الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَفِي أَنَّ الْمَعْدُومَ هَلْ هُوَ شَيْءٌ أَمْ لَا ؟ وَفِي وُجُودِ الْمَوْجُودَاتِ هَلْ هُوَ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهَا أَمْ لَا ؟ وَقَدْ كَثُرَ مِنْ أَئِمَّةِ النُّظَّارِ الِاضْطِرَابُ وَالتَّنَاقُضُ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ ؛ فَتَارَةً يَقُولُ أَحَدُهُمْ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَنَاقِضَيْنِ وَيَحْكِي عَنْ النَّاسِ مَقَالَاتٍ مَا قَالُوهَا ؛ وَتَارَةً يَبْقَى فِي الشَّكِّ وَالتَّحَيُّرِ وَقَدْ بَسَطْنَا مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَقَامَاتِ وَمَا وَقَعَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالْغَلَطِ وَالْحَيْرَةِ فِيهَا لِأَئِمَّةِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ مَا لَا تَتَّسِعُ لَهُ هَذِهِ الْجُمَلُ الْمُخْتَصَرَةُ وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ هُوَ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ فِي الْخَارِجِ هُوَ مَاهِيَّتُه الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ ؛ بِخِلَافِ الْمَاهِيَّةِ الَّتِي فِي الذِّهْنِ فَإِنَّهَا مُغَايِرَةٌ لِلْمَوْجُودِ فِي الْخَارِجِ ؛ وَأَنَّ لَفْظَ الذَّاتِ وَالشَّيْءِ وَالْمَاهِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا مُتَوَاطِئَةٌ فَإِذَا قِيلَ : إنَّهَا مُشَكِّكَةٌ لِتَفَاضُلِ مَعَانِيهَا فَالْمُشَكِّكُ نَوْعٌ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ الْعَامِّ الَّذِي يُرَاعَى فِيهِ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَعْنَى مُتَفَاضِلًا فِي مَوَارِدِهِ أَوْ مُتَمَاثِلًا . وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمَعْدُومَ شَيْءٌ أَيْضًا فِي الْعِلْمِ وَالذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الثُّبُوتِ وَالْوُجُودِ لَكِنَّ الْفَرْقَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْوُجُودِ الْعِلْمِيِّ وَالْعَيْنِيِّ مَعَ أَنَّ مَا فِي الْعِلْمِ لَيْسَ هُوَ الْحَقِيقَةَ الْمَوْجُودَةَ وَلَكِنْ هُوَ الْعِلْمُ التَّابِعُ لِلْعَالِمِ الْقَائِمِ بِهِ وَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِيهَا الْمَوْجُودَاتُ وَتَخْتَلِفُ : لَهَا وُجُودٌ فِي

الْأَذْهَانِ وَلَيْسَ فِي الْأَعْيَانِ إلَّا الْأَعْيَانُ الْمَوْجُودَةُ وَصِفَاتُهَا الْقَائِمَةُ بِهَا الْمُعَيَّنَةُ فَتَتَشَابَهُ بِذَلِكَ وَتَخْتَلِفُ بِهِ وَأَمَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا التَّنْبِيهُ عَلَى جُمَلٍ مُخْتَصَرَةٍ جَامِعَةٍ مَنْ فَهِمَهَا عَلِمَ قَدْرَ نَفْعِهَا وَانْفَتَحَ لَهُ بَابُ الْهُدَى وَإِمْكَانُ إغْلَاقِ بَابِ الضَّلَالِ ؛ ثُمَّ بَسْطُهَا وَشَرْحُهَا لَهُ مَقَامٌ آخَرُ ؛ إذْ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ " وَالْمَقْصُودُ " : هُنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْحُجَّةِ فِيمَا يُنْفَى عَنْ الرَّبِّ وَيُنَزَّهُ عَنْهُ - كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُصَنِّفِينَ - خَطَأٌ لِمَنْ تَدَبَّرَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ طُرُقِ النَّفْيِ الْبَاطِلَةِ .

فَصْلٌ :
وَأَفْسَدُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَسْلُكُهُ نفاة الصِّفَاتِ أَوْ بَعْضِهَا إذَا أَرَادُوا أَنْ يُنَزِّهُوهُ عَمَّا يَجِبُ تَنْزِيهُهُ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ مِثْلَ أَنْ يُرِيدُوا تَنْزِيهَهُ عَنْ الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيُرِيدُونَ الرَّدَّ عَلَى الْيَهُودِ : الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ بَكَى عَلَى الطُّوفَانِ حَتَّى رَمِدَ وَعَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ بِإِلَهِيَّةِ بَعْضِ الْبَشَرِ وَأَنَّهُ اللَّهُ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَحْتَجُّ عَلَى هَؤُلَاءِ بِنَفْيِ التَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَوْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ لَكَانَ جِسْمًا أَوْ مُتَحَيِّزًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَبِسُلُوكِهِمْ مِثْلَ هَذِهِ الطَّرِيقِ اسْتَظْهَرَ عَلَيْهِمْ هَؤُلَاءِ الْمَلَاحِدَةُ نفاة الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ فَإِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ لَا يَحْصُلُ بِهَا الْمَقْصُودُ لِوُجُوهِ :
أَحَدُهَا : أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذِهِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ أَظْهَرُ فَسَادًا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَنْ نَفْيِ التَّحَيُّزِ وَالتَّجْسِيمِ ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ وَالنِّزَاعِ وَالْخَفَاءِ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ وَكُفْرُ صَاحِبِ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَالدَّلِيلُ مُعَرِّفٌ لِلْمَدْلُولِ وَمُبَيِّنٌ لَهُ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى الْأَظْهَرِ الْأَبْيَنِ بِالْأَخْفَى كَمَا لَا يُفْعَلُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ : يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا نَحْنُ لَا نَقُولُ بِالتَّجْسِيمِ وَالتَّحَيُّزِ كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يُثْبِتُ الصِّفَاتِ وَيَنْفِي التَّجْسِيمَ فَيَصِيرُ نِزَاعُهُمْ مِثْلَ نِزَاعِ مُثْبِتَةِ الْكَلَامِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَصِيرُ كَلَامُ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَصِفَاتِ النَّقْصِ وَاحِدًا وَيَبْقَى رَدُّ الْنُّفَاةِ عَلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِطَرِيقِ وَاحِدٍ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ
الثَّالِثُ : أَنَّ هَؤُلَاءِ يَنْفُونَ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَاتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَاجِبٌ ثَابِتٌ بِالْعَقْلِ وَالسَّمْعِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ
الرَّابِعُ : أَنَّ سَالِكِي هَذِهِ الطَّرِيقَةِ مُتَنَاقِضُونَ فَكُلُّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَنْ نَفَى شَيْئًا مِنْهُمْ أَلْزَمَهُ الْآخَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ فِيهِ مِنْ النَّفْيِ . فَمُثْبِتَةُ الصِّفَاتِ - كَالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ - إذَا قَالَتْ لَهُمْ الْنُّفَاةِ كَالْمُعْتَزِلَةِ : هَذَا تَجْسِيمٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ أَعْرَاضٌ وَالْعَرَضُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْجِسْمِ أَوْ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَوْصُوفًا بِالصِّفَاتِ إلَّا جِسْمًا . قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ : وَأَنْتُمْ قَدْ قُلْتُمْ : إنَّهُ حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ . وَقُلْتُمْ : لَيْسَ بِجِسْمِ ؛ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَوْجُودًا حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إلَّا جِسْمًا فَقَدْ أَثْبَتُّمُوهُ عَلَى خِلَافِ مَا عَلِمْتُمْ فَكَذَلِكَ نَحْنُ وَقَالُوا لَهُمْ : أَنْتُمْ أَثْبَتُّمْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا ؛ بِلَا حَيَاةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا قُدْرَةٍ وَهَذَا تَنَاقُضٌ يُعْلَمُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ

ثُمَّ هَؤُلَاءِ الْمُثْبِتُونَ إذَا قَالُوا لِمَنْ أَثْبَتَ أَنَّهُ يَرْضَى وَيَغْضَبُ وَيُحِبُّ وَيُبْغِضُ أَوْ مَنْ وَصَفَهُ بِالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْإِتْيَانِ وَالْمَجِيءِ أَوْ بِالْوَجْهِ وَالْيَدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا قَالُوا : هَذَا يَقْتَضِي التَّجْسِيمَ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ مَا يُوصَفُ بِذَلِكَ إلَّا مَا هُوَ جِسْمٌ قَالَتْ لَهُمْ الْمُثْبِتَةُ : فَأَنْتُمْ قَدْ وَصَفْتُمُوهُ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ وَهَذَا هَكَذَا ؛ فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ إلَّا الْجِسْمُ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُوصَفَ بِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ بِجِسْمِ فَالْآخَرُ كَذَلِكَ ؛ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالنَّقَائِصِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ طَرِيقًا فَاسِدًا : لَمْ يَسْلُكْهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَلَمْ يَنْطِقْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ بِالْجِسْمِ لَا نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا وَلَا بِالْجَوْهَرِ وَالتَّحَيُّزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا عِبَارَاتٌ مُجْمَلَةٌ لَا تُحِقُّ حَقًّا وَلَا تُبْطِلُ بَاطِلًا وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِيمَا أَنْكَرَهُ عَلَى الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ : مَا هُوَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ ؛ بَلْ هَذَا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي أَنْكَرَهُ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا فِي طُرُقِ الْإِثْبَاتِ ، فَمَعْلُومٌ - أَيْضًا - أَنَّ الْمُثْبَتَ لَا يَكْفِي فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ إذْ لَوْ كَفَى فِي إثْبَاتِهِ مُجَرَّدُ نَفْيِ التَّشْبِيهِ لَجَازَ أَنْ يُوصَفَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَالْأَفْعَالِ بِمَا لَا يَكَادُ يُحْصَى مِمَّا هُوَ مُمْتَنِعٌ عَلَيْهِ - مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَأَنْ يُوصَفَ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي لَا تَجُوزُ عَلَيْهِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ كَمَا لَوْ وَصَفَهُ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ بِالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ . وَكَمَا لَوْ قَالَ الْمُفْتَرِي : يَأْكُلُ لَا كَأَكْلِ الْعِبَادِ وَيَشْرَبُ لَا كَشُرْبِهِمْ وَيَبْكِي وَيَحْزَنُ لَا كَبُكَائِهِمْ وَلَا حُزْنِهِمْ ؛ كَمَا يُقَالُ يَضْحَكُ لَا كَضَحِكِهِمْ وَيَفْرَحُ لَا كَفَرَحِهِمْ وَيَتَكَلَّمُ لَا كَكَلَامِهِمْ . وَلَجَازَ أَنْ يُقَالَ : لَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ لَا كَأَعْضَائِهِمْ كَمَا قِيلَ : لَهُ وَجْهٌ لَا كَوُجُوهِهِمْ وَيَدَانِ لَا كَأَيْدِيهِمْ . حَتَّى يَذْكُرَ الْمَعِدَةَ وَالْأَمْعَاءَ وَالذَّكَرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ نَفَى ذَلِكَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الصِّفَاتِ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَمَا أَثْبَتَّهُ إذَا نَفَيْت التَّشْبِيهَ وَجَعَلْت مُجَرَّدَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ كَافِيًا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا بُدُّ مِنْ إثْبَاتِ فَرْقٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ

فَإِنْ قَالَ : الْعُمْدَةُ فِي الْفَرْقِ هُوَ السَّمْعُ فَمَا جَاءَ بِهِ السَّمْعُ أَثْبَتَهُ دُونَ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ السَّمْعُ قِيلَ لَهُ أَوَّلًا : السَّمْعُ هُوَ خَبَرُ الصَّادِقِ عَمَّا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فَمَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ فَهُوَ حَقٌّ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ ؛ وَالْخَبَرُ دَلِيلٌ عَلَى الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ لَا يَنْعَكِسُ ؛ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ فَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ بِهِ السَّمْعُ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ نَفَاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ السَّمْعَ لَمْ يَنْفِ هَذِهِ الْأُمُورَ بِأَسْمَائِهَا الْخَاصَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ مَا يَنْفِيهَا مِنْ السَّمْعِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ نَفْيُهَا كَمَا لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا وَأَيْضًا : فَلَا بُدَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ مَا يُثْبَتُ لَهُ وَيُنْفَى فَإِنَّ الْأُمُورَ الْمُتَمَاثِلَةَ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ : يَمْتَنِعُ اخْتِصَاصُ بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ فِي الْجَوَازِ وَالْوُجُوبِ وَالِامْتِنَاعِ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِ الْمَنْفِيِّ عَنْ الْمُثْبِتِ بِمَا يَخُصُّهُ بِالنَّفْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِصَاصِ الثَّابِتِ عَنْ الْمَنْفِيِّ بِمَا يَخُصُّهُ بِالثُّبُوتِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُوجِبُ نَفْيَ مَا يَجِبُ نَفْيُهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ يُثْبِتُ لَهُ مَا هُوَ ثَابِتٌ وَإِنْ كَانَ السَّمْعُ كَافِيًا كَانَ مُخْبِرًا عَمَّا هُوَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فَمَا الْفَرْقُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ فَيُقَالُ : كُلَّمَا نُفِيَ صِفَاتُ الْكَمَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ فَإِنَّ ثُبُوتَ أَحَدِ

الضِّدَّيْنِ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْآخَرِ فَإِذَا عُلِمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْقِدَمِ : عُلِمَ امْتِنَاعُ الْعَدَمِ وَالْحُدُوثِ عَلَيْهِ وَعُلِمَ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَمَّا سِوَاهُ فَالْمُفْتَقِرُ إلَى مَا سِوَاهُ فِي بَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ : لَيْسَ هُوَ مَوْجُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِنَفَسِهِ وَبِذَلِكَ الْآخَرِ الَّذِي أَعْطَاهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ نَفْسُهُ فَلَا يُوجَدُ إلَّا بِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ فَكُلُّ مَا نَافَى غِنَاهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدِيرٌ قَوِيٌّ فَكُلُّ مَا نَافَى قُدْرَتَهُ وَقُوَّتَهُ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ حَيٌّ قَيُّومٌ فَكُلُّ مَا نَافَى حَيَاتَهُ وقيوميته فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَالسَّمْعُ قَدْ أَثْبَتَ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِ الْكَمَالِ مَا قَدْ وَرَدَ فَكُلُّ مَا ضَادَّ ذَلِكَ فَالسَّمْعُ يَنْفِيه كَمَا يَنْفِي عَنْهُ الْمِثْلَ وَالْكُفُؤَ فَإِنَّ إثْبَاتَ الشَّيْءِ نَفْيٌ لِضِدِّهِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ وَالْعَقْلُ يَعْرِفُ نَفْيَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُ إثْبَاتَ ضِدِّهِ فَإِثْبَاتُ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ نَفْيٌ لِلْآخَرِ وَلِمَا يَسْتَلْزِمُهُ . فَطُرُقُ الْعِلْمِ بِنَفْيِ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ مُتَّسِعَةٌ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى مُجَرَّدِ نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ كَمَا فَعَلَهُ أَهْلُ الْقُصُورِ وَالتَّقْصِيرِ : الَّذِينَ تَنَاقَضُوا فِي ذَلِكَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ حَتَّى أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا احْتَجَّ عَلَيْهِ مَنْ نَفَاهُ بِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ وَكَذَلِكَ احْتَجَّ الْقَرَامِطَةُ عَلَى نَفْيِ جَمِيعِ الْأُمُورِ حَتَّى نَفَوْا النَّفْيَ فَقَالُوا :

: لَا يُقَالُ لَا مَوْجُودَ وَلَا لَيْسَ بِمَوْجُودِ وَلَا حَيَّ وَلَا لَيْسَ بِحَيِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَشْبِيهٌ بِالْمَوْجُودِ أَوْ الْمَعْدُومِ فَلَزِمَ نَفْيُ النَّقِيضَيْنِ : وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَشْيَاءِ امْتِنَاعًا ثُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ يَلْزَمُهُمْ مِنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْجَمَادَاتِ : أَعْظَمُ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْأَحْيَاءِ الْكَامِلِينَ فَطُرُقُ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ عَمَّا هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ مُتَّسِعَةٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى هَذَا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَا يُنْفَى عَنْهُ - سُبْحَانَهُ - النَّفْيُ الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِثْبَاتِ إذْ مُجَرَّدُ النَّفْيِ لَا مَدْحَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ فَإِنَّ الْمَعْدُومَ يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَالْمَعْدُومَ لَا يُشْبِهُ الْمَوْجُودَاتِ وَلَيْسَ هَذَا مَدْحًا لَهُ لِأَنَّ مُشَابَهَةَ النَّاقِصِ فِي صِفَاتِ النَّقْصِ نَقْصٌ مُطْلَقًا كَمَا أَنَّ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقِ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ تَمْثِيلٌ وَتَشْبِيهٌ يُنَزَّهُ عَنْهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَالنَّقْصُ ضِدُّ الْكَمَالِ ؛ وَذَلِكَ مِثْلُ أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ حَيٌّ وَالْمَوْتُ ضِدُّ ذَلِكَ فَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنْهُ ؛ وَكَذَلِكَ النَّوْمُ وَالسِّنَةُ ضِدَّ كَمَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ النَّوْمَ أَخُو الْمَوْتِ وَكَذَلِكَ اللُّغُوبُ نَقْصٌ فِي الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ فِيهِ افْتِقَارٌ إلَى مَوْجُودٍ غَيْرِهِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِالْغَيْرِ وَالِاعْتِضَادَ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ تَتَضَمَّنُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ وَالِاحْتِيَاجَ إلَيْهِ . وَكُلُّ مَنْ يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْمِلُهُ أَوْ يُعِينُهُ عَلَى قِيَامِ ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ

لَيْسَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِنَفْسِهِ فَكَيْفَ مَنْ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَالْآكِلُ وَالشَّارِبُ أَجْوَفُ وَالْمُصْمَتُ الصَّمَدُ أَكْمَلُ مِنْ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ وَلِهَذَا كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ صمدا لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ كَمَالٍ ثَبَتَ لِمَخْلُوقِ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ وَكُلُّ نَقْصٍ تَنَزَّهَ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِتَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ وَالسَّمْعُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ الصَّمَدُ } وَالصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ نَسَبُ الرَّحْمَنِ أَوْ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ وَقَالَ فِي حَقِّ الْمَسِيحِ وَأُمِّهِ : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ } فَجَعَلَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْأُلُوهِيَّةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَنْزِيهِهِ عَنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَنَحْوُ ذَلِكَ : هِيَ أَعْضَاءُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْغَنِيُّ الْمُنَزَّهُ عَنْ ذَلِكَ : مُنَزَّهٌ عَنْ آلَاتِ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهَا لِلْعَمَلِ وَالْفِعْلِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْعَمَلِ وَالْفِعْلِ ؛ إذْ ذَاكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ؛ فَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ أَكْمَلُ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ وَعَنْ آلَاتِ ذَلِكَ وَأَسْبَابِهِ وَكَذَلِكَ الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ : هُوَ مُسْتَلْزِمٌ الضَّعْفَ وَالْعَجْزَ الَّذِي يُنَزَّهُ عَنْهُ سُبْحَانَهُ ؛ بِخِلَافِ الْفَرَحِ وَالْغَضَبِ : فَإِنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَكَمَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ دُونَ

الْعَجْزِ وَبِالْعِلْمِ دُونَ الْجَهْلِ وَبِالْحَيَاةِ دُونَ الْمَوْتِ وَبِالسَّمْعِ دُونَ الصَّمَمِ وَبِالْبَصَرِ دُونَ الْعَمَى وَبِالْكَلَامِ دُونَ الْبُكْمِ : فَكَذَلِكَ يُوصَفُ بِالْفَرَحِ دُونَ الْحُزْنِ وَبِالضَّحِكِ دُونَ الْبُكَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ بِالْعَقْلِ مَا أَثْبَتَهُ السَّمْعُ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا كُفُؤَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَتُهُ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ كَحَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَخْلُوقَاتِ لَا الْمَلَائِكَةِ وَلَا السَّمَوَاتِ وَلَا الْكَوَاكِبِ وَلَا الْهَوَاءِ وَلَا الْمَاءِ وَلَا الْأَرْضِ وَلَا الْآدَمِيِّينَ وَلَا أَبْدَانِهِمْ وَلَا أَنْفُسِهِمْ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ بَلْ يَعْلَمُ أَنَّ حَقِيقَتَهُ عَنْ مُمَاثَلَاتِ شَيْءٍ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ أَبْعَدُ مِنْ سَائِرِ الْحَقَائِقِ وَأَنَّ مُمَاثَلَتَهُ لِشَيْءِ مِنْهَا أَبْعَدُ مِنْ مُمَاثَلَةِ حَقِيقَةِ شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لِحَقِيقَةِ مَخْلُوقٍ آخَرَ فَإِنَّ الْحَقِيقَتَيْنِ إذَا تَمَاثَلَتَا : جَازَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مَا يَجُوزُ عَلَى الْأُخْرَى وَوَجَبَ لَهَا مَا وَجَبَ لَهَا . فَيَلْزَمُ أَنْ يَجُوزَ عَلَى الْخَالِقِ الْقَدِيمِ الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْمُحْدَثِ الْمَخْلُوقِ مِنْ الْعَدَمِ وَالْحَاجَةِ وَأَنْ يُثْبَتَ لِهَذَا مَا يُثْبَتُ لِذَلِكَ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْفَنَاءِ فَيَكُونُ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ بِنَفْسِهِ مَوْجُودًا مَعْدُومًا وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنُ النَّقِيضَيْنِ وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ بُطْلَانُ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : بَصَرٌ كَبَصَرِي أَوْ يَدٌ كَيَدِي وَنَحْوِ ذَلِكَ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا

وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ هُنَا اسْتِيفَاءَ مَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَا مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ وَاسْتِيفَاءَ طُرُقِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى جَوَامِعِ ذَلِكَ وَطُرُقِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ السَّمْعُ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا وَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ مَا يُثْبِتُهُ وَلَا يَنْفِيه سَكَتْنَا عَنْهُ فَلَا نُثْبِتُهُ وَلَا نَنْفِيه . فَنُثْبِتُ مَا عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ وَنَنْفِي مَا عَلِمْنَا نَفْيَهُ وَنَسْكُتُ عَمَّا لَا نَعْلَمُ نَفْيَهُ وَلَا إثْبَاتَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( ا ) الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةُ :
أَنْ يُقَالَ : إنَّ كَثِيرًا مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ " السَّمْعُ " يُعْلَمُ " بِالْعَقْلِ " أَيْضًا وَالْقُرْآنُ يُبَيِّنُ مَا يَسْتَدِلُّ بِهِ الْعَقْلُ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ ؛ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ . فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : بَيَّنَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ : مَا أَرْشَدَ الْعِبَادَ إلَيْهِ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ ؛ كَمَا بَيَّنَ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَى نُبُوَّةِ أَنْبِيَائِهِ ؛ وَمَا دَلَّ عَلَى الْمُعَادِ وَإِمْكَانِهِ فَهَذِهِ الْمَطَالِبُ هِيَ شَرْعِيَّةٌ مِنْ جِهَتَيْنِ : - مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّارِعَ أَخْبَرَ بِهَا . وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ بَيَّنَ الْأَدِلَّةَ الْعَقْلِيَّةَ الَّتِي يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهَا وَالْأَمْثَالُ الْمَضْرُوبَةُ فِي الْقُرْآنِ هِيَ " أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ " وَقَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ أَيْضًا عَقْلِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَيْضًا وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ يُسَمِّي هَذِهِ " الْأُصُولُ الْعَقْلِيَّةُ " لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهَا

( ب ) لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْعَقْلِ فَقَطْ فَإِنَّ السَّمْعَ هُوَ مُجَرَّدُ إخْبَارِ الصَّادِقِ وَخَبَرُ الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ النَّبِيُّ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْأُصُولِ بِالْعَقْلِ ثُمَّ إنَّهُمْ قَدْ يَتَنَازَعُونَ فِي الْأُصُولِ الَّتِي تَتَوَقَّفُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ عَلَيْهَا . " فَطَائِفَةٌ " تَزْعُمُ : أَنَّ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ بِدُونِ ذَلِكَ وَيَجْعَلُونَ التَّكْذِيبَ بِالْقَدَرِ مِمَّا يَنْفِيهِ الْعَقْلُ و " طَائِفَةٌ " تَزْعُمُ أَنَّ حُدُوثَ الْعَالَمِ مِنْ هَذِهِ الْأُصُولِ وَأَنَّ الْعِلْمَ بِالصَّانِعِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ وَإِثْبَاتِ حُدُوثِهِ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِحُدُوثِ الْأَجْسَامِ ، وَحُدُوثُهَا يُعْلَمُ إمَّا بِحُدُوثِ الصِّفَاتِ ، وَإِمَّا بِحُدُوثِ الْأَفْعَالِ الْقَائِمَةِ بِهَا فَيَجْعَلُونَ نَفْيَ أَفْعَالِ الرَّبِّ وَنَفْيَ صِفَاتِهِ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النُّبُوَّةِ إلَّا بِهَا ثُمَّ هَؤُلَاءِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْعَقْلَ عَارِضُ السَّمْعِ - وَهُوَ أَصْلُهُ - فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ وَالسَّمْعُ : إمَّا أَنْ يُؤَوَّلَ وَإِمَّا أَنْ يُفَوَّضَ وَهُمْ أَيْضًا عِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا يَقْبَلُونَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى وَفْقِ قَوْلِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ وَهَؤُلَاءِ يَضِلُّونَ مِنْ وُجُوهٍ :

