليه من الضحك وأمر له بإحسان
والنصبة مائدة يصبون فيها هذه الأصناف

ولما استحسن المعتمد قول المتنبي
( إذا ظفرت منك المطي بنظرة ... أثاب بها معيي المطي ورازمه )
قال ابن وهبون بديهة وقد تقدم ذكرهما فأمر له بمائتي دينار
ولما قال ابن وهبون المذكور
( غاض الوفاء فما تلقاه في رجل ... ولا يمر لمخلوق على بال )
( قد صار عندهم عنقاء مغربة ... أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال ) قال له المعتمد عنقاء مغربة وألف مثقال يا عبد الجليل عندك سواء فقال نعم قال قد أمرنا لك بألف دينار وبألف دينار أخرى تنفقها
وذكر القرطبي صاحب ( ( التذكرة ) ) في كتابه قمع الحرص بالزهد والقناعة ما صورته روينا أن الإمام أبا عمر ابن عبد البر رضي الله تعالى عنه بلغه وهو بشاطبة أن أقواما عابوه بأكل طعام السلطان وقبول جوائزه فقال
( قل لمن ينكر أكلي ... لطعام الأمراء )
( أنت من جهلك هذا ... في محل السفهاء )
لأن الاقتداء بالصالحين من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى من المسلمين من السلف الماضين هو ملاك الدين فقد كان زيد بن ثابت - وكان من الراسخين في العلم - يقبل جوائز معاوية وابنه يزيد وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما - مع ورعه وفضله - يقبل هدايا صهره المختار بن أبي عبيد ويأكل

طعامه ويقبل جوائزه وقال عبد الله بن مسعود وكان قد ملئ علما - لرجل سأله فقال إن لي جارا يعمل بالربا ولا يجتنب في مكسبه الحرام يدعوني إلى طعامه أفأجيبه قال نعم لك المهنأ وعليه المأثم ما لم تعلم الشيء بعينه حراما وقال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه - حين سئل عن جوائز السلاطين - لحم ظبي ذكي وكان الشعبي - وهو من كبار التابعين وعلمائهم - يؤدب بني عبد الملك بن مروان ويقبل جوائزه ويأكل طعامه وكان إبراهيم النخعي وسائر علماء الكوفة و الحسن البصري - مع زهده وورعه - وسائر علماء البصرة وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان والفقهاء السبعة بالمدينة - حاشا سعيد بن المسيب - يقبلون جوائز السلطان وكان ابن شهاب يقبلها ويتقلب في جوائزهم وكانت أكثر كسبه وكذلك أبو الزناد وكان مالك وأبو يوسف والشافعي وغيرهم من فقهاء الحجاز والعراق يقبلون جوائز السلاطين والأمراء وكان سفيان الثوري - مع ورعه وفضله - يقول جوائز السلطان أحب إلي من صلة الإخوان لأن الإخوان يمنون والسلطان لا يمن ومثل هذا عن العلماء والفضلاء كثير وقد جمع الناس فيه أبوابا ولأحمد بن خالد فقيه الأندلس وعالمها في ذلك كتاب حمله على وضعه وجمعه طعن أهل بلده عليه في قبوله جوائز عبد الرحمن الناصر إذ نقله إلى المدينة بقرطبة وأسكنه دارا من دور الجامع قربه وأجرى عليه الرزق من الطعام والإدام والناض وله ولمثله في بيت المال حظ والمسئول عن التخليط فيه هو السلطان كما قال عبد الله بن مسعود هذا قد أجمع العلماء عليه فمن علم الشيء بعينه حراما مأخوذا من غير حله كالجريمة وغيرها وشبهها من الطعام أو الدابة وما كان مثل ذلك كله من الأشياء المتعينة غصبا أو سرقة أو مأخوذة بظلم بين لا شبهة فيه فهذا الذي لم يختلف أحد في تحريمه وسقوط عدالة آكله وأخذه وتملكه وما أعلم من علماء التابعين أحدا تورع عن جوائز السلطان إلا سعيد بن المسيب بالمدينة و محمد بن

