كتاب : نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب
المؤلف : أحمد بن محمد المقري التلمساني

رقيقة الليل معاد الأنس ( إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا ) المزمل 6 والنهار معاش النفس ( إن لك في النهار سبحا طويلا ) فهذا نشاط رغبة يتسع في مناكبه المجال وتعتور على مراكبه الأحوال وذلك حجاب رهبة تهوي إليه الأوجال وتجتمع فيه هموم الرجال ألا ترى كيف تهاب الجبان دونه الأبطال وتتقي الحواس خلفه الخيال كما قال
( نهاري نهار الناس حتى إذا دجا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع )
( أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع )
حقيقة حجب الطالب أربعة فحجاب الغيرة قاذع قيل لبعضهم أتحب أن تراه فقال لا قيل ولم قال أجل ذلك عن نظر مثلي وحجاب التيه قامع نزل فقير على ابن عجوز فبينما هي تصلح له الطعام غشي على الفتى فسألها الفقير فقالت له إنه يهوى ابنة عم له بتلك الخيمة فخطرت فاشتم غبار ذيلها فذهب الفقير ليخطبها عليه فقالت إذا لم يطق غبار ذيلي فكيف بيستطيع أن يشاهدني وحجاب الحيرة دافع ومن ثم حلا لأرباب الغيبة قال بعضهم يا دليل الحائرين زدني تحيرا ومر على أصحاب الرغبة والرهبة كما قال
قد تحيرت فيك خذ بيدي ... يا دليلا لمن تحير فيكا )
وحجاب الغفلة قاطع كان بعضهم يقول إن عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب ونظر آخر إلى امرأة فوقع عليه سهم فعوره وعليه مكتوب نظرت بعين العورة فرميناك بسهم الأدب ولو نظرت بعين الشهوة لرميناك بسهم القطيعة
رقيقة حدثت أن ابن الفارض دخل على الشيخ عز الدين وقد ذهب به التفكر فيما له عند الله عز و جل فكاشفه بأن أنشده من قصيدة له

( لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج )
فبدرته البشاشة وأظن أن قد خلع قماشه
حقيقة وقفت ذات يوم بالجبانة واستفهمت اسمي هل عرف منها مكانه فأملى بعد هنيئة من نظمه ما وقفت منه على حقيقة مبلغ علمه
( كل ميت رأته عيني فإني ... ذلك الميت إن نظرت بقلبي )
( وجميع القبور قبري لولا ... جهل نفسي بما لها عند ربي )
رقيقة أهم ما على السالك مراعاة قلبه أن يتلف في تقلبه فذلك فساد حاله وذهاب رأس ماله تزوج فقير فلبس ثياب العرس فطلب قلبه فلم يجده فصاح خلقاني فأعطوه فأخذها وخرج
حقيقة حجب المطلوب ثلاثة فحجاب التيه جمال كما قال العارف عمر
( ته دلالا فأنت أهل لذاكا ... وتحكم فالحسن قد أعطاكا )
وحجاب العزة جلال
( همت بإتياننا حتى إذا نظرت ... إلى المرآة نهاها وجهها الحسن )
وحجاب الكبرياء كمال أنشدت لرابعة
( أحبك حبين حب الهوى ... وحبا لأنك أهل لذاكا )
( فأما الذي هو حب الهوى ... فشغلي بذكرك عمن سواكا )
( وأما الذي أنت أهل له ... فأن ترفع الحجب حتى أراكا )
( وما الحمد في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمد في ذا وذاكا )

وهذا معنى ما في الصحيح وما بين أهل الجنة وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن
ومنه
حقيقة الآثار منصة التجلي فمن لم يزر مهلب ( ويتفكرون ) زار عمير ( يمرون ) وبطل رصد الحجاج
رقيقة من تفكر تذكر ومن تذكر تبصر فإن أكمل وقف وإن قصر انصرف ( إنا هديناه السبيل ) الإنسان 3
حقيقة الوحدة فهم والتوحيد علم والإتحاد حكم والاثنينية وهم ( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... )
ومنه
حقيقة أهم ما على السالك مراعاة قلبه أن يتلف في تقلبه فإن ذلك فساد حاله وذهاب رأس ماله رؤي فقير ينادي في السوق ارحموا صوفيا ذهب رأس ماله فقيل له وهل للصوفي رأس مال فقال نعم كان لي قلب ففقدته
ومنه
حقيقة تنازع القلب والنفس الخلق فترافعا إلى العقل فقسمه بينهما فانفردت النفس بالهوى والقلب بالتقوى فصرفت طرقهما إلى الجهتين وقطعت الشفعة فيهما بين الفئتين
ومنه عند ختم الكتاب ما نصه
حقيقة لا يودع السر إلا عند أهله ولا يذيعه إلا من ضاق ذرعا بحمله

فإن عدا مودعه الرمز فقد زل وإن تعدى مذيعه الغمز فقد ضل
رقيقة الحسن خلق والجمال خلق وحسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن وحيث هو الجمال هو الجميل
حقيقة تحقق العلماء بالتوحيد فاستشعروا ( والله خلقكم وما تعملون ) الصافات 96 لكنهم اعتبروا خلق السبب والابتلاء به فتصرفوا بدلالة الإذن في مذهبه فاستقاموا على طريقة الأدب ولم يفتهم فصل التوكل ولم تتسع معارف الزهاد لما عرفوا المسبب بكيفية الإنصراف إلى السبب منه لدقة الفرق بينه وبين الانصراف عنه فوقفوا مع التوكل للعذر ولم يستعملوا أدب الجريان مع ابتلاء الأمر وعكف الغافلون على ظاهر السبب ففاتهم التوكل والأدب ( أولئك كالأنعام بل هم أضل ) الأعراف 179
رقيقة أفيت لعبد الحق الإشبيلي بيتا هو عندي أفضل من قصيدة وهو
( قد يساق المراد وهو بعيد ... ويريد المريد وهو قريب )
ومن أراد معرفة قدر هذا البيت فليتل ( الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ) الشورى 13
حقيقة أشرف أسمائك ما أضافك إليه وأكرم صفاتك ما دل فيك عليه
( لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي )
( ولا تصفني بالهوى عندها ... فعندها تحقيق أنبائي )
رقيقة
( أعزز بمن سوداء قلبي مغرب ... لخياله وسواد عيني مشرق )
( إن غاب عن سري فعنه لم يغب ... أو عن عياني فهو فيه محقق )

( والعين تعجز أن ترى إنسانها ... والقلب بالروح اللطيف مصدق )
صن عينك عن قلبك لربك وقلبك عن نفسك لحبك ونفسك عن طبعك لوليك وطبعك عن هواك لعدوك وهواك عمن سواك وقد كنت من نسل الجنة وكان بينك وبين البلاء أوقى جنة لطف الله تعالى بي وبكم في مجاري أحكامه ويسرنا أجمعين للعمل بموجبات إكرامه وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا إلى يوم لقائه انتهى ما تعلق به الغرض من كتاب الحقائق والرقائق لمولاي الجد الإمام سقى الله عهده صوب الغمام وما ذكرته من كلامه غيض من فيض وقل من كثر ويكفي من الحلي ما قل وستر العنق
ولنذكر بعض نظمه رحمه الله تعالى وقد تقدم بعضه أثناء ما سبق من كلامه رضي الله عنه فراجعه إن شئت

من شعر المقري الجد
ومن بديع نظمه رحمه الله تعالى ما في الإحاطة ونصه نقلت من ذلك قوله هذه لمحة العارض لتكملة ألفية ابن الفارض سلب الدهر من فرائدها مائة وسبعة وسبعين فاستعنت على ردها بحول الله المعين
من فصل الإقبال
( رفضت السوى وهو الطهارة عندما ... تلفعت في مرط الهوى وهو زينتي )
( وجئت الحمى وهو المصلى ميمما ... بوجهة قلبي وجهها وهو قبلتي )
( وقمت وما استفتحت إلا بذكرها ... وأحرمت إحراما لغير تحلة )
( فديني إن لاحت ركوع وإن دنت ... سجود وإن لاهت قيام بحسرة )

( على أننا في القرب والبعد واحد ... تؤلفنا بالوصل عين التشتت )
( وكم من هجير خضت ظمآن طاويا ... إليها وديجور طويت برحلة )
( وفيها لقيت الموت أحمر والعدا ... بزرقة أسنان الرماح وحدة )
( وبيني وبين العذل فيها منازل ... تنسيك أيام الفجار ومؤتة )
( ولما اقتسمنا خطتينا فحامل ... فجار بلا أجر وحامل برة )
( خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ... فعاد ختام الأمر أصل القضية )
( وكم لي على حكم الهوى من تجلد ... دليل على أن الهوى من سجيتي )
( يقول سميري والأسى سالم الأسى ... ولا توضع الأوزار إلا لمحنة )
( لو أن مجوسا بت موقد نارها ... لما ظل إلا منهلا ذا شريعة )
( ولو كنت بحرا لم يكن فيه نضحة ... لعين إذا نار الغرام استحرت )
( فلا ردم من نقب المعاول آمن ... ولا هدم إلا منك شيد بقوة )
( فمم تقول الأسطقسات منك أو ... علام مزاج ركبت أو طبيعة )
( فإن قام لم يثبت له منك قاعد ... وإلا فأنت الدهر صاحب قعدة )
( فما أنت يا هذا الهوى ماء أو هوا ... أم النار أم دساس عرق الأمومة )
( وإني على صبري كما أنا واصف ... وحالي أقوى القائمين بحجة )
( أقل الضنى أن عج من جسمي الضنى ... وما شاكه معشار بعض شكيتي )
( وأيسر شوقي أنني ما ذكرتها ... ولم أنسها إلا احترقت بلوعة )
( وأخفى الجوى قرع الصواعق منك في ... جواي وأخفي الوجد صبر المودة )
( وأسهل ما ألقى من العذل أنني ... أحب أقلي ذكرها وفضيحتي )
( وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ... بالأمس وسل حر الجفون الغزيرة )

( وأوجز أمري أن دهري كله ... كما شاءت الحسناء يوم الهزيمة )
( أروح وما يلقى التأسف راحتي ... وأغدو وما يعدو التفجع خطتي )
( وكالبيض بيض الدهر والسمر سوده ... مساءتها في طي طيب المسرة )
( وشأن الهوى ماقد عرفت ولا تسل ... وحسبك أن لم يخبر الحب رؤيتي )
( سقام بلا برء ضلال بلا هدى ... أوام بلا ري دم لا بقيمة )
( ولا عتب فالأيام ليس لها رضى ... وإن ترض منها الصبر فهو تعنتي )
( ألا أيها اللوام عني قوضوا ... ركاب ملامي فهو أول محنتي )
( ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ... وخلوا سبيلي ما استطعتم ولوعتي )
( فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ... ولكن رأت ذاك الجمال فجنت )
( تجلى وأرجاء الرجاء حوالك ... ورشدي غاو والعمايات عمت )
( فلم يستبن حتى كأني كاسف ... وراجعت إبصاري له وبصيرتي )
ومن فصل الاتصال
( وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ... عباب الردى بين الظبي والأسنة )
( فجاوزت في حدي مجاهدتي له ... مشاهدتي لما سمت بي همتي )
( وحل جمالي في الجلال فلا أرى ... سوى صورة التنزيه في كل صورة )
( وغبت عن الأغيار في تيه حيرتي ... فلم أنتبه حتى امتحى اسمي وكنيتي )
( وكاتبت ناسوتي بأمارة الهوى ... وعدت إلى اللاهوت بالمطمئنة )
( وعلم يقيني صار عينا حقيقة ... ولم يبق دوني حاجب غير هيبتي )
( وبدلت بالتلوين تمكين عزة ... ومن كل أحوالي مقامات رفعة )
( وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ... مع المحو والإثبات عند تثبتي )

( وكم جلت في سم الخياط وضاق بي ... لبسطي وقبضي بسط وجه البسيطة )
( وما اخترت إلا دن سقراط زاهدا ... وفي ملكوت النفس أكبر عبرة )
( وفقري مع الصبر اصطفيت على الغنى ... مع الشكر إذ لم يحظ فيه مثوبتي )
( وأكتم حبي ما كنى عنه أهله ... وأكني إذا هم صرحوا بالخبية )
( وإني في جنسي ومنه لواحد ... كنوع ففصل النوع عله حصتي )
( تسببت في دعوى التوكل ذاهبا ... إلى أن أجدى حيلتي ترك حيلتي )
( وآخر حرف صار مني أولا ... مريدا وحرف في مقام العبودة )
( تعرفت يوم الوقف منزل قومها ... فبت بجمع سد خرق التشتت )
( فأصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ... وأقضي على قلبي برعي الرعية )
( فبايعتها بالنفس دارا سكنتها ... وبالقلب منه منزلا فيه حلت )
( فخلص الاستحقاق نفسي من الهوى ... وأوجب الاسترقاق تسليم شفعة )
( فيا نفس لا ترجع تقطع بيننا ... ويا قلب لا تجزع ظفرت بوحدة )
ومن فصل الإدلال
( تبدت لعيني من جمالك لمحة ... أبادت فؤادي من سناها بلفحة )
( ومرت بسمعي من حديثك ملحة ... تبدت لها فيك القران وقرت )
( ملامي بن عذري استبن وجدي استعن ... سماعي أعن حالي أبن قائلي اصمت )
( فمن شاهدي سخط ومن قائلي رضى ... وتلوين أحوالي وتمكين رتبتي )
( مرامي إشارات مراعي تفكر ... مراقي نهايات مراسي تثبت )
( وفي موقفي والدار أقوت رسومها ... تقرب أشواقي تبعد حسرتي )
( معاني أمارات مغاني تذكر ... مباني بدايات مثاني تلفت )
( وبث غرام والحبيب بحضرة ... ورد سلام والرقيب بغفلة )

( ومطلع بدر في قضيب على نقا ... فويق محل عاطل دون دجية )
( وممكن سحر بابلي له بما ... حوت أضلعي فعل القنا السمهرية )
( ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ... على سوسن غض بجنة وجنة )
( ووصف اللآلي في اليواقيت كلما ... تعل بصرف الراح في كل سحرة )
( سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ... ونكهته يخبرك عن علم خبرة )
( ورمان كافور علته طوابع ... من الند لم تحمل به بنت مزنة )
( ولطف هواء بين حقف وبانة ... ورقة ماء في قوارير فضة )
( لقد عز عنك الصبر حتى كأنه ... سراقة لحظ منك للمتلفت )
( وأنت وإن لم تبق مني صبابة ... منى النفس لم تقصد سواك بوجهة )
( وكل فصيح منك يسري لمسمعي ... وكل مليح منك يبدو لمقلتي )
( تهون علي النفس فيك وإنها ... لتكرم أن تغشى سواك بنظرة )
( فإن تنظريني بالرضى تشف علتي ... وإن تظفريني باللقا تطف غلتي )
( وإن تذكريني والحياة بقيدها ... عدلت لأمني منيتي بمنيتي )
( وإن تذكريني بعدما أسكن الثرى ... تجلت دجاه عند ذاك وولت )
( صليني وإلا جددي الوعد تدركي ... صبابة نفس أيقنت بتفلت )
( فما أم بو هالك بتنوفة ... أقيم لها خلف الخلاب فدرت )
( فلما رأته لاينازع خلفها ... إذا هي لم ترسل عليه وضنت )
( بكت كلما راحت عليه وإنها ... إذا ذكرته آخر الليل حنت )
( بأكثر مني لوعة غير أنني ... رأيت وقار الصبر أحسن حلية )
( فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ... أطامن أحشائي على ما أجنت )

( أهون ما ألقاه إلا من القلى ... هوى ونوى نيل الرضى منك بغيتي )
( أخوض الصلا أطفي العلا والعلو لا ... أصل السلا أرعى الخلا بين عبرتي )
( ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... لقد أصلت الأحشاء نيران لوعة )
( وقاتل مغناها وموقف شجوها ... على الغصن ماذا هيجت حين غنت )
( فغنت غناء أعجميا فهيجت ... غرامي من ذكرى عهود تولت )
( فأرسلت الأجفان سحبا واوقدت ... جواي الذي كانت ضلوعي أكنت )
( نظرت بصحراء البريقين نظرة ... وصلت بها قلبي فصل وصلت )
( فيا لهما قلبا شجيا ونظرة ... حجازية لو جن طرف لجنت )
( وواعجبا للقلب كيف اعترافه ... وكيف بدت أسراره خلف ستره )
( وللعين لما سوئلت كيف أخبرت ... وللنفس لما وطنت كيف ذلت )
( وكنا سلكنا في صعود من الهوى ... يسامي بأعلام العلا كل رتبة )
( إلى مستوى ما فوقه فيه مستوى ... فلما توافينا ثبت وزلت )
( وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... على نحر قربان لدى قبر شيبة )
( مؤكدة بالنذر أيام عهده ... فلما تواثقنا شددت وحلت )
ومن فصل الاحتفال
( أزور اعتمارا أرضها بتنسك ... وأقصد حجا بيتها بتحلة )
( وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ... له نشأتي الأولى على كل فطرة )
( ولولا خفاء الرمز من لا ولن ولم ... تجدها لشملي مسلكا بتشتت )
( ولو لم يجدد عهدنا عقد خلة ... قضيت ولم يقض المنى صدق توبة )

( بعثت إلى قلبي بشيرا بما رأت ... على قدم عيناي منه فكفت )
( فلم يعد أن شام البشارة شام ما ... جفا الشام من نور الصفات الكريمة )
( فيا لك من نور لو أن التفاتة ... تعارض منه بالنفوس النفيسة )
( تحدث أنفاس الصبا أن طيبها ... بما حملته من حراقة حرقة )
( وتنبيء آصال الربيع عن الربى ... وأشجاره أن قد تجلت فجلت )
( وتخبر أصوات البلابل أنها ... تغنت بترجيعي على كل أيكة )
( فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ... فكيف به إن قربتني بخلة )
( تبدى وما زال الحجاب ولا دنا ... وغاب ولم يفقده شاهد حضرتي )
( له كل غير في تجليه مظهر ... ولا غير إلا ما محت كف غيرة )
( تجلى دليل واحتجاب تنزه ... وإثبات عرفان ومحو تثبت )
( فما شئت من شيء وآليت أنه ... هو الشيء لم تحمد فجار أليتي )
( وفي كل خلق منه كل عجيبة ... وفي كل خلق منه كل لطيفة )
( وفي كل خاف منه مكمن حكمة ... وفي كل باد منه مظهر جلوة )
( أراد بقلب القلب واللغز كامنا ... وفي الزجر والفال الصحيح الأدلة )
( وفي طي أوفاق الحساب وسر ما ... يتم من الأعداد فابدأ بستة )
( وفي نفثات السحر في العقد التي ... تطوع لها كل الطباع الأبية )
( يصور شكلا مثل شكل ويعتلي ... عليه بأوهام النفوس الخبيثة )
( وفي خضرة الكمون تزجى شرابه ... مواعيد عرقوب على إثر صفرة )
( وفي شجر قد خوفت قطع أصلها ... فبان بها حمل لأقرب مدة )
( وفي النخل في تلقيحه واعتبر بما ... أتى فيه عن خير البرية واسكت )

( وفي الطابع السبتي والأحرف التي ... يبين منها النظم كل خفية )
( وفي صنعة الطلسم والكيمياء والكنوز ... وتغوير المياه المعينة )
( وفي حرز أقسام المؤدب محرز ... وحزب أصيل الشاذلي وبكرة )
( وفي سيمياء الخاتمي ومذهب ابن ... سبعين إذ يعزي إلى شر بدعة )
( وفي الملل الأولى وفي النحل الألى ... بها أوهموا لما تساموا بسنة )
( وفي كل ما في الكون من عجب وما ... حوى الكون إلا ناطقا بعجيبة )
( فلا سر إلا وهو فيه سريرة ... ولا جهر إلا وهو فيه كحيلة )
( سل الذكرى عن إنصاف أصناف ما انبنى ... عليه الكلام من حروف سليمة )
( وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ... أتت فيه أمضى عدها وتثبت )
( فلا بد من رمز الكنوز لذي الحجي ... ولا ظلم إلا ظلم صاحب حكمة )
( ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ... لعاجل مس البرد خوفي لميتتي )
( ولو لم تداركني ولكن بعطفها ... درجت رجائي أن نعتني خيبتي )
( ولو لم تؤانسني عنا قبل لم ولم ... قضى العتب مني بغية بعد وحشي )
( ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ... كما هونت بالصبر كل بلية )
ومن فصل الاعتقال
( سر بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ... وسارت ولم تثن العنان بعطفة )
( وذلك لما أطلع الشمس في الدجى ... محيا ابنة الحيين في خير ليلة )
( يمانية لو أنجدت حين أنجدت ... لما أبصرت عيناك حيا كميت )

( لأصحمة في نصحها قدم بنى ... لكل نجاشي بها حصن ذمة )
( ألمت فحظت رحلها ثم لم يكن ... سوى وقفة التوديع حتى استقلت )
( فلو سمحت لي بالتفات وحل من ... مهاوي الهوى والهون جد تفلتي )
( ولكنها همت بنا فتذكرت ... قضاء قضاة الحسن قدما فصدت )
( أجلت خيالا إنني لا أجله ... ولم أنتسب منه لغير تعلة )
( على أنني كلي وبعضي حقيقة ... وباطل أوصافي وحق حقيقتي )
( وجنسي وفصلي والعوارض كلها ... ونوعي وشخصي والهواء وصورتي )
( وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ... وعقلي وروحانيتي القدسية )
( وفي كل لفظ عنه ميل لمسمعي ... وفي كل معنى منه معنى للوعتي )
( ودهري به عيد ليوم عروبة ... وأمري أمري والورى تحت قبضتي )
( ووقتي شهود في فناء شهدته ... ولا وقت لي إلا مشاهد غيبة )
( أراه معي حسا ووهما وإنه ... مناط الثريا من مدارك رؤيتي )
( وأسمعه من غير نطق كأنه ... يلقن سمعي ما توسوس مهجتي )
( ملأت بأنوار المحبة باطني ... كأنك نور في سرار سريرتي )
( وجليت بالإجلال أرجاء ظاهري ... كأنك في أفقي كواكب زينة )
( فأنت الذي أخفيه عند تستري ... وأنت الذي أبديه في حين شهرتي )
( فته أحتمل واقطع أصل واعل أستفل ... ومر أمتثل واملل أمل وارم أثبت )
( فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ... لعتبي فيه الدهر موقع نكتة )
( ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ... فلا تنتمي إلا إليك بمنة )
( تعلقت الآمال منك بفوق ما ... أرى دونه ما لا ينال بحيلة )
( وحامت حواليها وما وافقت حمى ... سحائب يأس أمطرت ماء عبرتي )
( فلو فاتني منك الرضى ولحقتني ... بعفو بكيت الدهر فوت فضيلة )

( ولو كنت في أهل اليمن منعما ... بكيت على ما كان من أسبقية )
( وكم من مقام قمت عنك مسائلا ... أرى كل حي كل حي وميت )
( أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ... أجد عنده علما يبرد غلتي )
( ولم يدر ما قولي ابن سيناء سائلا ... فقل كيف أرجو عنده برء علتي )
( فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ... وفي ابن طفيل لاحتثاث مطيتي )
( لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ... من الله سعي بينهم طول مدتي )
( فقيض لي نهجا إلى الحق سالكا ... وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي )
( فحصنت أنظار الجنيد جنيدها ... بترك فلي من رغبة ريح رهبة )
( وكسرت عن رجل ابن أدهم أدهما ... وأنقذته من أسر حب الأسرة )
( وعدت على حلاج سكري بصلبه ... وألقيت بلعام التفاتي بهوة )
( فقولي مشكور ورأيي ناجح ... وفعلي محمود بكل محلة )
( رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ... وأجلسني بعد الرضى فيه جلتي )
( فعشت ولا ضيرا أخاف ولا قلى ... وصرت حبيبا في ديار أحبتي )
( فها أناذا أمسي وأصبح بينهم ... مبلغ نفسي منهم ماتمنت )
ومن نظمه أيضا ما حكى عنه في الإحاطة إذ قال وأنشدني قوله في حال قبض وقيدتها عنه
( إليك بسطت الكف أستنزل الفضلا ... ومنك قبضت الطرف أستشعر الذلا )
( وها أناذا قد قمت يقدمني الرجا ... ويحجم في الخوف الذي خامر العقلا )
( أقدم رجلا إن يضىء برق مطمع ... وتظلم أرجائي فلا أنقل الرجلا )
( ولي عثرات لست آمل إن هوت ... بنفسي أن لا أستقيل وأن أصلى )
( فإن تدركني رحمة أنتعش بها ... وإن تكن الأخرى فأولى بي الأولى )

ومن نظمه رحمه الله تعالى
( وجد تسعره الضلوع ... وما تبرده المدامع )
( هم تحركه الصبابة ... والمهابة لا تطاوع )
( أمل إذا وصل الرجا ... أسبابه فالموت قاطع )
( بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشاق صانع )
وقال رحمه الله تعالى كما في الإحاطة ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء
( نحن إن تسأل بناس معشر ... أهل ماء فجرته الهمم )
( عرب من بيضهم أرزاقهم ... ومن السمر الطوال الخيم )
( عرضت أحسابهم أرواحهم ... دون نيل العرض وهي الكرم )
( أورثونا المجد حتى إننا ... نرتضي الموت ولا نزدحم )
( ما لنا في الناس من ذنب سوى ... أننا نلوي إذا ما اقتحموا )
وقال مما قلته مذيلا به قول القاضي أبي بكر ابن العربي
( أما والمسجد الأقصى ... وما يتلى به نصا )
( لقد رقصت بنات الشوق ... بين جوانحي رقصا )
قولي
( فأقلع بي إليه هوى ... جناحا عزمه قصا )
( أقل القلب واستعدى ... على الجثمان فاستعصى )
( فقمت أجول بينهما ... فلا أدنى ولا أقصى )

قال رحمه الله تعالى ومما قلته في التورية بشأن راوي المدونة
( لا تعجبن لظبي قد دها أسدا ... فقد دها أسدا من قبل سحنون )
ومن نظم مولاي الجد مما لم يذكره في الإحاطة قوله حسبما ألفي بخطه على ظهر نسخة من تأليفه القواعد
( ناديت والقلب بالأشواق محترق ... والنفس من حيرة الإبعاد في دهش )
( يا معطشي من وصال كنت آمله ... هل فيك لي فرج إن صحت واعطشي )
ومن نظمه ما أسنده الونشريسي إليه
( خالف هواك وكن لعقلك طائعا ... تجد الحقيقة عند طرف الناظر )
ومنه مما نسبه له المذكور ورأيت من ينسبهما لغيره
( لما رأيناك بعد الشيب يا رجل ... لا تستقيم وأمر النفس تمتثل )
( زدنا يقينا بما كنا نصدقه ... بعد المشيب يشب الحرص والأمل )
وفي الإحاطة في ترجمة شعره ما صورته قال ومما قلته من الشعر وبه نختم الكلام
( أنبت عودا لنعماء بدأت بها ... فضلا وألبستها بعد اللحا الورقا )
( فظل مستشعرا مستدثرا أرجا ... ريان ذا بهجة يستوقف الحدقا )
( فلا تشنه بمكروه الجنى فلكم ... عودته من جميل من لدن خلقا )
( وانف القذى عنه واثر الدهر منبته ... وغذه برجاء واسقه غدقا )
( واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ... ما جاء منها على ضوء وما طرقا )

انتهى ما قصدته من ترجمة مولاي الجد على ما اقتضاه الوقت ولو أرسلت عنان القلم في شأنه لضاق هذا الديوان عن ذلك ويرحم الله شيخ شيوخ شيوخنا عالم المغرب سيدي أبا العباس الونشريسي ثم التلمساني نزيل فاس صاحب المعيار وغيره قال في تأليفه الذي عرف فيه بمولاي الجد لما سأله بعضهم في ذلك وذكر حضره ما نصه ولقد استوفى شيخ شيوخنا المحقق النظار أبو عبد الله ابن مرزوق الحفيد ترجمة المقري في كتاب سماه النور البدري في التعريف بالفقيه المقري وقد تقدمت الإشارة إلى أن اسم هذا التأليف مبني على أن المقري بفتح الميم وسكون القاف وقد علمت ما في ذلك مما مضى
قلت وقد ملكت بفاس مجلدا ضخما بخط مؤلفه وهو أحد علماء مدينة فاس ألفه برسم مولاي الجد وسماه بالزهر الباسم وأطال فيه في مدح مولاي الجد والثناء عليه والتنويه بقدره وذكر محاسنه ولم يحضرني الآن لكوني تركته مع جملة كتبي بالمغرب وقد تعلق بحفظي ما قاله في أوله من جملة أبيات
( إذا ذكرت مفاخر أهل فاس ... ذكرنا من أتى من تلمسان )
( وقلنا هل رأيتم في قضاة ... شبيها للفقيه العدل ثاني )
إلى أن قال
( ونفس العلم إن شانت لشخص ... فما للمقري في العلم شاني )

تلامذة المقري الجد
وقد أخذ عنه رحمه الله تعالى جماعة أعلام مشهورون منهم لسان الدين ابن الخطيب ذو الوزارتين والوزير أبو عبد الله ابن زمرك والأستاذ العلامة أبو عبد الله القيجاطي الآية في علم القراءات والشيخ الفقيه القاضي الرحال

الحاج أبو عبد الله محمد بن سعيد بن عثمان بن سعيد الصنهاجي الزموري الدار المعروف بنقشابو والولي ابن خلدون صاحب التاريخ وفي بعض المواضع يعبر عنه بصاحبنا وفي بعضها بشيخنا والنظار أبو إسحاق الشاطبي والعلامة أبو محمد عبد الله بن جزي والحافظ ابن علاق وغيرهم ممن يطول تعداده ولا كالشيخ الولي الشهير الكبير العارف بالله سيدي محمد بن عباد الرندي شارح حكم ابن عطاء الله فإنه ممن يفتخر مولاي الجد رحمه الله تعالى بكون مثله تلميذا له ولا بأس أن نورد ترجمته تبركا به في هذا الكتاب ولو لم تقتضه المناسبة التي راعيناها في هذا التأليف فكيف وقد اقتضته فنقول

ترجمة تلميذه ابن عباد الرندي
قال في حقه صاحبه الشيخ أبو زكريا السراج ما صورته شيخنا الفقيه الخطيب البليغ الخاشع الخاشي الإمام العالم المنصف السالك العارف المحققق الرباني ذو العلوم الباهرة والمحاسن المتظاهرة سليل الخطباء ونتيجة العلماء أبو عبد الله محمد ابن الشيخ الفقيه الواعظ الخطيب البليغ العلم الحظي الوجيه الحسيب الأصيل أبي إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن عباد كان حسن السمت طويل الصمت كثير الوقار والحياء جميل اللقاء حسن الخلق والخلق على الهمة متواضعا معظما عند الخاصة والعامة نشأ ببلده رندة على أكمل طهارة وعفاف وصيانة وحفظ القرآن ابن سبع سنين ثم تشاغل بعد بطلب العلوم النحوية والأدبية والأصولية والفروعية حتى رأس فيها وحصل معانيها ثم أخذ في طريق الصوفية والمباحثة على الأسرار الإلهية حتى أشير إليه وتكلم في علوم الأحوال والمقامات والعلل والآفات وألف فيه تواليف عجيبة وتصانيف

بديعة غريبة وله أجوبة كثيرة في مسائل العلوم نحو مجلدين ودرس كتبا وحفظها أو جلها كشهاب القضاعي والرسالة ومختصري ابن الحاجب وتسهيل ابن مالك ومقامات الحريري وفصيح ثعلب وغيرها وقوت القلوب أخذ ببلده رندة عن أبيه القرآن وغيره وعن خاله الشيخ الفقيه القاضي عبد الله الفريسي العربية وغيرها وعن الشيخ الفقيه الخطيب أبي الحسن علي بن أبي الحسن الرندي حرف نافع وعرض عليه الرسالة وبتلمسان وفاس عن السيد الشريف الإمام العالم العلامة المحقق أبي عبد الله التلمساني الحسني جمل الخونجي تفهما وغيره وعن الشيخ الفقيه القاضي العالم أبي عبد المقري كثيرا من المختصر الفرعي لابن الحاجب وفصيح ثعلب وبعض صحيح مسلم كلها تفقها وعن الشيخ الفقيه العالم أبي محمد عبد النور العمراني الموطأ والعربية وعن الإمام العالم أبي عبد الله الآبلي الإرشاد لأبي المعالي وجميع كتاب ابن الحاجب الأصلي وعقيدة ابن الحاجب تفقها وعن الشيخ الفقيه الحافظ أبي الحسن الصرصري بعض التهذيب تفقها وعن الشيخ الأستاذ المقرىء الصالح أحمد بن عبد الرحمن المجاصي شهر بالمكناسي كثيرا من جمل الزجاج وتسهيل ابن مالك وعن الشيخ الفقيه الصالح أبي مهدي عيسى المصمودي جميع كتاب ابن الحاجب له أيضا تفقها وتفقه على الفقيه العالم أبي محمد الوانغيلي في كتاب ابن الحاجب وأخذ عنه حرف نافع وعن الشيخ الفقيه الصالح المدرس بالحلفاويين أبي محمد عبد الله الفشتالي كثيرا من التهذيب وعن قاضي الجماعة وخطيب الحضرة أبي عبد الله محمد بن أحمد القشتالي كثيرا من التهذيب تفقها وكذا عن غيرهم ولقي بسلا الشيخ الحاج الصالح السني الزاهد الورع أحمد بن عمر بن محمد بن عاشر وأقام معه ومع أصحابه سنين عديدة قال قصدتهم لوجدان السلامة معهم ثم رحل لطنجة فلقي بها الشيخ الصوفي أبا مروان عبد الملك قال لازمته كثيرا

وقرأت عليه وسمعت منه وأنشدني من شعره وشعر غيره وترددت بيني وبينه مسائل في إقامته بسلا وانتفعت به عظيما في التصوف وغيره وأجازني إجازة عامة مولده برندة عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة وتوفي بعد العصر يوم الجمعة ثالث رجب عام اثنين وتسعين وسبعمائة وحضر جنازته الأمير فمن بعده وهمت العامة بكسر نعشه تبركا به ولم أر جنازة أحفل ولا أكثر خلقا منها ورثاه الناس بقصائد كثيرة انتهى كلام السراج
وقال غيره في حقه محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى بن عباد النفزي نسبا الرندي بلدا الشهير بابن عباد الفقيه الصوفي الزاهد الولي العارف بالله تعالى
وقال في حقه الشيخ ابن الخطيب القسمطيني في كتابه أنس الفقير وعز الحقير وهو الخطيب الشهير الصالح الكبير وكان والده من الخطباء الفصحاء النجباء ولأبي عبد الله هذا عقل وسكون وزهد بالصلاح مقرون وكان يحضر معنا مجلس شيخنا الفقيه أبي عمران موسى العبدوسي رحمه الله تعالى وهو من أكابر أصحاب ابن عاشر ومن خيار تلامذته وأخذ عنه وله كلام عجيب في التصوف وصنف فيه كما هو الآن يقرأ على الناس مع كتب التذكير وله في ذلك قلم انفرد به وسلم له فيه بسببه ومن تصانيفه شرح كتاب الحكم لابن عطاء الله في سفر رأيته وعلى ظهر نسخة منه مكتوب
( لا يبلغ المرء في أوطانه شرفا ... حتى يكيل تراب الأرض بالقدم )
ومن كلامه فيه الاستئناس بالناس ومن علامات الإفلاس فتح باب الأنس بالله تعالى الاستيحاش من الناس ومن كلامه فيه من لازم الكون وبقي معه وقصر همته عليه ولم تنفتح له طريق الغيوب الملكوتية ولا خلص بسره إلى