( ج ) ( مِنْهَا ) : ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّمْعَ بِطَرِيقِ الْخَبَرِ تَارَةً وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ الْقُرْآنُ بَيَّنَ مِنْ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ - الَّتِي تُعْلَمُ بِهَا الْمَطَالِبُ الدِّينِيَّةُ - مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ النَّظَرِ فَتَكُونُ هَذِهِ الْمَطَالِبُ : شَرْعِيَّةً عَقْلِيَّةً و ( مِنْهَا : ظَنُّهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُعْلَمُ صِدْقُهُ إلَّا بِالطَّرِيقِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي سَلَكُوهَا وَهُمْ مُخْطِئُونَ قَطْعًا فِي انْحِصَارِ طَرِيقِ تَصْدِيقِهِ فِيمَا ذَكَرُوهُ فَإِنَّ طُرُقَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الرَّسُولِ كَثِيرَةٌ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ و ( مِنْهَا : ظَنُّهُمْ أَنَّ تِلْكَ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكُوهَا صَحِيحَةٌ وَقَدْ تَكُونُ بَاطِلَةً ( وَمِنْهَا : ظَنُّهُمْ أَنَّ مَا عَارَضُوا بِهِ السَّمْعَ مَعْلُومٌ بِالْعَقْلِ وَيَكُونُونَ غَالِطِينِ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ إذَا وُزِنَ بِالْمِيزَانِ الصَّحِيحِ وُجِدَ مَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ مِنْ الْمَجْهُولَاتِ ؛ لَا مِنْ الْمَعْقُولَاتِ وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مِنْ " صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى " مَا قَدْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا يُعْلَمُ أَنَّهُ عَالِمٌ وَأَنَّهُ قَادِرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ ؛ كَمَا أَرْشَدَ إلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وَقَدْ اتَّفَقَ النُّظَّارُ مِنْ مُثْبِتَةِ الصِّفَاتِ : عَلَى أَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ ( عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ حَيٌّ ؛ عَلِيمٌ ؛ قَدِيرٌ ؛ مُرِيدٌ ؛ وَكَذَلِكَ السَّمْعُ ؛ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ . يَثْبُتُ

( د ) بِالْعَقْلِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ بَلْ وَكَذَلِكَ الْحُبُّ وَالرِّضَا وَالْغَضَبُ . يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْعَقْلِ وَكَذَلِكَ عُلُوُّهُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ وَمُبَايَنَتُهُ لَهَا مِمَّا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ كَمَا أَثْبَتَتْهُ بِذَلِكَ الْأَئِمَّةُ : مِثْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ . وَمِثْلُ : عَبْدِ الْعَالِي الْمَكِّيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ إمْكَانُ الرُّؤْيَةِ : يَثْبُتُ بِالْعَقْلِ ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ تَصِحُّ رُؤْيَتُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَثْبَتَهَا بِأَنَّ كُلَّ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ يُمْكِنُ رُؤْيَتُهُ . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ أَصَحُّ مِنْ تِلْكَ وَقَدْ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ بِغَيْرِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ بِتَقْسِيمِ دَائِرٍ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ كَمَا يُقَالُ : إنَّ الرُّؤْيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ فَإِنَّ مَا لَا يَتَوَقَّفُ إلَّا عَلَى أُمُورٍ وُجُودِيَّةٍ يَكُونُ الْمَوْجُودُ الْوَاجِبُ الْقَدِيمُ : أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُمْكِنِ الْمُحْدَثِ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ مِنْ الطُّرُقِ الَّتِي يَسْلُكُهَا الْأَئِمَّةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ نُظَّارِ السُّنَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْصُوفًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن : لَلَزِمَ اتِّصَافُهُ بِالْأُخْرَى ؛ فَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالْحَيَاةِ لَوُصِفَ بِالْمَوْتِ ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ

( ه ) بِالْقُدْرَةِ لَوُصِفَ بِالْعَجْزِ ؛ وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ لَوُصِفَ بِالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ وَالْبُكْمِ وَطَرْدُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوصَفْ بِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَالَمِ لَكَانَ دَاخِلًا فِيهِ . فَسَلْبُ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَابِلَتَيْن عَنْهُ يَسْتَلْزِمُ ثُبُوتَ الْأُخْرَى وَتِلْكَ صِفَةُ نَقْصٍ يُنَزَّهُ عَنْهَا الْكَامِلُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَنْزِيهُ الْخَالِقِ عَنْهَا أَوْلَى . وَهَذِهِ الطَّرِيقُ غَيْرُ قَوْلِنَا إنَّ هَذِهِ صِفَاتُ كَمَالٍ يَتَّصِفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ ؛ فَالْخَالِقُ أَوْلَى فَإِنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ بِأَنْفُسِهَا مُغَايِرٌ لِطَرِيقِ إثْبَاتِهَا بِنَفْيِ مَا يُنَاقِضُهَا وَقَدْ اعْتَرَضَ طَائِفَةٌ مِنْ الْنُّفَاةِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ بِاعْتِرَاضِ مَشْهُورٍ لَبَّسُوا بِهِ عَلَى النَّاسِ ؛ حَتَّى صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ يَظُنُّ صِحَّتَهُ وَيُضَعِّفُ الْإِثْبَاتَ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ النُّظَّارِ حَتَّى الآمدي وَ أَمْثَالُهُ (1) مَعَ أَنَّهُ أَصْلُ قَوْلِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّة . فَقَالُوا : الْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ مَعَ كَوْنِهِ حَيًّا : لَكَانَ مُتَّصِفًا بِمَا يُقَابِلُهَا .
فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى بَيَانِ حَقِيقَةِ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَبَيَانُ أَقْسَامِهِمَا فَنَقُولُ :

( و ) أَمَّا الْمُتَقَابِلَانِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ إمَّا أَلَّا يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ : أَوْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُتَقَابِلَانِ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهُوَ تَقَابُلُ التَّنَاقُضِ ؛ وَالتَّنَاقُضُ هُوَ اخْتِلَافُ الْقَضِيَّتَيْنِ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ لِذَاتَيْهِمَا ؛ كَقَوْلِنَا : زَيْدٌ حَيَوَانٌ زَيْدٌ لَيْسَ بِحَيَوَانِ . وَمِنْ خَاصَّةِ اسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ طَرَفَيْهِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ : أَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ وَلَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الصِّدْقِ وَلَا فِي الْكَذِبِ ؛ إذْ كَوْنُ الْمَوْجُودِ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ وَمُمْكِنًا بِنَفْسِهِ . لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ فَإِذَا جَعَلْتُمْ هَذَا التَّقْسِيمَ : وَهُمَا " النَّقِيضَانِ مَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ " فَهَذَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ وَلَيْسَ هُمَا السَّلْبُ وَالْإِيجَابُ فَلَا يَصِحُّ حَصْرُ النَّقِيضَيْنِ - اللَّذَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ - فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَحِينَئِذٍ فَقَدَ ثَبَتَ وَصْفَانِ - شَيْئَانِ - لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ ؛ وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى هَذَا فَمَنْ جَعَلَ الْمَوْتَ مَعْنًى وُجُودِيًّا : فَقَدْ يَقُولُ إنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ لَا يَخْلُو مِنْ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ ؛ وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ وَالْجَهْلُ وَالصَّمَمُ وَالْبُكْمُ وَنَحْوُ ذَلِكَ

( ز ) ( الْوَجْهُ الثَّانِي ) : أَنْ يُقَالَ : هَذَا الْقَسِيمُ يَتَدَاخَلُ ؛ فَإِنَّ الْعَدَمَ وَالْمَلَكَةَ : يَدْخُلُ فِي السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْهُ والمتضايفان يَدْخُلَانِ فِي الْمُتَضَادَّيْنِ إنَّمَا هُمَا نَوْعٌ مِنْهُ فَإِنْ قَالَ : أَعْنِي بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ : فَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ - وَهُوَ أَنْ يُسْلَبَ عَنْ الشَّيْءِ مَا لَيْسَ بِقَابِلِ لَهُ - وَلِهَذَا جُعِلَ مِنْ خَوَاصِّهِ أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ طَرَفَيْهِ . إلَى آخِرِهِ قِيلَ لَهُ : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ : - أَحَدُهُمَا : أَنَّ غَايَةَ هَذَا أَنَّ السَّلْبَ يَنْقَسِمُ إلَى نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : سَلْبُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُ الشَّيْءِ بِهِ وَالثَّانِي : سَلْبُ مَا لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهِ . فَيُقَالُ : الْأَوَّلُ إثْبَاتُ مَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ وَلَا يَجِبُ وَالثَّانِي : إثْبَاتُ مَا يَجِبُ اتِّصَافُهُ بِهِ ؛ فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ . وَإِثْبَاتُ الْوَاجِبِ . كَقَوْلِنَا زَيْدٌ حَيَوَانٌ فَإِنَّ هَذَا إثْبَاتٌ وَاجِبٌ ، وَزَيْدٌ لَيْسَ بِحَجَرِ فَإِنَّ هَذَا سَلْبٌ مُمْتَنِعٌ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُمْكِنَاتُ الَّتِي تَقْبَلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ - كَقَوْلِنَا الْمُثَلَّثُ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ - يَكُونُ مِنْ قِسْمِ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ . فَإِنَّ

( ح ) ذَلِكَ الْقِسْمَ يَخْلُو فِيهِ الْمَوْصُوفُ الْوَاحِدُ عَلَى الْمُتَقَابِلَيْنِ جَمِيعًا وَلَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ عَنْ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ . وَأَيْضًا فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ - فَصِفَاتُ الرَّبِّ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ لَهُ - فَإِذَا قِيلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا أَوْ عَلِيمًا أَوْ سَمِيعًا أَوْ بَصِيرًا أَوْ مُتَكَلِّمًا ؛ أَوْ لَا يَكُونُ : كَانَ مِثْلُ قَوْلِنَا : إمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا ؛ وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ . وَهَذَا مُتَقَابِلٌ تَقَابُلَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ فَيَكُونُ الْآخَرُ مِثْلُهُ وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْلَمَ إمْكَانُ قَبُولِهِ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ : قِيلَ لَهُ هَذَا إنَّمَا اشْتَرَكَا فِيمَا أَمْكَنَ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ وَيَزُولَ كَالْحَيَوَانِ ؛ فَأَمَّا الرَّبُّ تَعَالَى : فَإِنَّهُ بِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا لَهُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ ضَرُورَةً ؛ فإنه لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِهَا وَبِعَدَمِهَا بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ . فَإِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ تَارَةً حَيًّا وَتَارَةً مَيِّتًا وَتَارَةً أَصَمَّ وَتَارَةً سَمِيعًا وَهَذَا يُوجِبُ اتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ ؛ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ قَطْعًا ؛ بِخِلَافِ مَنْ نَفَاهَا وَقَالَ : إنَّ نَفْيَهَا لَيْسَ بِنَقْصِ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِهَا فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ مَعَ إمْكَانِ الِاتِّصَافِ بِهَا لَا يَكُونُ نَفْيُهَا نَقْصًا فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ . وَقِيلَ لَهُ أَيْضًا : أَنْتَ فِي تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ إنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ الطَّرَفَيْنِ : لَمْ يَصِحَّ أَنْ تَقُولَ وَاجِبُ الْوُجُودِ ؛ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ ؛

( ط ) وَالْمُمْتَنِعُ الْوُجُودِ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الطَّرَفَيْنِ هُنَا مَعْلُومُ الْوُجُودِ . وَالْآخَرَ مَعْلُومُ الِامْتِنَاعِ وَإِنْ اشْتَرَطْت الْعِلْمَ بِإِمْكَانِ أَحَدِهِمَا صَحَّ أَنْ تَقُولَ إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَإِمَّا أَلَّا يَكُونَ ؛ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إنْ كَانَ مُمْكِنًا صَحَّ التَّقْسِيمُ وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا : كَانَ الْإِثْبَاتُ وَاجِبًا وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُفِيدُ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ يُقَابِلُ السَّلْبَ وَالْإِيجَابَ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ ذَلِكَ كَمَا ذُكِرَ فِي الِاعْتِرَاضِ ؛ لَكِنَّ غَايَتَهُ : أَنَّهُ إمَّا سَمِيعٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِسَمِيعِ وَإِمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ ؛ وَالْمُنَازِعُ يَخْتَارُ النَّفْيَ فَيُقَالُ لَهُ : عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ : فَالْمُثْبَتُ وَاجِبٌ ؛ وَالْمَسْلُوبُ مُمْتَنِعٌ . فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّفَاتُ وَاجِبَةً لَهُ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُمْتَنِعَةً عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِالِامْتِنَاعِ لَا وَجْهَ لَهُ ؛ إذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِ . بَلْ قَدْ يُقَالُ : نَحْنُ نَعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ بُطْلَانَ الِامْتِنَاعِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى امْتِنَاعِ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إبْطَالِ أَصْلِ الصِّفَاتِ ؛ وَقَدْ عُلِمَ فَسَادُ ذَلِكَ وَحِينَئِذٍ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ لَهُ . وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ طَرِيقَةً مُسْتَقِلَّةً فِي إثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ فَإِنَّهَا إمَّا وَاجِبَةٌ لَهُ وَإِمَّا مُمْتَنِعَةٌ عَلَيْهِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ قَابِلًا

( ى ) لَهَا خَالِيًا عَنْهَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّهِ وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِمَنْ سَلَكَهَا مِنْ النُّظَّارِ ( الْجَوَابُ الثَّانِي أَنْ يُقَالَ : فَعَلَى هَذَا إذَا قُلْنَا زَيْدٌ إمَّا عَاقِلٌ وَإِمَّا غَيْرُ عَاقِلٍ ؛ وَإِمَّا عَالِمٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِعَالِمِ وَإِمَّا حَيٌّ وَإِمَّا غَيْرُ حَيٍّ وَإِمَّا نَاطِقٌ وَإِمَّا غَيْرُ نَاطِقٍ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ سَلْبُ الصِّفَةِ عَنْ مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا دَاخِلًا فِي قِسْمِ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ وَخِلَافُ اتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَخِلَافُ مَا ذَكَرُوهُ فِي الْمَنْطِقِ وَغَيْرِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَضَايَا تَتَنَاقَضُ بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ عَلَى وَجْهٍ يَلْزَمُ مِنْهُ صِدْقُ إحْدَاهُمَا كَذِبُ الْأُخْرَى فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَهَذِهِ شُرُوطٌ التَّنَاقُضُ مَوْجُودٌ فِيهَا . وَغَايَةُ فِرَقِهِمْ أَنْ يَقُولُوا إذَا قُلْنَا : هُوَ إمَّا بَصِيرٌ وَإِمَّا لَيْسَ بِبَصِيرِ : كَانَ إيجَابًا وَسَلْبًا وَإِذَا قُلْنَا : إمَّا بَصِيرٌ ؛ وَإِمَّا أَعْمَى : كَانَ مَلَكَةً وَعَدَمًا وَهَذِهِ مُنَازَعَةٌ لَفْظِيَّةٌ وَإِلَّا فَالْمَعْنَى فِي الْمَوْضِعَيْنِ سَوَاءٌ . فَعُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ تَقَابُلِ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَهَذَا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ فِي حَدِّ ذَلِكَ التَّقَابُلِ : أَنَّهُ لَا اسْتِحَالَةَ لِأَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَإِنَّ الِاسْتِحَالَةَ هُنَا مُمْكِنَةٌ كَإِمْكَانِهَا إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْعَمَى ( الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنْ يُقَالَ : التَّقْسِيمُ الْحَاصِرُ أَنْ يُقَالَ : الْمُتَقَابِلَانِ إمَّا أَنْ

( ك ) يَخْتَلِفَا بِالسَّلْبِ وَالْإِيجَابِ وَإِمَّا أَنْ لَا يَخْتَلِفَا بِذَلِكَ بَلْ يَكُونَانِ إيجَابِيَّيْنِ أَوْ سَلْبِيَّيْنِ . فَالْأَوَّلُ هُوَ النَّقِيضَانِ . وَالثَّانِي إمَّا أَنْ يُمْكِنَ خُلُوُّ الْمَحَلِّ عَنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَالْأَوَّلُ : هُمَا الضِّدَّانِ كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ . وَالثَّانِي : هُمَا فِي مَعْنَى النَّقِيضَيْنِ وَإِنْ كَانَا ثُبُوتِيَّيْنِ كَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ وَالْقِدَمِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالْقِيَامِ بِالْغَيْرِ وَالْمُبَايَنَةِ وَالْمُجَانَبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ وَالصَّمَمَ وَالْبُكْمَ وَالسَّمْعَ : لَيْسَ مِمَّا إذَا خَلَا الْمَوْصُوفُ عَنْهُمَا وُصِفَ بِوَصْفِ ثَالِثٍ بَيْنِهِمَا كَالْحُمْرَةِ بَيْنَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمَوْصُوفَ لَا يَخْلُو عَنْ أَحَدِهِمَا فَإِذَا انْتَفَى تَعَيَّنَ الْآخَرُ ( الْوَجْهُ الرَّابِعُ : الْمَحَلُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِاتِّصَافَ بِالْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَنَحْوِهَا : أَنْقَصُ مِنْ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْبَلُ ذَلِكَ وَيَخْلُو عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَ الْحَجَرُ وَنَحْوُهُ أَنْقَصَ مِنْ الْحَيِّ الْأَعْمَى وَحِينَئِذٍ فَإِذَا كَانَ الْبَارِئُ مُنَزَّهًا عَنْ نَفْيِ هَذِهِ الصِّفَاتِ ؛ مَعَ قَبُولِهِ لَهَا فَتَنْزِيهُهُ عَنْ امْتِنَاعِ قَبُولِهِ لَهَا أَوْلَى وَأَحْرَى إذْ بِتَقْدِيرِ قَبُولِهِ لَهَا يَمْتَنِعُ مَنْعُ الْمُتَقَابِلَيْنِ وَاتِّصَافُهُ بِالنَّقَائِصِ مُمْتَنِعٌ فَيَجِبُ اتِّصَافُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَبِتَقْدِيرِ عَدَمِ قَبُولِهِ

( ل ) لَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ لَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَلَا بِصِفَاتِ النَّقْصِ وَهَذَا أَشَدُّ امْتِنَاعًا فَثَبَتَ أَنَّ اتِّصَافَهُ بِذَلِكَ مُمْكِنٌ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ لَهُ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ . وَهَذَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ ( الْوَجْهُ الْخَامِسُ . أَنْ يُقَالَ : أَنْتُمْ جَعَلْتُمْ تَقَابُلَ الْعَدَمِ وَالْمَلَكَةِ فِيمَا يُمْكِنُ اتِّصَافُهُ بِثُبُوتِ فَإِذَا عَنَيْتُمْ بِالْإِمْكَانِ الْإِمْكَانَ الْخَارِجِيَّ - هُوَ أَنْ يُعْلَمَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِ - كَانَ هَذَا بَاطِلًا لِوَجْهَيْنِ : - أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُلْزِمُكُمْ أَنْ تَكُونَ الْجَامِدَاتُ لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا لَا حَيَّةٌ وَلَا مَيِّتَةٌ وَلَا نَاطِقَةٌ وَلَا صَامِتَةٌ وَهُوَ قَوْلُكُمْ - لَكِنَّ هَذَا اصْطِلَاحٌ مَحْضٌ - وَأَلَّا تَصِفُوا هَذِهِ الْجَمَادَاتِ بِالْمَوْتِ وَالصَّمْتِ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } فَهَذَا فِي " الْأَصْنَامِ " وَهِيَ مِنْ الْجَمَادَاتِ وَقَدْ وُصِفَتْ بِالْمَوْتِ وَالْعَرَبُ تُقَسِّمُ الْأَرْضَ إلَى الْحَيَوَانِ وَالْمَوَتَانِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْمَوَتَانُ بِالتَّحْرِيكِ خِلَافُ الْحَيَوَانِ يُقَالُ : اشْتَرِ الْمَوَتَانِ وَلَا تَشْتَرِ الْحَيَوَانَ أَيْ اشْتَرِ الْأَرْضَ وَالدَّوْرَ ؛ وَلَا تَشْتَرِ الرَّقِيقَ وَالدَّوَابَّ ؛ وَقَالُوا أَيْضًا : الْمَوَاتُ مَا لَا رُوحَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ : فَهَذَا إنَّمَا يُسَمَّى مَوَاتًا بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ " لِلْحَيَاةِ " الَّتِي هِيَ إحْيَاءُ الْأَرْضِ : قِيلَ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَيَاةَ أَعَمُّ مِنْ حَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَأَنَّ الْجَمَادَ يُوصَفُ بِالْحَيَاةِ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلزَّرْعِ وَالْعِمَارَةِ ؛ وَالْخَرَسُ ضِدُّ النُّطْقِ وَالْعَرَبُ تَقُولُ

( م ) " لَبَنٌ أَخْرَسُ " أَيْ خَاثِرٌ لَا صَوْتَ لَهُ فِي الْإِنَاءِ " وَسَحَابَةٌ خَرْسَاءُ " لَيْسَ فِيهَا رَعْدٌ وَلَا بَرْقٌ " وَعَلَمٌ أَخْرَسُ " إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِي الْجَبَلِ صَوْتُ صَدًى " وَيُقَالُ : " كَتِيبَةٌ خَرْسَاءُ " قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هِيَ الَّتِي صَمَتَتْ مِنْ كَثْرَةِ الدُّرُوعِ لَيْسَ لَهُ فقاقع وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ الصَّمْتُ وَالسُّكُوتُ ؛ فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِهِ الْقَادِرُ عَلَى النُّطْقِ إذَا تَرَكَهُ ؛ بِخِلَافِ الْخَرَسِ فَإِنَّهُ عَجْزٌ عَنْ النُّطْقِ . وَمَعَ هَذَا فَالْعَرَبُ تَقُولُ : " مَا لَهُ صَامِتٌ وَلَا نَاطِقٌ " فَالصَّامِتُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالنَّاطِقُ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ فَالصَّامِتُ مِنْ اللَّبَنِ : الْخَاثِرُ وَالصَّمُوتُ : الدِّرْعُ الَّتِي صَمَتَ إذَا لَمْ يُسْمَعْ لَهُ صَوْتٌ . وَيَقُولُونَ : دَابَّةٌ عَجْمَاءُ وَخَرْسَاءُ لِمَا لَا تَنْطِقُ وَلَا يُمَكَّنُ مِنْهَا النُّطْقُ فِي الْعَادَةِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } وَكَذَلِكَ فِي " الْعَمْيَاءِ " تَقُولُ الْعَرَبُ : عَمَى الْمَوْجُ يَعْمِي عما إذَا رَمَى بِالْقَذَى وَالزَّبَدِ ؛ و " الأعميان " السَّيْلُ وَالْجَمَلُ الْهَائِجُ . وَعَمَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ إذَا الْتَبَسَ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ } وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ قَدْ يُقَالُ فِي بَعْضِهَا إنَّهُ عَدَمٌ مَا يَقْبَلُ الْمَحَلَّ الِاتِّصَافَ بِهِ كَالصَّوْتِ ؛ وَلَكِنْ فِيهَا مَا لَا يَقْبَلُ كَمَوْتِ الْأَصْنَامِ . الثَّانِي : أَنَّ الْجَامِدَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَادِرٌ أَنْ يَخْلُقَ فِي الْجَمَادَاتِ حَيَاةً كَمَا جَعَلَ عَصَى مُوسَى حَيَّةً تَبْتَلِعُ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ - وَإِذَا كَانَ

( ن ) فِي إمْكَانِ الْعَادَاتِ : كَانَ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ - وَأَنْتُمْ أَيْضًا قَائِلُونَ بِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ وَإِذَا كَانَ الْجَمَادَاتُ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِالْحَيَاةِ وَتَوَابِعِ الْحَيَاةِ ثَبَتَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ يُمْكِنُ اتِّصَافُهَا بِذَلِكَ فَيَكُونُ الْخَالِقُ أَوْلَى بِهَذَا الْإِمْكَانِ وَإِنْ عَنَيْتُمْ الْإِمْكَانَ الذِّهْنِيَّ - وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالِامْتِنَاعِ - فَهَذَا حَاصِلٌ فِي حَقِّ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُعْلَمُ امْتِنَاعُ اتِّصَافِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ ( الْوَجْهُ السَّادِسُ أَنْ يُقَالَ : هَبْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْعِلْمِ بِالْإِمْكَانِ الْخَارِجِيِّ فَإِمْكَانُ الْوَصْفِ لِلشَّيْءِ يُعْلَمُ تَارَةً بِوُجُوهِ لَهُ أَوْ بِوُجُودِهِ لِنَظِيرِهِ أَوْ بِوُجُودِهِ لِمَا هُوَ الشَّيْءُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْكَلَامَ : ثَابِتٌ لِلْمَوْجُودَاتِ الْمَخْلُوقَةِ وَمُمْكِنٌ لَهَا . فَإِمْكَانُهَا لِلْخَالِقِ تَعَالَى أَوْلَى وَأَحْرَى ؛ فَإِنَّهَا صِفَاتُ كَمَالٍ . وَهُوَ قَابِلٌ لِلِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ ؛ وَإِذَا كَانَتْ مُمْكِنَةً فِي حَقِّهِ فَلَوْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَا لَاتَّصَفَ بِأَضْدَادِهَا ( الْوَجْهُ السَّابِعُ أَنْ يُقَالَ : مُجَرَّدُ سَلْبِ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقْصٌ لِذَاتِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَتْ عَمًى وَصَمَمًا وَبُكْمًا أَوْ لَمْ تُسَمَّ . وَالْعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ فَأَمَّا إذَا قَدَّرْنَا مَوْجُودَيْنِ أَحَدُهُمَا يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَتَكَلَّمُ وَالْآخَرُ لَيْسَ كَذَلِكَ : كَانَ الْأَوَّلُ أَكْمَلَ مِنْ الثَّانِي وَلِهَذَا عَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَنْ عَبَدَ مَا تَنْتَفِي فِيهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ ؛ فَقَالَ تَعَالَى عَنْ

