الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَأَعْمَقُهَا عِلْمًا وَأَقَلُّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهَدْيِ الْمُسْتَقِيمِ " وَقَوْلِ جُنْدُبٍ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ كَثِيرٌ مَكْتُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ بَلْ خِلَافُ نُصُوصِ الْقُرْآنِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } الْآيَةَ . وَقَوْلِهِ : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } الْآيَةَ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْغَرَضُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ : الْكَلَامُ عَلَى خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا ظَنُّ طَائِفَةٍ كَابْنِ هُودٍ وَابْنِ سَبْعِينَ والنفري والتلمساني : أَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَأَخِّرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْعَالَمَ مُتَنَقِّلٌ مِنْ الِابْتِدَاءِ إلَى الِانْتِهَاءِ كَالصَّبِيِّ الَّذِي يَكْبُرُ بَعْدَ صِغَرِهِ وَالنَّبَاتِ الَّذِي يَنْمُو بَعْدَ ضَعْفِهِ وَيَبْنُونَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَسِيحَ أَفْضَلُ مِنْ مُوسَى وَيُبْعِدُونَ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَجْعَلُوا بَعْدَ مُحَمَّدٍ وَاحِدًا مِنْ الْبَشَرِ أَكْمَلَ مِنْهُ كَمَا تَقُولُهُ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْقَرَامِطَةُ وَالْبَاطِنِيَّةُ فَلَيْسَ عَلَى هَذَا دَلِيلٌ أَصْلًا . أَنَّ كُلَّ مَنْ تَأَخَّرَ زَمَانُهُ مِنْ نَوْعٍ يَكُونُ أَفْضَلَ ذَلِكَ النَّوْعِ فَلَا هُوَ مُطَّرِدٌ وَلَا مُنْعَكِسٌ . بَلْ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ قَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } أَيْ بَعْدَ النَّبِيِّ . وَكَذَلِكَ قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خيثَم : " لَا أُفَضِّلُ عَلَى نَبِيِّنَا أَحَدًا

وَلَا أُفَضِّلُ عَلَى إبْرَاهِيمَ بَعْدَ نَبِيِّنَا أَحَدًا وَبَعْدَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَّبِعِينَ لِمِلَّتِهِ مِثْلِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا " وَكَذَلِكَ أَنْبِيَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ كُلِّهِمْ بَعْدَ مُوسَى وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى : عَلَى أَنَّ مُوسَى أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا مَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِنْ الْمَسِيحِ . وَالْقُرْآنُ قَدْ شَهِدَ فِي آيَتَيْنِ لِأُولِي الْعَزْمِ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } وَقَالَ : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ أُولُوا الْعَزْمِ وَهُمْ الَّذِينَ قَدْ ثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصِّحَاحِ : أَنَّهُمْ يَتَرَادُّونَ الشَّفَاعَةَ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ بَعْدَ آدَمَ فَيَجِبُ تَفْضِيلُهُمْ عَلَى بَنِيهِمْ وَفِيهِ تَفْضِيلٌ لِمُتَقَدِّمِ عَلَى مُتَأَخِّرٍ وَلِمُتَأَخِّرِ عَلَى مُتَقَدِّمٍ . وَأَصْلُ الْغَلَطِ فِي هَذَا الْبَابِ : أَنَّ تَفْضِيلَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ الْعُلَمَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ بِالتَّقَدُّمِ فِي الزَّمَانِ أَوْ التَّأَخُّرِ أَصْلٌ بَاطِلٌ فَتَارَةً يَكُونُ الْفَضْلُ فِي مُتَقَدِّمِ النَّوْعِ وَتَارَةً فِي مُتَأَخِّرِ النَّوْعِ ؛ وَلِهَذَا يُوجَدُ فِي أَهْلِ النَّحْوِ وَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ مَا يُفَضَّلُ فِيهِ الْمُتَقَدِّمُ كَبَطْلَيْمُوسَ وَسِيبَوَيْهِ وبقراط وَتَارَةً بِالْعَكْسِ .

وَأَمَّا تَوَهُّمُهُمْ أَنَّ مُتَأَخِّرِي كُلِّ فَنٍّ أَحْذَقُ مِنْ مُتَقَدِّمِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَّلُوهُ فَهَذَا مُنْتَقَضٌ أَوَّلًا : لَيْسَ بِمُطَّرِدِ فَإِنَّ كِتَابَ سِيبَوَيْهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهُ مِثْلُهُ بَلْ وَكِتَابُ بَطْلَيْمُوس بَلْ نُصُوصُ بقراط لَمْ يُصَنَّفْ بَعْدَهَا أَكْمَلُ مِنْهَا . ثُمَّ نَقُولُ هَذَا قَدْ يُسَلِّمُ فِي الْفُنُونِ الَّتِي تُنَالُ : بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ وَالْحِيلَةِ . أَمَّا الْفَضَائِلُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِاتِّبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ إلَى الْأَنْبِيَاءِ أَقْرَبَ مَعَ كَمَالِ فِطْرَتِهِ : كَانَ تَلَقِّيهِ عَنْهُمْ أَعْظَمَ وَمَا يَحْسُنُ فِيهِ هُوَ مِنْ الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ هُوَ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ الْخَارِجِ عَنْ سُنَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُعْتَقِدِ أَنَّ لَهُ نَصِيبًا مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ خَارِجًا عَنْ طَوْرِ الْأَنْبِيَاءِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ بِالنُّبُوَّةِ وَقَدْرِهَا أَعْظَمَ : كَانَ رُسُوخُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَدَّ . وَأَمَّا الْأَذْوَاقُ وَالْكَرَامَاتُ فَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ وَالْحَقُّ مِنْهُ كَانَ لِلسَّلَفِ أَكْمَلَ وَأَفْضَلَ بِلَا شَكٍّ وَخَرْقُ الْعَادَةِ : تَارَةً يَكُونُ لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ لَا تُخْرَقُ لَهُ تِلْكَ الْعَادَةُ فَإِنَّ خَرْقَهَا لَهُ سَبَبٌ وَلَهُ غَايَةٌ فَالْكَامِلُ قَدْ يَرْتَقِي عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إلَى تِلْكَ الْغَايَةِ الْمَقْصُودَةِ بِهَا وَمَعَ هَذَا فَمَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ كَرَامَةٌ إلَّا وَلِلسَّلَفِ مِنْ نَوْعِهَا مَا هُوَ أَكْمَلُ مِنْهَا .

وَأَمَّا قَوْلُهُ : { لَهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَلَا يَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا } فَهَذَا صَحِيحٌ إذَا عَمِلَ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِثْلَ عَمَلٍ عَمِلَهُ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ ؛ لَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِ بَعْضِ أَكَابِرِ السَّابِقِينَ ؛ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَإِنَّهُ مَا بَقِيَ يُبْعَثُ نَبِيٌّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ يَعْمَلُ مَعَهُ مِثْلَمَا عَمِلُوا مَعَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : { أُمَّتِي كَالْغَيْثِ لَا يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ } مَعَ أَنَّ فِيهِ لِينًا فَمَعْنَاهُ : فِي الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ يُشْبِهُ الْمُتَقَدِّمِينَ وَيُقَارِبُهُمْ حَتَّى يَبْقَى لِقُوَّةِ الْمُشَابَهَةِ وَالْمُقَارَنَةِ لَا يَدْرِي الَّذِي يَنْظُرُ إلَيْهِ أَهَذَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا ؟ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ خَيْرًا . فَهَذَا فِيهِ بُشْرَى لِلْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُقَارِبُ السَّابِقِينَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : { خَيْرُ أُمَّتِي أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا . وَبَيْنَ ذَلِكَ ثَبْجٌ أَوْ عِوَجٌ . وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانِي قَالُوا : أَوَلَسْنَا إخْوَانَك ؟ قَالَ : أَنْتُمْ أَصْحَابِي } هُوَ تَفْضِيلٌ لِلصَّحَابَةِ فَإِنَّ لَهُمْ خُصُوصِيَّةَ الصُّحْبَةِ الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الْإِخْوَةِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { أَيُّ النَّاسِ أَعْجَبُ إيمَانًا } إلَى قَوْلِهِ : { قَوْمٌ يَأْتُونَ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِالْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ } هُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ عَجَبٌ أَعْجَبُ مِنْ إيمَانِ غَيْرِهِمْ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَفْضَلُ . فَإِنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ

ذَكَرُوا الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَفْضَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَرَقِ الْمُعَلَّقِ . وَنَظِيرُهُ كَوْنُ الْفُقَرَاءِ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَعْدَ الدُّخُولِ يَكُونُونَ أَرْفَعَ مَرْتَبَةً مِنْ جَمِيعِ الْأَغْنِيَاءِ وَإِنَّمَا سَبَقُوا لِسَلَامَتِهِمْ مِنْ الْحِسَابِ . وَهَذَا بَابُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ فِي الْأَعْيَانِ وَالْأَعْمَالِ وَالصِّفَاتِ أَوْ بَيْنَ أَشْخَاصِ النَّوْعِ بَابٌ عَظِيمٌ يَغْلَطُ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَاَللَّهُ يَهْدِينَا سَوَاءَ الصِّرَاطِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
فَصْلٌ :
تَكَلَّمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ " خَتْمِ الْوِلَايَةِ " : بِكَلَامِ مَرْدُودٍ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ حَيْثُ غَلَا فِي ذِكْرِ الْوِلَايَةِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ وَعِصْمَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُقَدِّمَةٌ لِضَلَالِ ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ الَّذِينَ تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْبَابِ بِالْبَاطِلِ وَالْعُدْوَانِ مِنْهَا قَوْلُهُ : فَيُقَالُ لِهَذَا الْمِسْكِينِ : صِفْ لَنَا مَنَازِلَ الْأَوْلِيَاءِ - إذَا اسْتَفْرَغُوا مَجْهُودَ الصِّدْقِ - كَمْ عَدَدُ مَنَازِلِهِمْ ؟ وَأَيْنَ مَنَازِلُ أَهْلِ الْفِرْيَةِ ؟ وَأَيْنَ الَّذِينَ جَازَوْا الْعَسَاكِرَ ؟ . بِأَيِّ شَيْءٍ جَازَوْا ؟ وَإِلَى أَيْنَ مُنْتَهَاهُمْ ؟ وَأَيْنَ مَقَامُ أَهْلِ الْمَجَالِسِ وَالْحَدِيثِ ؟ وَكَمْ عَدَدُهُمْ ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ اسْتَوْجَبُوا هَذَا عَلَى رَبِّهِمْ ؟ وَمَا حَدِيثُهُمْ وَنَجْوَاهُمْ ؟ وَبِأَيِّ شَيْءٍ يَفْتَتِحُونَ الْمُنَاجَاةَ ؟ وَبِأَيِّ

شَيْءٍ يَخْتِمُونَهَا ؟ وَمَاذَا يَخَافُونَ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةُ سَيْرِهِمْ ؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ خَاتَمَ الْوِلَايَةِ كَمَا اسْتَحَقَّ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاتَمَ النُّبُوَّةِ ؟ وَبِأَيِّ صِفَةٍ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ ؟ وَمَا سَبَبُ (1) وَكَمْ مَجَالِسُ هَذِهِ الْأَبْدَانِ حَتَّى تُرَدَّ إلَى مَالِكِ الْمُلْكِ ؟ إلَى مَسَائِلَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا مِنْ هَذَا النَّمَطِ . وَمِنْهَا فِيهِ قَالَ لَهُ قَائِلٌ : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ مَنْ يُوَازِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؟ قَالَ : إنْ كُنْت تَعْنِي فِي الْعَمَلِ فَلَا وَإِنْ كُنْت تَعْنِي فِي الدَّرَجَاتِ فَغَيْرُ مَدْفُوعٍ وَذَلِكَ أَنَّ الدَّرَجَاتِ بِوَسَائِلِ الْقُلُوبِ وَتَسْمِيَةُ مَا فِي الدَّرَجَاتِ بِالْأَعْمَالِ فَمَنْ الَّذِي حَوَّلَ رَحْمَةَ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِمْ سَابِقٌ وَلَا مُقَرَّبٌ وَلَا مُجْتَبًى وَلَا مُصْطَفًى . أَوَلَيْسَ الْمَهْدِيُّ كَائِنًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ ؟ فَهُوَ فِي الْفِتْنَةِ يَقُومُ بِالْعَدْلِ ؛ فَلَا يَعْجِزُ عَنْهَا . أَوَلَيْسَ كَائِنًا فِي آخِرِ الزَّمَانِ مَنْ لَهُ خَتْمُ الْوِلَايَةِ ؟ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ يَوْمَ الْمَوْقِفِ ؟ فَكَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ فَأُعْطِيَ خَتْمَ النُّبُوَّةِ وَهُوَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ . فَكَذَلِكَ هَذَا الْوَلِيُّ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ .

قَالَ لَهُ قَائِلٌ : فَأَيْنَ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَرَجْت مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ فَأُتِيت بِالْمِيزَانِ فَوُضِعْت فِي كِفَّةٍ وَأُمَّتِي فِي كِفَّةٍ فَرَجَحْت بِالْأُمَّةِ . ثُمَّ وُضِعَ أَبُو بَكْرٍ مَكَانِي فَرَجَحَ بِالْأُمَّةِ . ثُمَّ وُضِعَ عُمَرُ مَكَانَ أَبِي بَكْرٍ فَرَجَحَ بِالْأُمَّةِ } فَقَالَ هَذَا وَزْنُ الْأَعْمَالِ ؛ لَا وَزْنُ مَا فِي الْقُلُوبِ أَيْنَ يَذْهَبُ بِكُمْ يَا عَجَمُ ؟ مَا هَذَا إلَّا مِنْ غَبَاوَةِ أَفْهَامِكُمْ . أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ : خَرَجْت مِنْ بَابِ الْجَنَّةِ وَالْجَنَّةُ لِلْأَعْمَالِ ؛ وَالدَّرَجَاتُ لِلْقُلُوبِ ؛ وَالْوَزْنُ لِلْأَعْمَالِ ؛ لَا لِمَا فِي الْقُلُوبِ ؛ إنَّ الْمِيزَانَ لَا يَتَّسِعُ لِمَا فِي الْقُلُوبِ . وَقَالَ فِيهِ : " ثُمَّ لَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَيَّرَ فِيهِمْ أَرْبَعِينَ صِدِّيقًا ؛ بِهِمْ تَقُومُ الْأَرْضُ فَهُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَهُمْ آلُهُ ؛ فَكُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ خَلَفَهُ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ . حَتَّى إذَا انْقَرَضَ عَدَدُهُمْ وَأَتَى وَقْتُ زَوَالِ الدُّنْيَا ؛ بَعَثَ اللَّهُ وَلِيًّا اصْطَفَاهُ وَاجْتَبَاهُ وَقَرَّبَهُ وَأَدْنَاهُ وَأَعْطَاهُ مَا أَعْطَى الْأَوْلِيَاءَ وَخَصَّهُ بِخَاتَمِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ حُجَّةَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَوْلِيَاءِ . فَيُوجَدُ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْخَتْمُ صِدْقُ الْوِلَايَةِ عَلَى سَبِيلِ مَا وُجِدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِدْقُ النُّبُوَّةِ ؛ لَمْ يَنَلْهُ الْقَدَرُ وَلَا وَجَدَتْ النَّفْسُ سَبِيلًا إلَى الْأَخْذِ بِحَظِّهَا مِنْ الْوِلَايَةِ فَإِذَا بَرَزَ الْأَوْلِيَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُقْبِضُوا صِدْقَ الْوِلَايَةِ وَالْعُبُودِيَّةِ ؛ وَجَدَ أُلُوفًا عِنْدَ هَذَا الَّذِي خَتَمَ الْوِلَايَةَ تَمَامًا ؛ فَكَانَ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَائِرِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ

وَكَانَ شَفِيعَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ فَهُوَ سَيِّدُهُمْ . سَادَ الْأَوْلِيَاءَ كَمَا سَادَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْبِيَاءَ فَيُنْصَبُ لَهُ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ وَيُثْنِي عَلَى اللَّهِ ثَنَاءً وَيَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ يُقِرُّ الْأَوْلِيَاءُ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْوَلِيُّ مَذْكُورًا أَوَّلًا فِي الْبَدْءِ أَوَّلًا فِي الذِّكْرِ وَأَوَّلًا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمُوَازَنَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْمِيثَاقِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْحَشْرِ ؛ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْخِطَابِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْوِفَادَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الشَّفَاعَةِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الْجَوَازِ وَفِي دُخُولِ الدَّارِ ثُمَّ الْأَوَّلُ فِي الزِّيَارَةِ فَهُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَوَّلُ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فَهُوَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْأُذُنِ وَالْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ الْقَفَا . فَهَذَا عِنْدَ مَقَامِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي مُلْكِ اللَّهِ وَنَجْوَاهُ . مِثَالٌ فِي الْمَجْلِسِ الْأَعْظَمِ فَهُوَ فِي مِنَصَّتِهِ وَالْأَوْلِيَاءُ مِنْ خَلْفِهِ دَرَجَةً دَرَجَةً وَمَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ مِثَالٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ . وَلَسْت أَعْنِي مِنْ النَّسَبِ إنَّمَا أَهْلُ بَيْتِ الذِّكْرِ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
فَصْلٌ :
قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى فِي عُيُونِ الْمَسَائِلِ :
مَسْأَلَةٌ : وَمُثْبِتُو النُّبُوَّاتِ حَصَلَ لَهُمْ الْمَعْرِفَةُ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِثُبُوتِ النُّبُوَّةِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ فِي دَلَائِلِ الْعُقُولِ خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ : لَا تَحْصُلُ حَتَّى تَنْظُرَ وَتَسْتَدِلَّ بِدَلَائِلِ الْعُقُولِ . وَقَالَ : نَحْنُ لَا نَمْنَعُ صِحَّةَ النَّظَرِ وَلَا نَمْنَعُ حُصُولَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ وَإِنَّمَا خِلَافُنَا هَلْ تَحْصُلُ بِغَيْرِهِ ؛ وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ النُّبُوَّةَ إذَا ثَبَتَتْ بِقِيَامِ الْمُعْجِزَةِ عَلِمْنَا أَنَّ هُنَاكَ مُرْسَلًا أَرْسَلَهُ ؛ إذْ لَا يَكُونُ هُنَاكَ نَبِيٌّ إلَّا وَهُنَاكَ مُرْسَلٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هُنَاكَ مُرْسَلٌ أَغْنَى ذَلِكَ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فِي دَلَائِلِ الْعُقُولِ عَلَى إثْبَاتِهِ .

وَقَالَ البيهقي فِي كِتَابِ الِاعْتِقَادِ مَا ذَكَرَهُ الخطابي أَيْضًا فِي " الغنية عَنْ الْكَلَامِ وَأَهْلِهِ وَقَدْ سَلَكَ بَعْضُ مَنْ بَحَثَ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَحُدُوثِ الْعَالَمِ طَرِيقَ الِاسْتِدْلَال بِمُقَدِّمَاتِ النُّبُوَّةِ وَمُعْجِزَاتِ الرِّسَالَةِ ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْحِسِّ لِمَنْ شَاهَدَهَا . وَمِنْ طَرِيقِ اسْتِفَاضَةِ الْخَبَرِ لِمَنْ غَابَ عَنْهَا ؛ فَلَمَّا ثَبَتَتْ النُّبُوَّةُ صَارَتْ أَصْلًا فِي وُجُوبِ قَبُولِ مَا دَعَا إلَيْهِ النَّبِيُّ ؛ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ إيمَانُ أَكْثَرِ الْمُسْتَجِيبِينَ لِلرَّسُولِ ؛ وَذَكَرَ : قِصَّةَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ مَعَ النَّجَاشِيِّ وَقِصَّةَ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ : مَنْ خَلَقَ السَّمَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ؟ قُلْت : كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ يَقُولُونَ : لَا بُدَّ أَنْ تَتَقَدَّمَ الْمَعْرِفَةُ أَوَّلًا بِثُبُوتِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ الَّتِي يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ هُوَ وَيُظْهِرُ الْمُعْجِزَةَ وَإِلَّا تَعَذَّرَ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فَضْلًا عَنْ وُجُودِ الرَّبِّ . وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُتَقَدِّمُونَ فَصَحِيحَةٌ إذَا حُرِّرَتْ وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ بِهَا فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ كَانَ مُنْكِرًا لِلرَّبِّ . قَالَ تَعَالَى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائِيلَ } { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } - إلَى قَوْلِهِ - { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ } { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } { قَالَ إنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي

لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ } { قَالَ فَأْتِ بِهِ إنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } . فَهُنَا : قَدْ عَرَضَ عَلَيْهِ مُوسَى الْحُجَّةَ الْبَيِّنَةَ الَّتِي جَعَلَهَا دَلِيلًا عَلَى صِدْقِهِ فِي كَوْنِهِ رَسُولَ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَفِي أَنَّ لَهُ إلَهًا غَيْرَ فِرْعَوْنَ يَتَّخِذُهُ . وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْجِزَةَ تَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ - الَّتِي هِيَ فِعْلٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ - تَدُلُّ بِنَفْسِهَا عَلَى ثُبُوتِ الصَّانِعِ كَسَائِرِ الْحَوَادِثِ بَلْ هِيَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَوَادِثَ الْمُعْتَادَةَ لَيْسَتْ فِي الدَّلَالَةِ كَالْحَوَادِثِ الْغَرِيبَةِ ؛ وَلِهَذَا يُسَبَّحُ الرَّبُّ عِنْدَهَا وَيُمَجَّدُ وَيُعَظَّمُ مَا لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُعْتَادِ وَيَحْصُلُ فِي النُّفُوسِ ذِلَّةٌ مِنْ ذِكْرِ عَظَمَتِهِ مَا لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْتَادِ إذْ هِيَ آيَاتٌ جَدِيدَةٌ فَتُعْطَى حَقَّهَا وَتَدُلُّ بِظُهُورِهَا عَلَى الرَّسُولِ وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا تَدْعُو إلَى الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ . فَتَتَقَرَّرُ بِهَا الرُّبُوبِيَّةُ وَالرِّسَالَةُ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ دَلَالَةُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ ضَرُورِيَّةٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ مُتَكَلِّمِي الْمُعْتَزِلَةِ : كَالْجَاحِظِ وَطَوَائِفَ مِنْ غَيْرِهِمْ كَالْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْجِزَةِ وَالسِّحْرِ وَالْكَرَامَةِ بِالضَّرُورَةِ .