فضاء مشاهدة الوحدانية فهو مسجون بمحيطاته ومحصور في هيكل ذاته إلى غير ذلك من كلامه وكان يحضر السماع ليلة المولد عند السلطان وهو لا يريد ذلك وما رأيته قط في غير مجلس جالسا مع أحد وإنما حظ من يراه الوقوف معه خاصة وكنت إذا طلبته بالدعاء احمر وجهه واستحيا كثيرا ثم يدعو لي وأكثر تمتعه من الدنيا بالطيب والبخور الكثير ويتولى أمر خدمته بنفسه ولم يتزوج ولم يملك أمة ولباسه في داره مرقعة فإذا خرج سترها بثوب أخضر أو أبيض وله تلامذة كلهم أخيار مباركون وبلغني عن بعضهم أنه تصدق حين تاب على يده بعشرة آلاف دينار ذهبا وهو الآن إمام جامع القرويين بفاس وخطيبه وأكثر قراءته في صلاة الجمعة ( إذاجاء نصر الله ) وأكثر خطبته وعظ ومثله من يعظ الناس لأنه اتعظ في نفسه وقد أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة و السلام يا عيسى عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني ذكره الغزالي وعهدي به أنه على صفة البدلاء الصادقين النبلاء كثر الله مثله في الإسلام انتهى
قلت وقد زرت قبره مرارا بفاس ودعوت الله تعالى عنده وهوعند أهل فاس بمثابة الشافعي عند أهل مصر ومن منن الله سبحانه علي أني سكنت محله لما توليت الخطابة والإمامة بجامع القرويين من فاس المحروسة مضافين إلى الفتوى والدار المعلومة للخطيب بالجامع المذكور إلى الآن تعرف بدار الشيخ ابن عباد وأقمت على ذلك خمس سنين وأشهرا ثم قوضت الرحال للمشرق وها أنا إلى الآن فيها والله ييسر الخير حيث كان
وقال الشيخ سيدي أحمد زروق في شأن الشيخ ابن عباد إنه ولد برندة وبها نشأ في عفاف وصون ثم رحل لفاس وتلمسان فقرأ بهما الفقه والأصول والعربية ثم عاد فصحب بمدينة سلا أفضل أهل زمانه علما وعملا سيدي أحمد

ابن عاشر نفعنا الله به فأظهر الله تعالى عليه من بركاته ما لا يخفى على متأمل ثم نقل بعد وفاة الشيخ فجعل خطيبا بجامع القرويين من مدينة فاس وبقي بها خمس عشرة سنة خطيبا فتوفاه الله تعالى بها بعد صلاة العصر من يوم الجمعة رابع رجب سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة ودفن بكدية البراطل من داخل باب الفتوح وكان رضي الله عنه ذا صمت وسمت وتجمل وزهد معظما عند الكافة معولا في حل المشكلات على فتح الفتاح العليم
( ومن علمه أن ليس يدعى بعالم ... ومن فقره أن لا يرى يشتكي الفقرا )
( ومن حاله أن غاب شاهد حاله ... فلا يدعى وصلا ولا يشتكي هجرا )
كذا رأيت بخط من أثق به في تعريفه مختصرا مع زيادة ما تحققت وكتبه شاهدة بكماله علما وعملا فهي كافية في تعريفه وكان الذي طلبه في وضع الشرح على الحكم سيدي أبو زكريا السراج الذي أكثر رسائله له وسيدي أبو الربيع سليمان بن عمر انتهى
وقال في موضع آخر سيدنا العارف المحقق الخطيب البليغ نسيج وحده ومقدم من أتى من بعده أبو عبد الله قرأ بفاس وتلمسان العربية والأصول والفقه ككتاب الإرشاد ومختصر ابن الحاجب الفقهي والأصلي وتسهيل ابن مالك وتوفي بفاس وقبره بها مشهور ومزيته معروفة شرقا وغربا وقد كتب مسائل معروفة أكثرها لسيدي يحيى السراج وله كتب الشرح مع سيدي سليمان بن عمر الذي قال في حقه إنه ولي بلا شك بطلبهما لذلك ورأيت كتابا في الإمامة سماه تحقيق العلامة في أحكام الإمامة فذكرته لشيخنا القوري رحمه الله تعالى وكان معتنيا بكتبه معولا عليها في حاله فقال أظنه لوالده سيدي إبراهيم وقد كان خطيبا بالقصبة إذ كانت عامرة وله خطب عظيمة الفصاحة حسنة الموقع انتهى
وقال الشيخ أبو يحيى ابن السكاك أما شيخي وبركتي أبو عبد الله ابن عباد

رضي الله عنه فإنه شرح الحكم وعقد درر منثورها في نظم بديع وجمعت من إنشائه مسائل مدارها على الإرشاد إلى البراءة من الحول والقوة فيها نبذ كأنفاس الأكابر مع حسن التصرف في طريق الشاذلي وجودة تنزيله على الصور الجزئية وبسط التعبير مع إنهاء البيان إلى أقصى غاياته والتفنن في تقريب الغامض إلى الأذهان بالأمثلة الوضعية فقرب بها حقائق الشاذلية تقريبا لم يسبق إليه كما قرب الإمام ابن رشد مذهب مالك تقريبا لم يسبق إليه وكان مع ذلك آية في التحقق بالعبودية والبراءة من الحول والقوة وعدم المبالاة بالمدح والذم بل له مقاصد نفيسة في الإعراض عن الخلق وعدم المبالاة بهم وأعظم أخلاقه التي لا يصبر عنها ويضطرب لها غاية الاضطراب أن يحضر حيث ينسى الحق لا سيما إن كان نسيان الحق بالنسبة إليه فهو الذي يقلقه ويضيق صدره على اتساعه ووفور انشراحه عن ذلك ولقد ذكر بعض من كان من أخص الناس به ومنقطعا إليه أحوال رجال الرسالة القشيرية والحلية وما منحوا من المواهب قال فلما مات الشيخ واستبصرت ما أشاهده منه من أفعال تدل على القطع بصديقتيه لاح لي أن تلك الصفات التي يذكر مشخصة فيه نشاهدها عيانا ولو لم أر الشيخ لقلت إنني لم أر كمالا وعلى الجملة فهو واحد عصره بالمغرب ذكر لي عن قطب المعقول بالمغرب والمشرق الآبلي أنه كان يشير إليه في حال قراءته عليه أعني الشيخ ابن عباد ويقول إن هناك علما جما لا يوجد عند مشاهير أهل ذلك الوقت إلا أنه كان لا يتكلم رضي الله عنه وشهد له المقطوع بولايتهم بالتقدم وأقروا له بالشيخوخة وتبركوا به كسيدي سليمان اليازغي وسيدي محمد المصمودي وسيدي سليمان بن يوسف ابن عمر الأنفاسي وأمثالهم وكان شيخه الحجة الورع أحمد بن عاشر يشيد بذكره ويقدمه على سائر أصحابه ويأمرهم بالأخذ عنه والانتفاع به

والتسليم له ويقول ابن عباد أمة وحده ولا شك أنه كذلك كان أعني غريبا فإن العارف غريب الهمة بعيد القصد لا يجد مساعدا على قصده وكان الغالب عليه الحياء من الله تعالى والتنزل بين يدي عظمته وتنزيله نفسه منزلة أقل الحشرات لا يرى لنفسه مزية على مخلوق لما غلب عليه من هيبة الجلال وعظمة المالك وشهود المنة نظارا إلى جميع عباد الله تعالى بعين الرحمة والشفقة والنصيحة العامة مع توفية المراتب حقها والوقوف مع الحدود الشرعية واعتبارهم من حيث مراد الله تعالى بهم هذا دأبه مع الطائع والعاصي ما لم يظهر له من أحد مخايل حب التعظيم والمدح والتجبر على المساكين ورؤية الحق إذ هي دعوى لا تليق بالعبد ومن كانت هذه صفته فقد وصل حد الخذلان بل هي علامة تقارب القطع على أنه شقي مسلم إلى غضب الله تعالى ومقته أعاذنا الله تعالى منه وكان من حال هذا السيد تألف قلوب الأولاد الصغار فهم يحبونه محبة تفوق محبتهم لآبائهم وأمهاتهم فينتظرون خروجه للصلاة وهم عدد كثير يأتون من كل أوب ومن المكاتب البعيدة فإذا رأوه ازدحموا على تقبيل يده وكذا كان ملوك زمانه يزدحمون عليه ويتذللون بين يديه فلا يحفل بذلك وذكر لي بعض تلامذته أن أقواله تشبه أفعاله لما منحه الله تعالى من فنون الاستقامة مع ما في كلامه من النور والحلاوة التي استفزت ألباب المشارقة بحيث صار لهم بحث عريض على تواليفه انتهى كلام ابن السكاك
وله من التواليف الرسائل الكبرى والصغرى وشرح الحكم ونظمها في ثمانمائة بيت من الرجز
وحدث الشيخ أبو مسعود الهراس قال كنت أقرأ في صحن جامع القرويين

والمؤذنون يؤذنون بالليل فإذا أبو عبد الله ابن عباد قد خرج من باب داره وجاء يطير في الصحن كأنه جالس متربع حتى دخل في البلاط الذي حول الصومعة ثم مشيت فوجدته يصلي حول المحراب وسأله السراج عن أبي حامد الغزالي فقال هو فوق الفقهاء وأقل من الصوفية ومما نقل من خطه رحمه الله تعالى ولا يدرى هل هي له أم لا
( الحزم قبل العزم فاحزم واعزم ... وإذا استبان لك الصواب فصمم )
( واستعمل الرفق الذي هو مكسب ... ذكر القلوب وجد وأجمل واحلم )
( واحرس وسر واشجع وصل وامنن وصل ... واعدل وأنصف وارع واحفظ وارحم )
( وإذا عدت فعد بما تقوى على ... إنجازه وإذا اصطنعت فتمم )
وذكر الشيخ الفقيه الخطيب القاضي الحاج الرحيل أبو سعيد ابن أبي سعيد السلوي أنه رأى في حائط جامع القرويين أبياتا مكتوبة بفحم بخط الشيخ أبي عبد الله ابن عباد وهي
( أيتها النفس إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي )
( مفضض الثغر له نقطة ... من عنبر في خده المذهب )
( أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمسا من المغرب )
قال الشيخ أبو سعيد فاستشكلت هذه الأبيات لما اشتملت عليه من التغزل وذكر الخال والخد والثغر ومقام الشيخ ابن عباد يجل عن الاشتغال بمثل هذا فلقيت يوما أبا القاسم الصيرفي فذاكرته بالقصة ووجه الإشكال فيها فقال لي مقامك عندي أعلى من أن تستشكل مثل هذا هذه أوصاف ولي الله القائم بأمر الله المهدي فشكرته على ذلك انتهى

قلت رأيت بخط الونشريسي إثر هذه الحكاية ما نصه قلت في صحة هذه الحكاية عن الشيخ نظر لما احتوت عليه من تعبير الحسن وقدر الشيخ وورعه أعلى من هذا فهذان إشكالان والله أعلم
وحكى أن الشيخ ابن عباد رحمه الله تعالى لما احتضر جعل رأسه في حجر أبي القاسم هذا وأخذ في قراءة آية الكرسي إلى قوله ( الحي القيوم ) ثم يقول يا ألله يا حي يا قيوم فيلقنه من حضر ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) فيمتنع الشيخ من قراءتها ويقول يا الله يا حي يا قيوم فلما قربت وفاته سمع منه هذا البيت وكان آخر ما تكلم به
( ما عودوني أحبابي مقاطعة ... بل عودوني إذا قاطعتهم وصلوا )
ولما توفي الشيخ ابن عباد رضي الله عنه في التاريخ المتقدم حضر جنازته السلطان أمير المسلمين أبو العباس أحمد بن السلطان أبي سالم وأهل البلدتين يعني فاسا الجديد التي هي مسكن السلطان وخواص أتباعه وفاسا العتيق التي هي محل الأعلام والخاص والعام من الناس في ذلك القطر إذ هي إذ ذاك حضرة الخلافة وقبة الإسلام في المغرب وتقدم بعده للإمامة والخطبة بجامع القرويين نائبه أيام مرضه الشيخ الصالح الورع أبو زيد عبد الرحمن الزرهوني حسبما قاله الجاديري رحمه الله تعالى
وحكى الونشريسي رحمه الله تعالى أن الشيخ ابن عباد كلم ابن دريدة الوالي في مظلمة فلم يقبل فلما كان يوم الجمعة ونزل السلطان أبو العباس للصلاة بجامع القرويين وراء الشيخ ابن عباد قال الشيخ في خطبته من الأمور المستحسنة أن لا يبقى الوالي سنة انتهى
وللشيخ ابن عباد خطب مدونة بالمغرب مشهورة بأيدي الناس ويقرؤون

منها ما يتعلق بالمولد النبوي الشريف بين يدي السلطان تبركا بها وكذا يقرؤونها في المجتمعات في المواسم كأول رجب وشعبان ونصفهما والسابع والعشرين منهما كرمضان وقد حضرت بمراكش المحروسة سنة عشر وألف قراءة كراسة الشيخ في المولد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام بين يدي مولانا السلطان المرحوم أحمد المنصور بالله الشريف الحسني رحمه الله تعالى وقد احتفل لذلك المولد بأمور يستغرب وقوعها جازاه الله تعالى عن نيته خيرا وقد أشرت إلى ذلك في كتابي الموسوم بروضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس وسردت جملة من القصائد والموشحات في وصف ذلك التصنيع ورحمة الله وراء الجميع
رجع إلى مشايخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى فنقول
4 - ومنهم الشيخ الفقيه القاضي بمكناسة الزيتون أبو محمد عبد الحق بن سعيد بن محمد ذكره في نفاضة الجراب وقال إنه لقيه بمكناسة الزيتون سنة إحدى وستين وسبعمائة وكان من أهل المعرفة والحصافة قائما على كتاب أبي عمرو ابن الحاجب في مذهب مالك وكان ممتازا به فيما دون تلمسان قرأه على الشيخين علمي الأفق المغربي أبي موسى وأبي زيد ابني الإمام عالمي تلمسان والمغرب جميعا قال لسان الدين في النفاضة وتصدر المذكور لإقرائه الآن فما شئت من اضطلاع ومعرفة واطلاع وقيد جزءا نبيلا على فتوى الإمام القاضي أبي بكر ابن العربي المسماة بالحاكمة وسماه

بالخادمة على الرسالة الحاكمة أجاد فيه وأحسن وقرأت عليه بعضه وأذن في تحمله انتهى
5 - ومن أشياخ لسان الدين الذين لقيهم بمكناسة الزيتون الفقيه الفاضل الخير يونس بن عطية الونشريسي له عناية بفروع الفقه وولي القضاء بقصر كتامة
6 - ومنهم الفقيه الفاضل الخير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي عفيف المتصدر لقراءة كتاب الشفاء النبوي لديه جملة حسنة من أصول الفقه أشف بها على كثير من نظرائه قراءة منه إياها على أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل الصباغ وشاركه في قراءتها على الإمام أبي عبد الله الآبلي
7 - ومنهم الفقيه المدرك الأستاذ في فن العربية أبو علي عمر بن عثمان الونشريسي قال لسان الدين حضرت مذاكرته في مسألة أعوزت عليه وطال عنها سؤاله وهي قول الشاعر
( الناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... ما لم يروا عنده آثار إحسان )
وصورة السؤال كيف صح وقوع أفعل بين شيئين لا اشتراك بينهما في الوصف إذ أوقع الشاعر أكيس بين الناس وبين أن يمدحوا وهو مؤول بالمصدر وهو المدح ولا يوصف بذلك انتهى
قلت الإشكال مشهور والجواب عنه بضرب من المجاز ظاهر وقد

أشار إليه أبو حيان في الارتشاف وجماعة آخرون في قول بعض المؤلفين كصاحب التخليص أكثر من أن تحصى ولولا السآمة لذكرت ما قيل في ذلك وخلاصة ما قالوه أن في الكلام تقديرا والله أعلم
8 - وممن لقيه لسان الدين بمكناسة الزيتون الفقيه العدل الأخباري الأديب المشارك أبو جعفر أحمد بن محمد بن إبراهيم الأوسي الخباز من أهل الظرف والانطباع والفضيلة وهو كاتب عاقد للشروط ناظم ناثر مشارك في فنون من العلم مؤلف وقد ذكرنا في غير هذا المحل ما دار بينه وبين لسان الدين من المحاورة والمراجعة فليراجع قال لسان الدين رحمه الله تعالى ناولني المذكور تأليفه الحسن الذي سماه المنهل المورود في شرح المقصد المحمود شرح فيه وثائق الجزيري فأربى بيانا وإفادة وإجادة وأذن لي في حمله عنه وهو في ثلاث مجلدات وأنشدني كثيرا من شعره
9 - ومنهم القاضي بها أبو عبد الله ابن أبي رمانة قال لسان الدين لقيته بمكناسة وكان من أهل الحياء والحشمة وذوي السذاجة والعفة ثم ذكر ما داعبه به حين تأخر عن لقائه وقد ذكرنا ذلك في غير هذا الموضع
10 - وممن لقيه لسان الدين بمكناسة الفقيه العدل أبو علي الحسن بن عثمان ابن عطية الونشريسي قال وكان فقيها عدلا من أهل الحساب والقيام على الفرائض والعناية بفروع الفقه ومن ذوي السذاجة والفضل ويقرض الشعر وله أرجوزة في الفرائض مبسوطة العبارة مستوفية المعنى انتهى
وقال ابن الأحمر في حقه هو شيخنا الفقيه المفتي المدرس القاضي الفرضي الأديب الحاج أبو علي ابن الفقيه الصالح أبي سعيد عثمان التجاني المنعوت

بالونشريسي أجازني عامة أخذ عن الفقيه المفتي الأديب الخطيب المعمر القاضي المحدث الراوية خاتمة المحدثين بالمغرب أبي البركات ابن الحاج البلفيقي انتهى
ومولده في حدود أربع وعشرين وسبعمائة
وذكر صاحب المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي إفريقية والأندلس والمغرب جملة من فتاويه وقال في وثائقه وقد أجرى ذكره ما صورته إن بلدينا الشيخ القاضي العلامة أبا علي الحسن وقعت له قضية مع عدول مكناسة وذلك أن السلطان أبا عنان فارسا كان أمر بالاقتصار على عشرة من الشهود بمدينة مكناسة وكتب اسم الشيخ أبي علي هذا في العشرة فشق ذلك على بعض شيوخ العدول المؤخرين لحداثة سن أبي علي فلما علم تشغيبهم صنع رجزا ورفعه إلى مقام المتوكل على الله أبي عنان نصه
( نبدأ أولا بحمد الله ... ونستعينه على الدواهي )
( ثم نوالي بالصلاة والسلام ... على نبي دونه كل الأنام )
( وبعد ذا نسأل رب العالمين ... أن يهب النصر أمير المؤمنين )
( خليفة الله أبا عنان ... لا زال في خير وفي أمان )
( ملكه الله من البلاد ... من سوس الأقصى إلى بغداد )
( ويسر الحجاز والجهادا ... وجعل الكل له مهادا )
( يا أيها الخليفة المظفر ... دونك أمري إنه مفسر )
( عبدكم نجل عطية الحسن ... قد قيل لا يشهد إلا إن أسن )
( وهو في أمركم المعهود ... من جملة العشرة الشهود )
( نص عليه أمركم تعيينا ... وسنه قارب أربعينا )

( مع الذي ينتسب العبد إليه ... من طلب العلم وبحثه عليه )
( على الفرائض له أرجوزة ... أبرز في نظامها إبريزة )
( ومجلس له على الرسالة ... فكيف يرجو حاسد زواله )
( حاشا أمير المؤمنين ذاكا ... وعدله قد بلغ السماكا )
( وعلمه قد طبق الآفاقا ... وحلمه قد جاوز العراقا )
( وجوده مشتهر في كل حي ... قصر عن إدراكه حاتم طي )
وحكى بعض الحفاظ أنه لما بلغت الأبيات السلطان أمر بإقراره على ذلك وقد وقفت على رجزه المذكور وله شرح عليه لم أره والظاهر أنه ممن تدبج معه لسان الدين رحم الله الجميع وهو معدود في جملة من لقيه
11 - ومن مشايخ لسان الدين رحمه الله ذو الكرامات الكثيرة والمقامات الكبيرة سيدي الحاج أبو العباس أحمد بن عاشر الصالح المشهور كان لسان الدين رحمه الله تعالى حريصا على لقائه بسلا أيام كان بها وقد لقيه ولم يتمل منه لشدة نفوره من الناس خصوصا أصحاب الرياسة ولذا قال لسان الدين لما ذكر أنه لقيه في نفاضة الجراب ما صورته يسر الله لقاءه على تعذره انتهى
وسنترجم الولي المذكور في نظم لسان الدين حيث وصفه بقوله ( بولي الله فابدأ وابتدر ... )
وقبره الآن بسلا محط رجاء الطالبين وكعبة قصد الراغبين تلوح عليه أنوار العناية وتستمد منه أنواء الهداية وهو على ساحل البحر المحيط بخارج مدينة سلا المحروسة وقد زرته ولله الحمد عند توجهي إلى حضرة مراكش

سنة ألف وتسع والناس يشدون الرحال إليه من أقطار المغرب نفعنا الله تعالى به وأعاد علينا من بركاته بجاه نبينا محمد
رجع إلى مشايخ لسان الدين الوزير ابن الخطيب رحمه الله تعالى
12 - ومنهم الأستاذ المحقق العلامة الكبير النحوي الشهير أبو عبد الله محمد بن علي الفخار البيري رحمه الله تعالى
كان شيخ النجاه بالأندلس غير مدافع وأخذ عنه خلق كثيرون كالشاطبي أبي إسحاق صاحب شرح الألفية والوزير ابن زمرك وغيرهما وقد حكى عنه مسائل غريبة تلميذه الشاطبي وقال لسان الدين في الإحاطة في ترجمة مشيخته ما صورته ولازمت قراءة العربية والفقه والتفسير والمعتمد عليه العربية على الشيخ الأستاذ الخطيب أبي عبد الله ابن الفخار البيري الإمام المجمع على إمامته في فن العربية المفتوح عليه من الله تعالى فيها حفظا واطلاعا واضطلاعا ونقلا وتوجيها بما لا مطمع فيه لسواه انتهى
ولنورد بعض فوائد ابن الفخار فنقول
ومن فوائد ابن الفخار المذكور التي حكاها عنه الشاطبي قوله حدثني أن بعض الشيوخ كان إذا أتى بإجازة يشهد فيها سأل الطالب المجاز عن لفظ إجازة ما وزنه وما تصريفه ثم قال الشاطبي ولما حدثنا بذلك سألناه عنها فأملى علينا ما نصه وزان إجازة في الأصل إفعاله وأصلها إجوازة فأعلت بنقل حركة الواو إلى الجيم حملا على الفعل الماضي استثقالا فتحركت الواو في الأصل وانفتح ما قبلها في اللفظ فانقلبت ألفا فصارت إجازة بألفين فحذفت الألف الثانية عند سيبويه لأنها زائدة والزائد أولى بالحذف من الأصلي وحذفت

الأولى عند الأخفش لأنها لا تدل على معنى وهو المد وقول سيبويه أولى لأنه قد ثبت عوض التاء من المحذوف في نحو زنادقة والتاء زائدة وتعويض الزائد من الزائد أولى من تعويض الزائد من الأصلي للتناسب ووزنها في اللفظ عند سيبويه إفعلة وعند الأخفش إفالة لأن العين عنده محذوفة انتهى
وقال الشاطبي رحمه الله تعالى لما توفي شيخنا الأستاذ الكبير العلم الخطير أبو عبد الله ابن الفخار سألت الله عز و جل أن يرينيه في المنام فيوصيني بوصية أنتفع بها في الحالة التي أنا عليها من طلب العلم فلما نمت في تلك الليلة رأيت كأني أدخل عليه في داره التي كان يسكن بها فقلت له يا سيدي أوصني فقال لي لا تعترض على أحد ثم سألني بعد ذلك في مسألة من مسائل العربية كالمؤنس لي فأجبته عنها ولا أذكرها الآن انتهى
وقال الشاطبي أيضا ما صورته حدثنا الأستاذ الكبير الشهير أبو عبد الله محمد بن الفخار شيخنا رحمه الله تعالى قال حدثني بسبتة بعض المذاكرين أن ابن خميس لما ورد عليها بقصد الإقراء بها اجتمع إليه عيون طلبتها فألقوا عليه مسائل من غوامض الاشتغال فحاد عن الجواب عنها بأن قال لهم أنتم عندي كرجل واحد يعني أن ما ألقوه عليه من المسائل إنما تلقوها من رجل واحد وهو ابن أبي الربيع فكأنه إنما يخاطب رجلا واحدا إزدراء بهم فاستقبله أصغر القوم سنا وعلما بأن قال له إن كنت بالمكان الذي تزعم فأجبني عن هذه المسائل من باب معرفة علامات الإعراب التي أذكرها لك فإن أجبت بالصواب لم تحظ بذلك في نفوسنا لصغرها بالنظر إلى تعاطيك من الإدراك والتحصيل وإن أخطأت فيها لم يسعك هذا البلد وهي عشر الأولى أنتم يا زيدون تغزون والثانية أنتن يا هندات تغزون والثالثة أنتم يا زيدون ويا هندات تغزون والرابعة أنتن يا هندات تخشين والخامسة

أنت يا هند تخشين والسادسة أنت ياهند ترمين والسابعة أنتن يا هندات ترمين والثامنة أنتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول والتاسعة أنت يا هند تمحين أو تمحون كيف تقول والعاشرة أنتما تمحوان أو تمحيان كيف تقول وهل هذه الأفعال كلها مبنية أو معربة أو بعضها مبني وبعضها معرب وهل هي كلها على وزن واحد أو على أوزان مختلفة علينا السؤال وعليك التمييز لنعلم الجواب فبهت الشيخ وشغل المحل بأن قال إنما يسأل عن هذا صغار الوالدان قال له الفتى فأنت دونهم إن لم تجب فانزعج الشيخ وقال هذا سوء أدب ونهض منصرفا ولم يصبح إلا بمالقة متوجها إلى غرناطة حرسها الله تعالى ولم يزل بها مع الوزير ابن الحكيم إلى أن مات رحمة الله تعالى عليه انتهى
ثم قال الشاطبي والجواب عن هذه المسائل ما يذكر أما الجواب عن تغزون الأولى فإنه معرب ووزنه أصلا تفعلون ولفظا تفعون وعن الثانية فمبني للحاق نون الإناث ووزنه تفعلين وعن الثالثة على التغليب فعلى رده للأول يلحق بالأول وللثاني كالثاني وأما تخشين من الرابعة فمبني للنون ووزنه تفعلن وعن الخامسة فمعرب ووزنه أصلا تفعلين ولفظا تفعين وأما ترمين من السادسة فمعرب ووزنه أصلا تفعين ولفظا تفعين ومن السابعة مبني للنون ووزنه تفعلن وأما تمحون وتمحين الثامنة فهما لغتان وهما مبنيان للنون والتاسعة لا يقال إلا تمحين خاصة لتتفق اللغتان ووزنها تفعين كتخشين وأما تمحيان من العاشرة فعلى لغة الياء لا إشكال وعلى الواو فيظهر من كلام النحويين أنه لا يجوز إلا بالواو انتهى
وقد أورد هذه الحكاية عالم الدنيا سيدي أبو عبد الله محمد بن مرزوق رحمه الله تعالى في شرحه الواسع العجيب المسمى بتمهيد المسالك إلى شرح ألفية ابن مالك ونص محل الحاجة منه وقد حكى أن بعض طلبة سبتة أورد

على أبي عبد الله ابن خميس عشر مسائل من هذا النوع وهي أنتم يا زيدون تغزون وأنتن يا هندات تغزون وأنتم يا زيدون ويا هندات تغزون وأنتن يا هندات تخشين وأنت يا هند تخشين وأنت يا هند ترمين وأنتن يا هندات ترمين وأنتن يا هندات تمحون أو تمحين كيف تقول وأنت يا هند تمحون أو تمحين كيف تقول وأنتما تمحوان أو تمحيان على لغة من قال محوت كيف تقول وهل هذه الأمثلة كلها مبنية أو معربة أو مختلفة وهل وزنها واحد أو مختلف قالوا ولم يجب بشيء قلت ولعله استسهل أمرها فأما المثال الأول فمعرب ووزنه تفعلون كتنظرون إذ أصله تغزوون فاستثقلت ضمة الواو التي هي لام فحذفت ثم حذفت الواو أيضا لالتقائها ساكنة مع واو الضمير وكانت أولى بالحذف لأن واو الضمير فاعل ولغير ذلك مما تقدم بعضه وأما الثاني فمبني ووزنه تفعلن كتخرجن وأما الثالث فكالأول إعرابا ووزنا لأن فيع تغليب المذكر على المؤنث وأما الرابع فمبني ووزنه تفعلن مثل تفرحن لأنه لما احتيج إلى تسكين آخر الفعل لإسناده إلى نون جماعة النسوة ردت الياء إلى أصلها لأنها إنما قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها والآن ذهبت حركتها لاستحقاقها السكون وأما الخامس فمعرب ووزنه تفعلين كتفرحين وأصله تخشيين فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقائها ساكنة مع ياء الضمير وترك فتحة الشين دالة على الألف وأما السادس فمعرب ووزنه تفعلين كتضربين وأصله ترميين حذفت كسرة الياء لاستثقالها ثم حذفت الياء لاجتماعها ساكنة مع ياء الضمير وأما السابع فمبني ووزنه تفعلن كتضربن وأما الثامن والتاسع فمضارع محى ورد بالأوزان الثلاثة فمن قال يمحو قال في المضارع من جماعة النسوة تمحون مثله من غزا بناء ووزنا ومن قال يمحي قال فيه تمحين كترمين بناء

ووزنا ومن قال يمحى قال فيه تمحين كتخشين بناء ووزنا ويقال في المضارع للواحدة على اللغة الأولى تمحين كتدعين إعرابا ووزنا وتصريفا وقد تقدم في كلام المصنف وعلى الثانية كما يقال لها من رمى إعرابا ووزنا وتصريفا وعلى الثالثة كما يقال لها من تخشى أيضا وقد تقدما وليس ما وقع في السؤال كما نقل من خط بعض الشارحين أنه يقال فيها تمحون كتفرحن بشيء وأمر التثنية ظاهر انتهى بحروفه
وما قاله رحمه الله تعالى في الاعتذار عن ابن خميس هو اللائق بمقامه فإن مكان ابن خميس من العلوم غير منكر وقد مدحه ابن خطاب بقوله
( رقت حواشي طبعك ابن خميس ... فهفا قريضك لي وهاج رسيسي )
( ولمثله يصبو الحليم ويمتري ... ماء الشؤون به وسير العيس )
( لك في البلاغة والبلاغة بعض ما ... تحويه من أثر محل رئيس )
( نظم ونثر لا تبارى فيهما ... عززت ذاك وذا بعلم الطوسي )
يعني أبا حامد الغزالي

ترجمة ابن خميس
وقال لسان الدين ابن الخطيب في عائد الصلة في حق أبي عبد الله محمد ابن خميس التلمساني المذكور ما صورته كان رحمه الله تعالى نسيج وحده زهدا وانقباضا وبأوا وهمة حسن الشيبة جميل الهيئة سليم الصدر قليل التصنع بعيدا عن الرياء عاملا على السياحة والعزلة عارفا بالمعارف القديمة

مضطلعا بتفاريق النحل قائما على العربية والأصلين طبقة الوقت في الشعر وفحل الأوان في المطول أقدر الناس على اجتلاب الغريب ثم ذكر من أحواله جملة إلى أن قال وبلغ الوزير أبا عبد الله ابن الحكيم أنه يروم السفر فشق ذلك عليه وكلفه تحريك الحديث بحضرته وجرى ذلك فقال الشيخ أنا كالدم بطبعي أتحرك في كل ربيع انتهى
وقال ابن خاتمة في مزية المرية على غيرها من البلاد الأندلسية إنه نظم في الوزير ابن الحكيم القصائد التي حليت بها لبات الآفاق وتنفست عنها صدور الرفاق وكان من فحول الشعراء وأعلام البلغاء يصرف العويص ويرتكب مستعصبات القوافي ويطير في القريض مطار ذي القوادم الباسقة الخوافي حافظا لأشعار العرب وأخبارها وله مشاركة في العقليات واستشراف على الطلب وقعد لإقراء العربية بحضرة غرناطة ومال بأخرة إلى التصوف والتجوال والتحلي بحسن السمت وعدم الاسترسال بعد طي بساط ما فرط له في بلده من الأحوال وكان صنع اليدين حدثني بعض ما لقيت من الشيوخ أنه صنع قدحا من الشمع على أبدع ما يكون في شكله ولطافة جوهره وإتقان صنعته وكتب بدائرة شفته
( وما كنت إلا زهرة في حديقة ... تبسم عني ضاحكات الكمائم )
( فقلبت من طور لطور فها أنا ... أقبل أفواه الملوك الأعاظم )
وأهداه خدمة للوزير أبي عبد الله ابن الحكيم
وأنشدنا شيخنا القاضي أبو البركات ابن الحاج وحكى لنا قال أنشدني أبو عبد الله ابن خميس وحكى لي قال لما وقفت على الجزء الذي ألفه ابن سبعين وسماه الفقيرية كتبت على ظهره
( الفقر عندي لفظ دق معناه ... من رامه ذوي الغايات عناه )
( كم من غبي بعيد عن تصوره ... أراد كشف معماه فعماه )

وأنشدنا شيخنا الأستاذ أبو عثمان ابن ليون غير مرة قال سمعت أبا عبد الله ابن خميس ينشد وكان يحسب أنهما له ويقال إنهما لابن الرومي
( رب قوم في منازلهم ... عرر صاروا بها غررا )
( ستر الإحسان ما بهم ... سترى لو زال ما سترا )
ثم قال ابن خاتمة وقد جمع شعره ودونه صاحبنا القاضي أبو عبد الله محمد ابن إبراهيم الحضرمي في جزء سماه الدر النفيس في شعر ابن خميس وعرف به صدره وقدم ابن خميس المرية سنة ست وسبعمائة فنزل بها في كنف القائد أبي الحسن ابن كماشة من خدام الوزير ابن الحكيم فوسع له في الإيثار والمبرة وبسط له وجه الكرامة طلق الأسرة وبها قال في مدح الوزير المذكور قصيدته التي أولها
( العشي تعيبا والنوابغ ... عن شكر أنعمك السوابغ )
ووجه بها إليه من المرية وهي طويلة ومنها
( ودسائع ابن كماشة ... مع كل بازغة وبازغ )
( تأتي بما تهوى النغانغ ... من شهيات اللغالغ )
ومنها
( ما ذاق طعم بلاغة ... من ليس للحوشي ماضغ )
ويقال أن الوزير اقترح عليه أن ينظم قصيدة هائية فابتدأ منها مطلعها وهو قوله

( لمن المنازل لا يجيب صداها ... محيت معالمها وصم صداها )
وذلك آخر شهر رمضان من سنة ثمان وسبعمائة ثم لم يزد على ذلك إلى أن توفي رحمه الله تعالى فكان آخر ما صدر عنه من الشعر وقد أشار معناه إلى منعاه وآذن أولاه بحضور أخراه وكانت وفاته بحضرة غرناطة قتيلا ضحوة يوم الفطر مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة وهو ابن نيف وستين سنة وذلك يوم مقتل مخدومه الوزير ابن الحكيم أصابه قاتله بحقده على مخدومه وكان آخر ماسمع منه ( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ) غافر 28 واستفاض من حال القاتل أنه هلك قبل أن يكمل سنة من حين قتله من فالج شديد أصابه فكان يصيح ويستغيث ابن خميس يطالبني ابن خميس يضربني ابن خميس يقتلني وما زال الأمر يشتد به حتى قضى نحبه على تلك الحال نعوذ بالله من الورطات ومواقعات العثرات انتهى ملخصا
وحكى غيره أن بعضهم كتب بعد قوله لمن المنازل لا يجيب صداها ما نصه لابن الحكيم ومن بديع نظم ابن خميس قوله
( تراجع من دنياك ما أنت تارك ... وتسألها العتبى وها هي فارك )
( تؤمل بعد الترك رجع ودادها ... وشر وداد ما تود الترائك )
( حلا لك منها ما حلا لك في الصبا ... فأنت على حلوائه متهالك )
( تظاهر بالسلوان عنها تجملا ... فقلبك محزون وثغرك ضاحك )
( تنزهت عنها نخوة لا زهادة ... وشعر عذاري أسود اللون حالك )
وهي طويلة طنانة وفي آخرها يقول
( فلا تدعون غيري لدفع ملمة ... إذا ما دهى من حادث الدهر داهك )