( س ) إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ : { لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } وَقَالَ أَيْضًا فِي قِصَّتِهِ : { فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إذْ تَدْعُونَ } { أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } { قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى فِي الْعِجْلِ : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَقَابَلَ بَيْنَ الْأَبْكَمِ الْعَاجِزِ وَبَيْنَ الْآمِرِ بِالْعَدْلِ : الَّذِي هُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا الْأَصْلُ الثَّانِي - وَهُوَ التَّوْحِيدُ فِي الْعِبَادَاتِ - الْمُتَضَمِّنُ لِلْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَالْقَدَرِ جَمِيعًا . فَنَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ فَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَقَدْ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَقَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَكَتَبَهَا حَيْثُ شَاءَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " { إنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } . وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا خَلَقَ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ لِعِبَادَتِهِ وَبِذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ وَعِبَادَتُهُ تَتَضَمَّنُ

كَمَالَ الذُّلِّ وَالْحُبِّ لَهُ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ كَمَالَ طَاعَتِهِ { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } فَأَمَرَ الرُّسُلَ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَأَنْ لَا يَتَفَرَّقُوا فِيهِ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ وَالْأَنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لِعَلَّاتِ وَإِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ لَأَنَا ؛ إنَّهُ لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ } وَهَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ دِينًا غَيْرَهُ لَا مِنْ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنْ الآخرين فَإِنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي

بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } . وَقَالَ عَنْ إبْرَاهِيمَ : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } إلَى قَوْلِهِ ؛ { إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } إلَى قَوْلِهِ : { فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } وَقَالَ عَنْ مُوسَى : { يَا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } وَقَالَ فِي خَبَرِ الْمَسِيحِ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } وَقَالَ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ : { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } وَقَالَ عَنْ بلقيس أَنَّهَا قَالَتْ : { رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَالْإِسْلَامُ يَتَضَمَّنُ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ؛ فَمَنْ اسْتَسْلَمَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ كَانَ مُشْرِكًا وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لَهُ كَانَ مُسْتَكْبِرًا عَنْ عِبَادَتِهِ وَالْمُشْرِكُ بِهِ وَالْمُسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ كَافِرٌ وَالِاسْتِسْلَامُ لَهُ وَحْدَهُ يَتَضَمَّنُ عِبَادَتَهُ وَحْدَهُ وَطَاعَتَهُ وَحْدَهُ . فَهَذَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللَّهُ غَيْرَهُ ؛ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُطَاعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ فَإِذَا أَمَرَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ بِاسْتِقْبَالِ

الصَّخْرَةِ ثُمَّ أَمَرَنَا ثَانِيًا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ : كَانَ كُلٌّ مِنْ الْفِعْلَيْنِ حِينَ أَمَرَ بِهِ دَاخِلًا فِي الْإِسْلَامِ فَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ لَهُ فِي الْفِعْلَيْنِ ؛ وَإِنَّمَا تَنَوُّعُ بَعْضِ صُوَرِ الْفِعْلِ وَهُوَ وَجْهُ الْمُصَلَّى فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ دِينُهُمْ وَاحِدٌ وَإِنْ تَنَوَّعَتْ الشِّرْعَةُ وَالْمِنْهَاجُ وَالْوَجْهُ وَالْمَنْسَكُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ وَاحِدًا كَمَا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْوَاحِدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ دِينِ الرُّسُلِ : أَنَّ أَوَّلَهُمْ يُبَشِّرُ بِآخِرِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ وَآخِرَهُمْ يُصَدِّقُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُؤْمِنُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمْ يَبْعَثْ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمِيثَاقَ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُمْ أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } وَجَعَلَ الْإِيمَانَ مُتَلَازِمًا وَكَفَّرَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ آمَنَ بِبَعْضٍ وَكَفَرَ بِبَعْضٍ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ } إلَى قَوْلِهِ : { تَعْمَلُونَ } وَقَدْ قَالَ لَنَا : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فَأَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ : آمَنَّا بِهَذَا كُلِّهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَمَنْ بَلَغَتْهُ رِسَالَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُقِرَّ بِمَا جَاءَ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا مُؤْمِنًا ؛ بَلْ يَكُونُ كَافِرًا وَإِنْ زَعْم أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ مُؤْمِنٌ . كَمَا ذَكَرُوا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } قَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } فَقَالُوا : لَا نَحُجُّ فَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } فَإِنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلَّهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِقْرَارِ بِمَا لَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ حِجِّ الْبَيْتِ ؛ كَمَا

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ ، وَحَجِّ الْبَيْتِ } وَلِهَذَا لَمَّا وَقَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أُمَّةِ مُوسَى وَعِيسَى هَلْ هُمْ مُسْلِمُونَ أَمْ لَا ؟ " وَهُوَ نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ " فَإِنَّ الْإِسْلَامَ الْخَاصَّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِشَرِيعَةِ الْقُرْآنِ : لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِسْلَامُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ هَذَا وَأَمَّا الْإِسْلَامُ الْعَامُّ الْمُتَنَاوِلُ لِكُلِّ شَرِيعَةٍ بَعَثَ اللَّهُ بِهَا نَبِيًّا فَإِنَّهُ يَتَنَاوَلُ إسْلَامَ كُلِّ أُمَّةٍ مُتَّبِعَةٍ لِنَبِيِّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ .
وَرَأْسُ الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَبِهَا بُعِثَ جَمِيعُ الرُّسُلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } وَقَالَ عَنْ الْخَلِيلِ : { وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ } { إلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُ : { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } { أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ } { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ

الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ } وَقَالَ { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؟ وَذَكَرَ عَنْ رُسُلِهِ : كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَقَالَ عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ : { إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إذًا شَطَطًا } إلَى قَوْلِهِ : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ الشِّرْكَ بِالْمَلَائِكَةِ ، وَالشِّرْكَ بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَالشِّرْكَ بِالْكَوَاكِبِ ، وَالشِّرْكَ بِالْأَصْنَامِ - وَأَصْلُ الشِّرْكِ الشِّرْكُ بِالشَّيْطَانِ - فَقَالَ عَنْ النَّصَارَى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } { مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ

اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ؟ فَبَيَّنَ أَنَّ اتِّخَاذَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا كُفْرٌ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ لَمْ يَزْعُمْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ شَارَكُوا اللَّهَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . بَلْ وَلَا زَعَمَ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّ الْعَالَمَ لَهُ صَانِعَانِ مُتَكَافِئَانِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ . بَلْ وَلَا أَثْبَتَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ إلَهًا مُسَاوِيًا لِلَّهِ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ بَلْ عَامَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ : مُقِرُّونَ بِأَنَّهُ لَيْسَ شَرِيكُهُ مِثْلَهُ بَلْ عَامَّتُهُمْ يُقِرُّونَ أَنَّ الشَّرِيكَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَلَكًا أَوْ نَبِيًّا أَوْ كَوْكَبًا أَوْ صَنَمًا ؛ كَمَا كَانَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ : " لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك إلَّا شَرِيكًا هُوَ لَك تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ " فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّوْحِيدِ وَقَالَ : " { لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك } وَقَدْ ذَكَرَ أَرْبَابُ الْمَقَالَاتِ : مَا جَمَعُوا مِنْ مَقَالَاتِ الْأَوَّلِينَ والآخرين فِي الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ وَالْآرَاءِ وَالدِّيَانَاتِ فَلَمْ يَنْقُلُوا عَنْ أَحَدٍ إثْبَاتَ شَرِيكٍ مُشَارِكٍ لَهُ فِي خَلْقِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَلَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ

مَا نَقَلُوا فِي ذَلِكَ قَوْلَ الثنوية الَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْأَصْلَيْنِ " النُّورِ " و " الظُّلْمَةِ " وَأَنَّ النُّورَ خَلَقَ الْخَيْرَ ، وَالظُّلْمَةَ خَلَقَتْ الشَّرَّ ثُمَّ ذَكَرُوا لَهُمْ فِي الظُّلْمَةِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ فَتَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ وَالثَّانِي : أَنَّهَا قَدِيمَةٌ لَكِنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ إلَّا الشَّرَّ فَكَانَتْ نَاقِصَةً فِي ذَاتِهَا وَصَفَاتِهَا وَمَفْعُولَاتِهَا عَنْ النُّورِ وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إقْرَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ مَا بَيَّنَهُ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ } إلَى قَوْلِهِ { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } إلَى قَوْلِهِ { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } وَقَالَ : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } وَبِهَذَا وَغَيْرِهِ : يُعْرَفُ مَا وَقَعَ مِنْ الْغَلَطِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَإِنَّ عَامَّةَ

الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يُقَرِّرُونَ التَّوْحِيدَ فِي كُتُبِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ : غَايَتُهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا التَّوْحِيدَ ( ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ ) . فَيَقُولُونَ : هُوَ وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ لَا قَسِيمَ لَهُ ، وَوَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ لَا شَبِيهَ لَهُ ، وَوَاحِدٌ فِي أَفْعَالِهِ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَرُ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَهُمْ هُوَ الثَّالِثُ وَهُوَ " تَوْحِيدُ الْأَفْعَالِ " وَهُوَ أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ وَاحِدٌ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ دَلَالَةِ التَّمَانُعِ وَغَيْرِهَا وَيَظُنُّونَ أَنَّ هَذَا هُوَ التَّوْحِيدُ الْمَطْلُوبُ ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ حَتَّى قَدْ يَجْعَلُوا مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ الْقُدْرَةَ عَلَى الِاخْتِرَاعِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَرَبِ الَّذِينَ بُعِثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا : لَمْ يَكُونُوا يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا بَلْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إنَّهُمْ كَانُوا يُقِرُّونَ بِالْقَدَرِ أَيْضًا وَهُمْ مَعَ هَذَا مُشْرِكُونَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنْ لَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَنْ يُنَازِعُ فِي أَصْلِ هَذَا الشِّرْكِ ؛ وَلَكِنْ غَايَةُ مَا يُقَالُ : إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْمَوْجُودَاتِ خَلْقًا لِغَيْرِ اللَّهِ كَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْعِبَادِ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِنْ قَالُوا إنَّهُمْ خَلَقُوا أَفْعَالَهُمْ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْفَلْسَفَةِ وَالطَّبْعِ وَالنُّجُومِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقَاتِ مُبْدِعَةٌ لِبَعْضِ الْأُمُورِ هُمْ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالصَّانِعِ يَجْعَلُونَ هَذِهِ الْفَاعِلَاتِ مَصْنُوعَةً

مَخْلُوقَةً لَا يَقُولُونَ إنَّهَا غَنِيَّةٌ عَنْ الْخَالِقِ مُشَارِكَةٌ لَهُ فِي الْخَلْقِ فَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ الصَّانِعَ فَذَاكَ جَاحِدٌ مُعَطِّلٌ لِلصَّانِعِ كَالْقَوْلِ الَّذِي أَظْهَرَ فِرْعَوْنُ وَالْكَلَامُ الْآنَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِاَللَّهِ الْمُقِرِّينَ بِوُجُودِهِ فَإِنَّ هَذَا التَّوْحِيدَ الَّذِي قَرَّرُوهُ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ بَلْ يُقِرُّونَ بِهِ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَكَمَا عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ " النَّوْعُ الثَّانِي " - وَهُوَ قَوْلُهُمْ : لَا شَبِيهَ لَهُ فِي صِفَاتِهِ - فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمَمِ مَنْ أَثْبَتَ قَدِيمًا مُمَاثِلًا لَهُ فِي ذَاتِهِ سَوَاءٌ قَالَ إنَّهُ يُشَارِكُهُ . أَوْ قَالَ : إنَّهُ لَا فِعْلَ لَهُ ؛ بَلْ مَنْ شَبَّهَ بِهِ شَيْئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فَإِنَّمَا يُشَبِّهُهُ بِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَقْلِ امْتِنَاعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلٌ فِي الْمَخْلُوقَاتِ يُشَارِكُهُ فِيمَا يَجِبُ أَوْ يَجُوزُ أَوْ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعُلِمَ أَيْضًا بِالْعَقْلِ أَنَّ كُلَّ مَوْجُودَيْنِ قَائِمَيْنِ بِأَنْفُسِهِمَا فَلَا بُدَّ بَيْنَهُمَا مِنْ قَدْرٍ مُشْتَرَكٍ كَاتِّفَاقِهِمَا فِي مُسَمَّى الْوُجُودِ وَالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ وَالذَّاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ نَفْيَ ذَلِكَ يَقْتَضِي التَّعْطِيلَ الْمَحْضَ وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ خَصَائِصِ الرُّبُوبِيَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ أَدْرَجُوا نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي مُسَمَّى التَّوْحِيدِ فَصَارَ مَنْ قَالَ : إنَّ لِلَّهِ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إنَّهُ يُرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ يَقُولُونَ : إنَّهُ مُشَبَّهٌ لَيْسَ بِمُوَحَّدٍ

وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ فَنَفَوْا أَسْمَاءَهُ الْحُسْنَى وَقَالُوا : مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ عَزِيزٌ حَكِيمٌ : فَهُوَ مُشَبِّهٌ لَيْسَ بِمُوَحِّدٍ وَزَادَ عَلَيْهِمْ غُلَاةُ الْغُلَاةِ وَقَالُوا : لَا يُوصَفُ بِالنَّفْيِ وَلَا الْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْبِيهًا لَهُ وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ وَقَعُوا مِنْ جِنْسِ التَّشْبِيهِ فِيمَا هُوَ شَرٌّ مِمَّا فَرُّوا مِنْهُ فَإِنَّهُمْ شَبَّهُوهُ بِالْمُمْتَنِعَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْجَمَادَاتِ فِرَارًا مِنْ تَشْبِيهِهِمْ - بِزَعْمِهِمْ - لَهُ بِالْأَحْيَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةَ لِلَّهِ لَا تَثْبُتُ لَهُ عَلَى حَدٍّ مَا يَثْبُتُ لِمَخْلُوقِ أَصْلًا وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إثْبَاتِ الذَّاتِ وَإِثْبَاتِ الصِّفَاتِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الذَّاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لِلذَّوَاتِ : لَمْ يَكُنْ فِي إثْبَاتِ الصِّفَاتِ إثْبَاتُ مُمَاثَلَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ يَجْعَلُونَ هَذَا تَوْحِيدًا ؛ وَيَجْعَلُونَ مُقَابِلَ ذَلِكَ التَّشْبِيهَ ، وَيُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ الْمُوَحِّدِينَ وَكَذَلِكَ " النَّوْعُ الثَّالِثُ " وَهُوَ قَوْلُهُمْ : هُوَ وَاحِدٌ لَا قَسِيمَ لَهُ فِي ذَاتِهِ أَوْ لَا جُزْءَ لَهُ أَوْ لَا بَعْضَ لَهُ ؛ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَحَدٌ صَمَدٌ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ؛ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَفَرَّقَ أَوْ يَتَجَزَّأَ أَوْ يَكُونَ قَدْ رُكِّبَ مِنْ أَجْزَاءٍ ؛ لَكِنَّهُمْ يُدْرِجُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ عُلُوِّهِ عَلَى عَرْشِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ وَامْتِيَازَهُ عَنْهُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الْمُسْتَلْزِمَةِ لِنَفْيِهِ وَتَعْطِيلِهِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ مِنْ التَّوْحِيدِ

فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَا يُسَمُّونَهُ تَوْحِيدًا : فِيهِ مَا هُوَ حَقٌّ ، وَفِيهِ مَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَوْ كَانَ جَمِيعُهُ حَقًّا ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ إذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ كُلِّهِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ الشِّرْكِ الَّذِي وَصَفَهُمْ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِفُوا أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ ( بِالْإِلَهِ ) هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ كَمَا ظَنَّهُ مَنْ ظَنَّهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَكَلِّمِينَ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِلَهِيَّةَ هِيَ الْقُدْرَةُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ وَأَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الِاخْتِرَاعِ دُونَ غَيْرِهِ فَقَدْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ . فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يُقِرُّونَ بِهَذَا وَهُمْ مُشْرِكُونَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بَلْ الْإِلَهُ الْحَقُّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِأَنْ يُعْبَدَ فَهُوَ إلَهٌ بِمَعْنَى مَأْلُوهٍ ؛ لَا إلَهَ بِمَعْنَى آلِهٍ ؛ وَالتَّوْحِيدُ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْإِشْرَاكُ أَنْ يُجْعَلَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ غَايَةَ مَا يُقَرِّرُهُ هَؤُلَاءِ النُّظَّارُ ؛ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ لِلْقَدَرِ الْمُنْتَسِبُونَ إلَى السُّنَّةِ إنَّمَا هُوَ تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَعَ هَذَا فَالْمُشْرِكُونَ كَانُوا مُقِرِّينَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُمْ مُشْرِكُونَ وَكَذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَالتَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ : غَايَةُ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ التَّوْحِيدِ هُوَ شُهُودُ هَذَا التَّوْحِيدِ وَأَنْ يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ لَا سِيَّمَا إذَا غَابَ الْعَارِفُ بِمَوْجُودِهِ عَنْ

وَجُودِهِ وَبِمَشْهُودِهِ عَنْ شُهُودِهِ وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَدَخَلَ فِي فَنَاءِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بِحَيْثُ يَفْنَى مَنْ لَمْ يَكُنْ وَيَبْقَى مَنْ لَمْ يَزَلْ فَهَذَا عِنْدَهُمْ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي لَا غَايَةَ وَرَاءَهَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا هُوَ تَحْقِيقُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ التَّوْحِيدِ وَلَا يَصِيرُ الرَّجُلُ بِمُجَرَّدِ هَذَا التَّوْحِيدِ مُسْلِمًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ أَوْ مِنْ سَادَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ وَالْمَعْرِفَةِ : يُقَرِّرُونَ هَذَا التَّوْحِيدَ مَعَ إثْبَاتِ الصِّفَاتِ فَيَفْنَوْنَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ مَعَ إثْبَاتِ الْخَالِقِ لِلْعَالَمِ الْمُبَايِنِ لِمَخْلُوقَاتِهِ ، وَآخَرُونَ يَضُمُّونَ هَذَا إلَى نَفْيِ الصِّفَاتِ فَيَدْخُلُونَ فِي التَّعْطِيلِ مَعَ هَذَا ، وَهَذَا شَرٌّ مِنْ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ جَهْمٌ يَنْفِي الصِّفَاتِ وَيَقُولُ بِالْجَبْرِ فَهَذَا تَحْقِيقُ قَوْلِ جَهْمٍ لَكِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ : فَارَقَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَكِنَّ جَهْمًا وَمَنْ اتَّبَعَهُ يَقُولُ بِالْإِرْجَاءِ ؛ فَيَضْعُفُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عِنْدَهُ .
والنجارية والضرارية وَغَيْرُهُمْ : يَقْرَبُونَ مِنْ جَهْمٍ فِي مَسَائِلِ الْقَدَرِ وَالْإِيمَانِ مَعَ مُقَارَبَتِهِمْ لَهُ أَيْضًا فِي نَفْيِ الصِّفَاتِ.

والْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةُ : خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فِي بَابِ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُمْ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ الصِّفَاتِ الْعَقْلِيَّةَ ، وَأَئِمَّتُهُمْ يُثْبِتُونَ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا فُصِّلَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَمَّا فِي بَابِ الْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ فَأَقْوَالُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ . والْكُلَّابِيَة هُمْ أَتْبَاعُ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كِلَابٍ الَّذِي سَلَكَ الْأَشْعَرِيُّ خُطَّتَهُ وَأَصْحَابُ ابْنُ كِلَابٍ كَالْحَارِثِ الْمُحَاسَبِيِّ ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ القلانسي وَنَحْوِهِمَا . خَيْرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ فِي هَذَا وَهَذَا فَكُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ إلَى السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ أَقْرَبَ كَانَ قَوْلُهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ والكَرَّامِيَة قَوْلُهُمْ فِي الْإِيمَانِ قَوْلٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَسْبِقْهُمْ إلَيْهِ أَحَدٌ حَيْثُ جَعَلُوا الْإِيمَانَ قَوْلَ اللِّسَانِ وَإِنْ كَانَ مَعَ عَدَمِ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ فَيَجْعَلُونَ الْمُنَافِقَ مُؤْمِنًا ؛ لَكِنَّهُ يَخْلُدُ فِي النَّارِ فَخَالَفُوا الْجَمَاعَةَ فِي الِاسْمِ دُونَ الْحُكْمِ ، وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعِيدِ فَهُمْ أَشْبَهُ مِنْ أَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الَّتِي فِي أَقْوَالِهَا مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَهُمْ يَنْفُونَ الصِّفَاتِ وَيُقَارِبُونَ قَوْلَ جَهْمٍ لَكِنَّهُمْ

يَنْفُونَ الْقَدَرَ ؛ فَهُمْ وَإِنْ عَظَّمُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ؛ وَغَلَوْا فِيهِ ؛ فَهُمْ يُكَذِّبُونَ بِالْقَدَرِ فَفِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ الشِّرْكِ مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعَ إنْكَارِ الْقَدَرِ خَيْرٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَدَرِ مَعَ إنْكَارِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَنْ يَنْفِي الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَكَانَ قَدْ نَبَغَ فِيهِمْ الْقَدَرِيَّةُ كَمَا نَبَغَ فِيهِمْ الْخَوَارِجُ : الحرورية وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ الْبِدَعِ أَوَّلًا مَا كَانَ أَخْفَى وَكُلَّمَا ضَعُفَ مَنْ يَقُومُ بِنُورِ النُّبُوَّةِ قَوِيَتْ الْبِدْعَةُ فَهَؤُلَاءِ الْمُتَصَوِّفُونَ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ الْحَقِيقَةَ الْكَوْنِيَّةَ مَعَ إعْرَاضِهِمْ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ : شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَحْوِهِمْ : أُولَئِكَ يُشْبِهُونَ الْمَجُوسَ وَهَؤُلَاءِ يُشْبِهُونَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } وَالْمُشْرِكُونَ شَرٌّ مِنْ الْمَجُوسِ فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَهُ ؛ فَإِنَّهُ أَصْلُ الْإِسْلَامِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ أَصْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بالوحدانية وَالرِّسَالَةِ : شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ . وَقَدْ وَقَعَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي الْإِخْلَالِ بِحَقِيقَةِ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَعَ ظَنِّهِ أَنَّهُ فِي غَايَةِ التَّحْقِيقِ وَالتَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ .

فَإِقْرَارُ الْمُشْرِكِ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكُهُ وَخَالِقُهُ : لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ أَحَدٌ إلَّا هُوَ ؛ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيَجِبُ تَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ وَطَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ :
الْأَصْلُ الْأَوَّلُ " تَوْحِيدُ الْإِلَهِيَّةِ "
فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَخْبَرَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا وَسَائِطَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ يَدْعُونَهُمْ وَيَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ بِدُونِ إذْنِ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا هَؤُلَاءِ شُفَعَاءَ مُشْرِكُونَ وَقَالَ تَعَالَى عَنْ مُؤْمِنِ يس { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ } { إنِّي إذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } { إنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ شُفَعَائِهِمْ أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فِيهِمْ شُرَكَاءُ ، وَقَالَ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ } { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِنْ

دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ : كَانَ قَوْمٌ يَدْعُونَ الْعُزَيْرَ وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى اللَّهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ وَمِنْ تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لَهُ حَقًّا لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ ؛ كَالْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا أَنْزَلْنَا

إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } إلَى قَوْلِهِ : { الشَّاكِرِينَ } وَكُلٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَقُولُ لِقَوْمِهِ : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي التَّوَكُّلِ : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وَقَالَ : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } . فَقَالَ فِي الْإِتْيَانِ : { مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } وَقَالَ فِي التَّوَكُّلِ : { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ } وَلَمْ يَقُلْ : وَرَسُولُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ هُوَ الْإِعْطَاءُ الشَّرْعِيُّ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْإِبَاحَةَ وَالْإِحْلَالَ الَّذِي بَلَغَهُ الرَّسُولُ فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّهُ وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينَ مَا شَرَعَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَأَمَّا الحسب فَهُوَ الْكَافِي وَاَللَّهُ وَحْدَهُ كَافٍ عَبْدَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فَهُوَ وَحْدَهُ حَسْبُهُمْ كُلُّهُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِيكُمْ كُلُّكُمْ

وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ حَسْبُك كَمَا يَظُنُّهُ بَعْضُ الغالطين إذْ هُوَ وَحْدَهُ كَافٍ نَبِيَّهُ وَهُوَ حَسْبُهُ لَيْسَ مَعَهُ مَنْ يَكُونُ هُوَ وَإِيَّاهُ حسبا لِلرَّسُولِ وَهَذَا فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ :
فَحَسْبُك وَالضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : حَسْبُك وَزَيْدًا دِرْهَمٌ أَيْ يَكْفِيك وَزَيْدًا جَمِيعًا دِرْهَمٌ وَقَالَ فِي الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالتَّقْوَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } فَأَثْبَتَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَأَثْبَتَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ كَمَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ } فَجَعَلَ الْعِبَادَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ وَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلرَّسُولِ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَقَالَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : وَأَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ؟

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ الصَّالِحِ : إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } . وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : " { مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إلَّا نَفْسَهُ وَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا . } وَقَالَ : " { وَلَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ } فَفِي الطَّاعَةِ : قَرَنَ اسْمَ الرَّسُولِ بِاسْمِهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ ، وَفِي الْمَشِيئَةِ : أَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ بِحَرْفِ " ثُمَّ " وَذَلِكَ لِأَنَّ طَاعَةَ الرَّسُولِ طَاعَةٌ لِلَّهِ فَمَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ، وَطَاعَةُ اللَّهِ طَاعَةُ الرَّسُولِ بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ فَلَيْسَتْ مَشِيئَةُ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ مَشِيئَةً لِلَّهِ ، وَلَا مَشِيئَةُ اللَّهِ مُسْتَلْزِمَةً لِمَشِيئَةِ الْعِبَادِ بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَإِنْ لَمْ يَشَأْ النَّاسُ ، وَمَا شَاءَ النَّاسُ لَمْ يَكُنْ إنْ لَمْ يَشَأْ اللَّهُ .
الْأَصْلُ الثَّانِي : حَقُّ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَعَلَيْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِهِ وَنُطِيعَهُ وَنَتَّبِعَهُ وَنُرْضِيَهُ وَنُحِبَّهُ وَنُسَلِّمَ لِحُكْمِهِ وَأَمْثَالُ

ذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَأَمْثَالُ ذَلِكَ .