سيرين بالبصرة وهما قد ذهبا مثلا في التورع وسلك سبيلهما في ذلك أحمد بن حنبل وأهل الزهد والورع والتقشف رحمة الله تعالى عليهم أجمعين
والزهد في الدنيا من أفضل الفضائل ولا يحل لمن وفقه الله تعالى وزهد فيها أن يحرم ما أباح الله تعالى منها والعجب من أهل زماننا يعيبون الشبهات وهم يستحلون المحرمات ومثالهم عندي كالذين سألوا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما عن المحرم يقتل القراد والحلمة فقال للسائلين له من أنتم فقالوا من أهل الكوفة فقال تسألونني عن هذا وأنتم قتلتم الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وروي ابن عمر عن النبي أنه قال " ما أتاك من غير مسألة فكله وتموله وروي هذا الحديث أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ( ( ما أتاك من غير مسألة فكله وتموله ) ) وروى أبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله عن النبي معناه وفي حديث أحدهما ( ( إنما هو رزق رزقكه الله تعالى ) ) وفي لفظ بعض الرواة " ولا ترد على الله رزقه " وهذا كله مركب مبني على ما أجمعوا عليه وهو الحق فمن عرف الشيء المحرم يعينه فإنه لا يحل له فهذه المسألة من كلام ابن عبد البر انتهى
وحضر ابن مجبر مع عدو له جاحد لمعروفه وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر فقال له الحسود إن كنت شاعرا فقل في هذه فقال ارتجالا ( ( سأشكو إلى الندمان ) ) إلى آخر الحكاية وقد تقدمت في رسالة الشقندي رحمه الله تعالى

ترجمة ابن مجبر وشعره
وابن مجبر هو أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن عبد الرحمن بن مجبر الفهري

كان في وقته شاعر المغرب ويشهد له بقوة عارضته وسلامة طبعه قصائده التي صارت مثالا وبعدت على قربها منالا وشعره كثير يشتمل على أكثر من تسعة آلاف وأربعمائة بيت واتصل بالأمير أبي عبد الله بن سعد بن مردنيش وله فيه أمداح وأنشد يوسف بن عبد المؤمن يهنيه بفتح
( إن خير الفتوح ما جاء عفوا ... مثل ما يخطب الخطيب ارتجالا )
وكان أبو العباس الجراوي حاضرا فقطع عليه لحسادة وجدها وقال يا سيدنا اهتدم بيت وضاح
( خير شراب ما كان عفوا ... كأنه خطبة ارتجالا )
فبدر المنصور وهو حينئذ وزير أبيه وسنه قريب العشرين وقال إن كان اهتدمه فقد استحقه لنقله إياه من معنى خسيس إلى معنى شريف فسر أبوه بجوابه وعجب الحاضرون
ومر المنصور أيام إمرته بأونبة من أرض شلب فوقف على قبر الحافظ أبي محمد بن حزم وقال عجبا لهذا الموضع يخرج منه مثل هذا العالم ثم قال كل العلماء عيال على ابن حزم ثم رفع رأسه وقال كما أن الشعراء عيال عليك يا أبا بكر يخاطب ابن مجبر
ومن شعر ابن مجبر يصف خيل المنصور من قصيدة في مدحه
( له حلبة الخيل العتاق كأنها ... نشاوى تهاوت تطلب العزف والقصفا )
( عرائس أغنتها الحجول عن الحلى ... فلم تبغ خلخالا ولا التمست وقفا )
( فمن يقق كالطرس تحسب أنه ... وإن جردوه في ملاءته التفا )