( فما إن لذاك الصوت غيري سامع ... وما إن لبيت المجد بعدي سامك )
( يغص ويشجي نهشل ومجاشع ... بما أورثتني حمير والسكاسك )
( تفارقني الروح التي لست غيرها ... وطيب ثنائي لاصق بي صائك )
( وماذا عسى ترجو لذاتي وأرتجي ... وقد شمطت مني اللحى والأفانك )
( يعود لنا شرخ الشباب الذي مضى ... إذا عاد للدنيا عقيل ومالك )
ومما اشتهر من نظمه قوله
( أرق عيني بارق من أثال ... كأنه في جنح ليلي ذبال )
( أثار شوقا في ضمير الحشا ... وعبرتي في صحن خدي أسأل )
( حكى فؤادي فلقا واشتعال ... وجفن عيني أرقا وانهمال )
( جوانح تلفح نيرانها ... وأدمع تنهل مثل العزال )
( قولوا وشاة الحب ما شئتم ... ما لذة الحب سوى أن يقال )
( عذرا للوامي ولا عذر لي ... فزلة العالم ما إن تقال )
( قم نطرد الهم بمشمولة ... تقصر الليل إذا الليل طال )
( وعاطها صفراء ذمية ... تمنعها الذمة من أن تنال )
( كالمسك ريحا واللمى مطعما ... والتبر لونا والهوى في اعتدال )
( عتقها في الدن خمارها ... والبكر لا تعرف غير الحجال )
( لا تثقب المصباح لا واسقني ... على سنا البرق وضوء الهلال )

( فالعيش نوم والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال )
( خذها على تنغيم مسطارها ... بين خوابيها وبين الدوال )
( في روضة باكر وسميها ... أخمل دارين وأنسى أوال )
( كأن فأر المسك مفتوقة ... فيها إذا هبت صبا أو شمال )
( من كف ساجي الطرف ألحاظه ... مفوقات أبدا للنضال )
( من عاذري والكل في عاذر ... من حسن الوجه قبيح الفعال )
( من خلبي الوعد كذابه ... ليان لا يعرف غير المطال )
( كأنه الدهر وأي امرىء ... يبقى على الدهر إذا الدهر حال )
( أما تراني آخذا ناقضا ... عليه ما سوغني من محال )
( ولم أكن قط له عائبا ... كمثل ما عابته قبلي رجال )
( يأبى ثراء المال علمي وهل ... يجتمع الضدان علم ومال )
( وتأنف الأرض مقامي بها ... حتى تهاداني ظهور الرحال )
( لولا بنو زيان ما لذ لي العيش ... ولا هانت علي الليال )
( هم خوفوا الدهر وهم خففوا ... على بني الدنيا خطاه الثقال )
( لقيت من عامرهم سيدا ... غمر رداء الحمد جم النوال )
( وكعبة للجود منصوبة ... يسعى إليها الناس من كل بال )
( حذها أبا زيان من شاعر ... مستملح النزعة عذب المقال )
( يلتقط الألفاظ لقط النوى ... وينظم الآلاء نظم اللآل )
( مجاريا مهيار في قوله ... ماكنت لولا طمعي في الخيال )
وقصيدة مهيار مطلعها

( ما كنت لولا طمعي في الخيال ... انشد ليلى بين طول الليال )
ومن نظم ابن خميس قوله
( نظرت إليك بمثل عيني جؤذر ... وتبسمت عن مثل سمطي جوهر )
( عن ناصع كالدر أو كالبرق أو ... كالطلع أو كالأقحوان مؤشر )
( تجري عليه من لماها نطفة ... بل خمرة لكنها لم تعصر )
( لو لم يكن خمرا سلافا ريقها ... تزري وتلعب بالنهى لم تخطر )
( وكذاك ساجي جفنها لو لم يكن ... فيه مهند لحظها لم يحذر )
( لو عجت طرفك في حديقة خدها ... وأمنت سطوة صدغها المتنمر )
( لرتعت من ذاك الحمى في جنة ... وكرعت من ذاك اللمى في كوثر )
( طرقتك وهنا والنجوم كأنها ... حصباء در في بساط أخضر )
( والركب بين مصعد ومصوب ... والنوم بين مسكن ومنفر )
( بيضا إذا اعتكرت ذوائب شعرها ... سفرت فأزرت بالصباح المسفر )
( سرحت غلائلها فقلت سبيكة ... من فضة أو دمية من مرمر )
( منحتك ما منعتك يقظانا فلم ... تخلف مواعدها ولم تتغير )
( وكأنما خافت بغاة وشاتها ... فأتتك من أردافها في عسكر )
( ويجزع ذاك المنحنى أدمانة ... تعطو فتسطو بالهزبر القسور )
( وتحية جاءتك في طي الصبا ... أذكى وأعطر من شميم العنبر )
( جرت على واديك فضل ردائها ... فعرفت فيها عرف ذاك الإذخر )
( هاجت بلابل نازح عن إلفه ... متشوق ذاكي الحشا متسعر )
( وإذا نسيت ليالي العهد التي ... سلفت لنا فتذكريها تذكري )

( رحنا تغنينا ونرشف ثغرها ... والشمس تنظر مثل عين الأخزر )
( والروض بين مفضض ومعسجد ... والجو بين ممسك ومعصفر )
وكان السلطان أمير المؤمنين أبو عنان المريني رحمه الله تعالى كثير العناية بنظم ابن خميس وروايته قال رحمه الله تعالى أنشدنا القاضي خطيب حضرتنا العلية أبو عبد الله محمد بن عبد الرزاق بقصر المصارة يمنه الله قال أنشدنا بلفظه شيخ الأدباء وفحل الشعراء أبو عبد الله ابن خميس لنفسه
( أنبت ولكن بعد طول عتاب ... وفرط لجاج ضاع فيه شبابي )
( وما زلت والعلياء تعني غريمها ... أعلل نفسي دائما بمتاب )
( وهيهات من بعد الشباب وشرخه ... يلذ طعامي أو يسوغ شرابي )
( خدعت بهذا العيش قبل بلائه ... كما يخدع الصادي بلمع سراب )
( تقول هو الشهد المشور جهالة ... وما هو إلا السم شيب بصاب )
( وما صحب الدنيا كبكر وتغلب ... ولا ككليب ريء فخل ضراب )
( إذا كعت الأبطال عنها تقدموا ... أعاريب غرا في متون عراب )
( وإن ناب خطب أو تفاقم معضل ... تلقاه منهم كل أصيد ناب )
( تراءت لجساس مخيلة فرصة ... تأتت له في جيئة وذهاب )
( فجاء بها شوهاء تنذر قومها ... بتشييد أرجام وهدم قباب )
( وكان رغاء السقب في قوم صالح ... حديثا فأنساه رغاء سراب )
( فما تسمع الآذان في عرصاتهم ... سوى نوح ثكلى أو نعيب غراب )
( وسل عروة الرحال عن صدق بأسه ... وعن بيته في جعفر بن كلاب )
( وكانت على الأملاك منه وفادة ... إذا آب منها آب خير مآب )

( يجير على الحيين قيس وخندف ... بفضل يسار أو بفضل خطاب )
( زعامة مرجو النوال مؤمل ... وعزمة مسموع الدعاء مجاب )
( فمر يزجيها حواسر ظلعا ... بما حملوها من منى ورغاب )
( إلى فدك والموت أغرب غاية ... وهذا المنى يأتي بكل عجاب )
( تبرض صفو العيش حتى استشفه ... فداف له البراض قشب حباب )
( فأصبح في تلك المعاطف نهزه ... لنهب ضباع أو لنهس ذئاب )
( وما سهمه عند النضال بأهزع ... ولا سيفه عند الصراع بنابي )
( ولكنها الدنيا تكر على الفتى ... وإن كان منها في أعز نصاب )
( وعادتها أن لا توسط عندها ... فإما سماء أو تخوم تراب )
( فلا ترج من دنياك ودا وإن يكن ... فما هو إلا مثل ظل سحاب )
( وما الحزم كل الحزم إلا اجتنابها ... فأشقى الورى من تصطفي وتحابي )
( أبيت لها ما دام شخصي أن ترى ... تمر ببابي أو تطور جنابي )
( فكم عطلت من أربع وملاعب ... وكم فرقت من أسرة وصحاب )
( وكم عفرت من حاسر ومدجج ... وكم أثكلت من معصر وكعاب )
( إليكم بني الدنيا نصيحة مشفق ... عليكم بصير بالأمور نقاب )
( طويل مراس الدهر جذل مماحك ... عريض مجال الهم حلس ركاب )
( تأتت له الأهوال أدهم سابقا ... وغصت به الأيام أشهب كابي )
( ولا تحسبوا أني على الدهر عاتب ... فأعظم ما بي منه أيسر ما بي )
( وما أسفي إلا شباب خلعته ... وشيب أبى إلا نصول خضاب )

( وعمر مضى لم أحل منه بطائل ... سوى ما خلا من لوعة وتصابي )
( ليالي شيطاني على الغي قادر ... وأعذب ما عندي أليم عذاب )
( عكسنا قضايانا على حكم عادنا ... وما عكسها عند النهى بصواب )
( على المصطفى المختار أزكى تحية ... فتلك التي أعتد يوم حساب )
( فتلك عتادي أو ثناء أصوغه ... كدر سحاب أو كدر سخاب )
ومن مشهور نظم ابن خميس قوله
( عجبا لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها )
( وأنا الفقير إلى تعلة ساعة ... منها وتمنعني زكاة جمالها )
( كم ذاد عن عيني الكرى متألق ... يبدو ويخفي في خفي مطالها )
( يسمو لها بدر الدجى متضائلا ... كتضاؤل الحسناء في أسمالها )
( وابن السبيل يجيء يقبس نارها ... ليلا فتمنحه عقيلة مالها )
( يعتادني في النوم طيف خيالها ... فتصيبني ألحاظها بنبالها )
( كم ليلة جادت به فكأنما ... زفت علي ذكاء وقت زوالها )
( أسرى فعطلها وعطل شهبها ... بأبي شذا المعطار من معطالها )
( وسواد طرته كجنح ظلامها ... وبياض غرته كضوء هلالها )
( دعني أشم بالوهم أدنى لمعة ... من ثغرها وأشم مسكة خالها )
( ما راد طرفي في حديقة خدها ... إلا لقنته بحسن دلالها )
( أنسيب شعري رق مثل نسيمها ... فشمول راحك مثل ريح شمالها )
( وانقل أحاديث الهوى واشرح غريب ... لغاتها واذكر ثقات رجالها )

( وإذا مررت برامة فتوق من ... أطلائها وتمش في أطلالها )
( وانصب لمغزلها حبالة قانص ... ودع الكرى شركا لصيد غزالها )
( وأسل جداولها بفيض دموعها ... وانضح جوانحها بفضل سجالها )
( أنا من بقية معشر عركتهم ... هذي النوى عرك الرحى بثفالها )
( أكرم بها فئة أريق نجيعها ... بغيا فراق العين حسن مآلها )
( حلت مدامة وصلها وحلت لهم ... فإن انتشوا فبحلوها وحلالها )
( بلغت بهرمس غاية ما نالها ... أحد وناء لها لبعد منالها )
( وعدت على سقراط سورة كأسها ... فهريق ما في الدن من جريالها )
( وسرت إلى فاراب منها نفحة ... قديسة جاءت بنخبة آلها )
( ليصوغ من ألحانه في حانها ... ما سوغ القسيس من أرمالها )
( وتغلغلت في سهرورد فأسهرت ... عينا يؤرقها طروق خيالها )
( فخبا شهاب الدين لما أشرقت ... وخوى فلم يثبت لنور جلالها )
( ما جن مثل جنونه أحد ولا ... سمحت يد بيضا بمثل نوالها )
( وبدت على الشوذي منها نشوة ... ما لاح منها غير لمعة آلها )
( بطلت حقيقته وحالت حاله ... فيمايعبر عن حقيقة حالها )
( هذي صبابتهم ترق صبابة ... فيروق شاربها صفاء زلالها )
وهي طويلة
قال السلطان أبو عنان رحمه الله تعالى أخبرني شيخنا الإمام العالم العلامة

وحيد زمانه أبوعبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي رحمه الله تعالى قال لما توجه الشيخ الصالح الشهير أبو إسحاق التنسي من تلمسان إلى بلاد المشرق اجتمع هنالك بقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد فكان من قوله له كيف حال الشيخ العالم أبي عبد الله ابن خميس وجعل يحليه بأحسن الأوصاف ويطنب في ذكر فضله فبقي الشيخ أبو إسحاق متعجبا وقال من يكون هذا الذي حليتموه بهذا الحلي ولا أعرفه ببلده فقال له هو القائل
( عجبا لها أيذوق طعم وصالها ... )
قال فقلت له إن هذا الرجل ليس عندنا بهذه الحالة التي وصفتم إنما هو عندنا شاعر فقط فقال له إنكم لم تنصفوه وإنه لحقيق بما وصفناه به
قال السلطان وأخبرنا شيخنا الآبلي المذكور أن قاضي القضاة ابن دقيق العيد كان قد جعل القصيدة المذكورة بخزانة كانت له تعلو موضع جلوسه للمطالعة وكان يخرجها من تلك الخزانة ويكثر تأملها والنظر فيها ولقد تعرفت أنه لما وصلت هذه القصيدة إلى قاضي القضاة تقي الدين المذكور لم يقرأها حتى قام إجلالا لها انتهى
وكان ابن خميس رحمه الله تعالى بعد مفارقة بلده تلمسان سقى الله أرجاءها أنواء نيسان كثيرا ما يتشوق لمشاهدها ويتأوه من تذكره لمعاهدها وينشد القصائد الطنانة في ذلك سالكا من الحنين إليها المسالك فمن ذلك قوله
( تلمسان لو أن الزمان بها يسخو ... منى النفس لا دار السلام ولا الكرخ )
( وداري بها الأولى التي حيل دونها ... مثار الأسى لو أمكن الحنق اللبخ )

( وعهدي بها والعمر في عنفوانه ... وماء شبابي لا أجين ولا مطخ )
( قرارة تهيام ومغنى صبابة ... ومعهد أنس لا يلذ به لطخ )
( إذ الدهر مثني العنان منهنه ... ولا ردع يثني من عناني ولا ردخ )
( ليالي لا أصغي إلى عذل عاذل ... كأن وقوع العذل في أذني صمخ )
( معاهد أنس عطلت فكأنها ... ظواهر ألفاظ تعمدها النسخ )
( وأربع ألاف عفا بعض آيها ... كما كان يعرو بعض ألواحنا اللطخ )
( فمن يك سكرانا من الوجد مرة ... فإني منه طول دهري لملتخ )
( ومن يقتدح زندا لموقد جذوة ... فزند اشتياقي لا عفار ولا مرخ )
( أأنسى وقوفي لاهيا في عراصها ... ولا شاغل إلا التودع والسبخ )
( وإلا اختيالي ماشيا في سماطها ... رخيا كما يمشي بطرته الرخ )
( وإلا فعدوي مثلما ينفر الطلا ... وليدا وحجلي مثلما ينهض الفرخ )
( كأني فيها أردشير بن بابك ... ولا ملك لي إلا الشبيبة والشرخ )
( وإخوان صدق من لداتي كأنهم ... جآذر رمل لا عجاف ولا بزخ )
( وعاة لما يلقى إليهم من الهدى ... وعن كل فحشاء ومنكرة صلخ )
( هم القوم كل القوم سيان في العلا ... شبابهم الفرعان والشيخة السلخ )
( مضوا ومضى ذاك الزمان وأنسه )
( ومر الصبا والمال والأهل والبذخ )

( كأن لم يكن يوما لأقلامهم بها ... صرير ولم يسمع لأكعبهم جبخ )
( ولم يكن في أرواحها من ثنائهم ... شميم ولا في القضب من لينهم ملخ )
( ولا في محيا الشمس من هديهم سنا ... ولا في جبين البدر من طيبهم ضمخ )
( سعيتم بني عمور في شت شملنا ... فما تجركم ربح ولا عيشنا ربخ )
( دعيتم إلى ما يرتجى من صلاحكم ... فردكم عنه التعجرف والجمخ )
( تعاليتم عجبا فطم عليكم ... عباب له في رأس عليائكم جلخ )
( وأوغلتم في العجب حتى هلكتم ... جماح غواة ما ينهنههم قفخ )
( كفاكم بها سجنا طويلا وإن يكن ... هلاك لكم فيها فهي لكم فخ )
( فكم فئة منا ظفرتم بنيلها ... بأبشارها من حجن أظفاركم برخ )
( كأنكم من خلفها وأمامها ... أسود غياض وهي ما بينكم أرخ )
( فللسوق منها القيد إن هي أغربت ... وللهام إن لم تعط ما رعت النقخ )
( كأن تحتها من شدة القلق القطا ... ومن فوقها من شدة الحذر الفتخ )
( وأقرب ما تهذي به الهلك والتوى ... وأيسر ما تشكو به الذل والفنخ )
( فماذا عسى نرجوه من لم شعثها ... وقد حز منها الفرع واقتلع الشلخ )

( وما يطمع الراجون من حفظ آيها ... وقد عصفت فيها رياحهم النبخ )
( زعانف أنكاد لثام عناكل ... متى قبضوا كفا على إثره طخوا )
( ولما استقلوا من مهاوي ضلالهم وأوموا إلى أعلام رشدهم زخوا )
( دعاهم أبو يعقوب للشرف الذي ... يذل له رضوى ويعنو له دمخ )
( فلم يستجيبوه فذاقوا وبالهم ... وما لامرىء عن أمر خالقه نخ )
( وما زلت أدعو للخروج عليهم ... وقد يسمع الصم الدعاء إذا أصخوا )
( وأبذل في استئصالهم جهد طاقتي ... وما لظنابيب ابن سابحة قفح )
( تركت لمينا سبتة كل نجعة ... كما تركت للعز أهضامها شمخ )
( وآليت أن لا أرتوي غير مائها ... ولو حل لي في غيره المن والمذخ )
( وأن لا أحط الدهر إلا بعقرها ... ولو بوأتني دار إمرتها بلخ )
( فكم نقعت من غلة تلكم الأضا ... وكم أبرأت من علة تلكم اللبخ )
( وحسبي منها عدلها واعتدالها ... وأبحرها العظمى وأريافها النفخ )
( وأملاكها الصيد المقاولة الألى ... لعزهم تعنو الطراخمة البلخ )
( كواكب هدي في سماء رياسة ... تضيء فما يدجو ضلال ولا يطخو )
( ثواقب أنوار ترى كل غامض ... إذا الناس في طخياء غيهم التخوا )

وروضات آداب إذا ما تأرجت ... تضاءل في أفياء أفنانها الرمخ )
( مجامر ند في حدائق نرجس ... تنم ولا لفح يصيب ولا دخ )
( وأبحر علم لا حياض رواية ... فيكبر منها النضح أو يعظم النضخ )
( بنو العزفيين الألى من صدورهم ... وأيديهم تملأ القراطيس والطرخ )
( إذا ما فتى منهم تصدى لغاية ... تأخر من ينحو وأقصر من ينخو )
( رياسة أخيار وملك أفاضل ... كرام لهم في كل صالحة رضخ )
( إذا ما بدا منا جفاء تعطفوا ... علينا وإن حلت بنا شدة رخوا )
( نزورهم حذا نحافا فننثني ... وأجمالنا دلح وأبداننا دلخ )
( يربوننا بالعلم والحلم والنهى ... فما خرجنا بز ولا حدنا برخ )
( وما الزهد في أملاك لخم ولا التقى ... ببدع وللدنيا لزوق بمن يرخو )
( وإلا ففي رب الخورنق غنية ... فما يومه سر ولا صيته رضخ )
( تطلع يوما والسدير أمامه ... وقد نال منه العجب ما شاء والجفخ )
( وعن له من شيعة الحق قائم ... بحجة صدق لا عبام ولا وشخ )
( فأصبح يجتاب المسوح زهادة ... وقد كان يؤذي بطن أخمصه النخ )
( وفي واحد الدنيا أبي حاتم لنا ... دواء ولكن ما لأدوائنا نتخ )

( تخلى عن الدنيا تخلي عارف ... يرى أنها في ثوب نخوته لتخ )
( وأعرض عنها مستهينا لقدرها ... فلم يثنه عنها اجتذاب ولا مضخ )
( فكان له من قلبها الحب والهوى ... وكان لها من كفه الطرح والطخ )
( وما معرض عنها وهي في طلابه ... كمن في يديه من معاناتها نبخ )
( ولا مدرك ما شاء من شهواتها ... كمن حظه منها التمجع والنجخ )
( ولكننا نعمى مرارا عن الهدى ... ونصلج حتى ما لآذاننا صمخ )
( ومالامرىء عما قضى الله مزحل ... ولا لقضاء الله نقض ولا فسخ )
( أبا طالب لم تبق شيمة سؤدد ... يساد بها إلا وأنت لها سنخ )
( لسوغت أبناء الزمان أياديا ... لدرتها في كل سامعة شخ )
( وأجريتها فيهم عوائد سؤدد ... فما لهم كسب سواها ولا نخ )
( غذتهم غواديها فهي في عروقهم ... دماء وفي أعماق أعظمهم مخ )
( وعمتهم حزنا وسهلا فأصبحوا ... ومرعاهم وزخ ومرعيهم ولخ )
( بني العزفيين ابلغوا ما أردتم ... فما دون ما تبغون وحل ولا زلخ )
( ولا تقعدوا عمن أراد سجالكم ... فما غربكم جف ولا غرفكم وضخ )
( وخلو وراء كل طالب غاية ... وتيهوا على من رام شأوكم وانخوا )

( ولا تذروا الجوزاء تعلوا عليكم ... ففي رأسها من وطء أسلافكم شدخ )
( لأفواه أعدائي وأعين حسدي ... إذا جليت خائيتي الغض والفضخ )
( دعوها تهادي في ملاءة حسنها ... ففي نفسها من مدح أملاكها مدخ )
( يمانية زارت يمانين فانثنت ... وقد جد فيها الزهو واستحكم الزمخ )
وقد بسط في الإحاطة ترجمة ابن خميس المذكور ومما أنشد له قوله
( سل الريح إن لم تسعد السفن أنواء ... فعند صباها من تلمسان أنباء )
( وفي خفقان البرق منها إشارة ... إليك بما تنمي إليها وإيماء )
( تمر الليالي ليلة بعد ليلة ... وللأذن إصغاء وللعين إكلاء )
( وإني لأصبو للصبا كلما سرت ... وللنجم مهما كان للنجم إصباء )
( وأهدي إليها كل يوم تحية ... وفي رد إهداء التحية إهداء )
( وأستجلب النوم الغرار ومضجعي ... قتاد كما شاءت نواها وسلاء )
( لعل خيالا من لدنها يمر بي ... ففي مره بي من جوى الشوق إبراء )
( وكيف خلوص الطيف منها ودونها ... عيون لها في كل طالعة راء )
( وإني لمشتاق إليها ومنبىء ... ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء )
( وكم قائل تفنى غراما بحبها ... وقد أخلقت منها ملاء وأملاء )
( لعشرة أعوام عليها تجرمت ... إذا ما مضى قيظ بها جاء إهراء )

( يطنب فيها عائثون وخرب ... ويرحل عنها قاطنون وأحياء )
( كأن رماح الناهبين لملكها ... قداح وأموال المنازل أبداء )
( فلا تبغين فيها مناخا لراكب ... فقد قلصت منها ظلال وأفياء )
( ومن عجب أن طال سقمي ونزعها ... وقسم إضناء علينا وإطناء )
( وكم أرجفوا غيظا بها ثم أرجأوا ... فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء )
( يرددها عيابها الدهر مثلما ... يردد حرف الفاء في النطق فأفاء )
( فيا منزلا نال الردى منه ما اشتهى ... ترى هل لعمر الأنس بعدك إنساء )
( وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي ... إذا ما انقضت أيام بؤسك إطفاء )
( وهل لي زمان أرتجي فيه عودة ... إليك ووجه البشر أزهر وضاء )
ومنها
( أحن لها ما أطلت النيب حولها ... وما عاقها من مورد الماء أظماء )
( فما فاتها مني نزاع على النوى ... ولا فاتني منها على القرب إجشاء )
( كذلك جدي في صحابي وأسرتي ... ومن لي به في أهل ودي إن فاؤوا )
( ولولا جوار ابن الحكيم محمد ... لما فات نفسي من بني الدهر إقماء )
( حماني فلم تنتب محلي نوائب ... بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء )
( وأكفأ بيتي في كفالة جاهة ... فصاروا عبيدا لي وهم لي أكفاء )
( يؤمون قصدي طاعة ومحبة ... فما عفته عافوا وما شئته شاؤوا )

( دعاني إلى المجد الذي كنت آملا ... فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء )
( وبوأني من هضبة العز تلعة ... يناجي السها منها صعود وطأطاء )
( يشيعني منها إذا سرت حافظ ... ويكلؤني منها إذا نمت كلاء )
( ولا مثل نومي في كفالة غيره ... وللذئب إلمام وللصل إيماء )
( بغيضه ليث أو بمرقب خالب ... تبز كسا فيه وتقطع أكساء )
( إذا كان لي من نائب الملك كافل ... ففي حيثما هومت كن وإدفاء )
( وإخوان صدق من صنائع جاهه ... يبادرني منهم قيام وإيلاء )
( سراع لما يرجى من الخير عندهم ... ومن كل ما يخشى من الشر أبراء )
( إليك أبا عبد الإله صنعتها ... لزومية فيها لوجدي إفشاء )
( مبرأة مما يعيب لزومها ... إذا عاب إكفاء سواها وإيطاء )
( أذعت بها السر الذي كان قبلها ... عليه لأحناء الجوانح إضناء )
( وإن لم يكن كل الذي كنت آملا ... وأعوز إكلاء فما عاز إكماء )
( ومن يتكلف مفحما شكر منة ... فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء )
( إذا منشد لم يكن عنك ومنشىء ... فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء )

رجع إلى ترجمة ابن الفخار وفوائده
قال الشاطبي حدثنا الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار قال جلس بعض الطلبة إلى بعض الشيوخ المقرئين قأتى المقرىء بمسألة الزوائد الأربع في أول الفعل المضارع وقال يجمعها قولك نأيت فقال له ذلك الطالب لو جمعتها بقولك أنيت لكان أملح ليكون كل حرف تضعيف ما قبله فالهمزة لواحد وهو المتكلم والنون لاثنين وهما الواحد ومعه غيره والواحد

المعظم نفسه والياء لأربعة للواحد الغائب وللغائبين وللغائبين وللغائبات والتاء لثمانية للمخاطب وللمخاطبين وللمخاطبين والمخاطبة والمخاطبتين والمخاطبات وللغائبة وللغائبتين فاستحسن الشيخ ذلك منه
وحكى الشاطبي أيضا أن شيخه ابن الفخار أورد عليهم سؤالا وهو كيف يجمع بين مسألة رجل أوقع الصلاة بثوب حرير اختيارا وبين قوله
( جرى المدميان بالخبر اليقين ... )
فلم ينقدح لنا شيء فقال الجواب أن الأول ممنوع عند الفقهاء شرعا ورد اللام في دم في التثنية ممنوع عند النحاة قياسا وكلاهما في حكم المعدوم حسا وإذا كان كذلك كان الأول بمنزلة من صلى بادي العورة اختيارا فتلزمه الإعادة وكان الثاني بمنزلة ما باشر فيه عين دم علم التثنية فتلزمه الفتحة وإن كان أصلها السكون قال وهذه المسألة تشبه مسألة ابن جني في الخصائص قال ألقيت يوما على بعض من كان يعتادني مسألة فقلت له كيف تجمع بين قوله
( لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب )
وبين قوله اختصم زيد وعمرو فلم ينقدح فيها شيء وعاد مستفهما فقال له اجتماعهما أن الواو اقتصر به على بعض ما وضع له من الصلاحية الملازمة مطلقا والطريق اقتصر به على بعض ما كان يصلح له
قال الشاطبي وحدثني أيضا قال كان لقاضي القضاة علما وجزالة أبي جعفر ولد يقرأ علي بمالقة وكان ابنا نبيها فهما ونبلا فسأل مني يوما مسألة

يذكرها لأقرانه وكان معجبا بالغرائب فجرى على لساني أن قلت له بين على زيد فعل أمر وفاعل والأصل ابأين على زيد ثم سهل بالنقل والحذف على قياس التسهيل فصار بين كما ترى فأعجب بالمسألة حتى ناظر فيها ليلة أباه وكان انحى نحاة أهل عصره فأعجب مما يرى من ابنه من النبل والتحصيل فبلغت المسألة الشيخ الأستاذ أبا بكر ابن الفخار رحمه الله تعالى فاعتنى بها وحاول في استخراج وجه من وجوه الاعتراض على عادة المصلحين من طلبة العلم فوجد في مختصر العين أن الكلمة من ذوات الواو ولم يذكر صاحب المختصر غير ذلك ولم يكن رحمه الله تعالى رأى قول أبي الحسن اللحياني في نوادره إنه مما يتعاقب على لامه الواو والياء فيقال بأي يبأى بأوا وبأيا كما يقال شأى يشأى شأوا وشأيا فلم يقدم شيئا على أن اجتمع بالقاضي المذكور فقال له ألم تسمع ما قال فلان بين على زيد وإنما هو بون على زيد لأنه من ذوات الواو ونص على ذلك صاحب المختصر وحمله على أن يرسل إلي ويردني عن ذلك الذي قلته في المسألة واجتمعت أنا معه وحدثني بما جرى له مع الأستاذ ابن الفخار فذكرت له ما حكاه أبو الحسن اللحياني في نوادره وما قاله ابن جني في سر الصناعة فسر بذلك وأرسل بعد إلى الأستاذ ابن الفخار وذكر له نص اللحياني وقول ابن جني وجمع القاضي بيننا وعقد في قلوبنا مودة فكان الأستاذ ابن الفخار يومئذ يقصدني في منزلي وفي المواسم ويستشيرني في أموره على سبيل التأنيس رحمة الله عليه فأواه على فقد الناس أمثاله
وقال الشاطبي أيضا أنشدني الفقيه الأستاذ الكبير أبو عبد الله ابن الفخار رحمه الله تعالى وقال ألقي في سري بيت لم أسمعه قط في السادس عشر من شهر رجب عام ستة وخمسين وسبعمائة

( لتكن راجيا كما أنت ترجو ... ولأربى من الذي أنت راجي )
قال الشاطبي وقرر لنا الأستاذ ابن الفخار المذكور يوما توجيه قول أبي الحسن الأخفش في كسرة الذال من نحو يومئذ إنها إعرابية لا بنائية إذ لم يذكر أحد وجه هذا المذهب قبل قال ابن جني إن الفارسي اعتذر له بما يكاد يكون عذرا فلما تم التوجيه قلت له وانا حينئذ صغير السن هب أن الأمر على ما قاله الأخفش من أن الكسرة إعرابية فما يصنع ببناء الزمان المضاف إلى إذ في أحد الوجهين والإضافة إلى المفرد المعرب تقتضي الإعراب دون البناء فتعجب من صدور هذا السؤال مني لصغر سني وأجاب عنه بأنه قد يذهب السبب ويبقى حكمه كما قاله ابن جني في اسم الإشارة في ترجمة سيبويه هذا علم ما الكلم من العربية على أن يكون سيبويه وضعه غير مشير به وتركه مبنيا وأزال سبب البناء ونظر ذلك بباب التسوية على ما هو مقرر في موضعه قال ونظير ذلك ما قرر من إضافة حيث إلى المفرد مع بقاء البناء فيما ذكره الزمخشري وذلك قوله
( أما ترى حيث سهيل طالعا ... )
وقوله أنشدنا ابن الأعرابي لبعض المحدثين
( ونحن سعينا بالبلايا لمعقل ... وقد كان منكم حيث لي العمائم )
وقد كان حقها أن تعرب لزوال سبب البناء وهو الإضافة إلى جملة وحصول سبب الإعراب وهو الإضافة إلى المفرد ولكنه لم يعتبر النادر وأبقى الحكم الشائع
وقال الشاطبي أيضا كان شيخنا ابن الفخار يأمرنا بالوقف على قوله تعالى في سورة البقرة ( قالوا الآن ) ونبتدىء ( جئت بالحق ) وكان يفسر لنا معنى ذلك قولهم الآن أي فهمنا وحصل البيان ثم قيل جئت بالحق يعني في كل

مرة وعلى كل حال وكان رحمه الله تعالى يرى هذا الوجه أولى من تفسير ابن عصفور له من أنه على حذف الصفة أي بالحق البين وكان يحافظ عليه
وقال الشاطبي أنشدني صاحبنا الفقيه الأجل الأديب البارع أبو محمد ابن حذلم لنفسه أبياتا أنشدنيها يوم عيد على قبر سيدنا الإمام الأستاذ الكبير الشهير أبي عبد الله بن الفخار يرثيه بها
( أيا جدثا قد أحرز الشرف المحضا ... بأن صار مثوى السيد العالم الأرضى )
( عجبت لما أحرزته من معارف ... وشتى معال لم تزل تعمر الأرضا )
( طويت عليه وهو عين زمانه ... فيا جفن عين الدهر كم تؤثر الغمضا )
( فحياك من صوب الحيا كل ديمة ... تديم له في الجنة الرفع والخفضا )
( فها نحن في عيد الأسى حول قبره ... وقوفا لنقضي من عيادته الفرضا )
( كمثل الذي كنا وقوفا ببابه ... بعيد الأماني زائرين له أيضا )
( ومنا سلام لا يزال يخصه ... يذكره من بعض أشواقنا البعضا )

ترجمة ابن حذلم
قلت وابن حذلم المذكور له باع مديد في العلم والأدب وهو أبو محمد عبد الله بن عبد الله بن حذلم ومن نظمه قوله
( أبت المعارف أن تنال براحة ... إلا براحة ساعد الجد )
( فإذا ظفرت بها فلست بمدرك ... أربا بغير مساعد الجد )
وقوله رحمه الله

( كم من صديق حال في وده ... ولم أزل أزويه عن محضه )
( حضوره عين على وده ... وغيبه عين على بغضه )
( ولم أكن أجهل هذا ولا ... عجزت أن أجري على قرضه )
( لكن من قد سرني بعضه ... أحب أن أصفح عن بعضه )
وقوله رحمه الله يوم عيد وهو مما ألهج به أنا كثيرا
( يقولون لي خل عنك الأسى ... ولذ بالسرور فذا يوم عيد )
( فقلت لهم والأسى غالب ... ووجدي يحيى وشوقي يزيد )
( توعدني مالكي بالفراق ... فكيف أسر وعيدي وعيد )
وقوله رحمه الله
( حبيب زارني في الليل سرا ... فأحيا نفس مشتاق إليه )
( وعللني بنشر المسك منه ... وحياني بصفحة وجنتيه )
( وعانقني عناق الود صفحا ... وفارقني فيا لهفي عليه )
رجع وتوفي الأستاذ سيبويه زمانه أبو عبد الله محمد بن علي بن الفخار أستاذ الجماعة بغرناطة ليلة الإثنين ثاني عشر رجب عام أربعة وخمسين وسبعمائة رحمه الله تعالى
رجع إلى مشايخ لسان الدين رحمه الله تعالى
13 - ومنهم الأستاذ ابن العواد قال في الإحاطة قرأت كتاب الله عز و جل على المكتب نسيج وحده في تحمل المنزل حق حمله تقوى وصلاحا وخصوصية وإتقانا ونغمة وعناية وحفظا وتبحرا في هذا الفن

واضطلاعا بغرائبه واستيعابا لسقطات الأعلام الأستاذ الصالح أبي عبد الله ابن عبد الولي العواد تكتيبا ثم حفظا ثم تجويدا على مقرإ أبي عمرو ثم نقلني إلى أستاذ الجماعة ومطية الفنون ومفيد الطلبة الشيخ الخطيب المتفنن أبي الحسن على القيجاطي فقرأت عليه القرآن والعربية وهو أول من انتفعت به انتهى
14 - ومن أشياخه رحمه الله الشيخ العلامة أبو عبد الله ابن بيبش وله رحمه الله تعالى نظم جيد فمنه قوله ملغزا في مسطرة الكتابة
( ومقصورة خلف الحجاب وسرها ... مضاع فما يلقاك من دونها ستر )
( لها جثة بيضاء أسبل فوقها ... ذوائب زانتها وليس لها شعر )
( إذا ألبست مثل الصباح وبرقعت ... رأيت سواد الليل لم يمحه الفجر )
( عقيلة صون لا يفرق شملها ... سوى من أهمته الخطابة والشعر )
وقوله في ترتيب حروف الصحاح
( أساجعة بالواديين تبوئي ... ثمارا جنتها حاليات خواضب )
( دعي ذكر روض زاره سقي شربه ... صباح ضحى طير ظماء عواصب )
( غرام فؤادي قاذف كل ليلة ... متى ما نأى وهنا هداه يراقب )
وله جواب عن البيتين المشهورين
( يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثاني )
( لأي معنى كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان )
فقال
( نحلتني طائعا فؤادا ... فصار إذ حزته مكاني )
( لا غرو إذ كان لي مضافا ... أني على الكسر فيه باني )