وَمَنْ يَقُولُ : إنَّ شَهَادَةَ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ وَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَقُولُ : لِأَنَّ عَدَمَ دَلَالَتِهَا عَلَى الصِّدْقِ مُسْتَلْزِمٌ عَجْزَ الْبَارِئِ إذْ لَا طَرِيقَ سِوَاهَا . وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ : فَلِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قَبِيحٌ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَارِّي فِعْلُهُ . وَالْأَوَّلُونَ يَقُولُونَ : لَيْسَ . . . (1) كَأُمُورِ كَثِيرَةٍ جِدًّا وَقَدْ بَيَّنْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْعِلْمَ مَوْجُودٌ ضَرُورِيٌّ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ . . . (2)

وَسُئِلَ :
أَيُّمَا أَوْلَى مُعَالَجَةُ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ مِنْ قَلْبِك مِثْلُ . الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَرُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ . وَغَيْرِ ذَلِكَ . مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ مِنْ دَرَنِهِ وَخُبْثِهِ ؟ أَوْ الِاشْتِغَالُ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ : مِنْ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَأَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ : مَنْ النَّوَافِلِ وَالْمَنْذُورَاتِ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الْأُمُورِ فِي قَلْبِهِ ؟ أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ .
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَاجِبٌ : وَأَنَّ لِلْأَوْجَبِ فَضْلًا وَزِيَادَةً . كَمَا قَالَ تَعَالَى فِيمَا يَرْوِيه عَنْهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ } . ثُمَّ قَالَ { وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ } وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَا تَكُونُ صَالِحَةً مَقْبُولَةً إلَّا بِتَوَسُّطِ عَمَلِ الْقَلْبِ فَإِنَّ الْقَلْبَ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ . فَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ } وَكَذَلِكَ أَعْمَالُ الْقَلْبِ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي عَمَلِ الْجَسَدِ وَإِذَا كَانَ الْمُقَدَّمُ هُوَ الْأَوْجَبُ ، سَوَاءٌ سُمِّيَ

بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَقَدْ يَكُونُ مَا يُسَمَّى بَاطِنًا أَوَجَبَ مِثْلُ تَرْكِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ فَإِنَّهُ أَوَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ نَوَافِلِ الصِّيَامِ وَقَدْ يَكُونُ مِمَّا سُمِّيَ ظَاهِرًا أَفْضَلَ : مِثْلُ قِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ تَرْكِ بَعْضِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَخْطُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ جِنْسِ الْغِبْطَةِ وَنَحْوِهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عَمَلِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ يُعِينُ الْآخَرَ وَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَتُورِثُ الْخُشُوعَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ الْعَظِيمَةِ : هِيَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَالصَّدَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ هَلْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا ؟ } وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ أَوَّلُ الْمَعْرِفَةِ الْحَيْرَةُ وَآخِرُهَا الْحَيْرَةُ . قِيلَ : مِنْ أَيْنَ تَقَعُ الْحَيْرَةُ . قِيلَ : مِنْ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا كَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ عَلَيْهِ وَالْآخَرُ شِدَّةُ الشَّرِّ وَحَذَرُ الْإِيَاسِ . وَقَالَ الواسطي : نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ بَيْنَ الْإِيَاسِ وَالطَّمَعِ لَا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوَصْلِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَتَى أَصِلُ إلَى طَرِيقِ الرَّاجِينَ وَأَنَا مُقِيمٌ فِي حَيْرَةِ الْمُتَحَيِّرِينَ ؟ . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْعَارِفُ : كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ اسْتَقْبَلَتْهُ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ . وَقَالَ : أَعْرَفُ النَّاسِ بِاَللَّهِ أَشَدُّهُمْ فِيهِ تَحَيُّرًا وَقَالَ الْجُنَيْد : انْتَهَى عَقْلُ الْعُقَلَاءِ إلَى الْحَيْرَةِ وَقَالَ ذُو النُّونِ : غَايَةُ الْعَارِفِينَ التَّحَيُّرُ . وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ :
قَدْ تَحَيَّرْت فِيك خُذْ بِيَدِي * * * يَا دَلِيلًا لِمَنْ تَحَيَّرَ فِيهِ
فَبَيِّنُوا لَنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ بَيَانًا شَافِيًا ؟.

فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، هَذَا الْكَلَامُ الْمَذْكُورُ { زِدْنِي فِيك تَحَيُّرًا } مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَكْذُوبَةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنَّمَا يَرْوِيه جَاهِلٌ أَوْ مُلْحِدٌ ؛ فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ حَائِرًا وَأَنَّهُ سَأَلَ الزِّيَادَةَ فِي الْحَيْرَةِ وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هَدَاهُ بِمَا أَوْحَاهُ إلَيْهِ وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ وَأَمَرَهُ بِسُؤَالِ الزِّيَادَةِ مِنْ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ : { رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا وَأَنَّهُ أَمَرَ بِطَلَبِ الْمَزِيدِ مِنْ الْعِلْمِ وَلِذَلِكَ أُمِرَ هُوَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِطَلَبِ الْهِدَايَةِ فِي قَوْلِهِ : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَمَنْ يَهْدِي الْخَلْقَ كَيْفَ يَكُونُ حَائِرًا . وَاَللَّهُ قَدْ ذَمَّ الْحَيْرَةَ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } . وَفِي الْجُمْلَةِ فَالْحَيْرَةُ مِنْ جِنْسِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْمَلُ الْخَلْقِ عِلْمًا بِاَللَّهِ وَبِأَمْرِهِ وَأَكْمَلُ الْخَلْقِ اهْتِدَاءً فِي نَفْسِهِ وَهَدْيًا لِغَيْرِهِ وَأَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ . قَالَ تَعَالَى { وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى } { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى } { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى } وَقَالَ تَعَالَى :

{ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ } - إلَى قَوْلِهِ - { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَاَللَّهُ قَدْ هَدَى الْمُؤْمِنِينَ بِهِ وَقَالَ تَعَالَى : { اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فَقَدْ كَفَلَ اللَّهُ لِمَنْ آمَنَ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ . وَلَمْ يَمْدَحْ الْحَيْرَةَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَدَحَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ : كَصَاحِبِ " الْفُصُوصِ " ابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْمَلَاحِدَةِ الَّذِينَ هُمْ حَيَارَى فَمَدَحُوا الْحَيْرَةَ وَجَعَلُوهَا أَفْضَلَ مِنْ الِاسْتِقَامَةِ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَكْمَلُ الْخَلْقِ وَأَنَّ خَاتَمَ الْأَوْلِيَاءِ مِنْهُمْ يَكُونُ أَفْضَلَ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ مِنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَسْتَفِيدُونَ الْعِلْمَ بِاَللَّهِ مِنْهُمْ وَكَانُوا فِي

ذَلِكَ . كَمَا يُقَالُ فِيمَنْ قَالَ : فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ تَحْتِهِمْ لَا عَقْلَ وَلَا قُرْآنَ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ أَقْدَمُ فَكَيْفَ يَسْتَفِيدُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ وَهُمْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لَيْسُوا أَفْضَلَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَخَرَجَ هَؤُلَاءِ عَنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ : دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى . وَهَؤُلَاءِ قَدْ بَسَطْنَا الرَّدَّ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَلَهُمْ فِي " وَحْدَةِ الْوُجُودِ وَالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ " كَلَامٌ مِنْ شَرِّ كَلَامِ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ الشُّيُوخِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الْحَيْرَةَ : فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ حَيْرَتِهِ فَهَذَا لَا يَقْتَضِي مَدْحَ الْحَيْرَةِ ؛ بَلْ الْحَائِرُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِ الْهُدَى كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّهُ عَلَّمَ رَجُلًا أَنْ يَدْعُوَ يَقُولُ : يَا دَلِيلَ الْحَائِرِينَ دُلَّنِي عَلَى طَرِيقِ الصَّادِقِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ عِبَادِك الصَّالِحِينَ . فَأَمَّا الَّذِي قَالَ : أَوَّلُ الْمَعْرِفَةِ الْحَيْرَةُ وَآخِرُهَا الْحَيْرَةُ . فَقَدْ يُرِيدُ بِذَلِكَ مَعْنًى صَحِيحًا مِثْلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّ الطَّالِبَ السَّالِكَ يَكُونُ حَائِرًا قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ وَالْهُدَى فَإِنَّ كُلَّ طَالِبٍ لِلْعِلْمِ وَالْهُدَى هُوَ قَبْلَ حُصُولِ مَطْلُوبِهِ فِي نَوْعٍ مِنْ الْحَيْرَةِ وَقَوْلُهُ آخِرُهَا الْحَيْرَةُ قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ طَالِبُ الْهُدَى وَالْعِلْمِ فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ حَائِرًا وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَدْحُ الْحَيْرَةِ وَلَكِنْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَعْتَرِيَ الْإِنْسَانَ نَوْعٌ مِنْ الْحَيْرَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ مَعَهَا إلَى الْعِلْمِ وَالْهُدَى .

وَقَوْلُهُ : وَالْحَيْرَةُ مِنْ مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : كَثْرَةُ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَ " الْآخَرُ " شِدَّةُ الشَّرِّ وَحَذَرُ الْإِيَاسِ - إخْبَارٌ عَنْ سُلُوكٍ مُعَيَّنٍ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ سَالِكٍ يَعْتَرِيه هَذَا وَلَكِنْ مِنْ السَّالِكِينَ مَنْ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْأَحْوَالُ حَتَّى لَا يَدْرِيَ مَا يَقْبَلُ وَمَا يَرُدُّ وَمَا يَفْعَلُ وَمَا يَتْرُكُ وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ دَوَامَ الدُّعَاءِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالتَّضَرُّعُ إلَيْهِ وَالِاسْتِهْدَاءُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . وَكَذَلِكَ بِشِدَّةِ الشَّرِّ وَحَذِرِ الْإِيَاسِ فَإِنَّ فِي السَّالِكِينَ مَنْ يُبْتَلَى بِأُمُورِ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ يَخَافُ مَعَهَا أَنْ يَصِيرَ إلَى الْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِقُوَّةِ خَوْفِهِ وَكَثْرَةِ الْمُخَالَفَةِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَمِثْلُ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقَبُولَ التَّوْبَةِ مِنْ عِبَادِهِ وَفَرَحَهُ بِذَلِكَ وَقَوْلُ الْآخَرِ : نَازِلَةٌ تَنْزِلُ بِقُلُوبِ الْعَارِفِينَ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ فَلَا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ فَيُقَالُ : هَذَا أَيْضًا حَالٌ عَارِضٌ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ لَيْسَ هَذَا أَمْرًا لَازِمًا لِكُلِّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقَ اللَّهِ وَلَا هُوَ أَيْضًا غَايَةٌ مَحْمُودَةٌ " وَلَكِنَّ بَعْضَ السَّالِكِينَ يَعْرِضُ لَهُ هَذَا . كَمَا يُذْكَرُ عَنْ الشِّبْلِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَنْشُدُ فِي هَذَا الْمَعْنَى :

أَظَلَّتْ عَلَيْنَا مِنْك يَوْمًا سَحَابَةٌ * * * أَضَاءَتْ لَنَا بَرْقًا وَأَبْطَأَ رَشَاشُهَا
فَلَا غَيْمُهَا يَجْلُو فَيَيْأَسُ طَامِعٌ * * * وَلَا غَيْثُهَا يَأْتِي فَيَرْوِي عِطَاشَهَا
وَصَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ إلَى أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَغْفِرَ لَهُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ أَحْوَجُ مِنْهُ إلَى أَنْ يُمْدَحَ عَلَيْهِ أَوْ يُقْتَدَى بِهِ فِيهِ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ قَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لَمَّا تَكَلَّمْنَا عَلَى مَا يَعْرِضُ لِطَائِفَةٍ مِنْ كَلَامٍ فِيهِ مُعَاتَبَةٌ لِجَانِبِ الرُّبُوبِيَّةِ وَإِقَامَةُ حُجَّةٍ عَلَيْهِ بِالْمَجْنُونِ الْمُتَحَيِّرِ وَإِقَامَةُ عُذْرِ الْمُحِبِّ وَأُمُورٌ تُشْبِهُ هَذَا . قَدْ تَحَيَّزَ مَنْ قَالَ بِمُوجِبِهَا إلَى الْكُفْرِ وَالْإِلْحَادِ ؛ إذْ الْوَاجِبُ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ بِفَضْلِهِ وَجُودِهِ وَإِحْسَانِهِ وَلِلنَّفْسِ بِالتَّقْصِيرِ وَالذَّنْبِ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ : اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُك وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِك مَا اسْتَطَعْت أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْت أَبُوءُ لَك بِنِعْمَتِك عَلَيَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي إنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ مَنْ قَالَهَا إذَا أَصْبَحَ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ قَالَهَا إذَا أَمْسَى مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الْإِلَهِيِّ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : يَا عِبَادِي إنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَن إلَّا نَفْسَهُ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ

{ يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا . وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْته هَرْوَلَةً } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إذَا ذَكَرَنِي } وَقَدْ ثَبَتَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كُلُّ نِعْمَةٍ مِنْهُ فَضْلٌ وَكُلُّ نِقْمَةٍ مِنْهُ عَدْلٌ وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَدْلِهِ مَا يَبْهَرُ الْعُقُولَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَتَعَلَّقُ بِأُصُولِ كِبَارٍ مِنْ مَسَائِلِ " الْقَدَرِ " وَ " الْأَمْرِ " وَ " الْوَعْدِ " وَ " الْوَعِيدِ " . وَ " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : الْكَلَامُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَنْ هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ فَقَوْلُ الْقَائِلِ : لَا تُطْمِعُهُمْ فِي الْوُصُولِ فَيَسْتَرِيحُونَ وَلَا تُؤَيِّسُهُمْ عَنْ الطَّلَبِ فَيَسْتَرِيحُونَ . هِيَ حَالٌ عَارِضٌ لِشَخْصِ قَدْ تَعَلَّقَتْ هِمَّتُهُ بِمَطْلُوبِ مُعَيَّنٍ وَهُوَ يَتَرَدَّدُ فِيهِ بَيْنَ الْيَأْسِ وَالطَّمَعِ وَهَذَا حَالٌ مَذْمُومٌ ؟ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتَرِحَ عَلَى اللَّهِ شَيْئًا مُعَيَّنًا ؛ بَلْ تَكُونُ هِمَّتُهُ فِعْلَ الْمَأْمُورِ وَتَرْكَ الْمَحْظُورِ وَالصَّبْرَ عَلَى الْمَقْدُورِ . فَمَتَى أُعِينَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْمَطَالِبِ : مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ . وَلَوْ تَعَلَّقَتْ هِيَ بِمَطْلُوبِ فَدَعَا اللَّهَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِيه إحْدَى خِصَالٍ ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَهَا وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الشَّرِّ مِثْلَهَا . وَلَفْظُ " الْوُصُولِ " لَفْظٌ مُجْمَلٌ ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ سَالِكٍ إلَّا وَلَهُ غَايَةٌ

يَصِلُ إلَيْهَا . وَإِذَا قِيلَ : وَصَلَ إلَى اللَّهِ أَوْ إلَى تَوْحِيدِهِ أَوْ مَعْرِفَتِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ . فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْأَنْوَاعِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالدَّرَجَاتِ الْمُتَبَايِنَةِ مَا لَا يُحْصِيه إلَّا اللَّهُ تَعَالَى . وَيَأْسُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ إلَى مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ . كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ ذَلِكَ وَيَطْمَعَ فِيهِ . لَكِنْ مَنْ رَجَا شَيْئًا طَلَبَهُ وَمَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْهُ وَإِذَا اجْتَهَدَ وَاسْتَعَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَلَازَمَ الِاسْتِغْفَارَ وَالِاجْتِهَادَ فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ وَإِذَا رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ حَلَاوَةُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْهِدَايَةِ فَلْيُكْثِرْ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ وَلْيُلَازِمْ الِاجْتِهَادَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وَعَلَيْهِ بِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ؛ وَلُزُومِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ ؛ مُتَبَرِّئًا مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ . فَفِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَيْأَسَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجُوَ رَحْمَةَ اللَّهِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ لَا يَيْأَسَ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ عَذَابَهُ . قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا } . قَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ

حروري وَمَنْ عَبَدَهُ بِالرَّجَاءِ وَحْدَهُ فَهُوَ مُرْجِئٌ وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : مَتَى أَصِلُ إلَى طَرِيقِ الرَّاجِينَ ؟ وَأَنَا مُقِيمٌ فِي حَيْرَةِ الْمُتَحَيِّرِينَ ؛ فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ عَنْ حَالٍ مَذْمُومٍ هُوَ فِيهَا كَمَا يُخْبِرُ الرَّجُلُ عَنْ نَقْصِ إيمَانِهِ وَضَعْفِ عِرْفَانِهِ وَرَيْبٍ فِي يَقِينِهِ ؛ وَلَيْسَ مِثْلُ هَذَا مِمَّا يُطْلَبُ ؛ بَلْ هُوَ مِمَّا يُسْتَعَاذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ . وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ : إنَّهُ قَالَ : الْعَارِفُ كُلَّمَا انْتَقَلَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ اسْتَقْبَلَتْهُ الدَّهْشَةُ وَالْحَيْرَةُ . فَهَذَا قَدْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ كُلَّمَا انْتَقَلَ إلَى مَقَامٍ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ حَصَلَ لَهُ تَشَوُّقٌ إلَى مَقَامٍ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ ؛ فَهُوَ حَائِرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دُونَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ . وَقَوْلُهُ : أَعْرَفُ النَّاسِ بِاَللَّهِ أَشَدُّهُمْ فِيهِ تَحَيُّرًا ؛ أَيْ أطلبهم لِزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ تُوجِبُ لَهُ الشُّعُورَ بِأُمُورِ لَمْ يَعْرِفْهَا بَعْدُ ؛ بَلْ هُوَ حَائِرٌ فِيهَا طَالِبٌ لِمَعْرِفَتِهَا وَالْعِلْمِ بِهَا وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِاَللَّهِ قَدْ قَالَ : { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } وَالْخَلْقُ مَا أُوتُوا مِنْ الْعِلْمِ إلَّا قَلِيلًا . وَمَا نُقِلَ عَنْ " الْجُنَيْد " أَنَّهُ قَالَ : انْتَهَى عَقْلُ الْعُقَلَاءِ إلَى الْحَيْرَةِ ؛

فَهَذَا مَا أَعْرِفُهُ مِنْ كَلَامِ الْجُنَيْد . وَفِيهِ نَظَرٌ هَلْ قَالَهُ وَلَعَلَّ الْأَشْبَهَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِهِ الْمَعْهُودِ ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ هَذَا فَأَرَادَ عَدَمَ الْعِلْمِ بِمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ ؛ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ لَمْ يَحْصُلْ يَقِينٌ وَمَعْرِفَةٌ وَهُدًى وَعِلْمٌ ؛ فَإِنَّ الْجُنَيْد أَجَلُّ مِنْ أَنْ يُرِيدَ هَذَا وَهَذَا الْكَلَامُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ قَالَهُ . لَكِنْ إذَا قِيلَ : إنَّ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ مَهْمَا حَصَّلُوا مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُنَاكَ أُمُورٌ لَمْ يَصِلُوا إلَيْهَا فَهَذَا صَحِيحٌ . كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد فِي الْمُسْنَدِ وَأَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَك سَمَّيْت بِهِ نَفْسَك أَوْ أَنْزَلْته فِي كِتَابِك أَوْ عَلَّمْته أَحَدًا مِنْ خَلْقِك أَوْ اسْتَأْثَرْت بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَك أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي } قَالَ : { مَنْ قَالَ هَذَا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا } فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ لِلَّهِ أَسْمَاءً اسْتَأْثَرَ بِهَا فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَهُ وَهَذِهِ لَا يَعْلَمُهَا مَلَكٌ وَلَا بَشَرٌ . فَإِذَا أَرَادَ الْمُرِيدُ أَنَّ عُقُولَ الْعُقَلَاءِ لَمْ تَصِلْ إلَى مَعْرِفَةِ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَهَذَا صَحِيحٌ وَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنَّ الْعُقَلَاءَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ وَلَا يَقِينٌ بَلْ حَيْرَةٌ وَرَيْبٌ فَهَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا . وَمَا ذُكِرَ عَنْ ذِي النُّونِ " فِي هَذَا الْبَابِ مَعَ أَنَّ ذَا النُّونِ قَدْ وَقَعَ مِنْهُ كَلَامٌ أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَعَزَّرَهُ الْحَارِثُ بْنُ مِسْكِينٍ وَطَلَبَهُ

الْمُتَوَكِّلُ إلَى بَغْدَادَ وَاتُّهِمَ بِالزَّنْدَقَةِ وَجَعَلَهُ النَّاسُ مَنْ الْفَلَاسِفَةِ فَمَا أَدْرِي هَلْ قَالَ هَذَا أَمْ لَا ؟ بِخِلَافِ الْجُنَيْد فَإِنَّ الِاسْتِقَامَةَ وَالْمُتَابَعَةَ غَالِبَةٌ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ أَحَدٍ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ثَمَّ مَعْصُومٌ مِنْ الْخَطَأِ غَيْرِ الرَّسُولِ ؛ لَكِنَّ الشُّيُوخَ الَّذِينَ عُرِفَ صِحَّةُ طَرِيقَتِهِمْ عُلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ . وَهَذَا قَدْرُ مَا احْتَمَلَتْهُ هَذِهِ الْوَرَقَةُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ يُحِبُّ رَجُلًا عَالِمًا . فَإِذَا الْتَقَيَا ثُمَّ افْتَرَقَا حَصَلَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ شِبْهُ الْغَشْيِ مِنْ أَجْلِ الِافْتِرَاقِ . وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ الْعَالِمُ مَشْغُولًا بِحَيْثُ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الْحَالُ . فَهَلْ هَذَا مِنْ الرَّجُلِ الْمُحِبِّ ؟ . أَمْ هُوَ تَأْثِيرُ الرَّجُلِ الْعَالِمِ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، سَبَبُهُ مِنْ هَذَا وَمِنْ هَذَا مِثْلُ الْمَاءِ إذَا شَرِبَهُ الْعَطْشَانُ حَصَلَ لَهُ لَذَّةٌ وَطِيبٌ وَسَبَبُهَا عَطَشُهُ وَبَرْدُ الْمَاءِ وَكَذَلِكَ النَّارُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقُطْنِ سَبَبُهُ مِنْهَا وَمِنْ الْقُطْنِ . وَالْعَالِمُ الْمُقْبِلُ عَلَى الطَّالِبِ يَحْصُلُ لَهُ لَذَّةٌ وَطِيبٌ وَسُرُورٌ بِسَبَبِ إقْبَالِ هَذَا وَتَوَجُّهِهِ وَهَذَا حَالُ الْمُحِبِّ مَعَ الْمَحْبُوبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ :
مَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْمُشْتَغِلِينَ بِالذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالرِّيَاضَةِ وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ وَمَا أَشْبَهَهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُشُوفَاتِ وَالْكَرَامَاتِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَحْوَالِ - مَعَ قِلَّةِ عِلْمِهِمْ وَجَهْلِ بَعْضِهِمْ - مَا لَا يُفْتَحُ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ وَدَرْسِهِ ؟ . وَالْبَحْثُ عَنْهُ ؟ حَتَّى لَوْ بَاتَ الْإِنْسَانُ مُتَوَجِّهًا مُشْتَغِلًا بِالذِّكْرِ وَالْحُضُورِ لَا بُدَّ أَنْ يَرَى وَاقِعَةً أَوْ يُفْتَحَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَوْ بَاتَ لَيْلَةً يُكَرِّرُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ لَا يَجِدُ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ يَجِدُ لِلذِّكْرِ حَلَاوَةً وَلَذَّةً وَلَا يَجِدُ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِتَفْضِيلِ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْعَابِدُ مُحْتَاجًا إلَى عِلْمٍ هُوَ مُشْتَغِلٌ بِهِ عَنْ الْعِبَادَةِ . فَفِي الْحَدِيثِ { إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ } وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْعَابِدِينَ وَالْمُجَاهِدِينَ : اُدْخُلُوا الْجَنَّةَ فَيَقُولُ الْعُلَمَاءُ بِفَضْلِ عِلْمِنَا عَبَدُوا وَجَاهَدُوا فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ

لَهُمْ : أَنْتُمْ عِنْدِي كَمَلَائِكَتِي اشْفَعُوا فَيُشَفَّعُونَ . ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ . ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ يُؤْثِرُ الْعِبَادَةَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ مَعَ جَهْلِهِ بِمَا يُبْطِلُ كَثِيرًا مِنْ عِبَادَتِهِ كَنَوَاقِضِ الْوُضُوءِ أَوْ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَرُبَّمَا يَحْكِي بَعْضُهُمْ حِكَايَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى : بِأَنْ " رَابِعَةَ العدوية " - رَحِمَهَا اللَّهُ - أَتَتْ لَيْلَةً بِالْقُدُسِ تُصَلِّي حَتَّى الصَّبَاحِ وَإِلَى جَانِبِهَا بَيْتٌ فِيهِ فَقِيهٌ يُكَرِّرُ عَلَى بَابِ الْحَيْضِ إلَى الصَّبَاحِ فَلَمَّا أَصْبَحَتْ رَابِعَةُ قَالَتْ لَهُ : يَا هَذَا وَصَلَ الْوَاصِلُونَ إلَى رَبِّهِمْ وَأَنْتَ مُشْتَغِلٌ بِحَيْضِ النِّسَاءِ . أَوْ نَحْوِهَا فَمَا الْمَانِعُ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ مَا يَحْصُلُ لِلْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ مَعَ فَضْلِهِ عَلَيْهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا رَيْبَ أَنَّ الَّذِي أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ أَرْفَعُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْإِيمَانَ فَقَطْ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعِلْمُ الْمَمْدُوحُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي وَرِثَتْهُ الْأَنْبِيَاءُ . كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ؛ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظِّ وَافِرٍ } . وَهَذَا الْعِلْمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ :

" عِلْمٌ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ " وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ وَفِي مِثْلِهِ أَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ وَنَحْوَهُمَا . وَ " الْقِسْمُ الثَّانِي " : الْعِلْمُ بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِمَّا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَمَا هُوَ كَائِنُ الْأُمُورِ الْحَاضِرَةِ وَفِي مِثْلِ هَذَا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَاتِ الْقَصَصِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَصِفَةَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَ " الْقِسْمُ الثَّالِثُ " : الْعِلْمُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقُلُوبِ وَالْجَوَارِحِ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ مِنْ مَعَارِفِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِهَا وَأَقْوَالِ الْجَوَارِحِ وَأَعْمَالِهَا وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِأُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَيَنْدَرِجُ فِيهِ الْعِلْمُ بِالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ وَهَذَا الْعِلْمُ يَنْدَرِجُ فِيهِ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْعِلْمِ بِأَحْكَامِ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ جُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ كَمَا أَنَّ الْمُكَاشَفَاتِ الَّتِي يَكُونُ لِأَهْلِ الصَّفَا جُزْءٌ مِنْ جُزْءٍ مِنْ جُزْءٍ مِنْ عِلْمِ الْأُمُورِ الْكَوْنِيَّةِ . وَالنَّاسُ إنَّمَا يَغْلَطُونَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْهَمُونَ مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا يَعْرِفُونَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ فَرُبَّ رَجُلٍ يَحْفَظُ حُرُوفَ الْعِلْمِ الَّتِي أَعْظَمُهَا حِفْظُ حُرُوفِ الْقُرْآنِ وَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الْفَهْمِ ؛ بَلْ وَلَا مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَلَى مَنْ أُوتِيَ

الْقُرْآنَ وَلَمْ يُؤْتَ حِفْظَ حُرُوفِ الْعِلْمِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ { مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ . وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ : مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا . وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ : كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ . وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا } . فَقَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ حَافِظًا لِحُرُوفِ الْقُرْآنِ وَسُوَرِهِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بَلْ يَكُونُ مُنَافِقًا . فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَحْفَظُ حُرُوفَهُ وَسُوَرَهُ خَيْرٌ مِنْهُ . وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَنْتَفِعُ بِهِ الْغَيْرُ كَمَا يُنْتَفَعُ بِالرَّيْحَانِ . وَأَمَّا الَّذِي أُوتِيَ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ فَهُوَ مُؤْمِنٌ عَلِيمٌ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَيْسَ مِثْلُهُ فِي الْعِلْمِ مِثْلَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِيمَانِ ؛ فَهَذَا أَصْلٌ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ . وَهَهُنَا " أَصْلٌ آخَرُ " : وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عَمَلٍ أَوْرَثَ كُشُوفًا أَوْ تَصَرُّفًا فِي الْكَوْنِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْعَمَلِ الَّذِي لَا يُورِثُ كَشْفًا وَتَصَرُّفًا ؛ فَإِنَّ الْكَشْفَ وَالتَّصَرُّفَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُسْتَعَانُ بِهِ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَإِلَّا كَانَ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا . وَقَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ ؟ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ؛ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ .

فَفَضَائِلُ الْأَعْمَالِ وَدَرَجَاتِهَا لَا تُتَلَقَّى مِنْ مِثْلِ هَذَا ؛ وَإِنَّمَا تُتَلَقَّى مِنْ دَلَالَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْمَالِ يَحْصُلُ لِصَاحِبِهِ فِي الدُّنْيَا رِئَاسَةٌ وَمَالٌ فَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ . وَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ أَفْسَدَ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ وَإِنْ حَصَلَ لَهُ كَشْفٌ وَتَصَرُّفٌ ؛ وَإِنْ اقْتَدَى بِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعَامَّةِ ؛ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ فِي مَوَاضِعِهِ ؟ فَهَذَا " أَصْلٌ ثَانٍ " . وَ " أَصْلٌ ثَالِثٌ " إنَّ تَفْضِيلَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَمَلِ قَدْ يَكُونُ مُطْلَقًا مِثْلُ تَفْضِيلِ أَصْلِ الدِّينِ عَلَى فَرْعِهِ وَقَدْ يَكُونُ مُقَيَّدًا . فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْعَمَلَيْنِ فِي حَقِّ زَيْدٍ أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ وَالْآخَرُ فِي حَقِّ عَمْرٍو أَفْضَلَ وَقَدْ يَكُونَانِ مُتَمَاثِلَيْنِ فِي حَقِّ الشَّخْصِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي وَقْتٍ أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ ؛ وَقَدْ يَكُونُ الْمَفْضُولُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْفَاضِلِ فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ . مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الذِّكْرِ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ - وَلَا اعْتِبَارَ بِمَنْ يُخَالِفُ ذَلِكَ مِنْ جُهَّالِ الْعِبَادِ - ثُمَّ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ يُنْهَى فِيهِ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَيُؤْمَرُ فِيهِ بِالذِّكْرِ وَكَذَلِكَ الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ فِي الطَّوَافِ وَعَرَفَةَ وَنَحْوِهِمَا أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ الْأَذْكَارُ الْمَشْرُوعَةُ : مِثْلُ مَا يُقَالُ عِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْمَنْزِلِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُمَا وَعِنْدَ سَمَاعِ

الدِّيَكَةِ وَالْحُمُرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ السَّالِكِينَ إذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ لَا يَفْهَمُونَهُ . وَهُمْ بَعْدُ لَمْ يَذُوقُوا حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ بِهَا الْقُرْآنُ إيمَانًا فَإِذَا أَقْبَلُوا عَلَى الذِّكْرِ أَعْطَاهُمْ الذِّكْرُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَجِدُونَ حَلَاوَتَهُ وَلَذَّتَهُ فَيَكُونُ الذِّكْرُ أَنْفَعَ لَهُمْ حِينَئِذٍ مِنْ قِرَاءَةٍ لَا يَفْهَمُونَهَا وَلَا مَعَهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَزْدَادُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَمَّا إذَا أُوتِيَ الرَّجُلُ الْإِيمَانَ فَالْقُرْآنُ يَزِيدُهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ فَهَذَا " أَصْلٌ ثَالِثٌ " وَ " أَصْلٌ رَابِعٌ " : وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَأْتِي بِالْعَمَلِ الْفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ بِشُرُوطِهِ وَلَا إخْلَاصٍ فِيهِ فَيَكُونُ بِتَفْوِيتِ شَرَائِطِهِ دُونَ مَنْ أَتَى بِالْمَفْضُولِ الْمُكَمِّلِ . فَهَذِهِ الْأُصُولُ وَنَحْوُهَا تُبَيِّنُ جَوَابَ هَذَا السَّائِلِ وَإِنْ كَانَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ لَا تَتَّسِعُ لَهُ الْوَرَقَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ قَوْمٍ دَاوَمُوا عَلَى " الرِّيَاضَةِ " مَرَّةً فَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ تجوهروا فَقَالُوا : لَا نُبَالِي الْآنَ مَا عَمِلْنَا وَإِنَّمَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي رُسُومُ الْعَوَامِّ وَلَوْ تجوهروا لَسَقَطَتْ عَنْهُمْ وَحَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ وَالْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ فَنَدْخُلُ فِي حِجْرِ التَّكْلِيفِ لِأَنَّا قَدْ تجوهرنا وَعَرَفْنَا الْحِكْمَةَ . فَهَلْ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرٌ مِنْ قَائِلِهِ ؟ أَمْ يُبَدَّعُ مِنْ غَيْرِ تَكْفِيرٍ . وَهَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا رَيْبَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ وَأَغْلَظِهِ . وَهُوَ شَرٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ؛ فَإِنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِيَّ آمَنَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَكَفَرَ بِبَعْضِ . وَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا كَمَا ذُكِرَ أَنَّهُمْ يُقِرُّونَ بِأَنَّ لِلَّهِ أَمْرًا وَنَهْيًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَنَاوِلٌ لَهُمْ إلَى حِينِ الْمَوْتِ . هَذَا إنْ كَانُوا مُتَمَسِّكِينَ بِالْيَهُودِيَّةِ والنصرانية الْمُبَدَّلَةِ الْمَنْسُوخَةِ . وَأَمَّا إنْ كَانُوا مِنْ مُنَافِقِي أَهْلِ مِلَّتِهِمْ - كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى مُتَكَلِّمِهِمْ

وَمُتَفَلْسِفِهِمْ - كَانُوا شَرًّا مِنْ مُنَافِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ كَانُوا مُظْهِرِينَ لِلْكُفْرِ وَمُبْطِنِينَ لِلنِّفَاقِ فَهُمْ شَرٌّ مِمَّنْ يُظْهِرُ إيمَانًا وَيُبْطِنُ نِفَاقًا . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمُتَمَسِّكِينَ بِجُمْلَةِ مَنْسُوخَةٍ فِيهَا تَبْدِيلٌ خَيْرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ خَارِجُونَ فِي هَذِهِ الْحَالِ عَنْ جَمِيعِ الْكُتُبِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ ؛ لَا يَلْتَزِمُونَ لِلَّهِ أَمْرًا وَلَا نَهْيًا بِحَالِ ؛ بَلْ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْمُسْتَمْسِكِينَ بِبَقَايَا مِنْ الْمِلَلِ : كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانُوا مُسْتَمْسِكِينَ بِبَقَايَا مِنْ دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ أُولَئِكَ مَعَهُمْ نَوْعٌ مِنْ الْحَقِّ يَلْتَزِمُونَهُ وَإِنْ كَانُوا مَعَ ذَلِكَ مُشْرِكِينَ وَهَؤُلَاءِ خَارِجُونَ عَنْ الْتِزَامِ شَيْءٍ مِنْ الْحَقِّ بِحَيْثُ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا سُدًى لَا أَمْرٌ عَلَيْهِمْ وَلَا نَهْيٌ . فَمَنْ كَانَ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ أَنَّهُ أَوْ طَائِفَةٌ غَيْرُهُ قَدْ خَرَجَتْ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ بِحَيْثُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَهَؤُلَاءِ أَكْفَرُ أَهْلِ الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ جِنْسِ فِرْعَوْنَ وَذَوِيهِ وَهُمْ مَعَ هَذَا لَا بُدَّ أَنْ يَلْتَزِمُوا بِشَيْءِ يَعِيشُونَ بِهِ إذْ لَا يُمْكِنُ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ أَنْ يَعِيشَ إلَّا بِنَوْعِ أَمْرٍ وَنَهْيٍ فَيَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ الرَّحْمَنِ وَعِبَادَتِهِ إلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ وَعِبَادَتِهِ ؛ فَفِرْعَوْنُ هُوَ الَّذِي قَالَ لِمُوسَى : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } ثُمَّ كَانَتْ لَهُ آلِهَةٌ يَعْبُدُهَا . كَمَا قَالَ لَهُ قَوْمُهُ : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } .

وَلَكِنْ كَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يُطْلِقُونَ السَّلْبَ الْعَامَّ وَيَخْرُجُونَ عَنْ رِبْقَةِ الْعُبُودِيَّةِ مُطْلَقًا بَلْ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ عَنْهُمْ أَوْ حِلَّ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ لَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ لِوُصُولِهِ إلَى الْمَقْصُودِ وَرُبَّمَا قَدْ يَزْعُمُ سُقُوطُهَا عَنْهُ إذَا كَانَ فِي حَالِ مُشَاهَدَةٍ وَحُضُورٍ وَقَدْ يَزْعُمُونَ سُقُوطَ الْجَمَاعَاتِ عَنْهُمْ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَالْحُضُورِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ سُقُوطَ الْحَجِّ عَنْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ تَطُوفُ بِهِ أَوْ لِغَيْرِ هَذَا مِنْ الْحَالَاتِ الشَّيْطَانِيَّةِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْفِطْرَ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ زَعْمًا مِنْهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْ الصِّيَامِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهَا إنَّمَا تَحْرُمُ عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ إذَا شَرِبُوهَا تَخَاصَمُوا وَتَضَارَبُوا دُونَ الْخَاصَّةِ الْعُقَلَاءِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَحْرُمُ عَلَى الْعَامَّةِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ فَأَمَّا أَهْلُ النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ : فَتُبَاحُ لَهُمْ دُونَ الْعَامَّةِ . وَهَذِهِ " الشُّبْهَةُ " كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَوَّلِينَ فَاتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَتْلِهِمْ إنْ لَمْ يَتُوبُوا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَضْعُونٍ شَرِبَهَا هُوَ وَطَائِفَةٌ وَتَأَوَّلُوا قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ اتَّفَقَ هُوَ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَنَّهُمْ إنْ اعْتَرَفُوا بِالتَّحْرِيمِ جُلِدُوا وَإِنْ أَصَرُّوا عَلَى اسْتِحْلَالِهَا قُتِلُوا . وَقَالَ عُمَرُ

لقدامة : أَخْطَأَتْ اسْتُك الْحُفْرَةَ . أَمَّا إنَّك لَوْ اتَّقَيْت وَأَمِنْت وَعَمِلْت الصَّالِحَاتِ لَمْ تَشْرَبْ الْخَمْرَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا حَرَّمَ الْخَمْرَ - وَكَانَ تَحْرِيمُهَا بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ - قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ : فَكَيْفَ بِأَصْحَابِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ؟ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّ مَنْ طَعِمَ الشَّيْءَ فِي الْحَالِ الَّتِي لَمْ تُحَرَّمْ فِيهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ الْمُصْلِحِينَ . وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمَّا صَرَفَ الْقِبْلَةَ وَأَمَرَهُمْ بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } أَيْ صَلَاتَكُمْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَمَنْ اسْتَحَلَّ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُنَاحٌ إذَا كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ وَإِنْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ آخَرَ . فَأَمَّا بَعْدُ أَنْ حَرَّمَ الْخَمْرَ فَاسْتِحْلَالُهَا بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ إلَى الصَّخْرَةِ بَعْدَ تَحْرِيمِ ذَلِكَ وَبِمَنْزِلَةِ التَّعَبُّدِ بِالسَّبْتِ وَاسْتِحْلَالِ الزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَقَرَّتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى خِلَافِ مَا كَانَ وَإِلَّا فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسْتَمْسِكَ مِنْ شَرْعٍ مَنْسُوخٍ بِأَمْرِ . وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَمْسِكِ بِمَا نُسِخَ مِنْ الشَّرَائِعِ ؛ فَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ اسْتَحَلَّ الْخَمْرَ قَتَلُوهُ ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَعَلُوا ذَلِكَ نَدِمُوا وَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا وأيسوا مِنْ التَّوْبَةِ . فَكَتَبَ

عُمَرُ إلَى قدامة يَقُولُ لَهُ : { حم } { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } مَا أَدْرِي أَيَّ ذَنْبَيْك أَعْظَمَ اسْتِحْلَالَك الْمُحَرَّمَ أَوَّلًا ؟ أَمْ يَأْسَك مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ثَانِيًا ؟ وَهَذَا الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يَتَنَازَعُونَ فِي ذَلِكَ وَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَ بَعْضِ الْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ : كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَحَجِّ الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أَوْ جَحْدِ تَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ : كَالْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ وَالْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ . أَوْ جَحْدِ حِلِّ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ : كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالنِّكَاحِ . فَهُوَ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ وَإِنْ أَضْمَرَ ذَلِكَ كَانَ زِنْدِيقًا مُنَافِقًا لَا يُسْتَتَابُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ؛ بَلْ يُقْتَلُ بِلَا اسْتِتَابَةٍ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَسْتَحِلُّ بَعْضَ الْفَوَاحِشِ : كَاسْتِحْلَالِ مُؤَاخَاةِ النِّسَاءِ الْأَجَانِبِ وَالْخُلُوِّ بِهِنَّ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُنَّ الْبَرَكَةُ بِمَا يَفْعَلُهُ مَعَهُنَّ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا فِي الشَّرِيعَةِ . وَكَذَلِكَ مَنْ يَسْتَحِلُّ ذَلِكَ مِنْ المردان وَيَزْعُمُ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِالنَّظَرِ إلَيْهِمْ وَمُبَاشَرَتَهُمْ هُوَ طَرِيقٌ لِبَعْضِ السَّالِكِينَ حَتَّى يَتَرَقَّى مِنْ مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِ إلَى مَحَبَّةِ الْخَالِقِ وَيَأْمُرُونَ بِمُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى وَقَدْ يَسْتَحِلُّونَ الْفَاحِشَةَ الْكُبْرَى كَمَا يَسْتَحِلُّهَا مَنْ يَقُولُ : إنَّ التلوط مُبَاحٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ . فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ كُفَّارٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ

مَنْ يَسْتَحِلُّ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَيَسْبِي حَرِيمَهُمْ وَيَغْنَمُ أَمْوَالَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ تَحْرِيمًا ظَاهِرًا مُتَوَاتِرًا .
لَكِنْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ جَاهِلًا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ جَهْلًا يُعْذَرُ بِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِ أَحَدٍ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ مِنْ جِهَةِ بَلَاغِ الرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَلِهَذَا لَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ؛ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْخَمْرَ يَحْرُمُ لَمْ يَكْفُرْ بِعَدَمِ اعْتِقَادِ إيجَابِ هَذَا وَتَحْرِيمِ هَذَا ؛ بَلْ وَلَمْ يُعَاقَبْ حَتَّى تَبْلُغَهُ الْحُجَّةُ النَّبَوِيَّةُ . بَلْ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ أَسْلَمَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ وَاجِبَةٌ ثُمَّ عَلِمَ . هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا تَرَكَهُ فِي حَالِ الْجَهْلِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بَلْ النِّزَاعُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي كُلِّ مَنْ تَرَكَ وَاجِبًا قَبْلَ بُلُوغِ الْحِجَّةِ : مِثْلُ تَرْكِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَحْسَبُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِتَيَمُّمِ أَوْ مِنْ أَكْلٍ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وَيَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ كَمَا جَرَى ذَلِكَ

لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ مَسَّ ذَكَرَهُ أَوْ أَكَلَ لَحْمَ الْإِبِلِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ وُجُوبُ ذَلِكَ وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَصْلُ ذَلِكَ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ سَمَاعِهِ ؟ عَلَى " ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ " فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَثْبُتُ مُطْلَقًا وَقِيلَ : لَا يَثْبُتُ مُطْلَقًا ؛ وَقِيلَ : يُفَرَّقُ بَيْنَ الْخِطَابِ النَّاسِخِ ؛ وَالْخِطَابِ الْمُبْتَدَأِ . كَأَهْلِ الْقِبْلَةِ وَالصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ : أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ أَحَدٍ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ سَمَاعِهِ ؛ فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ وَنَظَائِرِهَا مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى انْتِفَاءِ الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَفَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي التَّأْثِيمِ فَكَيْفَ فِي التَّكْفِيرِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ قَدْ يَنْشَأُ فِي الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ الَّذِي يَنْدَرِسُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ عُلُومِ النُّبُوَّاتِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَنْ يُبَلِّغُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ فَلَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَبْعَثُ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ وَلَا يَكُونُ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُهُ ذَلِكَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَكْفُرُ ؛ وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ نَشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَكَانَ حَدِيثَ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ فَأَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى يَعْرِفَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا

صَوْمًا وَلَا حَجًّا إلَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ الْكَبِيرَةُ يَقُولُ أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَهُمْ لَا يَدْرُونَ صَلَاةً وَلَا زَكَاةً وَلَا حَجًّا . فَقَالَ : وَلَا صَوْمَ يُنْجِيهِمْ مِنْ النَّارِ } . وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ رَجُلٌ - لَمْ يُعَجِّلْ حَسَنَةً قَطُّ - لِأَهْلِهِ إذَا مَاتَ فَحَرَقُوهُ ثُمَّ أَذَرُّوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنهُ عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ . فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ ثُمَّ قَالَ : لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ : مِنْ خَشْيَتِك يَا رَبِّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ ؛ فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } وَفِي لَفْظٍ آخَرَ { أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى بَنِيهِ فَقَالَ : إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ أَذْرُونِي فِي الْبَحْرِ . فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا . قَالَ : فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ . فَقَالَ لِلْأَرْضِ : أَدِّ مَا أَخَذْت فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ . فَقَالَ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت . قَالَ : خَشْيَتُك يَا رَبِّ . أَوْ قَالَ : مَخَافَتُك فَغُفِرَ لَهُ بِذَلِكَ } وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ { قَالَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا : أَدِّ مَا أَخَذْت مِنْهُ } . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ وَعُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو أَيْضًا عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ

رَجُلٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانَ يُسِيءُ الظَّنَّ بِعَمَلِهِ . فَقَالَ لِأَهْلِهِ : إذَا أَنَا مُتّ فَخُذُونِي فذروني فِي الْبَحْرِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ فَفَعَلُوا فَجَمَعَهُ اللَّهُ . ثُمَّ قَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى الَّذِي فَعَلْت ؟ فَقَالَ : مَا حَمَلَنِي إلَّا مَخَافَتُك . فَغُفِرَ لَهُ } . وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ : { أَنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَلَمَّا يَئِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إذَا أَنَا مُتّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا حَتَّى إذَا أَكَلَتْ لَحْمِي وَوَصَلَتْ إلَى عَظْمِي فَامْتَحَشَتْ فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا ثُمَّ اُنْظُرُوا يَوْمًا فذروني فِي الْيَمِّ . فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ : لَهُ لِمَ فَعَلْت ذَلِكَ ؟ قَالَ : مِنْ خَشْيَتِك . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ } قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو أَنَا سَمِعْته - يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلِكَ . وَكَانَ نَبَّاشًا . فَهَذَا الرَّجُلُ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إذَا تَفَرَّقَ هَذَا التَّفَرُّقَ فَظَنَّ أَنَّهُ لَا يُعِيدُهُ إذَا صَارَ كَذَلِكَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ إنْكَارِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْكَارِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ كَفَرَ . لَكِنَّهُ كَانَ مَعَ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ وَإِيمَانِهِ بِأَمْرِهِ وَخَشْيَتِهِ مِنْهُ جَاهِلًا بِذَلِكَ ضَالًّا فِي هَذَا الظَّنِّ مُخْطِئًا . فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ . وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الرَّجُلَ طَمِعَ أَنْ لَا يُعِيدَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَأَدْنَى هَذَا أَنْ يَكُونَ شَاكًّا فِي الْمَعَادِ وَذَلِكَ كُفْرٌ - إذَا قَامَتْ حُجَّةُ النُّبُوَّةِ عَلَى مُنْكِرِهِ حُكِمَ بِكُفْرِهِ - هُوَ بَيِّنٌ فِي عَدَمِ إيمَانِهِ

بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ تَأَوَّلَ قَوْلَهُ : لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَعْنَى قَضَى أَوْ بِمَعْنَى ضَيَّقَ فَقَدْ أَبْعَدَ النُّجْعَةَ وَحَرَّفَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ وَتَفْرِيقِهِ لِئَلَّا يُجْمَعَ وَيُعَادَ . وَقَالَ : إذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذروني فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا . فَذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ بِحَرْفِ الْفَاءِ عَقِيبَ الْأُولَى يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَهَا وَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْدِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ مُقِرًّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ فَائِدَةٌ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ عَلَيْهِ وَالتَّضْيِيقَ مُوَافِقَانِ لِلتَّعْذِيبِ وَهُوَ قَدْ جَعَلَ تَفْرِيقَهُ مُغَايِرًا لِأَنْ يَقْدِرَ الرَّبُّ . قَالَ : فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ . فَلَا يَكُونُ الشَّرْطُ هُوَ الْجَزَاءُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ لَقَالَ : فَوَاَللَّهِ لَئِنْ جَازَانِي رَبِّي أَوْ لَئِنْ عَاقَبَنِي رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا كَمَا هُوَ الْخِطَابُ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ : وَلِأَنَّ لَفْظَ " قَدَرَ " بِمَعْنَى ضَيَّقَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي اللُّغَةِ . وَمَنْ اسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } فَقَدْ اسْتَشْهَدَ بِمَا لَا يَشْهَدُ لَهُ . فَإِنَّ اللَّفْظَ كَانَ بِقَوْلِهِ : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } أَيْ اجْعَلْ ذَلِكَ بِقَدْرِ وَلَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } أَيْ جَعَلَ رِزْقَهُ قُدِرَ مَا يُغْنِيه

مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ إذْ لَوْ يَنْقُصُ الرِّزْقُ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَعِشْ . وَأَمَّا " قَدَرَ " بِمَعْنَى قَدَّرَ . أَيْ أَرَادَ تَقْدِيرَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فَهُوَ لَمْ يَقُلْ : إنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي الْعَذَابَ بَلْ قَالَ : لَئِنْ قَدَّرَ عَلَيَّ رَبِّي وَالتَّقْدِيرُ يَتَنَاوَلُ النَّوْعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ ؛ لَئِنْ قَضَى اللَّهُ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى وَتَقَرَّرَ عَلَيْهِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ التَّقْدِيرَ أَوْ التَّضْيِيقَ لَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ فِي ظَنِّهِ . وَدَلَائِلُ فَسَادِ هَذَا التَّحْرِيفِ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِهَا فَغَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِجَمِيعِ مَا يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ مِنْ الصِّفَاتِ وَبِتَفْصِيلِ أَنَّهُ الْقَادِرُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ يَجْهَلُ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ كَافِرًا . وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ وَجَدَ فِيهَا مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يُوَافِقُهُ كَمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : { أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا : بَلَى قَالَتْ : لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَبَسَطَ طَرَفَ إزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ وَاضْطَجَعَ فَلَمْ يَثْبُتْ إلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنِّي رَقَدْت فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا وَانْتَقَلَ رُوَيْدًا وَفَتَحَ الْبَابَ رُوَيْدًا فَخَرَجَ ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا فَجَعَلْت دِرْعِي فِي رَأْسِي وَاخْتَمَرْت وَتَقَنَّعْت إزَارِي ثُمَّ انْطَلَقْت عَلَى إثْرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ . فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ

ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْت وَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْت فَهَرْوَلَ وَهَرْوَلْت وَأَحْضَرَ وَأَحْضَرْت فَسَبَقْته فَدَخَلْت فَلَيْسَ إلَّا أَنْ اضْطَجَعْت فَقَالَ : مَا لَك يَا عَائِشَةُ حشيا رَابِيَةً ؟ قَالَتْ : لَا شَيْءَ . قَالَ : لِتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . قَالَتْ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْته . قَالَ : فَأَنْتَ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْت أَمَامِي ؟ قُلْت : نَعَمْ فَلَهَزَنِي فِي صَدْرِي لَهْزَةً أَوْجَعَتْنِي . ثُمَّ قَالَ : أَظْنَنْت أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ قَالَتْ : قُلْت مَهْمَا يَكْتُمْ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ قَالَ : نَعَمْ قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَتَانِي حِينَ رَأَيْت فَنَادَانِي - فَأَخْفَاهُ مِنْك فَأَجَبْته وَأَخْفَيْته مِنْك وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْك وَقَدْ وَضَعْت ثِيَابَك وَظَنَنْت أَنَّك رَقَدْت وَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَك وَخَشِيت أَنْ تَسْتَوْحِشِي - فَقَالَ : إنَّ رَبَّك يَأْمُرُك أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ . قُلْت : كَيْفَ أَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُولِي : السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِين وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ لَلَاحِقُونَ } . فَهَذِهِ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ : سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ كُلَّ مَا يَكْتُمُ النَّاسُ ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ قَبْلَ مَعْرِفَتِهَا بِأَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ يَكْتُمُهُ النَّاسُ كَافِرَةً وَإِنْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِذَلِكَ

بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَإِنْكَارِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ كَإِنْكَارِ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ هَذَا مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ وَلِهَذَا لَهَزَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : أَتَخَافِينَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْك وَرَسُولُهُ وَهَذَا الْأَصْلُ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَلَكِنَّ تَكْفِيرَ قَائِلِهِ لَا يُحْكَمُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ قَدْ بَلَغَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا وَدَلَائِلُ فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَمَشَايِخِهَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَسْطِهَا . بَلْ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعِبَادِ إلَى الْمَوْتِ . وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : هَلْ يَصْدُرُ ذَلِكَ عَمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ . فَيُقَالُ : هَذَا لَا يَصْدُرُ عَمَّنْ هُوَ مُقِرٌّ بِالنُّبُوَّاتِ مُطْلَقًا بَلْ قَائِلُ ذَلِكَ كَافِرٌ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا أَتَوْا بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِلْعِبَادِ إلَى حِينِ الْمَوْتِ بَلْ لَا يَصْدُرُ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّنْ فِي قَلْبِهِ خُضُوعٌ لِلَّهِ وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ إلَهُ الْعَالَمِ فَإِنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَبْدًا لِلَّهِ خَاضِعًا لَهُ وَمَنْ سَوَّغَ لِإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَشَاءُ مِنْ غَيْرِ تَعَبُّدٍ بِعِبَادَةِ اللَّهِ فَقَدْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إلَهَهُ .

وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّهُمْ قَدْ تجوهروا فَقَالُوا : لَا نُبَالِي الْآنَ مَا عَمِلْنَا ؟ . فَيُقَالُ لَهُمْ : مَاذَا تَعْنُونَ بِقَوْلِكُمْ ؟ فَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ النَّفْسَ بَقِيَتْ صَافِيَةً طَاهِرَةً لَا تُنَازِعُ إلَى الشَّهَوَاتِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ فَهَذَا لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ النَّفْسَ قَدْ صَارَتْ مُطِيعَةً لَيْسَ فِيهَا دَوَاعِي الْمَعْصِيَةِ فَتَكُونُ مُنْقَادَةً إلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَلَا تَمِيلُ إلَى الْمَحْظُورِ وَهَذَا غَايَتُهُ أَنْ تَكُونَ مَعْصُومَةً لَا تَطْلُبُ فِعْلَ الْقَبِيحِ وَهَذَا مَا يُخْرِجُهَا أَنْ تَكُونَ مَأْمُورَةً مَنْهِيَّةً كَالْمَلَائِكَةِ . وَإِذَا قَالَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ : لَا يُنَافِي مَا عَمِلْنَا قِيلَ لَهُمْ : الَّذِي تَعْمَلُونَهُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ فَقَدْ تَنَاقَضْتُمْ فِي زَعْمِكُمْ أَنَّ نُفُوسَكُمْ لَمْ يَبْقَ لَهَا هَوًى . وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَهَذَا جِنْسٌ لَا يُنْكَرُ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ مُتَنَاقِضُونَ فِي هَذَا الْكَلَامِ إذَا أَرَادُوا بتجوهر النَّفْسِ صَفَاءَهَا وَطَهَارَتَهَا عَنْ الْأَكْدَارِ الْبَشَرِيَّةِ مَعَ أَنَّ هَذَا الْكَمَالَ مُمْتَنِعٌ فِي حَقِّ الْبَشَرِ مَا دَامَتْ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَامِ ؛ وَلِهَذَا أَنْكَرَ الْمَشَايِخُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ ادَّعَاهُ كَالْآثَارِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَلِيٍّ الروذباري وَغَيْرِهِمْ وَأَعْظَمُ النَّاسِ دَرَجَةً الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَدْ أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ حَتَّى خَاتَمَ الرُّسُلِ أَمَرَهُ اللَّهُ فِي أَوَاخِرِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ مَا أَمَرَهُ بِهِ بِقَوْلِهِ : { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } { وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا } { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كَانَ تَوَّابًا } .

وَلِهَذَا كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ إنَّمَا هُمْ مَعْصُومُونَ مِنْ الْإِقْرَارِ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَنَّ اللَّهَ يَسْتَدْرِكُهُمْ بِالتَّوْبَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ - { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } - وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتِ الْمُقَرَّبِينَ . وَأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِكَمَالِ النِّهَايَةِ بِالتَّوْبَةِ لَا لِنَقْصِ الْبِدَايَةِ بِالذَّنْبِ . وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا تَجِبُ لَهُ الْعِصْمَةُ وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْعِصْمَةَ الْمُطْلَقَةَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ : الْجُهَّالُ مِنْ الرَّافِضَةِ وَغَالِيَةِ النُّسَّاكِ وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : حَاصِلُ النُّبُوَّةِ يَرْجِعُ إلَى الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الْأَنْبِيَاءَ لِمَا فِيهِ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْعِبَادَ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْحِكْمَةَ هِيَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِهَا كَمَا فَسَّرَهَا بِذَلِكَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ ؛ لَكِنْ أَيُّ شَيْءٍ فِي هَذَا مِمَّا يُوجِبُ سُقُوطَهَا عَنْ بَعْضِ الْعِبَادِ ؟ وَإِنَّمَا يَخْرُجُ عَنْ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ مَنْ يَكُونُ سَفِيهًا مُفْسِدًا { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : الْمُرَادُ مِنْهَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ وَلَسْنَا نَحْنُ مِنْ الْعَوَامِّ . فَالْكَلِمَةُ الْأُولَى : زَنْدَقَةٌ وَنِفَاقٌ وَالثَّانِيَةُ كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الشَّرَائِعِ مُجَرَّدُ ضَبْطِ الْعَوَامِّ ؛ بَلْ الْمُرَادُ مِنْهَا الصَّلَاحُ بَاطِنًا

وَظَاهِرًا لِلْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الدُّنْيَا ضَبْطُ الْعَوَامِّ . كَمَا قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " إنَّ اللَّهَ لَيَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ " فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَالْفُجَّارِ فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَيَنْضَبِطُ عَنْ انْتِهَاكِ الْمُحَرَّمَاتِ فَهَذَا بَعْضُ فَوَائِدِ الْعُقُوبَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ الْمَشْرُوعَةِ . وَأَمَّا فَوَائِدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ : فَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا خِطَابٌ أَوْ كِتَابٌ ؛ بَلْ هِيَ الْجَامِعَةُ لِكُلِّ خَيْرٍ يُطْلَبُ وَيُرَادُ وَفِي الْخُرُوجِ عَنْهَا كُلُّ شَرٍّ وَفَسَادٍ . وَدَعْوَى هَؤُلَاءِ أَنَّهُمْ مِنْ الْخَوَاصِّ يُوجِبُ أَنَّهُمْ مِنْ حُثَالَةِ مُنَافِقِي الْعَامَّةِ وَهُمْ دَاخِلُونَ فِيمَا نَعَتَ اللَّهُ بِهِ الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِ : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } { أَلَا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ } - إلَى قَوْلِهِ - { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } . وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ

أَنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } { فَكَيْفَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنْ أَرَدْنَا إلَّا إحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا } { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } وَلِبَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مَوْضِعٌ غَيْرِ هَذَا . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وَيَقُولُ مَعْنَاهَا : اُعْبُدْ رَبَّك حَتَّى يَحْصُلَ لَك الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ سَقَطَتْ الْعِبَادَةُ . وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : اعْمَلْ حَتَّى يَحْصُلَ لَك حَالٌ فَإِذَا حَصَلَ لَك حَالٌ تَصَوُّفِيٌّ سَقَطَتْ عَنْك الْعِبَادَةُ وَهَؤُلَاءِ فِيهِمْ مَنْ إذَا ظَنَّ حُصُولَ مَطْلُوبِهِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَالْحَالِ اسْتَحَلَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ وَارْتِكَابَ الْمَحَارِمِ وَهَذَا كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ اسْتِغْنَاءَهُ عَنْ النَّوَافِلِ حِينَئِذٍ وَهَذَا مَغْبُونٌ مَنْقُوصٌ جَاهِلٌ ضَالٌّ خَاسِرٌ بِاعْتِقَادِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ النَّوَافِلِ وَاسْتِخْفَافِهِ بِهَا حِينَئِذٍ

بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَهَا مُعْتَقِدًا كَمَالَ مَنْ فَعَلَهَا حِينَئِذٍ مُعَظِّمًا لِحَالِهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مَذْمُومًا وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهَا مَعَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ يَكُونُ هَذَا مِنْ الْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ وَهَذَا مِنْ الْمُقْتَصِدِينَ أَصْحَابِ الْيَمِينِ . وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ الِاسْتِمْسَاكَ بِالشَّرِيعَةِ - أَمْرًا وَنَهْيًا - إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ أَوْ الْحَالِ فَإِذَا حَصَلَ لَهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الِاسْتِمْسَاكُ بِالشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ بَلْ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْحَقِيقَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ أَوْ يَفْعَلَ بِمُقْتَضَى ذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ وَكَشْفِهِ وَرَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِصَامٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ حَالِهِ حَتَّى يَصِيرَ مَنْقُوصًا عَاجِزًا مَحْرُومًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الطَّاعَةِ حَتَّى يَصِيرَ فَاسِقًا وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَاقَبُ بِسَلْبِ الْإِيمَانِ حَتَّى يَصِيرَ مُرْتَدًّا مُنَافِقًا أَوْ كَافِرًا مُلَعَّنًا . وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ جِدًّا وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ يَحْتَجُّ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ . فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } فَهِيَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ أَجَلًا دُونَ الْمَوْتِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَقِينَ هُنَا الْمَوْتُ وَمَا بَعْدَهُ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَهَؤُلَاءِ مِنْ الْمُسْتَيْقِنِينَ . وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } - إلَى قَوْلِهِ - { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ }

{ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } فَهَذَا قَالُوهُ وَهُمْ فِي جَهَنَّمَ . وَأَخْبَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْآخِرَةِ وَالْخَوْضِ مَعَ الْخَائِضِينَ حَتَّى أَتَاهُمْ الْيَقِينُ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الْحَالِ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَكُونُوا مَعَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ : { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّهُ أَتَاهُمْ مَا يُوعَدُونَ وَهُوَ الْيَقِينُ . وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ - { لَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ - وَشَهِدَتْ لَهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ بِالْجَنَّةِ . فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيك ؟ إنِّي وَاَللَّهِ وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي } وَقَالَ : { أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ } أَيْ أَتَاهُ مَا وَعَدَهُ وَهُوَ الْيَقِينُ . وَ " يَقِينٌ " عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ . وَسَوَاءٌ كَانَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيّ الْمَوْتِ . كَالْحَبِيبِ وَالنَّصِيحِ وَالذَّبِيحِ أَوْ كَانَ مَصْدَرًا وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَفْعُولِ . كَقَوْلِهِ : { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } وَقَوْلُهُ : ضَرَبَ الْأَمِيرُ ؛ وَغَفَرَ اللَّهُ لَك . قِيلَ : وَقَوْلُهُمْ قُدْرَةٌ عَظِيمَةٌ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ . فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ ؛ بَلْ الْيَقِينُ هُوَ مَا وُعِدَ بِهِ الْعِبَادُ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَقَوْلِهِ : { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } كَقَوْلِك : يَأْتِيك مَا تُوعَدُ .
فَأَمَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْمُرَادَ : اُعْبُدْهُ حَتَّى يَحْصُلَ لَك إيقَانٌ ثُمَّ لَا عِبَادَةَ

عَلَيْك . فَهَذَا كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ للجنيد بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْمًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَصِلُونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى تَرْكِ الْعِبَادَاتِ . فَقَالَ : الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِ هَؤُلَاءِ وَمَا زَالَ أَئِمَّةُ الدِّينِ وَمَشَايِخُهُ يُعَظِّمُونَ النَّكِيرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ الزُّهَّادِ الْعَابِدِينَ وَأَهْلِ الْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْكَوْنِ وَأَرْبَابِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ فِي الْعُلُومِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَدْ يَكُونُ بَعْضُهَا فِي أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَمِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . وَإِنَّمَا الْفَاصِلُ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ؛ الْإِيمَانُ وَالتَّقْوَى . الَّذِي هُوَ نَعْتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ . كَمَا قَالَ : { أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } وَأَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ فَيَحْتَجُّونَ بِهَا عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقُولُوا : إنَّ الْخَضِرِ كَانَ مُشَاهِدًا الْإِرَادَةَ الرَّبَّانِيَّةَ الشَّامِلَةَ وَالْمَشِيئَةَ الْإِلَهِيَّةَ الْعَامَّةَ وَهِيَ " الْحَقِيقَةُ الْكَوْنِيَّةُ " . فَلِذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْمَلَامُ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ الشَّرْعِيَّ وَهُوَ مِنْ عَظِيمِ الْجَهْلِ وَالضَّلَالِ بَلْ مِنْ عَظِيمِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ فَإِنَّ مَضْمُونَ هَذَا الْكَلَامِ : أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْقَدَرِ وَشَهِدَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا كُفْرٌ بِجَمِيعِ كُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } قَالَ اللَّهُ

تَعَالَى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ } وَنَظِيرُ هَذَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ وَفِي سُورَةِ يس . { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إنْ أَنْتُمْ إلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلَّا يَخْرُصُونَ } . وَهَؤُلَاءِ هُمْ " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " الَّذِينَ يَحْتَجُّونَ بِالْقَدَرِ عَلَى دَفْعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هُمْ شَرٌّ مِنْ الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِينَ رُوِيَ فِيهِمْ : " إنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ " ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يُقِرُّونَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ لَكِنْ أَنْكَرُوا عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ وَرُبَّمَا أَنْكَرُوا سَابِقَ الْعِلْمِ . وَأَمَّا " الْقَدَرِيَّةُ المشركية " فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالثَّوَابَ وَالْعِقَابَ ، لَكِنْ وَإِنْ لَمْ يُنْكِرُوا عُمُومَ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْخَلْقِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَيَكْفُرُونَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ مَنْ أَطَاعَهُمْ بِالثَّوَابِ وَمُنْذِرِينَ مَنْ عَصَاهُمْ بِالْعِقَابِ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ فِي مَوَاضِعَ غَيْرِ هَذَا .

وَ " أَيْضًا " فَإِنَّ مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُؤْمِنًا بِالْقَدَرِ وَعَالِمًا بِهِ بَلْ أَتْبَاعُهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانُوا أَيْضًا مُؤْمِنِينَ بِالْقَدَرِ فَهَلْ يَظُنُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ أَنَّ مُوسَى طَلَبَ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْ الْخَضِرِ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ وَأَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ الْمَلَامَ مَعَ أَنَّ مُوسَى أَعْلَمُ بِالْقَدَرِ مِنْ الْخَضِرِ بَلْ عُمُومُ أَصْحَابِ مُوسَى يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَ " أَيْضًا " فَلَوْ كَانَ هَذَا هُوَ السِّرُّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ بَيَّنَ ذَلِكَ لِمُوسَى . وَقَالَ : إنِّي كُنْت شَاهِدًا لِلْإِرَادَةِ وَالْقَدَرِ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ . بَلْ بَيَّنَ لَهُ أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً تُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَ . كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . وَأَمَّا " الْوَجْهُ الثَّانِي " : فَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَظُنُّ : أَنَّ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ يَسُوغُ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ النَّبَوِيَّةِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِلْوَلِيِّ فِي الْمُكَاشَفَةِ وَالْمُخَاطَبَةِ مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ أَوْ بَعْضِهَا وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُفَضِّلُ الْوَلِيَّ فِي زَعْمِهِ إمَّا مُطْلَقًا وَإِمَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ عَلَى النَّبِيِّ زَاعِمِينَ أَنَّ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ حُجَّةٌ لَهُمْ وَكُلُّ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ مِنْ أَعْظَمِ الْجَهَالَاتِ وَالضَّلَالَاتِ ؛ بَلْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ النِّفَاقِ وَالْإِلْحَادِ وَالْكُفْرِ . فَإِنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ : أَنَّ رِسَالَةَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ

اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَمِيعِ النَّاسِ : عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ وَمُلُوكِهِمْ وَزُهَّادِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ وَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ بَلْ عَامَّةُ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلَائِقِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَمُلَازَمَةِ مَا يَشْرَعُهُ لِأُمَّتِهِ مِنْ الدِّينِ . وَمَا سَنَّهُ لَهُمْ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورَاتِ بَلْ لَوْ كَانَ الْأَنْبِيَاءُ الْمُتَقَدِّمُونَ قَبْلَهُ أَحْيَاءً لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُتَابَعَتُهُ وَمُطَاوَعَتُهُ . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ } . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقَ ؛ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنَن بِهِ وَلَيَنْصُرَنهُ وَأَمَرَهُ بِأَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَى أُمَّتِهِ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَيَنْصُرُنَّهُ . وَفِي سُنَنِ النَّسَائِي عَنْ جَابِرٍ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلَّا اتِّبَاعِي } - هَذَا أَوْ نَحْوُهُ - وَرَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ وَلَفْظُهُ : { وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ } وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد قَالَ : { كَفَى بِقَوْمِ ضَلَالَةً أَنْ يَبْتَغُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِكُمْ . أُنْزِلَ عَلَى

نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ بَلْ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ { أَنَّ الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إذَا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِشَرِيعَةِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَإِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَنَصْرُهُ عَلَى مَنْ يُدْرِكُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ . فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُمْ ؟ بَلْ مِمَّا يُعْلَمُ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَتُهُ أَنْ يَتَّبِعَ شَرِيعَةَ رَسُولٍ غَيْرِهِ كَمُوسَى وَعِيسَى . فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَتِهِ إلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ فَكَيْفَ بِالْخُرُوجِ عَنْهُ وَالرُّسُلِ ؟ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } { فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . وَقَالَ تَعَالَى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } .

وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ قَدْ دَخَلَ فِيمَا يَنْقُلُهُ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْرِيفٌ وَتَبْدِيلٌ : كَانَ مَا عَلِمْنَا أَنَّهُ صِدْقٌ عَنْهُمْ آمَنَّا بِهِ وَمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ كَذِبٌ رَدَدْنَاهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ حَالَهُ لَمْ نُصَدِّقْهُ وَلَمْ نُكَذِّبْهُ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ . فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُونَكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُمْ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُمْ . وَقُولُوا : آمَنَّا بِمَا أُنْزِلَ إلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ } . وَمِمَّا يُبَيِّنُ الْغَلَطَ الَّذِي وَقَعَ لَهُمْ فِي الِاحْتِجَاجِ بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَى مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ : أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ مَبْعُوثًا إلَى الْخَضِرِ وَلَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْخَضِرِ مُتَابَعَتَهُ وَطَاعَتَهُ ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { إنَّ الْخَضِرَ قَالَ لَهُ : يَا مُوسَى إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ } وَذَلِكَ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى كَانَتْ خَاصَّةً . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : فِيمَا فَضَّلَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ قَالَ : { كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً } فَدَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَامِلَةٌ لِجَمِيعِ الْعِبَادِ لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَتِهِ وَطَاعَتِهِ وَلَا اسْتِغْنَاءَ عَنْ رِسَالَتِهِ كَمَا سَاغَ لِلْخَضِرِ الْخُرُوجُ عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَطَاعَتِهِ

مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ . وَلَيْسَ لِأَحَدِ مِمَّنْ أَدْرَكَهُ الْإِسْلَامُ أَنْ يَقُولَ لِمُحَمَّدِ : إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لَا تَعْلَمُهُ وَمَنْ سَوَّغَ هَذَا أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ : الزُّهَّادِ وَالْعُبَّادِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُتَابَعَتِهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَدَلَائِلُ هَذَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ هُنَا . وَقِصَّةُ الْخَضِرِ لَيْسَ فِيهَا خُرُوجٌ عَنْ الشَّرِيعَةِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا بَيَّنَ الْخَضِرُ لِمُوسَى الْأَسْبَابَ الَّتِي فَعَلَ لِأَجْلِهَا مَا فَعَلَ وَافَقَهُ مُوسَى وَلَمْ يَخْتَلِفَا حِينَئِذٍ . وَلَوْ كَانَ مَا فَعَلَهُ الْخَضِرُ مُخَالِفًا لِشَرِيعَةِ مُوسَى لَمَا وَافَقَهُ . وَمِثْلُ هَذَا وَأَمْثَالِهِ يَقَعُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَخْتَصَّ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ بِالْعِلْمِ بِسَبَبِ يُبِيحُ لَهُ الْفِعْلَ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخِرُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ السَّبَبَ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الْأَوَّلِ . مِثْلُ شَخْصَيْنِ : دَخَلَا إلَى بَيْتِ شَخْصٍ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يَعْلَمُ طِيبَ نَفْسِهِ بِالتَّصَرُّفِ فِي مَنْزِلِهِ إمَّا بِإِذْنِ لَفْظِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَيَتَصَرَّفُ . وَذَلِكَ مُبَاحٌ فِي الشَّرِيعَةِ وَالْآخَرُ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ هَذَا السَّبَبَ لَا يَتَصَرَّفُ وَخَرْقُ السَّفِينَةِ كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الْخَضِرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا وَكَانَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي يَخْتَارُهَا أَصْحَابُ السَّفِينَةِ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ ؛ لِئَلَّا يَأْخُذَهَا . . . (1) خَيْرٌ مِنْ انْتِزَاعِهَا مِنْهُمْ .