( وأبلق أعطى الليل نصف إهابه ... وغار عليه الصبح فاحتبس النصفا )
( وورد تغشى جلده شفق الدجى ... فإذ حازه دلى له الذيل والعرفا )
( وأشقر مج الراح صرفا أديمه ... وأصفر لم يمسح بها جلده صرفا )
( وأشهب فضي الأديم مدنر ... عليه خطوط غير مفهمة حرفا )
( كما خطط الزاهي بمهرق كاتب ... فجر عليه ذيله وهو ما جفا )
( تهب على الأعداء منها عواصف ... ستنسف أرض المشركين بها نسفا )
( ترى كل طرف كالغزال فتمتري ... أظبيا ترى تحت العجاجة أم طرفا )
( وقد كان في البيداء يألف سربه ... فربته مهرا وهي تحسبه خشفا )
( تناوله لفظ الجواد لأنه ... على ما أردت الجري أعطاكه ضعفا )
ولما اتخذ المنصور مقصورة الجامع بمراكش بدار ملكها وكانت مدبرة على انتصابها إذا استقر المنصور ووزراؤه بمصلاه واختفائها إذا انفصلوا عنها أنشد في ذلك الشعراء فقال ابن مجبر من قصيدة أولها
( أعلمتني ألقي عصا التسيار ... في بلدة ليست بدار قرار ) إلى أن قال
( طورا تكون بمن حوته محيطة ... فكأنها سور من الأسوار )
( وتكون حينا عنهم مخبوءة ... فكأنها سر من الأسرار )
( وكأنها علمت مقادير الورى ... فتصرفت لهم على مقدار )
( فإذا أحست بالإمام يزورها ... في قومه قامت إلى الزوار )
( يبدو فتبدو ثم تخفى بعده ... كتكون الهالات للأقمار )

وممن روى عنه أبو علي الشلوبين وطبقته وتوفي بمراكش سنة 588 وعمره 53 سنة رحمه الله تعالى
وقد حكى الشريف الغرناطي شارح المقصورة هذه الحكاية بأتم مما ذكرناه فقال عن الكاتب ابن عياش كاتب يعقوب المنصور الموحدي قال كانت لأبي بكر ابن مجبر وفادة على المنصور في كل سنة فصادف في إحدى وفاداته فراغه من إحداث المقصورة التي كان أحدثها بجامعه المتصل بقصره في حضرة مراكش وكانت قد وضعت على حركات هندسية ترفع بها لخروجه وتخفض لدخوله وكان جميع من بباب المنصور يومئذ من الشعراء والأدباء قد نظموا أشعارا أنشدوه إياها في ذلك فلم يزيدوا على شكره وتجزيته الخير فيما جدد من معالم الدين وآثاره ولم يكن فيهم من تصدى لوصف الحال حتى قام أبو بكر ابن مجبر فأنشد قصيدته التي أولها ( ( أعلمتني ألقي عصا التسيار ) ) واستمر فيها حتى ألم بذكر المقصورة فقال يصفها ( ( طورا تكون - إلخ ) ) فطرب المنصور لسماعها وارتاح لاختراعها انتهى
وقد بطلت حركات هذه المقصورة الآن وبقيت آثارها حسبما شاهدته سنة عشر وألف والله تعالى وارث الأرض
ومن عليها ومن نظم ابن مجبر أيضا ما كتب به إلى السلطان ملك المغرب رحمه الله تعالى وقد ولد له ابن أعني لأبن مجبر
( ولد العبد الذي إنعامكم ... طينة أنشئ منها جسده )
( وهو دون اسم لعلمي أنه ... لا يسمي العبد إلا سيده )
وقوله
( ملك ترويك منه شيمة ... أنست الظمآن زرق النطف )

( جمعت من كل مجد فحكت ... لفظة قد جمعت من أحرف )
( يعجب السامع من وصفي لها ... ووراء العجز ما لم أصف )
( لو أعار السهم ما في رأيه ... من سداد وهدى لم يصف )
( حلمه الراجح ميزان الهدى يزن الأشياء وزن المنصف )
وقال ابن خفاجة
( صح الهوى منك ولكنني ... أعجب من بين لنا يقدر )
( كأننا في فلك دائر فأنت تخفى وأنا أظهر )
وهما الغاية في معناهما كما قاله ابن ظافر - رحمه الله تعالى
وقال الأعمى التطيلي
( أما اشتفت مني الأيام في وطني ... حتى تضايق فيما عز من وطري )
( فلا قضت من سواد العين حاجتها ... حتى تكر على ما طل في الشعر )
وقال القاضي أبو حفص ابن عمر القرطبي
( هم نظروا لواحظها فهاموا ... وتشرب لب شاربها المدام )
( يخاف الناس مقلتها سواها ... أيذعر قلب حامله الحسام )
( سما طرفي إليها وهو باك ... وتحت الشمس ينسكب الغمام )
( وأذكر قدها فأنوح وجدا ... على الأغصان تنتدب الحمام )
( فأعقب بينها في الصدر غما ... إذا غربت ذكاء أتى الظلام )
وقال الحاجب عبد الكريم بن مغيث