وقد ذكرت ذلك في غير هذا الموضع مع زيادة بلفظ لسان الدين فليراجع في الباب الخامس من هذا الكتاب
15 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى قاضي الجماعة الصدر المتفنن أبو عبد الله ابن بكر قال في الإحاطة وقرأت على قاضي الجماعة أبي عبد الله ابن بكر رحمه الله تعالى انتهى
وقاضي الجماعة عند المغاربة هو بمعنى قاضي القضاة عند المشارقة فليعلم ذلك وابن بكر المذكور هو محمد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن بكر بن سعيد الأشعري المالقي من ذرية أبي موسى الأشعري كان من صدور العلماء وأعلام الفضلاء سذاجة ونزاهة ومعرفة وتفننا فسيح الدرس أصيل النظر واضح المذهب مؤثرا للإنصاف عارفا بالأحكام والقراءة مبرزا في الحديث تاريخا وإسنادا وتعديلا وجرحا حافظا للأنساب والأسماء والكنى قائما على العربية مشاركا في الأصول والفروع واللغة والعروض والفرائض والحساب مخفوض الجناح حسن الخلق عطوفا على الطلبة محبا في العلم والعلماء مطرحا للتصنع عديم المبالاة بالملبس بادي الظاهر عزيز النفس نافذ الحكم تقدم ببلده مالقة ناظرا في أمور العقد والحل ومصالح الكافة ثم ولي القضاء بها فأعز الخطة وترك الشوائب وأنفذ الحق ملازما للقراءة والإقراء محافظا

للأوقات حريصا على الإفادة ثم ولي القضاء بغرناطة المحروسة سنة 737 فقام بالوظائف وصدع بالحق وبهرج الشهود فزيف منهم ما ينيف على سبعين واستهدف بذلك إلى معاداة ومناضلة خاض ثبجها وصادم تيارها غير مبال بالمغبة ولا حافل بالتبعة فناله لذلك من المشقة والكيد العظيم ما ناله مثله حتى كان لا يمشي إلى الصلاة ليلا ولا يطمئن على حاله وجرت له في ذلك حكايات إلى أن عزم عليه الأمير أن يرد للعدالة بعض من أخره فلم يجد في قناته مغمزا ولا في عوده معجما وتصدر لبث العلم بالحضرة يقرىء فنونا جمة فنفع وخرج وأقرأ القرآن ودرس الفقه والأصول والعربية والفرائض والحساب وعقد مجالس الحديث شرحا وسماعا على انشراح صدر وحفظ تجمل وخفض جناح قال القاضي ابن الحسن إنه كان صاحب عزم ومضاء وحكم صادع وقضاء أحرق قلوب الحسدة وأعز الخطة بإزالة الشوائب وذهب وفضض الحق بمعارفه ونفذ في المشكلات وثبت في المعضلات واحتج وبكت وتفقه ونكت وحدثنا صاحبنا أبو جعفر الشقوري قال كنت جالسا بمجلس حكمه فرفعت إليه امرأة رقعة مضمنها أنها محبة في مطلقها وتبتغي الشفاعة لها في ردها فتناول الرقعة ووقع على ظهرها بلا مهلة الحمد لله من وقف على ما بالقلوب فليصخ لسماعه إصاخة مغيث وليشفع للمرأة عند زوجها تأسيا بشفاعة الرسول لبريرة في مغيث والله يسلم لنا العقل والدين ويسلك بنا سبيل المهتدين والسلام من كاتبه

قال الشقوري قال لي بعض الأصحاب هلا كان هو الشفيع لها فقلت الصحيح أن الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على المنصوص
قرأ ابن بكر المذكور على الأستاذ ابن أبي السداد الباهي القرآن جمعا وإفرادا والعربية والحديث ولازمه وتأدب به وعلى الشيخ الصالح أبي عبد الله ابن عياش كثيرا من كتب الحديث وسمع عليه جميع صحيح مسلم إلا دولة واحدة وأخذ عن الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير والخطيب ابن رشيد والولي الصالح أبي الحسين ابن فضيلة والأستاذ أبي عبد الله ابن الكماد وأجازه العدل الراوية أبو فارس عبد العزيز بن الهواري وأبو إسحاق التلمساني ومن أهل إفريقية المعمر أبو محمد ابن هارون ومحمد بن سيد الناس ومن أهل مصر الشرف الدمياطي وجماعة من أهل الشام والحجاز فقد رحمه الله تعالى في المصاف يوم المناجزة بطريف زعموا أنه وقع عن بغلة ركبها وأشار عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يقدر وقال له انصرف هذا يوم الفرح إشارة لقوله تعالى ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ) آل عمران 170 وذلك ضحى يوم الإثنين 7 جمادى الأولى سنة 741 رحمه الله تعالى
16 - ومن أشياخ لسان الدين ابن الخطيب رحمه الله تعالى الشيخ أبو إسحاق ابن أبي يحيى الشهير الذكر في المغرب وقد عرف به في الإحاطة في اسم إبراهيم من ترجمة الغرباء بما نصه إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي بكر التسولي من أهل تازى يكنى أبا سالم ويعرف بابن أبي يحيى

حاله من الكتاب المؤتمن كان هذا الرجل قيما على التهذيب ورسالة ابن أبي زيد حسن الإقراء لهما وله عليهما تقييدان نبيلان قيدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصغير حضرت مجالسه بمدرسة عدوة الأندلس من فاس ولم أر في متصدري بلده أحسن تدريسا منه كان فصيح اللسان سهل الألفاظ موفيا حقوقها وذلك لمشاركته الحضر فيما بأيديهم من الأدوات وكان مجلسه وقفا على التهذيب والرسالة وكان مع ذلك سمحا فاضلا حسن اللقاء على خلق بائنة على أخلاق أهل مصره امتحن بصحبة السلطان فصار يستعمله في الرسائل فمر في ذلك حظ كبير من عمره ضائعا لا في راحة دنيا ولا في نصب آخرة ثم قال وهذه سنة الله قيمن خدم الملوك ملتفتا إلى ما يعطونه لا إلى ما يأخذون من عمره وراحته أن يبوء بالصفقة الخاسرة لطف الله بمن ابتلى بذلك وخلصنا خلاصا جميلا
ومن كتاب عائد الصلة الشيخ الفقيه الحافظ القاضي من صدور المغرب مشاركة في العلم وتبحرا في الفقه كان وجيها عند الملوك صحبهم وحضر مجالسهم واستعمل في السفارة فلقيناه بغرناطة وأخذنا بها عنه تام السراوة حسن العهد مليح المجالس أنيق المحاضرة كريم الطبع صحيح المذهب
تصانيفه قيد على المدونة بمجلس شيخه أبي الحسن كتابا مفيدا وضم أجوبته على المسائل في سفر وشرح كتابه الرسالة شرحا عظيم الإفادة
مشيخته لازم أبا الحسن الصغير وهو كان قارئ كتب الفقه عليه وجل انتفاعه في التفقه به وروى عن أبي زكريا ابن يس قرأ عليه كتاب

الموطأ إلا كتاب المكاتب وكتاب المدبر فإنه سمعه بقراءة الغير وعن أبي عبد الله ابن رشيد قرأ عليه الموطأ وشفاء عياض وعن أبي الحسن ابن عبد الجليل السدراتي قرأ عليه الأحكام الصغرى لعبد الحق وأبي الحسن ابن سليمان قرأ عليه رسالة ابن أبي زيد وعن غيرهم
وفاته فلج بأخرة فالتزم منزله بفاس يزوره السلطان ومن دونه وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة انتهى
وقال ابن الخطيب القسمطيني إن ابن أبي يحيى المذكور توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة انتهى
17 - ومن أشياخ لسان الدين الطنجالي الهاشمي وهو محمد بن أحمد قال في عائد الصلة كان على سنن سلفه كثرة حياء وسمة صلاح وشدة انقباض وإفراط وقار وحشمة بذ الكهولة على حداثة سنه في باب الورع والدين والإغراق في الصلاح والخير وتقدم خطيبا ثم قاضيا ببلده فأظهر من النزاهة والعدالة ما يناسب منصبه ففزع الناس إليه في كائنة الوباء العظيم بأموالهم وقلدوه عهود صدقاتهم فاستقر في يده من المال الصامت والحلى والذخيرة والعدة ما تضيق بيوت أموال الملك عنه وصرف ذلك مصارفه ووضعه وفق عهوده فلم يتلبس منه بنفير ولا قطمير وكان مدركا أصيل الرأي قائما على الفرائض والحساب ثم تخرج وطلب الإعفاء فأسعف به على حال ضنانة وفي ذلك يقول قريبه صاحبنا الفقيه القاضي أبو الحسن ابن الحسن يخاطبه

( لك الله يا بدر السماحة والبشر ... رفعت بأعلى رتبة راية الفخر )
( ولا سيما لما وليت أمورها ... فرويتها من عذب نائلك الغمر )
( ودارت قضاياها عليك بأسرها ... على حين لا بر يعين على بر )
( فقمت بها خير القيام مصمما ... على الحق تصميم المهندة البتر )
( فسر بك الإسلام يا ابن حمامة ... وأمست بك الأيام باسمة الثغر )
( تعيد عليك الحمد ألسن حالها ... وتتلو لما يرضيك من سور الشكر )
( لذاك أمير المسلمين بعدله ... أقامك تقضي الزمان على جبر )
( فأحييت رسم العلم بعد مماته ... وغادرت وجه الحكم أسنى من البدر )
( ولكنك استعفيت عنه تورعا ... وتلك سبيل الصالحين كما تدري )
( فكم من ولي فر عنه لعلمه ... به كأبي الحجاج جدك من ذخر )
( فزاد اتصالا عزة باجتنابه ... له وسما قدرا على قنة النسر )
( جريت على نهج السلامة في الذي ... تبعت له فأبشر بأمنك في الحشر )
( وأرضاك مولاي الإمام بفضله ... وأعفاك إعفاء الكرامة والبر )
( فأنت على الحالين أفضل من قضى ... وأشرف من يعفي إلى أخر الدهر )
( لما حزت من شتى المعالي التي بها ... تحليت عن أسلافك السادة الغر )
( صدور مقامات المعارف كلها ... بحور النوال الجم في اليسر والعسر )
( هم النفر الأعلون من آل هاشم ... وناهيك من مجد أثيل ومن فخر )
وهي طويلة انتهى
18 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الإمام الخطيب الرئيس سيدي أبو عبد الله ابن مرزوق ولنلخص ترجمته من الإحاطة وغيرها

فنقول هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي التلمساني يكنى أبا عبد الله ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين
قال أبو الحسن علي بن لسان الدين ابن الخطيب في حقه سيدي وسند أبي فخر المغرب وبركة الدول وعلم الأعلام ومستخدم السيوف والأقلام ومولى أهل المغرب على الإطلاق أبقاه الله تعالى وأمتع بحياته وأعانني على ما يجب في حقه قال تربيته وولده علي ابن المؤلف انتهى يعني ابن الخطيب
وقال لسان الدين هذا الرجل من طرف دهره ظرفا وخصوصية ولطافة مليح التوسل حسن اللقاء مبذول البشر كثير التودد نظيف البزة لطيف التأني البيت طلق الوجه خلوب اللسان طيب الحديث مقدر الألفاظ بالأبواب درب على صحبة الملوك والأشراف متقاض لإيثار السلاطين والأمراء يسحرهم بخلابة لفظه ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه ويصطنع غاشيتهم بتلطفه ممزوج الدعابة بالوقار والفكاهة بالنسك والحشمة بالبسط عظيم لأهل وده والتعصب لإخوانه آلف مألوف كثير الأتباع والعلق مسخر الرقاع في سبيل الوساطة مجدي الجاه غاص المنزل بالطلبة منقاد للدعوة بارع الخط أنيقه عذب التلاوة متسع الرواية مشارك في فنون من أصول وفروع وتفسير يكتب ويشعر ويقيد ويؤلف فلا يعدو السداد في ذلك منبر غير جزوع ولا هياب رحل إلى المشرق في كنف حشمة جناب والده رحمه الله تعالى فحج وجاور ولقي الجلة ثم فارقه وقد عرف بالمشرق حقه وصرف وجهه إلى المغرب فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره اشتمالا خلطه بنفسه وجعله مفضي سره وإمام جمعه وخطيب منبره وأمين رسالته فقدم في غرضها على الأندلس أواخر عام ثمانية وأربعين

وسبعمائة ولما حالت بالأمير المذكور الحال استقر بالأندلس مفلتا من النكبة في وسط عام اثنين وخمسين وسبعمائة فاجتذبه سلطانها رحمه الله وأجراه على تلك الوتيرة فقلده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته وفي أخريات عام أربعة وخمسين صرف عنه جفن بره في أسلوب طماح ودالة وسبيل هوى وقحة فاغتنم الفترة وانتهز الفرصة وأنفذ في الرحيل العزمة وانصرف عزيز الرحلة مغبوط المنقلب فاستقر بباب ملك المغرب أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محل تجلة وبساط قرب مشترك الجاه مجدي التوسط ناجع الشفاعة والله يتولاه ويزيده من فضله
مشيخته من كتابه المسمى عجالة المستوفز المستجاز في ذكر من استجازني من المشايخ دون من أجاز من أئمة المغرب والشام والحجاز فممن لقيه بالمدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام الإمام العالم العلامة عز الدين أبو محمد الحسن ابن علي ابن إسماعيل الواسطي صاحب خطتي الإمامة بالمسجد الكريم النبوي وأفرد جزءا في مناقبه والشيخ الإمام الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السعدي العبادي تحمل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم ونائب الإمامة والخطابة به ومنشد الأمداح النبوية هنالك والشيخ الصالح الثقة المعمر محيي الدين أبو زكريا يحيى بن محمد المغراوي التونسي سمع ابن حامل والتوزري والشيخ نور الدين أبو الحسن علي ابن محمد الحجار الفراش بحرم رسول الله والوقاد به وكان مقصودا من كل قطر والشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد الصنعاني نائب القضاء بالمدينة والشيخ الإمام

قاضي القضاة بالمدينة شرف الدين بن محرز الإخميمي بن الأسيوطي والشيخ الصالح عز الدين خالد بن عبد الله الطواشي والشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الله المعيشي سمع ابن مزروع البصري وغيره والشيخ بهاء الدين موسى بن سلامة الشافعي المصري الخطيب بالمسجد الكريم بها والشيخ الخطيب أبو طلحة الزبير ابن أبي صعصعة الأسواني والشيخ عفيف الدين المطري والشيخ الأديب أبو البركات أيمن بن محمد بن محمد إلى أربعة عشر ابن أيمن التونسي المجاور والشيخ أبو محمد عبد الله بن محمد بن فرحون اليعمري التونسي المجاور أبو فارس عبد العزيز بن عبد الواحد بن أبي ركبون التونسي بها على أبيه القرآن العظيم قال وكانت قراءتي عليه بالمدينة عند قبره عليه الصلاة و السلام
وبمكة شرفها الله تعالى الشيخ المعمر الثقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى ابن عبد الله الحجبي المكي المتوفى وقد قارب المائة والشيخ زين الدين أحمد ابن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكي والشيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي وشيخ شيوخ رباط الأعجام حيدر بن عبد الله المقرىء والشيخ مقرىء الحرم برهان الدين إبراهيم ابن مسعود بن إبراهيم الأيلي المصري والشيخ مصلح الدين الحسن بن عبد الله العجمي والإمام الصالح أبو الصفاء خليل بن عبد الله القسطلاني التوزري والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجة انتهت إليه الرياسة العلمية والخطط الشرعية بالحرم والشيخ فخر الدين عثمان بن أبي بكر النويري المالكي والشيخ الإمام المدرس بالحرم شهاب الدين أحمد بن الحرازي اليمني والشيخ قاضي القضاة نجم الدين محمد بن جمال الدين بن عبد الله بن المحب الطبري والشيخ جلال الدين أبو عبد الله محمدبن أحمد بن براجين القشيري التلمساني وقرأ بها على أبيه وألبسه بها الخرقة والشيخ الملك شرف الدين عيسى بن محمد بن أبي بكر بن أيوب والشيخة فاطمة بنت محمد ابن محمد بن أبي بكر بن أيوب والشيخة فاطمة بنت محمد بن محمد بن أبي بكر بن

محمد بن إبراهيم الطبري المكية والشيخ أبو الربيع سليمان بن يحيى بن سلمان المراكشي السفاح والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني قاضي القضاة بالديار المصرية
وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي والتقي السعدي وقاضي القضاة القزويني وهو شهير الذكر رفيع القدر وقاضي القضاة البرهان الحنفي والشرف أقضى القضاة الإخميمي والشيخ المحدث المسند البدر محمد بن محمد الفارقي والقطب الحافظ محمد ابن منير والشهاب أحمد الجوهري الحلبي والمعمر الشرف يحيى المقدسي بن المصري والشيخ محسن القرشي والشهاب الحنبلي وفتح الدين محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمدبن يحيى بن سيد الناس اليعمري والشيخ المسند شمس الدين أبو بكر بن سيد الناس أخوه والإمام أبو حيان والحافظ النسابة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن طي ابن حاتم بن خيش الزبيري المصري يبلغ شيوخه نحوا من ألفي شيخ والشيخ الشمس بن عدلان والشهاب البوشي المالكي والشيخ المتصوف تاج الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن ثعلب المصري مدرس المالكية والشمس ابن كتشغري الخطابي الصيرفي والعماد ابن النجم الدمياطي والتاج الأشعري والتقي الثعلبي والفتح بن عبد القوي والشمس الورجمي والتقي الأشموني والعلامة التقي السبكي والمعروف ابن بنت الشاذلي وأبو الحسن التميمي والبرهان الخيمي والشمس الأسواني والبرهان الحكري والشمس بن جابر الوادي آشي وأبو محمد عبد الكريم الطوسي وأبو فارس الزروالي التونسي وصالح بن عبد العظيم بن يونس وأبو عبد الله ابن القماح والتاج التبريزي والشيخ محمود الأصبهاني والشرف المغيلي والبرهان السفاقسي
ومن النساء الشيخة المسندة ست الفقهاء فاطمة بنت محمد الفيومي البكري
وببلبيس أسد الدين يوسف بن داود الأيوبي من أبناء الملوك
ومن الشاميين بالقدس علاء الدين أبو الحسن علي بن أيوب وخطيب

القدس النور ابن الصائغ المقدسي ومحمد بن علي بن مثبت الأندلسي والبرهان الجعبري إمام الخليل
ومن أهل دمشق البرهان بن الفركاح والشمس بن مسلم قاضي الحنابلة
وبالإسكندرية أحمد المرادي بن العشاب وأبو القاسم ابن علي بن البراء والناصر بن المنير
وبطرابلس الخطيب أبو محمد جابر بن عبد الغفار
وبتونس الزبيدي والقاضي ابن عبد الرفيع والقاضي ابن عبد السلام وابن راشد وأبو موسى هارون والمحدث أبو عبد الله التلمساني والحافظ أبو زكريا يحيى بن عصفور التلمساني نزيل تونس وأبو محمد بن سعد الله بن أبي القاسم بن البراء
وببلاد الجريد الشيخ الخطيب أبو عبد الملك ابن حيون
وبالزاب ابن أبي والشيخ أبو محمد ابن راشد
وببجاية الإمام النظار المجتهد أبو علي ناصر الدين المشدالي والحافظ فقيه زمانه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن يللبخت الزواوي والشيخ الفقيه أبو عبد الله الخطيب المسفر
وبتلمسان الشيخان الإمامان ابنا الإمام وقاضي القضاة بها أبو عبد الله ابن هدية والخطيب أبو محمد المجاصي والشريف أبو علي حسن بن يوسف بن يحيى الحسني والشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي المعروف بابن إسحاق الخياط وغيرهم
محنته اقتضى الخوض الواقع بين يدي تأميل الأمير أبي الحسن رحمه الله

تعالى عودة الأمر إليه وقد ألقاه اليم إلى الساحل بمدينة الجزائر أن قبض عليه بتلمسان أمراؤها المتوثبون عليها في هذه الفترة من بني زيان إرضاء لقبيلهم المتهم بمداخلته وقد رحل عنهم دسيسا من أميرهم عثمان بن يحيى فصرف مأخوذا عليه طريقه منتهبا رحله منتهكة حرمته وأسكن قرارة مطبق عميق القعر مقفل المسلك حريز القفل ثاني اثنين انتهى ملخصا
ورأيت بخط ابن مرزوق على قوله وقد رحل عنهم دسيسا إلى آخره ما نصه لم أرحل عنهم إلا بإذنهم واقتراحهم علي في الإصلاح بينهم لكنهم غدروا تقية على أنفسهم قاله ابن مرزوق انتهى وكتب تحته ولد ابن الخطيب ما صورته نعم ما ترى
( وعند الله تجتمع الخصوم ... )
انتهى
رجع إلى كلام لسان الدين في حقه قال بعد الكلام السابق ما ملخصه ولأيام قتل ثانية ذبحا بمقربة من شفا تلك الركية وانقطع أثره وأيقن الناس بفوات الأمر فيه ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه في خبر ينظر بطرفه إلى الكرامة فنجا ولا تسل كيف وخلصه الله خلاصا جميلا وقدم على الأندلس والله ينفعه بنيته انتهى
وكتب ابن مرزوق على هذا المحل ما نصه لم يكن المقتول حين قتل معي ولا قتل ذبحا قاله ابن مرزوق انتهى وكتب بعض علماء مصر تحته ما نصه هذه دعوى والمؤرخ أعرف انتهى فكتب آخر بعد هذا ما نصه أتخبرني عني انتهى
رجع ثم قال لسان الدين في ترجمة شعره ما صورته ركب مع السلطان

بخارج الحمراء أيام ضربت اللوز قبابها البيض وزينت الفحص العريض والروض الأريض فارتجل في ذلك
( انظر إلى النوار في أغصانه ... يحكي النجوم إذا تبدت في الحلك )
( حيا أمير المسلمين وقال قد ... عميت بصيرة من بغيرك مثلك )
( يا يوسفا حزت الجمال بأسره ... فمحاسن الأيام تومي هيت لك )
( أنت الذي صعدت به أوصافه ... فيقال فيه ذا مليك أو ملك )
إلى أن قال ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه ما أنشد عنه وبين يديه ليلة الميلاد المعظم من عام ثلاثة وستين وسبعمائة
( قل لنسيم السحر ... لله بلغ خبري )
( إن أنت يوما بالحمى ... جررت فضل المئزر )
( ثم حثثت الخطو من ... فوق الكثيب الأعفر )
( مستقريا في عشبه ... مخفي وطء المطر )
( تروي عن الضحاك في الروض ... حديث الزهر )
( مخلق الأذيال بالعبير ... أو بالعنبر )
( وصف لجيران الحمى ... وجدي بهم وسهري )
( وحقهم ما غيرت ... ودي صروف الغير )
( لله عهد فيه قضيت ... حميد الأثر )
( أيامه هي التي ... أحسبها من عمري )
( ويا لليل فيه ما ... عيب بغير القصر )
( العمر فينان ووجه ... الدهر طلق الغرر )
( والشمل بالأحباب منظوم ... كنظم الدرر )

( صفو من العيش بلا ... شائبة من كدر )
( ما بين أهل تقطف الأنس ... جني الثمر )
( وبين آمال تبيح ... القرب صافي الغدر )
( يا شجرات الحي حياك ... الحيا من شجر )
( إذا أجال الشوق في ... تلك المغاني فكري )
( خرجت من خدي حديث ... الدمع فوق الطرر )
( وقلت يا خد آرو من ... دمعي صحاح الجوهري )
( عهدي بحادي الركب كالورقاء ... عند السحر )
( والعيس تجتاب الفلا ... واليعملات تنبري )
( تخبط بالأخفاف مظلوم ... البرى وهو بري )
( قد عطفت عن ميد ... والتفتت عن حور )
( قسي سير ما سوى العزم ... لها من وتر )
( حتى إذا الأعلام حلت ... لحفي البشر )
( واستبشر النازح بالقرب ... ونيل الوطر )
( وعين الميقات للسفر ... نجاح السفر )
( فالناس بين محرم ... بالحج أو معتمر )
( لبيك لبيك إليه ... الخلق باري الصور )
( ولاحت الكعبة بيت ... الله ذات الأثر )
( مقام إبراهيم والمأمن ... عند الذعر )
( واغتنم القوم طواف ... القادم المبتدر )
( وأعقبوا ركعتي السعي ... استلام الحجر )
( وعرفوا في عرفات ... كل عرف أذفر )

( ثم أفاض الناس سعيا ... في غد للمشعر )
( فوقفوا وكبروا ... قبل الصباح المسفر )
( وفي منى نالوا المنى ... وأيقنوا بالظفر )
( وبعد رمي الجمرات ... كان حلق الشعر )
( أكرم بذاك السفر والله ... وذاك السفر )
( يا فوزه من موقف ... يا ربحه من متجر )
( حتى إذا كان الوداع ... وطواف الصدر )
( فأي صبر لم يخن ... أو جلد لم يغدر )
( وأي وجد لم يطر ... وسلوة لم تهجر )
( ما أفجع البين لقلب ... الواله المستعبر )
( ثم ثنوا نحو رسول ... الله سير الضمر )
( فعاينوا في طيبة ... لألاء نور نير )
( رأوا رسول الله واستشفوا ... بلثم الجدر )
( نالوا به ما أملوا ... وعرجوا في الأثر )
( على الضجيعين أبي ... بكر الرضى وعمر )
( زيارة الهادي الشفيع ... جنة في المحشر )
( فأحسن الله عزاء ... قاصد لم يزر )
( ربع ترى مستنزل الآي ... به والسور )
( وملتقى جبريل بالهادي ... الزكي العنصر )
( وروضة الجنة بين ... روضة ومنبر )
( منتخب الله ومختار ... الورى من مضر )
( والمنتقى والكون من ... ملابس الخلق عري )
( إذ لم يكن في أفق ... من زحل ومشتري )

( ذو المعجزات الغر أمثال ... النجوم الزهر )
( يشهد بالصدق له ... منها انشقاق القمر )
( والضب والظبي إلى ... نطق الحصى والشجر )
( من أطعم الألف بصاع ... في صحيح الخبر )
( والجيش رواه بماء ... الراحة المنهمر )
( يا نكتة الكون التي ... فاتت منال الفكر )
( يا حجة الله على ... الرائح والمبتكر )
( يا أكرم الرسل على الله ... وخير البشر )
( يا من له التقدم الحق ... على التأخر )
( يا من لدى مولده ... المقدس المطهر )
( إيوان كسرى ارتج إذ ... ضاءت قصور قيصر )
( وموقد النار طفي ... كأنه لم يسعر )
( يا عمدتي يا ملجئي ... يا مفزعي يا وزري )
( يا من له اللواء والحوض ... وورد الكوثر )
( يا منقذ الغرقى وهم ... رهن العذاب الأكبر )
( إن لم تحقق أملي ... بؤت بسعي المخسر )
( صلى عليك الله يا ... ثمال كل معسر )
( صلى عليك الله يا ... نور الدجى المعتكر )
( يا ويح نفسي كم أرى ... في غفلة من عمري )
( واحسرتي من قلة الزاد ... وبعد السفر )
( يحجني والله بالبرهان ... وعظ المنبر )
( يا حسنها من خطب ... لو حركت من نظري )
( يا حسنها من شجر ... لو أورقت من ثمر )

( أؤمل الأوبة والأمر ... بكف القدر )
( أسوف العزم به ... من شهر لشهر )
( من صفر لرجب ... من رجب لصفر )
( ضيعت في الكبرة ما ... أعددته في صغري )
( وليس ما مر من ... الأيام بالمنتظر )
( وقلما أن حمدت ... سلامة في غرر )
( ولي غريم لا يني ... في طلب المنكسر )
( يا نفس جدي قد بدا ... الصبح ألا فاعتبري )
( واتعظي بمن مضى ... وارتدعي وازدجري )
( ما بعد شيب الفود من ... مرتقب فشمري )
( أنت وإن طال المدى ... في قلعة وسفر )
( وليس من عذر يقيم ... حجة المعتذر )
( يا ليت شعري والمنى ... تسرق طيب العمر )
( هل أرتجي من عودة ... أو رجعة أو صدر )
( فأبرد الغلة من ... ذاك الزلال الخصر )
( مقتديا بمن مضى ... من سلف ومعشر )
( نالوا جوار الله وهو ... الفخر للمفتخر )
( أرجو بإبراهيم مولانا ... بلوغ الوطر )
( فوعده لا يمتري ... في الصدق منه ممتري )
( وهو الإمام المرتضى ... والخير ابن الخير )
( أكرم من نال العلا ... بالمرهفات البتر )
( ممهد الملك وسيف ... الحق والليث الجري )
( خليفة الله الذي ... فاق بحسن السير )
( وكان منه الخبر في ... العلياء وفق الخبر )

( فصدق التصديق من ... مرآه للتصور )
( ومستعين الله في ... ورد له وصدر )
( فاق الملوك الصيد بالمجد ... الرفيع الخطر )
( فأصبحت ألقابهم ... منسية لم تذكر )
( وحاز منه أوحد ... وصف العديد الأكثر )
( برأيه المأمون أو ... عسكره المظفر )
( بسيفه السفاح أو ... بعزمه المقتدر )
( بالعلم المنصور أو ... بالذابل المنتصر )
( يا ابن الإمام الطاهر البر ... الزكي السير )
( مدحك قد علم نظم ... الشعر من لم يشعر )
( جهد المقل اليوم من ... مثلي كوسع المكثر )
( فإن يقصر ظاهري ... فلم يقصر مضمري )
قلت قول لسان الدين في حق هذه القصيدة إنها من الشعر المنسوب إلى محاسنه فيه تعريض خفي بأن هذه القصيدة يحتمل أن تكون قيلت على لسانه حسبما جرت بذلك عادة الأكابر والرؤساء أن ينسب إليهم ما ليس من كلامهم في نفس الأمر وليس الواقع عندي كذلك لأن باع ابن مرزوق في النظم والنثر مديد فأنى يقصر عن هذا القصيد ومن يصدر منه على البديهة قوله
( انظر إلى النوار في أغصانه ... )
الأبيات السابقة في اللوز لا يستغرب منه مثل هذا ولذ كتب ابن لسان الدين على قول والده من الشعر المنسوب إلى محاسنه ما صورته حضرت إنشاءها وإنشادها ليلة الميلاد الشريف في التاريخ المذكور واستحسنها شعراء العدوتين وهي مما لا ينكر على مدارك سيدي أبي عبد الله ورسوخه في علم

النظم والنثر قاله علي بن الخطيب انتهى
وكتب بعضهم على قوله في هذه القصيدة
( أيامه هي التي ... أعدها من عمري )
ما نصه ولت والله انتهى فكتب ابن مرزوق بعده ما نصه لكنها بدلت بخير منها والحمد لله وحسنت الخاتمة ببركة رسول الله تسليما انتهى
وكتب ابن لسان الدين على قوله
( وقلما أن حمدت ... سلامة في غرر )
ما نصه كذلك كان وليت والدي رحمه الله تعالى كذلك انتهى
وكتب على قوله برأيه المأمون إلخ ما نصه لو كان له رأي مأمون ما نزل على قلعة الملك لسكنى القصبة بدخيلة طلب الراحة فضربت عنقه وكانت الراحة منه انتهى
وكتب بعض أثر هذا ما صورته القدر لا يغالب الحذر ينفع ما لم يأتك القدر فإذا أتى قدر لم ينفع حذر انتهى
وكتب ابن لسان الدين قوله فلم يقصر مضمري ما صورته صدق والله انتهى
ثم قال لسان الدين باب السلطان الكبير العالم أبي عنان فبلوت من مشاركته وحميد سعيه ما يليق بمثله ولما نكبه لم أقصر عن ممكن حيلة في أمره فلما هلك السلطان أبو عنان وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلس أبي سالم بعد

الولد المسمى بالسعيد كان ممن دانت له الطاعة وأناخ راحلة الملك وحلب ضرع الدولة وخطب عروس الموهبة فأنشب ظفره في متات معقود من لدن الأب مشدود من لدن القرابة فاستحكم عن قرب واستغلظ عن كثب فاستولى على أمره وخلطه بنفسه ولم يستأثر عنه ببثه ولا انفرد بما سوى بضع أهله بحيث لا يقطع في شيء إلا به و عن رأيه ولا يمحو ويثبت إلا واقفا عند حده فغشيت بابه الوفود وصرفت إليه الوجوه ووقفت عليه الآمال وخدمته الأشراف وجلبت إلى سدته بضائع العقول والأموال وهادته الملوك فلا تحدو الحداة إلا إليه ولا تحط الرحال إلا لديه إن حضر أجرى الرسم وأنفذ الأمر والنهي لحظا أو سرارا أو مكاتبة وإن غاب ترددت الرقاع واختلفت الرسل ثم انفرد أخيرا ببيت الخلوة ومنتبذ المناجاة من دونه معصب الوزراء وغايات الحجاب فإذا انصرف تبعته الدنيا وسارت بين يديه الوزراء ووقفت ببابه الأمراء وقد وسع الكل لحظه وشملهم بحسب الرتب والأحوال رعيه ووسم أفذاذهم تسويده وعقدت ببنان عليتهم بنانه لكن رضى الناس الغاية التي لا تدرك والحسد بين بني آدم قديم وقبيل الملك مباين لمثله فطويت الجوانح على سل وحنيت الضلوع على بث وأغضيت الجفون على قذى إلى أن كان من نكبته الثالثة ما هو معروف جعلها الله له طهورا ولما جرت الحادثة على الدولة بالأندلس وكان لحاق جميعنا بالمغرب جنيت ثمرة ما أسلفته من وده فوفي الكيل وأشرك في الجاه وأدر الرزق ورفع

المجلس بعد التسبب في الخلاص والسعي في الجبر جبره الله تعالى وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) الشعراء 89 انتهى
وكتب ابن لسان الدين على هذا المحل ما صورته هذا لسان أبي عليه في الغيبة والحضور انتهى
ومما خاطبه به لسان الدين مهنئا من طريق القدوم على الأبواب المرينيبة مفلتا من البلية بشفاعته ما نصه سيدي الذي إليه انقطاعي وانحياشي وملاذي وملجئي الذي يسر خلاصي وسني انتياشي ومنعمي الذي جبر جناحي وأنبت رياشي ومولى هذا الصنف العلمي ولا أحاشي كتبه صنيع نعمتكم الخالصة الحرة ومسترق فضلكم الذي تألقت منه في ليل الخطوب الغرة ابن الخطيب لطف الله به من كذا وقد شد إلى إبلاغ النفس عذرها في مباشرة تقبيل اليد التي لها اليد العظمى والسجية الرحمى فلكم طوقت من نعمى وجبال النعم قد أثقلت الظهر واستغرقت السر والجهر فبأي لسان أو بأي بنان ولا أثر بعد عيان تقابل نعمة تداركت الرمق وقد أشفى وأبقت الذماء والشروع في استئصالها لا يخفى فيا لك من فرد هزم ألفا ووعد نصر لم يعرف خلفا ونية خلصت تبتغي إلى الله زلفى لقد صدع بها مولاي غريبة في الزمن بالغا حسن صنيعها صنعاء اليمن مترفعة عن الثمن وإن لم يقم بها مثله وإلا فمن فليهن سيدي ما ذاع لمجده بها من فخر وما قدم يوم تزل الأقدام من ذخر وما جلب للمقام المولوي الإبراهيمي من طيب ذكر واستفاضة حمد وشكر