فَصْلٌ :
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا : فَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِخَلْقِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ : بِقَضَائِهِ وَشَرْعِهِ . وَأَهْلُ الضَّلَالِ الْخَائِضُونَ فِي الْقَدَرِ انْقَسَمُوا إلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ : مَجُوسِيَّةٍ ومشركية وإبليسية فَالْمَجُوسِيَّةُ : الَّذِينَ كَذَّبُوا بِقَدَرِ اللَّهِ وَإِنْ آمَنُوا بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ؛ فَغُلَاتُهُمْ أَنْكَرُوا الْعِلْمَ وَالْكِتَابَ وَمُقْتَصِدُوهُمْ أَنْكَرُوا عُمُومَ مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ وَقُدْرَتِهِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَالْفِرْقَةُ الثَّانِيَةُ : المشركية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَأَنْكَرُوا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ؛ قَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } فَمَنْ احْتَجَّ عَلَى تَعْطِيلِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِالْقَدَرِ فَهُوَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَذَا قَدْ كَثُرَ فِيمَنْ يَدَّعِي الْحَقِيقَةَ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْفِرْقَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُمْ الإبليسية الَّذِينَ أَقَرُّوا بِالْأَمْرَيْنِ لَكِنْ جَعَلُوا هَذَا مُتَنَاقِضًا مِنْ الرَّبِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَطَعَنُوا فِي حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ كَمَا يُذْكَرُ ذَلِكَ عَنْ إبْلِيسَ مُقَدِّمِهِمْ ؛ كَمَا نَقَلَهُ أَهْل الْمَقَالَاتِ وَنُقِلَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا مِمَّا تَقَوَّلَهُ أَهْلُ الضَّلَالِ ؛ وَأَمَّا أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ : فَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا وَهَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ وَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَكُلُّ شَيْءٍ أَحْصَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ وَيَتَضَمَّنُ هَذَا الْأَصْلُ مِنْ إثْبَاتِ عِلْمِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَبُّهُ وَمَلِيكُهُ : مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ . وَمَعَ هَذَا فَلَا يُنْكِرُونَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَخْلُقُ بِهَا الْمُسَبِّبَاتِ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ } وَقَالَ تَعَالَى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِالْأَسْبَابِ وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا فَقَدْ خَالَفَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَنْكَرَ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى وَالطَّبَائِعِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِإِنْكَارِ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْقُوَى الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ الَّتِي يَفْعَلُ الْحَيَوَانُ بِهَا مِثْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ كَمَا أَنَّ مَنْ جَعَلَهَا هِيَ الْمُبْدِعَةَ لِذَلِكَ فَقَدْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ وَأَضَافَ فِعْلَهُ إلَى غَيْرِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ سَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ إلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى سَبَبٍ آخَرَ فِي حُصُولِ مُسَبِّبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ مَانِعٍ يَمْنَعُ مُقْتَضَاهُ إذَا لَمْ يَدْفَعْهُ اللَّهُ عَنْهُ فَلَيْسَ فِي

الْوُجُودِ شَيْءٌ وَاحِدٌ يَسْتَقِلُّ بِفِعْلِ شَيْءٍ إذَا شَاءَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أَيْ فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ وَاحِدٌ وَلِهَذَا مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ - كَانَ جَاهِلًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدٌ صَدَرَ عَنْهُ وَحْدَهُ شَيْءٌ - لَا وَاحِدَ وَلَا اثْنَانِ - إلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ فَالنَّارُ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا حَرَارَةً لَا يَحْصُلُ الْإِحْرَاقُ إلَّا بِهَا وَبِمَحَلِّ يَقْبَلُ الِاحْتِرَاقَ ؛ فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى السمندل وَالْيَاقُوتِ وَنَحْوِهِمَا لَمْ تُحْرِقْهُمَا وَقَدْ يُطْلَى الْجِسْمُ بِمَا يَمْنَعُ إحْرَاقَهُ وَالشَّمْسُ الَّتِي يَكُونُ عَنْهَا الشُّعَاعُ لَا بُدَّ مِنْ جِسْمٍ يَقْبَلُ انْعِكَاسَ الشُّعَاعِ عَلَيْهِ فَإِذَا حَصَلَ حَاجِزٌ مِنْ سَحَابٍ أَوْ سَقْفٍ : لَمْ يَحْصُلْ الشُّعَاعُ تَحْتَهُ وَقَدْ بُسِطَ هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ " الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ " فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ مِنْ تَمَامِ التَّوْحِيدِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ وَآمَنَ بِالْقَدَرِ تَمَّ تَوْحِيدُهُ وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ ، وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ نَقَضَ تَوْحِيدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِيمَانِ بِالشَّرْعِ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا بَعَثَ اللَّهُ بِذَلِكَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ

وَالْإِنْسَانُ مُضْطَرٌّ إلَى شَرْعٍ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَرَكَةٍ يَجْلِبُ بِهَا مَنْفَعَتَهُ ، وَحَرَكَةٍ يَدْفَعُ بِهَا مَضَرَّتَهُ ؛ وَالشَّرْعُ هُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَنْفَعُهُ وَالْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّهُ وَهُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ ؛ فَلَا يُمْكِنُ لِلْآدَمِيِّينَ أَنْ يَعِيشُوا بِلَا شَرْعٍ يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ مَا يَفْعَلُونَهُ وَيَتْرُكُونَهُ . وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ مُجَرَّدَ الْعَدْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ بَلْ الْإِنْسَانُ الْمُنْفَرِدُ لَا بُدَّ لَهُ مَنْ فِعْلٍ وَتَرْكٍ ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ هَمَّامٌ حَارِثٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّامٌ } وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَاتِ فَإِذَا كَانَ لَهُ إرَادَةٌ فَهُوَ مُتَحَرِّكٌ بِهَا وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مَا يُرِيدُهُ هَلْ هُوَ نَافِعٌ لَهُ أَوْ ضَارٌّ ؟ وَهَلْ يُصْلِحُهُ أَوْ يُفْسِدُهُ ؟ وَهَذَا قَدْ يَعْرِفُ بَعْضَهُ النَّاسُ بِفِطْرَتِهِمْ كَمَا يَعْرِفُونَ انْتِفَاعَهُمْ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَكَمَا يَعْرِفُونَ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ بِفِطْرَتِهِمْ وَبَعْضُهُمْ يَعْرِفُونَهُ بِالِاسْتِدْلَالِ كَاَلَّذِي يَهْتَدُونَ بِهِ بِعُقُولِهِمْ وَبَعْضُهُ لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا بِتَعْرِيفِ الرُّسُلِ وَبَيَانِهِمْ لَهُمْ وَهِدَايَتِهِمْ لَهُمْ وَفِي هَذَا الْمَقَامِ تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ الْأَفْعَالَ هَلْ يُعْرَفُ حُسْنُهَا وَقَبِيحُهَا بِالْعَقْلِ أَمْ لَيْسَ لَهَا حَسَنٌ وَلَا قَبِيحٌ يُعْرَفُ بِالْعَقْلِ ؟ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ الِاشْتِبَاهِ . فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ يُلَائِمُ الْفَاعِلَ أَوْ يُنَافِرُهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَهُوَ

أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ سَبَبًا لِمَا يُحِبُّهُ الْفَاعِلُ وَيَلْتَذُّ بِهِ وَسَبَبًا لِمَا يُبْغِضُهُ وَيُؤْذِيه وَهَذَا الْقَدْرُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ تَارَةً وَبِالشَّرْعِ أُخْرَى وَبِهِمَا جَمِيعًا أُخْرَى ؛ لَكِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ وَمَعْرِفَةَ الْغَايَةِ الَّتِي تَكُونُ عَاقِبَةُ الْأَفْعَالِ : مِنْ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَمَرَتْ بِهِ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ كَمَا أَنَّ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ تَفْصِيلِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَعْلَمُونَ بِعُقُولِهِمْ جُمَلَ ذَلِكَ وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْإِيمَانُ وَجَاءَ بِهِ الْكِتَابُ هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إلَيَّ رَبِّي إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ إنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ } وَلَكِنْ تَوَهَّمَتْ طَائِفَةٌ أَنَّ لِلْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مَعْنًى غَيْرَ هَذَا وَأَنَّهُ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ وَقَابَلَتْهُمْ طَائِفَةٌ أُخْرَى ظَنَّتْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ : يَخْرُجُ عَنْ هَذَا فَكِلَا الطَّائِفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَثْبَتَتَا الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ الْعَقْلِيَّيْنِ أَوْ الشَّرْعِيَّيْنِ وَأَخْرَجَتَاهُ عَنْ هَذَا الْقِسْمِ غَلِطَتْ

ثُمَّ إنَّ كِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ لَمَّا كَانَتَا تُنْكِرُ أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِالْمَحَبَّةِ وَالرِّضَا وَالسُّخْطِ وَالْفَرَحِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ النُّصُوصُ الْإِلَهِيَّةُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّوَاهِدُ الْعَقْلِيَّةُ : تَنَازَعُوا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَفْعَلُ مَا هُوَ مِنْهُ قَبِيحٌ هَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِذَاتِهِ وَأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قُدْرَتُهُ عَلَى مَا هُوَ قَبِيحٌ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ لِمُجَرَّدِ الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَالْقَوْلَانِ فِي الِانْحِرَافِ مِنْ جِنْسِ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ أُولَئِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَالرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ ؛ فَلَا جَعَلُوهُ مَحْمُودًا عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْ الْعَدْلِ أَوْ مَا تَرَكَهُ مِنْ الظُّلْمِ وَلَا مَا فَعَلَهُ مِنْ الْإِحْسَانِ وَالنِّعْمَةِ وَمَا تَرَكَهُ مِنْ التَّعْذِيبِ وَالنِّقْمَةِ وَالْآخَرُونَ نَزَّهُوهُ بِنَاءً عَلَى الْقُبْحِ الْعَقْلِيِّ الَّذِي أَثْبَتُوهُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وَسَوَّوْهُ بِخَلْقِهِ فِيمَا يَحْسُنُ وَيَقْبُحُ ، وَشَبَّهُوهُ بِعِبَادِهِ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْقَدَرِ فَقَطْ وَعَظَّمَ الْفَنَاءَ فِي تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَوَقَفَ عِنْدَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ : لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْبِرِّ وَالْفُجُورِ وَالْعَدْلِ وَالظُّلْمِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَهَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ بِالضَّرُورَةِ لِكُتُبِ اللَّهِ وَدِينِهِ وَشَرَائِعِهِ فَهُمْ

مُخَالِفُونَ أَيْضًا لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالذَّوْقِ وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَذَّ بِشَيْءِ وَيَتَأَلَّمَ بِشَيْءِ فَيُمَيِّزَ بَيْنَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَمَا لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَبَيْنَ مَا يُؤْذِيه مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَهَذَا التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا يَنْفَعُهُ وَيَضُرُّهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ .
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْبَشَرَ يَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْتَوِي عِنْدَهُ الْأَمْرَانِ دَائِمًا : فَقَدْ افْتَرَى وَخَالَفَ ضَرُورَةَ الْحِسِّ ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ عَارِضٌ كَالسُّكْرِ وَالْإِغْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ عَنْ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأُمُورِ فَأَمَّا أَنْ يَسْقُطَ إحْسَاسُهُ بِالْكُلِّيَّةِ مَعَ وُجُودِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَهَذَا مُمْتَنِعٌ فَإِنَّ النَّائِمَ لَمْ يَفْقِدْ إحْسَاسَ نَفْسِهِ بَلْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا يَسُوءُهُ تَارَةً وَمَا يَسُرُّهُ أُخْرَى فَالْأَحْوَالُ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالِاصْطِلَامِ وَالْفَنَاءِ وَالسُّكْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا تَتَضَمَّنُ عَدَمَ الْإِحْسَاسِ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ بَعْضٍ فَهِيَ مَعَ نَقْصِ صَاحِبِهَا - لِضَعْفِ تَمْيِيزِهِ - لَا تَنْتَهِي إلَى حَدٍّ يَسْقُطُ فِيهِ التَّمْيِيزُ مُطْلَقًا وَمَنْ نَفَى التَّمْيِيزَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مُطْلَقًا وَعَظَّمَ هَذَا الْمَقَامَ فَقَدْ غَلِطَ فِي الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ : قَدْرًا وَشَرْعًا وَغَلِطَ فِي خَلْقِ اللَّهِ وَفِي أَمْرِهِ حَيْثُ ظَنَّ أَنَّ وُجُودَ هَذَا ؛ لَا وُجُودَ لَهُ وَحَيْثُ ظَنَّ أَنَّهُ مَمْدُوحٌ وَلَا مَدْحَ فِي عَدَمِ التَّمْيِيزِ : الْعَقْلُ وَالْمَعْرِفَةُ . وَإِذَا سَمِعْت بَعْضَ الشُّيُوخِ يَقُولُ : أُرِيدُ أَنْ لَا أُرِيدَ أَوْ أَنَّ الْعَارِفَ لَا حَظَّ لَهُ وَأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذَا إنَّمَا يُمْدَحُ

مِنْهُ سُقُوطُ إرَادَتِهِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِهَا وَعَدَمُ حَظِّهِ الَّذِي لَا يُؤْمَرُ بِطَلَبِهِ وَأَنَّهُ كَالْمَيِّتِ فِي طَلَبِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِطَلَبِهِ وَتَرْكِ دَفْعِ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِدَفْعِهِ وَمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ تَبْطُلُ إرَادَتُهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُحِسُّ بِاللَّذَّةِ وَالْأَلَمِ ؛ وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ فَهَذَا مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الْحِسِّ وَالْعَقْلِ . وَمَنْ مَدَحَ هَذَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِضَرُورَةِ الدِّينِ وَالْعَقْلِ .
وَالْفَنَاءُ يُرَادُ بِهِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : هُوَ الْفَنَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَمَّا لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ بِفِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ : فَيَفْنَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ بِعِبَادَتِهِ وَعَنْ طَاعَةِ غَيْرِهِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَعَنْ التَّوَكُّلِ عَلَى غَيْرِهِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَعَنْ مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ بِمَحَبَّتِهِ وَمَحَبَّةِ رَسُولِهِ ؛ وَعَنْ خَوْفِ غَيْرِهِ بِخَوْفِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَّبِعُ الْعَبْدُ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ ، وَبِحَيْثُ يَكُونُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } فَهَذَا كُلُّهُ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَمَّا ( الْفَنَاءُ الثَّانِي : وَهُوَ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يَفْنَى عَنْ شُهُودِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَيَفْنَى بِمَعْبُودِهِ عَنْ عِبَادَتِهِ وَبِمَذْكُورِهِ عَنْ ذِكْرِهِ

وَبِمَعْرُوفِهِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ بِحَيْثُ قَدْ يَغِيبُ عَنْ شُهُودِ نَفْسِهِ لِمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا حَالٌ نَاقِصٌ قَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ لَوَازِمَ طَرِيقِ اللَّهِ وَلِهَذَا لَمْ يُعْرَفْ مِثْلُ هَذَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ وَمَنْ جَعَلَ هَذَا نِهَايَةَ السَّالِكِينَ فَهُوَ ضَالٌّ ضَلَالًا مُبِينًا وَكَذَلِكَ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ لَوَازِمِ طَرِيقِ اللَّهِ فَهُوَ مُخْطِئٌ بَلْ هُوَ مِنْ عَوَارِضِ طَرِيقِ اللَّهِ الَّتِي تَعْرِضُ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ لَيْسَ هُوَ مِنْ اللَّوَازِمِ الَّتِي تَحْصُلُ لِكُلِّ سَالِكٍ وَأَمَّا الثَّالِثُ : فَهُوَ الْفَنَاءُ عَنْ وُجُودِ السَّوِيِّ بِحَيْثُ يَرَى أَنَّ وُجُودَ الْمَخْلُوقِ هُوَ عَيْنُ وُجُودِ الْخَالِقِ وَأَنَّ الْوُجُودَ وَاحِدٌ بِالْعَيْنِ فَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالِاتِّحَادِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَضَلِّ الْعِبَادِ وَأَمَّا مُخَالَفَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْقِيَاسِ : فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَطْرُدَ قَوْلَهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُشَاهِدًا لِلْقَدَرِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ فَعُومِلَ بِمُوجِبِ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يُضْرَبَ وَيُجَاعَ حَتَّى يُبْتَلَى بِعَظِيمِ الْأَوْصَابِ وَالْأَوْجَاعِ فَإِنْ لَامَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ وَعَابَهُ فَقَدْ نَقَضَ قَوْلُهُ وَخَرَجَ عَنْ أَصْلِ مَذْهَبِهِ وَقِيلَ لَهُ : هَذَا الَّذِي فَعَلَهُ مَقْضِيٌّ مَقْدُورٌ فَخَلْقُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَمَشِيئَتُهُ : مُتَنَاوَلٌ لَك وَلَهُ وَهُوَ يَعُمُّكُمَا فَإِنْ كَانَ الْقَدَرُ حُجَّةً لَك فَهُوَ حُجَّةٌ لِهَذَا وَإِلَّا فَلَيْسَ بِحُجَّةِ لَا لَك وَلَا لَهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَنْظُرُ إلَى الْقَدَرِ وَيُعْرِضُ

عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ وَيَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا } . وَقَالَ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ : { إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } فَالتَّقْوَى فِعْلُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } فَأَمَرَهُ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ بِالصَّبْرِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ أَوَّلَهُمْ وَآخِرَهُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : " { يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إلَى رَبِّكُمْ فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةٍ } وَقَالَ : " { إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِر اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ } . وَكَانَ يَقُولُ " { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَئِي وَعَمْدِي وَهَزْلِي وَجِدِّي وَكُلَّ ذَلِكَ عِنْدِي ؛ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ } وَقَدْ ذَكَرَ عَنْ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَابَ إلَيْهِ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَاهُ ؛ وَعَنْ إبْلِيسَ أَبِي الْجِنِّ - لَعَنَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَصَرَّ مُتَعَلِّقًا بِالْقَدَرِ فَلَعَنَهُ وَأَقْصَاهُ فَمَنْ أَذْنَبَ وَتَابَ وَنَدِمَ فَقَدْ أَشْبَهَ أَبَاهُ وَمَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا } { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ التَّوْحِيدِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي غَيْرِ آيَةٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَقِيمُوا إلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } { أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ وَغَيْرُهُ : " { يَقُولُ الشَّيْطَانُ أَهْلَكْت النَّاسَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالِاسْتِغْفَارِ ؛ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِكَ بَثَثْت فِيهِمْ الْأَهْوَاءَ فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } وَقَدْ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذِي النُّونِ أَنَّهُ نَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ قَالَ تَعَالَى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ } قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { دَعْوَةُ أَخِي ذِي النُّونِ مَا دَعَا بِهَا مَكْرُوبٌ إلَّا فَرَّجَ اللَّهُ كَرْبَهُ } وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ فِي الْأَمْرِ مَنْ أَصْلَيْنِ وَلَا بُدَّ لَهُ فِي الْقَدَرِ مِنْ أَصْلَيْنِ .

فَفِي " الْأَمْرِ " عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي الِامْتِثَالِ عِلْمًا وَعَمَلًا فَلَا تَزَالُ تَجْتَهِدُ فِي الْعِلْمِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْعَمَلِ بِذَلِكَ . ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ وَيَتُوبَ مِنْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمَأْمُورِ وَتَعَدِّيهِ الْحُدُودَ وَلِهَذَا كَانَ مِنْ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَخْتِمَ جَمِيعَ الْأَعْمَالِ بِالِاسْتِغْفَارِ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا انْصَرَفَ مِنْ صِلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ } فَقَامُوا بِاللَّيْلِ وَخَتَمُوهُ بِالِاسْتِغْفَارِ ، وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : " { سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي } يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ وَأَمَّا فِي " الْقَدَرِ " فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِينَ بِاَللَّهِ فِي فِعْلِ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَتَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَيَدْعُوَهُ ؛ وَيَرْغَبَ إلَيْهِ وَيَسْتَعِيذَ بِهِ وَيَكُونَ مُفْتَقِرًا إلَيْهِ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى الْمَقْدُورِ وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ ؛ وَإِذَا آذَاهُ النَّاسُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ احْتِجَاجُ آدَمَ وَمُوسَى لَمَّا قَالَ : يَا آدَمَ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَك اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيك مِنْ رُوحِهِ وَأَسْجَدَ لَك مَلَائِكَتَهُ ؛ لِمَاذَا أَخْرَجْتنَا

وَنَفْسَك مِنْ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمَ : أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاك اللَّهُ بِكَلَامِهِ فَبِكَمْ وَجَدْتَ مَكْتُوبًا عَلَيَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ أُخْلَقَ : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } قَالَ : بِكَذَا وَكَذَا فَحَجَّ آدَمَ مُوسَى وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ عَتَبُهُ لِآدَمَ لِأَجْلِ الذَّنْبِ فَإِنَّ آدَمَ قَدْ كَانَ تَابَ مِنْهُ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ؛ وَلَكِنْ لِأَجْلِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ ذَلِكَ . وَهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى الْقَدَرِ فِي الْمَصَائِبِ وَأَنْ يَسْتَغْفِرُوا مِنْ المعائب كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } فَمَنْ رَاعَى الْأَمْرَ وَالْقَدَرَ كَمَا ذَكَرَ : كَانَ عَابِدًا لِلَّهِ مُطِيعًا لَهُ مُسْتَعِينًا بِهِ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ مِنْ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ؛ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا .
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ فِي مَوَاضِعَ كَقَوْلِهِ : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَقَوْلِهِ : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } وَقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } وَقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } فَالْعِبَادَةُ لِلَّهِ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِ { وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عِنْدَ الْأُضْحِيَّةِ

اللَّهُمَّ مِنْك وَلَك } فَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ لَا يَكُونُ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَمَا لَمْ يَكُنْ بِاَللَّهِ فَلَا يَنْفَعُ وَلَا يَدُومُ.
وَلَا بُدَّ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ أَصْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا إخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ وَالثَّانِي مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ لِوَجْهِك خَالِصًا وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدِ فِيهِ شَيْئًا ؛ وَقَالَ الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ فِي قَوْله تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } قَالَ : أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ قَالُوا يَا أَبَا عَلِيٍّ : مَا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الْعَمَلُ خَالِصًا وَلَمْ يَكُنْ صَوَابًا لَمْ يُقْبَلْ وَإِذَا كَانَ صَوَابًا وَلَمْ يَكُنْ خَالِصًا لَمْ يُقْبَلْ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا ؛ وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ عَلَى السُّنَّةِ وَلِهَذَا ذَمَّ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ عَلَى اتِّبَاعِ مَا شَرَعَ لَهُمْ شُرَكَاؤُهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَفِعْلِ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ مِنْ الدِّينِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } كَمَا ذَمَّهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ حَرَّمُوا مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ . وَالدِّينُ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ .
ثُمَّ إنَّ النَّاسَ فِي عِبَادَتِهِ وَاسْتِعَانَتِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ :

فَالْمُؤْمِنُونَ الْمُتَّقُونَ هُمْ لَهُ وَبِهِ يَعْبُدُونَهُ وَيَسْتَعِينُونَهُ . وَطَائِفَةٌ تَعْبُدُهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ وَلَا صَبْرٍ فَتَجِدُ عِنْدَ أَحَدِهِمْ تَحَرِّيًا لِلطَّاعَةِ وَالْوَرَعِ وَلُزُومِ السُّنَّةِ ؛ لَكِنْ لَيْسَ لَهُمْ تَوَكُّلٌ وَاسْتِعَانَةٌ وَصَبْرٌ ؛ بَلْ فِيهِمْ عَجْزٌ وَجَزَعٌ . وَطَائِفَةٌ فِيهِمْ اسْتِعَانَةٌ وَتَوَكُّلٌ وَصَبْرٌ مِنْ غَيْرِ اسْتِقَامَةٍ عَلَى الْأَمْرِ وَلَا مُتَابَعَةٍ لِلسُّنَّةِ فَقَدْ يُمَكَّنُ أَحَدُهُمْ وَيَكُونُ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الْحَالِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيُعْطَى مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ مَا لَمْ يُعْطَهُ الصِّنْفُ الْأَوَّلُ وَلَكِنْ لَا عَاقِبَةَ لَهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمُتَّقِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ؛ فَالْأَوَّلُونَ لَهُمْ دِينٌ ضَعِيفٌ وَلَكِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ بَاقٍ ؛ إنْ لَمْ يُفْسِدْهُ صَاحِبُهُ بِالْجَزَعِ وَالْعَجْزِ ؛ وَهَؤُلَاءِ لِأَحَدِهِمْ حَالٌ وَقُوَّةٌ وَلَكِنْ لَا يَبْقَى لَهُ إلَّا مَا وَافَقَ فِيهِ الْأَمْرَ وَاتَّبَعَ فِيهِ السُّنَّةَ وَشَرُّ الْأَقْسَامِ مَنْ لَا يَعْبُدُهُ وَلَا يَسْتَعِينُهُ ؛ فَهُوَ لَا يَشْهَدُ أَنَّ عِلْمَهُ لِلَّهِ وَلَا أَنَّهُ بِاَللَّهِ فَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ - مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْقَدَرَ - هُمْ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَبْرِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يُعْرِضُونَ عَنْ الشَّرْعِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالصُّوفِيَّةُ هُمْ فِي الْقَدَرِ وَمُشَاهَدَةِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ : خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَلَكِنْ فِيهِمْ مَنْ فِيهِ نَوْعُ بِدَعٍ مَعَ إعْرَاضٍ عَنْ بَعْضِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ

حَتَّى يَجْعَلُوا الْغَايَةَ هِيَ مُشَاهَدَةُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَالْفَنَاءِ فِي ذَلِكَ وَيَصِيرُونَ أَيْضًا مُعْتَزِلِينَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَسُنَّتِهِمْ فَهُمْ مُعْتَزِلَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ يَكُونُ مَا وَقَعُوا فِيهِ مِنْ الْبِدْعَةِ شَرًّا مِنْ بِدْعَةِ أُولَئِكَ الْمُعْتَزِلَةِ وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ نَشَأَتْ مِنْ الْبَصْرَةِ . وَإِنَّمَا دِينُ اللَّهِ مَا بَعَثَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَهُوَ طَرِيقَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرِ الْقُرُونِ وَأَفْضَلِ الْأُمَّةِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ النَّبِيِّينَ ، قَالَ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } فَرَضِيَ عَنْ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ رِضًا مُطْلَقًا وَرَضِيَ عَنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : " { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ ؛ أُولَئِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَرُّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا ؛ قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ .

وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا وَخُذُوا طَرِيقَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمُوهُمْ لَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا وَلَئِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالًا لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { خَطَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطًّا وَخَطَّ حَوْلَهُ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ : هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهِ ثُمَّ قَرَأَ { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } } وَقَدْ أَمَرَنَا سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ فِي صِلَاتِنَا { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْيَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ } وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ عَرَفُوا الْحَقَّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ وَالنَّصَارَى عَبَدُوا اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ . وَلِهَذَا كَانَ يُقَالُ : تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَنْ لَا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { الم } { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مُهْتَدُونَ مُفْلِحُونَ وَذَلِكَ خِلَافُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَهْدِيَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا صِرَاطَهُ الْمُسْتَقِيمَ ؛ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيَّيْنِ والصديقين وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

سَأَلَ شَيْخَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
أَحَدُ قُضَاةِ وَاسِطَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ عَقِيدَةً تَكُونُ عُمْدَةً لَهُ وَأَهْلِ بَيْتِهِ .
فَأَجَابَهُ :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ : إقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا مَزِيدًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَهَذَا اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ الْمَنْصُورَةِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ - أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وَهُوَ : الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ : خَيْرِهِ وَشَرِّهِ .
وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ : الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ

بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَلَا يُكَيِّفُونَ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَأَصْدَقُ قِيلًا وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُونَ مَصْدُوقُونَ ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصْفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيمَا وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَلَا عُدُولَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ : مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ . وَقَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ الَّتِي تَعْدِلُ

ثُلُثَ الْقُرْآنِ حَيْثُ يَقُولُ : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي أَعْظَمِ آيَةٍ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ يَقُولُ : { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } وَلِهَذَا كَانَ مَنْ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي لَيْلَةٍ لَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } وَقَوْلُهُ : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ } وَقَوْلُهُ : { لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا }

وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } وَقَوْلُهُ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } وَقَوْلُهُ : { وَلَوْلَا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } وَقَوْلُهُ : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } وَقَوْلُهُ : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } وَقَوْلُهُ : { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } وَقَوْلُهُ : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } وَقَوْلُهُ : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } . وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } وَقَوْلُهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } { إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }

وَقَوْلُهُ : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } وَقَوْلُهُ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ } وَقَوْلُهُ : { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَوْلُهُ : { وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } وَقَوْلُهُ : { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وَقَوْلُهُ : { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ } وَقَوْلُهُ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } { كَلَّا إذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا } { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا } وَقَوْلُهُ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ } وَقَوْلُهُ : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } وَقَوْلُهُ : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ } { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وَقَوْلُهُ : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ

وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } وَقَوْلُهُ : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } { إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } وَقَوْلُهُ : { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } وَقَوْلُهُ : { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } وَقَوْلُهُ { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } وَقَوْلُهُ : { إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا } { وَأَكِيدُ كَيْدًا } وَقَوْلُهُ : { إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ } وَقَوْلُهُ عَنْ إبْلِيسَ : { فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } وَقَوْلُهُ : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } وَقَوْلُهُ : { فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ

وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذًا لَذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَقَوْلُهُ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ : فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ قَوْلُهُ : { إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَقَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَقَالَ فِي سُورَةِ طَه : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا

فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَقَالَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } وَقَوْلُهُ : { يَا عِيسَى إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إلَيَّ } { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ } { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ } { أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } { أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } وَقَوْلُهُ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وَقَوْلُهُ : { لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } { إنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } { وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا } { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } { وَكَلَّمَ اللَّهُ

مُوسَى تَكْلِيمًا } { مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ } { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } { وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } { وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ } { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } { يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ } { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } { لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } وَقَوْلُهُ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } { عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } . وَهَذَا الْبَابُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كَثِيرٌ مَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ .

فَصْلٌ :
فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ ؛ وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ . مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ } ؟ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِرَاحِلَتِهِ } الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَضْحَكُ اللَّهُ إلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

وَقَوْلُهُ : { عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وَقُرْبِ غَيْرِهِ يَنْظُرُ إلَيْكُمْ أزلين قنطين فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ } حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَوْلُهُ { لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ يُلْقَى فِيهَا وَهِيَ تَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟ حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا رِجْلَهُ - وَفِي رِوَايَةٍ : عَلَيْهَا قَدَمَهُ - فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ : قَطُّ قَطُّ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا آدَمَ فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وسعديك . فَيُنَادِي بِصَوْتِ : إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِك بَعْثًا إلَى النَّارِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَقَوْلُهُ : { مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُقْيَةِ الْمَرِيضِ : { رَبُّنَا اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ تَقَدَّسَ اسْمُك أَمْرُك فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ كَمَا رَحْمَتُك فِي السَّمَاءِ اجْعَلْ رَحْمَتَك فِي الْأَرْضِ . اغْفِرْ لَنَا حَوْبَنَا وَخَطَايَانَا ؛ أَنْتَ رَبُّ الطَّيِّبِينَ أَنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفَاءً مِنْ شِفَائِكَ عَلَى هَذَا الْوَجَعِ ؛ فَيَبْرَأُ } حَدِيثٌ حَسَنٌ . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ وَقَوْلُهُ : { أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ } حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ : { وَالْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ } حَدِيثٌ حَسَنٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ : فِي السَّمَاءِ . قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ . قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ

وَقَوْلُهُ : { أَفْضَلُ الْإِيمَانِ : أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَك حَيْثُمَا كُنْت } حَدِيثٌ حَسَنٌ وَقَوْلُهُ : " { إذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا يَبْصُقْ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَا عَنْ يَمِينِهِ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ : " { اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ؛ أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَك شَيْءٌ ؛ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَك شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَك شَيْءٌ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَأَغْنِنِي مِنْ الْفَقْرِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَقَوْلُهُ لَمَّا رَفَعَ أَصْحَابُهُ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ : " { أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تضامون فِي رُؤْيَتِهِ فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قَبْلَ غُرُوبِهَا : فَافْعَلُوا } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ . إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ .

فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ - أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ؛ بَلْ هُمْ الْوَسَطُ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ . فَهُمْ وَسَطٌ فِي ( بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة ؛ وَأَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ . وَهُمْ وَسَطٌ فِي ( بَابِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى بَيْنَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ وَفِي بَابِ ( وَعِيدِ اللَّهِ بَيْنَ الْمُرْجِئَةِ والوعيدية : مِنْ الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَفِي ( بَابِ أَسْمَاءِ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ بَيْنَ الحرورية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَبَيْنَ الْمُرْجِئَةِ وَالْجَهْمِيَّة ( وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الرَّوَافِضِ وَالْخَوَارِجِ

فَصْلٌ :
وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ : الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ وَتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ : مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ مَعَكُمْ } أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ ؛ بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ هُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ ؛ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ ؛ وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ مُطَّلِعٌ إلَيْهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ وَكُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ - مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا - حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ وَلَكِنْ يُصَانُ عَنْ الظُّنُونِ

الْكَاذِبَةِ مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ : { فِي السَّمَاءِ } أَنَّ السَّمَاءَ تُقِلُّهُ أَوْ تُظِلُّهُ ؛ وَهَذَا بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا بِإِذْنِهِ . { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } .
فَصْلٌ :
وَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ : الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ خَلْقِهِ مُجِيبٌ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } الْآيَةَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّحَابَةِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ : { أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا ؛ إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } وَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِه - لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي جَمِيعِ نُعُوتِهِ وَهُوَ عَلِيٌّ فِي دُنُوِّهِ قَرِيبٌ فِي عُلُوِّهِ .

فَصْلٌ :
وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَكُتُبِهِ : الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ ؛ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ ؛ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ عَنْهُ بَلْ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ بِذَلِكَ فِي الْمَصَاحِفِ : لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا . وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ ؛ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ ؛ لَيْسَ كَلَامُ اللَّهِ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِيَ دُونَ الْحُرُوفِ .
فَصْلٌ :
وَقَدْ دَخَلَ أَيْضًا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِرُسُلِهِ : الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ كَمَا يَرَوْنَ الشَّمْسَ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ وَكَمَا يَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا يضامون فِي رُؤْيَتِهِ يَرَوْنَهُ سُبْحَانَهُ وَهُمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخُولِ الْجَنَّةِ كَمَا يَشَاءُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .

فَصْلٌ :
وَمِنْ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ : فَيُؤْمِنُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَبِنَعِيمِهِ فَأَمَّا الْفِتْنَةُ : فَإِنَّ النَّاسَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ . فَيُقَالُ لِلرَّجُلِ : " { مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَنْ نَبِيُّك ؟ فَيُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ : اللَّهُ رَبِّي وَالْإِسْلَامُ دِينِي وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّي وَأَمَّا الْمُرْتَابُ فَيَقُولُ : هاه هاه لَا أَدْرِي سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْته فَيُضْرَبُ بِمِرْزَبَةِ مِنْ حَدِيدٍ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْإِنْسَانُ وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصَعِقَ } ثُمَّ بَعْدَ هَذِهِ الْفِتْنَةِ : إمَّا نَعِيمٌ وَإِمَّا عَذَابٌ إلَى أَنْ تَقُومَ الْقِيَامَةُ الْكُبْرَى فَتُعَادُ الْأَرْوَاحُ إلَى الْأَجْسَادِ وَتَقُومُ الْقِيَامَةُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فَيَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا وَتَدْنُو مِنْهُمْ الشَّمْسُ وَيُلْجِمُهُمْ الْعَرَقُ . وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ فَتُوزَنُ فِيهَا أَعْمَالُ الْعِبَادِ { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ

هُمُ الْمُفْلِحُونَ } { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } . وَتُنْشَرُ الدَّوَاوِينُ - وَهِيَ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ - فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } . وَيُحَاسِبُ اللَّهُ الْخَلَائِقَ وَيَخْلُو بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ كَمَا وُصِفَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ : فَلَا يُحَاسَبُونَ مُحَاسَبَةَ مَنْ تُوزَنُ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ ؛ فَإِنَّهُ لَا حَسَنَاتِ لَهُمْ وَلَكِنْ تُعَدُّ أَعْمَالُهُمْ وَتُحْصَى فَيُوقَفُونَ عَلَيْهَا وَيُقَرَّرُونَ بِهَا وَيُجْزَوْنَ بِهَا . وَفِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ : الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِمُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنْ الْعَسَلِ آنِيَتُهُ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ مَنْ يَشْرَبُ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرُكَّابِ الْإِبِلِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ ؛ فَإِنَّ الْجِسْرَ عَلَيْهِ كَلَالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ . فَإِذَا عَبَرُوا عَلَيْهِ وَقَفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ : مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ الْأُمَمِ : أُمَّتُهُ.
وَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقِيَامَةِ - ثَلَاثُ شَفَاعَاتٍ : -
أَمَّا الشَّفَاعَةُ الْأُولَى : فَيُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَتَرَاجَعَ الْأَنْبِيَاءُ : آدَمَ وَنُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَنْ الشَّفَاعَةِ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَيْهِ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ : فَيُشَفَّعُ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ؛ وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ خَاصَّتَانِ لَهُ وَأَمَّا الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ : فَيُشَفَّعُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَهُ وَلِسَائِرِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَغَيْرِهِمْ فَيُشَفَّعُ فِيمَنْ اسْتَحَقَّ النَّارَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا وَيُشَفَّعَ فِيمَنْ دَخَلَهَا أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا وَيُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ النَّارِ أَقْوَامًا بِغَيْرِ

شَفَاعَةٍ بَلْ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَيَبْقَى فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَهَا مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا فَيُنْشِئُ اللَّهُ لَهَا أَقْوَامًا فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ وَأَصْنَافُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ مِنْ الْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَتَفَاصِيلُ ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ ، وَالْآثَارِ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورَةِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ ، وَفِي الْعِلْمِ الْمَوْرُوثِ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ ذَلِكَ : مَا يَشْفِي وَيَكْفِي فَمَنْ ابْتَغَاهُ وَجَدَهُ .
وَتُؤْمِنُ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ - أَهْلُ السُّنَّة وَالْجَمَاعَةِ - بِالْقَدَرِ : خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ : - فَالدَّرَجَةُ الْأُولَى : الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَا الْخَلْقُ عَامِلُونَ بِعِلْمِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ أَزَلًا وَعَلِمَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ ثُمَّ كَتَبَ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ : { فَأَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ لَهُ : اُكْتُبْ . قَالَ : مَا أَكْتُبُ ؟ قَالَ : اُكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَا أَصَابَ الْإِنْسَانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ جَفَّتْ الْأَقْلَامُ وَطُوِيَتْ الصُّحُفُ } كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَقَالَ : { مَا أَصَابَ مِنْ

مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } وَهَذَا التَّقْدِيرُ - التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحَانَهُ - يَكُونُ فِي مَوَاضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا فَقَدْ كَتَبَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ مَا شَاءَ : وَإِذَا خَلَقَ جَسَدَ الْجَنِينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ بَعَثَ إلَيْهِ مَلَكًا ؛ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُقَالُ لَهُ : اُكْتُبْ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَهَذَا الْقَدَرُ قَدْ كَانَ يُنْكِرُهُ غُلَاةُ الْقَدَرِيَّةِ قَدِيمًا وَمُنْكِرُهُ الْيَوْمَ قَلِيلٌ وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ : فَهُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ النَّافِذَةُ وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنْ حَرَكَةٍ وَلَا سُكُونٍ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إلَّا مَا يُرِيدُ وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مِنْ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ . فَمَا مِنْ مَخْلُوقٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ إلَّا اللَّهُ خَالِقُهُ سُبْحَانَهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أَمَرَ الْعِبَادَ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رُسُلِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالْمُقْسِطِينَ وَيَرْضَى عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وَلَا يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ وَلَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَلَا يُحِبُّ الْفَسَادَ

وَالْعِبَادُ فَاعِلُونَ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ خَالِقُ أَفْعَالِهِمْ ؛ وَالْعَبْدُ هُوَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ وَالْمُصَلِّي وَالصَّائِمُ ؛ وَلِلْعِبَادِ قُدْرَةٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَلَهُمْ إرَادَةٌ ؛ وَاَللَّهُ خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ } { وَمَا تَشَاءُونَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وَهَذِهِ الدَّرَجَةُ مِنْ الْقَدَرِ : يُكَذِّبُ بِهَا عَامَّةُ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَغْلُو فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ حَتَّى سَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ وَيَخْرُجُونَ عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا .

فَصْلٌ :
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ : أَنَّ الدِّينَ وَالْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ : قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ، وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ . وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَفِّرُونَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِمُطْلَقِ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْخَوَارِجُ ؛ بَلْ الْأُخُوَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ ثَابِتَةٌ مَعَ الْمَعَاصِي كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْقِصَاصِ : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ }
وَلَا يَسْلُبُونَ الْفَاسِقَ الْمِلِّي اسْمَ الْإِيمَانِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يُخَلِّدُونَهُ فِي النَّارِ كَمَا تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ بَلْ الْفَاسِقُ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } . وَقَدْ لَا يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْإِيمَانِ الْمُطْلَقِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

{ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . وَيَقُولُونَ : هُوَ مُؤْمِنٌ نَاقِصُ الْإِيمَانِ أَوْ مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ ؛ فَلَا يُعْطَى الِاسْمَ الْمُطْلَقَ وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ
فَصْلٌ :
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : سَلَامَةُ قُلُوبِهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وَطَاعَةُ النَّبِيِّ فِي قَوْلِهِ : " { لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي . فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } . وَيَقْبَلُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ : مِنْ فَضَائِلِهِمْ وَمَرَاتِبِهِمْ . فَيُفَضِّلُونَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ - وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ - وَقَاتَلَ عَلَى مَنْ أَنْفَقَ مِنْ بَعْدِهِ وَقَاتَلَ وَيُقَدِّمُونَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّ { اللَّهَ قَالَ لِأَهْلِ

بَدْرٍ - وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ - : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } وَبِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ قَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَكَانُوا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ . وَيَشْهَدُونَ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ كَالْعَشَرَةِ وَكَثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَيُقِرُّونَ بِمَا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنَّ خَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ وَيُثَلِّثُونَ بِعُثْمَانِ وَيُرَبِّعُونَ بِعَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ وَكَمَا أَجْمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ فِي الْبَيْعَةِ مَعَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ السُّنَّةِ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - أَيُّهُمَا أَفْضَلُ فَقَدَّمَ قَوْمٌ عُثْمَانَ وَسَكَتُوا أَوْ رَبَّعُوا بِعَلِيِّ وَقَدَّمَ قَوْمٌ عَلِيًّا وَقَوْمٌ تَوَقَّفُوا ؛ لَكِنْ اسْتَقَرَّ أَمْرُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ - مَسْأَلَةُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - لَيْسَتْ مِنْ الْأُصُولِ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّة لَكِنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي يُضَلَّلُ الْمُخَالِفُ فِيهَا هِيَ " مَسْأَلَةُ الْخِلَافَةِ " وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَمَنْ طَعَنَ فِي خِلَافَةِ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فَهُوَ أَضَلُّ مِنْ حِمَارِ أَهْلِهِ .

وَيُحِبُّونَ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويتولونهم وَيَحْفَظُونَ فِيهِمْ وَصِيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ : { أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي } وَقَالَ أَيْضًا لِلْعَبَّاسِ عَمِّهِ - وَقَدْ اشْتَكَى إلَيْهِ أَنَّ بَعْضَ قُرَيْشٍ يَجْفُو بَنِي هَاشِمٍ - فَقَالَ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحِبُّوكُمْ لِلَّهِ وَلِقَرَابَتِي } وَقَالَ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إسْمَاعِيلَ وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ } .
وَيَتَوَلَّوْنَ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْآخِرَةِ خُصُوصًا خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أُمُّ أَكْثَرِ أَوْلَادِهِ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ وَعَاضَدَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَ لَهَا مِنْهُ الْمَنْزِلَةُ الْعَالِيَةُ وَالصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ } .
وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْ طَرِيقَةِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصَّحَابَةَ وَيَسُبُّونَهُمْ . وَمِنْ طَرِيقَةِ النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَهْلَ الْبَيْتِ بِقَوْلِ أَوْ عَمَلٍ وَيُمْسِكُونَ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ .

وَيَقُولُونَ : إنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْمَرْوِيَّةَ فِي مساويهم مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ وَالصَّحِيحِ مِنْهُ : هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ إمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ ؛ بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إنْ صَدَرَ حَتَّى إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ لِأَنَّ لَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ الَّتِي تَمْحُو السَّيِّئَاتِ مَا لَيْسَ لِمَنْ بَعْدَهُمْ وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ " " وَإِنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ " ثُمَّ إذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ مِنْ أَحَدِهِمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ أَوْ أَتَى بِحَسَنَاتِ تَمْحُوهُ أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ أَوْ اُبْتُلِيَ بِبَلَاءِ فِي الدُّنْيَا كَفَّرَ بِهِ عَنْهُ . فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالْأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ : إنْ أَصَابُوا فَلَهُمْ أَجْرَانِ وَإِنْ أَخْطَئُوا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ لَهُمْ ؟ ثُمَّ الْقَدْرُ الَّذِي يُنْكَرُ مِنْ فِعْلِ بَعْضِهِمْ قَلِيلٌ نَزْرٌ مَغْمُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ

وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمِ وَبَصِيرَةٍ وَمَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَضَائِلِ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ مِثْلُهُمْ وَأَنَّهُمْ هُمْ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : التَّصْدِيقُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ وَمَا يُجْرِي اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ فِي أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَالْمُكَاشَفَاتِ وَأَنْوَاعِ الْقُدْرَةِ وَالتَّأْثِيرَاتِ كَالْمَأْثُورِ عَنْ سَالِفِ الْأُمَمِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ وَغَيْرِهَا وَعَنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ قُرُونِ الْأُمَّةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .

فَصْلٌ :
ثُمَّ مِنْ طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : اتِّبَاعُ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاتِّبَاعُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَيَعْلَمُونَ أَنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُؤْثِرُونَ كَلَامَ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ كَلَامِ أَصْنَافِ النَّاسِ وَيُقَدِّمُونَ هَدْيَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَدْيِ كُلِّ أَحَدٍ وَبِهَذَا سُمُّوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ ؛ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ ؛ " وَالْإِجْمَاعُ " هُوَ الْأَصْلُ الثَّالِثُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ . وَهُمْ يَزِنُونَ بِهَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَعْمَالٍ بَاطِنَةٍ أَوْ ظَاهِرَةٍ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدِّينِ ؛ وَالْإِجْمَاعُ الَّذِي يَنْضَبِطُ : هُوَ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ ؛ إذْ بَعْدَهُمْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ وَانْتَشَرَتْ الْأُمَّةُ .

فَصْلٌ :
ثُمَّ هُمْ مَعَ هَذِهِ الْأُصُولِ : يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ الشَّرِيعَةُ . وَيَرَوْنَ إقَامَةَ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ مَعَ الْأُمَرَاءِ أَبْرَارًا كَانُوا أَوْ فُجَّارًا وَيُحَافِظُونَ عَلَى الْجَمَاعَاتِ . وَيَدِينُونَ بِالنَّصِيحَةِ لِلْأُمَّةِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَقَوْلُهُ : " { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ : كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } وَيَأْمُرُونَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ وَالرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَيَدْعُونَ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَيَعْتَقِدُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ : " { أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا } . وَيَنْدُبُونَ إلَى أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك ، وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك ؛ وَيَأْمُرُونَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ ؛ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْفَخْرِ

وَالْخُيَلَاءِ وَالْبَغْيِ وَالِاسْتِطَالَةِ عَلَى الْخَلْقِ بِحَقِّ أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ وَيَأْمُرُونَ بِمَعَالِي الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ سَفْسَافِهَا وَكُلُّ مَا يَقُولُونَهُ أَوْ يَفْعَلُونَهُ مِنْ هَذَا أَوْ غَيْرِهِ : فَإِنَّمَا هُمْ فِيهِ مُتَّبِعُونَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . " وَطَرِيقَتُهُمْ " هِيَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا . لَكِنْ لَمَّا { أَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إلَّا وَاحِدَةٌ - وَهِيَ الْجَمَاعَةُ - } وَفِي حَدِيثٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " { هُمْ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي } صَارَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ الْمَحْضِ الْخَالِصِ عَنْ الشَّوْبِ : هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ؛ وَفِيهِمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى ؛ وَمَصَابِيحُ الدُّجَى ؛ أُولُوا الْمَنَاقِبِ الْمَأْثُورَةِ وَالْفَضَائِلِ الْمَذْكُورَةِ ؛ وَفِيهِمْ الْأَبْدَالُ : الْأَئِمَّةُ الَّذِينَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ وَهُمْ الطَّائِفَةُ الْمَنْصُورَةُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ النَّبِيُّ : " { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } . فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ وَأَنْ لَا يُزِيغَ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا وَيَهَبَ لَنَا مِنْ لَدُنْهُ رَحْمَةً إنَّهُ هُوَ الْوَهَّابُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .

قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا ظَهِيرَ لَهُ وَلَا مُعِينَ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ الَّذِي أَرْسَلَهُ إلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا وَعَلَى سَائِرِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ سُئِلْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ أَكْتُبَ مَا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِمَّا جَرَى فِي الْمَجَالِسِ الثَّلَاثَةِ الْمَعْقُودَةِ لِلْمُنَاظَرَةِ فِي أَمْرِ الِاعْتِقَادِ بِمُقْتَضَى مَا وَرَدَ بِهِ كِتَابُ السُّلْطَانِ مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ إلَى نَائِبِهِ أَمِيرِ الْبِلَادِ . لَمَّا سَعَى إلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ الْجَهْمِيَّة ؛ وَالِاتِّحَادِيَّة ؛ وَالرَّافِضَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ ذَوِي الْأَحْقَادِ . فَأَمَرَ الْأَمِيرُ بِجَمْعِ الْقُضَاةِ الْأَرْبَعَةِ ؛ قُضَاةِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ؛ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نُوَّابِهِمْ ؛ وَالْمُفْتِينَ وَالْمَشَايِخِ ؛ مِمَّنْ لَهُ حُرْمَةٌ وَبِهِ اعْتِدَادٌ . وَهُمْ لَا يَدْرُونَ

مَا قُصِدَ بِجَمْعِهِمْ فِي هَذَا الْمِيعَادِ وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ثَامِنَ رَجَبٍ الْمُبَارَكِ عَامَ خَمْسٍ وَسَبْعِمِائَةٍ فَقَالَ لِي : هَذَا الْمَجْلِسُ عُقِدَ لَك فَقَدْ وَرَدَ مَرْسُومُ السُّلْطَانِ بِأَنْ أَسْأَلَك عَنْ اعْتِقَادِك وَعَمَّا كَتَبْت بِهِ إلَى الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي تَدْعُو بِهَا النَّاسَ إلَى الِاعْتِقَادِ . وَأَظُنُّهُ قَالَ : وَأَنْ أَجْمَعَ الْقُضَاةَ وَالْفُقَهَاءَ وَتَتَبَاحَثُونَ فِي ذَلِكَ .
فَقُلْت : أَمَّا الِاعْتِقَادُ : فَلَا يُؤْخَذُ عَنِّي وَلَا عَمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي ؛ بَلْ يُؤْخَذُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ ؛ فَمَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ وَجَبَ اعْتِقَادُهُ وَكَذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِثْلِ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَأَمَّا الْكُتُبُ فَمَا كَتَبْت إلَى أَحَدٍ كِتَابًا ابْتِدَاءً أَدْعُوهُ بِهِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنِّي كَتَبْت أَجْوِبَةً أَجَبْت بِهَا مَنْ يَسْأَلُنِي : مِنْ أَهْلِ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَكَانَ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ زُوِّرَ عَلَيَّ كِتَابٌ إلَى الْأَمِيرِ رُكْنِ الدِّينِ الجاشنكير أُسْتَاذِ دَارِ السُّلْطَانِ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ عَقِيدَةٍ مُحَرَّفَةٍ وَلَمْ أَعْلَمْ بِحَقِيقَتِهِ ؛ لَكِنْ عَلِمْت أَنَّهُ مَكْذُوبٌ . وَكَانَ يَرِدُ عَلَيَّ مَنْ مِصْرَ وَغَيْرِهَا مَنْ يَسْأَلُنِي عَنْ مَسَائِلَ فِي الِاعْتِقَادِ وَغَيْرِهِ فَأُجِيبُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ

فَقَالَ : نُرِيدُ أَنْ تَكْتُبَ لَنَا عَقِيدَتَك . فَقُلْت : اُكْتُبُوا . فَأَمَرَ الشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ : أَنْ يَكْتُبَ ؛ فَكَتَبَ لَهُ جُمَلَ الِاعْتِقَادِ فِي أَبْوَابِ الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَمَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْوَعِيدِ وَالْإِمَامَةِ وَالتَّفْضِيلِ . وَهُوَ أَنَّ اعْتِقَادَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ : الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَالْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهَا وَأَنَّهُ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالطَّاعَةِ وَأَحَبَّهَا وَرَضِيَهَا ؛ وَنَهَى عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَرِهَهَا . وَالْعَبْدُ فَاعِلٌ حَقِيقَةً وَاَللَّهُ خَالِقُ فِعْلِهِ وَأَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَأَنْ لَا نُكَفِّرَ أَحَدًا مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ وَلَا نُخَلِّدَ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَحَدًا وَأَنَّ الْخُلَفَاءَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ وَأَنَّ مَرْتَبَتَهُمْ فِي الْفَضْلِ كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ وَمَنْ قَدَّمَ عَلِيًّا عَلَى عُثْمَانَ : فَقَدْ أَزْرَى بِالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَذَكَرْت هَذَا أَوْ نَحْوَهُ ؛ فَإِنِّي الْآنَ قَدْ بَعُدَ عَهْدِي وَلَمْ أَحْفَظْ لَفْظَ مَا أَمْلَيْته ؛ لَكِنَّهُ كُتِبَ إذْ ذَاكَ ثُمَّ قُلْت لِلْأَمِيرِ وَالْحَاضِرِينَ : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَامًا يَكْذِبُونَ عَلَيَّ ؛ كَمَا قَدْ كَذَبُوا عَلَيَّ غَيْرَ مَرَّةٍ . وَإِنْ أَمْلَيْت الِاعْتِقَادَ مِنْ حِفْظِي : رُبَّمَا يَقُولُونَ كَتَمَ بَعْضَهُ ؛

أَوْ دَاهَنَ وَدَارَى ؛ فَأَنَا أُحْضِرُ عَقِيدَةً مَكْتُوبَةً ؛ مِنْ نَحْوِ سَبْعِ سِنِينَ قَبْلَ مَجِيءِ التتر إلَى الشَّامِ . وَقُلْت قَبْلَ حُضُورِهَا كَلَامًا قَدْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ وَغَضِبْت غَضَبًا شَدِيدًا ؛ لَكِنِّي أَذْكُرُ أَنِّي قُلْت : أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ أَقْوَامًا كَذَبُوا عَلَيَّ وَقَالُوا لِلسُّلْطَانِ أَشْيَاءَ وَتَكَلَّمْت بِكَلَامِ احْتَجْت إلَيْهِ ؛ مِثْلَ أَنْ قُلْت : مَنْ قَامَ بِالْإِسْلَامِ أَوْقَاتَ الْحَاجَةِ غَيْرِي ؟ وَمَنْ الَّذِي أَوْضَحَ دَلَائِلَهُ وَبَيَّنَهُ ؟ وَجَاهَدَ أَعْدَاءَهُ وَأَقَامَهُ لَمَّا مَالَ ؟ حِينَ تَخَلَّى عَنْهُ كُلُّ أَحَدٍ ؛ وَلَا أَحَدٌ يَنْطِقُ بِحُجَّتِهِ وَلَا أَحَدٌ يُجَاهِدُ عَنْهُ وَقُمْت مُظْهِرًا لِحُجَّتِهِ مُجَاهِدًا عَنْهُ مُرَغِّبًا فِيهِ ؟ فَإِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ يَطْمَعُونَ فِي الْكَلَامِ فِيَّ فَكَيْفَ يَصْنَعُونَ بِغَيْرِي وَلَوْ أَنَّ يَهُودِيًّا طَلَبَ مِنْ السُّلْطَانِ الْإِنْصَافَ : لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُنْصِفَهُ ؛ وَأَنَا قَدْ أَعَفُّو عَنْ حَقِّي وَقَدْ لَا أَعْفُو ؛ بَلْ قَدْ أَطْلُبُ الْإِنْصَافَ مِنْهُ وَأَنْ يَحْضُرَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَكْذِبُونَ ؛ لِيُوَافِقُوا عَلَى افْتِرَائِهِمْ وَقُلْت كَلَامًا أَطْوَلَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ ؛ لَكِنْ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ فَأَشَارَ الْأَمِيرُ إلَى كَاتِبِ الدَّرَجِ مُحْيِي الدِّينِ : بِأَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ . وَقُلْت أَيْضًا : كُلُّ مَنْ خَالَفَنِي فِي شَيْءٍ مِمَّا كَتَبْته فَأَنَا أَعْلَمُ بِمَذْهَبِهِ مِنْهُ وَمَا أَدْرِي هَلْ قُلْت هَذَا قَبْلَ حُضُورِهَا أَوْ بَعْدَهُ ؛ لَكِنَّنِي قُلْت أَيْضًا بَعْدَ حُضُورِهَا وَقِرَاءَتِهَا : مَا ذَكَرْت فِيهَا فَصْلًا : إلَّا وَفِيهِ مُخَالِفٌ مِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْقِبْلَةِ وَكُلُّ جُمْلَةٍ فِيهَا خِلَافٌ لِطَائِفَةِ مِنْ الطَّوَائِفِ ثُمَّ

أَرْسَلْت مَنْ أَحْضَرَهَا وَمَعَهَا كَرَارِيسُ بِخَطِّي مِنْ الْمَنْزِلِ فَحَضَرَتْ " الْعَقِيدَةُ الواسطية " وَقُلْت لَهُمْ : هَذِهِ كَانَ سَبَبُ كِتَابَتِهَا أَنَّهُ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْ أَرْضِ وَاسِطٍ بَعْضُ قُضَاةِ نَوَاحِيهَا - شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ " رَضِيُّ الدِّينِ الواسطي " مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ وَشَكَا مَا النَّاسُ فِيهِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ وَفِي دَوْلَةِ التتر مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَدُرُوسِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ عَقِيدَةً تَكُونُ عُمْدَةً لَهُ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ فَاسْتَعْفَيْت مِنْ ذَلِكَ وَقُلْت : قَدْ كَتَبَ النَّاسُ عَقَائِدَ مُتَعَدِّدَةً ؛ فَخُذْ بَعْضَ عَقَائِدِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فَأَلَحَّ فِي السُّؤَالِ وَقَالَ : مَا أُحِبُّ إلَّا عَقِيدَةً تَكْتُبُهَا أَنْتَ فَكَتَبْت لَهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ وَأَنَا قَاعِدٌ بَعْدَ الْعَصْرِ وَقَدْ انْتَشَرَتْ بِهَا نُسَخٌ كَثِيرَةٌ ؛ فِي مِصْرَ ؛ وَالْعِرَاقِ ؛ وَغَيْرِهِمَا . فَأَشَارَ الْأَمِيرُ بِأَنْ لَا أَقْرَأَهَا أَنَا لِرَفْعِ الرِّيبَةِ وَأَعْطَاهَا لِكَاتِبِهِ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ فَقَرَأَهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ حَرْفًا حَرْفًا وَالْجَمَاعَةُ الْحَاضِرُونَ يَسْمَعُونَهَا وَيُورِدُ الْمَوْرِدَ مِنْهُمْ مَا شَاءَ وَيُعَارِضُ فِيمَا شَاءَ وَالْأَمِيرُ أَيْضًا : يَسْأَلُ عَنْ مَوَاضِعَ فِيهَا وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ مَا كَانَ فِي نُفُوسِ طَائِفَةٍ مِنْ الْحَاضِرِينَ مِنْ الْخِلَافِ وَالْهَوَى مَا قَدْ عَلِمَ النَّاسُ بَعْضَهُ وَبَعْضُهُ بِسَبَبِ الِاعْتِقَادِ وَبَعْضُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ . وَلَا يُمْكِنُ ذِكْرُ مَا جَرَى مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُنَاظَرَاتِ : فِي هَذِهِ الْمَجَالِسِ فَإِنَّهُ

كَثِيرٌ لَا يَنْضَبِطُ ؛ لَكِنْ أَكْتُبُ مُلَخَّصَ مَا حَضَرَنِي مِنْ ذَلِكَ مَعَ بُعْدِ الْعَهْدِ بِذَلِكَ وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ يَجْرِي رَفْعُ أَصْوَاتٍ وَلَغَطٌ لَا يَنْضَبِطُ . فَكَانَ مِمَّا اعْتَرَضَ عَلَيَّ بَعْضُهُمْ - لِمَا ذَكَرَ فِي أَوَّلِهَا وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ : الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ فَقَالَ : - مَا الْمُرَادُ بِالتَّحْرِيفِ وَالتَّعْطِيلِ ؟ وَمَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا يَنْفِي التَّأْوِيلَ الَّذِي أَثْبَتَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ؛ إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا جَوَازًا فَقُلْت : تَحْرِيفُ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ كَمَا ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَهُوَ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى مِثْلُ تَأْوِيلِ بَعْضِ الْجَهْمِيَّة لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } أَيْ جَرَحَهُ بِأَظَافِيرِ الْحِكْمَةِ تَجْرِيحًا وَمِثْلُ تَأْوِيلَاتِ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : مِنْ الْجَهْمِيَّة وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فَسَكَتَ وَفِي نَفْسِي مَا فِيهَا.
وَذَكَرْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ : أَنِّي عَدَلْت عَنْ لَفْظِ التَّأْوِيلِ إلَى لَفْظِ التَّحْرِيفِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيفَ اسْمٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ وَأَنَا تَحَرَّيْت فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَفَيْت مَا ذَمَّهُ اللَّهُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهَا لَفْظَ التَّأْوِيلِ بِنَفْيٍ وَلَا إثْبَاتٍ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ كَمَا بَيَّنْته فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ

فَإِنَّ مَعْنَى لَفْظِ " التَّأْوِيلِ " فِي كِتَابِ اللَّهِ : غَيْرُ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ وَغَيْرُ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسَّلَفِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي قَدْ تُسَمَّى تَأْوِيلًا مَا هُوَ صَحِيحٌ مَنْقُولٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ؛ فَلَمْ أَنْفِ مَا تَقُومُ الْحُجَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ فَإِذَا مَا قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ السَّلَفِ : فَلَيْسَ مِنْ التَّحْرِيفِ وَقُلْت لَهُ أَيْضًا : ذَكَرْت فِي النَّفْيِ التَّمْثِيلَ وَلَمْ أَذْكُرْ التَّشْبِيهَ ؛ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ نَفَاهُ اللَّهُ بِنَصِّ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } وَقَالَ : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } وَكَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ لَفْظٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ يُعْنَى بِنَفْيِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ كَمَا قَدْ يُعْنَى بِهِ مَعْنًى فَاسِدٌ وَلَمَّا ذَكَرْت أَنَّهُمْ لَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ : جَعَلَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ يتمعض مِنْ ذَلِكَ ؛ لِاسْتِشْعَارِهِ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الرَّدِّ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَتَوَجَّهْ لَهُ مَا يَقُولُهُ ؛ وَأَرَادَ أَنْ يَدُورَ بِالْأَسْئِلَةِ الَّتِي أَعْلَمُهَا : فَلَمْ يَتَمَكَّنْ لِعِلْمِهِ بِالْجَوَابِ وَلَمَّا ذَكَرْت آيَةَ الْكُرْسِيِّ : أَظُنُّهُ سَأَلَ الْأَمِيرَ عَنْ قَوْلِنَا : لَا يَقْرَبُهُ شَيْطَانٌ حَتَّى يُصْبِحَ فَذَكَرْت حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَذَكَرْت أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَاهُ فِي صَحِيحِهِ وَأَخَذُوا يَذْكُرُونَ نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَيُطْنِبُونَ فِي هَذَا وَيُعْرِضُونَ لِمَا يَنْسُبُهُ بَعْضُ النَّاسِ إلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ

فَقُلْت : قَوْلِي مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ : يَنْفِي كُلَّ بَاطِلٍ وَإِنَّمَا اخْتَرْت هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّكْيِيفَ مَأْثُورٌ نَفْيُهُ عَنْ السَّلَفِ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ ، وَمَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمْ - الْمُقَالَةُ الَّتِي تَلَقَّاهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ - الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ " فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ : عَلَى أَنَّ التَّكْيِيفَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا فَنَفَيْت ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسَلَفِ الْأُمَّةِ . وَهُوَ أَيْضًا مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ فَإِنَّ تَأْوِيلَ آيَاتِ الصِّفَاتِ يَدْخُلُ فِيهَا حَقِيقَةُ الْمَوْصُوفِ وَحَقِيقَةُ صِفَاتِهِ وَهَذَا مِنْ التَّأْوِيلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ كَمَا قَدْ قَرَّرْت ذَلِكَ فِي قَاعِدَةٍ مُفْرَدَةٍ ذَكَرْتهَا فِي التَّأْوِيلِ وَالْمَعْنَى وَالْفَرْقُ بَيْنَ عِلْمِنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ وَبَيْنَ عِلْمِنَا بِتَأْوِيلِهِ وَكَذَلِكَ التَّمْثِيلُ : مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ مَعَ دَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى نَفْيِهِ وَنَفْيِ التَّكْيِيفِ ، إذْ كُنْهُ الْبَارِي غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْبَشَرِ ، وَذَكَرْت فِي ضِمْنِ ذَلِكَ كَلَامَ الخطابي الَّذِي نَقَلَ أَنَّهُ مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ إجْرَاءُ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا مَعَ نَفْيِ الْكَيْفِيَّةِ وَالتَّشْبِيهِ عَنْهَا ، إذْ الْكَلَامُ فِي الصِّفَاتِ فَرْعٌ عَلَى الْكَلَامِ فِي الذَّاتِ ، يُحْتَذَى فِيهِ حَذْوُهُ وَيُتَّبَعُ فِيهِ مِثَالُهُ فَإِذَا كَانَ إثْبَاتُ الذَّاتِ : إثْبَاتَ وُجُودٍ لَا إثْبَاتَ تَكْيِيفٍ فَكَذَلِكَ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ : إثْبَاتُ وُجُودٍ لَا إثْبَاتُ تَكْيِيفٍ

فَقَالَ أَحَدُ كِبَارِ الْمُخَالِفِينَ : فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : هُوَ جِسْمٌ لَا كَالْأَجْسَامِ فَقُلْت لَهُ أَنَا وَبَعْضُ الْفُضَلَاءِ الْحَاضِرِينَ : إنَّمَا قِيلَ إنَّهُ يُوصَفُ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ حَتَّى يَلْزَمَ هَذَا السُّؤَالُ وَأَخَذَ بَعْضُ الْقُضَاةِ الْحَاضِرِينَ وَالْمَعْرُوفِينَ بِالدِّيَانَةِ : يُرِيدُ إظْهَارَ أَنْ يَنْفِيَ عَنَّا مَا يَقُولُ وَيَنْسُبُهُ الْبَعْضُ إلَيْنَا فَجَعَلَ يَزِيدُ فِي الْمُبَالَغَةِ فِي نَفْيِ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ فَقُلْت : ذَكَرْت فِيهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَقُلْت فِي صَدْرِهَا : وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ ثُمَّ قُلْت : وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بِهِ رَبَّهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَبُولِ وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهَا كَذَلِكَ إلَى أَنْ قُلْت : إلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ الَّتِي يُخْبِرُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّ الْفِرْقَةَ النَّاجِيَةَ - أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ - : يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُؤْمِنُونَ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ هُمْ وَسَطٌ فِي فِرَقِ الْأُمَّةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ هِيَ الْوَسَطُ فِي الْأُمَمِ

فَهُمْ وَسَطٌ فِي بَابِ صِفَاتِ اللَّهِ بَيْنَ أَهْلِ التَّعْطِيلِ الْجَهْمِيَّة وَبَيْنَ أَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ وَلَمَّا رَأَى هَذَا الْحَاكِمُ الْعَدْلُ : مُمَالَأَتَهُمْ وَتَعَصُّبَهُمْ وَرَأَى قِلَّةَ الْعَارِفِ النَّاصِرِ وَخَافَهُمْ قَالَ : أَنْتَ صَنَّفْت اعْتِقَادَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فَتَقُولُ هَذَا اعْتِقَادُ أَحْمَدَ يَعْنِي وَالرَّجُلُ يُصَنِّفُ عَلَى مَذْهَبِهِ فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فَإِنَّ هَذَا مَذْهَبٌ مَتْبُوعٌ وَغَرَضُهُ بِذَلِكَ قَطْعُ مُخَاصَمَةِ الْخُصُومِ فَقُلْت : مَا جَمَعْت إلَّا عَقِيدَةَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَمِيعِهِمْ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ اخْتِصَاصٌ بِهَذَا ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ إنَّمَا هُوَ مُبَلِّغُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ قَالَ أَحْمَدُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَجِئْ بِهِ الرَّسُولُ لَمْ نَقْبَلْهُ وَهَذِهِ عَقِيدَةُ مُحَمَّدٍ وَقُلْت مَرَّاتٍ : قَدْ أَمْهَلْت كُلَّ مَنْ خَالَفَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَإِنْ جَاءَ بِحَرْفِ وَاحِدٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ - الَّتِي أَثْنَى عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ : " { خَيْرُ الْقُرُونِ الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } - يُخَالِفُ مَا ذَكَرْته فَأَنَا أَرْجِعُ عَنْ ذَلِكَ وَعَلَيَّ أَنْ آتِيَ بِنُقُولِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ - عَنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ تُوَافِقُ مَا ذَكَرْته - مِنْ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالْمَالِكِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّةِ ، وَالْحَنْبَلِيَّةِ ، وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، وَأَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَالصُّوفِيَّةِ ، وَغَيْرِهِمْ

وَقُلْت أَيْضًا : فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ : الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمَّا انْتَهَى إلَيْهِ مِنْ السُّنَّةِ وَنُصُوصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِمَّا انْتَهَى إلَى غَيْرِهِ وَابْتُلِيَ بِالْمِحْنَةِ وَالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ : كَانَ كَلَامُهُ وَعِلْمُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَكْثَرَ مَنْ غَيْرِهِ فَصَارَ إمَامًا فِي السُّنَّةِ أَظْهَرَ مَنْ غَيْرِهِ وَإِلَّا فَالْأَمْرُ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَغَارِبَةِ - الْعُلَمَاءِ الصُّلَحَاءِ - قَالَ : الْمَذْهَبُ لِمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَالظُّهُورُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ أَحْمَدُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْبَيَانِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ وَدَفْعِ الْبَاطِلِ مَا لَيْسَ لِبَعْضِ وَلَمَّا جَاءَ فِيهَا : وَمَا وَصَفَ بِهِ النَّبِيُّ رَبَّهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ : الَّتِي تَلَقَّاهَا أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَلَمَّا جَاءَ حَدِيثُ أَبَى سَعِيدٍ - الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : " { يَا آدَمَ فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وسعديك . فَيُنَادِي بِصَوْتِ : إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَبْعَثَ بَعْثًا إلَى النَّارِ } الْحَدِيثَ - سَأَلَهُمْ الْأَمِيرُ هَلْ هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ ؟ فَقُلْت : نَعَمْ . هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ وَاحْتَاجَ الْمُنَازِعُ إلَى الْإِقْرَارِ بِهِ وَوَافَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ .
وَطَلَبَ الْأَمِيرُ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ طَلَبٌ مِنْهُ
فَقُلْت : هَذَا الَّذِي يَحْكِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ صَوْتَ الْقَارِئِينَ وَمِدَادَ الْمَصَاحِفِ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ - كَمَا نَقَلَهُ فَخْرُ الْدِّينِ بْنُ الْخَطِيبِ (*)

وَغَيْرُهُ - كَذِبٌ مُفْتَرًى لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحْمَدُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، لَا مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَلَا غَيْرِهِمْ وَأَخْرَجْت كُرَّاسًا قَدْ أَحْضَرْته مَعَ الْعَقِيدَةِ فِيهِ أَلْفَاظُ أَحْمَدَ مِمَّا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَا جَمَعَهُ صَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ المروذي مِنْ كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَكَلَامِ أَئِمَّةِ زَمَانِهِ وَسَائِرِ أَصْحَابِهِ : أَنَّ مَنْ قَالَ لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ : فَهُوَ جهمي وَمَنْ قَالَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ : فَهُوَ مُبْتَدِعٌ . قُلْت : وَهَذَا هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَشْعَرِيُّ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَقَالَ : إنَّهُ يَقُولُ بِهِ . قُلْت : فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ : لَفْظِيٌّ قَدِيمٌ ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ : صَوْتِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ : صَوْتِيٌّ قَدِيمٌ ؟ وَنُصُوصُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَكَلُّمِ اللَّهِ بِصَوْتِ وَبَيْنَ صَوْتِ الْعَبْدِ كَمَا نَقَلَهُ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِ خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَأَحْضَرْت جَوَابَ مَسْأَلَةٍ كُنْت سُئِلْت عَنْهَا قَدِيمًا ، فِيمَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ فِي مَسْأَلَةِ " الْحَرْفِ وَالصَّوْتِ " وَمَسْأَلَةِ " الظَّاهِرِ فِي الْعَرْشِ " فَذَكَرْت مِنْ الْجَوَابِ الْقَدِيمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَفْصِيلِ الْقَوْلِ فِيهَا وَأَنَّ إطْلَاقَ الْقَوْلِ أَنَّ