( طارت بنا الخيل ومن فوقها ... شهب بزاة لحمام الحمام )
( كأنما الأيدي قسي لها ... والطير أهداف وهن السهام ) وقال أخوه أحمد
( اشرب على البستان من كف من ... يسقيك من فيه وأحداقه )
( وانظر إلى الأيكة في برده ... ولاحظ البدر بأطواقه )
( وقد بدا السرو على نهره ... كخائض شمر عن ساقه )
وقال أبو العباس أحمد بن أبي عبد الله بن أمية البلنسي
( إذا كان ودي وهو أنفس قربة ... يجازى ببغض فالقطيعة أحزم )
( ومن أضيع الأشياء ود صرفته ... إلى غير من تحظى لديه وتكرم )

حكايات في البديهة والارتجال
27 - ومن حكايات أهل الأندلس في خلع العذار والطرب والظرف وغير ذلك كسرعة الارتجال ما حكاه صاحب بدائع البدائه قال أخبرني من أثق به بما هذا معناه قال خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد بن زيدون ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرة لبني عباد بموضع يقال له الفنت تحف بها مروج مشرقة الأنوار متنسمة الأنجاد والإغوار متبسمة عن ثغور النوار في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه

بوسميها ووليها وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها وأرداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها وهناك من البهار ما يزري على مداهن النضار ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان وقد نووا الانفراد للهو والطرب والتنزه في روضي النبات والأدب وبعثوا صاحبا لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم ونظام مسرتهم ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجه ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه وجلسوا لانتظاره وترقب عوده على آثاره فلما بصروا به مقبلا من أول الفج بادروا إلى لقائه وسارعوا إلى نحوه وتلقائه واتفق أن فارسا من الجند ركض فرسه فصدمه ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه وكسر قمعل النبيذ الذي كان معه وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه ومضى على غلوائه راكضا حتى خفي عن العين خائفا من متعلق به يحين بتعلقه الحين وحين وصل الوزراء إليه تأسفوا عليه وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه والخطب وألوانه ودخوله بطوام المضرات على تمام المسرات وتكديره الأوقات المنعمات بالآفات المؤلمات فقال ابن زيدون
( أتلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه )
فقال ابن خلدون
( وفي يوم وما أدراك يوم ... مضى قمعالنا ومضى خليفه )

فقال ابن عمار
( هما فخارتا راح وروح ... تكسرتا فأشقاف وجيفه )
وذكر ابن بسام ما معناه أن أبا عامر ابن شهيد حضر ليلة عند الحاجب أبي عامر المظفر بن المنصور بن ابي عامر بقرطبة فقامت تسقيهم وصيفة عجيبة صغيرة الخلق ولم تزل تسهر في خدمتهم إلى أن هم جند الليل بالانهزام وأخذ في تقويض خيام الظلام وكانت تسمى أسيماء فعجب الحاضرون من مكابدتها السهر طول ليلتها على صغر سنها فسأله المظفر وصفها فصنع ارتجالا
( أفدي أسيماء من نديم ... ملازم للكؤوس راتب )
( قد عجبوا في السهاد منها ... وهي لعمري من العجائب )
( قالوا تجافى الرقاد عنها ... فقلت لا ترقد الكواكب )
وحكى ابن بسام ما معناه أن ابن شهيد المذكور كان يوما مع جماعة من الأدباء عند القاضي ابن ذكوان فجيء بباكورة باقلا فقال ابن ذكوان لا ينفرد بها إلا من وصفها فقال ابن شهيد أنا لها وارتجل
( إن لآليك أحدثت صلفا ... فاتخذت من زمرد صدفا )
( تسكن ضراتها البحور وذي ... تسكن للحسن روضة أنفا )
( هامت بلحف الجبال فاتخذت ... من سندس في جنانها لحفا )