لقد ارتهن دعاء الحافي والناعل والدال على الخير شريك الفاعل والذي أحيا النفس جدير برد عدتها وإنجاز عدتها وأنا قد قويت بجاهكم وإن كنت ضعيفا واستشعرت سعدا جديدا وقدرا منيفا وأيقنت أن الله عز و جل كان بي لطيفا إذ هيأ لي من رحمة ذلك المقام المولوي على يدكم نصرا عزيزا وبوأني من جاهه حرزا حريزا وقد استأسدت الأعداء وأعضل الداء وأعمل الاعتداء وعز الفداء فانفرج الضيق وتيسرت للخير الطريق وساغ الريق ونجا الغريق غريبة لا تمثل إلا في الحلم ولطيفة فيها اعتبار لأولي العلم اللهم جاز سيدي في نفسه وولده وحاله وبلده ومعاده بعد طول عمره وانفساح أمده وكن له نصيرا أحوج ما يكون إلى نصر واجعل له سعة من كل حصر واقصر عليه جاه كل قصر كما جعلت ذاته فوق كل ذات وعصره فوق كل عصر وليعلم سيدي أن من أراد بي منافسة وحسدا وزأر علي أسدا لما استقل على الكرسي جسدا من غير ذنب تبين ولا حد تعين أصابه من خلاصي المقيم المقعد ووعد النفس بأمل أخلف منه الموعد لما استنقذني الله برحمته من بين ظفره ونابه وغطاني بستر جنابه وكثرني في العيون على قلة وأعزني بعز نصره على حال ذلة لم يدع حيلة إلا نصبها أمامي ليحبط ذلك المقام الكريم ذمامي ويكدر جمامي ويستدرك حمامي وزعم أن بيده على البعد زمامي ويأبى ذلك رأي يفرق بين الحق وضده وعدل لا يخرج الشيء عن حده فنبهت سيدي خوفا أن تتجه حيلة أو تفسد وسيلة وأنا قادم بالأهل والولد ليعمل في رب الصنيعة على شاكلة الحمد الذي هو له أهل فما بابتدائه جهل ولا يختلف في عظم ما أسداه غر ولا كهل ولا ينبه مثله على تتميم وإجزال فضل عميم ومؤانسة غريب وصلة

نصر عزيز وفتح قريب بحول الله تعالى
وقال لسان الدين بعد ما سبق نقله عنه في حق ابن مرزوق ولما انقضى أمر سلطانه رحمه الله تعالى متجنى عليه بسببه محمولا عليه من أجله تقبض عليه وأجمع الملأ على قتله وشد اعتقاله وطلب بالمال العريض وانتهبت أمواله واعتقلت رباعه وجنبت مراكبه واصطفيت أمهات أولاده وتمادى به الإعتقال والشدة إلى أن عادته عوائد الله في الخلاص من الشدة والانتياش من الورطة ظاهرة عليه بركة سلفه قائمة له حجة الكرامة في أمره
حكى أمير المسلمين سلطاننا أعزه الله قال عرض لي والدي رحمه الله تعالى في النوم فقال يا ولدي اشفع في الفقيه ابن مرزوق فقبلت يده واقتضيت حظه وحكيت داعيته وعينت للوجهة في ذلك قاضي الحضرة فكان في ذلك ابتداء الفرج
وحدثني الثقة من خدام السلطان أبي عنان عنه مخبرا عن نفسه لما نفس عنه من نكبته وأجاره من سخطته قال رأيت رسول الله فأمرني بذلك وكفى بها جاها وحرمة قلت فترك سبيله وأتيح له ركوب البحر إلى البلاد المشرقية بأهله وولده فسار في كنف الستر وتحت جناح الوقاية في وسط رجب من عام أربعة وستين وسبعمائة من ساحل باديس صحب الله وجهته وختم عصمته انتهى ما لخصته من كلام لسان الدين بلفظه

ورأيت على هامش هذا المحل من الإحاطة بخط المذكور ما صورته أقول وأنا ابن مرزوق المسمى فيه إني قد وصلت إلى تونس المحروسة في شهر رمضان من سنة خمس وستين فلقيت بها من المبرة والكرامة والوجاهة فوق ما يعهده أمثالي ووليت خطابة جامع ملكها وتدريس أم المدارس فيها وهي المعروفة بمدرسة الشماعين كل ذلك تحت رعاية وعناية وملازمة لمجلس ملكها إلى أن توفي سنة إحدى وسبعين ثم مع ولده وابن أخيه إلى أن رحلت في البحر في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين فحللت بالديار المصرية ولقيت من ملكها الذي لم أر في الملوك مثله حلما وفضلا وحياء وجودا وتلطفا ورحما السلطان المالك الملك الأشرف ناصر الدين والدنيا شعبان بن حسين فأحسن لي وأجري علي وعلى أولادي ما قام به الحال دروسا ومدارس وأهلني للمثول بين يديه والحال على ذلك حتى الآن وذلك من فضل الله ومعهود إحسانه والمرجو من الله حسن العاقبة وكتب في رمضان سنة خمس وسبعين انتهى
وكتب بعده أبو الحسن علي بن لسان الدين رحمهما الله تعالى ما صورته صدق وهو فوق ذلك كله فقدره معروف ولطالما كان ملك المغرب يفتخر به فصار يفتخر بتقليد الدروس
( والدهر لا يبقي على حالة ... )
انتهى
قال في الإحاطة ولما شرح كتاب الشفاء للقاضي عياض رحمه الله تعالى واستبحر فيه وأكثر النقل وبذل الجهد طلب أهل العدوتين نظم

مقطوعات تتضمن الثناء على الكتاب المذكور وإطراء مؤلفه فانثال عليه من ذلك الطم والرم بما تعددت منه الأوراق واختلفت في الإجادة وغيرها الأرزاق إيثارا لغرضه ومبادرة من كل الجهات لإسعاف أربه وطلب مني أن ألم في ذلك بشيء فكتبت له في ذلك
( شفاء عياض للصدور شفاء ... فليس بفضل قد حواه خفاء )
( هدية بر لم يكن لمديلها ... سوى الأجر والذكر الجميل كفاء )
( وفى لنبي الله حق وفائه ... وأكرم أوصاف الكرام وفاء )
( وجاء به بحرا يقول بفضله ... على البحر طعم طيب وصفاء )
( وحق رسول الله بعد وفاته ... رعاه وإغفال الحقوق جفاء )
( هو الذخر يغني في الحياة عتاده ... ويترك منه للبنين رفاء )
( هوالأثر المحمود ليس يناله ... دثور ولا يخشى عليه عفاء )
( حرصت على الإطناب في نشر فضله ... وتمجيده لو ساعدتني فاء )
واستزاد من هذا الغرض الذي لم يقنع فيه بالقليل فبعثت إليه من محل انتقالي من مدينة سلا حرسها الله تعالى
( أأزاهير رياض ... أم شفاء لعياض )
( جدل الباطل للحق ... بأسياف مواض )
( وجلا الأنوار برهانا ... بحق وافتراض )

( وشفى من يشتكي الغلة ... في زرق الحياض )
( أي بنيان مقال ... آمن خوف انقضاض )
( أي عهد ليس يرمي ... بانتكاث وانتقاض )
( ومعان في سطور ... كأسود في غياض )
( وشفاء لصدور ... من ضنى الجهل مراض )
( حرر القصد فما شين ... بنقض واعتراض )
( يا أبا الفضل أدر أن الله ... عن سعيك راض )
( فاز عبد أقرض الله ... برجحان القراض )
( وجبت غر المزايا ... من طوال أو عراض )
( لك يا أصدق راو ... لك يا أعدل قاض )
( لرسول الله وفيت ... بجد وانتهاض )
( خير خلق الله في حال ... وفي آت وماض )
( سدد الله ابن مرزوق ... إلى تلك المراضي )
( زبدة العرفان معنى ... كل نسك وارتياض )
( فتولى بسط ما أجملت ... من غير انقباض )
( ساهرا لم يدر في استخلاصه ... طعم اغتماض )
( إن يكن دينا على الأيام ... يا قدحان التقاضي )
( دام في علو ومن عاداه ... يهوي في انخفاض )
( ما وشي الصبح الدياجي ... بسواد في بياض )
ثم نظمت له أيضا في الغرض المذكور والإكثار من هذا النمط في هذا الموضع ليس على سبيل التبجح بإجادته وغرابته ولكن على سبيل الإشادة

بالشرح المشار إليه فهو بالغ غاية الاستبحار
( حييت يا مختط سبت بن نوح ... بكل مزن يغتدي أو يروح )
( وحمل الريحان ريح الصبا ... أمانة فيك إلى كل روح )
( دار أبي الفضل عياض الذي ... أضحت برياه رياضا تفوح )
( يا ناقل الآثار يعنى بها ... وواصلا في العلم جري الجموح )
( طرفك في الفضل بعيد المدى ... طرفك للمجد شديد الطموح )
( كفاك إعجازا كتاب الشفا ... والصبح لا ينكر عند الوضوح )
( لله ما أجزلت فينا به ... من منحة تقصر عنها المنوح )
( روض من العلم همى فوقه ... من صيب الفكر الغمام السفوح )
( فمن بيان الحق زهر ند ... ومن لسان الصدق طير صدوح )
( تأرج العرف وطاب الجنى ... وكيف لا يثمر أو لا يفوح )
( وحلة من طيب خير الورى ... في الجيب والأعطاف منها نضوح )
( ومعلم للدين شيدته ... فهذه الأعلام منها تلوح )
( فقل لهامان كذا أو فلا ... يا من أضل الرشد تبني الصروح )
( في أحسن التقويم أنشأته ... خلقا جديدا بين جسم وروح )
( فعمره المكتوب لا ينقضي ... إذا تقضى عمر سام ونوح )
( كأنه في الحفل ريح الصبا ... وكل عطف فهو غصن مروح )
( ما عذر مشغوف بخير الورى ... إن هاج منه الذكر أن لا يبوح )
( عجبت من أكباد أهل الهوى ... وقد سطا البعد وطال النزوح )
( إن ذكر المحبوب سالت دما ... ما هن أكباد ولكن جروح )

( يا سيد الأوضاع يا من له ... بسيد الأرسال فضل الرجوح )
( يا من له الفضل على غيره ... والشمس تخفى عند إشراق يوح )
( يا خير مشروح وفى واكتفى ... من ابن مرزوق بخير الشروح )
( فتح من الله حباه به ... ومن جناب الله تأتي الفتوح )
ثم قال وعلى الجملة والتفصيل فهذا الرجل نسيج وحده شهرة وجلالة وخصالا وأبوة صالحة تولاه الله وكان له وانصرف بجملته إلى بلاد المشرق عام أربعة وستين وسبعمائة تولاه الله تعالى وأسعد منقلبه ومولده بتلمسان عام أحد عشر وسبعمائة انتهى كلام لسان الدين

تراجم أخرى لابن مرزوق
ولنزد في هذه الترجمة على ما ذكره فنقول قال ابن خلدون صاحبنا الخطيب أبو عبد الله ابن مرزوق من أهل تلمسان كان سلفه نزلاء الشيخ أبي مدين بالعباد ومتوارثين تربته من لدن جدهم خادمه في حياته وكان جده الخامس أو السادس أبو بكر ابن مرزوق معروفا بالولاية فيهم ونشأ محمد هذا بتلمسان ومولده فيما أخبرني عام عشرة وسبعمائة انتهى
وهو مخالف لما ذكره لسان الدين فيما مر عنه
ثم قال ابن خلدون وارتحل مع والده إلى الشرق سنة ثلاث عشرة وسمع ببجاية على الشيخ ناصر الدين ولما جاور أبوه بالحرمين رجع إلى القاهرة فأقام وبرع في الطلب والرواية وكان يجيد الخطين ورجع سنة ثلاث وثلاثين إلى

المغرب ولقي السلطان أبا الحسن محاصرا لتلمسان وقد شيد بالعباد مسجدا عظيماوكان عمه محمد بن مرزوق خطيبا به على عادتهم في العباد وتوفي فولاه السلطان خطابة ذلك المسجد مكان عمه وسمعه يخطب على المنبر ويشيد بذكره ويثني عليه فحلي بعينيه فقربه وهو مع ذلك يلازم ابني الإمام ويأخذ نفسه بلقاء الأفاضل والأكابر والأخذ عنهم وحضر مع السلطان وقعة طريف ثم استعمله في الرسالة إلى الأندلس ثم إلى ملك قشتالة في تقرير الصلح ولده المأسور يوم طريف ورجع بعد وقعة القيروان مع زعماء النصارى إلى المغرب ووفد على السلطان أبي عنان بفاس مع أمه حظيه أبي الحسن ثم رجع إلى تلمسان وأقام بالعباد وعلى تلمسان يومئذ أبو سعيد عثمان بن عبد الرحمن وأخوه أبو ثابت والسلطان أبو الحسن بالجزائر وقد حشد هنالك فأرسل أبو سعيد ابن مرزوق المذكور إليه سرا في الصلح فلما اطلع أخوه أبو ثابت على الخبر أنكره على أخيه فبعثوا من حبس ابن مرزوق ثم أجازوه البحر إلى الأندلس فنزل على أبي الحجاج سلطانها بغرناطة فقربه واستعمله على الخطبة بجامع الحمراء فلم يزل خطيبه إلى أن استدعاه أبو عنان سنة أربع وخمسين بعد مهلك أبيه واستيلائه على تلمسان وأعمالها فقدم عليه ورعى له وسائله ونظمه في أكابر أهل مجلسه ثم بعثه لتونس على ملكها سنة ثمان وخمسين ليخطب له ابنة السلطان أبي يحيى فردت الخطبة واختفت بتونس ووشي إلى السلطان أبي عنان أنه كان مطلعا على مكانها فسخطه لذلك وأمر بسجنه فسجن مدة ثم أطلقه قبل موته
ولما استولى أبو سالم على السلطنة آثره وجعل زمام الأمور بيده فوطىء الناس عقبه وغشي أشراف الدولة بابه وصرفوا إليه الوجوه فلما وثب عمر بن عبد الله بالسلطان أخر عام اثنين وستين حبس ابن مرزوق ثم أطلقه

بعد أن رام كثير من أهل الدولة قتله فمنعه منهم ثم لحق بتونس سنة أربع وستين ونزل على السلطان أبي إسحاق وصاحب دولته أبي محمد ابن تافراكين فأكرموه وولوه الخطابة بجامع الموحدين وأقام بها إلى أن هلك السلطان أبو يحيى سنة سبعين وولي ابنه خالد ثم لما قتل السلطان أبو العباس خالدا واستولى على السلطنة وكان بينه وبين ابن مرزوق شيء لميله مع ابن عمه محمد صاحب بجاية عزله عن الخطبة فوجم لها فأجمع الرحلة إلى المشرق وسرحه السلطان فركب السفينة ونزل بالإسكندرية ثم ارتحل إلى القاهرة ولقي أهل العلم وأمراء الدولة ونفقت بضائعه عندهم وأوصلوه إلى السلطان الأشرف فولاه الوظائف العلمية فلم يزل بها موفر الرتبة معروف الفضيلة مرشحا لقضاء المالكية ملازما للتدريس إلى أن هلك سنة إحدى وثمانين انتهى ملخصا
وقال الحافظ ابن حجر إنه لما وصل تونس أكرم إكراما عظيما وفوضت إليه الخطابة بجامع السلطان وتدريس أكبر المدارس ثم قدم القاهرة فأكرمه الأشرف شعبان ودرس بالشيخونية والصرغتمشية والنجمية وكان حسن الشكل جليل القدر مات في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين انتهى
وقال ابن الخطيب القسمطيني هو شيخنا الفقيه الجليل الخطيب توفي بالقاهرة ودفن بين ابن القاسم وأشهب وله طريق واضح في الحديث ولقي أعلاما وسمعنا منه البخاري وغيره في مجالس ولمجلسه لباقة وجمال وله شرح جليل على العمدة في الحديث انتهى
وكتب بخطه بلدينا أبو عبد الله ابن العباس التلمساني ما نصه نقلت من خط بعض السادات كتبه للإمام زعيم العلماء الحفيد ابن مرزوق أنه وجد بخط جده

الخطيب ابن مرزوق لما ثقفه عمر بن عبد الله على يد الشيخ أبي يعقوب كتب ما نصه الحمد لله على كل حال خرج الطبري في منسكه وأبو حفص الملاي في سيرته عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم قالا وقف رسول الله على الثنية التي بأعلى مكة وليس بها يومئذ مقبور فقال يبعث الله من ههنا سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب وجوههم كالقمر ليلة البدر فقال أبو بكر من هم يا رسول الله قال هم الغرباء من أمتي الذين يدفنون ههنا ففي هذا الموضع دفن والدي رحمه الله تعالى وبعد سماعه لهذا الحديث بسبعة أيام دفن فيه أفتراه لا يشفع فيمن أقال عثرة ولده أفما يشترى هذا بأموال الأرض أفلا يرعى لي ثمانية وأربعين منبرا في الإسلام شرقا وغربا وأندلسا أفلا يرعى لي أنه ليس اليوم يوجد من يسند أحاديث الصحاح سماعا من باب إسكندرية إلى البرين والأندلس غيري ونحو من مائتين وخمسين شيخا والله ما أعلمه لكن حرمني الله تعالى نبذت الاشتغال به وآثرت اتباع الهوى والدنيا فهويت اللهم غفرانك أفلا يرعى لي مجاورة نحو اثني عشر عاما وختم القرآن في داخل الكعبة والإحياء في محراب النبي والإقراء بمكة ولا أعلم من له هذه الوسيلة غيري أفلا يرعى لي الصلاة بمكة وغربتي بينكم ومحنتي في بلدي على محبتكم وخدمتكم من ذا الذي خدمكم من الناس يخرج على هذا الوجه أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله من ذنوبي وذنوبي أعظم وربي أعلم وربي أرحم والسلام انتهى

ففي هذا دليل على عظم قدره ومكانته في الدين والدنيا
قلت ولقد رأيت مصحفه بتلمسان عند أحفاده وعليه خطه الرائق الذي أعرفه وهو يقول قرأت في هذا المصحف تجاه الكعبة المشرفة اثني عشر ألف ختمة انتهى
ومع هذا فقد نسي في المصحف المذكور لفظة إليك من قوله تعالى ( ينقلب إليك البصر ) حتى كتبه بخطه فوق السطر حفيده العلامة سيدي أبو عبد الله محمد ابن مرزوق رحم الله الجميع
قال الخطيب المذكور رحمه الله تعالى في بعض تعاليقه ما صورته ومن أشياخ والدي سيدي محمد المرشدي لقيه في ارتحالنا إلى الشرق وحين حملني إليه وأنا ابن تسع عشرة سنة نزلنا عنده ووافقنا صلاة الجمعة ومن عادته أن لا يتخذ للمسجد إماما وحضر يومئذ من أعلام الفقهاء من لا يمكن اجتماع مثلهم في غير ذلك المشهد قال فقرب وقت الصلاة فتشوف من حضر من الفقهاء والخطباء إلى التقديم فإذا الشيخ قد خرج فنظر يمينا وشمالا وأنا خلف والدي فوقع بصره علي فقال لي يا محمد تعال قال فقمت معه حتى دخلت معه في موضع خلوة فباحثني في الفروض والشروط والسنن قال فتوضأت وأخلصت النية فأعجبه وضوئي ودخل معي إلى المسجد وقادني إلى المنبر وقال لي يا محمد ارق المنبر فقلت له يا سيدي والله لا أدري ما أقول فقال لي ارق وناولني السيف الذي يتوكأ عليه الخطيب عندهم وأنا جالس مفكر فيما أقول إذا فرغ المؤذنون فلما فرغوا ناداني بصوته وقال لي يا محمد قم وقل بسم الله قال فقمت وانطلق لساني بما لا أدري ما هو إلا أني كنت أنظر إلى الناس ينظرون إلي ويخشعون من موعظتي فأكملت الخطبة فلما نزلت قال لي أحسنت يا محمد

قراك عندنا أن نوليك الخطابة وأن لا تخطب بخطبة غيرك ما وليت وحييت ثم سافرنا فحججنا وأراد والدي الجوار وأمرني بالرجوع لأونس عمي وقرابتي بتلمسان وأمرني بالوقوف على سيدي المرشيدي هنالك فوقفت عليه وسألني عن والدي فقلت له يقبل أيديكم ويسلم عليكم فقال لي تقدم يا محمد واستند إلى هذه النخلة فإن شعيبا يعني أبا مدين عبد الله عندها ثلاث سنين ثم دخل خلوته زمانا ثم خرج فأمرني بالجلوس بين يديه ثم قال لي يا محمد أبوك من أحبابنا وإخواننا إلا أنك يا محمد إلا أنك يا محمد فكانت هذه إشارة إلى ما امتحنت به من مخالطتي أهل الدنيا والتخليط ثم قال لي يا محمد أنت متشوش من جهة أبيك تتوهم أنه مريض ومن بلدك أما أبوك فبخير وعافية وهو الآن عن يمين منبر رسول الله وعن يمينه خليل المالكي وعن يساره أحمد قاضي مكة وأما بلدك فسم الله فخط دائرة في الأرض ثم قام فقبض إحدى يديه على الأخرى وجعلهما خلف ظهره يطوف بتلك الدائرة ويقول تلمسان تلمسان حتى طاف بتلك الدائرة مرات ثم قال لي يا محمد قد قضى الله الحاجة فيها فقلت له كيف يا سيدي ففال ستر الله إن شاء الله على من فيها من الذراري والحريم ويملكها هذا الذي حصرها يعني السلطان أبا الحسن فهو خير لهم ثم جلس وجلست بين يديه فقال لي يا خطيب فقلت يا سيدي عبدك ومملوكك فقال لي كن خطيبا أنت الخطيب وأخبرني بأمور وقال لي لا بد أن تخطب بالجامع الغربي وهو الجامع الأعظم بالإسكندرية ثم أعطاني شيئا من كعيكات صغار وزودني بها وأمرني بالرحيل

وأما خبر تلمسان فدخلها المريني كما ذكر وستر الله من فيها من الذراري والحريم وكان هذاالمرشدي يتصرف في الولاية كتصرف سيدي أبي العباس السبتي نفعنا الله بهما
وللخطيب ابن مرزوق المذكور تآليف منها شرحه الجليل على العمدة في خمسة أسفار جمع فيه بين ابن دقيق العيد والفاكهاني مع زوائد وشرحه النفيس على الشفاء ولم يكمل وشرحه على الأحكام الصغرى لعبد الحق وشرحه على ابن الحاجب الفرعي سماه إزالة الحاجب لفروع ابن الحاجب وله غيرها وديوان خطب بالغرب مشهور كقصديته التي قالها في تكبته بتلمسان وأولها
( رفعت أموري لباري النسم ... وموجدنا بعد سبق العدم )
ومن نظمه عند وداعه أهل تونس
( أودعكم وأثني ثم أثني ... على ملك تطاول بالجميل )
( وأسأل رغبة منكم لربي ... بتيسير المقاصد والسبيل )
( سلام الله يشملنا جميعا ... فقد عزم الغريب على الرحيل )
ومن نظم أبي المكارم منديل بن آجروم يسلي المذكور عندما سجن بعد قتل السلطان أبي سالم رحمهم الله أجمعين
( يا شمس علم أفلت بعدما ... أضاءت المشرق والمغربا )
( حجبت قسرا عن عيون الورى ... والشمس لا ينكر أن تحجبا )
وهو بيت علم وولاية وصلاح لعمه وجده وأبيه وجد أبيه ولولديه محمد وأحمد وحفيده عالم الدنيا البحر أبي عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق وولد حفيده المعروف بالكفيف وحفيد حفيده المعروف بالخطيب وهو آخر المذكورين منهم فيما نعلم

ابن مرزوق الكفيف
قلت كان مرادي أن أعرف بجميعهم ولكني خشيت الطول فلنلم بذكر الحفيد عالم الدنيا وابنه العلامة المشهور بالكفيف لأنه أعني الكفيف والد أم جدي أحمد لأني أحمد بن محمد بن أحمد فوالدة الجد أحمد بنت الكفيف المذكور وهو أعني الكفيف محمد بن محمد بن أحمد بن الخطيب الرئيس أبي عبد الله بن مرزوق المتقدم الذكر وكان الكفيف إماما عالما علامة ووصفه ابن داود البلوي بأنه الشيخ الإمام علم الأعلام فخر خطباء الإسلام سلالة الأولياء وخلف الأتقياء الأرضياء المسند الراوية المحدث العلامة المتفنن القدوة الحافل الكامل وأخذ العلم عن جماعة منهم عالم الدنيا أبوه قرأ عليه الصحيحين والموطأ وغير ما كتاب من تآليفه وغيرها وتفقه عليه وأجازه عموما وعن عالمي تلمسان أبوي الفضل ابن الإمام والعقباني وغيرهما واللجائي والثعالبي وللنظار أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم المشدالي وقاضي الجماعة ابن عقاب وحافظ الإسلام ابن حجر العسقلاني وكل هؤلاء أجازوه وقرأ عليهم مشافهة إلا ابن حجر فمكاتبة ومولده غرة ذي القعدة عام أربعة وعشرين وثمانمائة نصف ليلة الثلاثاء ومن شيوخه العلامة ابن العباس التلمساني وغيره
وقال السخاوي قدم الكفيف مكة سنة إحدى وستين وثمانمائة وسمعت سنة إحدى وسبعين وثمانمائة أنه في الأحياء انتهى
وأخذ عنه جماعة أئمة كالسنوسي صاحب العقائد الشهيرة وغيرها والونشريسي صاحب المعيار والعلامة أبي عبد الله ابن العباس وحلاه بشيخنا

ومفيدنا علم الأعلام وحجة الإسلام آخر حفاظ المغرب وقال قرأت عليه الصحيحين وبعض مختصري ابن الحاجب الفرعي والأصلي وحضرت عليه جملة من التهذيب وبعض الخونجي وغيرها وأخذ عنه بالإجازة عالم فاس ابن غازي حسبما ذكره في كتابه المسمى بالتعلل برسوم الإسناد بعد انتقال الساكن والناد
وقال بعض الحفاظ إن وفاته عام أحد وتسعمائة بتلمسان وزرت قبره مرارا رحمه الله تعالى ونقل عنه المازوني في نوازله المسماة بالدرة المكنونة في نوازل مازونة

ابن مرزوق الحفيد
وأما والده عالم الدنيا أبو عبد الله محمد بن مرزوق الشهير بالحفيد فهو البحر الإمام المشهور الحجة الحافظ العلامة المحقق الكبير النظار المطلع المنصف التقي الصالح الناصح الزاهد العابد الورع البركة الخاشع الخاشي النبيه القدوة المجتهد الأبرع الفقيه الأصولي المفسر المحدث الحافظ المسند الراوية الأستاذ المقرىء المجود النحوي اللغوي البياني العروضي الصوفي الأواب الولي الصالح العارف بالله الآخذ من كل فن بأوفر نصيب الراعي في كل علم مرعاه الخصيب حجة الله على خلقه المفتي الشهير الرحلة الحاج فارس الكراسي والمنابر سليل الأكابر سيد العلماء الأخيار وإمام الأئمة وآخر الشيوخ ذوي الرسوخ بدر التمام الجامع بين المعقول والمنقول والحقيقة والشريعة بأجل محصول وآخر النظار الفحول شيخ المشايخ صاحب التحقيقات البديعة والإختراعات الأنيقة والأبحاث الغريبة والفوائد الغزيرة المتفق على علمه وصلاحه

وهديه الذكي الفهامة القدوة الذي لا يسمح الزمان بمثله أبدا أوحد الأفراد في جميع الفنون الشرعية ذو المناقب العديدة والأحوال السديدة شيخ الإسلام وإمام المسلمين ومفتي الأنام الذي له القدم الراسخ في كل مقام ضيق والرحب الواسع في حل كل مشكل مقفل صاحب الكرامات والاستقامات السني السني الحريص على تحصيل السنة ومجانبة البدعة السيف المسلول على أهل البدع والأهواء الزائغة الذي أفاض الله تعالى على خلقه به بركته ورفع بين البرية محله ودرجته ووسع على خليقته به نحلته معدن العلم وشعلة الفهم وكيمياء السعادة وكنز الإفادة ابن الشيخ الفقيه العالم أبي العباس أحمد ابن الإمام العلامة الرئيس الكبير الخطيب الحافظ الرحلة الفقيه المحدث الشهير شمس الدين محمد ابن الشيخ العالم الصالح الولي المجاور أبي العباس أحمد ابن الفقيه الولي الصالح الخاشع محمد ابن الولي الكبير ذي الكرامات والأحوال الصالحة محمد بن أبي بكر ابن مرزوق العجيسي التلمساني كان رحمه الله تعالى آية الله في تحقيق العلوم والاطلاع المفرط على النقول والقيام التام على الفنون بأسرها أما الفقه فهو فيه مالك ولأزمة فروعه حائز ومالك فلو رآه الإمام قال له تقدم فلك العهد والولاية فتكلم فمنك يسمع فقهي وفروعي ومثلك من راعى ما ينبغي فروعي أو ابن القاسم لقر به عينا وقال له طالما دفعت عن المذهب عينا وشينا او المازري لعلم أنه بمناظرته حري أو الحافظ ابن رشد لقال هلم يا حافظ الرشد أو اللخمي لأبصر منه محاسن التبصرة أو القرطبي لنال منه التذكرة أو القرافي لاستفاد منه قواعده المقررة أو ابن الحاجب لاستند إلى بابه في كشف الإشكالات المحررة إلى ما انضم إلى ذلك من معرفة التفسير ودرره والاضطلاع بحقائق التأويل وغرره فلو

رآه مجاهد لعلم أنه في التحقيق خير جاهد أو مقاتل لقال مثلك طبق من الفهوم الكلي وأصاب المقاتل أو الزمخشري لعلم أنه كشاف الخفيات على الحقيقة وقال لكتابه تنح لهذا الحبر عن سلوك الطريقة أو ابن عطية لركب في الرحلة إلى الاستفادة منه المطية أو أبو حيان لغرق في نهره ولم تسل له نقطة من بحره إلى الإحاطة بالحديث وفنونه والاطلاع على أسانيده ومتونه ومعرفة منكره ومعروفه ونظم أنواعه ورصف صنوفه إذ إليه الرحلة انتهت في رواياته ودراياته وعليه المعول في حل مشكلاته وفتح مقفلاته وأما الأصول فالعضد ينقطع عند مناظرته ساعده والسيف يكل عند بحثه حده حتى يترك ما عنده ويساعده والبرهان لا يهتدي معه لحجة والمقترح لا يركب في بحره لجة وأما النحو فلو رآه محمود لتلجلج في قراءة المفصل واستقل ما عنده من القدر المحصل أو الرماني لاشتاق إلى مفاكهته وارتاح واستجدى من ثمار فوائده وامتاح أو الزجاج لعلم أن زجاجه لا يقوم بجواهره وأنه لا يجري معه في هذا العلم إلا في ظواهره بل لو رآه الخليل لقال هذا هو المقصد الجليل وأثنى عليه بكل جميل وقال لفرسان النحو ما لكم إلى لحوق عربيته من سبيل وأما البيان فالمصباح لا يظهر له نور عند هذا الصبح وصاحب المفتاح لا يهتدي معه إلى الفتح والقزويني يلقي علومه لإيضاح المعاني والسعد يرقى بمفهومه في مطالع المثاني وكم له من مناقب تنحط عن منالها الثواقب ومواهب تجلو بأنوارها الغياهب وأما زهده

وصلاحه فقد سارت به الركبان واتفق عليه الثقلان فمن وصفه بالبحر فقل له دون علمه البحر أو البدر فما يصل خلقه البدر أو الدر فأنى يشبه منطقه الدر وبالجملة فالوصف يتقاصر عن صفاته وفضلاء عصره لا يرتقون إلى صفاته فهو شيخ العلماء في أوانه وإمام الأئمة في عصره وزمانه شهد بنشر علومه العاكف والبادي وارتوى من بحار تحقيقاته الظمآن والصادي
( حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكفر )
هكذا وصفه بعض العلماء وهو فوق ذلك كله
وقال في حقه بلدينا الشيخ أبو الفرج ابن أبي يحيى الشريف التلمساني رحمه الله تعالى هو شيخنا الإمام العالم العلم جامع أشتات العلوم الشرعية والعقلية حفظا وفهما وتحقيقا راسخ القدم رافع لواء الإمامة بين الأمم ناصر الدين بيده ولسانه وبنانه وبالقلم محيي السنة بالفعال والمقال والشيم قطب الوقت في الحال والمقام والنهج الواضح والسبيل الأمم مستمر على الإرشاد والهداية والتبليغ والإفادة والرواية والدراية والعناية ملازم الكتاب والسنة على نهج الأئمة المحفوظين من البدع في زمن لا عاصم فيه من أمر الله إلا من رحم ذو همة علية ورتبة سنية وأخلاق مرضية وفضل وكرم إمام الأئمة وعلم الأمة الناطق بالحكم ومنير الظلم سليل الصالحين وخلاصة مجد التقى والدين نتيجة مقدمات المهتدين حجة الله على العلم والعالم جامع بين الشريعة والحقيقة على أصح طريقة متمسك بالكتاب لا يفارق فريقه الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد اتصلت به فأويت منه إلى ربوة ذات قرار ومعين وقصرت توجهي عليه ومثلت بين يديه فأنزلني أعلى الله قدره منزلة ولده رعاية للذمم وحفظا على الود الموروث من القدم فأفادني من بحار علمه ما تقصر عنه العبارة

ويكل دونه القلم فقرأت عليه جملة من تفسير القرآن ومن الحديث صحيح البخاري بقراءتي وقراءة غيري مرارا وصحيح مسلم كذلك وسنن الترمذي وأبي داود بقراءتي والموطأ سماعا وتفقها والعمدة ومن علم الحديث أرجوزته الحديقة وبعض الكبرى وهي الروضة تفقها ومن العربية نصف المقرب تفقها وجميع سيبويه كذلك وألفية ابن مالك وأوائل شرح الإيضاح لابن أبي الربيع وبعض المغني لابن هشام وفي الفقيه التهذيب كله تفقها وابن الحاجب الفرعي وبعض مختصر الشيخ خليل والتلقين وثلثي الجلاب وجملة من المتيطية والبيان لابن رشد وبعض الرسالة وكل ذلك قراءة تفقه وتفقهت عليه من كتب الشافعية في تنبيه الشيرازي ووجيز الغزالي من أوله إلى كتاب الإقرار ومن كتب الحنفية مختصر القدوري تفقها ومن كتب الحنابلة مختصر الخرقي تفقها ومن أصول الفقه المحصول ومختصر ابن الحاجب والتنقيح وكتاب المفتاح لجدي وقواعد عز الدين وكتاب المصالح والمفاسد له وقواعد القرافي وجملة من النظائر والأشباه للعلائي وإرشاد العميدي ومن أصول الدين المحصل والإرشاد تفقها وفي القراءات قصيدة الشاطبي تفقها وابن بري وفي البيان التلخيص والإيضاح والمصباح وكلها تفقها وفي التفقه الإحياء للغزالي سوى الربع الأخير منه وألبسني خرقة التصوف كما ألبسه أبوه وعمه وهما ألبسهما أبوهما جده انتهى ملخصا
وكتب المذكور تحت هذا ما نصه صدق السيد بن السيد أبو الفرج المذكور فيما ذكر من القراءة والسماع والتفقه وبر وقد أجزته في ذلك كله فهو

حقيق بها مع الإنصاف وصدق النظر جعلني الله وإياه ممن علم وعمل لآخرته واعتبر قاله محمد بن مرزوق انتهى
وقال تلميذه الولي أبو زيد سيدي عبد الرحمن الثعالبي قدم علينا بتونس شيخنا أبو عبد الله ابن مرزوق فأقام بها فأخذت عنه كثيرا وسمعت عليه جميع الموطإ بقراءة صاحبنا أبي حفص عمر ابن شيخنا محمد القلشاني وختمت عليه أربعينيات النووي قرأتها عليه في منزله قراءة تفهم فكان كلما قرأت عليه حديثا يعلوه خشوع وخضوع ثم يأخذ في البكاء فلم أزل أقرأ وهو يبكي إلى أن ختمت الكتاب وكان من أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله وأجمع الناس على فضله من المغرب إلى الديار المصرية واشتهر ذكره في البلاد فكان بذكره تطرز المجالس وجعل الله تعالى حبه في قلوب العامة والخاصة فلا يذكر في مجلس إلا والنفوس مشوقة إلى ما يحكى عنه وكان في التواضع والإنصاف والإعتراف بالحق في الغاية وفوق النهاية لا أعلم له نظيرا في ذلك في وقته ثم ذكر كثيرا جدا من الكتب مما سمعه عليه وأطال في ذلك
وقال في موضع آخر هو سيدي الشيخ الإمام الحبر الهمام حجة أهل الفضل في وقتنا وخاتمتهم ورحلة النقاد وخلاصتهم ورئيس المحققين وقادتهم السيد الكبير الإبريز والعلم الذي نصبه التمييز بن البيت الكبير الأثير ومعدن الفضل الكثير سيدي أبو عبد الله محمد بن الإمام الجليل الأوحد الأصيل جمال الفضلاء سليل الأولياء أبي العباس أحمد ابن العالم الكبير العلم الشهير تاج المحدثين وقدوة المحققين أبي عبد الله محمد بن مرزوق