الْقُرْآنَ هُوَ الْحَرْفُ وَالصَّوْتُ أَوْ لَيْسَ بِحَرْفِ وَلَا صَوْتٍ : كِلَاهُمَا بِدْعَةٌ حَدَثَتْ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ وَقُلْت : هَذَا جَوَابِي . وَكَانَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ : قَدْ أَرْسَلَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُعَانِدِينَ الْمُتَجَهِّمَةِ مِمَّنْ كَانَ بَعْضُهُمْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَلَمَّا وَصَلَ إلَيْهِمْ الْجَوَابُ أَسْكَتَهُمْ وَكَانُوا قَدْ ظَنُّوا أَنِّي إنْ أَجَبْت بِمَا فِي ظَنِّهِمْ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ تَقُولُهُ : حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ الشَّنَاعَةِ وَإِنْ أَجَبْت بِمَا يَقُولُونَهُ هُمْ : حَصَلَ مَقْصُودُهُمْ مِنْ الْمُوَافَقَةِ ، فَلَمَّا أُجِيبُوا بِالْفُرْقَانِ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَلَيْسَ هُوَ مَا يَقُولُونَهُ هُمْ وَلَا مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ، إذْ قَدْ يَقُولُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ بُهِتُوا لِذَلِكَ ، وَفِيهِ : أَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ لَيْسَ الْقُرْآنُ اسْمًا لِمُجَرَّدِ الْحُرُوفِ وَلَا لِمُجَرَّدِ الْمَعَانِي . وَقُلْت فِي ضِمْنِ الْكَلَامِ لِصَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ - لِبَيَانِ كَثْرَةِ تَنَاقُضِهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى مَقَالَةٍ ؛ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا يَسْعَى فِي الْفِتَنِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ - عِنْدِي عَقِيدَةٌ لِلشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ . فِيهَا أَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ . وَقَدْ كَتَبْت عَلَيْهَا بِخَطِّك أَنَّ هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ وَأَنَّك تَدِينُ اللَّهَ بِهَا فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزملكاني ذَلِكَ . فَقَالَ ابْنُ الْوَكِيلِ : هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ . وَرَاجَعَهُ فِي ذَلِكَ مِرَارًا فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي : ذَكَرَ لِابْنِ الْوَكِيلِ أَنَّ ابْنَ دِرْبَاسٍ نَقَلَ فِي كِتَابِ

الِانْتِصَارِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلَ مَا نَقَلْت فَلَمَّا كَانَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّالِثِ : أَعَادَ ابْنُ الْوَكِيلِ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ . فَقَالَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ لِصَدْرِ الدِّينِ بْنِ الْوَكِيلِ : قَدْ قُلْت فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لِلشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ : أَنَّهُ مَنْ قَالَ إنَّ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ ، فَأَعَادَهُ مِرَارًا فَغَضِبَ هُنَا الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ غَضَبًا شَدِيدًا وَرَفَعَ صَوْتَهُ . وَقَالَ : هَذَا يُكَفِّرُ أَصْحَابَنَا الْمُتَكَلِّمِينَ الْأَشْعَرِيَّةَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ حُرُوفَ الْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ مِثْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرِهِ وَمَا نَصْبِرُ عَلَى تَكْفِيرِ أَصْحَابِنَا . فَأَنْكَرَ ابْنُ الْوَكِيلِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ . وَقَالَ : مَا قُلْت ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قُلْت أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ حَرْفًا مِنْ الْقُرْآنِ فَقَدْ كَفَرَ . فَرَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ وَقَالُوا : مَا قُلْت إلَّا كَذَا وَكَذَا وَقَالُوا : مَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَقُولَ قَوْلًا وَتَرْجِعَ عَنْهُ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَا قَالَ هَذَا . فَلَمَّا حَرَّفُوا : قَالَ مَا سَمِعْنَاهُ قَالَ هَذَا ، حَتَّى قَالَ نَائِبُ السُّلْطَانِ : وَاحِدٌ يَكْذِبُ وَآخَرُ يَشْهَدُ وَالشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ مُغْضَبٌ فَالْتَفَتَ إلَى قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمِ الدِّينِ الشَّافِعِيِّ يَسْتَصْرِخُهُ لِلِانْتِصَارِ عَلَى ابْنِ الْوَكِيلِ حَيْثُ كَفَّرَ أَصْحَابَهُ . فَقَالَ الْقَاضِي نَجْمُ الدِّينِ : مَا سَمِعْت هَذَا . فَغَضِبَ الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ وَقَالَ كَلَامًا لَمْ أَضْبِطْ لَفْظَهُ إلَّا أَنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّ هَذَا غَضَاضَةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَعَارٌ عَلَيْهِمْ أَنَّ أَئِمَّتَهُمْ يُكَفَّرُونَ وَلَا يُنْتَصَرُ لَهُمْ . وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْ الشَّيْخِ كَمَالِ الدِّينِ مَا قَالَ فِي حَقِّ الْقَاضِي نَجْمِ الدِّينِ وَاسْتَثْبَتَ غَيْرِي مِمَّنْ حَضَرَ هَلْ سَمِعَ مِنْهُ فِي حَقِّهِ شَيْئًا ؟ فَقَالُوا : لَا . لَكِنَّ الْقَاضِيَ اعْتَقَدَ

أَنَّ التَّعْيِيرَ لِأَجْلِهِ وَلِكَوْنِهِ قَاضِيَ الْمَذْهَبِ وَلَمْ يَنْتَصِرْ لِأَصْحَابِهِ وَأَنَّ الشَّيْخَ كَمَالَ الدِّينِ قَصْدُهُ ذَلِكَ . فَغَضِبَ قَاضِي الْقُضَاةِ نَجْمُ الدِّينِ . وَقَالَ : اشْهَدُوا عَلَيَّ أَنِّي عَزَلْت نَفْسِي وَأَخَذَ يَذْكُرُ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّقْدِيمَ وَالِاسْتِحْقَاقَ وَعِفَّتَهُ عَنْ التَّكَلُّمِ فِي أَعْرَاضِ الْجَمَاعَةِ وَيَسْتَشْهِدُ بِنَائِبِ السُّلْطَانِ فِي ذَلِكَ . وَقُلْت لَهُ كَلَامًا مَضْمُونُهُ تَعْظِيمُهُ وَاسْتِحْقَاقُهُ ، لِدَوَامِ الْمُبَاشَرَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ . وَلَمَّا جَاءَتْ مَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ : " وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ . غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ " نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي كَوْنِهِ " مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ " وَطَلَبُوا تَفْسِيرَ ذَلِكَ . فَقُلْت : أَمَّا هَذَا الْقَوْلُ : فَهُوَ الْمَأْثُورُ الثَّابِتُ عَنْ السَّلَفِ مِثْلُ مَا نَقَلَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ : " أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ : اللَّهُ الْخَالِقُ وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ ، إلَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ " . وَقَدْ جَمَعَ غَيْرُ وَاحِدٍ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ عَنْ النَّبِيِّ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ كَالْحَافِظِ أَبِي الْفَضْلِ بْنِ نَاصِرٍ وَالْحَافِظِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ المقدسي وَأَمَّا مَعْنَاهُ : فَإِنَّ قَوْلَهُمْ : مِنْهُ بَدَأَ . أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ مِنْ لَدُنْهُ لَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ الْجَهْمِيَّة : أَنَّهُ خُلِقَ فِي الْهَوَى أَوْ غَيْرِهِ أَوْ بَدَأَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ . وَأَمَّا إلَيْهِ يَعُودُ : فَإِنَّهُ يَسْرِي بِهِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ مِنْ الْمَصَاحِفِ وَالصُّدُورِ فَلَا

يَبْقَى فِي الصُّدُورِ مِنْهُ كَلِمَةٌ وَلَا فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ وَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ غَالِبُ الْحَاضِرِينَ وَسَكَتَ الْمُنَازِعُونَ . وَخَاطَبْت بَعْضَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ بِأَنْ أَرَيْته الْعَقِيدَةَ الَّتِي جَمَعَهَا الْإِمَامُ الْقَادِرِيُّ الَّتِي فِيهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ خَرَجَ مِنْهُ فَتَوَقَّفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ . فَقُلْت : هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ : " { مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ } يَعْنِي الْقُرْآنَ وَقَالَ خباب بْنُ الْأَرَتِّ : يَا هَنَتَاهُ تَقَرَّبْ إلَى اللَّهِ بِمَا اسْتَطَعْت فَلَنْ يُتَقَرَّبَ إلَيْهِ بِشَيْءِ أَحَبَّ إلَيْهِ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - لَمَّا قَرَأَ قُرْآنَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ - إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلٍّ - يَعْنِي رَبٍّ - . وَجَاءَ فِيهَا : وَمِنْ الْإِيمَانِ بِهِ : الْإِيمَانُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً وَأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ - الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ - هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ عِبَارَةٌ ، بَلْ إذَا قَرَأَهُ النَّاسُ أَوْ كَتَبُوهُ فِي الْمَصَاحِفِ : لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامَ اللَّهِ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا فتمعض بَعْضُهُمْ مِنْ إثْبَاتِ كَوْنِهِ كَلَامَ اللَّهِ حَقِيقَةً بَعْدَ تَسْلِيمِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً

ثُمَّ إنَّهُ سَلَّمَ ذَلِكَ لَمَّا بُيِّنَ لَهُ أَنَّ الْمَجَازَ يَصِحُّ نَفْيُهُ وَهَذَا لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلَمَّا بُيِّنَ لَهُ أَنَّ أَقْوَالَ الْمُتَقَدِّمِينَ الْمَأْثُورَةَ عَنْهُمْ ، وَشِعْرَ الشُّعَرَاءِ الْمُضَافَ إلَيْهِمْ : هُوَ كَلَامُهُمْ حَقِيقَةً فَلَا يَكُونُ نِسْبَةُ الْقُرْآنِ إلَى اللَّهِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . فَوَافَقَ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَأَنَّ اللَّهَ تَكَلَّمَ حَقِيقَةً وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا كَلَامُ غَيْرِهِ . وَلَمَّا ذَكَرَ فِيهَا : أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا يُضَافُ حَقِيقَةً إلَى مَنْ قَالَهُ مُبْتَدِئًا لَا إلَى مَنْ قَالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا : اسْتَحْسَنُوا هَذَا الْكَلَامَ وَعَظَّمُوهُ وَأَخَذَ أَكْبَرُ الْخُصُومِ يُظْهِرُ تَعْظِيمَ هَذَا الْكَلَامِ كَابْنِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ وَأَظْهَرَ الْفَرَحَ بِهَذَا التَّلْخِيصِ وَقَالَ : إنَّك قَدْ أَزَلْت عَنَّا هَذِهِ الشُّبْهَةَ وَشَفَيْت الصُّدُورَ وَيَذْكُرُ أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّمَطِ . وَلَمَّا جَاءَ مَا ذَكَرَ مِنْ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَفْصِيلِهِ وَنَظْمِهِ : اسْتَحْسَنُوا ذَلِكَ وَعَظَّمُوهُ .
وَكَذَلِكَ لَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَأَنَّهُ عَلَى دَرَجَتَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهَا مِنْ الْقَوَاعِدِ الْجَلِيلَةِ . وَكَذَا لَمَّا جَاءَ ذِكْرُ الْكَلَامِ فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي وَفِي الْإِيمَانِ ، لَكِنْ اُعْتُرِضَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا سَأَذْكُرُهُ .

وَكَانَ مَجْمُوعُ مَا اعْتَرَضَ بِهِ الْمُنَازِعُونَ الْمُعَانِدُونَ بَعْدَ انْقِضَاءِ قِرَاءَةِ جَمِيعِهَا وَالْبَحْثِ فِيهَا عَنْ أَرْبَعَةِ أَسْئِلَةٍ : - الْأَوَّلُ : قَوْلُنَا وَمِنْ أُصُولِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ : أَنَّ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ قَوْلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَعَمَلُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ . قَالُوا : فَإِذَا قِيلَ إنَّ هَذَا مِنْ أُصُولِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ خَرَجَ عَنْ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِذَلِكَ : مِثْلُ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَمَنْ يَقُولُ الْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِقْرَارُ وَإِذَا لَمْ يَكُونُوا مِنْ النَّاجِينَ : لَزِمَ أَنْ يَكُونُوا هَالِكِينَ . وَأَمَّا الْأَسْئِلَةُ الثَّلَاثَةُ : وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ عُمْدَتَهُمْ فَأَوْرَدُوهَا عَلَى قَوْلِنَا وَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ : الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَتَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ ، مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ عَلِيٌّ عَلَى خَلْقِهِ وَهُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } . وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَهُوَ مَعَكُمْ } أَنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالْخَلْقِ فَإِنَّ هَذَا لَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ وَهُوَ خِلَافُ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَخِلَافُ مَا فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْخَلْقَ

بَلْ الْقَمَرُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مِنْ أَصْغَرِ مَخْلُوقَاتِهِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ مَعَ الْمُسَافِرِ أَيْنَمَا كَانَ وَغَيْرِ الْمُسَافِرِ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ رَقِيبٌ عَلَى خَلْقِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمْ مُطَّلِعٌ إلَيْهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعَانِي رُبُوبِيَّتِهِ . وَكُلُّ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَنَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ وَأَنَّهُ مَعَنَا حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَحْرِيفٍ ، وَلَكِنْ يُصَانُ عَلَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ . السُّؤَالُ الثَّانِي : قَالَ بَعْضُهُمْ : نُقِرُّ بِاللَّفْظِ الْوَارِدِ مِثْلِ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ حَدِيثِ الْأَوْعَالِ وَاَللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ ، وَلَا نَقُولُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَلَا نَقُولُ عَلَى الْعَرْشِ . وَقَالُوا أَيْضًا : نَقُولُ : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وَلَا نَقُولُ اللَّهُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَلَا نَقُولُ مُسْتَوٍ وَأَعَادُوا هَذَا الْمَعْنَى مِرَارًا ، أَيْ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي وَرَدَ يُقَالُ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ وَلَا يُبَدَّلُ بِلَفْظِ يُرَادِفُهُ وَلَا يُفْهَمُ لَهُ مَعْنًى أَصْلًا . وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ يَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ لِلَّهِ أَصْلًا ، وَنَبْسُطُ الْكَلَامَ فِي هَذَا فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . السُّؤَالُ الثَّالِثُ : قَالُوا : التَّشْبِيهُ بِالْقَمَرِ فِيهِ تَشْبِيهُ كَوْنِ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ بِكَوْنِ الْقَمَرِ فِي السَّمَاءِ . السُّؤَالُ الرَّابِعُ : قَالُوا : قَوْلُك حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ الْحَقِيقَةُ هِيَ الْمَعْنَى اللُّغَوِيُّ وَلَا يُفْهَمُ مِنْ الْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ إلَّا اسْتِوَاءُ الْأَجْسَامِ وَفَوْقِيَّتُهَا ، وَلَمْ تَضَعْ الْعَرَبُ ذَلِكَ إلَّا لَهَا ، فَإِثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ هُوَ مَحْضُ التَّجْسِيمِ وَنَفْيُ التَّجْسِيمِ مَعَ هَذَا تَنَاقُضٌ أَوْ مُصَانَعَةٌ

فَأَجَبْتهمْ عَنْ الْأَسْئِلَةِ بِأَنَّ قَوْلِي اعْتِقَادُ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ هِيَ الْفِرْقَةُ الَّتِي وَصَفَهَا النَّبِيُّ بِالنَّجَاةِ حَيْثُ قَالَ : " { تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي } . فَهَذَا الِاعْتِقَادُ : هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ النَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُمْ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ : الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَكُلُّ مَا ذَكَرْته فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ مَأْثُورٌ عَنْ الصَّحَابَةِ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَإِذَا خَالَفَهُمْ مَنْ بَعْدَهُمْ لِمَا يَضُرُّ فِي ذَلِكَ . ثُمَّ قُلْت لَهُمْ : وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ خَالَفَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الِاعْتِقَادِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَالِكًا فَإِنَّ الْمُنَازِعَ قَدْ يَكُونُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا يَغْفِرُ اللَّهُ خَطَأَهُ وَقَدْ لَا يَكُونُ بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ سَيِّئَاتِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ أَلْفَاظُ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوَلَةُ لَهُ لَا يَجِبُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا الْمُتَأَوِّلُ وَالْقَانِتُ وَذُو الْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَغْفُورُ لَهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ : فَهَذَا أَوْلَى ، بَلْ مُوجِبُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ نَجَا فِي هَذَا الِاعْتِقَادِ وَمَنْ اعْتَقَدَ ضِدَّهُ فَقَدْ يَكُونُ نَاجِيًا وَقَدْ لَا يَكُونُ نَاجِيًا كَمَا يُقَالُ مَنْ صَمَتَ نَجَا . وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّانِي : فَأَجَبْتهمْ أَوَّلًا بِأَنَّ كُلَّ لَفْظٍ قُلْته فَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ النَّبِيِّ مِثْلُ لَفْظِ فَوْقَ السَّمَوَاتِ وَلَفْظِ عَلَى الْعَرْشِ وَفَوْقَ

الْعَرْشِ وَقُلْت : اُكْتُبُوا الْجَوَابَ فَأَخَذَ الْكَاتِبُ فِي كِتَابَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ : قَدْ طَالَ الْمَجْلِسُ الْيَوْمَ فَيُؤَخَّرُ هَذَا إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ وَتَكْتُبُونَ أَنْتُمْ الْجَوَابَ وَتُحْضِرُونَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ . فَأَشَارَ بَعْضُ الْمُوَافِقِينَ بِأَنْ يُتَمَّمَ الْكَلَامُ بِكِتَابَةِ الْجَوَابِ ، لِئَلَّا تَنْتَشِرَ أَسْئِلَتُهُمْ وَاعْتِرَاضُهُمْ وَكَانَ الْخُصُومُ لَهُمْ غَرَضٌ فِي تَأْخِيرِ كِتَابَةِ الْجَوَابِ لِيَسْتَعِدُّوا لِأَنْفُسِهِمْ وَيُطَالِعُوا وَيُحْضِرُوا مَنْ غَابَ مِنْ أَصْحَابِهِمْ وَيَتَأَمَّلُوا الْعَقِيدَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ الطَّعْنِ وَالِاعْتِرَاضِ ، فَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَقُمْنَا عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ مِنْ قِيَامِ الْحُجَّةِ وَبَيَانِ الْمَحَجَّةِ : مَا أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَأَرْغَمَ بِهِ أَهْلَ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ وَفِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أُمُورٌ لِمَا يَحْدُثُ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَأَخَذُوا فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ يَتَأَمَّلُونَهَا وَيَتَأَمَّلُونَ مَا أَجَبْت بِهِ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ مِثْلِ الْمَسْأَلَةِ الحموية فِي الِاسْتِوَاءِ وَالصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ وَغَيْرِهَا .

فَصْلٌ :
فَلَمَّا كَانَ الْمَجْلِسُ الثَّانِي يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجَبٍ وَقَدْ أَحْضَرُوا أَكْثَرَ شُيُوخِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا ذَلِكَ الْمَجْلِسَ وَأَحْضَرُوا مَعَهُمْ زِيَادَةً " صَفِيَّ الدِّينِ الْهِنْدِيَّ " وَقَالُوا : هَذَا أَفْضَلُ الْجَمَاعَةِ وَشَيْخُهُمْ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ وَبَحَثُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَاتَّفَقُوا وَتَوَاطَئُوا وَحَضَرُوا بِقُوَّةِ وَاسْتِعْدَادٍ غَيْرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ أَتَاهُمْ بَغْتَةً وَإِنْ كَانَ أَيْضًا بَغْتَةً لِلْمُخَاطَبِ الَّذِي هُوَ الْمَسْئُولُ وَالْمُجِيبُ وَالْمُنَاظِرُ . فَلَمَّا اجْتَمَعْنَا : وَقَدْ أَحْضَرْت مَا كَتَبْته مِنْ الْجَوَابِ عَنْ أَسْئِلَتِهِمْ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّذِي طَلَبُوا تَأْخِيرَهُ إلَى الْيَوْمِ : حَمِدْت اللَّهَ بِخُطْبَةِ الْحَاجَةِ ، خُطْبَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ قُلْت : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِالْجَمَاعَةِ والائتلاف وَنَهَانَا عَنْ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ . وَقَالَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } وَقَالَ : { إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وَقَالَ : { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ } .

وَرَبُّنَا وَاحِدٌ وَكِتَابُنَا وَاحِدٌ وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ ، وَأُصُولُ الدِّينِ لَا تَحْتَمِلُ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ ، وَأَنَا أَقُولُ مَا يُوجِبُ الْجَمَاعَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ السَّلَفِ ، فَإِنْ وَافَقَ الْجَمَاعَةَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَإِلَّا فَمَنْ خَالَفَنِي بَعْدَ ذَلِكَ : كَشَفْت لَهُ الْأَسْرَارَ وَهَتَكْت الْأَسْتَارَ وَبَيَّنْت الْمَذَاهِبَ الْفَاسِدَةَ الَّتِي أَفْسَدَتْ الْمِلَلَ وَالدُّوَلَ ، وَأَنَا أَذْهَبُ إلَى سُلْطَانِ الْوَقْتِ عَلَى الْبَرِيدِ وَأُعَرِّفُهُ مِنْ الْأُمُورِ مَا لَا أَقُولُهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ فَإِنَّ لِلسِّلْمِ كَلَامًا وَلِلْحَرْبِ كَلَامًا . وَقُلْت : لَا شَكَّ أَنَّ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ ، يَقُولُ هَذَا أَنَا حَنْبَلِيٌّ وَيَقُولُ هَذَا أَنَا أَشْعَرِيٌّ وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ تَفَرُّقٌ وَفِتَنٌ وَاخْتِلَافٌ عَلَى أُمُورٍ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَتَهَا . وَأَنَا قَدْ أَحْضَرْت مَا يُبَيِّنُ اتِّفَاقَ الْمَذَاهِبِ فِيمَا ذَكَرْته وَأَحْضَرْت ( كِتَابَ تَبْيِينِ كَذِبِ الْمُفْتَرِي فِيمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَأْلِيفُ الْحَافِظِ أَبِي الْقَاسِمِ بْنِ عَسَاكِرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - . وَقُلْت : لَمْ يُصَنَّفْ فِي أَخْبَارِ الْأَشْعَرِيِّ الْمَحْمُودَةِ كِتَابٌ مِثْلُ هَذَا ، وَقَدْ ذَكَرَ فِيهِ لَفْظَهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ " الْإِبَانَةِ " . فَلَمَّا انْتَهَيْت إلَى ذِكْرِ الْمُعْتَزِلَةِ : سَأَلَ الْأَمِيرُ عَنْ مَعْنَى الْمُعْتَزِلَةِ فَقُلْت : كَانَ النَّاسُ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي الْفَاسِقِ الْمِلِّي وَهُوَ أَوَّلُ اخْتِلَافٍ حَدَثَ فِي الْمِلَّةِ هَلْ هُوَ كَافِرٌ أَوْ مُؤْمِنٌ ؟ فَقَالَتْ الْخَوَارِجُ : إنَّهُ كَافِرٌ . وَقَالَتْ الْجَمَاعَةُ :

إنَّهُ مُؤْمِنٌ . وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : نَقُولُ هُوَ فَاسِقٌ لَا مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ نُنَزِّلُهُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ، وَخَلَّدُوهُ فِي النَّارِ وَاعْتَزَلُوا حَلَقَةَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَصْحَابِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَسُمُّوا مُعْتَزِلَةً . وَقَالَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ بِجُبَّتِهِ وَرِدَائِهِ : لَيْسَ كَمَا قُلْت ، وَلَكِنَّ أَوَّلَ مَسْأَلَةٍ اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ مَسْأَلَةُ الْكَلَامِ وَسُمِّيَ الْمُتَكَلِّمُونَ مُتَكَلِّمِينَ لِأَجْلِ تَكَلُّمِهِمْ فِي ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ثُمَّ خَلَفَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَطَاءُ بْنُ وَاصِلٍ هَكَذَا قَالَ وَذَكَرَ نَحْوًا مِنْ هَذَا . فَغَضِبْت عَلَيْهِ وَقُلْت : أَخْطَأْت ، وَهَذَا كَذِبٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ . وَقُلْت لَهُ : لَا أَدَبَ وَلَا فَضِيلَةَ ، لَا تَأَدَّبْت مَعِي فِي الْخِطَابِ ، وَلَا أَصَبْت فِي الْجَوَابِ ثُمَّ قُلْت : النَّاسُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ فِي خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ وَبَعْدَهَا فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ بِكَثِيرِ فِي زَمَنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ بَعْدَ مَوْتِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ قَدْ تَكَلَّمُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَلَا تَنَازَعُوا فِيهَا وَإِنَّمَا أَوَّلُ بِدْعَتِهِمْ تَكَلُّمُهُمْ فِي مَسَائِلِ الْأَسْمَاءِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعِيدِ . فَقَالَ : هَذَا ذَكَرَهُ الشِّهْرِسْتَانِيّ فِي كِتَابِ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ . فَقُلْت : الشِّهْرِسْتَانِيّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي اسْمِ الْمُتَكَلِّمِينَ لِمَ سُمُّوا مُتَكَلِّمِينَ ؟ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي اسْمِ الْمُعْتَزِلَةِ

وَالْأَمِيرُ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ اسْمِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنْكَرَ الْحَاضِرُونَ عَلَيْهِ وَقَالُوا : غَلِطْت . وَقُلْت : فِي ضِمْنِ كَلَامِي أَنَا أَعْلَمُ كُلَّ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ وَأَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَهَا وَمَا كَانَ سَبَبَ ابْتِدَاعِهَا . وَأَيْضًا فَمَا ذَكَرَهُ الشِّهْرِسْتَانِيّ لَيْسَ بِصَحِيحِ فِي اسْمِ الْمُتَكَلِّمِينَ فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَ مُنَازَعَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَكَانُوا يَقُولُونَ عَنْ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ : إنَّهُ مُتَكَلِّمٌ وَيَصِفُونَهُ بِالْكَلَامِ وَلَمْ يَكُنْ النَّاسُ اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ . وَقُلْت أَنَا وَغَيْرِي : إنَّمَا هُوَ وَاصِلُ بْنُ عَطَاءٍ ، أَيْ : لَا عَطَاءُ بْنُ وَاصِلٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُعْتَرِضُ قُلْت : وَوَاصِلٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ مَوْتِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ وَإِنَّمَا كَانَ قَرِينَهُ . وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ وَاصِلًا تَكَلَّمَ مَرَّةً بِكَلَامِ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : لَوْ بُعِثَ نَبِيٌّ مَا كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَحْسَنَ مِنْ هَذَا ، وَفَصَاحَتُهُ مَشْهُورَةٌ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ كَانَ أَلْثَغَ وَكَانَ يَحْتَرِزُ عَنْ الرَّاءِ حَتَّى قِيلَ لَهُ : أَمَرَ الْأَمِيرُ أَنْ يُحْفَرَ بِئْرٌ . فَقَالَ : أَوْعَزَ الْقَائِدُ أَنْ يُقْلَبَ قَلِيبٌ فِي الْجَادَّةِ . وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ إلَى مَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ : قَالَ الشَّيْخُ الْمُقَدَّمُ فِيهِمْ لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ إمَامٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ وَمِنْ أَكْبَرِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لَكِنْ قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِ أُنَاسٌ ابْتَدَعُوا أَشْيَاءَ .