وَنَظِيرُ هَذَا حَدِيثُ الشَّاةِ الَّتِي أَصَابَهَا الْمَوْتُ فَذَبَحَتْهَا امْرَأَةٌ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا . فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهَا فَأَذِنَ لَهُمْ فِي أَكْلِهَا وَلَمْ يُلْزِمْ الَّتِي ذَبَحَتْ بِضَمَانِ مَا نَقَصَتْ بِالذَّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عُرْفًا وَالْإِذْنُ الْعُرْفِيُّ كَالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ ؛ وَلِهَذَا { بَايَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُثْمَانَ فِي غَيْبَتِهِ بِدُونِ اسْتِئْذَانِهِ لَفْظًا } وَلِهَذَا لَمَّا دَعَاهُ أَبُو طَلْحَةَ وَنَفَرًا قَلِيلًا إلَى بَيْتِهِ قَامَ بِجَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِمَا عَلِمَ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَذَلِكَ لِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مِنْ الْبَرَكَةِ . وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ . وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ لَحَّامًا دَعَاهُ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي شَخْصٍ يَسْتَتْبِعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ اللَّحَّامِ مَا عَلِمَهُ مِنْ طِيبِ نَفْسِ أَبِي طَلْحَةَ وَجَابِرٍ وَغَيْرِهِمَا وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْغُلَامِ كَانَ مِنْ بَابِ دَفْعِ الصَّائِلِ عَلَى أَبَوَيْهِ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ كَانَ يَفْتِنُهُمَا عَنْ دِينِهِمَا وَقَتْلُ الصِّبْيَانِ يَجُوزُ إذَا قَاتَلُوا الْمُسْلِمِينَ بَلْ يَجُوزُ قَتْلُهُمْ لِدَفْعِ الصَّوْلِ عَلَى الْأَمْوَالِ ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ نَجْدَةَ الحروري لَمَّا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَتْلِ الْغِلْمَانِ قَالَ : " إنْ كُنْت تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَهُ الْخَضِرُ مِنْ الْغُلَامِ فَاقْتُلْهُمْ وَإِلَّا فَلَا تَقْتُلْهُمْ " . وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّ عُمَرَ لَمَّا اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ ابْنِ صَيَّادٍ وَكَانَ مُرَاهِقًا لَمَّا ظَنَّهُ الدَّجَّالَ فَقَالَ : إنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ } فَلَمْ يَقُلْ إنْ يَكُنْهُ فَلَا خَيْرَ لَك فِي قَتْلِهِ بَلْ قَالَ : { فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ } .

وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ إعْدَامُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِقَطْعِ فَسَادِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَحْذُورًا وَإِلَّا كَانَ التَّعْلِيلُ بِالصِّغَرِ كَافِيًا فَإِنَّ الْأَعَمَّ إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِالْحُكْمِ كَانَ الْأَخَصُّ عَدِيمَ التَّأْثِيرِ كَمَا قَالَ فِي الْهِرَّةِ : { إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسِ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } . وَأَمَّا بِنَاءُ الْجِدَارِ فَإِنَّمَا فِيهِ تَرْكُ أَخْذِ الْجُعْلِ مَعَ جُوعِهِمْ وَقَدْ بَيَّنَ الْخَضِرُ : أَنَّ أَهْلَهُ فِيهِمْ مِنْ الشِّيَمِ وَصَلَاحِ الْوَالِدِ مَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ التَّبَرُّعَ ؛ وَإِنْ كَانَ جَائِعًا . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْإِبَاحَةِ مَا قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا فَيَشْتَرِكُ فِيهَا النَّاسُ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا عَنْ بَعْضِهِمْ ظَاهِرًا لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ خَفِيًّا يُعْرَفُ بِطَرِيقِ الْكَشْفِ وَقِصَّةُ الْخَضِرِ مِنْ هَذَا الْبَابِ . وَذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا فِي أُمَّتِنَا . مِثْلُ أَنْ يُقَدَّمَ لِبَعْضِهِمْ طَعَامٌ فَيُكْشَفُ لَهُ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَكْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَوْ يَظْفَرْ بِمَالِ يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَذِنَ لَهُ فِيهِ فَيَحِلُّ لَهُ أَكْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِذْنَ . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ . فَمِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ الشَّيْخُ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ بِالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ كَانَ مِثْلُ هَذَا مِنْ مَوَاقِعِ الِاجْتِهَادِ الَّذِي يُصِيبُ فِيهِ تَارَةً وَيُخْطِئُ أُخْرَى ،

فَإِنَّ الْمُكَاشَفَاتِ يَقَعُ فِيهَا مِنْ الصَّوَابِ وَالْخَطَأِ نَظِيرُ مَا يَقَعُ فِي الرُّؤْيَا وَتَأْوِيلِهَا وَالرَّأْيِ وَالرِّوَايَةِ وَلَيْسَ شَيْءٌ مَعْصُومًا عَلَى الْإِطْلَاقِ إلَّا مَا ثَبَتَ عَنْ الرَّسُولِ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ رَدُّ جَمِيعِ الْأُمُورِ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ وَلِهَذَا كَانَ الصِّدِّيقُ الْمُتَلَقِّي عَنْ الرَّسُولِ كُلَّ شَيْءٍ ؛ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ أَفْضَلُ مِنْ الْمُحَدَّثِ مِثْلُ عُمَرَ ؛ وَكَانَ الصِّدِّيقُ يُبَيِّنُ لِلْمُحَدَّثِ الْمَوَاضِعَ الَّتِي اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ ؛ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الصَّوَابِ . كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ بِعُمَرِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ وَيَوْمَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَهَذَا الْبَابُ قَدْ بَسَطْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ الْخَضِرِ مَا يَسُوغُ مُخَالَفَةَ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدِ مِنْ الْخَلْقِ . نَعَمْ لَفْظُ " الشَّرْعِ " قَدْ صَارَ فِيهِ اشْتِرَاكٌ فِي عُرْفِ الْعَامَّةِ مِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عِبَارَةً عَنْ حُكْمِ الْحُكَّامِ وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُطَابِقُ الْحَقَّ فِي الْبَاطِنِ وَقَدْ يُخَالِفُهُ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ : { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوِ مِمَّا أَسْمَعُ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذُهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ } وَقَدْ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِالْحُقُوقِ الْمُرْسَلَةِ لَا يُغَيِّرُ الشَّيْءَ عَنْ صِفَتِهِ فِي الْبَاطِنِ فَلَوْ حَكَمَ بِمَالِ زَيْدٍ لِعُمَرِ لِإِقْرَارِ أَوْ بَيِّنَةٍ

كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ وَلَمْ يُبَحْ ذَلِكَ لَهُ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحَالِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْأُمَّةِ لَوْ حَكَمَ بِعَقْدِ أَوْ فَسْخِ نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ وَبَيْعٍ فَإِنَّ حُكْمَهُ لَا يُغَيِّرُ الْبَاطِنَ عِنْدَهُمْ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : حُكْمُهُ يُغَيَّرُ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْعُقُودِ والفسوخ . فَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْحَدِيثِ وَكَثِيرٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ .
وَأَيْضًا فَلَفْظُ " الشَّرْعِ " فِي هَذَا الزَّمَانِ يُطْلَقُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ : شَرْعٌ مُنَزَّلٌ وَشَرْعٌ مُتَأَوَّلٌ وَشَرْعٌ مُبَدَّلٌ . " فَالْمُنَزَّلُ " الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ اتِّبَاعُهُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَهُوَ كَافِرٌ . وَ " الْمُتَأَوَّلُ " مَوَارِدُ الِاجْتِهَادِ الَّتِي تَنَازَعَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَاتِّبَاعُ أَحَدِ الْمُجْتَهِدِينَ جَائِزٌ لِمَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ حُجَّتَهُ هِيَ الْقَوِيَّةُ أَوْ لِمَنْ سَاغَ لَهُ تَقْلِيدُهُ وَلَا يَجِبُ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ اتِّبَاعُ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ إذَا رَأَى بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْمَشَايِخِ الصَّالِحِينَ يَرَى أَنَّهُ يَكُونُ الصَّوَابُ مَعَ ذَلِكَ وَغَيْرُهُ قَدْ خَالَفَ

الشَّرْعَ وَإِنَّمَا خَالَفَ مَا يَظُنُّهُ هُوَ الشَّرْعُ وَقَدْ يَكُونُ ظَنُّهُ خَطَأً فَيُثَابُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَخَطَؤُهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَقَدْ يَكُونُ الْآخَرُ مُجْتَهِدًا مُخْطِئًا . وَأَمَّا " الشَّرْعُ الْمُبَدَّلُ " : فَمِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ وَالتَّقْلِيدِ الْمُحَرَّمِ فَهَذَا يَحْرُمُ أَيْضًا . وَهَذَا مِنْ مَثَارِ النِّزَاعِ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَكَلِّمَةِ قَدْ يُوجِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ اتِّبَاعَ مَذْهَبِهِ الْمُعَيَّنِ وَتَقْلِيدَ مَتْبُوعِهِ ؛ وَالْتِزَامَ حُكْمِ حَاكِمِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَيَرَى خُرُوجَهُ عَنْ ذَلِكَ خُرُوجًا عَنْ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُ وَظُلْمٌ ؛ بَلْ دَعْوَى ذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ كُفْرٌ وَنِفَاقٌ . كَمَا أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ يَرَى مِثْلَ ذَلِكَ فِي شَيْخِهِ وَمَتْبُوعِهِ وَهُوَ فِي هَذَا نَظِيرُ ذَلِكَ . وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يُسَوِّغُ الْخُرُوجَ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لِمَا يَظُنُّهُ مُعَارِضًا لَهُمَا إمَّا لِمَا يُسَمِّيه هَذَا ذَوْقًا وَوَجْدًا وَمُكَاشَفَاتٍ وَمُخَاطَبَاتٍ وَإِمَّا لِمَا يُسَمِّيه هَذَا قِيَاسًا وَرَأْيًا وَعَقْلِيَّاتٍ وَقَوَاطِعَ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ بَلْ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ تَصْدِيقُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرَ بِهِ وَطَاعَتُهُ فِي جَمِيعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُعَارِضَهُ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ وَلَا بِآرَاءِ الرِّجَالِ وَكُلُّ مَا عَارَضَهُ فَهُوَ خَطَأٌ وَضَلَالٌ .

وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ مَا لَا يَتَّسِعُ لَهُ هَذَا الْمَجَالُ . وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ؛ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَصَلَوَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
عَنْ الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي " الْأَبْدَالِ " هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ مَقْطُوعٌ ؟ وَهَلْ " الْأَبْدَالُ " مَخْصُوصُونَ بِالشَّامِ ؟ أَمْ حَيْثُ تَكُونُ شَعَائِرُ الْإِسْلَامِ قَائِمَةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَكُونُ بِهَا الْأَبْدَالُ بِالشَّامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَقَالِيمِ ؟ وَهَلْ صَحِيحٌ أَنَّ الْوَلِيَّ يَكُونُ قَاعِدًا فِي جَمَاعَةٍ وَيَغِيبُ جَسَدُهُ ؟ وَمَا قَوْلُ السَّادَةِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي تُسَمَّى بِهَا أَقْوَامٌ مِنْ الْمَنْسُوبِينَ إلَى الدِّينِ وَالْفَضِيلَةِ وَيَقُولُونَ هَذَا غَوْثُ الأغواث وَهَذَا قُطْبُ الْأَقْطَابِ وَهَذَا قُطْبُ الْعَالَمِ وَهَذَا الْقُطْبُ الْكَبِيرُ وَهَذَا خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْأَسْمَاءُ الدَّائِرَةُ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ النُّسَّاكِ وَالْعَامَّةِ مِثْلِ " الْغَوْثِ " الَّذِي بِمَكَّةَ وَ " الْأَوْتَادِ الْأَرْبَعَةِ " وَ " الْأَقْطَابِ السَّبْعَةِ " وَ " الْأَبْدَالِ الْأَرْبَعِينَ " وَ " النُّجَبَاءِ الثَّلَاثِمِائَةِ " : فَهَذِهِ أَسْمَاءٌ لَيْسَتْ مَوْجُودَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَلَا هِيَ أَيْضًا مَأْثُورَةٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ الْأَبْدَالِ.

فَقَدْ رُوِيَ فِيهِمْ حَدِيثٌ شَامِيٌّ مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ فِيهِمْ - يَعْنِي أَهْلَ الشَّامِ - الْأَبْدَالَ الْأَرْبَعِينَ رَجُلًا كُلَّمَا مَاتَ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا } وَلَا تُوجَدُ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ كَمَا هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ؛ وَلَا هِيَ مَأْثُورَةٌ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَالْمَعَانِي عَنْ الْمَشَايِخِ الْمَقْبُولِينَ عِنْدَ الْأُمَّةِ قَبُولًا عَامًّا ؛ وَإِنَّمَا تُوجَدُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ عَنْ بَعْضِ الْمُتَوَسِّطِينَ مِنْ الْمَشَايِخِ ؛ وَقَدْ قَالَهَا إمَّا آثِرًا لَهَا عَنْ غَيْرِهِ أَوْ ذَاكِرًا . وَهَذَا الْجِنْسُ وَنَحْوُهُ مِنْ عِلْمِ الدِّينِ قَدْ الْتَبَسَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ فَصَارَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ مَا يُوجِبُ قَبُولَهُ وَمِنْ الْبَاطِلِ مَا يُوجِبُ رَدَّهُ وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى طَرَفَيْ نَقِيضٍ . قَوْمٌ كَذَّبُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ . وَقَوْمٌ صَدَّقُوا بِهِ كُلَّهُ لِمَا وَجَدُوا فِيهِ مِنْ الْحَقِّ وَإِنَّمَا الصَّوَابُ التَّصْدِيقُ بِالْحَقِّ وَالتَّكْذِيبِ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا تَحْقِيقٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ سُنَنَ مَنْ قَبْلَهَا حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ . فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ لَبَّسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا هُوَ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ الَّذِي وَقَعَ فِي دِينِهِمْ ؛ وَلِهَذَا يَتَغَيَّرُ الدِّينُ

بِالتَّبْدِيلِ تَارَةً وَبِالنَّسْخِ أُخْرَى وَهَذَا الدِّينُ لَا يُنْسَخُ أَبَدًا لَكِنْ يَكُونُ فِيهِ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْكَذِبِ وَالْكِتْمَانِ مَا يُلَبَّسُ بِهِ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمَ اللَّهُ فِيهِ مَنْ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ خَلَفًا عَنْ الرُّسُلِ فَيَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِّينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ فَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . فَالْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَثَارَةُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَأْثُورَةُ عَنْ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ يَمِيزُ اللَّهُ بِهَا الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ وَيَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ وَالتَّرْتِيبِ وَالطَّبَقَاتِ لَيْسَتْ حَقًّا فِي كُلِّ زَمَانٍ بَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ هَذَا عَلَى عُمُومِهِ وَإِطْلَاقِهِ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَقِلُّونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى وَيَقِلُّ فِيهِمْ السَّابِقُونَ الْمُقَرَّبُونَ تَارَةً وَيَكْثُرُونَ أُخْرَى وَيَنْتَقِلُونَ فِي الْأَمْكِنَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ لُزُومُ مَكَانٍ وَاحِدٍ فِي جَمِيعِ الْأَزْمِنَةِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ تَعْيِينُ الْعَدَدِ . وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ بِالْحَقِّ وَآمَنَ مَعَهُ بِمَكَّةَ نَفَرٌ قَلِيلٌ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعِينَ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ سَبْعِينَ ثُمَّ أَقَلُّ مِنْ

ثَلَاثِمِائَةٍ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ هَذِهِ الْأَعْدَادُ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْكُفَّارِ ثُمَّ هَاجَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ هِيَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ وَالنُّصْرَةِ وَمُسْتَقَرَّ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعَ خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ وَبِهَا انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ بُويِعَ فِيهَا ؛ وَمِنْ الْمُمْتَنِعِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ بِمَكَّةَ فِي زَمَنِهِمْ مَنْ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُمْ . ثُمَّ إنَّ الْإِسْلَامَ انْتَشَرَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَكَانَ فِي الْمُؤْمِنِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ بَلْ مِنْ الصِّدِّيقِينَ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ عَدَدٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهُ إلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا يُحْصَرُونَ بِثَلَاثِمِائَةِ وَلَا بِثَلَاثَةِ آلَافٍ وَلَمَّا انْقَرَضَتْ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ الْفَاضِلَةُ كَانَ فِي الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ بَلْ مِنْ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ مَنْ لَا يُعْرَفُ عَدَدُهُ وَلَيْسُوا بِمَحْصُورِينَ بِعَدَدِ وَلَا مَحْدُودِينَ بِأَمَدِ وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ لَهُمْ عَدَدًا مَحْصُورًا فَهُوَ مِنْ الْمُبْطِلِينَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَنَسْأَلُهُ مَنْ كَانَ الْقُطْبُ وَالثَّلَاثَةُ إلَى سَبْعِمِائَةٍ فِي زَمَنِ آدَمَ وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَقَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْفَتْرَةِ حِينَ كَانَ عَامَّةُ النَّاسِ كَفَرَة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } أَيْ كَانَ مُؤْمِنًا وَحْدَهُ وَكَانَ النَّاس كُفَّارًا جَمِيعًا . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّهُ قَالَ لسارة : لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ الْيَوْمَ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُك } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي

بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } . وَإِنْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْدَ رَسُولِنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسْأَلُهُمْ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانُوا ؟ وَمِنْ أَوَّلِ هَؤُلَاءِ ؟ وَبِأَيَّةِ آيَةٍ ؟ وَبِأَيِّ حَدِيثٍ مَشْهُورٍ فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ ؟ وَبِأَيِّ إجْمَاعٍ مُتَوَاتِرٍ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ ثَبَتَ وُجُودُ هَؤُلَاءِ بِهَذِهِ الْأَعْدَادِ حَتَّى نَعْتَقِدَهُ ؟ لِأَنَّ الْعَقَائِدَ لَا تُعْتَقَدُ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ الثَّلَاثَةِ وَمِنْ الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فَإِنْ لَمْ يَأْتُوا بِهَذِهِ الْأَدِلَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّرْعِيَّةِ فَهُمْ الْكَاذِبُونَ بِلَا رَيْبٍ فَلَا نَعْتَقِدُ أَكَاذِيبَهُمْ . وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَرْزُقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكُفَّارَ وَيَنْصُرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ بِالذَّاتِ بِلَا وَاسِطَةٍ وَيَرْزُقُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْصُرُهُمْ بِوَاسِطَةِ الْمَخْلُوقَاتِ وَالتَّعْظِيمُ فِي عَدَمِ الْوَاسِطَةِ كَرُوحِ اللَّهِ وَنَاقَةِ اللَّهِ . تَدَبَّرْ وَلَا تَتَحَيَّرُ وَاحْفَظْ الْقَاعِدَةَ حِفْظًا .
" فَأَمَّا لَفْظُ الْغَوْثِ وَالْغِيَاثِ " فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ غِيَاثُ الْمُسْتَغِيثِينَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ الِاسْتِغَاثَةُ بِغَيْرِهِ لَا بِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ . وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْفَعُونَ حَوَائِجَهُمْ الَّتِي يَطْلُبُونَ بِهَا

كَشْفَ الضُّرِّ عَنْهُمْ وَنُزُولَ الرَّحْمَةِ إلَى الثَّلَاثِمِائَةِ وَالثَّلَاثمِائَة إلَى السَّبْعِينَ وَالسَّبْعُونَ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالْأَرْبَعُونَ إلَى السَّبْعَةِ وَالسَّبْعَةُ إلَى الْأَرْبَعَةِ وَالْأَرْبَعَةُ إلَى الْغَوْثِ فَهُوَ كَاذِبٌ ضَالٌّ مُشْرِكٌ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ } . فَكَيْفَ يَكُونُ الْمُؤْمِنُونَ يَرْفَعُونَ إلَيْهِ حَوَائِجَهُمْ بَعْدَهُ بِوَسَائِطَ مِنْ الْحِجَابِ ؟ وَهُوَ الْقَائِلُ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَاعِيًا لِأَهْلِ مَكَّةَ { رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } { رَبَّنَا إنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ } { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } . وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ { أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا وَإِنَّمَا تَدْعُونَ

سَمِيعًا قَرِيبًا ؛ إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ } وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ . وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مَشَايِخُهُمْ الْمَعْرُوفُونَ يَرْفَعُونَ إلَى اللَّهِ حَوَائِجَهُمْ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ وَالْحِجَابِ فَتَعَالَى اللَّهُ عَنْ تَشْبِيهِهِ بِالْمَخْلُوقِينَ مِنْ الْمُلُوكِ وَسَائِرِ مَا يَقُولُهُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا وَهَذَا مِنْ جِنْسِ دَعْوَى الرَّافِضَةِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ زَمَانٍ مِنْ إمَامٍ مَعْصُومٍ يَكُونُ حُجَّةَ اللَّهِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ ثُمَّ مَعَ هَذَا يَقُولُونَ إنَّهُ كَانَ صَبِيًّا دَخَلَ السِّرْدَابَ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةٍ وَلَا يُعْرَفُ لَهُ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ وَلَا يُدْرَكُ لَهُ حِسٌّ وَلَا خَبَرٌ . وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَدَّعُونَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ فِيهِمْ مُضَاهَاةٌ لِلرَّافِضَةِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ؛ بَلْ هَذَا التَّرْتِيبُ وَالْأَعْدَادُ تُشْبِهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ تَرْتِيبَ الْإِسْمَاعِيلِيَّة وَالْنُصَيْرِيَّة وَنَحْوِهِمْ فِي السَّابِقِ وَالتَّالِي وَالنَّاطِقِ وَالْأَسَاسِ وَالْجَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّرْتِيبِ الَّذِي مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ .

وَأَمَّا الْأَوْتَادُ فَقَدْ يُوجَدُ فِي كَلَامِ الْبَعْضِ أَنَّهُ يَقُولُ : فُلَانٌ مِنْ الْأَوْتَادِ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثَبِّتُ بِهِ الْإِيمَانَ وَالدِّينَ فِي قُلُوبِ مَنْ يَهْدِيهِمْ اللَّهُ بِهِ كَمَا يُثَبِّتُ الْأَرْضَ بِأَوْتَادِهَا وَهَذَا الْمَعْنَى ثَابِتٌ لِكُلِّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَكُلُّ مَنْ حَصَلَ بِهِ تَثْبِيتُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فِي جُمْهُورِ النَّاسِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْتَادِ الْعَظِيمَةِ وَالْجِبَالِ الْكَبِيرَةِ وَمَنْ كَانَ بِدُونِهِ كَانَ بِحَسَبِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَحْصُورًا فِي أَرْبَعَةٍ وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ بَلْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعَةً مُضَاهَاةً بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ فِي أَوْتَادِ الْأَرْضِ .
وَأَمَّا الْقُطْبُ فَيُوجَدُ أَيْضًا فِي كَلَامِهِمْ فُلَانٌ مِنْ الْأَقْطَابِ أَوْ فُلَانٌ قُطْبٌ فَكُلُّ مَنْ دَارَ عَلَيْهِ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا فَهُوَ قُطْبُ ذَلِكَ الْأَمْر وَمَدَارُهُ سَوَاءٌ كَانَ الدَّائِرُ عَلَيْهِ أَمْرَ دَارِهِ أَوْ دَرْبِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ أَوْ مَدِينَتِهِ أَمْرَ دِينِهَا أَوْ دُنْيَاهَا بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا وَلَا اخْتِصَاصَ لِهَذَا الْمَعْنَى بِسَبْعَةٍ وَلَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ ؛ لَكِنَّ الْمَمْدُوحَ مِنْ ذَلِكَ مَنْ كَانَ مَدَارًا لِصَلَاحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ دُونَ مُجَرَّدِ صَلَاحِ الدُّنْيَا ؛ فَهَذَا هُوَ الْقُطْبُ فِي عُرْفِهِمْ فَقَدْ يَتَّفِقُ فِي بَعْضِ الْأَعْصَارِ أَنْ يَكُونَ شَخْصٌ أَفْضَلَ أَهْلِ عَصْرِهِ وَقَدْ يَتَّفِقُ فِي عَصْرٍ آخَرَ أَنْ يَتَكَافَأَ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي الْفَضْلِ عِنْدَ اللَّهِ سَوَاءٌ وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ شَخْصٌ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مُطْلَقًا .