وقال أيضا في موضع آخر هو شيخي الإمام العلم الصدر الكبير المحدث الثقة المحقق بقية المحدثين وإمام الحفظة الأقدمين والمحدثين سيد وقته وإمام عصره وورع زمانه وفاضل أقرانه أعجوبة أوانه وفاروق زمانه ذو الأخلاق المرضية والأحوال الصالحة السنية والأعمال الفاضلة الزكية أبو عبد الله
وقال في حقه المازوني في أول نوازله شيخنا الإمام الحافظ بقية النظار والمجتهدين ذو التواليف العجيبة والفوائد الغريبة مستوفي المطالب والحقوق أبو عبد الله بن مرزوق
وقال تلميذه الحافظ العلامة أبو عبد الله التنسي عند ذكره إن إمامنا مالكا سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري وجنة العالم لا أدري ما نصه ولم نر فيمن أدركنا من شيوخنا من تمرن على هذه الخصلة الشريفة ويكثر استعمالها غير شيخنا الإمام العلامة رئيس علماء المغرب على الإطلاق أبي عبد الله محمد بن مرزوق
وقال الشيخ أبو الحسن القلصادي في رحلته أدركت كثيرا من العلماء والعباد والزهاد والصلحاء أولاهم في الذكر والتقديم الشيخ الفقيه الإمام العلامة الكبير الشهير شيخنا وبركتنا أبو عبد الله ابن مرزوق حل كنف العلم والعلا وجل قدره في الجلة الفضلا قطع الليالي ساهرا وقطف من العلم أزاهرا فأثمر وأورق وغرب وشرق حتى توغل في فنون العلم واستغرق إلى أن طلع للأبصار هلالا لأن الغرب مطلعه وسما في النفوس موضعه وموقعه فلا ترى أحسن من لقائه ولا أسهل من إلقائه لقي الشيوخ الأكابر وبقي حمده متعرفا من بطون الكتب وألسنة الأقلام وأفواه المحابر

وكان رضي الله عنه من رجال الدنيا والآخرة وكانت أوقاته كلها معمورة بالطاعات ليلا ونهارا من صلاة وقراءة قرآن وتدريس علم وفتيا وتصنيف وكانت له أوراد معلومة وأوقات مشهورة وكانت له بالعلم عناية تكشف بها العماية ودراية تعضدها الرواية ونباهة تكسب النزاهة قرأت عليه رضي الله عنه بعض كتابه في الفرائض وأواخر إيضاح الفارسي وشيئا من شرح التسهيل وعرضت عليه إعراب القرآن وصحيح البخاري والشاطبيتين وأكثر ابن الحاجب الفرعي والتلقين وتسهيل ابن مالك والألفية والكافية وابن الصلاح في علم الحديث ومنهاج الغزالي وبعض الرسالة وغيرها ثم توفي يوم الخميس بمصر رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمانمائة وصلي عليه بالجامع الأعظم بعد صلاة الجمعة وحضر جنازته السلطان فمن دونه ولم أر مثلها قبل وأسف الناس لفقده وآخر بيت سمع منه قبل موته
( إن كان سفك دمي أقصى مرادكم ... فما غلت نظرة منكم بسفك دمي )
انتهى ملخصا
وفي فهرست ابن غازي في ترجمة شيخه أبي محمد الورياجلي ما صورته وممن لقي من شيوخ تلمسان المحروسة الإمام العلم العلامة الصدر الأجل الأوحد المحقق النظار الحجة العالم الرباني أبو عبد الله محمد بن مرزوق وقد حدثني بكثير من مناقبه وصفة إقرائه وقوة اجتهاده وتواضعه لطلبة العلم وشدته على أهل البدع وما اتفق له مع بعضهم إلى غيرها من شيمه الكريمة ومحاسنه العظيمة انتهى
وقال بعضهم في حقه إنه كان يسير سيرة سلفه في العلم والتخلق والحلم والشفقة وحب المساكين آية الله في الفهم والذكاء والصدق والعدالة والنزاهة

واتباع السنة في الأقوال والأفعال ومحبة أهلها في جميع الأحوال مبغضا لأهل البدع ومحبا سد الذرائع وله كرامات انتهى
أخذ العلم عن جماعة أجلاء فمنهم العلامة السيد عبد الله الشريف التلمساني وعالم المغرب القاضي سيدي سعيد العقباني التلمساني والولي العابد الصالح أبو إسحاق سيدي إبراهيم المصمودي وأفرد ترجمته بتأليف وعن عمه وأبيه ويروي عن جده بالإجازة وابن عرفة وأبي العباس القصار التونسي وبفاس عن النحوي أبي حيان وأبي زيد المكودي وجماعة غيرهما وبمصر عن السراج البلقيني والزين الحافظ العراقي والشمس الغماري والسراج ابن الملقن وصاحب القاموس والمحب ابن هشام ابن صاحب المغنى والنور النويري والولي ابن خلدون والقاضي التنسي وغيرهم
وأخذ عنه جماعة كالثعالبي والقاضي عمر القلشاني وابن العباس والعلامة نصر الزواوي والولي سيدي الحسن أبركان وابنه وأبي البركات الغماري وأبي الفضل المشدالي وقاضي غرناطة أبي العباس ابن أبي يحيى الشريف وإبراهيم بن فائد وأبي العباس الندرومي وابنه الكفيف وسيدي علي بن ثابت والشهاب بن كحيل التجاني والعلامة أحمد بن يونس القسمطيني والعلامة يحيى بن يدير وأبي الحسن القلصادي والشيخ عيسى بن سلامة البسكري وغيرهم كالحافظ التنسي التلمساني
قلت وسندي إليه عن عمي الإمام سيدي سعيد المقري عن الشيخ أبي عبد الله التنسي عن والده الحافظ أبي عبد الله محمد التنسي المذكور عن ابن مرزوق المذكور بكل مروياته وتآليفه
وقال السخاوي في حقه هو أبو عبد الله يعرف بحفيد ابن مرزوق وقد

يختص بابن مرزوق وقد تلا لنافع على عثمان الزروالي وانتفع في الفقه بأبي عبد الله ابن عرفة وأجازه أبو القاسم محمد بن الخشاب ومحمد بن علي الحفار الأنصاري ومحمد القيجاطي وحج قديما سنة تسعين وسبعمائة رفيقا لابن عرفة وسمع من ابن البهاء الدماميني والنور العقيلي بمكة وفيها قرأ البخاري على ابن صديق ولازم المحب ابن هشام في العربية وكذا حج سنة تسع عشرة وثمانمائة ولقيه الزيني رضوان بمكة وكذا لقيه ابن حجر انتهى
وأما تواليفه فكثيرة منها شروحه الثلاثة على البردة وسمي الأكبر إظهار صدق المودة في شرح البردة واستوفى فيه غاية الاستيفاء وضمنه سبعة فنون في كل بيت والأوسط والأصغر المسمى بالاستيعاب لما فيها من البيان والإعراب ومنها الغاية القراطيسية في شرح الشقراطيسية والمفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية ورجز في علوم الحديث سماه الروضة ومختصره في رجز سماه الحديقة ورجز في الميقات سماه المقنع الشافي مشتمل على ألف وسبعمائة بيت ونهاية الأمل في شرح الجمل أي جمل الخونجي واغتنام الفرصة في محادثة عالم قفصة وهو أجوبة عن مسائل في فنون العلم وردت عليه من علامة قفصة أبي يحيى ابن عقيبة فأجابه عنها والمعراج إلى استمطار فوائد الأستاذ ابن سراج في كراسة ونصف أجاب به أبا القاسم ابن سراج الغرناطي عن مسائل نحوية ومنطقية وأنوار اليقين في شرح حديث أولياء الله المتقين وهو حديث أول حلية أبي نعيم في شأن البدلاء وغيرهم والدليل المومي في ترجيح طهارة الكاغد الرومي والنصح الخالص في الرد على مدعي رتبة الكامل الناقص في سبعة كراريس رد به على عصرية الإمام أبي

الفضل قاسم العقباني في فتواه في مسألة الفقراء الصوفية لما صوب العقباني صنيعهم وخالفه هو ومختصر الحاوي في الفتاوي لابن عبد النور والروض البهيج في مسائل الخليج وأنوار الدراري في مكررات البخاري وأرجوزة نظم تلخيص ابن البناء ورجز تلخيص المفتاح نظمه في حال صغره ورجز حرز الأماني ورجز جمل الخونجي ورجز اختصار ألفية ابن مالك وتأليفه في مناقب شيخه المصمودي وتفسير سورة الإخلاص على طريقة الحكماء وهذه كلها تامة
وأما ما لم يكمل من تآليفه فالمتجر الربيح والسعي والرجيح والمرحب الفسيح في شرح الجامع الصحيح وروضة الأريب في شرح التهذيب والمنزع النبيل في شرح مختصر خليل شرح منه كتاب الطهارة في مجلدين ومن الأقضية إلى آخره في سفرين وإيضاح السالك على ألفية ابن مالك إلى اسم الإشارة أو الموصول مجلد كبير في قدر شرح المرادي وشرح شواهد شراح الألفية إلى باب كان مجلد وله خطب عجيبة
وأما أجوبته وفتاويه على المسائل المنوعة فقد سارت بها الركبان شرقا وغربا بدوا وحضرا وقد نقل المازوني والونشريسي منها جملة وافرة
ومن تآليفه أيضا عقيدته المسماة عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد والآيات الواضحات في وجه دلالة المعجزات والدليل الواضح المعلوم في طهارة كاغد الروم وإسماع الصم في إثبات الشرف من قبل الأم وذكر السخاوي أن من تواليفه شرح ابن الحاجب الفرعي وشرح التسهيل انتهى
ومولده كما ذكره في شرحه على البردة ليلة الاثنين رابع عشري ربيع الأول عام ستة وستين وسبعمائة قال حدثتني أمي عائشة بنت الفقيه الصالح

القاضي أحمد بن الحسن المديوني وكانت من الصالحات ألفت مجموعا في أدعية أختارتها وكانت لها قوة في تعبير الرؤيا اكتسبتها من كثرة مطالعتها لكتب الفن أنه أصابني مرض شديد أشرفت منه على الموت ومن شأنها وأبيها أنهما لا يعيش لهما ولد إلا نادرا وكانوا أسموني أبا الفضل أول الأمر فدخل عليها أبوها أحمد المذكور فلما رأى مرضي وما بلغ بي غضب وقال ألم أقل لكم لا تسموه أبا الفضل ما الذي رأيتم له من الفضل حتى تسموه أبا الفضل سموه محمدا لا أسمع أحدا يناديه بغيره إلا فعلت به وفعلت يتوعد بالأدب قالت فسميناك محمدا ففرج الله عنك انتهى
ومن فوائده ما حكى في بعض فتاويه قال حضرت مجلس شيخنا العلامة نخبة الزمان ابن عرفة رحمه الله تعالى أول مجلس حضرته فقرأ ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) الزخرف 36 فجرى بيننا مذاكرات رائقة وأبحاث حسنة فائقة منها أنه قال قرئ يعشو بالرفع ونقيض بالجزم ووجهها أبو حيان بكلام ما فهمته وذكر أن في النسخة خللا وذكر بعض ذلك الكلام فاهتديت إلى تمامه فقلت يا سيدي معنى ما ذكره أن جزم نقيض بمن الموصولة لشبهها بالشرطية لما تضمنت من معنى الشرط وإذا كانوا يعاملون الموصول الذي لايشبه لفظه لفظ الشرط بذلك فما يشبه لفظ الشرط أولى بتلك المعاملة فوافق رحمه الله تعالى وفرح كما أن الإنصاف كان طبعه وعند ذلك أنكر علي جماعة من أهل المجلس وطالبوني بإثبات معاملة الموصول معاملة الشرط فقلت نصهم على دخول الفاء في خبر الموصول في نحو الذي يأتيني فله درهم من ذلك فنازعوني في ذلك وكنت حديث عهد بحفظ التسهيل فقلت قال ابن مالك فيما يشبه المسألة وقد يجزم متسبب عن صلة الذي تشبيها بجواب الشرط وأنشدت من شواهد المسألة قول الشاعر

( كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ... تصبه على رغم عواقب ما صنع )
فجاء الشاهد موافقا للحال انتهى بنقل تلميذه المازوني
وقد ذكر الشيخ ابن غازي الحكاية في فهرسته في ترجمة شيخه الأستاذ الصغير وفيها بعض مخالفة لما تقدم فلنسقه قال حدثني أنه بلغه عن ابن عرفة أنه كان يدرس من صلاة الغداة إلى الزوال يقرىء فنونا ويبتدىء بالتفسير وأن الإمام ابن مرزوق أول ما دخل عليه وجده يفسر هذه الآية ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) فكان أول ما فاتحه أن قال له هل يصح كون من هنا موصولة فقال ابن عرفة كيف وقد جزمت فقال له تشبيها لها بالشرط فقال ابن عرفة إنما يقدم على هذا بنص من إمام أو شاهد من كلام العرب فقال أما النص فقول التسهيل كذا وأما الشاهد فقول الشاعر
( فلا تحفرن بئرا تريد أخا بها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع )
( كذاك الذي يبغي علىالناس ظالما ... تصبه على رغم عواقب ما صنع )
فقال ابن عرفة فأنت إذا ابن مرزوق قال نعم فرحب به انتهى وهو خلاف ما تقدم والأول أصوب لنقل غير واحد أن جزم الموصولات إنما يكون في الجواب لا في الشرط والله تعالى أعلم
وفي بعض المجاميع أن ابن عرفة اشتغل بضيافته لما انقضى المجلس
ومن فوائده أنه كان يصرف لفظ أبي هريرة بناء على أن جزء العلم غير علم وخالفه أهل فاس في ذلك لما بلغهم ومال الأستاذ الصغير والحافظ القوري إلى منع الصرف لوجوه ليس هذا موضعها ومنها قول ابن مالك

( ولاضطرار كبنات الأوبر ... )
فإنه مؤذن بان جزء العلم علم وقد ألف في المسألة ابن العباس التلمساني تأليفا سماه الاعتراف في ذكر ما لفظ أبي هريرة من الإنصراف انتهى
ومن نظمه رحمه الله تعالى
( بلد الجدار ما أمر نواها ... كلف الفؤاد بحبها وهواها )
( يا عاذلي كن عاذري في حبها ... يكفيك منها ماؤها وهواها )
يعني ببلد الجدار تلمسان ولذلك قال في رجز في علم الحديث ما صورته
( ومن بها أهل ذكاء وفطن ... في رابع من الأقاليم قطن )
( يكفيك أن الداودي بها دفن ... مع ضجيعه ابن غزلون الفطن )
قلت وحدثني عمي الإمام سيدي سعيد المقري رحمه الله تعالى أن العلامة ابن مرزوق لما قدم تونس في بعض الرسائل السلطانية طلب منه أهل تونس أن يقرأ لهم في التفسير بحضرة السلطان فأجابهم إلى ذلك وعينوا له محل البدء فطالع فيه فلما حضروا قرأ القارىء غير ذلك وهو قوله تعالى ( فمثله كمثل الكلب ) الآية الأعراف 176 وأرادوا بذلك إفحام الشيخ والتعريض به فوجم هنيهة ثم تفجر بينابيع العلم إلى أن أجرى ذكر ما في الكلب من الخصال المحمودة وساقها أحسن مساق وأنشد عليها الشواهد وجلب الحكايات حتى عد من ذلك جملة ثم قال في آخرها فهذا ما حضر من محمود أفعال الكلب وخصاله غير أن فيه واحدة ذميمة وهي إنكاره الضيف ثم افترق المجلس وأخبرني أنه أطال في ذلك المجلس من الصبح إلى قرب الظهر وقد طال عهدي بالحكاية وإنما نقلتها بمعناها من حفظي وهي من الغرائب ولولا الإطالة لذكرت ما وقع له مع بعض علماء برصه في الحجاز حسبما ذكره في مناقب شيخه المصمودي رحم الله الجميع

رجع إلى ذكر مشايخ لسان الدين فنقول
19 - ومن مشايخ لسان الدين الرئيس أبو الحسن علي بن الجياب وهو كما في الإحاطة علي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن الأنصاري الغرناطي أبو الحسن قال وهو شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ ومن مشايخه أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي وخلق قال وقد دونت شعره فمن معشراته قوله في حرف الجيم
( جريئا على الزلات غير مفكر ... جبانا على الطاعات غير معرج )
( جمعت لما يفنى اغترارا بجمعه ... وضيعت ما يبقى سجية أهوج )
( جنونا بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدى ليست بعشك فادرجي )
( جيادك في شأو الضلال سوابق ... تفوت مدى سن الوجيه وأعوج )
( جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج )
( جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرب في السبع الطباق بمعرج )
( جمال أنار الأرض شرقا ومغربا ... فكل سنا من نوره المتبلج )
( جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصى ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج )
( جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسائل تحظيني بما أنا مرتج )
وقال من الأغراض الصوفية السلطانية
( هات اسقني صرفا بغير مزاج ... راحي التي هي راحتي وعلاجي )

( إن صب منها في الزجاجة قطرة ... شف الزجاج عن السنا الوهاج )
( وإذا الخليع أصاب منها شربة ... حاجاه بالسر المصون محاجي )
( وإذا المريد إصاب منها جرعة ... ناجاه بالحق المبين مناجي )
( تاهت به في مهمه لا يهتدي ... فيه لتأويب ولا إدلاج )
( يرتاح من طرب بها فكأنما ... غنته بالأرمال والأهزاج )
( هبت عليه نسمة قدسية ... في فيء باب دائم الإرتاج )
( فإذا انثنى يوما وفيه بقية ... سارت به قصدا على المنهاج )
( وإذا تمكن منه سكر معربد ... فليصبرن لمصرع الحلاج )
( قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يفيض بمنطق لجلاج )
( أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يخبط في الظلام الداجي )
( رام الصعود بها لمركز أصله ... فرمت به في بحرها المواج )
( فلئن أمد برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج )
( وليرجعن بنعمة موفورة ... ما شيب عذب شرابها بأجاج )
( ولئن تخطاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكسا على الأدراج )
( ما أنت إلا درة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج )
( فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرج بها في أرفع المعراج )
( واشدد يديك معا على حبل التقى ... فإن اعتصمت به فأنت الناجي )
( ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ... وإلى الغني امدد يد المحتاج )
( هذا الطريق له مقدمتان صادقتان ... أنتجتا أصح نتاج )
( فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج )
( حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال وطول حجاج )
( والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج )
( أن لا ترى إلا الحقيقة وحدها ... والكل مضطر إليها لاجي )

( هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجاج )
( وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثجاج )
( من آل نصر نخبة الملك الرضى ... أمن المروع هم وغيث الراجي )
( من آل قيلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج )
( ماذا أقول وكل قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج )
( منه لباغي العرف در فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاجي )
( دامت سعودك في مزيد والمنى ... تأتيك أفواجا على أفواج )
وقال من المطولات
( لمن المطايا في السراب سوابحا ... تفلى الفلاة غواديا وروائحا )
( عوج كأمثال القسي ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا )
وقال يمدح ويصف مصنعا سلطانيا
( زارت تجر بنخوة أذيالها ... هيفاء تخلط بالنفار دلالها )
( فالشمس من حسد لها مصفرة ... إذ قصرت عن أن تكون مثالها )
( وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طي العتاب نوالها )
( كم رمت كتم مزادها لكنه ... صحت دلائل لم تطق إعلالها )
( تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجا كأن المسك فت خلالها )
( ما واصلتك محبة وتفضلا ... لو كان ذاك لواصلت إفضالها )
( لكن توقعت السلو فجددت ... لك لوعة لا تتقي ترحالها )
( فوحبها قسما يحق بروره ... لتجشمنك في الهوى أهوالها )

حسنت نظم الشعر في أوصافها ... إذ قبحت لك في الهوى أفعالها )
( يا حسن ليلة وصلها ما ضرها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها )
( لما سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسك لم ترد إعمالها )
( هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها )
( واخلع عذارك في البطالة جامحا ... واقرن بأسحار الهنا آصالها )
( في جنة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها )
( شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضالها )
( وصميمها أصلا وفرعا خيرها ... ذاتا وخلقا سمحها بذالها )
( الطاهر الأعلى الأمين المرتضى ... بحرالمكارم غيثها سلسالها )
( حاز المعالي كابرا عن كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها )
( إن تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمائم أرسلت هطالها )
( أو تلقه في يوم جرب عداته ... تلق الضراغم فارقت أشبالها )
( ملك إذا ما صال يوما صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها )
( فبسيبه وبسيفه نلت المنى ... واستعجلت أعداؤه آجاها )
( الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها )
( القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها )
( إن قلت بحر كفه قصرت إذ ... شبهت بالملح الأجاج نوالها )
( ملأ البسيطة عدله وأمانه ... فالوحش لا تعدو على من غالها )
( وسقى البرية فيض كفيه فقد ... عم البلاد سهولها وجبالها )
( جمع العلوم عناية بعيونها ... آدابها وحسابها وجدالها )
( منقولها معقولها وأصولها ... وفروعها تفصيلها إجمالا )
( فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لما رأوا من كفك استهلالها )

( وإذا عداتك أبصروك تيقنوا ... أن المنية سلطت رئبالها )
( بددت شملهم ببيض صوارم ... رويت من علق الكماة نصالها )
( وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... خورا تغادر نهبة أموالها )
( فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها )
( وبنت مصانع رائقات ذكرت ... دار النعيم جنانها وظلالها )
( وأجلها قدرا وأرفعها مدى ... هذا الذي سامى النجوم وطالها )
( هو جنة فيها الأمير مخلد ... بلغت إمارته بها آمالها )
( ولأرض أندلس مفاخر أنتم ... أربابها أضفيتم سربالها )
( فحميتم أرجاءها وكفيتم ... أعداءها وهديتم ضلالها )
( فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم تعتمد من قبلهم أقيالها )
( بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألد نضالها )
( فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ... جردا كسين من النجيع جلالها )
( وهم الألى فتحوا لكل ملمة ... بابا أزاح بفتحه إشكالها )
( متقلدون من السيوف عضابها ... متأبطون من الرماح طوالها )
( الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها )
( أولي عهد المسلمين ونخبة الأملاك ... صفوة محضها وزلالها )
( إن العباد مع البلاد مقرة ... بفضائل لك مهدت أحوالها )
( فتفك عانيها وتحمي سربها ... وتفيد حلما دائما جهالها )
وقال يرثي ولده أبا القاسم رحمهما الله تعالى
( هو البين حتما لا لعل ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عنده أسى )
( وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتبا لهذا القلب سرعان ما قسا )

( وما لجفوني لا تفيض موردا ... من الدمع يهمي تارة ومورسا )
( وما للساني مفصحا بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينبسا )
( أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ... ووسدت مني فلذة القلب مرمسا )
( وبعد فراق ابني أبي القاسم الذي ... كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا )
( أؤمل في الدنيا حياة وأرتضي ... مقيلا لذى أبنائها ومعرسا )
( فآها وللمفجوع فيها استراحة ... ولا بد للمصدور أن يتنفسا )
( على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران مفلسا )
( ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا )
( إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبس منه القلب ما قد تلبسا )
( وهدة خطب نازلتني عشية ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا )
( فقد صذعت شملي وأصمت مقاتلي ... وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا )
( ثبت لها صبرا لشدة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا )
( وأطمع أن يلقى برحمته الرضى ... وأجزع أن يشقي بذنب فينكسا )
( أبا القاسم اسمع شكو والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا )
( وقفت فؤادي مذ رحلت علىالأسى ... فأشهد لا ينفك وقفا محبسا )
( وقطعت آمالي من الناس كلهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا )
( تواريت يا بدري وشمسي ناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا )
( وخلفت لي عبئا من الثكل فادحا ... فما أتعب الثكلان نفسا وأتعسا )
( أحقا ثوى ذاك الشباب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا )
( فيا غصنا نضرا ثوى عندما استوى ... وأوحشني أضعاف ما كان أنسا )
( ويا نعمة لما تبلغتها انقضت ... فأنعم أحوالي بها صار أبؤسا )

( لودعته والدمع تهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريد المخمسا )
( وقبلت في ذاك الجبين مودعا ... لأكرم من نفسي علي وأنفسا )
( وحققت من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر من عسا )
( فيا رحمة للشيب يبكي شبيبة ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا )
( فلو أن هذا الموت يقبل فدية ... حبوناه أموالا كراما وأنفسا )
( ولكنه حكم من الله واجب ... يسلم فيه من بخير الورى ائتسى )
( تغمدك الرحمن بالعفو والرضى ... وكرم مثواك الجديد وقدسا )
( وألف منا الشمل في جنة العلا ... فنشرب تسنيما ونلبس سندسا )
وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش
( أهزلا وقد جدت بك اللمة الشمطا ... وأمنا وقد ساورت يا حية رقطا )
( أغرك طول العمر في غير طائل ... وسرك أن الموت في سيره أبطا )
( رويدا فإن الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركائبه حطا )
( فإذا ذاك لا تسطيع إدراك ما مضى ... بحال ولا قبضا تطيق ولا بسطا )
( تأهب فقد وافى مشيبك منذرا ... وها هو في فوديك أحرفه خطا )
( فوافقت منه كاتب السر واشيا ... له القلم الأعلى يخط به وخطا )
( معمى كتاب فكه احذر فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشطا )
( وإن طالما خاضت به اللجج التي ... خبطت بها في كل مهلكة خبطا )
( وما زلت في أمواجها متقلبا ... فآونة رفعا وآونة حطا )
( فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشد عليك الجانبين بها ضغطا )
( ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاق أرضوانا من الله أم سخطا )

( وأعجب شيء منك دعواك في النهى ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطى )
( قسطت عن الحق المبين جهالة ... وقد خالفتك النفس فادعت القسطا )
( وطاوعت شيطانا تجيب إذا دعا ... وتقبل إن أغوى وتأخذ إن أعطى )
( تناءى عن الأخرى وقد قربت مدى ... تدانى من الدنيا وقد أزمعت شحطا )
( وتمنحها حبا وفرط صبابة ... وما منحت إلا القتادة والخرطا )
( فها أنت تهوي وصلها وهي فارك ... وتأمل قربا من حماها وقد شطا )
( صراط هدى نكبت عنه عماية ... ودار ردى أوعيت في سحتها سرطا )
( فما لك إلا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كل ما يرتجي يعطي )
( دليل إلى الرحمن فانهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا )
( محبته شرط القبول فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشرطا )
( وما قبلت منه لدى الله قربة ... وما زكت الأعمال بل حبطت حبطا )
( به الحق وضاح به الإفك زاهق ... به الفوز مرجو به الذنب قد حطا )
( هو الملجأ الأحمى هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطا )
( لقد مازجت روحي محبته التي ... بقلبي خطت قبل أن أعرف الخطا )
( إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبل تبجيلا أناملك السبطا )
( وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتى بدائعها بسطا )
( وتتلو آيات التشيع إنها ... لموثقة عهدا ومحكمة ربطا )
( لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمى إلى سبطه سبطا )
( إلى شرفي دين وعلم تظاهرا ... تبارك من اعطى وبورك في المعطى )
( ورهطك أهل البيت بيت محمد ... فأعظم به بيتا وأكرم به رهطا )
( بعثت به عقدا من الدر فاخرا ... وذكر رسول الله درته الوسطى )
( وأهديت منها للسيادة غادة ... نظمت من الدر الثمين بها سمطا )

( وحاشيتها من كل ما شأنها فإن ... تجعد حوشي تجد لفظها سبطا )
( وفي الطيبين الطاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا )
( عليك سلام الله ما ذر شارق ... وما رددت ورقاء في غصن لغطا )
وقال
( لله عصر الشباب عصرا ... فتح للخير كل باب )
( حفظت ما شئت فيه حفظا ... كنت أراه بلا ذهاب )
( حتى إذا ما المشيب وافى ... ند ولكن بلا إياب )
( لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيدوا العلم بالكتاب )
وقال
( يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل )
( أنفق وثق بالإله تربح ... فإن إحسانه جزيل )
( وقدم الأقربين واذكر ... ما روي ابدأ بمن تعول )
وقال
( وقائله لم عراك المشيب ... وما إن بعهد الصبا من قدم )
( فقلت لها لم أشب كبرة ... ولكنه الهم نصف الهرم )
وقال
( أيعتادني سقم وأنت طبيب ... وتبعد آمالي وأنت قريب )
( يقيني أن الله جل جلاله ... يقيني فراجي الله ليس يخيب )
وقال
( هي النفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعه )

( وإن أنت جشمتها خطة ... تنافي رضاها تجدها مطيعه )
( فإن شئت فوزا فناقض هواها ... وإن وصلتك اجزها بالقطيعة )
( ولا تعبأن بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعة )
وقال
( من أنت يا مولى الورى مقصوده ... طوبى له قد ساعدته سعوده )
( فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده )
( وليفنين عن نفسه ورسومه ... طرا وفي ذاك الفناء وجوده )
( وليحفظنه بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده )
( حتى يظل وليس يدري دهشة ... تقريبه المقصود أن تبعيده )
( لكنه ألقى السلاح مسلما ... فمراده ما أنت منه تريده )
( فلقد تساوى عنده إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده )
وقال ملغزا في حجل
( حاجيت كل فطن لبيب ... ما اسم لأنثى من بني يعقوب )
( ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحق بالتقريب )
( تشركها في الاسم انثى لم تزل ... حافظة لسرها المحجوب )
( وقد جرى في خاتم الوحي الرضى ... لها حديث ليس بالمكذوب )
( وهو إذا ما الفاء منه صحفت ... صبغ الحياء لا الحيا المسكوب )
( فهاكها واضحة أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب )
وقال أيضا في آب

( حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم )
( يخبر بالرجعة وهو ... راجع كما زعم )
( وصف الحبيب هو بالتصحيف ... أو بدء قسم )
( دونكه أوضح من ... نار على رأس علم )
وقال في كانون
( وما اسم لسميين ... ولم يجمعهما جنس )
( فهذا كلما يأتي ... فبالآخر لي أنس )
( وهذا ما له شخص ... وهذا ما له حس )
( وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس )
( وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس )
( وهذا واحد من سبعة ... تحيا بها النفس )
( فمن محموله الجن ... ومن موضوعه الإنس )
( فقد بان الذي ألغزت ... ما في أمره لبس )
وقال في سلم
( ما اسم مركب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع )
( ينصب لكن أكثر استعمال من ... يعنى به في الخفض أو في الرفع )
( هو إذا حققته مغيرا ... تراه شملا لم يزل ذا صدع )
( فالاسم إن طلبته تجده في ... خامسة من الطوال السبع )
( وهو إذا صحفته يعرب عن ... مكسر في غير باب الجمع )

( له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشرع )
( هما جميعا من بني النجار والأفضل ... أصل في حنين الجذع )
( فهاكه قد سطعت أنواره ... لا سيما لكل زاكي الطبع )
وقال في مائدة
( حاجيت كل فطن نظار ... ما اسم لأنثى من بني النجار )
( وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقلما يغفل عنها القاري )
( في خبر المهدي فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار )
( ما هي إلا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار )
( يشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار )
( فهاكه كالشمس في وقت الضحى ... قد شف عنها حجب الأستار )
ثم قال لسان الدين وأما نثره فمطولات عرفت بما تخللها من الأحوال متونها وقلت لمكان البديهة والاستعجال عيونها وقد اقتنصت جزءا منها سميت تافه من جم ونقطة من يم وولد بغرناطة في جمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستمائة وتوفي ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة وأنشدت من نظمي في رثائه خامس يوم دفنه على قبره هذه القصيدة
( ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النعي فهن في إطراق )
( وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسقم من جزع ومن إشفاق )
( ما للصحائف صوحت روضاتها ... أسفا وكن نضيرة الأوراق )
( ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام الساقي )

( ما لي عدمت تجلدي وتصبري ... والصبر في الأزمات من أخلاقي )
( خطب أصاب بني البلاغة والحجي ... شب الزفير به عن الأطواق )
( أما وقد أودى أبو الحسن الرضى ... فالفضل قد أودى على الإطلاق )
( كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوما ولا تفنى على الإنفاق )
( من للبدائع أصبحت سمر السرى ... ما بين شام للورى وعراق )
( من لليراع يجيل من خطيها ... سم العدا ومفاتح الأرزاق )
( قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالترياق )
( من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق )
( تغتال أحشاء العدو كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق )
( وتهز اعطاف الولي كأنها ... راح مشعشعة براحة ساقي )
( من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الأعراق )
( من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق )
( من للمساعي الغر تقصد جاهه ... حرما فينصرها على الإخفاق )
( كم شد من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحل وثاق )
( رحب الذراع بكل خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذاق )
( صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين والطراق )
( ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق )
( فاعجب لأنس في مظنه وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق )
( أمطيبا بمحامد العمل الرضى ... ومكفنا بمكارم الأخلاق )
( ما كنت أحسب قبل نعشك أن أرى ... رضوى تسير به على الأعناق )
( ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن اللحود خزائن الأعلاق )
( يا كوكب الهدي الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق )
( يا واحدا مهما جرى في حلبة ... جلى بغرة سابق السباق )

( يا ثاويا بطن الضريح وذكره ... أبدا رفيق ركائب ورفاق )
( يا غوث من وصل الصريخ فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق )
( ما كنت إلا ديمة منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق )
( ما كنت إلا روضة ممطورة ... ما شئت من ثمر ومن أوراق )
( يا مزمعا عنا العشي ركابه ... هلا ثويت ولو بقدر فواق )
( رفقا أبانا جل ما حملتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق )
( واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقي بها منا على الأرماق )
( وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ... كان الخيال تعلة المشتاق )
( عجبا لنفس ودعتك وأيقنت ... أن ليس بعد نواك يوم تلاقي )
( ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق )
( إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق )
( واستوقفت دهشا فإن قلوبنا ... نهضت بكل وظيفة الآماق )
( ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدى في العهد والميثاق )
( سجعت بما طوقتها من منة ... حتى زرت بحمائم الأطواق )
( تبكي فراقك خلوة عمرتها ... بالذكر في طفل وفي إشراق )
( أما الثناء على علاك فذائع ... قد صح بالإجماع والإصفاق )
( والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق )
( جادت ضريحك ديمة هطالة ... تبكي عليه بواكف رقراق )
( وتغمدتك من الإله سعادة ... تسمو بروحك للمحل الراقي )
( صبرا بني الجياب إن فقيدكم ... سيسر مقدمه بما هو لاق )
( وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أي رواق )
وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله ابن جزي

( ألم تر أن المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوضت ودعائمه )
( هوى من سماء المعلوات هلالها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه )
( وثلت من الفخر المشيد عروشه ... وفلت من العز المنيع صوارمه )
( وعطل من حلي البلاغة قسها ... وعري من جود الأنامل حاتمه )
( أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ... وثلم غرب الدين والعلم هاجمه )
( وإلا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصت قوادمه )
( وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيا الدهر قطب باسمه )
( وما لدموع العين فضت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه )
( قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه )
( ومن قارع الأيام سبعين حجة ... ستنبو غراراه ويندق قائمه )
( وفي مثلها أعيا النطاسي طبه ... وضل طريق الحزم في الرأي حازمه )
( تساوى جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه ولا البخل عاصمه )
( وما نفعت رب الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغني كرائمه )
( وكل تلاق فالفراق أمامه ... وكل طلوع فالغروب ملازمه )
( وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه )
( ليبك عليا مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع ظالمه )
( ليبك عليا مائح بحر علمه ... يروى بأنواع المعارف هائمه )
( ليبك عليا مظهر فضل نصحه ... يحلا عن ورد المآثم حائمه )
( ليبك عليا معتف جود كفه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه )
( ليبك عليا ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه )
( ليبك عليا فضل كل بلاغة ... يخلده في صفحة الطرس راقمه )
( وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشرى في خيسها وضراغمه )