فَقُلْت : أَمَّا هَذَا فَحَقٌّ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ خَصَائِصِ أَحْمَدَ بَلْ مَا مِنْ إمَامٍ إلَّا وَقَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِ أَقْوَامٌ هُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ قَدْ انْتَسَبَ إلَى مَالِكٍ أُنَاسٌ مَالِكٌ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَانْتَسَبَ إلَى الشَّافِعِيِّ أُنَاسٌ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَانْتَسَبَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ أُنَاسٌ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ ، وَقَدْ انْتَسَبَ إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنَاسٌ هُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ ، وَانْتَسَبَ إلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أُنَاسٌ هُوَ مِنْهُمْ بَرِيءٌ ، وَقَدْ انْتَسَبَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أُنَاسٌ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ ، وَنَبِيُّنَا قَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِ مَنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْنَافِ الْمَلَاحِدَةِ وَالْمُنَافِقِينَ مَنْ هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُمْ . وَذَكَرَ فِي كَلَامِهِ ، أَنَّهُ انْتَسَبَ إلَى أَحْمَدَ نَاسٌ مِنْ الْحَشْوِيَّةِ وَالْمُشَبِّهَةِ وَنَحْوِ هَذَا الْكَلَامِ . فَقُلْت : الْمُشَبِّهَةُ وَالْمُجَسِّمَةُ فِي غَيْرِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِيهِمْ ، هَؤُلَاءِ أَصْنَافُ الْأَكْرَادِ كُلُّهُمْ شَافِعِيَّةٌ وَفِيهِمْ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ مَا لَا يُوجَدُ فِي صِنْفٍ آخَرَ وَأَهْلُ جِيلَانَ فِيهِمْ شَافِعِيَّةٌ وَحَنْبَلِيَّةٌ . قُلْت : وَأَمَّا الْحَنْبَلِيَّةُ الْمَحْضَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ مَا فِي غَيْرِهِمْ . وَكَانَ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ أَنَّ الكَرَّامِيَة الْمُجَسِّمَةَ كُلَّهُمْ حَنَفِيَّةٌ وَتَكَلَّمْت عَلَى لَفْظِ الْحَشْوِيَّةِ - مَا أَدْرِي جَوَابًا عَنْ سُؤَالِ الْأَمِيرِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِ جَوَابٍ - فَقُلْت : هَذَا اللَّفْظُ أَوَّلُ مَنْ ابْتَدَعَهُ الْمُعْتَزِلَةُ ، فَإِنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْجَمَاعَةَ

وَالسَّوَادَ الْأَعْظَمَ الْحَشْوَ ، كَمَا تُسَمِّيهِمْ الرَّافِضَةُ الْجُمْهُورَ ، وَحَشْوُ النَّاسِ : هُمْ عُمُومُ النَّاسِ وَجُمْهُورُهُمْ وَهُمْ غَيْرُ الْأَعْيَانِ الْمُتَمَيِّزِينَ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ حَشْوِ النَّاسِ كَمَا يُقَالُ هَذَا مِنْ جُمْهُورِهِمْ . وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ ، وَقَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَشْوِيًّا : فَالْمُعْتَزِلَةُ سَمَّوْا الْجَمَاعَةَ حَشْوًا كَمَا تُسَمِّيهِمْ الرَّافِضَةُ الْجُمْهُورَ . وَقُلْت - لَا أَدْرِي فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي - أَوَّلُ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ جِسْمٌ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ الرافضي . وَقُلْت لِهَذَا الشَّيْخِ : مَنْ فِي أَصْحَابِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَشْوِيٌّ بِالْمَعْنَى الَّذِي تُرِيدُهُ ؟ الْأَثْرَمُ أَبُو دَاوُد المروذي الْخَلَّالُ ، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ ، أَبُو الْحَسَنِ التَّمِيمِيُّ بْنُ حَامِدٍ ، الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى ، أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ عَقِيلٍ ؟ وَرَفَعْت صَوْتِي وَقُلْت : سَمِّهِمْ قُلْ لِي مِنْهُمْ ؟ مَنْ هُمْ ؟ . أَبِكَذِبِ ابْنِ الْخَطِيبِ وَافْتِرَائِهِ عَلَى النَّاسِ فِي مَذَاهِبِهِمْ تَبْطُلُ الشَّرِيعَةُ وَتَنْدَرِسُ مَعَالِمُ الدِّينِ ؟ كَمَا نَقَلَ هُوَ وَغَيْرُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ الْقَدِيمَ هُوَ أَصْوَاتُ الْقَارِئِينَ وَمِدَادُ الْكَاتِبِينَ وَأَنَّ الصَّوْتَ وَالْمِدَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ مَنْ قَالَ هَذَا ؟ وَفِي أَيِّ كِتَابٍ وُجِدَ هَذَا عَنْهُمْ ؟ قُلْ لِي . وَكَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ بِاللُّزُومِ الَّذِي ادَّعَاهُ وَالْمُقَدِّمَةُ الَّتِي نَقَلَهَا عَنْهُمْ ، وَأَخَذْت أَذْكُرُ مَا يَسْتَحِقُّهُ هَذَا الشَّيْخُ مِنْ أَنَّهُ كَبِيرُ الْجَمَاعَةِ

وَشَيْخُهُمْ وَأَنَّ فِيهِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعَامَلَ بِمُوجِبِهِ ؛ وَأَمَرْت بِقِرَاءَةِ الْعَقِيدَةِ جَمِيعِهَا عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ إنَّمَا أَحْضَرُوهُ فِي الثَّانِي انْتِصَارًا بِهِ . وَحَدَّثَنِي الثِّقَةُ عَنْهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ بِهِ وَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الْمَجْلِسِ فَقَالَ : مَا لِفُلَانِ ذَنْبٌ وَلَا لِي فَإِنَّ الْأَمِيرَ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ فَأَجَابَهُ عَنْهُ فَظَنَنْته سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ آخَرَ . وَقَالَ : قُلْت لَهُمْ أَنْتُمْ مَا لَكُمْ عَلَى الرَّجُلِ اعْتِرَاضٌ فَإِنَّهُ نَصَرَ تَرْكَ التَّأْوِيلِ ، وَأَنْتُمْ تَنْصُرُونَ قَوْلَ التَّأْوِيلِ وَهُمَا قَوْلَانِ لِلْأَشْعَرِيِّ . وَقَالَ : أَنَا أَخْتَارُ قَوْلَ تَرْكِ التَّأْوِيلِ ، وَأَخْرَجَ وَصِيَّتَهُ الَّتِي أَوْصَى بِهَا وَفِيهَا قَوْلُ تَرْكِ التَّأْوِيلِ . قَالَ الْحَاكِي لِي : فَقُلْت لَهُ : بَلَغَنِي عَنْك أَنَّك قُلْت فِي آخِرِ الْمَجْلِسِ - لَمَّا أَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْمُوَافَقَةِ - لَا تَكْتُبُوا عَنِّي نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا فَلِمَ ذَاكَ ؟ فَقَالَ : لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنِّي لَمْ أَحْضُرْ قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْعَقِيدَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ . وَالثَّانِي : لِأَنَّ أَصْحَابِي طَلَبُونِي لِيَنْتَصِرُوا بِي فَمَا كَانَ يَلِيقُ أَنْ أُظْهِرَ مُخَالَفَتَهُمْ فَسَكَتَ عَنْ الطَّائِفَتَيْنِ .

وَأَمَرْت غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ يُعَادَ قِرَاءَةُ الْعَقِيدَةِ جَمِيعِهَا عَلَى هَذَا الشَّيْخِ فَرَأَى بَعْضُ الْجَمَاعَةِ أَنَّ ذَلِكَ تَطْوِيلٌ وَأَنَّهُ لَا يُقْرَأُ عَلَيْهِ إلَّا الْمَوْضِعُ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ سُؤَالٌ وَأَعْظَمُهُ لَفْظُ الْحَقِيقَةِ فَقَرَءُوهُ عَلَيْهِ ؛ فَذَكَرَ هُوَ بَحْثًا حَسَنًا يَتَعَلَّقُ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَحَسَّنْته وَمَدَحْته عَلَيْهِ وَقُلْت : لَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ حَيٌّ حَقِيقَةً عَلِيمٌ حَقِيقَةً سَمِيعٌ حَقِيقَةً بَصِيرٌ حَقِيقَةً وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّة والصفاتية مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ ؛ وَلَوْ نَازَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي بَعْضِ ذَلِكَ : فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ مَوْجُودٌ وَالْمَخْلُوقَ مَوْجُودٌ وَلَفْظُ الْوُجُودِ سَوَاءٌ كَانَ مَقُولًا عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ أَوْ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِاشْتِرَاكِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَوْ بِالتَّشْكِيكِ الَّذِي هُوَ نَوْعٌ مِنْ التَّوَاطُؤِ . فَعَلَى كُلِّ قَوْلٍ : فَاَللَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً وَالْمَخْلُوقُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ مَحْذُورٌ ، وَلَمْ أُرَجِّحْ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ قَوْلًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ غَرَضِي تَحَصَّلَ عَلَى كُلِّ مَقْصُودِي . وَكَانَ مَقْصُودِي تَقْرِيرَ مَا ذَكَرْته عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَأَنْ أُبَيِّنَ اتِّفَاقَ السَّلَفِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْت وَأَنَّ أَعْيَانَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَالْأَشْعَرِيَّ وَأَكَابِرَ أَصْحَابِهِ عَلَى مَا ذَكَرْته ؛ فَإِنَّهُ قَبْلَ الْمَجْلِسِ الثَّانِي : اجْتَمَعَ بِي مِنْ أَكَابِرِ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ عَظُمَ خَوْفُهُمْ مِنْ هَذَا الْمَجْلِسِ وَخَافُوا انْتِصَارَ الْخُصُومِ فِيهِ وَخَافُوا عَلَى نُفُوسِهِمْ أَيْضًا

مِنْ تَفَرُّقِ الْكَلِمَةِ فَلَوْ أُظْهِرَتْ الْحُجَّةُ الَّتِي يَنْتَصِرُ بِهَا مَا ذَكَرْته أَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِهِمْ مَنْ يُوَافِقُهَا لَصَارَتْ فِرْقَةً وَلَصَعُبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُظْهِرُوا فِي الْمَجَالِسِ الْعَامَّةِ الْخُرُوجَ عَنْ أَقْوَالِ طَوَائِفِهِمْ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَمَكُّنِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَغْرَاضِهِمْ . فَإِذَا كَانَ مِنْ أَئِمَّةِ مَذَاهِبِهِمْ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَبَانَ أَنَّهُ مَذْهَبُ السَّلَفِ : أَمْكَنَهُمْ إظْهَارُ الْقَوْلِ بِهِ مَعَ مَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي الْبَاطِنِ . مِنْ أَنَّهُ الْحَقُّ حَتَّى قَالَ لِي بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ - وَقَدْ اجْتَمَعَ بِي - لَوْ قُلْت هَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ لَانْقَطَعَ النِّزَاعُ .
وَمَقْصُودُهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ دَفْعُ الْخُصُومِ عَنْك بِأَنَّهُ مَذْهَبٌ مَتْبُوعٌ وَيَسْتَرِيحُ الْمُنْتَصِرُ وَالْمُنَازِعُ مِنْ إظْهَارِ الْمُوَافَقَةِ . فَقُلْت : لَا وَاَللَّهِ ؛ لَيْسَ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي هَذَا اخْتِصَاصٌ وَإِنَّمَا هَذَا اعْتِقَادُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ؛ وَقُلْت أَيْضًا هَذَا اعْتِقَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ لَفْظٍ ذَكَرْته فَأَنَا أَذْكُرُ بِهِ آيَةً أَوْ حَدِيثًا أَوْ إجْمَاعًا سَلَفِيًّا وَأَذْكُرُ مَنْ يَنْقُلُ الْإِجْمَاعَ عَنْ السَّلَفِ مِنْ جَمِيعِ طَوَائِفِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفُقَهَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَالصُّوفِيَّةِ . وَقُلْت لِمَنْ خَاطَبَنِي مَنْ أَكَابِرِ الشَّافِعِيَّةِ - لِأُبَيِّنَ أَنَّ مَا ذَكَرْته هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ وَقَوْلُ أَئِمَّةِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَذْكُرُ قَوْلَ الْأَشْعَرِيِّ وَأَئِمَّةِ أَصْحَابِهِ الَّتِي تَرُدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْخُصُومِ وَلِيَنْتَصِرَن كُلُّ شَافِعِيٍّ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ الْأَشْعَرِيِّ

الْمُوَافِقِ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ وَأُبَيِّنُ أَنَّ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةِ قَوْلٌ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِهِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فللأشعرية قَوْلَانِ لَيْسَ لِلْأَشْعَرِيِّ قَوْلَانِ .
فَلَمَّا ذَكَرْت فِي الْمَجْلِسِ أَنَّ جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الَّتِي سُمِّيَ بِهَا الْمَخْلُوقُ كَلَفْظِ الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ مَقُولٌ بِالْحَقِيقَةِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ : تَنَازَعَ كَبِيرَانِ هَلْ هُوَ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ أَوْ بِالتَّوَاطُؤِ ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : هُوَ مُتَوَاطِئٌ وَقَالَ الْآخَرُ هُوَ مُشْتَرَكٌ ؛ لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّرْكِيبُ . وَقَالَ هَذَا : قَدْ ذَكَرَ فَخْرُ الدِّينِ أَنَّ هَذَا النِّزَاعَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ وُجُودَهُ هَلْ هُوَ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ أَمْ لَا ؟ . فَمَنْ قَالَ إنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ قَالَ : إنَّهُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ وَمَنْ قَالَ إنَّ وُجُودَهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ قَالَ : إنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ . فَأَخْذُ الْأَوَّلِ يُرَجِّحُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْوُجُودَ زَائِدٌ عَلَى الْمَاهِيَّةِ ؛ لِيَنْصُرَ أَنَّهُ مَقُولٌ بِالتَّوَاطُؤِ . فَقَالَ الثَّانِي : لَيْسَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ وَأَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ وُجُودَهُ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ فَأَنْكَرَ الْأَوَّلُ ذَلِكَ . فَقُلْت : أَمَّا مُتَكَلِّمُو أَهْلِ السُّنَّةِ فَعِنْدَهُمْ أَنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ ؛

وَأَمَّا الْقَوْلُ الْآخَرُ فَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّ وُجُودَ كُلِّ شَيْءٍ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَاهِيَّتِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَصَابَ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَقُولَةٌ بِالتَّوَاطُؤِ كَمَا قَدْ قَرَّرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَجَبْت عَنْ شُبْهَةِ التَّرْكِيبِ بِالْجَوَابَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ . وَأَمَّا بِنَاءُ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِ وُجُودِ الشَّيْءِ عَيْنَ مَاهِيَّتِهِ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ : فَهُوَ مِنْ الْغَلَطِ الْمُضَافِ إلَى ابْنِ الْخَطِيبِ فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا إنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ عَيْنُ مَاهِيَّتِهِ : لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ مَقُولًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَظِيرِهِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ فَقَطْ كَمَا فِي جَمِيعِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ . فَإِنَّ اسْمَ السَّوَادِ مَقُولٌ عَلَى هَذَا السَّوَادِ وَهَذَا السَّوَادُ بِالتَّوَاطُؤِ وَلَيْسَ عَيْنُ هَذَا السَّوَادِ هُوَ عَيْنُ هَذَا السَّوَادِ إذْ الِاسْمُ دَالٌّ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْمُطْلَقُ الْكُلِّيُّ ؛ لَكِنَّهُ لَا يُوجَدُ مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ إلَّا فِي الذِّهْنِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَفْيُ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْخَارِجِ فَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَنْتَفِي الْأَسْمَاءُ الْمُتَوَاطِئَةُ وَهِيَ جُمْهُورُ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْغَالِبِ ( وَهِيَ أَسْمَاءُ الْأَجْنَاسِ اللُّغَوِيَّةِ وَهُوَ الِاسْمُ الْمُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ وَعَلَى كُلِّ مَا أَشْبَهَهُ سَوَاءٌ كَانَ اسْمَ عَيْنٍ أَوْ اسْمَ صِفَةٍ جَامِدًا أَوْ مُشْتَقًّا وَسَوَاءٌ كَانَ جِنْسًا مَنْطِقِيًّا أَوْ فِقْهِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ . بَلْ اسْمُ الْجِنْسِ فِي اللُّغَةِ يَدْخُلُ فِيهِ الْأَجْنَاسُ وَالْأَصْنَافُ وَالْأَنْوَاعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . وَكُلُّهَا أَسْمَاءٌ مُتَوَاطِئَةٌ وَأَعْيَانُ مُسَمَّيَاتِهَا فِي الْخَارِجِ مُتَمَيِّزَةٌ . وَطَلَبَ بَعْضُهُمْ إعَادَةَ قِرَاءَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْعَقِيدَةِ ؛ لِيَطْعَنَ فِي

بَعْضِهَا فَعَرَفْتُ مَقْصُودَهُ . فَقُلْت : كَأَنَّك قَدْ اسْتَعْدَدْت لِلطَّعْنِ فِي حَدِيثِ الْأَوْعَالِ : حَدِيثِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - وَكَانُوا قَدْ تَعَنَّتُوا حَتَّى ظَفِرُوا بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ زَكِيُّ الدِّينِ عَبْدُ الْعَظِيمِ مِنْ قَوْلِ الْبُخَارِيِّ فِي تَأْرِيخِهِ : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمِيرَةَ لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ الْأَحْنَفِ - فَقُلْت : هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ أَنَّهُ رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ كَأَبِي دَاوُد وَابْنِ مَاجَه وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمْ : فَهُوَ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ مَشْهُورَيْنِ فَالْقَدْحُ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَقْدَحُ فِي الْآخَرِ . فَقَالَ : أَلَيْسَ مَدَارُهُ عَلَى ابْنِ عَمِيرَةَ وَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ : لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ الْأَحْنَفِ ؟ . فَقُلْت : قَدْ رَوَاهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ ابْنُ خُزَيْمَة فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ الَّذِي اُشْتُرِطَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ فِيهِ إلَّا بِمَا نَقَلَهُ الْعَدْلُ عَنْ الْعَدْلِ مَوْصُولًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْت وَالْإِثْبَاتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ ، وَالْبُخَارِيُّ إنَّمَا نَفَى مَعْرِفَةَ سَمَاعِهِ مِنْ الْأَحْنَفِ لَمْ يَنْفِ مَعْرِفَةَ النَّاسِ بِهَذَا فَإِذَا عُرِفَ غَيْرُهُ - كَإِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَة - مَا ثَبَتَ بِهِ الْإِسْنَادُ : كَانَتْ مَعْرِفَتُهُ وَإِثْبَاتُهُ مُقَدَّمًا عَلَى نَفْيِ غَيْرِهِ وَعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ . وَوَافَقَ الْجَمَاعَةُ عَلَى ذَلِكَ وَأَخَذَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ يَذْكُرُ مِنْ الْمَدْحِ مَا لَا يَلِيقُ أَنْ أَحْكِيَهُ وَأَخَذُوا يُنَاظِرُونَ فِي أَشْيَاءَ لَمْ تَكُنْ فِي الْعَقِيدَةِ وَلَكِنْ لَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا أَجَبْت بِهِ فِي مَسَائِلَ وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِمَا قَدْ يَفْهَمُونَهُ مِنْ

الْعَقِيدَةِ . فَأَحْضَرَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ " كِتَابَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " للبيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَ : هَذَا فِيهِ تَأْوِيلُ الْوَجْهِ عَنْ السَّلَفِ فَقُلْت : لَعَلَّك تَعْنِي قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } فَقَالَ : نَعَمْ . قَدْ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ يَعْنِي قِبْلَةَ اللَّهِ . فَقُلْت : نَعَمْ : هَذَا صَحِيحٌ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا حَقٌّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ . وَمَنْ عَدَّهَا فِي الصِّفَاتِ فَقَدْ غَلِطَ كَمَا فَعَلَ طَائِفَةٌ ؛ فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى الْمُرَادِ حَيْثُ قَالَ : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } وَالْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الْجِهَاتُ . وَالْوَجْهُ هُوَ الْجِهَةُ ؛ يُقَالُ أَيُّ وَجْهٍ تُرِيدُهُ ؟ أَيْ أَيُّ جِهَةٍ وَأَنَا أُرِيدُ هَذَا الْوَجْهَ أَيْ هَذِهِ الْجِهَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } وَلِهَذَا قَالَ : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } أَيْ تَسْتَقْبِلُوا وَتَتَوَجَّهُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ .

[ نَقَلَ الشَّيْخُ عَلَمُ الدِّينِ : أَنَّ الشَّيْخَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - قَالَ : - فِي مَجْلِسِ نَائِبِ السَّلْطَنَةِ الأفرم - لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَحْضَرَ عَقِيدَتَهُ " الواسطية " قَالَ - هَذِهِ كَتَبْتهَا مِنْ نَحْوِ سَبْعِ سِنِينَ قَبْلَ مَجِيءِ التَّتَارِ إلَى الشَّامِ ؛ فَقُرِئَتْ فِي الْمَجْلِسِ . ثُمَّ نَقَلَ عَلَمُ الدِّينِ عَنْ الشَّيْخِ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ سَبَبُ كِتَابَتِهَا أَنَّ بَعْضَ قُضَاةِ وَاسِطٍ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالدِّينِ شَكَا مَا النَّاسُ فِيهِ - بِبِلَادِهِمْ فِي دَوْلَةِ التتر - مِنْ غَلَبَةِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ ] (*) وَدُرُوسِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ ؛ وَسَأَلَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَهُ " عَقِيدَةً " فَقُلْت لَهُ : قَدْ كَتَبَ النَّاسُ عَقَائِدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ ؛ فَأَلَحَّ فِي السُّؤَالِ ، وَقَالَ : مَا أُحِبُّ إلَّا عَقِيدَةً تَكْتُبُهَا أَنْتَ . فَكَتَبْت لَهُ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ - وَأَنَا قَاعِدٌ بَعْدَ الْعَصْرِ فَأَشَارَ الْأَمِيرُ لِكَاتِبِهِ فَقَرَأَهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ حَرْفًا حَرْفًا فَاعْتَرَضَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِي فِيهَا : وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ : مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ . وَمَقْصُودُهُ أَنَّ هَذَا يَنْفِي التَّأْوِيلَ الَّذِي هُوَ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ : إمَّا وُجُوبًا وَإِمَّا جَوَازًا .

فَقُلْت : إنِّي عَدَلْت عَنْ لَفْظِ التَّأْوِيلِ إلَى لَفْظِ التَّحْرِيفِ ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيفَ اسْمٌ جَاءَ الْقُرْآنُ بِذَمِّهِ ؛ وَأَنَا تَحَرَّيْت فِي هَذِهِ الْعَقِيدَةِ اتِّبَاعَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَنَفَيْت مَا ذَمَّهُ اللَّهُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَلَمْ أَذْكُرْ فِيهَا لَفْظَ التَّأْوِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَهُ عِدَّةُ مَعَانٍ ؛ كَمَا بَيَّنْته فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْقَوَاعِدِ . فَإِنَّ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي كِتَابِ اللَّهِ غَيْرُ لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ . وَغَيْرُ مَعْنَى لَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي اصْطِلَاحِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَالسَّلَفِ . وَقُلْت لَهُمْ ذَكَرْت فِي النَّفْيِ التَّمْثِيلَ وَلَمْ أَذْكُرْ التَّشْبِيهَ ؛ لِأَنَّ التَّمْثِيلَ نَفَاهُ اللَّهُ بِنَصِّ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } . وَأَخَذُوا يَذْكُرُونَ نَفْيَ التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ وَيُطْنِبُونَ فِي هَذَا وَيُعْرِضُونَ بِمَا يَنْسُبُهُ بَعْضُ النَّاسِ إلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ . فَقُلْت قَوْلِي مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ يَنْفِي كُلَّ بَاطِلٍ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَرْت هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ : لِأَنَّ التَّكْيِيفَ مَأْثُورٌ نَفْيُهُ عَنْ السَّلَفِ كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَابْنُ عُيَيْنَة وَغَيْرُهُمْ الْمَقَالَةَ - الَّتِي تَلَقَّاهَا الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ - الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ فَاتَّفَقَ هَؤُلَاءِ السَّلَفُ عَلَى أَنَّ الْكَيْفَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَنَا فَنَفَيْت ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِسَلَفِ الْأُمَّةِ . وَهُوَ أَيْضًا مَنْفِيٌّ بِالنَّصِّ . فَإِنَّ تَأْوِيلَ آيَاتِ الصِّفَاتِ يَدْخُلُ فِيهَا حَقِيقَةُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131