( شبهتها بالثغور من لطف ... حسبك هذا من رمز من لطفا )
( جاز ابن ذكوان في مكارمه ... حدود كعب زما به وصفا )
( قدم در الرياض منتخبا ... منه لأفراس مدحه علفا )
( أكل ظريف وطعم ذي أدب ... والفول يهواه كل من ظرفا )
( رخص فيه شيخ له قدر ... فكان حسبي من المنى وكفى ) وقال ابن بسام إن جماعة من أصحاب ابن شهيد المذكور قالوا له يا أبا عامر إنك لآت بالعجائب وجاذب بذوائب الغرائب ولكنك شديد الإعجاب بما يأتي منك هاز لعطفك عند النادر يتاح لك ونحن نريد منك أن تصف لنا مجلسنا هذا وكان الذي طلبوه منه زبدة التعنيت لأن المعنى إذا كان جلفا ثقيلا على النفس قبيح الصورة عند الحس كلت الفكرة عنه وإن كانت ماضية وأساءت القريحة في وصفه وإن كانت محسنة وكان في المجلس باب مخلوع معترض على الأرض ولبد أحمر مبسوط قد صففت خفافهم عند حاشيته فقال مسرعا
( وفتية كالنجوم حسنا ... كلهم شاعر نبيل )
( متقد الجانبين ماض ... كأنه الصارم الصقيل )
( راموا انصرافي عن المعالي ... والغرب من دونها فليل )
( فاشتد في أثرها فسيح ... كل كثير له قليل )
( في مجلس زانه التصابي ... وطاردت وصفه العقول )

( كأنما بابه أسير ... قد عرضت دونه نصول )
( يراد منه المقال قسرا ... وهو على ذاك لا يقول )
( ننظر من لبده لدينا ... بحر دم تحتنا يسيل )
( كأن أخفافنا عليه ... مراكب ما لها دليل )
( ضلت فلم تدر أين تجري ... فهل على شطه تقيل )
فعجب القوم من أمره ثم خرج من عندهم فمر على بعض معارفه من الطرائفيين وبين يديه زنبيل ملآن حرشفا فجعل يده في لجام بغلته وقال لا أتركك أو تصف الحرشف فقد وصفه صاعد فلم يقل شيئا فقال له ابن شهيد ويحك ! أعلى مثل هذه الحال قال نعم فارتجل
( هل أبصرت عيناك يا خليلي ... قنافذا تباع في زنبيل )
( من حرشف معتمد جليل ... ذي إبر تنفذ جلد الفيل )
( كأنها أنياب بنت الغول ... لو نخست في است امرئ ثقيل )
( لقفزته نحو أرض النيل ... ليس يرى طي حشا منديل )
( نقل السخيف المائن الجهول ... وأكل قوم نازحي العقول )
( أقسمت لا أطعمها أكيلي ... ولا طعمتها على شمول )
وقال في بدائع البدائه دخل الوزير أبو العلاء زهر ابن الوزير أبي مروان عبد الملك بن زهر على الأمير عبد الملك بن رزين في مجلس أنس وبين يديه ساق يسقي خمرين من كأسه ولحظه ويبدي درين من حبابه

ولفظه وقد بدا خط عذاره في صحيفة خده وكمل حسنه باجتماع الضد منه مع ضده فكأنه بسحر لحظه أبدى ليلا في شمس وجعل يومه في الحسن أحسن من أمس فسأله ابن رزين أن يصنع فيه فقال بديها
( تضاعف وجدي إذ تبدى عذاره ... ونم فخان القلب مني اصطباره )
( وقد كان ظني أن سيمحق ليله ... بدائع حسن هام فيها نهاره )
( فأظهر ضد ضده فيه إذ وشت ... بعنبره في صفحة الخد ناره )
واستزاده فقال بديها
( محيت آية النهار فأضحى ... بدر تم وكان شمس نهار )
( كان يعشي العيون نورا إلى أن ... شغل الله خده بالعذار )
وصنع أيضا
( عذار ألم فأبدى لنا ... بدائع كنا لها في عمى )
( ولو لم يجن النهار الظلا م ... لم يستبن كوكب في السما )
وصنع أيضا
( تمت محاسن وجهه وتكاملت ... لما استدار به عذار مونق )
( وكذلك البدر المنير جماله ... في أن يكنفه سماء أزرق )
انتهى وحكى الحميدي وغيره أن عبد الله بن عاصم صاحب الشرطة بقرطبة كان أديبا شاعرا سريع البديهة كثير النوادر وهو من جلساء الأمير محمد بن عبد الرحمن الأموي ملك الأندلس وحكوا أنه دخل عليه في يوم ذي غيم