وَكَذَلِكَ لَفْظُ " الْبَدَلِ " جَاءَ فِي كَلَامِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَرْفُوعُ فَالْأَشْبَهُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ الْإِيمَانَ كَانَ بِالْحِجَازِ وَبِالْيَمَنِ قَبْلَ فُتُوحِ الشَّامِ وَكَانَتْ الشَّامُ وَالْعِرَاقُ دَارَ كُفْرٍ ثُمَّ لَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : " تَمْرُقُ مَارِقَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ تَقْتُلُهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَكَانَ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِمَّنْ قَاتَلَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ ؛ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَسَهْلِ بْنِ حنيف وَنَحْوِهِمَا كَانُوا أَفْضَلَ مِنْ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ مُعَاوِيَةَ وَإِنْ كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَنَحْوُهُ مِنْ الْقَاعِدِينَ أَفْضَلَ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُمَا فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ مَعَ هَذَا أَنَّ الْأَبْدَالَ جَمِيعَهُمْ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ كَانُوا فِي أَهْلِ الشَّامِ هَذَا بَاطِلٌ قَطْعًا وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِي الشَّامِ وَأَهْلِهِ فَضَائِلُ مَعْرُوفَةٌ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا . وَالْكَلَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِالْعِلْمِ وَالْقِسْطِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ بِغَيْرِ عِلْمٍ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } وَمَنْ تَكَلَّمَ بِقِسْطِ وَعَدْلٍ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا } وَفِي قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } . وَاَلَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الْبَدَلِ فَسَّرُوهُ بِمَعَانٍ : مِنْهَا أَنَّهُمْ أَبْدَالُ الْأَنْبِيَاءِ

وَمِنْهَا أَنَّهُ كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ أَبْدَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَانَهُ رَجُلًا وَمِنْهَا أَنَّهُمْ أُبْدِلُوا السَّيِّئَاتِ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَعَقَائِدِهِمْ بِحَسَنَاتِ . وَهَذِهِ الصِّفَاتُ كُلُّهَا لَا تَخْتَصُّ بِأَرْبَعِينَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ وَلَا تُحْصَرُ بِأَهْلِ بُقْعَةٍ مِنْ الْأَرْضِ ؛ وَبِهَذَا التَّحْرِيرِ يَظْهَرُ الْمَعْنَى فِي اسْمِ " النُّجَبَاءِ " . فَالْغَرَضُ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَارَةً تُفَسَّرُ بِمَعَانٍ بَاطِلَةٍ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مِثْلِ تَفْسِيرِ بَعْضِهِمْ " الْغَوْثَ " هُوَ الَّذِي يُغِيثُ اللَّهُ بِهِ أَهْلَ الْأَرْضِ فِي رِزْقِهِمْ وَنَصْرِهِمْ فَإِنَّ هَذَا نَظِيرَ مَا تَقُولُهُ النَّصَارَى فِي الْبَابِ وَهُوَ مَعْدُومُ الْعَيْنِ وَالْأَثَرِ شَبِيهٌ بِحَالِ الْمُنْتَظَرِ الَّذِي دَخَلَ السِّرْدَابَ مِنْ نَحْوِ أَرْبَعِمِائَةٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةٍ . وَكَذَلِكَ مَنْ فَسَّرَ " الْأَرْبَعِينَ الْأَبْدَالَ " بِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا يُنْصَرُونَ وَيُرْزَقُونَ بِهِمْ فَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ بَلْ النَّصْرُ وَالرِّزْقُ يَحْصُلُ بِأَسْبَابِ مِنْ آكَدِهَا دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَصِلَاتُهُمْ وَإِخْلَاصُهُمْ . وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ لَا بِأَرْبَعِينَ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ { أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ أَيُسْهَمُ لَهُ مِثْلُ مَا يُسْهَمُ لِأَضْعَفِهِمْ ؟ فَقَالَ : يَا سَعْدُ وَهَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ بِدُعَائِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ } وَقَدْ يَكُونُ لِلرِّزْقِ وَالنَّصْرِ أَسْبَابٌ أُخَرُ ؛ فَإِنَّ الْفُجَّارَ وَالْكُفَّارَ

أَيْضًا يُرْزَقُونَ وَيُنْصَرُونَ ؛ وَقَدْ يُجْدِبُ الْأَرْضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيُخِيفُهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ لِيُنِيبُوا إلَيْهِ وَيَتُوبُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَيَجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ وَتَفْرِيجِ الْكُرُوبِ . وَقَدْ يُمْلِي لِلْكُفَّارِ وَيُرْسِلُ السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ؛ وَيُمْدِدْهُمْ بِأَمْوَالِ وَبَنِينَ وَيَسْتَدْرِجْهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ إمَّا لِيَأْخُذَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ وَإِمَّا لِيُضَعِّفَ عَلَيْهِمْ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَلَيْسَ كُلُّ إنْعَامٍ كَرَامَةٌ وَلَا كُلُّ امْتِحَانٍ عُقُوبَةٌ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } { وَأَمَّا إذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } { كُلًّا } وَلَيْسَ فِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ ؛ وَلَا عُبَّادِ اللَّهِ الْمُخْلِصِينَ الصَّالِحِينَ وَلَا أَنْبِيَائِهِ الْمُرْسَلِينَ ؛ مَنْ كَانَ غَائِبَ الْجَسَدِ دَائِمًا عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ إنَّ عَلِيًّا فِي السَّحَابِ وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَنَفِيَّةِ فِي جِبَالِ رضوى وَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بِسِرْدَابِ سَامِرِيٍّ وَإِنَّ الْحَاكِمَ بِجَبَلِ مِصْرَ وَإِنَّ الْأَبْدَالَ الْأَرْبَعِينَ رِجَالُ الْغَيْبِ بِجَبَلِ لُبْنَانَ فَكُلُّ هَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبُهْتَانِ ؛ نَعَمْ قَدْ تُخْرَقُ الْعَادَةُ فِي حَقِّ الشَّخْصِ فَيَغِيبُ تَارَةً عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ إمَّا لِدَفْعِ عَدُوٍّ عَنْهُ وَإِمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ وَإِمَّا أَنَّهُ يَكُونُ هَكَذَا طُولَ عُمْرِهِ فَبَاطِلٌ نَعَمْ يَكُونُ نُورُ قَلْبِهِ وَهُدَى فُؤَادِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَانَتِهِ وَأَنْوَارِهِ وَمَعْرِفَتِهِ غَيْبًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وَيَكُونُ صَلَاحُهُ وَوِلَايَتُهُ غَيْبًا عَنْ

أَكْثَرِ النَّاسِ فَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ وَأَسْرَارُ الْحَقِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ اسْمِ الْغَوْثِ مُطْلَقًا وَانْدَرَجَ فِي ذَلِكَ غَوْثُ الْعَجَمِ وَمَكَّةَ وَالْغَوْثُ السَّابِعُ .
وَكَذَا لَفْظُ " خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ " لَفْظٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَأَوَّلُ مَنْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ انْتَحَلَهُ طَائِفَةٌ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ : كَابْنِ حموية وَابْنِ عَرَبِيٍّ وَبَعْضِ الشُّيُوخِ الضَّالِّينَ بِدِمَشْقَ وَغَيْرِهَا وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْكُفْرِ وَالْبُهْتَانِ وَكُلُّ ذَلِكَ طَمَعًا فِي رِيَاسَةِ خَاتَمِ الْأَوْلِيَاءِ لَمَّا فَاتَتْهُمْ رِيَاسَةُ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ غَلِطُوا ؛ فَإِنَّ خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ إنَّمَا كَانَ أَفْضَلَهُمْ لِلْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ خَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ أَفْضَلَ أَوْلِيَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَخَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَخَيْرُ قُرُونِهَا الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَخَاتَمُ الْأَوْلِيَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ آخِرُ مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ يَكُونُ فِي النَّاسِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِخَيْرِ الْأَوْلِيَاءِ وَلَا أَفْضَلِهِمْ بَلْ خَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ عُمَرُ : اللَّذَانِ مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ وَلَا غَرَبَتْ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا .

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِينَ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا دَائِمًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَقَدْ كَتَبْت مَا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ فِي الْمَشْهَدِ الْكَبِيرِ بِقَصْرِ الْإِمَارَةِ وَالْمَيْدَانِ بِحَضْرَةِ الْخَلْقِ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ الْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِي أَمْرِ " البطائحية " يَوْمَ السَّبْتِ تَاسِعَ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ خَمْسٍ (1) ، لِتَشَوُّفِ الْهِمَمِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَحِرْصِ النَّاسِ عَلَى الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ ذَلِكَ قَدْ يَسْمَعُ بَعْضَ أَطْرَافِ الْوَاقِعَةِ ،

وَمَنْ شَهِدَهَا فَقَدْ رَأَى وَسَمِعَ مَا رَأَى وَسَمِعَ وَمِنْ الْحَاضِرِينَ مَنْ سَمِعَ وَرَأَى مَا لَمْ يَسْمَعْ غَيْرُهُ وَيَرَهُ لِانْتِشَارِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْعَظِيمَةِ وَلِمَا حَصَلَ بِهَا مِنْ عِزِّ الدِّينِ وَظُهُورِ كَلِمَتِهِ الْعُلْيَا وَقَهْرِ النَّاسِ عَلَى مُتَابَعَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَظُهُورِ زَيْفِ مَنْ خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَالْأَحْوَالِ الْفَاسِدَةِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ كَتَبْت فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ صِفَةَ حَالِ هَؤُلَاءِ " البطائحية " وَطَرِيقَهُمْ وَطَرِيقَ ( الشَّيْخِ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ وَحَالَهُ وَمَا وَافَقُوا فِيهِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا خَالَفُوهُمْ ؛ لِيَتَبَيَّنَ مَا دَخَلُوا فِيهِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَمَا خَرَجُوا فِيهِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَطُولُ وَصْفُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا كَتَبْت هُنَا مَا حَضَرَنِي ذِكْرُهُ مِنْ حِكَايَةِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي مُنَاظَرَتِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ . وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت أَعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ بِمَا قَدْ ذَكَرْته فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - وَهُوَ أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُنْتَسِبِينَ إلَى الْإِسْلَامِ وَطَرِيقَةِ الْفَقْرِ وَالسُّلُوكِ وَيُوجَدُ فِي بَعْضِهِمْ التَّعَبُّدُ وَالتَّأَلُّهُ وَالْوَجْدُ وَالْمَحَبَّةُ وَالزُّهْدُ وَالْفَقْرُ وَالتَّوَاضُعُ وَلِينُ الْجَانِبِ وَالْمُلَاطَفَةُ فِي الْمُخَاطَبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَالْكَشْفِ وَالتَّصَرُّفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَا يُوجَدُ - فَيُوجَدُ أَيْضًا فِي بَعْضِهِمْ مِنْ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَمِنْ الْغُلُوِّ وَالْبِدَعِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ وَالِاسْتِخْفَافُ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَالْكَذِبِ وَالتَّلْبِيسِ

وَإِظْهَارِ المخارق الْبَاطِلَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَا يُوجَدُ . وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لِي مَعَهُمْ وَقَائِعُ مُتَعَدِّدَةٌ بَيَّنْت فِيهَا لِمَنْ خَاطَبْته مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ بَعْضَ مَا فِيهِمْ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْإِشَارَاتِ وَتَابَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ وَأُدِّبَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِهِمْ وَبَيَّنْت صُورَةَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ المخاريق : مِثْلِ مُلَابَسَةِ النَّارِ وَالْحَيَّاتِ وَإِظْهَارِ الدَّمِ وَاللَّاذَنِ وَالزَّعْفَرَانِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَالْعَسَلِ وَالسُّكَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّ عَامَّةَ ذَلِكَ عَنْ حِيَلٍ مَعْرُوفَةٍ وَأَسْبَابٍ مَصْنُوعَةٍ وَأَرَادَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهُمْ قَوْمٌ إظْهَار ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَوْا مُعَارَضَتِي لَهُمْ رَجَعُوا وَدَخَلُوا عَلَى أَنْ أَسْتُرَهُمْ فَأَجَبْتهمْ إلَى ذَلِكَ بِشَرْطِ التَّوْبَةِ حَتَّى قَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُمْ فِي مَجْلِسٍ عَامٍّ فِيهِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ بِبَعْضِ الْبَسَاتِينِ لَمَّا عَارَضْتهمْ بِأَنِّي أَدْخُلُ مَعَكُمْ النَّارَ بَعْدَ أَنْ نَغْتَسِلَ بِمَا يُذْهِبُ الْحِيلَةَ وَمَنْ احْتَرَقَ كَانَ مَغْلُوبًا فَلَمَّا رَأَوْا الصِّدْقَ أَمْسَكُوا عَنْ ذَلِكَ . وَحَكَى ذَلِكَ الشَّيْخُ أَنَّهُ كَانَ مَرَّةً عِنْدَ بَعْضِ أُمَرَاءِ التتر بِالْمَشْرِقِ وَكَانَ لَهُ صَنَمٌ يَعْبُدُهُ قَالَ : فَقَالَ لِي : هَذَا الصَّنَمُ يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَبْقَى أَثَرُ الْأَكْلِ فِي الطَّعَامِ بَيِّنًا يُرَى فِيهِ فَأَنْكَرْت ذَلِكَ فَقَالَ لِي إنْ كَانَ يَأْكُلُ أَنْتَ تَمُوتُ ؟ فَقُلْت نَعَمْ قَالَ فَأَقَمْت عِنْدَهُ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الطَّعَامِ أَثَرٌ فَاسْتَعْظَمَ ذَلِكَ

التتري وَأَقْسَمَ بِأَيْمَانِ مُغَلَّظَةٍ أَنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ يُرَى فِيهِ أَثَرُ الْأَكْلِ لَكِنَّ الْيَوْمَ بِحُضُورِك لَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ . فَقُلْت لِهَذَا الشَّيْخِ : أَنَا أُبَيِّنُ لَك سَبَبَ ذَلِكَ . ذَلِكَ التتري كَافِرٌ مُشْرِكٌ وَلِصَنَمِهِ شَيْطَانٌ يُغْوِيه بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ الْأَثَرِ فِي الطَّعَامِ وَأَنْتَ كَانَ مَعَك مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ وَتَأْيِيدِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَوْجَبَ انْصِرَافَ الشَّيْطَانِ عَنْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِحُضُورِك وَأَنْتَ وَأَمْثَالُك بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ الْخَالِصِ كالتتري بِالنِّسْبَةِ إلَى أَمْثَالِك فالتتري وَأَمْثَالُهُ سُودٌ وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ الْمَحْضِ بِيضٌ وَأَنْتُمْ بُلْقٌ فِيكُمْ سَوَادٌ وَبَيَاضٌ . فَأَعْجَبَ هَذَا الْمَثَلُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا وَقُلْت لَهُمْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَمَّا قَالُوا تُرِيدُ أَنْ نُظْهِرَ هَذِهِ الْإِشَارَاتِ ؟ قُلْت : إنْ عَمِلْتُمُوهَا بِحُضُورِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّأْنِ : مِنْ الْأَعْرَابِ وَالْفَلَّاحِينَ أَوْ الْأَتْرَاكِ أَوْ الْعَامَّةِ أَوْ جُمْهُورِ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ - لَمْ يُحْسَبْ لَكُمْ ذَلِكَ . فَمَنْ مَعَهُ ذَهَبَ فَلْيَأْتِ بِهِ إلَى سُوقِ الصَّرْفِ إلَيَّ عِنْدَ الْجَهَابِذَةِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ الذَّهَبَ الْخَالِصَ مِنْ الْمَغْشُوشِ وَمِنْ الصُّفْرِ ؛ لَا يَذْهَبُ إلَيَّ عِنْدَ أَهْلِ الْجَهْلِ بِذَلِكَ . فَقَالُوا لِي : لَا نَعْمَلُ هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ هِمَّتُك مَعَنَا فَقُلْت : هِمَّتِي لَيْسَتْ مَعَكُمْ ؛ بَلْ أَنَا مُعَارِضٌ لَكُمْ مَانِعٌ لَكُمْ ؛ لِأَنَّكُمْ تَقْصِدُونَ بِذَلِكَ إبْطَالَ شَرِيعَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ قُدْرَةٌ عَلَى إظْهَارِ ذَلِكَ فَافْعَلُوا . فَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ .

فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِمُدَّةِ كَانَ يَدْخُلُ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ مَعَ شَيْخٍ لَهُمْ مِنْ شُيُوخِ الْبِرِّ مُطَوَّقِينَ بِأَغْلَالِ الْحَدِيدِ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَهُوَ وَأَتْبَاعُهُ مَعْرُوفُونَ بِأُمُورِ وَكَانَ يَحْضُرُ عِنْدِي مَرَّاتٍ فَأُخَاطِبُهُ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ؛ فَلَمَّا ذَكَرَ النَّاسُ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ الشِّعَارِ الْمُبْتَدَعِ الَّذِي يَتَمَيَّزُونَ بِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَيَتَّخِذُونَهُ عِبَادَةً وَدِينًا يُوهِمُونَ بِهِ النَّاسَ أَنَّ هَذَا لِلَّهِ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِهِمْ وَإِنَّهُ سِيمَاءُ أَهْلِ الْمَوْهِبَةِ الْإِلَهِيَّةِ السَّالِكِينَ طَرِيقَهُمْ - أَعْنِي طَرِيقَ ذَلِكَ الشَّيْخِ وَأَتْبَاعِهِ - خَاطَبْته فِي ذَلِكَ بِالْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَقُلْت هَذَا بِدْعَةٌ لَمْ يُشَرِّعْهَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ وَلَا فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا مِنْ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ وَلَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِذَلِكَ وَلَا التَّقَرُّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ عِبَادَةَ اللَّهِ بِمَا لَمْ يَشْرَعْهُ ضَلَالَةٌ وَلِبَاسَ الْحَدِيدِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ التَّعَبُّدِ قَدْ كَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي ذَلِكَ وَهُوَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَلَى رَجُلٍ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ مَا لِي أَرَى عَلَيْك حِلْيَةَ أَهْلِ النَّارِ } . وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ النَّارِ بِأَنَّ فِي أَعْنَاقِهِمْ الْأَغْلَالَ فَالتَّشَبُّهُ بِأَهْلِ النَّارِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَا قَالَ فِي آخِرِهِ { أُحِبُّ الْقَيْدَ وَأَكْرَهُ الْغُلَّ . الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِي الدِّينِ } فَإِذَا كَانَ مَكْرُوهًا فِي الْمَنَامِ فَكَيْفَ فِي الْيَقَظَةِ . فَقُلْت لَهُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكَلَامِ أَوْ نَحْوًا مِنْهُ مَعَ

زِيَادَةٍ وَخَوَّفْته مِنْ عَاقِبَةِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبِدْعَةِ وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ عُقُوبَةَ فَاعِلِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي نَسِيت أَكْثَرَهُ لِبُعْدِ عَهْدِي بِهِ . وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمُورَ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَحَبَّةً فِي الشَّرْعِ لَا يَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا التَّقَرُّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ وَلَا اتِّخَاذُهَا طَرِيقًا إلَى اللَّهِ وَسَبَبًا لِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَأَحِبَّائِهِ وَلَا اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهَا أَوْ يُحِبُّ أَصْحَابَهَا كَذَلِكَ أَوْ أَنَّ اتِّخَاذَهَا يَزْدَادُ بِهِ الرَّجُلُ خَيْرًا عِنْدَ اللَّهِ وَقُرْبَةً إلَيْهِ وَلَا أَنْ يَجْعَلَ شِعَارًا لِلتَّائِبِينَ الْمُرِيدِينَ وَجْهَ اللَّهِ الَّذِينَ هُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَيْسَ مِثْلَهُمْ . فَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ تَجِبُ مَعْرِفَتُهُ وَالِاعْتِنَاءُ بِهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُبَاحَاتِ إنَّمَا تَكُونُ مُبَاحَةً إذَا جُعِلَتْ مُبَاحَاتٍ فَأَمَّا إذَا اُتُّخِذَتْ وَاجِبَاتٍ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ كَانَ ذَلِكَ دِينًا لَمْ يُشَرِّعْهُ اللَّهُ وَجَعَلَ مَا لَيْسَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ والمستحبات مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِ مَا لَيْسَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْهَا فَلَا حَرَامَ إلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ ؛ وَلَا دِينَ إلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ ؛ وَلِهَذَا عَظُمَ ذَمُّ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ لِمَنْ شَرَّعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِهِ وَلِمَنْ حَرَّمَ مَا لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ بِتَحْرِيمِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْمُبَاحَاتِ فَكَيْفَ بِالْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ لَا تُلْزِمُ بِالنَّذْرِ فَلَوْ نَذَرَ الرَّجُلُ فِعْلَ مُبَاحٍ أَوْ مَكْرُوهٍ أَوْ مُحَرَّمٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا نَذَرَ طَاعَةَ اللَّهِ أَنْ يُطِيعَهُ ؛ بَلْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إذَا لَمْ يَفْعَلْ عِنْدَ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَعِنْدَ آخَرِينَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَلَا

يَصِيرُ بِالنَّذْرِ مَا لَيْسَ بِطَاعَةِ وَلَا عِبَادَةٍ ( طَاعَةٍ وَعِبَادَةٍ ) .
وَنَحْوِ ذَلِكَ الْعُهُودِ الَّتِي تُتَّخَذُ عَلَى النَّاسِ لِالْتِزَامِ طَرِيقَةِ شَيْخٍ مُعَيَّنٍ كَعُهُودِ أَهْلِ " الْفُتُوَّةِ " وَ " رُمَاةِ الْبُنْدُقِ " وَنَحْوِ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَلْتَزِمَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الدِّينِ وَالطَّاعَةِ لِلَّهِ إلَّا مَا كَانَ دِينًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي شَرْعِ اللَّهِ ؛ لَكِنْ قَدْ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَ الْحِنْثِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَمَرْت غَيْرَ وَاحِدٍ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَهْدِ بِالْتِزَامِ طَرِيقَةٍ مَرْجُوحَةٍ أَوْ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ الْبِدَعِ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ إذْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَوْ يَقُولَ عَنْ عَمَلٍ : إنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَبِرٌّ وَطَرِيقٌ إلَى اللَّهِ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَذَلِكَ يُعْلَمُ بِالْأَدِلَّةِ الْمَنْصُوبَةِ عَلَى ذَلِكَ وَمَا عُلِمَ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ وَلَا مُسْتَحَبٍّ وَلَا قُرْبَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَدَ أَوْ يُقَالَ إنَّهُ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ . فَكَذَلِكَ هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ وَلَا التَّعَبُّدُ بِهِ وَلَا اتِّخَاذُهُ دِينًا وَلَا عَمَلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ فَلَا يَجُوزُ جَعْلُهُ مِنْ الدِّينِ لَا بِاعْتِقَادِ وَقَوْلٍ وَلَا بِإِرَادَةِ وَعَمَلٍ . وَبِإِهْمَالِ هَذَا الْأَصْلِ غَلِطَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ يَرَوْنَ الشَّيْءَ

إذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا لَا يَنْهَى عَنْهُ ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّهُ جَائِزٌ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ اتِّخَاذِهِ دِينًا وَطَاعَةً وَبِرًّا وَبَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ الْمُبَاحَاتُ الْمَحْضَةُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَهُ دِينًا بِالِاعْتِقَادِ أَوْ الِاقْتِصَادِ أَوْ بِهِمَا أَوْ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْعَمَلِ أَوْ بِهِمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ وَأَكْبَرِ السَّيِّئَاتِ وَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَعَاصِي الَّتِي يُعْلَمُ أَنَّهَا مَعَاصِي وَسَيِّئَاتٌ .
فَصْلٌ :
فَلَمَّا نَهَيْتهمْ عَنْ ذَلِكَ أَظْهَرُوا الْمُوَافَقَةَ وَالطَّاعَةَ وَمَضَتْ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ وَالنَّاسُ يَذْكُرُونَ عَنْهُمْ الْإِصْرَارَ عَلَى الِابْتِدَاعِ فِي الدِّينِ وَإِظْهَارِ مَا يُخَالِفُ شِرْعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَطْلُبُونَ الْإِيقَاعَ بِهِمْ وَأَنَا أَسْلُكُ مَسْلَكَ الرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ وَأَنْتَظِرُ الرُّجُوعَ وَالْفَيْئَةَ وَأُؤَخِّرُ الْخِطَابَ إلَى أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ لِمَسْجِدِ الْجَامِعِ . وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إلَيَّ كِتَابًا بَعْدَ كِتَابٍ فِيهِ احْتِجَاجٌ وَاعْتِذَارٌ وَعَتْبٌ وَآثَارٌ وَهُوَ كَلَامٌ بَاطِلٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ بَلْ إمَّا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ أَوْ إسْرَائِيلِيَّاتٌ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَأَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ . فَقُلْت لَهُمْ : الْجَوَابُ يَكُونُ بِالْخِطَابِ . فَإِنَّ جَوَابَ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ وَحَضَرَ عِنْدَنَا مِنْهُمْ شَخْصٌ فَنَزَعْنَا الْغُلَّ مِنْ عُنُقِهِ