( تكفل بالرزق المقدر للورى ... إذا الله أعطى فهو في الناس قاسمه )
( يسدده سهما وينضوه صارما ... ويشرعه رمحا فكل يلائمه )
( إذا سال من شقيه سائل حبره ... بما شاء منه سائل فهو عالمه )
( ليبك عليه اليوم من كان باكيا ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه )
( تقلد منه الملك عضب بلاغة ... يقد السلوقي المضاعف صارمه )
( وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعي حازم الرأي عازمه )
( ففي يده وهو الزعيم بحقها ... براعته والمشرفي وخاتمه )
( سخي على العافين سهل قياده ... أبي على العادين صعب شكائمه )
( إذا ضلت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الخطب ناجمه )
( وقام بأمر الدين والملك حاميا ... فذل معاديه وضل مراغمه )
( وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ... به وهو ما نيطت عليه تمائمه )
( ودوخ أعناق الليالي بهمة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه )
( وزاد على بعد المنال تواضعا ... أبى الله إلا أن تتم مكارمه )
( سقيت الغوادي أي علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه )
( وما زال يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقى لقبرك ساجمه )
( بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ... يؤلفه من دوح فضلك ناعمه )
( وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمائمه )
( ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... توقد في جنبيه للحزن جاحمه )
( فتى نال منه الدهر إلا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهد عزائمه )
( عليل الذي زرت عليه جيوبه ... قريح الذي شدت عليه حزائمه )
( فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه )
( سأصبر مضطرا وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرة وأسالمه )
( وأهديك إذ عز اللقاء تحية ... وطيب ثناء كالعبير نواسمه )

وأنشد الفقيه القاضي أبو جعفر ابن جزي قصيدة أولها
( أبثكما والصبر للعهد ناكث ... حديثا أملته علي الحوادث )
وأنشد القاضي أبو بكر ابن علي القرشي قصيدة أولها
( هي الآمال غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد )
وأنشد الفقيه الكاتب القاضي أبو القاسم ابن الحكم قصيدة أولها
( لينع الحجي والحلم من كان ناعيا ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا )
قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض فكان هذا التأبين غريبا لم يتقدم به عهد بالحضرة لكونها دار ملك والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر انتهى ما لخصته من ترجمته في الإحاطة
ولنرد فنقول ومن ألغازه في الدرهم
( ما يغيض إلى الكرام خصوصا ... وحبيب إلى الأنام عموما )
( فاعجبوا منه كيف يحمي ويحمى ... ويكف الغدا ويغني العديما )
( إن تغير شطريه فالأول اسم ... يألف الضرع والغمام السجوما )
( ويكون الثاني كبير أناس ... حطمته حياته تحطيما )
( فإذا ما قلبت أول شطر ... رد منطوق لغزه مفهوما )
( وإذا ما قلبت ثاني شطر ... كان كفا وليس كفا رقيما )
( قلبه بعد حذفك الفاء منه ... وهو شيء يحلل التحريما )
( أو صغير مستحسن لم يؤدب ... إن تعلمه يقبل التعليما )
( فلتبين ما قلته ولتعين ... وبه فلتقم مقاما كريما )
وقال في المسك

( ما طاهر طيب ولكن ... ما أصله من ذوي الطهارة )
( من الظباء الحسان لكن ... إذا تأملته ففاره )
( نص حديث الرسول فيه ... شهادة تقتضي بشارة )
( تصحيفه بعد حذف حرف ... منزلك الآهل العمارة )
يعني مبني
وقال في فلك
( ما اسم لشيء مرتقي ... في مغرب ومشرق )
( إذا حذفت فاءه ... كان لك الذي بقي )
وقال أيضا في الفنار
( ما اسم إذا حذفت منه ... فاءه المنوعة )
( فإنه ابنة الزنا ... مضافة لأربعة )
يعني ابنة الزناد وهي النار
وقال في النوم
( ما اسم مسماه به ... يسقط حكم التكليف )
( وإن دخلت البيت ... بالتصحيف حق التعنيف )
( وإن أردت شبهه ... فقلبه بالتصحيف )
( بينه فهو في كتاب ... الله بادي التعريف )
وقال في غزال
( حاجيتكم ما اسم شيء ... يروق في الوصف حسنا )
( له محاسن شتى ... منها فرادى ومثنى )

( 0000000 ... له بل الشعر أثنى )
( مهما تنله بحذف ... أتاك حرفا لمعنى )
( إن زال أول حرف ... زال الذي منه يعنى )
( أو زال ثانيه منه ... فالقتل أدهى وأفنى )
( أو زال ثالثه فهو ... لغو صب معنى )
( أو زال رابعه ... فالجهاد فيه تسنى )
( فأوضح القصد يا من ... قد فاق عقلا وذهنا )
وقال في النمل
( ما حيوان اسمه ... قد جاء في الذكر الحكيم )
( وهو إذا قلبته ... لمن به أنت عليم )
( وإن تصحف اسمه ... فبعض أوصاف اللئيم )
وقال في دواة
( وما أنثى بها رعي الرعايا ... وإمضاء المنايا والقضايا )
( وتقصدها بنوها من رضاع ... إذا انبعثوا لإبرام القضايا )
( لها اسم إن أزلت النقط منه ... فعذ بالله من شر البلايا )
( وإن أبدلت آخره بهمز ... فقد أبرأت نازلة الشكايا )
( وإن بدلت أوله بنون ... أتيت ببعض أرزاق المطايا )
( فأوضح ما رمزناه بفكر ... سديد القصد مبد للخفايا )
وقال في سفينة
( ما ذات نفع وغناء عظيم ... لها حديث في الزمان القديم )

( أوحى بها الله إلى عبده ... فحبذا فعل الرسول الكريم )
( وعابها فيما مضى صالح ... حسبك ما نص الكتاب الحكيم )
( وفي كتاب الله تردادها ... فاقرأ تجده في قضايا الكليم )
( إن أنت صحفت اسمها تلقه ... محل أنس أو بلاء مقيم )
( أو هو فعل لك فيما مضى ... لكن إذا أبرأت داء السقيم )
( فهاكه قد لاح برهانه ... مبينا لكل فكر سليم )
وقال أيضا في المسك
( كتبتم كثيرا ولم تكتبوا ... كهذا الذي سبله واضحة )
( فما اسم جرى ذكره في الكتاب ... فإن شئته فاقرإ الفاتحة )
( ففيها مصحف مقلوبه ... يعبر عن حالة صالحه )
( وليست بغادية فاعلموا ... ولكنها أبدا رائحه )
ويعني بقوله في الفاتحة قوله أول الأبيات كتبتم فافهم
وقال في صقر
( حاجيتكم ما اسم لبعض السباع ... تصحيفه ما لك فيه انتفاع )
( وعكسه إن شئت عكسا له ... يوجد لكن عند دور السماع )
( وإن تصحف بعد قلب له ... فمذهب يعزي لأهل النزاع )
( فبين الإلغاز وارفع لنا ... بنور فكر منك عنه القناع )
وقال في الحوت
( ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون )

( أحرفه ثلاثة ... والكل منها هو نون )
( إن أنت صحفت اسمه ... فما جناه المذنبون )
( أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الخؤون )
( قلب اسمه مصحفا ... عليه دارت السنون )
( كانت به فيما مضى ... عبرة قوم يعقلون )
( أودع فيه زمنا ... سر من السر المصون )
( فهاكه كالنار في الزند ... له فيها كمون )
وقال في لبن
( أفديك ما اسم إذا ما ... صحفته فهو سبع )
( وإن تصحف بعكس ... ففيه للقبط شرع )
( والاسم يعرب عما ... لديه ري وشبع )
( في النحل يلفى ولكن ... لا يتقي فيه لسع )
( فليس للنحل أصل ... ولا لها فيه فرع )
( فهاكه قد تبدى ... لحجبه عنه رفع )
وقال في القلم
( وماموم به عرف الإمام ... كما باهت بصحبته الكرام )
( له إذ يرتوي طيشان صاد ... ويسكن حين يعروه الأوام )
( ويذري حين يستسقي دموعا ... يرقن كما يروق الإبتسام )
وله رحمه الله تعالى كثير من هذا ولم أر أحدا أحكم الإلغاز مثلما أحكمه ابن الجياب المذكور ولولا الإطالة لذكرت منها ما يستدل به على

صحة الدعوى وفيما ذكرنا كفاية
ومن نظم الرئيس ابن الجياب المذكور في رثاء عمر بن علي بن عتيق القرشي الهاشمي الغرناطي قوله
( قضي الأمر فيا نفس اصبري ... صبر تسليم لحكم القدر )
( وعزاء يا فؤادي إنه ... حكم ملك قاهر مقتدر )
( حكمه أحكمها تدبيره ... نحن منها في سبيل السفر )
( أجل مقدر ليس بمستقدم ... يوما ولا مستأخر )
( أحسن الله عزاء كل ذي ... خشية لربه في عمر )
( في إمامنا التقي الخاشع ... الطاهر الذات الزكي النير )
( قرشي هاشمي منتقى ... من صميم الشرف المطهر )
( يشهد الليل عليه أنه ... دائم الذكر طويل السهر )
( في صلاة بعثت وفودها ... زمرا للمصطفى من مضر )
( قائما وراكعا وساجدا ... لطلوع فجره المنفجر )
( جمع الرحمن شملنا غدا ... بحبيب الله خير البشر )
( وتلقته وفود رحمة الله ... تأتي بالرضى والبشر )
قلت هذا النظم وإن برد ما فيه من الزحاف فله من الوعظ وذكر الله ورسوله خير لحاف
قال لسان الدين ولما نظم القاضي أبو بكر ابن شبرين ببيت الكتابة ومألف الجملة هذين البيتين
( ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منك بطيبه )
( ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه )
وأخذ الأصحاب في تذييل ذلك قال الشيخ الرئيس أبو الحسن ابن الجياب

رحمه الله تعالى ورضي عنه
( فمن يعمر الأوقات طرا بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه )
( ومن كان عنه معرضا طول ذكره ... فكيف يرجيه شفيع ذنوبه )
وقال أبو القاسم ابن أبي العافية
( أليس الذي جلى دجى الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به )
( ومن لم يكن من ذاته شكر منعم ... فمشهده في الناس مثل مغيبه )
وقال أبو بكر ابن أرقم
( نبي هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرتقى سامي المحل خصيبه )
( فهل ينكر الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه )
فانتهى القول إلى الخطيب أبي محمد ابن أبي المجد فقال
( ومن قال مغرورا حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه )
( وذكر رسول الله فرض مؤكد ... وكل محق قائل بوجوبه )
وقال يوما الشيخ أبو الحسن ابن الجياب تجربة للخاطر على العادة
( جاهد النفس جاهدا فإذا ما ... فنيت منك فهو عين الوجود )
( وليكن حكمها المسدد فيها ... حكم سعد في قتله لليهود )
فأجابه أبو محمد ابن أبي المجد بقوله
( أيها العارف المعبر ذوقا ... عن معان عزيزة في الوجود )
( إن حال الفناء عن كل غير ... كمقام المراد غير المريد )
( كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدوي مظاهر بجنود )

( ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جد سعيد )
( فأراها حبابة بي فتونا ... وأراني في حبها كيزيد )
( سوف أسلو بنصحكم عن هواها ... ولو أبدت فعل المحب الودود )
( ليس شيء سوى إلهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد )

ترجمة ابن أبي المجد
وابن أبي المجد المذكور هو عبد الله بن عبد البر بن علي بن سليمان بن محمد بن محمد بن أشعب الرعيني من أرجدونة من كورة رية يكنى أبا محمد ويعرف بابن أبي المجد كان من أعلام الكورة سلفا وصلاحا ونية في الصالحين كثير الإيثار بما تيسر مليح التخلق حسن السمت طيب النفس حسن الظن له حظ من الأدب والفقه والقراءات والفرائض وخوض في التصوف قطع عمره خطيبا وقاضيا ببلده ووزيرا قرأ على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير وابن فضيلة المعافري وابن رشيد وأجازه طائفة كبيرة توفي ليلة النصف من شعبان عام تسعة وثلاثين وسبعمائة رحمه الله تعالى
رجع إلى ابن الجياب
ومن نظم ابن الجياب ما كتب على باب المدرسة العلمية بغرناطة
( يا طالب العلم هذا بابه فتحا ... فادخل تشاهد سناه لاح شمس ضحى )
( واشكر مجيرك من حل ومرتحل ... إذ قرب الله من مرماك ما نزحا )
( وشرفت حضرة الإسلام مدرسة ... بها سبيل الهدى والعلم قد وضحا )

( أعمال يوسف مولانا ونيته ... قد طرزت صحفا ميزانها رجحا )
ومنه قوله
( أبى الله إلا أن تكون اليد العليا ... لأندلس من غير شرط ولا ثنيا )
( وإن هي عضتها بنوب نوائب ... فصيرت الشهد المشور بها شريا )
( فما عدمت أهل البلاغة والحجى ... يقيمون فيها الرسم للدين والدنيا )
( إذا خطبوا قاموا بكل بليغة ... تجلي القلوب الغلف والأعين العميا )
( وإن شعروا جاءوا بكل غريبة ... تخال النجوم النيرات لها حليا )
( فأسأل في الدنيا من الله ستره ... علينا وفي الأخرى إذا حانت اللقيا )
وقال أبو الحسن ابن الجياب
( أرى الدهر في أطواره متقلبا ... فلا تأمنن الدهر يوما فتخدعا )
( فما هو إلا مثلما قال قائل ... مكر مفر مقبل مدبر معا )
وحكي أنه أهدى له الفقيه ابن قطبة رمانا ثم دخل عليه عائدا فلما رآه قال له يا فقيه نعم بالهدنة زمانك أراد نعمت الهدية رمانك وكان هذا قبل موته من مرضه بيسير وهو مما يدل على ثبوت ذهنه حتى قرب الموت سامحه لله تعالى
ومن نثر ابن الجياب رحمه الله تعالى ما كتبه عن سلطانه إلى بعض سلاطين وقته وهو السلطان أبو سعيد المريني صاحب فاس ونصه المقام لدى الملك المنصور الأعلام والفضل الثابت الأحكام والمجد الذي أشرقت به وجوه الأيام والفخر الذي تتدارس أخباره بين الركن والمقام والعز الذي تعلو به كلمة الإسلام مقام محل الأب الواجب الإكبار والإعظام السلطان الكذا أبقاه

الله في ملك منيع الذمار وسعد باهر الأنوار ومجد رفيع المقدار وسلطان عزيز الأنصار كريم المآثر والآثار كفيل بالإعلاء لدين الله والإظهار معظم مقامه وموقره ومجل سلطانه ومكبره المثني على فضله الذي أربى على ظاهره مضمره الشاكر لمجده الذي كرم أثره المعتد بأبوته العلية في كل ما يقدمه ويؤخره ويورده ويصدره الداعي إلى الله تعالى بطول بقائه في سعد سام مظهره حام عسكره فلان سلام كريم طيب عميم يخص مقامكم الأعلى ورحمة الله وبركاته
أما بعد حمد الله الذي أولاكم ملكا منصورا وفخرا مشهورا وأحيا بدولتكم العلية لمكارم الأخلاق ذكرا منشورا والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسول الله الذي اختاره بشيرا ونذيرا وشرح بهدايته صدورا وجعل الملأ الأعلى له ظهيرا والرضى عن آله وصحبه الذين ظاهروه في حياته وخلفوه في أمته بعد وفاته فنالوا في الحالين فضلا مسطورا وأجرا موفورا والدعاء لمقامكم الأعلى أسماه الله تعالى بنصر لا يزال به الإسلام محبوا محبورا وسعد يملأ أرجاء البسيطة نورا فكتبته كتب الله لكم عوائد السعادة وحباكم من آلائه بالحسنى والزيادة من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وليس بفضل الله سبحانه ثم ببركته مقامكم أيد الله تعالى سلطانه إلا الخير الأكمل واليسر الأشمل والحمد لله كثيرا كما هو أهله فلا فضل إلا فضله
وأما الذي عند معظم أمركم من الإعظام لمقامكم والإكبار والثناء المردد المجدد على توالي الأعصار والشكر الذي تتلى سوره آناء الليل والنهار والعلم بما لكم من المكارم التي سار ذكرها في الأقطار أشهر من المثل السيار والاعتداد بسلطانكم العلي في الإعلان والإسرار والاستناد لى جنابكم الكريم في الأقوال والأفعال والأخبار فذلك لا يزال بحمد الله تعالى محفوظا ملحوظا بعين الاستبصار والله ولي العون على ذلك بفضله وطوله
وإلى هذا أيد الله تعالى سلطانكم ومهد أوطانكم فقد تقدمت مطالعة

مقامكم أسماه الله أن ملك قشتالة دس من يتحدث في عقد صلح يعود بالهدنة على البلاد ويرتفع به عنها مكابدته من جهة الأعاد وقدرنا أولا أن ذلك ليس على ظاهر الحال فيه وأنه يبدي به غير ما يخفيه ولكن جرينا معه في المضمار قصدا للتشوف على الأخبار فلما دار الحديث في هذا الحكم منه أنه قد جنح للسلم وكان خديمنا نقروز بحكم الاتفاق قد ورد إشبيلية لبعض أشغاله فاستحضره وأخذ معه في أمر الصلح وشرح أحواله وأعاده إلى معظمكم ليستفهم ما عنده ويعلم مذهبه وقصده فأعيد إليه بأنه إن أراد المصالحة على صلح والده مع هذه الدار النصرية من غير زيادة على شروط تلك القضية ولا يعرض لاسترجاع معقل من المعاقل التي أخلصت من يد النصرانية وان يكون عقده على الجزيرة الخضراء ورندة وغيرهما من البلاد الأندلسية فلا بد من مطالعة محل والدنا السلطان أمير المسلمين أبي سعيد أيده الله واستطلاع ما يراه وحينئذ نعمل بحسب نظره الجميل ومقتضاه وأكد على نقروز في أنه إن انقاد لهذا الأمر فليعقد معه هدنة لأمد من الدهر بقدر ما يتسع لتعريفكم بهذه الحال وإعلامكم ويستطلع فيها نظر مقامكم فما هو إلا أن عاد يوم تاريخ هذا بكتاب ملك قشتالة وقد أجاب إلى الصلح وانقاد إليه على حسب ما شرط عليه وأعطى مهادنة مدة شهر فبرير ليعرف فيها مقامكم ويعلم ما لديه ووافق ذلك وصول الشيخ الفقيه الأجل أبي عبدالله ابن حبشية أعزه الله من بابكم الكريم أسماه الله فأخذ معه في هذا القصد واستفهم عما لديه من مقامكم في ذلك من الإمضاء أو الرد فذكر أنكم قد أذنتم لمعظمكم في عقد السلم على مايراه من الأحكام إذ ظهر فيها المصلحة لأهل الإسلام فلما عرف مذهبكم الصالح وقصدكم الناجح رأى أن يوجه إلى ملك النصارى من يخلص معه حال الصلح علىما يعود إن شاء الله

تعالى على المسلمين بالنجح وقدم تعريفكم بما دار من الحديث بين يدي جوابه الوافد على مقامكم صحبة الفقيه أبي عبدالله أعزه الله تعالى ولا يخفى على مقامكم حاجة هذه البلاد في الوقت إلى هدنة يستدرك بها رمقها مما لقيته من جهد الحرب وما حل بها في هذه السنين من القحط والجدب فالصلاح بحمد الله في هذه الحال بادي الظهور وإلى الله عاقبة الأمور
هذا ما تزيد لدى معظم مقامكم وما يتزيد بعد فليس إلا المبادرة إلى مطالعتكم وإعلامكم وما كان إمساك الفقيه أبي عبد الله ابن حبشية في هذه الأيام إلا لانتظار خبر الصلح حتى يأتيكم به مستوفى الشرح وها هو قد أخذ في الرجوع إلى بابكم الأسمى والقدوم إلى حضرتكم العظمى والله يصل سعودكم ويحرس وجودكم ويبلغكم أملكم ومقصودكم والسلام
ومن إنشاء ابن الجياب رحمه الله تعالى في العزاء بالسلطان أبي الحسن المريني ما صورته بعد الصدر
أما بعد حمد الله الواحد القهار الحي القيوم حياة لا تتقيد بالأعصار القادر الذي كل شيء في قبضة قدرته محصور بحكم الاضطرار الغني في ملكوته فلا يلحقه لاحق الافتقار المريد الذي بإرادته تصريف الأقدار وتقدير الآجال والأعمار العالم الذي لا تعزب عن علمه حفايا الأسرار وخبايا الأفكار مالك الملك وأهله ومدبر الأمور بحكمته وعدله تذكرة لأولي الألباب وعبرة لأولي الأبصار خالق الموت والحياة لينقلنا من دار الفناء إلى دار القرار والصلاة والسلام على سيدناومولانا محمد رسوله المصطفى المختار الذي نهتدي بهديه الكريم في الإيراد والإصدار والإحلاء والإمرار في الشدة والرخاء والسراء والضراء بسيره الكريمة الآثار ونتعزى بالمصيبة به عما دهم من المصائب الكبار ونتقدم منه إلى ربنا شفيعا ماحيا للأوزار وآخذا بالحجز عن النار

ونعلم أننا باتباع سبيله نسعد سعادة الأبرار وبإقامة ملته وحماية شرعته ننال مرضاة الملك الغفار والرضى عن آله وصحبه وأوليائه وحزبه الذين ظاهروه في حياته على إقامة الحق الساطع الأنوار وخلفوه في أمته قائمين بالعدل حامين للذمار والدعاء لمحل أبينا والدكم قدس الله روحه وبرد ضريحه بالرحمة التي تتعهد روضته التي هي أذكى من الروض المعطار والرضوان الذي يتبوأ به مبوأ صدق في الملوك المجاهدين الأخيار ولمقامكم الأعلى بسعادة المقدار وتمهيد السلطان وبلوغ الأوطار فإنا كتبناه كتب الله لكم عوائد النصر وربط على قلبكم بالصبر من حمراء غرناطة حرسها الله تعالى عندما تحقق لدينا النبأ الذي فت في الأعضاد وشب نار الأكباد والحادث الذي هد أعظم الأطواد وزلزل الأرض الراسية الأوتاد والواقع الذي لولا وجودكم لمحا رسم الأجواد وعطل رسوم الجهاد وكسا الآفاق ثوب الحداد والخطب الذي ضاقت له الأرض بما رحبت وأمرت الدنيا بما عذبت من وفاة محل أبينا أكبر ملوك المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين والدكم ألحفه الله تعالى برود رضاه وجعل جنته نزله ومثواه ونفعه بما أسلف من الأعمال الكريمة وما خلده من الآثار العظيمة فإنا لله وإنا إليه راجعون تسليما لما قضاه ورضى بما أنفذه وأمضاه وعند الله نحتسب منه والدا شفيقا حانيا رفيقا لم يزل يولي الجميل قوله وفعله ويصل لنا من أسباب عنايته ما اقتضاه فضله وما هو أحق به وأهله
وكنا طول حياته لم نجد أثرا لفقد الوالد لما أولانا من جميل العوائد وكرم المقاصد جزاه الله أحسن جزائه وأعاننا على توفية حقه وأدائه ولمثل هذه المصيبة ولا مثل لها تظلم الأرجاء ويضيق الفضاء وتبكيه مسومة الجياد ومعالم الجهاد والسيوف في الأغماد وشتى العباد والبلاد فلا تسألوا كيف هو عندنا موقع هذا الخطب العظيم والحادث المقعد المقيم والرزية التي لا رزية مثلها والحادثة التي أصيبت بها الملة وأهلها فوجدنا لفقده

يتضاعف مع الآناء ويتجدد تذكار ما أسلف من أعمال الملوك الفضلاء ولكنه أمر حتم وقضاء من الله جزم وسبيل يسلك عليها الأول والآخر والآتي والغابر وليس إلا التسليم لما حكم به الحكيم العليم
ولما انتهى إلينا هذا النبأ الذي ملأ القلب حسرة والعين عبرة وتوارت شتى الأنباء وغلب اليأس فيها على الرجاء وجدنا له ما يوجد لفقد الأب الذي ابتدأ بالإحسان والإجمال وأولى عوارف القبول والإقبال ولكنه ما أطفأ نار ذلك الوجد وجبر كسر ذلك الفقد إلا ما من الله به علينا وعلى المسلمين من تقلدكم ذلك الملك الذي بكم سمعت معالمه وقامت مراسمه وعليكم انعقد الإجماع وبولايتكم استبشرت الأصقاع وكيف لا تستبشر بولاية الملك الصالح الخاشع الأواب صاحب الحرب والمحراب عدة الإسلام وعلم الأعلام من ثبت فضائله أوضح من محيا النهار وسارت مكارمه في الآفاق أشهر من المثل السيار
وقد كان محل أبينا والدكم رضي الله عنه لما علم من فضائلكم الكريمة الآثار وما قمتم به من حقه الذي وفيتموه توفية الصلحاء الأبرار ألقى إليكم مقاليد سلطانه وآثر إليكم أثر قبوله ورضوانه حتى انفصل عن الدنيا وقد ألبسكم من أثواب رضاه ما تنالون به قرة العين وعز الدارين والظفر بكلتا الحسنيين فتلك المملكة بحمد الله تعالى قد قام بها حامي ذمارها وابن خيارها ومطلع أنوارها الملك الرضي العدل الطاهر قوام الدياجي وصوام الهواجر حسنة هذا الزمان ونخبة ذلك البيت المؤسس على التقوى والرضوان فالحمد لله على أن جبر بكم صدع الإيمان وانتضى منكم سيفا مسلولا على عبدة الصلبان وأقر بكم ملك آبائكم الملوك الأعاظم وتدارك بولايتكم أمر هذا الرزء المتفاقم فإن فقدنا أعظم مفقود فقد ظفرنا بأكرم مقصود وما مات من أبقى منكم سلالة طاهرة تحيي سنن المعالي والمكارم وتعمل على شاكلة أسلافها الأكارم فتلك المملكة قد أصبحت بحمد الله ونور سعدكم في أرجائها طالع وسيف

بأسكم في أعدائها قاطع وعزمكم الأمضى لأمرها جامع مانع قد أوت منكم إلى الملجأ الأحمى واستمسكت بإيالتكم العظمى وعرفت أنكم ستبدون فيها من آثار دينكم المتين وفضلكم المبين ومعاليكم القاطعة البراهين ما يملؤها عدلا وإحسانا وتبلغ به آمالها مثنى ووحدانا فهنيئا لنا ولها أن صارت في ملككم وأن تشرفت بملككم وألقت مقاليدها إلى من يحمي حماها ويدفع عداها وليهن ذلك المقام الأعلى ما أولاه من العز المكين وما قلده من الملك الذي هو نظام الدنيا والدين وأن أعطاه راية الجهاد فتلقاها باليمين لينصر بها ملة الرسول الصادق الأمين فله الفخر بذلك على جميع السلاطين
وأما هذه البلاد الأندلسية حماها الله فهي وإن فقدت من السلطان الأعلى أبي سعيد أكرم ظهير ووقع مصابه منها بمحل كبير فقد لجأت منكم إلى من يحميها ويكف بأس أعاديها ويبتغي مرضاة خالقها فيها فملككم بحمد الله تعالى مقتبل الشباب جديد الأثواب عريق الأنساب أصيل الأحساب ومجدكم جار على أعراقه جري الجياد العراب
وإنا لما ورد علينا هذا النبأ معقبا بهذه البشرى ووفد علينا ذلك الخبر مردفا بهذه المسرة الكبرى علمنا أن الله سبحانه قد رأب ذلك الصدع بهذا الصنع الجميل وتلافى ذلك الخطب بهذا الخير الجزيل فأخذنا من مساهمتكم في الأمور النصيب الوافر ورأينا أن آمالنا منكم قد جلت عن محياها السافر وعينا للوفادة على بابكم لينوب عنا في العزاء والهناء عين الأعيان الفضلاء ووجه القواد والكرماء
ولنقتصر على هذا المقدار من كلام الرئيس ابن الجياب رحمه الله تعالى ويظهر لي أن نظمه أعلى طبقة من نثره وعلى كل حال فهو لا يتكلف نظما ولا نثرا رحمه الله تعالى ورضي عنه وعامله بمحض فضله
20 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الفقيه الكاتب البارع العلامة

النحوي اللغوي صاحب العلامة بالمغرب الشهير الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي قال في الإحاطة فيه ما ملخصه عبد المهيمن بن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي أبو محمد شيخنا الرئيس صاحب القلم الأعلى بالمغرب
من الإكليل تاج المفرق وفخر المغرب على المشرق أطلع منه نورا أضاءت له الآفاق وأثر منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق ما شئت من مجد سامي المصاعد والمراقب عزيز عن لحاق النجم الثاقب وسلف زينت سماؤه بنجوم المناقب نشأ بسبتة بلده بين علم يقيده وفخر يشيده وطهارة يلتحف مطارفها ورياسة يتفيأ وارفها وأبوه رحمه الله تعالى قطب مدارها ومقام حجها واعتمارها فسلك الوعوث من المعارف والسهول وبذ على حداثة سنه الكهول فلما تحلى من الفوائد العلمية بما تحلى واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى تنافست فيه همم الملوك الأخاير واستأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير فاستقلت بالسياسة ذراعه وأخدم الذوابل والسيوف يراعه وكان عين الملك التي بها يبصر ولسانه الذي يسهب به أو يختصر وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة وجلت به عليها الإفادة وكتب عن بعض ملوكها وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها وله في الآداب الراية الخافقة والعقود المتناسقة ومشيخته حافلة تزيد عن الإحصاء وشعره منحط عن محله من العلم والشهرة وإن كان داخلا تحت طور الإجادة فمن ذلك قوله
( تراءى سحيرا والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل )
( وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه حجول )
( بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب في السماء تجول )

( فمزق ساجي الليل منه شراره ... وخرق ستر الغيم منه نصول )
( تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام همول )
( ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول )
( وغنت على تلك الغصون حمائم ... لهن حفيف فوقها وهديل )
( إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل )
( سقى الله ربعا لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونها وطلول )
( وجاد رباه كلما ذر شارق ... من الودق هتان أجش هطول )
( وما لي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول )
( وعاذلة باتت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل )
( تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل )
( ذريني أسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقي الذكر وهو جميل )
( فإما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلا فحد المشرفي نحيل )
( وفوق أنابيب اليراعة صعدة ... تزين وفي قد القناة ذبول )
( ولولا السرى لم يجتل البدر كاملا ... ولا بات منه للسعود نزيل )
( ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول )
( ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل )
( وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا النجوم قبيل )
( من القوم أما في الندى فإنهم ... هضاب وأما في الندى فسيول )
( حووا أشرف العلياء إرثا ومكسبا ... وطابت فروع منهم وأصول )
( وما جونة هطالة ذات هيدب ... مرتها شمال حرجف وقبول )
( لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول )
( كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاشقها عند الهياج فحول )
( بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت للسنين محول )

ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... ينم عليها إذخر وجليل )
( وقد أذكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول )
( وفي مقل النوار للطل عبرة ... ترددها أجفانها وتجيل )
( بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول )
( حويت أبا عبد الإله مناقبا ... تفوت يدي من رامها وتطول )
( فغرناطة مصر وأنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل )
( فداك رجال حاولوا درك العلا ... ببخل وهل نال العلاء بخيل )
( تخيرك المولى وزيرا وناصحا ... فكان له مما أراد حصول )
( وألقى مقاليد الأمور مفوضا ... إليك فلم يعدم يمينك سول )
( وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل )
( وساس الرعايا منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل )
( وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل )
( تهيم بها العلياء حتى كأنها ... بثينته في الحب وهو جميل )
( له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول )
( سرى ذكره في الخافقين فأصبحت ... إليه قلوب العالمين تميل )
( وأعدى قريضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول )
( إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء النجاء ذلول )
( فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل )
( تسددني سهما لكل ثنية ... ضوامر أشباه القسي نحول )
( وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول )
( فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول )
( وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان ذحول )
( وتهوى العلا حظي وتغري بضده ... لذاك اعترته رقة ونحول )

( وتأبي لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي إن الزمان مديل )
( فكل خضوع في جنابك عزة ... وكل اعتراز قد عداك خمول )
وقال
( أبت همتي أن يراني امرؤ ... علىالدهر يوما له ذا خضوع )
( وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل الخشوع )
مولده بسبتة عام ستة وسبعين وستمائة وتوفي بتونس ثاني عشر شوال عام تسعة وأربعين وسبعمائة في الطاعون وكانت جنازته مشهورة رحمه الله تعالى انتهى
وحكى أن السلطان أبا الحسن المريني سب الشيخ عبد المهيمن الحضرمي بمجلس كتابه فأخذ عبد المهيمن القلم وكسره وقال هذا هو الجامع بيني وبينك ثم إن السلطان أبا الحسن ندم وأفضل عليه وخجل مما صدر منه وأحسن إليه
وكان عبد المهيمن ينطق بالكلام معربا ويرتفع نسبه إلى العلاء بن الحضرمي صاحب رسول الله وأصل سلفه من اليمن وكان جدهم الأعلى عبدون لحقه الضيم ببلده فارتحل إلى المغرب فنزل سبتة
ولعبد المهيمن الحضرمي شيوخ أجلاء كابن أبي الربيع النحوي وابن الشاط وابن مسعود وغيرهم وكان سعد وسؤدد حسن الخط رأيت خطه بإجازته لأبي عبد الله بن مرزوق وغيره وكان الهمة سريا أعطى المنصب حقه وكان لا يحتمل الضيم واحتقار العلم وكان سريع الجواب حكي أن القاضي المليلي وأبا محمد عبد المهيمن الحضرمي المذكور صاحب العلامة للسلطان أبي الحسن حضرا مجلس السلطان فجرى ذكر الفقيه ابن عبد الرزاق فقال المليلي جمع من الفنون كذا حتى وضع يده على أبي محمد عبد المهيمن وقال

مخاطبا للسلطان ويكتب لك أحسن من ذا فوضع عبد المهيمن يده على المليلي وقال نعم يا مولاي ويقضي لك أحسن من ذا
وقال ابن الخطيب القسمطيني الشهير بابن قنفذ في وفياته ما نصه وفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة توفي الشيخ الراوية المحدث الكاتب أبو محمد عبد المهيمن ابن محمد بن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد الحضرمي السبتي ومن أشياخه الأستاذ ابن أبي الربيع وابن الغماز وابن صالح الكناني وغيرهم من الأعلام انتهى
وقال غيره إن والد عبد المهيمن توفي غرة صفر سنة اثنتي عشرة وسبعمائة رحمه الله تعالى
وحكي أن الشيخ أبامحمد عبد المهيمن ذكر يوما بني العزفي فأثنى عليهم فقال له أحد الحسنيين وكان بينهم شيء إنهم كانوا لا يحبون أهل البيت فكيف حبك أنت لهم يعني لأهل البيت فقال أحبهم حب التشرع لا حب التشيع انتهى
قيل يعني بالعزفيين أهل الدولة الثانية وأما أهل الأولى فكانوا من المختصين بمحبة الآل وهم أحدثوا بالمغرب تعظم ليلة الميلاد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام
ومن أغرب ما وقع للرئيس عبد المهيمن الحضرمي من التشبيه قوله
( لقد راقني مرأى سجلماسة الذي ... يقر له في حسنه كل منصف )
( كأن رؤوس النخل في عرصاتها ... فواتح سورات بآخر مصحف )
وهذا من التشبيه العقيم لم يسبق إليه فيما أظن وكان سبب قوله ذلك أن السلطان أمير المسلمين أبا الحسن المريني لما تحرك لقتال أخيه السلطان أبي علي عمر بسجلماسة فظفر به استمطر أنواء أفكار الكتاب وغيرهم في تشبيه النخل فقال عبد المهيمن ما مر فلم يترك مقالا لقائل
وقد أنشد الحافظ ابن مرزوق الحفيد قال أنشدني شيخنا ولي الدين الرئيس

أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي لشيخه الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي السبتي رحمه الله تعالى قوله
( يجفى الفقير ويغشى الناس قاطبة ... باب الغني كذا حكم المقادير )
( وإنما الناس أمثال الفراش فهم ... يلفون حيث مصابيح الدنانير )
قلت ورأيت هذين البيتين في كتاب روح الشحر وروح الشعر للعالم الكاتب ابن الجلاب منسوبين لأبي المتوكل الهيثم بن أحمد السكوني الإشبيلي قال أنشدني أبو الحجاج الحافظ قال أنشدني الهيثم فذكر البيتين وكان تاريخ وفاته قبل أن يخلق عبد المهيمن فتعين أن البيتين ليسا من نظمه وإنما تمثل بهما ونسبتهما له وهم لا محالة والله أعلم
وأما ما اشتهر على الألسنة بالمغرب من أن أبا حيان مدح عبد المهيمن بقوله
( ليس في الغرب عالم ... مثل عبد المهيمن )
( نحن في العلم أسوة ... أنا منه وهو مني )
فقد نسبه ابن غازي إلى ابن حيان كما اشتهر لكن تاريخ مرور أبي حيان بالمغرب كان قبل ظهور عبد المهيمن بلا خفاء وهو عندي محمول على أحد أمرين أن المراد عبد المهيمن جد عبد المهيمن المذكور أو أن أبا حيان كتب بالبيتين من مصر بعدما ظهر عبد المهيمن وصارت له الرياسة بالمغرب إذ أبو حيان عاش إلى ذلك الزمان بلا ريب ولذا لما ذكر لسان الدين ابن الخطيب في كتابه الكتيبة الكامنة في أنباء أهل المائة الثامنة الشيخ أبا حيان قال وهذا الرجل طالت حياته حتى أجاز ولدي
ولعبد المهيمن المذكور أخبار غير ما قدمناه منع منها الاختصار وقد ألف الخطيب ابن مرزوق باسم ولد فهرسته المشهورة وحلاه في صدرها أحسن

حلية وهو أهل لذلك وقد ذكره مولاي الجد في شيوخه كما تقدم وقال فيه إنه إمام الحديث والعربية وكاتب الدولة العثمانية والعلوية فليراجع ذلك فيما سبق في ترجمة الجد
وأبو سعيد ابن عبد المهيمن كان عالي الهمة كآبائه ولما بويع السلطان أبو عنان طلب منه أن يكون مرتسما في جملة كتاب بابه فامتنع وقال لا أكون تحت حكم غيري وعنى بذلك أن أباه كان رئيس الكتاب فكيف يكون هو مرؤوسا بغيره فلم ترض همته رحمه الله تعالى إلا برتبة أبيه أو الترك وارتحل أبو سعيد محمد المذكور وكان فقيها عالما من فاس لسبتة إلى أن توفي بها سنة 787 وكان قليل الكلام جميل الرواء حسن الهيئة والبزة والشكل روى عن والده وعن الحجار وكتب له سنة 724 وروى عن الفقيه أبي الحسن ابن سليمان والرحالة ابن جابر الوادي آشي وابن رشيد وغيرهم
وابن أبي سعيد هذا اسمه عبد المهيمن كجده وكان صاحب القلم الأعلى روى عن أبيه وجده وغيرهما رحم الله الجميع
21 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الإمام العلامة قاضي الجماعة أبو البركات ابن الحاج البلفيقي نادرة الزمان وشاعر ذلك الأوان وهو محمد ابن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن الشيخ الولي أبي إسحاق ابن الحاج البلفيقي وكان أبو البركات أحد رجال الكمال علما ومجدا وسؤددا موروثا ومكتسبا وقد عرف به في الإحاطة بترجمة مد فيها النفس وكتب ابنه على أول الترجمة ما صورته
رحمك الله تعالى يا فقيه الأندلس وحسيبها وصدرها وشيخها وبرد ضريحك فلله ما أفدت من نادرة واكتسبت من فائدة انتهى

وحكى في الإحاطة أنه لما استسقى وحصلت الإجابة أنشده لسان الدين
( ظمئت إلى السقيا الأباطح والربى ... حتى دعونا العام عاما مجدبا )
( والغيث مسدول الحجاب وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدبا )
ثم ذكر في الإحاطة تأليف أبي البركات وشعره إلى أن قال حاكيا عن أبي البركات ما صورته ومما نظمته وقد أكثروا من التعجب لملازمتي البناء وحفر الآبار
( في احتفار الأساس والآبار ... وانتقال التراب والجيار )
( وقعودي ما بين رمل وآجر ... وجص والطوب والأحجار )
( وامتهاني بردي بالطين والماء ... ورأسي ولحيتي بالغبار )
( نشوة لم تمر قط على قلب ... خليع وما لها من خمار )
( من غريب البناء أن بنيه ... متعبون يهوون طول النهار )
( يبتغون الوصال من صانعيه ... والبدار إليه كل البدار )
( فإذا حل في ذراهم تراهم ... يشتهون منه بعيد المزار )
( من عذيري من لائم في بنائي ... وهو لي الترجمان عن أخباري )
( ليس يدري معناه من ليس يدري ... أن ما عنده على مقدار )
( أقتدي بالذي يقول بناها ... ذلك الخالق الحكيم الباري )
( وبمن يرفع القواعد من بيت ... عتيق للحج والزوار )
( وبمن كان ذا جدار وقد كان ... أبوه من صالحي الأبرار )
( وبما قد أقامه الخضر المخصوص ... علما بباطن الأسرار )

( كان تحت الجدار كنز وما أدراك ... ما كان تحت كنز الجدار )
( وبمن قد مضى من آبائي الغر ... الألى شيدوا رفيع المنار )
( فالذي قد بنوه نبني له مثلا ... ونجري له على مضمار )
( قد بنينا من المساجد دهرا ... ثم نبني لجارها خير جار )
( مثلما قد بنيت للمجد أمثال ... مبانيهم بكل اعتبار )
( فالمباني لسان حالي ولي فيها ... لعمري ذكر من الأذكار )
( روح أعمالنا المقاصد لكن ... حيث تخفى تخفى مع الأعذار )
( فعسى من قضى ببنيان هذي الدار ... يقضي لنا بعقبى الدار )
ثم قال في الإحاطة بعد كلام ومن نظمه في الإنحاء على نفسه واستبعاد وجود المطالب في جنسه قال مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وسبعمائة وأنا منزو في غار ببعض جبال المرية
( زعموا أن في الجبال رجالا ... صالحين قالوا من الأبدال )
( وادعوا أن كل من ساح فيها ... فسيلقاهم على كل حال )
( فاخترقنا تلك الجبال مرارا ... بنعال طورا ودون نعال )
( ما رأينا بها خلاف الأفاعي ... وشبا عقرب كمثل النبال )
( وسباع يجرون بالليل عدوا ... لا تسلني عنهم بتلك الليالي )
( ولو أنا كنا لدى العدوة الأخرى ... رأينا نواجذ الرئبال )
( وإذا أظلم الدجى جاء إبليس ... إلينا يزور طيف خيال )
( هو كان الأنيس فيها ولولاه ... أصيبت عقولنا بالخيال )
( خل عنك المحال يا من تعنى ... ليس يلقى الرجال غير الرجال )
وجمع شعره وسماه العذب والأجاج من كلام أبي البركات ابن الحاج

وسمى أبو القاسم الشريف ما استخرجه منه باللؤلؤ والمرجان من بحر أبي البركات ابن الحاج يستخرجان
ومن نظم الشيخ أبي البركات ابن الحاج قوله رحمه الله تعالى
( ألا ليت شعري لما أنا أرتجي ... من الله في يوم الجزاء بلاغ )
( وكيف لمثلي أن ينال وسيلة ... لها عن سبيل الصالحين مراغ )
( وكم رمت دهري فتح باب عبادة ... يكون بها في الفائزين مساغ )
( فكدت ولم أفعل وكيف وليس لي ... المعينان فيها صحة وفراغ )
( لأصبحت من قوم دعاهم إلى الرضى ... منادى الهدى فاستنكروه فراغوا )
( أباغ ترى أخراه من يزدهيه من ... زخارف دنياه الدنية باغ )
( ويضرب صفحا عن حقيقة ما طوت ... فيلهيه زور قد أتته مصاغ )
( إذا ما بدا للرشد نهج بيانه ... يراع به عن وحشة فيراغ )
( فيا رب برد العفو هب لي إذا غلت ... من الحر في يوم الحساب دماغ )
( فمن حرق للنفس فيه لواعج ... ومن خجل للوجد فيه صباغ )
( وعظتك نفسي لو أنبت وفي الذي ... وعظت به لو ترعوين بلاغ )
وأنشد القاضي أبو البركات في هذا الروي قول شيخه الأستاذ أبي علي ابن سليمان القرطبي
( ألا هل إلى ما أرتضيه بلاغ ... وكيف يرى يوما إليه فراغ )
( وقد قطعت دوني قواطع جمة ... أراع لها مهما جرت وأراغ )
( وما لي إلا عفو رب وفضله ... ففيه إلى ما أرتجيه بلاغ )
وكان القاضي أبو البركات من بيت كبير علما وصلاحا وزهدا وجده الإمام الولي العارف سيدي أبو إسحاق ابن الحاج أشهر من نار على علم وقبره مشهور بمراكش وقد زرته بها وله كرامات مشهورة

وحكى في مزية المرية من كراماته جملة قال حفيده الشيخ أبو البركات دخلت على الشيخ الصالح العابد المجتهد الحاج أبي عبد الله محمد بن علي البكري المعروف بابن الحاج في منزله بالمرية عائدا قال أظنه في مرضه الذي مات فيه فقال حين سألته عن حاله ادع لي فقلت له يا سيدي بل أنت تدعو لي فقال لي شرح الله صدرك ونور قلبك بنور معرفته فمن عرف الله لم يذكر غيره فقد حكى سيدي أبو جعفر ابن مكنون عن جدك قال كنت مع سيدي أبي إسحاق ابن الحاج بمراكش فقال لي هل ترى في المنام شيئا فقلت نعم أرى كأني في المرية أمشي من الدار إلى المسجد ومن كذا إلى كذا فأعرض عني وقال ألا ترى إلا الله قال ثم مر به في أثناء كلامه ابنه محمد فقال لي رأيت هذا والله ما أدري أن لي ابنا حتى يمر بي ولا أذكره إذا غاب عني ولا أرى إلا الله انتهى
ومن تآليف أبي البركات رحمه الله تعالى كتاب ذكر فيه أخبار سلفه رضي الله عنهم وذكر جملة من كرامات جدي سيدي أبي إسحاق المذكور نفعنا الله به
ومن شعر جده المذكور قوله
( ألا كرم الله البلاد بخطبة ... هم حسنات الدهر لا نابهم خطب )
( رعايتهم فرض على كل مسلم ... وحبهم حقا قد أوجبه الرب )
( إذا ما سألت الله شيئا فسل بهم ... فتعظيمهم قرب وغيبتهم حرب )
وقوله
( شكا فشكا قلبي خبالا مبرحا ... على غير علم كان مني بشكواه )
( وما التقت الأسرار إلا بجامع ... من النعت سلطان الحقيقة سواه )

( فيا فرحة المجهود إن بات سره ... وسر الذي يهواه مأواه مأواه )
( ومن أجله قد كان بالبعد راضيا ... فكيف ترى معناه والقلب مثواه )
( بدا فبدت أعلام ضدين في الهوى ... هما عجب لولا الدليل وفحواه )
( برؤيته فارقت موتي لبعده ... ومت بها من أجل علمي ببلواه )
( فها أنا حي ميت بلقائه ... ولم ينج من لم يسعد الفهم نجواه )
( إذا لم تكن أنت الحبيب بعينه ... رضى وعتابا ضل من قال يهواه )
( وأكذب ما يلفى الفتى وهو صادق ... إذا لم يحقق بالأفاعيل دعواه )
وقوله رضي الله تعالى عنه
( الحب في الله نور يستضاء به ... والهجر في ذاته نور على نور )
( جنب أخا حدث في الدين ذا غير ... إن المغير في نكس وتغيير )
( حاشا الديانة أن تبنى على خبل ... سبحان خالقنا من قول مثبور )
( إن الحقائق لا تبدو لمبتدع ... كذا المعارف لا تهدى لمغرور )
( تالله لو أبصرت عيناه أو ظفرت ... يمناه ما ظل في ظن وتقدير )
( حقق ترى عجبا إن كنت ذا أدب ... ولا يغرنك الجهال بالزور )
( إن الطريقة في التنزيل واضحة ... وما تواتر من وحي ومشهور )
( فافهم هديت هدى الرحمن واهد به ... هدى يفيدك يوم النفخ في الصور )
وقوله صدر رسالة وجه بها إلى ابنه محمد أيام قراءته بإشبيلية )
( إذا شئت أن تحظى بوصلي وقربتي ... فجنب قرين السوء واصرم حباله )
( وسابق إلى الخيرات واسلك سبيلها ... وحصل علوم الدين واعرف رجاله )
وكان رحمه الله تعالى كثيرا ما يتمثل ببيتي مهيار الديلمي وهما
( ومن عجب أني أحن إليهم ... وأسأل شوقا عنهم وهم معي )

( وتبكيهم عيني وهم في سوادها ... ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي )
وحدث القاضي أبو البركات حفيده عن ابن خميس التلمساني المتقدم الذكر قال سمعت بعض الأشياخ يقول كان الشيخ أبو إسحاق البلفيقي الكبير يقول اجتمع لنا في الله أربعون ألف صاحب
وحكى الشيخ أبو البركات المذكور عن الشيخ الصالح الحاج الصوفي أبي الأصبغ ابن عزرة قال هذه صلاة على النبي أخذتها عن رابك الشيخ الصالح الحاج ابي عبد الله محمد بن علي بن الحاج مشافهة وقال لي إنها صلاة أبي إسحاق ابن الحاج جدك وهي اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة دائمة مستمرة تدوم بدوامك وتبقى ببقائك وتخلد بخلودك ولا غاية لها دون مرضاتك ولا جزاء لقائلها ومصليها غير جنتك والنظر إلى وجهك الكريم
ونقل أبو البركات المذكور عن جده أنه كان يستفتح مجلسه بالمرية بهذا الدعاء اللهم اجعلنا في عياذ منك منيع وحصن حصين وولاية جميلة حتى تبلغنا آجالنا مستورين محفوظين مبشرين برضوانك يوم لقائك قال وفي وسط الدعاء وآخره واكفنا عدونا إبليس وأعداءنا من الجن والإنس بعافيتنا وسلامتنا
وكان الشيخ رضي الله عنه يواصل أربعين يوما ومن مآثره أنه بنى ثمانية عشر جبا في مواضع متفرقة ونحو عشرين مسجدا وبنى أكثر سور حصن بلفيق كل ذلك من ماله
وقال رضي الله عنه في بعض رسائله الصوفي عبارة عن رجل عدل تقي صالح زاهد غير منتسب لسبب من الأسباب ولا مخل بأدب من الآداب قد عرف شأنه وزمانه وملكت مكارم الأخلاق عنانه لا ينتصر لنفسه ولا يتفكر في غده وأمسه العلم خليله والقرآن دليله والحق حفيظه ووكيله

نظره إلى الخلق بالرحمة ونظره إلى نفسه بالحذر والتهمة انتهى
وأحوال هذا الشيخ عجيبة وكراماته شهيرة وإنما ذكرنا هذا النزر اليسير تبركا بذكره رضي الله عنه في هذا الكتاب وتطفلا على رب الأرباب أن ينفعنا بأمثاله ويحقق لنا النجاة والمتاب إنه على ذلك قدير
رجع إلى أخبار أبي البركات ولما وقع بينه وبين ابن صفوان ما يقع بين المتعاصرين رد عليه ابن صفوان فانتصر لأبي البركات بعض طلبته بتأليف سماه شواظ من نار ونحاس يرسل على من لم يعرف قدره وقدر غيره من الناس وهو قدر رسالة الشيخ أو أطول وألفي على ظهره بخط الشيخ أبي البركات ما صورته
( قد شبع الكلب كما ينبغي ... من حجر صلد ومن مقرع )
( فإن يعد من بعد ذا للذي ... قد كان منه فهو ممن نعي )
ومن بديع نظم الشيخ أبي البركات رحمه الله تعالى قوله
( يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي له لا يفند )
( يقولون أمسك عنه قد ذهب الصبا ... وكيف أرى الإمساك والخيط أسود )
وقوله في المجبنات
( ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن والمصفر يؤذن بالخوف )
( لها بهجة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في الجوف )
وفي هذين البيتين تورية متعددة
وحدث القاضي أبو البركات أنه لما أراد الانصراف عن سبتة قال له السيد الشريف أبو العباس رحمه الله متى عزمت على الرحيل فأنشد أبو البركات

( أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا )
فأنشد الشريف رحمه الله تعالى
( لا مرحبا بغد ولا أهلا به ... إن كان تفريق الأحبة في غد )
وحكي أن السيد أبا العباس الشريف المذكور ساير القاضي أبا البركات في بعض أسفاره زمن الشباب ببر الأندلس أعاده الله تعالى فلما انتهيا إلى قرية ترليانة وأدركهما النصب واشتد عليهما حر الهجير نزلا وأكلا من باكر التين الذي هناك وشربا من ذلك الماء العذب واستلقى أبو البركات على ظهره تحت شجرة مستظلا بظلها ثم التفت إلى السيد أبي العباس وقال
( ماذا تقول فدتك النفس في حالي ... يفنى زماني في حل وترحال )
وأرتج عليه فقال لأبي العباس أجز فقال بديها
( كذا النفوس اللواتي العز يصحبها ... لا ترتضي بمقام دون آمال )
( دعها تسر في الفيافي والقفار إلى ... أن تبلغ السؤل أو موتا بتجوال )
( الموت أهون من عيش لدى زمن ... يعلي اللئيم ويدني الأشرف العالي )
ولما أوقع الشيخ أبو البركات على زوجه الحرة العربية أم العباس عائشة بنت الوزير المرحوم أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني ثم المغيلي طلقة كتب نسختها بما نصه بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وعلى آل محمد يقول عبد الله الراجي رحمته محمد المدعو بأبي البركات ابن الحاج خار الله له ولطف به إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة وغرائز شتى ففيهم السخي والبخيل والشجاع والجبان والغبي والفطن والكيس والعاجز والمسامح والمناقش والمتكبر والمتواضع إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق كانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين إما بالاشتراك في الصفات أو في

بعضها وإما بصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه وتوسعة عليهم وإحسانا منه إليهم فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبد الله محمد المذكور زوجه الحرة العربية المصونة عائشة ابنة الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي طلقة واحدة ملكت بها أمر نفسها دونه عارفا قدره قصد بذلك إراحتها من عشرته طالبا من الله أن يغني كلا من سعته مشهدا بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام أحد وخمسين وسبعمائة انتهى
ومن نوادره رحمه الله تعالى أنه لما استناب بعض قضاة المرية الفقيه أبا جعفر المعروف بالقرعة في القضاء بخارج المرية من عمله فاتفق أن جاء بعض الجنانين بفحص المرية يشتكي من جائحة أو أذاية أصابت جنانه ففسدت غلته لذلك فأخذ ذلك الجنان قرعة وأشار إليها متشكيا وقال هذه القرعة تشهد بما أصاب جناني فقال الشيخ أبو البركات عند ذلك غريبتان في عام واحد القرعة تقضي والقرعة تشهد
وكان له رحمه الله تعالى من هذا النمط كثير
وقال رحمه الله تعالى نظمت صبيحة يوم السبت السابع والعشرين لرجب عام خمسة وأربعين وسبعمائة وقد رأيت في النوم كأني أريد إتيان امرأة لا تحل لي فيأتي رقيب فيحول بيني وبين ذلك المرة بعد المرة قولي
( ألا كرم الله الرقيب فإنه ... كفاني أمورا لا يحل ارتكابها )
( وبالغ في سد الذريعة فاغتدى ... يلاحظني نوما ليغلق بابها )
وقال رحمه الله أنشدني شيخي أبو عبد الله ابن رشيد عند قراءتي عليه

شرحه لقوافي أبي الحسن حازم وقد باحثته يوما مناقشة في بعض ألفاظه من الشرح المذكور
( تسامح ولا تستوف حقك كله ... وأغض فلم تستوف قط كريم )
ومن نظم الشيخ أبي البركات قوله
( ألا خل دمع العين يهمي بمقلتي ... لفرقة عين الدمع وقف على الدم )
( فللماء فيه رنة شجنية ... كرنة مسلوب الفؤاد متيم )
( وللطير فيه نغمة موصلية ... تذكرني عهد الصبا المتقدم )
( وللحسن أقمار به يوسفية ... ترد إلى دين الهوى كل مسلم )
وله رحمه الله تعالى
( ما كل من شد على رأسه ... عمامة يحظى بسمت الوقار )
( ما قيمة المرء بأثوابه ... السر في السكان لا في الديار )
وله سامحه الله تعالى
( إذا ما كتمت السر عمن أوده ... توهم أن الود غير حقيقي )
( ولم أخف عنه السر من ضنة به ... ولكنني أخشى صديق صديقي )
وله وقد جلس في حلقة بعض المشايخ واستدبر بعض الفضلاء ولم يره بسبتة
( إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها )
( لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها )
ومما يعجبه رحمه الله من قوله قال في الإحاطة ويحق أن يعجبه
( تطالبني بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان فتقبل )

( عجبت لخصم لج في طلباته ... يصالح عنها بالمحال فيفصل )
ومما أورد له في الإحاطة وذكر أنه لو رحل راحل إلى خراسان لما أتى إلا بهما
( رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقاء على العهد )
( فلو قد وفوا كنا أسارى حقوقهم ... نراوح ما بين النسيئة والنقد )
وقد تمثل أبو البركات في مخاطبة له للسان الدين بقول القائل
( أيتها إليه اذهبي ... فحبه المشهور من مذهبي )
( أيأسني التوبة من حبه ... طلوعه شمسا من المغرب )
وحكى غير واحد منهم ابن داود البلوي أن القاضي أبا البركات لما عزم على الرحلة إلى المشرق كتب إليه ابن خاتمة بما صورته
( أشمس الغرب حقا ما سمعنا ... بأنك قد سئمت من الإقامة )
( وأنك قد عزمت على طلوع ... إلى شرق سموت به علامه )
( لقد زلزلت منا كل قلب ... بحق الله لا تقم القيامة )
قال الحاكي فحلف أبو البركات أن لا يرحل من إقليم فيه من يقول مثل هذا انتهى يشير بقوله لقد زلزلت إلخ إلى طلوع الشمس من مغربها
قلت ولما عزمت على هذا الرحلة كتب إلي بعض أصحابنا المغاربة بالأبيات المذكورة متمثلا ولم أرجع عن العزم والله غالب على أمره
قال الوزير لسان الدين رحمه الله تعالى وما أحسن قول شيخنا أبي البركات معتذرا عن زرقة عينيه
( حزنت عليك العين يا مغني الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك ما رقا )

( ولذاك ما ظهرت بلون أزرق ... أوما ترى ثوب المآثم أزرقا ) قال رحمه الله تعالى وهو من الغريب
وقال بعض الشيوخ كنت أقرأ على الشيخ أبي البركات التفسير فنسيت ذات ليلة السفر الذي كنت أقرأ فيه بمنزلي فاتفق أن أحضر الجامع الصحيح للبخاري فقال الشيخ بعد أن أردت القراءة عليه من أوله افتح في أثناء الأوراق ولا تعين وما خرج لك من ترجمة لجهة اليمين فاقرأها ففعلت فإذا غزوة أحد فقرأت الحديث الأول من الباب وهو عن عقبة بن عامر قال إن رسول الله صلى على قتلى أحد بعد ثماني سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال إني بين أيديكم فرط وأنا شهيد عليكم وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قال فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله فقال الشيخ قوله صلى على قتلى أحد لفظ الصلاة يطلق لغة على الدعاء وشرعا على الأفعال المخصوصة المعلومة وإذا دار اللفظ بين الشرعي واللغوي فحمله على الشرعي أولى حتى يدل الدليل على خلافه فقوله صلى على قتلى أحد يحتمل الصلاة الشرعية ويكون ذلك منسوخا إذ قد تقرر أنه لا يصلى على شهيد المعترك ولا على من قد صلي عليه ولمن يعارضه أن يقول إن قتلى أحد متفرقون في أماكن فلا تتأتى الصلاة الشرعية عليهم إذ الصلاة الشرعية إنما تتأتى لو كانوا مجتمعين والجواب أنهم وإن كانوا متفرقين تجمعهم جهة واحدة وليس بعد ما بينهم بحيث لا تتأتى معه الصلاة عليهم هذا وإن احتمل حمله على الصلاة اللغوية وقوله كالمودع للأحياء والأموات أما وداعه للأحياء فلا إشكال فيه وأما الأموات فمعنى وداعه لهم وداع الدعاء لهم لأنه إذا مات فقد حيل بينه وبين

الدعاء لهم فلاجرم يودعهم بالدعاء لهم قبل أن يحال بينه وبين ذلك وقوله إني بين أيديكم أي أتقدم قبلكم وقوله بين أيديكم فرط أي متقدم وبين إذا أضيفت إلى الأيدي تستعمل فيما قبل زمانك وفيما بعده والمعنى هنا في قوله بين أيديكم أي أتقدم قبلكم وقوله وأنا شهيد عليكم فيه وجهان أحدهما أن يخلق الله في قلبه علما ضروريا يميز به بين البر والفاجر فيشهد بما خلق الله في قلبه من ذلك إذ لا تكون الشهادة إلا على أمر مشاهد ومعلوم أنه لم يشاهد مافعل بعده من أمته فيخلق الله له علما بذلك الوجه الثاني أن يخبره الله تعالى بذلك كما في حديث الحوض ليذادن عنه أقوام كما يذاد البعير الضال فأقول ألا هلم ألا هلم فيقال إنهم قد غيروا بعدك فأقول فسحقا فسحقا فسحقا فشهد بما أخبره الله تعالى به وهو نظير ما روي في تفسير قوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) البقرة 143 من ان قوم نوح يقولون كيف تشهدون علينا وزمانكم متأخر عن زماننا فيقولون لأن الله تعالى قص علينا اخباركم في كتابه فقال ( إنا أرسلنا نوحا إلى قومه - إلى آخره ) نوح 1 وقوله الله عليه وسلم وإن موعدكم الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا نظره صلى الله عليه و سلم الحوض فيه وجهان أحدهما أن يكون نظره إليه بقلبه إذ كان قد أطلعه الله عليه ليلة الإسراء فصار مرتسما في قلبه فيكون نظره إليه بعين قلبه كما يرتسم في قلب أحدنا شكل بيته وما فيه من المتاع والثياب وغير ذلك الثاني أن يكون الله تعالى قد كشف له عنه فيكون نظره إليه بعينه مشاهدة وقوله وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا إن قيل كيف قال ذلك وقد ارتد عن الإسلام من ارتد من العرب بعده فالجواب أنه إنما خاطب بذلك من لم يشرك من أصحابه ومن بعدهم من التابعين وغيرهم من أمته ولم يراع رعاع العرب

وجهالهم إذ لا اعتبار بهم لاحتقارهم وقوله عليه الصلاة و السلام ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها قد وقع ما خشي منه عليه الصلاة و السلام من المنافسة في الدنيا فكان كما ذكر انتهى
وحدث الشيخ أبو البركات قال كنت ببجاية بمجلس الإمام ناصر الدين المشدالي أيام قراءتي عليه وقد أفاض طلبة مجلسه بين يديه هل الملائكة أفضل أم الأنبياء فقلت الدليل لأن الملائكة أفضل أن الله أمرهم بالسجود لآدم قال فجعل الطلبة ينظر بعضهم إلى بعض حتى قال لي بعضهم استند يا سيدنا كأنه يقول إلى حائط ليزول هوس رأسك وكانت عبارتهم في ذلك وكل منهم يقول نحو ذلك إزراء وقال لي الإمام ناصر الدين أبصر فإنهم يقولون لك الحق وكانت لغته أن يقول أبصر قال فقلت أتقولون إن أمر الله للملائكة بالسجود لآدم أمر ابتلاء واختبار قالوا نعم قلت أفيختبر العبد بتقبيل يد سيده ليرى تواضعه قالوا لا فإن ذلك من شأن العبد دون أن يؤمر بل السيد يختبر تواضعه بأن يؤمر بالسجود للعبد قلت فكذا الملائكة لو أمرت بالسجود لأفضل منها لكان بمنزلة أمر العبد بالسجود لسيده قال فكأنما ألقمتهم حجرا
قال الشيخ أبو البركات وهذه كحكاية أبي بكر ابن الطيب مع بعض رؤساء المعتزلة وذلك أنه اجتمع معه في مجلس الخليفة فناظره في مسألة رؤية الباري فقال له رئيسهم ما الدليل أيها القاضي على جواز رؤية الله تعالى قال قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) فنظر بعض المعتزلة إلى بعض وقالوا جن القاضي وذلك أن هذه الآية هي معظم ما احتجوا به على مذهبهم وهو ساكت ثم قال لهم أتقولون إن من لسان العرب الحائط لا يبصر قالوا لا قال أتقولون إن من لسان العرب لا يأكل قالوا لا قال فلا يصح إذا نفي الصفة إلا عما من شأنه صحة إثباتها له قالوا نعم قال فكذلك قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) لولا جواز إدراك الأبصار له لم يصح نفيه عنه

فأذعنوا لما قال واستحسنوه
وقال الشيخ أبو البركات كنت ببجاية وقدم علينا رجل من فاس برسم الحج يعرف بابن الحداد فركب الناس في الأخذ عنه والرواية لما يحمله كل صعب وذلول مع أنه لم تكن منزلته هناك في العلم فعجبت لذلك حتى قلت لبعض الطلبة لقد أخذتموه بكلتا اليدين ولم أركم مع من هو أعلى قدرا منه كذلك فقالوا لي لأنه قدم علينا ونحن لا نعرفه وهو في زي حسن بخادم يخدمه يظن من يراه أن أباه من أعيان أهل بلده فسألناه أحي أبوه أم لا قال بل حي قلنا أهو من أهل العلم قال لا هو دلال في سوق الخدم فلذلك آثرناه على من هو فوقه في العلم قال فقلت لهم حق له أن ترتفع منزلته ويعلو صيته لتخلقه وفضله
وفوائد أبي البركات كثيرة
ومن تواليفه المؤتمن على أنباء أبناء الزمن كتاب مفيد جدا وهو رضي الله عنه من ذرية العباس بن مرداس السلمي صاحب رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وقال الشيخ أبو البركات ذكر لي أن الفقيه الكاتب أبا الحسن ابن الجياب يحدث عني ولا أذكر الآن أني قلت ذلك ولكنني لما سمعته علمت أنه مما من شأني أن أقوله وهو أني قلت مثل العالم مثل رجل يصب ماء في قفة واضب على صب الماء بقيت القفة ملأى وإن ترك صب الماء بقيت القفة لا شيء فيها من فكذلك العالم إن واظب على طلب العلم بقي العلم لم ينقص منه شيء وإن ترك الطلب ذهب علمه انتهى
ونقلت ممن رأى كلام ابن الصباغ في ترجمة أبي البركات ما نصه لما ورد مدينة فاس في غرض الهناء والعزاء على أمير المسلمين أبي بكر السعيد ابن أمير المؤمنين أبي عنان وأبصر الدار غاصة بأرباب الدولة الفاسية ولم يعدم منها عدا شخصه والولد على أريكة أبيه أنشد

( لما تبدلت المجالس أوجها ... غير الذين عهدت من جلسائها )
( ورأيتها محفوفة بسوى الألى ... كانوا حماة صدورها وبنائها )
( أنشدت بيتا سائرا متقدما ... والعين قد شرقت بجاري مائها )
( أما القباب فإنها كقبابهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها )
وأظن أنه تمثل بالأبيات في سره وإلا فيبعد أن يقولها في ذلك الحفل لما في ذلك من التعرض للهلك والله سبحانه أعلم
وحكى بعضهم انه كان جالسا في دهليز بيته مع بعض الأصحاب فدخلت زوجته من الحمام وهي بغير سراويل لقرب الحمام من البيت فانكشف ساقها فدخل خلفها مسرعا وغاب ساعة ثم خرج وأنشد
( كشفت على ساق لها فرأيته ... متلألئا كالجوهر البراق )
( لا تعجبوا إن قام منه قيامتي ... إن القيامة يوم كشف الساق )
وله في خديم اسمه يحيى احتجم محجمة واحدة
( أراني يحيى صنعة في قفائه ... مهذبة لما تبادر للباب )
( أرى الخمس فيها لا تفارق ساعة ... فصور بالموسى بها شكل محراب )
وتوفي الشيخ القاضي أبو البركات المذكور بشوال سنة 771 رحمه الله تعالى
22 - ومن أشياخ لسان الدين رحمه الله تعالى الشيخ الحكيم العلامة التعاليمي الشاعر البليغ أعجوبة زمانه في الإطلاع على علوم الأوائل أبو زكريا يحيى بن هذيل وقد قال في الإحاطة في حقه ما ملخصه يحيى

ابن احمد بن هذيل التجيبي أبو زكريا شيخنا جرى ذكره في التاج المحلى بما نصه درة بين الناس مغفلة وخزانة على كل فائدة مقفلة وهدية من الدهر الضنين لبنيه محتفلة أبدع من رتب التعاليم وعلمها وركض في الألواح قلمها وأتقن من صور الهيئة ومثلها وأسس قواعد البراهين وأثلها وأعرف من زاول شكاية ودفع عن جسم نكاية إلى غير ذلك من المشاركة في العلوم والوصول من المجهول إلى المعلوم والمحاضرة المستفزة للحلوم والدعابة التي ما خالع العذار فيها بالملوم فما شئت من نفس عذبة الشيم وأخلاق كالزهر من بعد الديم ومحاضرة تتحف المجالس والمحاضر ومذاكرة يروق النواظر زهرها الناضر وله أدب ذهب في الإجادة كل مذهب وارتدى من البلاغة بكل رداء مذهب والأدب نقطة من حوضه وزهرة من زهرات روضه وسيمر له في هذا الديوان ما يبهر العقول ويحاسن بروائه ورائق بهائه الفرند المصقول فمن ذلك ما خرجته من ديوانه المسمى بالسليمانيات والعزفيات قوله
( ألا استودع الرحمن بدرا مكملا ... بفاس من الدرب الطويل مطالعه )
( ففي فلك الأزرار يطلع سعده ... وفي أفق الأكباد تلفى مواقعه )
( يصير مرآه منجم مقلتي ... فتصدق في قطع الرجاء قواطعه )
( تجسم من ماء الملاحة خده ... وماء الحيا فيه ترجرج مائعه )
( تلون كالحرباء في خلجاته ... فيحمر قانيه ويبيض ناصعه )
( إذا اهتز غنى حليه فوق نحره ... كغصن النقا غنت عليه سواجعه )
( يؤكد حتف الصب عامل قدره ... وتعطف من واو العذار توابعه )

( أعد الورى سيفا كسيف لحاظه ... فهذا هو الماضي وذاك مضارعه )
وقال
( وصالك هذا أم تحية بارق ... وهجرك أم ليل السليم لتائق )
( أناديك والأشواق تركض جمرها ... بصفحة خدي من دموع سوابق )
( أبارق ثغر من عذيب رضابه ... قضت مهجتي بين العذيب وبارق )
ومنها
( فلا تتعبن ريح الصبا في رسالة ... ولا تخجل الطيف الذي كان طارقي )
( متى طعمت عيني الكرى بعد بعدكم ... فإني في دعوى الهوى غير صادق )
وقال
( بدا بدر تم فوقه الليل عسعسا ... وجنة أنس في صباح تنفسا )
( حوى النجم قرطا والدراري مقلدا ... وأسبل من مسك الذوائب حندسا )
( كأن سنا الإصباح رام يزورنا ... وخاف العيون الرامقات فغلسا )
( أتى يحمل التوراة ظبيا مزنرا ... لطيف التثني أشنب الثغر ألعسا )
( وقابل أحبار اليهود بوجهه ... فبارك ربي عليه وقدسا )
( فصير دمعي أعينا شرب سبطه ... وعمري تيها والجوانح مقدسا )
ومنها
( رويت ولوعي عن ضلوعي مسلسلا ... فأصبحت في علم الغرام مدرسا )
( نفى النوم عني كي أكون مسهدا ... فأصبحت في صيد الخيال مهندسا )

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24