وبين يديه غلام حسن المحاسن جميل الزي لين الأخلاق فقال الأمير يا ابن عاصم ما يصلح في يومنا هذا فقال عقار تنفر الذبان وتؤنس الغزلان وحديث كقطع الروض قد سقطت فيه مؤونة التحفظ وأرخي له عنان التبسط يديرها هذا الأغيد المليح فاستضحك الأمير ثم أمر بمراتب الغناء وآلات الصهباء فلما دارت الكأس واستمطر الأمير نوادره أشار إلى الغلام أن يلح في سقيه ويؤكد عليه فلما أكثر رفع رأسه إليه وقال على البديهة
( يا حسن الوجه لا تكن صلفا ... ما لحسان الوجوه والصلف )
( تحسن أن تحسن القبيح ولا ... ترثي لصب متيم دنف ) فاستبدع الأمير بديهته وأمر له ببدرة ويقال إنه خيره بينها وبين الوصيف فاختارها نفيا للظنة عنه انتهى
استطراد حول ابن ظافر قلت أذكرتني هذه الحكاية ما حكاه علي بن ظافر عن نفسه إذ قال كنت عند المولى الملك الأشرف بن العادل بن أيوب سنة 603 بالرها وقد وردت إليه في رسالة فجعلني بين سمعه وبصره وأنزلني في بعض دوره بالقلعة بحيث يقرب عليه حضوري في وقت طلبتي أو إرادة الحديث معي فلم أشعر في بعض الليالي وأنا نائم في فراشي إلا به وهو قائم على رأسي والسكر قد غلب عليه والشمع تزهر حواليه وقد حف مماليكه به وكأنهم الأقمار الزواهر في

ملابس كالرياض ذات الأزاهر فقمت مروعا فأمسكني وبادر بالجلوس إلى جانبي بحيث منعني عن القيام عن الوساد وأبدى من الجميل ما أبدلني بالنفاق بعد الكساد ثم قال غلبني الشوق إليك ولم أرد إزعاجك والتثقيل عليك ثم استدعى من كان في مجلسه من خواص القوالين فحضروا وأخذوا من الغناء فيما يملأ المسامع التذاذا ويجعل القلوب من الوجد جذاذا وكان له في ذلك الوقت مملوكان هما نيرا سماء ملكه وواسطتا در سلكه وقطبا فلك طربه ووجده وركنا بيت سروره ولهوه وكانا يتناوبان في خدمته فحضر أحدهما في تلك الليلة وغاب الآخر وكان كثيرا ما يداعبني في أمرهما ويستجلب مني القول فيهما والكلام في التفضيل بينهما فقلت للوقت
( يا مالكا لم يحك سيرته ... ماض ولا آت من البشر )
( اجمع لنا تفديك أنفسنا ... في الليل بين الشمس والقمر ) فطرب وأمر في الحال بإستدعاء الغائب منهما فحضر والنوم قد زاد أجفانه تفتيرا ومعاطفه تكسيرا فقلت بين يديه بديها في صفة المجلس
( سقى الرحمن عصرا قد مضى لي ... بأكنافالرها صوب الغمام )
( وليلا باتت الأنوار فيه ... تعاون في مدافعة الظلام )
( فنور من شموع أو ندامى ... ونور من سقاة أو مدام )
( يطوف بأنجم الكاسات فيه ... سقاة مثل أقمار التمام )
( تريك به الكؤوس جمود ماء ... فتحسب راحها ذوب الضرام )
( يميل به غصونا من قدود ... غناء مثل أصوات الحمام )
( فكم من موصلي فيه يشدو ... فينسي النفس عادية الحمام )