وَهَؤُلَاءِ هُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ الَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأُمُورِ بِأَهْوَائِهِمْ لَا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ } وَلِهَذَا غَالِبُ وَجْدِهِمْ هَوًى مُطْلَقٌ لَا يَدْرُونَ مَنْ يَعْبُدُونَ وَفِيهِمْ شَبَهٌ قَوِيٌّ مِنْ النَّصَارَى الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ . فَحَمَلَهُمْ هَوَاهُمْ عَلَى أَنْ تَجَمَّعُوا تَجَمُّعَ الْأَحْزَابِ وَدَخَلُوا إلَى الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ مُسْتَعِدِّينَ لِلْحِرَابِ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي يُعِدُّونَهَا لِلْغِلَابِ . فَلَمَّا قُضِيَتْ صَلَاةُ الْجُمْعَةِ أَرْسَلْت إلَى شَيْخِهِمْ لِنُخَاطِبَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَتَّفِقَ عَلَى اتِّبَاعِ سَبِيلِهِ - فَخَرَجُوا مِنْ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي جُمُوعِهِمْ إلَى قَصْرِ الْإِمَارَةِ وَكَأَنَّهُمْ اتَّفَقُوا مَعَ بَعْضِ الْأَكَابِرِ عَلَى مَطْلُوبِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا إلَى مَسْجِدِ الشاغو - عَلَى مَا ذُكِرَ لِي - وَهُمْ مِنْ الصِّيَاحِ وَالِاضْطِرَابِ عَلَى أَمْرٍ مِنْ أَعْجَبِ الْعُجَابِ . فَأَرْسَلْت إلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ وَالْمَعْذِرَةِ وَطَلَبًا لِلْبَيَانِ وَالتَّبْصِرَةِ وَرَجَاءَ الْمَنْفَعَةِ وَالتَّذْكِرَةِ . فَعَمَدُوا إلَى الْقَصْرِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ قَدِمُوا مِنْ النَّاحِيَةِ الْغَرْبِيَّةِ مُظْهِرِينَ الضَّجِيجَ وَالْعَجِيجَ وَالْإِزْبَادَ وَالْإِرْعَادَ وَاضْطِرَابَ الرُّءُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالتَّقَلُّبَ فِي نَهْرِ بَرَدَى وَإِظْهَارَ التَّوَلُّهِ الَّذِي

يُخَيِّلُوا بِهِ عَلَى الرَّدَى وَإِبْرَازَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْحَالِ وَالْمُحَالِ الَّذِي يُسَلِّمُهُ إلَيْهِمْ مَنْ أَضَلُّوا مِنْ الْجُهَّالِ . فَلَمَّا رَأَى الْأَمِيرُ ذَلِكَ هَالَهُ ذَلِكَ الْمَنْظَرُ وَسَأَلَ عَنْهُمْ فَقِيلَ لَهُ هُمْ مُشْتَكُونَ فَقَالَ لِيَدْخُلَ بَعْضُهُمْ فَدَخَلَ شَيْخُهُمْ وَأَظْهَرَ مِنْ الشَّكْوَى عَلَيَّ وَدَعْوَى الِاعْتِدَاءِ مِنِّي عَلَيْهِمْ كَلَامًا كَثِيرًا لَمْ يَبْلُغْنِي جَمِيعُهُ ؛ لَكِنْ حَدَّثَنِي مَنْ كَانَ حَاضِرًا أَنَّ الْأَمِيرَ قَالَ لَهُمْ : فَهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مَنْ عِنْدَهُ أَوْ يَقُولُهُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالُوا بَلْ يَقُولُهُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَأَيُّ شَيْءٍ يُقَالُ لَهُ ؟ قَالُوا : نَحْنُ لَنَا أَحْوَالٌ وَطَرِيقٌ يُسَلِّمُ إلَيْنَا قَالَ فَنَسْمَعُ كَلَامَهُ فَمَنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَهُ نَصَرْنَاهُ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ تَشُدَّ مِنَّا قَالَ : لَا وَلَكِنْ أَشَدُّ مِنْ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ مَعَكُمْ أَوْ مَعَهُ قَالُوا : وَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ فَكَرَّرُوا ذَلِكَ فَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِمْ فَأَرْسَلَ إلَيَّ بَعْضَ خَوَاصِّهِ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالدِّينِ مِمَّنْ يُعْرَفُ ضَلَالُهُمْ وَعَرَّفَنِي بِصُورَةِ الْحَالِ وَأَنَّهُ يُرِيدُ كَشْفَ أَمْرِ هَؤُلَاءِ . فَلَمَّا عَلِمْت ذَلِكَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي أَنَّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ يُرِيدُهُ اللَّهُ مِنْ إظْهَارِ الدِّينِ وَكَشْفِ حَالِ أَهْلِ النِّفَاقِ الْمُبْتَدِعِينَ لِانْتِشَارِهِمْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِينَ وَمَا أَحْبَبْت الْبَغْيَ عَلَيْهِمْ وَالْعُدْوَانَ وَلَا أَنْ أَسْلُكَ مَعَهُمْ إلَّا أَبْلَغَ مَا يُمْكِنُ مِنْ الْإِحْسَانِ فَأَرْسَلْت إلَيْهِمْ مَنْ عَرَّفَهُمْ بِصُورَةِ

الْحَالِ وَإِنِّي إذَا حَضَرْت كَانَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْوَبَالِ وَكَثُرَ فِيكُمْ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَإِنَّ مَنْ قَعَدَ أَوْ قَامَ قُدَّامَ رِمَاحِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي الْهَوَانِ . فَجَاءَ الرَّسُولُ وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا بِشُيُوخِهِمْ الْكِبَارِ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ حَقِيقَةِ الْأَسْرَارِ وَأَشَارُوا عَلَيْهِمْ بِمُوَافَقَةِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ وَالْخُرُوجِ عَمَّا يُنْكَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْبِدَعِ الشَّنِيعَةِ . وَقَالَ شَيْخُهُمْ الَّذِي يَسِيحُ بِأَقْطَارِ الْأَرْضِ كَبِلَادِ التُّرْكِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا : أَحْوَالُنَا تَظْهَرُ عِنْدَ التَّتَارِ لَا تَظْهَرُ عِنْدَ شَرْعِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ . وَأَنَّهُمْ نَزَعُوا الْأَغْلَالَ مِنْ الْأَعْنَاقِ وَأَجَابُوا إلَى الْوِفَاقِ . ثُمَّ ذُكِرَ لِي أَنَّهُ جَاءَهُمْ بَعْضُ أَكَابِرِ غِلْمَانِ الْمُطَاعِ وَذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِمْ لِمَوْعِدِ الِاجْتِمَاعِ . فَاسْتَخَرْت اللَّهَ تَعَالَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَاسْتَعَنْته وَاسْتَنْصَرْته وَاسْتَهْدَيْته وَسَلَكْت سَبِيلَ عِبَادِ اللَّهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَالِكِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي قَلْبِي أَنْ أَدْخُلَ النَّارَ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ وَأَنَّهَا تَكُونُ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى مَنْ اتَّبَعَ مِلَّةَ الْخَلِيلِ وَأَنَّهَا تُحْرِقُ أَشْبَاهَ الصَّابِئَةِ أَهْلِ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ السَّبِيلِ . وَقَدْ كَانَ بَقَايَا الصَّابِئَةِ أَعْدَاءِ إبْرَاهِيمَ إمَامِ الْحُنَفَاءِ بِنَوَاحِي الْبَطَائِحِ مُنْضَمِّينَ إلَى مَنْ يُضَاهِيهِمْ مِنْ نَصَارَى الدَّهْمَاءِ . وَبَيْنَ الصَّابِئَةِ وَمَنْ ضَلَّ مِنْ الْعِبَادِ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى هَذَا الدِّينِ نَسَبٌ يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْحَقَّ الْمُبِينَ فَالْغَالِيَةُ مِنْ الْقَرَامِطَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ كالْنُصَيْرِيَّة

والْإِسْمَاعِيلِيَّة . يَخْرُجُونَ إلَى مُشَابَهَةِ الصَّابِئَةِ الْفَلَاسِفَةِ ثُمَّ إلَى الْإِشْرَاكِ ثُمَّ إلَى جُحُودِ الْحَقِّ تَعَالَى . وَمِنْ شِرْكِهِمْ الْغُلُوُّ فِي الْبَشَرِ وَالِابْتِدَاعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْخُرُوجُ عَنْ الشَّرِيعَةِ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا هُوَ بِهِ لَائِقٌ كَالْمُلْحِدِينَ مِنْ أَهْلِ الِاتِّحَادِ وَالْغَالِيَةِ مِنْ أَصْنَافِ الْعِبَادِ . فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ذَهَبْت لِلْمِيعَادِ وَمَا أَحْبَبْت أَنْ أَسْتَصْحِبَ أَحَدًا لِلْإِسْعَادِ لَكِنْ ذَهَبَ أَيْضًا بَعْضُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْأَصْحَابِ وَاَللَّهُ هُوَ الْمُسَبِّبُ لِجَمِيعِ الْأَسْبَابِ . وَبَلَغَنِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ طَافُوا عَلَى عَدَدٍ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَقَالُوا أَنْوَاعًا مِمَّا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ التَّلْبِيسِ وَالِافْتِرَاءِ الَّذِي اسْتَحْوَذُوا بِهِ عَلَى أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ الْأَكَابِرِ وَالرُّؤَسَاءِ مِثْلِ زَعْمِهِمْ أَنَّ لَهُمْ أَحْوَالًا لَا يُقَاوِمُهُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَأَنَّ شَيْخَهُمْ هُوَ فِي الْمَشَايِخِ كَالْخَلِيفَةِ وَأَنَّهُمْ يَتَقَدَّمُونَ عَلَى الْخَلْقِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ المنيفة وَأَنَّ الْمُنْكِرَ عَلَيْهِمْ هُوَ آخِذٌ بِالشَّرْعِ الظَّاهِرِ غَيْرُ وَاصِلٍ إلَى الْحَقَائِقِ وَالسَّرَائِرِ . وَأَنَّ لَهُمْ طَرِيقًا وَلَهُ طَرِيقٌ . وَهُمْ الْوَاصِلُونَ إلَى كُنْهِ التَّحْقِيقِ وَأَشْبَاهِ هَذِهِ الدَّعَاوَى ذَاتِ الزُّخْرُفِ وَالتَّزْوِيقِ . وَكَانُوا لِفَرْطِ انْتِشَارِهِمْ فِي الْبِلَادِ وَاسْتِحْوَاذِهِمْ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ لِخَفَاءِ نُورِ الْإِسْلَامِ وَاسْتِبْدَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ بِالنُّورِ الظَّلَامَ ،

وَطُمُوسِ آثَارِ الرَّسُولِ فِي أَكْثَرِ الْأَمْصَارِ وَدُرُوسِ حَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ لَهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْقِعٌ هَائِلٌ وَلَهُمْ فِيهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادِ مَا لَا يَزُولُ بِقَوْلِ قَائِلٍ . قَالَ الْمُخْبِرُ : فَغَدَا أُولَئِكَ الْأُمَرَاءُ الْأَكَابِرُ وَخَاطَبُوا فِيهِمْ نَائِبَ السُّلْطَانِ بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِمْ الْبَاهِرِ وَذَكَرَ لِي أَنْوَاعًا مِنْ الْخِطَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الصَّوَابِ وَالْأَمِيرُ مُسْتَشْعِرٌ ظُهُورَ الْحَقِّ عِنْدَ التَّحْقِيقِ فَأَعَادَ الرَّسُولَ إلَيَّ مَرَّةً ثَانِيَةً فَبَلَغَهُ أَنَّا فِي الطَّرِيقِ وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ الْأَضْدَادِ كَطَوَائِفَ مِنْ الْمُتَفَقِّهَةِ وَالْمُتَفَقِّرَةِ وَأَتْبَاعِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ . مُجِدِّينَ فِي نَصْرِهِمْ بِحَسَبِ مَقْدُورِهِمْ مُجَهِّزِينَ لِمَنْ يُعِينُهُمْ فِي حُضُورِهِمْ . فَلَمَّا حَضَرْت وَجَدْت النُّفُوسَ فِي غَايَةِ الشَّوْقِ إلَى هَذَا الِاجْتِمَاعِ مُتَطَلِّعِينَ إلَى مَا سَيَكُونُ طَالِبِينَ لِلِاطِّلَاعِ . فَذَكَرَ لِي نَائِبُ السُّلْطَانِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ بَعْضَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الِافْتِرَاءِ . وَقَالَ إنَّهُمْ قَالُوا : إنَّك طَلَبْت مِنْهُمْ الِامْتِحَانَ وَأَنْ يَحْمُوا الْأَطْوَاقَ نَارًا وَيَلْبَسُوهَا فَقُلْت هَذَا مِنْ الْبُهْتَانِ . وَهَا أَنَا ذَا أَصِفُ مَا كَانَ . قُلْت لِلْأَمِيرِ : نَحْنُ لَا نَسْتَحِلُّ أَنْ نَأْمُرَ أَحَدًا بِأَنْ يَدْخُلَ نَارًا وَلَا تَجُوزُ طَاعَةُ مَنْ يَأْمُرُ بِدُخُولِ النَّارِ . وَفِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ . وَهَؤُلَاءِ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ وَهُمْ كَذَّابُونَ مُبْتَدِعُونَ قَدْ أَفْسَدُوا مِنْ أَمْرِ دِينِ الْمُسْلِمِينَ وَدُنْيَاهُمْ مَا اللَّهُ بِهِ عَلِيمٌ . وَذَكَرْت

تَلْبِيسَهُمْ عَلَى طَوَائِفَ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَأَنَّهُمْ لَبَّسُوا عَلَى الْأَمِيرِ الْمَعْرُوفِ بالأيدمري . وَعَلَى قفجق نَائِبِ السَّلْطَنَةِ وَعَلَى غَيْرِهِمَا وَقَدْ لَبَّسُوا أَيْضًا عَلَى الْمَلِكِ الْعَادِلِ كتغا فِي مُلْكِهِ وَفِي حَالَةِ وِلَايَةِ حُمَّاهُ وَعَلَى أَمِيرِ السِّلَاحِ أَجَلِّ أَمِيرٍ بِدِيَارِ مِصْرَ وَضَاقَ الْمَجْلِسُ عَنْ حِكَايَةِ جَمِيعِ تَلْبِيسِهِمْ . فَذَكَرْت تَلْبِيسَهُمْ عَلَى الأيدمري وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُرْسِلُونَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَحْوَالِ بَيْتِهِ الْبَاطِنَةِ ثُمَّ يُخْبِرُونَهُ بِهَا عَلَى طَرِيقِ الْمُكَاشَفَةِ وَوَعَدُوهُ بِالْمُلْكِ وَأَنَّهُمْ وَعَدُوهُ أَنْ يُرُوهُ رِجَالَ الْغَيْبِ فَصَنَعُوا خَشَبًا طِوَالًا وَجَعَلُوا عَلَيْهَا مَنْ يَمْشِي كَهَيْئَةِ الَّذِي يَلْعَبُ بِأُكَرِ الزُّجَاجِ فَجَعَلُوا يَمْشُونَ عَلَى جَبَلِ الْمَزَّةِ وَذَاكَ يَرَى مِنْ بَعِيدٍ قَوْمًا يَطُوفُونَ عَلَى الْجَبَلِ وَهُمْ يَرْتَفِعُونَ عَنْ الْأَرْضِ وَأَخَذُوا مِنْهُ مَالًا كَثِيرًا ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ أَمْرُهُمْ . قُلْت لِلْأَمِيرِ : وَوَلَدُهُ هُوَ الَّذِي فِي حَلْقَةِ الْجَيْشِ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّنْ حَدَّثَنِي بِهَذِهِ الْقِصَّةِ . وَأَمَّا قفجق فَإِنَّهُمْ أَدْخَلُوا رَجُلًا فِي الْقَبْرِ يَتَكَلَّمُ وَأَوْهَمُوهُ أَنَّ الْمَوْتَى تَتَكَلَّمُ وَأَتَوْا بِهِ فِي مَقَابِرِ بَابِ الصَّغِيرِ إلَى رَجُلٍ زَعَمُوا أَنَّهُ الرَّجُلُ الشعراني الَّذِي بِجَبَلِ لُبْنَانَ وَلَمْ يُقَرِّبُوهُ مِنْهُ بَلْ مِنْ بَعِيدٍ لِتَعُودَ عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ وَقَالُوا إنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ جُمْلَةً مِنْ الْمَالِ ؛ فَقَالَ قفجق الشَّيْخُ يُكَاشِفُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ خَزَائِنِي لَيْسَ فِيهَا هَذَا كُلُّهُ وَتَقَرَّبَ قفجق مِنْهُ وَجَذَبَ الشَّعَرَ فَانْقَلَعَ الْجِلْدُ الَّذِي أَلْصَقُوهُ عَلَى جِلْدِهِ مِنْ جِلْدِ الْمَاعِزِ

فَذَكَرْت لِلْأَمِيرِ هَذَا ؛ وَلِهَذَا قِيلَ لِي إنَّهُ لَمَّا انْقَضَى الْمَجْلِسُ وَانْكَشَفَ حَالُهُمْ لِلنَّاسِ كَتَبَ أَصْحَابُ قفجق إلَيْهِ كِتَابًا وَهُوَ نَائِبُ السَّلْطَنَةِ بِحُمَّاهُ يُخْبِرُهُ بِصُورَةِ مَا جَرَى . وَذَكَرْت لِلْأَمِيرِ أَنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ بِأَنْوَاعِ مِنْ الْبِدَعِ مِثْلِ الْأَغْلَالِ وَنَحْوِهَا وَأَنَّا نَهَيْنَاهُمْ عَنْ الْبِدَعِ الْخَارِجَةِ عَنْ الشَّرِيعَةِ فَذَكَرَ الْأَمِيرُ حَدِيثَ الْبِدْعَةِ وَسَأَلَنِي عَنْهُ فَذَكَرْت حَدِيثَ العرباض بْنِ سَارِيَةَ وَحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ ذَكَرْتهمَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَجْلِسِ الْعَامِّ كَمَا سَأَذْكُرُهُ . قُلْت لِلْأَمِيرِ : أَنَا مَا امْتَحَنْت هَؤُلَاءِ لَكِنْ هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ لَهُمْ أَحْوَالًا يَدْخُلُونَ بِهَا النَّارَ وَأَنَّ أَهْلَ الشَّرِيعَةِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَنَا هَذِهِ الْأَحْوَالُ الَّتِي يَعْجَزُ عَنْهَا أَهْلُ الشَّرْعِ لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَعْتَرِضُوا عَلَيْنَا بَلْ يُسَلَّمُ إلَيْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ - سَوَاءٌ وَافَقَ الشَّرْعَ أَوْ خَالَفَهُ - وَأَنَا قَدْ اسْتَخَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ إنْ دَخَلُوا النَّارَ أَدْخُلُ أَنَا وَهُمْ وَمَنْ احْتَرَقَ مِنَّا وَمِنْهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَكَانَ مَغْلُوبًا وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ نَغْسِلَ جُسُومَنَا بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ . فَقَالَ الْأَمِيرُ وَلِمَ ذَاكَ ؟ قُلْت : لِأَنَّهُمْ يَطْلُونَ جُسُومَهُمْ بِأَدْوِيَةِ يَصْنَعُونَهَا مِنْ دُهْنِ الضَّفَادِعِ وَبَاطِنِ قِشْرِ النَّارِنْجِ وَحَجَرِ الطَّلْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ

مِنْ الْحِيَلِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُمْ وَأَنَا لَا أَطْلِي جِلْدِي بِشَيْءِ فَإِذَا اغْتَسَلْت أَنَا وَهُمْ بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ بَطَلَتْ الْحِيلَةُ وَظَهَرَ الْحَقُّ فَاسْتَعْظَمَ الْأَمِيرُ هُجُومِي عَلَى النَّارِ وَقَالَ : أَتَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ فَقُلْت لَهُ : نَعَمْ قَدْ اسْتَخَرْت اللَّهَ فِي ذَلِكَ وَأَلْقَى فِي قَلْبِي أَنْ أَفْعَلَهُ وَنَحْنُ لَا نَرَى هَذَا وَأَمْثَالَهُ ابْتِدَاءً ؛ فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ إنَّمَا تَكُونُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا لِحُجَّةِ أَوْ حَاجَةٍ فَالْحُجَّةُ لِإِقَامَةِ دِينِ اللَّهِ وَالْحَاجَةُ لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ النَّصْرِ وَالرِّزْقِ الَّذِي بِهِ يَقُومُ دِينُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ إذَا أَظْهَرُوا مَا يُسَمُّونَهُ إشَارَاتِهِمْ وَبَرَاهِينَهُمْ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تُبْطِلُ دِينَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْصُرَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَقُومَ فِي نَصْرِ دِينِ اللَّهِ وَشَرِيعَتِهِ بِمَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَرْوَاحِنَا وَجُسُومِنَا وَأَمْوَالِنَا فَلَنَا حِينَئِذٍ أَنْ نُعَارِضَ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْ هَذِهِ المخاريق بِمَا يُؤَيِّدُنَا اللَّهُ بِهِ مِنْ الْآيَاتِ . وَلِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا مِثْلُ مُعَارَضَةِ مُوسَى لِلسَّحَرَةِ لَمَّا أَظْهَرُوا سِحْرَهُمْ أَيَّدَ اللَّهُ مُوسَى بِالْعَصَا الَّتِي ابْتَلَعَتْ سِحْرَهُمْ . فَجَعَلَ الْأَمِيرُ يُخَاطِبُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْأُمَرَاءِ عَلَى السِّمَاطِ بِذَلِكَ وَفَرِحَ بِذَلِكَ وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ أَوْهَمُوهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَهُمْ حَالٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ وَسَمِعْته يُخَاطِبُ الْأَمِيرَ الْكَبِيرَ الَّذِي قَدِمَ مِنْ مِصْرَ الْحَاجَّ بِهَادِرِ وَأَنَا جَالِسٌ بَيْنَهَا عَلَى رَأْسِ السِّمَاطِ بِالتُّرْكِيِّ مَا فَهِمْته مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ الْيَوْمَ تَرَى حَرْبًا عَظِيمًا وَلَعَلَّ ذَاكَ كَانَ

جَوَابًا لِمَنْ كَانَ خَاطَبَهُ فِيهِمْ عَلَى مَا قِيلَ . وَحَضَرَ شُيُوخُهُمْ الْأَكَابِرُ فَجَعَلُوا يَطْلُبُونَ مِنْ الْأَمِيرِ الْإِصْلَاحَ وَإِطْفَاءَ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَيَتَرَفَّقُونَ فَقَالَ الْأَمِيرُ إنَّمَا يَكُونُ الصُّلْحُ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ وَقُمْنَا إلَى مَقْعَدِ الْأَمِيرِ بِزَاوِيَةِ الْقَصْرِ أَنَا وَهُوَ وَبِهَا دُرٌّ فَسَمِعْته يَذْكُرُ لَهُ أَيُّوبٌ الْحَمَّالُ بِمِصْرِ وَالْمُوَلَّهِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ لَهُمْ صُورَةٌ مُعَظَّمَةٌ وَأَنَّ لَهُمْ فِيهِمْ ظَنًّا حَسَنًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ؛ فَإِنَّهُ ذُكِرَ لِي ذَلِكَ . وَكَانَ الْأَمِيرُ أَحَبَّ أَنْ يَشْهَدَ بِهَا دُرَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ مِنْ أَكَابِرِ الْأُمَرَاءِ وَأَقْدَمِهِمْ وَأَعْظَمِهِمْ حُرْمَةً عِنْدِهِ وَقَدْ قَدِمَ الْآنَ وَهُوَ يُحِبُّ تَأْلِيفَهُ وَإِكْرَامَهُ فَأَمَرَ بِبِسَاطِ يُبْسَطُ فِي الْمَيْدَانِ . وَقَدْ قَدِمَ البطائحية وَهُمْ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ وَقَدْ أَظْهَرُوا أَحْوَالَهُمْ الشَّيْطَانِيَّةَ مِنْ الْإِزْبَادِ وَالْإِرْغَاءِ وَحَرَكَةِ الرُّءُوسِ وَالْأَعْضَاءِ وَالطَّفْرِ وَالْحَبْوِ وَالتَّقَلُّبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْوَاتِ الْمُنْكَرَاتِ وَالْحَرَكَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْعَادَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا أَمَرَ بِهِ لُقْمَانُ لِابْنِهِ فِي قَوْلِهِ { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ } . فَلَمَّا جَلَسْنَا وَقَدْ حَضَرَ خَلْقٌ عَظِيمٌ مِنْ الْأُمَرَاءِ وَالْكُتَّابِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْعَامَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَحَضَرَ شَيْخُهُمْ الْأَوَّلُ الْمُشْتَكِي وَشَيْخٌ آخَرُ

يُسَمِّي نَفْسَهُ خَلِيفَةَ سَيِّدِهِ أَحْمَد وَيَرْكَبُ بِعَلَمَيْنِ وَهُمْ يُسَمُّونَهُ : عَبْدَ اللَّهِ الْكَذَّابَ وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ ذَلِكَ . وَكَانَ مِنْ مُدَّةٍ قَدْ قَدِمَ عَلَيَّ مِنْهُمْ شَيْخٌ بِصُورَةِ لَطِيفَةٍ وَأَظْهَرَ مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُمْ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَأَعْطَيْته طُلْبَتَهُ وَلَمْ أَتَفَطَّنْ لِكَذِبِهِ حَتَّى فَارَقَنِي فَبَقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ هَذَا خَفِيَ عَلَيَّ تَلْبِيسُهُ إلَى أَنْ غَابَ وَمَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَيَّ تَلْبِيسُ أَحَدٍ بَلْ أُدْرِكُهُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَبَقِيَ ذَلِكَ فِي نَفْسِي وَلَمْ أَرَهُ قَطُّ إلَى حِينِ نَاظَرْته ذَكَرَ لِي أَنَّهُ ذَاكَ الَّذِي كَانَ اجْتَمَعَ بِي قَدِيمًا فَتَعَجَّبْت مِنْ حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ أَنَّهُ هَتَكَهُ فِي أَعْظَمِ مَشْهَدٍ يَكُونُ حَيْثُ كَتَمَ تَلْبِيسَهُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ . فَلَمَّا حَضَرُوا تَكَلَّمَ مِنْهُمْ شَيْخٌ يُقَالُ لَهُ حَاتِمٌ بِكَلَامِ مَضْمُونُهُ طَلَبُ الصُّلْحِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْمَاضِي وَالتَّوْبَةُ وَإِنَّا مُجِيبُونَ إلَى مَا طَلَبَ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْأَغْلَالِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْبِدَعِ وَمُتَّبِعُونَ لِلشَّرِيعَةِ . ( فَقُلْت أَمَّا التَّوْبَةُ فَمَقْبُولَةٌ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } هَذِهِ إلَى جَنْبِ هَذِهِ . وَقَالَ تَعَالَى { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } . فَأَخَذَ شَيْخُهُمْ الْمُشْتَكِي يَنْتَصِرُ لِلُبْسِهِمْ الْأَطْوَاقَ وَذَكَرَ أَنَّ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ رَوَى أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ عَابِدٌ وَأَنَّهُ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ طَوْقًا فِي حِكَايَةٍ مِنْ حِكَايَاتِ بَنِي إسْرَائِيلَ لَا تَثْبُتُ .