( وكم من زلزل للضرب فيه ... وكم للزمر فيه من زنام )
( لدى موسى بن أيوب المرجى ... إذا ما ضن غيث بانسجام )
( ومن كمظفر الدين المليك الأجل ... الأشرف الندب الهمام )
فما شمس تقاس إلى نجوم ... تحاكي قدره بين الكرام )
( فدام مخلدا في الملك يبقى ... إذا ما ضن دهر بالدوام )
فلما أنشدتها قام فوضع فرجية من خاص ملابسه كانت عليه على كتفي ووضع شربوشه بيده على رأس مملوك صغير كان لي انتهى
ولابن ظافر هذا بدائع منها ما حكاه عن نفسه إذ قال ومن أعجب ما دهيت به ورميت إلا أن الله بفضله نصر وأعطى الظفر وأعان خاطري الكليل حتى مضى مضاء السيف الصقيل أنني كنت في خدمة مولانا السلطان الملك العادل بالإسكندرية سنة إحدى وستمائة مع من ضمته حاشية العسكر المنصور من الكتاب والحواشي والخدام ودخلت سنة اثنتين وستمائة ونحن بالثغر مقيمون في الخدمة مرتضعون لأفاويق النعمة فحضرت في جملة من حضر الهناء من الفقهاء بالثغر والعلماء والمشايخ والكبراء وجماعة الديوان والأمراء واتفق أن كان اليوم من أيام الجلوس لإمضاء الأحكام والعرض لطوائف الأجناد فلم يبق أحد من أهل البلد ولا من أهل العسكر إلا حضر مهنيا ومثل شاكرا وداعيا فحين غص المجلس بأهله وشرق بجمع السلطان وحفله وخرج مولانا السلطان إلى مجلسه واستقر في دسته أخرج من بركة قبائه كتابا ناوله للصاحب الأجل صفي الدين أبي محمد عبد الله بن علي وزير دولته وكبير جملته وهو مفضوض الختام مفكوك الفدام ففتحه فإذا فيه قطعة وردت من المولى الملك المعظم كتبها إليه يتشوقه ويستعطفه لزيارته ويرققه ويستحثه على عود ركابه إلى بلاد الشام للمثاغرة

بها وقمع عدوها ويعرض بذكر مصر وشدة حرها ووقد جمرها وذلك بعد أن كان وصل إلى خدمته بالثغر ثم رجع إليها والأبيات
( أروي رماحك من نحور عداكا ... وانهب بخيلك من أطاع سواكا )
( واركب خيولا كالسعالي شزبا ... واضرب بسيفك من يشق عصاكا )
( واجلب من الأبطال كل سميدع ... يفري بعزمك كل من يشناكا )
( واسترعف السمر الطوال وروها ... واسق المنية سبفك السفاكا )
( وسر الغداة إلى العداة مبادرا ... بالضرب في هام العدو دراكا )
( وانكح رماحك للثغور فإنها ... مشتاقة أن تبتني بعلاكا )
( فالعز في نصب الخيام على العدا ... تردي الطغاة وتدفع الملاكا )
( والنصر مقرون بهمتك التي ... قد أصبحت فوق السماك سماكا )
( فإذا عزمت وجدت من هو طائع ... وإذا نهضت وجدت من يخشاكا )
( والنصر في الأعداء يوم كريهة ... أحلى من الكأس الذي رواكا )
( والعجز أن تضحي بمصر راهنا ... وتحل في تلك العراص عراكا )
( فأرح حشاشتك الكريمة من لظى ... مصر لكي نحظى الغداة بذاكا )
( فلقد غدا قلبي عليك بحرقة ... شغفا ولا حر البلاد هناكا )
( وانهض إلى راجي لقاك مسارعا ... فمناه من كل الأمور لقاكا )
( وابرد فؤاد المستهام بنظرة ... وأعد عليه العيش من رؤياكا )
( واشف الغداة غليل صب هائم ... أضحى مناه من الحياة مناكا )
( فسعادتي بالعادل الملك الذي ملك الملوك وقارن الأفلاكا )
( فبقيت لي يا مالكي في غبطة ... وجعلت من كل الأمور فداكا )
فلما تلا الصاحب على الحاضرين محكم آياتها وجلا منها العروس التي حازت من المحاسن أبعد غاياتها أخذ الناس في الاستحسان لغريب نظامها

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24