فَقُلْت لَهُمْ : لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَبَّدَ فِي دِينِنَا بِشَيْءِ مِنْ الإسرائيليات الْمُخَالِفَةِ لِشَرْعِنَا قَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَد فِي مُسْنَدِهِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَرَقَةً مِنْ التَّوْرَاةِ فَقَالَ : أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ } وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ كَفَى بِقَوْمِ ضَلَالَةٌ أَنْ يَتَّبِعُوا كِتَابًا غَيْرَ كِتَابِهِمْ أُنْزِلَ إلَى نَبِيٍّ غَيْرِ نَبِيِّهِمْ } وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } فَنَحْنُ لَا يَجُوزُ لَنَا اتِّبَاعُ مُوسَى وَلَا عِيسَى فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِمَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إذَا خَالَفَ شَرْعَنَا وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَنَتَّبِعَ الشِّرْعَةَ وَالْمِنْهَاجَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ إلَيْنَا رَسُولَنَا كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } . فَكَيْفَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَتَّبِعَ عُبَّادَ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي حِكَايَةٍ لَا تُعْلَمُ صِحَّتُهَا وَمَا عَلَيْنَا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إسْرَائِيلَ { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هَاتِ مَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَذَكَرْت هَذَا وَشَبَهَهُ بِكَيْفِيَّةٍ قَوِيَّةٍ .

فَقَالَ هَذَا الشَّيْخُ مِنْهُمْ يُخَاطِبُ الْأَمِيرَ : نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ لَنَا الْقُضَاةَ الْأَرْبَعَةَ وَالْفُقَهَاءَ وَنَحْنُ قَوْمٌ شَافِعِيَّةٌ .
فَقُلْت لَهُ هَذَا غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ وَلَا مَشْرُوعٌ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ بَلْ كُلُّهُمْ يَنْهَى عَنْ التَّعَبُّدِ بِهِ وَيَعُدُّهُ بِدْعَةً وَهَذَا الشَّيْخُ كَمَالُ الدِّينِ بْنُ الزملكاني مُفْتِي الشَّافِعِيَّةِ وَدَعَوْته وَقُلْت : يَا كَمَالَ الدِّينِ مَا تَقُولُ فِي هَذَا ؟ فَقَالَ هَذَا بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ بَلْ مَكْرُوهَةٌ أَوْ كَمَا قَالَ . وَكَانَ مَعَ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ فَتْوَى فِيهَا خُطُوطُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ .
وَقُلْت لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُرُوجُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشُكُّ هَلْ تَكَلَّمْت هُنَا فِي قِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ ؛ فَإِنِّي تَكَلَّمْت بِكَلَامِ بَعْدَ عَهْدِي بِهِ . فَانْتَدَبَ ذَلِكَ الشَّيْخُ " عَبْدَ اللَّهِ " وَرَفَعَ صَوْتَهُ . وَقَالَ : نَحْنُ لَنَا أَحْوَالٌ وَأُمُورٌ بَاطِنَةٌ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا وَذَكَرَ كَلَامًا لَمْ أَضْبِطْ لَفْظَهُ : مِثْلَ الْمَجَالِسِ وَالْمَدَارِسِ وَالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ؛ وَمَضْمُونُهُ أَنَّ لَنَا الْبَاطِنَ وَلِغَيْرِنَا الظَّاهِرَ وَأَنَّ لَنَا أَمْرًا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَلَا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْنَا ( فَقُلْت لَهُ - وَرَفَعْت صَوْتِي

وَغَضِبْت : الْبَاطِنُ وَالظَّاهِرُ وَالْمَجَالِسُ وَالْمَدَارِسُ وَالشَّرِيعَةُ وَالْحَقَائِقُ كُلُّ هَذَا مَرْدُودٌ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْفُقَرَاءِ وَلَا مِنْ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَلَا مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْقُضَاةِ وَغَيْرِهِمْ ؛ بَلْ جَمِيعُ الْخَلْقِ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَكَرْت هَذَا وَنَحْوَهُ . فَقَالَ - وَرَفَعَ صَوْتَهُ - : نَحْنُ لَنَا الْأَحْوَالُ وَكَذَا وَكَذَا . وَادَّعَى الْأَحْوَالَ الْخَارِقَةَ كَالنَّارِ وَغَيْرِهَا وَاخْتِصَاصَهُمْ بِهَا وَأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ تَسْلِيمَ الْحَالِ إلَيْهِمْ لِأَجْلِهَا . فَقُلْت - وَرَفَعْت صَوْتِي وَغَضِبْت - أَنَا أُخَاطِبُ كُلَّ أَحْمَدِيٍّ مِنْ مَشْرِقِ الْأَرْضِ إلَى مَغْرِبِهَا أَيُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي النَّارِ فَأَنَا أَصْنَعُ مِثْلَ مَا تَصْنَعُونَ وَمَنْ احْتَرَقَ فَهُوَ مَغْلُوبٌ ؛ وَرُبَّمَا قُلْت فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ ؛ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ نَغْسِلَ جُسُومَنَا بِالْخَلِّ وَالْمَاءِ الْحَارِّ ؛ فَسَأَلَنِي الْأُمَرَاءُ وَالنَّاسُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : لِأَنَّ لَهُمْ حِيَلًا فِي الِاتِّصَالِ بِالنَّارِ يَصْنَعُونَهَا مِنْ أَشْيَاءَ : مِنْ دُهْنِ الضَّفَادِعِ . وَقِشْرِ النَّارِنْجِ . وَحَجَرِ الطَّلَقِ . فَضَجَّ النَّاسُ بِذَلِكَ فَأَخَذَ يُظْهِرُ الْقُدْرَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : أَنَا وَأَنْتَ نُلَفُّ فِي بَارِيَةٍ بَعْدَ أَنْ تُطْلَى جُسُومُنَا بِالْكِبْرِيتِ . ( فَقُلْت فَقُمْ ؛

وَأَخَذْت أُكَرِّرُ عَلَيْهِ فِي الْقِيَامِ إلَى ذَلِكَ فَمَدَّ يَدَهُ يُظْهِرُ خَلْعَ الْقَمِيصِ فَقُلْت : لَا حَتَّى تَغْتَسِلَ فِي الْمَاءِ الْحَارِّ وَالْخَلِّ فَأَظْهَرَ الْوَهْمَ عَلَى عَادَتِهِمْ فَقَالَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ الْأَمِيرَ فَلْيُحْضِرْ خَشَبًا أَوْ قَالَ حُزْمَةً حَطَب . فَقُلْت هَذَا تَطْوِيلٌ وَتَفْرِيقٌ لِلْجَمْعِ ؛ وَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَقْصُودٌ ؛ بَلْ قِنْدِيلٌ يُوقَدُ وَأُدْخِلُ إصْبَعِي وَإِصْبَعَك فِيهِ بَعْدَ الْغَسْلِ ؛ وَمَنْ احْتَرَقَتْ إصْبَعُهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ ؛ أَوْ قُلْت : فَهُوَ مَغْلُوبٌ . فَلَمَّا قُلْت ذَلِكَ تَغَيَّرَ وَذَلَّ . وَذُكِرَ لِي أَنَّ وَجْهَهُ اصْفَرَّ . ثُمَّ قُلْت لَهُمْ : وَمَعَ هَذَا فَلَوْ دَخَلْتُمْ النَّارَ وَخَرَجْتُمْ مِنْهَا سَالِمِينَ حَقِيقَةً وَلَوْ طِرْتُمْ فِي الْهَوَاءِ ؛ وَمَشَيْتُمْ عَلَى الْمَاءِ ؛ وَلَوْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ . وَلَا عَلَى إبْطَالِ الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ الدَّجَّالَ الْأَكْبَرَ يَقُولُ لِلسَّمَاءِ أَمْطِرِي فَتُمْطِرُ ؛ وَلِلْأَرْضِ أَنْبِتِي فَتُنْبِتُ وَلِلْخَرِبَةِ أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتُخْرِجُ كُنُوزَهَا تَتَّبِعُهُ ؛ وَيَقْتُلُ رَجُلًا ثُمَّ يَمْشِي بَيْنَ شِقَّيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَيَقُومُ وَمَعَ هَذَا فَهُوَ دَجَّالٌ كَذَّابٌ مَلْعُونٌ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَفَعْت صَوْتِي بِذَلِكَ فَكَانَ لِذَلِكَ وَقْعٌ عَظِيمٌ فِي الْقُلُوبِ . وَذَكَرْت قَوْلَ أَبِي يَزِيدَ البسطامي : لَوْ رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كَيْفَ وُقُوفُهُ عِنْدَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَذَكَرْت عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنَّهُ قَالَ لِلشَّافِعِيِّ أَتَدْرِي

مَا قَالَ صَاحِبُنَا يَعْنِي اللَّيْثَ بْنَ سَعْدٍ ؟ قَالَ : لَوْ رَأَيْت صَاحِبَ هَوًى يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَغْتَرَّ بِهِ . فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَقَدْ قَصَرَ اللَّيْثُ لَوْ رَأَيْت صَاحِبَ هَوًى يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَغْتَرَّ بِهِ ؛ وَتَكَلَّمْت فِي هَذَا وَنَحْوِهِ بِكَلَامِ بَعُدَ عَهْدِي بِهِ . وَمَشَايِخُهُمْ الْكِبَارُ يَتَضَرَّعُونَ عِنْدَ الْأَمِيرِ فِي طَلَبِ الصُّلْحِ وَجَعَلْت أُلِحُّ عَلَيْهِ فِي إظْهَارِ مَا أَدْعُوهُ مِنْ النَّارِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يُجِيبُونَ وَقَدْ اجْتَمَعَ عَامَّةُ مَشَايِخِهِمْ الَّذِينَ فِي الْبَلَدِ وَالْفُقَرَاءُ الْمُوَلَّهُونَ مِنْهُمْ وَهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ وَالنَّاسُ يَضِجُّونَ فِي الْمَيْدَانِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَشْيَاءَ لَا أَضْبِطُهَا . فَذَكَرَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ أَنَّ النَّاسَ قَالُوا مَا مَضْمُونُهُ : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } { فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ } وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنَّ هَذَا الشَّيْخَ يُسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ الْكَذَّابَ . وَأَنَّهُ الَّذِي قَصَدَك مَرَّةً فَأَعْطَيْته ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَقُلْت : ظَهَرَ لِي حِينَ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ وَذَهَبَ أَنَّهُ مُلْبَسٌ وَكَانَ قَدْ حَكَى حِكَايَةً عَنْ نَفْسِهِ مَضْمُونُهَا أَنَّهُ أَدْخَلَ النَّارَ فِي لِحْيَتِهِ قُدَّامَ صَاحِبِ حَمَاة وَلَمَّا فَارَقَنِي وَقَعَ فِي قَلْبِي أَنَّ لِحْيَتَهُ مَدْهُونَةٌ . وَأَنَّهُ دَخَلَ إلَى الرُّومِ وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ . فَلَمَّا ظَهَرَ لِلْحَاضِرِينَ عَجْزُهُمْ وَكَذِبُهُمْ وَتَلْبِيسُهُمْ وَتَبَيَّنَ لِلْأُمَرَاءِ الَّذِينَ كَانُوا يَشُدُّونَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ رَجَعُوا وَتَخَاطَبَ الْحَاجُّ بِهَادِرِ وَنَائِبُ السُّلْطَانِ وَغَيْرُهُمَا بِصُورَةِ الْحَالِ وَعَرَفُوا حَقِيقَةَ الْمُحَالِ ؛ وَقُمْنَا إلَى

دَاخِلٍ وَدَخَلْنَا وَقَدْ طَلَبُوا التَّوْبَةَ عَمَّا مَضَى وَسَأَلَنِي الْأَمِيرُ عَمَّا تَطْلُبُ مِنْهُمْ فَقُلْت : مُتَابَعَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلُ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُمَا أَوْ أَنَّهُ يَسُوغُ لِأَحَدِ الْخُرُوجُ مِنْ حُكْمِهِمَا وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّبَاعُ طَرِيقَةٍ تُخَالِفُ بَعْضَ حُكْمِهِمَا وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْخُرُوجِ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الَّتِي تُوجِبُ الْكُفْرَ . وَقَدْ تُوجِبُ الْقَتْلَ دُونَ الْكُفْرِ وَقَدْ تُوجِبُ قِتَالَ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ دُونَ قَتْلِ الْوَاحِدِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ . فَقَالُوا : نَحْنُ مُلْتَزِمُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ أَتُنْكِرُ عَلَيْنَا غَيْرَ الْأَطْوَاقِ ؟ نَحْنُ نَخْلَعُهَا . فَقُلْت : الْأَطْوَاقُ وَغَيْرُ الْأَطْوَاقِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ شَيْئًا مُعَيَّنًا ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَ الْأَمِيرُ فَأَيُّ شَيْءٍ الَّذِي يَلْزَمُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؟ فَقُلْت : حُكْمُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَلْتَزِمُوا هَذَا الْتِزَامًا عَامًّا وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ ضَرَبْت عُنُقَهُ - وَكَرَّرَ ذَلِكَ وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى نَاحِيَةِ الْمَيْدَانِ - وَكَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حُكْمًا عَامًّا فِي حَقِّ جَمِيعِ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ هَذَا مَشْهَدٌ عَامٌّ مَشْهُورٌ قَدْ تَوَفَّرَتْ الْهِمَمُ عَلَيْهِ فَيَتَقَرَّرُ عِنْدَ الْمُقَاتَلَةِ وَأَهْلِ الدِّيوَانِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ وَهَؤُلَاءِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ - أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ .

قُلْت : وَمِنْ ذَلِكَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي مَوَاقِيتِهَا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ؛ فَإِنَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُصَلِّي وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي صَلَاتِهِ حَتَّى إنَّهُمْ بِالْأَمْسِ بَعْدَ أَنْ اشْتَكَوْا عَلَيَّ فِي عَصْرِ الْجُمْعَةِ جَعَلَ أَحَدُهُمْ يَقُولُ فِي صُلْبِ الصَّلَاةِ : يَا سَيِّدِي أَحْمَد شَيْءٌ لِلَّهِ . وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ فَهُوَ شِرْكٌ بِاَللَّهِ وَدُعَاءٌ لِغَيْرِهِ فِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ الَّتِي أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِيهَا : { إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وَهَذَا قَدْ فُعِلَ بِالْأَمْسِ بِحَضْرَةِ شَيْخِهِمْ فَأُمِرَ قَائِلُ ذَلِكَ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِغْفَارِ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي صَغِيرِ الذُّنُوبِ . وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ . وَكَذَلِكَ يَصِيحُونَ فِي الصَّلَاةِ صِيَاحًا عَظِيمًا وَهَذَا مُنْكَرٌ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ . فَقَالَ : هَذَا يَغْلِبُ عَلَى أَحَدِهِمْ كَمَا يَغْلِبُ الْعُطَاسُ . فَقُلْت : الْعُطَاسُ مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمْ دَفْعَهُ وَأَمَّا هَذَا الصِّيَاحُ فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهُوَ بِاخْتِيَارِهِمْ وَتَكَلُّفِهِمْ وَيَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِهِ وَلَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْخَبِيرِينَ بِهِمْ بَعْدَ الْمَجْلِسِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِي الصَّلَاةِ مَا لَا تَفْعَلُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : مِثْلُ قَوْلِ أَحَدِهِمْ أَنَا عَلَى بَطْنِ امْرَأَةِ الْإِمَامِ وَقَوْلِ الْآخَرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ الْإِمَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ الْخَبِيثَةِ وَأَنَّهُمْ إذَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ الْمُنْكِرُ تَرْكَ الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ بِالنَّوْبَةِ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُمْ مُتَوَلُّونَ لِلشَّيَاطِينِ لَيْسُوا

مَغْلُوبِينَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَغْلِبُ الرَّجُلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى صَيْحَةٍ أَوْ بُكَاءٍ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِهَا . فَلَمَّا أَظْهَرُوا الْتِزَامَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَجُمُوعَهُمْ بِالْمَيْدَانِ بِأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ الشَّيْطَانِيَّةِ يُظْهِرُونَ أَحْوَالَهُمْ قُلْت لَهُ أَهَذَا مُوَافِقٌ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؟ فَقَالَ : هَذَا مِنْ اللَّهِ حَالٌ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَقُلْت : هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ بِهِ وَلَا رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ فَقَالَ : مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَرَكَةٌ وَلَا كَذَا وَلَا كَذَا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ فَقُلْت لَهُ : هَذَا مِنْ بَابِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ وَهَكَذَا كُلُّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ هُوَ بِمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُجَّةِ لِأَحَدِ فِي فِعْلِهِ ؛ بَلْ ذَلِكَ مِمَّا زَيَّنَهُ الشَّيْطَانُ وَسَخِطَهُ الرَّحْمَنُ . فَقَالَ : فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَبْطُلُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ . فَقُلْت : بِهَذِهِ السِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ . فَأُعْجِبَ الْأَمِيرُ وَضَحِكَ وَقَالَ : أَيْ وَاَللَّهِ بِالسِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ تَبْطُلُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الشَّيْطَانِيَّةُ كَمَا قَدْ جَرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ إلَى الدِّينِ بِالسِّيَاطِ الشَّرْعِيَّةِ فَبِالسُّيُوفِ الْمُحَمَّدِيَّةِ . وَأَمْسَكْت سَيْفَ الْأَمِيرِ وَقُلْت : هَذَا نَائِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغُلَامُهُ وَهَذَا السَّيْفُ سَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ خَرَجَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ضَرَبْنَاهُ بِسَيْفِ اللَّهِ وَأَعَادَ الْأَمِيرُ

هَذَا الْكَلَامَ وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ : فَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ وَلَا نُقِرُّ نَحْنُ ؟ . فَقُلْت : الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى يُقِرُّونَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى دِينِهِمْ الْمَكْتُومِ فِي دُورِهِمْ وَالْمُبْتَدِعُ لَا يُقِرُّ عَلَى بِدْعَتِهِ . فَأُفْحِمُوا لِذَلِكَ . وَ " حَقِيقَةُ الْأَمْرِ " أَنَّ مَنْ أَظْهَرَ مُنْكَرًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ دَعَا إلَى بِدْعَةٍ وَأَظْهَرَهَا لَمْ يُقَرَّ وَلَا يُقَرُّ مَنْ أَظْهَرَ الْفُجُورَ وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يُقَرُّونَ عَلَى إظْهَارِ مُنْكَرَاتِ دِينِهِمْ وَمَنْ سِوَاهُمْ فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا أَخَذَ بِوَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَ مُحَرَّمَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا وَلَا ذِمِّيًّا فَهُوَ إمَّا مُرْتَدٌّ وَإِمَّا مُشْرِكٌ وَإِمَّا زِنْدِيقٌ ظَاهِرُ الزَّنْدَقَةِ . وَذَكَرْت ذَمَّ " الْمُبْتَدِعَةِ " فَقُلْت رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عَنْ أَبِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْبَاقِرِ { عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ إنَّ أَصْدَقَ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } . وَفِي السُّنَنِ { عَنْ العرباض بْنِ سَارِيَةَ قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إلَيْنَا ؟ فَقَالَ أُوصِيكُمْ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ

مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَفِي رِوَايَةِ { وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } . فَقَالَ لِي : الْبِدْعَةُ مِثْلُ الزِّنَا وَرَوَى حَدِيثًا فِي ذَمِّ الزِّنَا فَقُلْت هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالزِّنَا مَعْصِيَةٌ وَالْبِدْعَةُ شَرٌّ مِنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ ؛ فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا . وَكَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ نتوب النَّاسَ فَقُلْت : مماذا تتوبونهم ؟ قَالَ : مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَقُلْت : حَالُهُمْ قَبْلَ تتويبكم خَيْرٌ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تتويبكم ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فُسَّاقًا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمَ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَيَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَيَتُوبُونَ إلَيْهِ أَوْ يَنْوُونَ التَّوْبَةَ فَجَعَلْتُمُوهُمْ بتتويبكم ضَالِّينَ مُشْرِكِينَ خَارِجِينَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ يُحِبُّونَ مَا يُبْغِضُهُ اللَّهُ وَيُبْغِضُونَ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَبَيَّنْت أَنَّ هَذِهِ الْبِدَعَ الَّتِي هُمْ وَغَيْرُهُمْ عَلَيْهَا شَرٌّ مِنْ الْمَعَاصِي . قُلْت مُخَاطِبًا لِلْأَمِيرِ وَالْحَاضِرِينَ : أَمَّا الْمَعَاصِي فَمِثْلُ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ { عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يُدْعَى حِمَارًا وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَدَهُ الْحَدَّ فَلَعَنَهُ رَجُلٌ مَرَّةً . وَقَالَ :

لَعَنَهُ اللَّهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } . قُلْت : فَهَذَا رَجُلٌ كَثِيرُ الشُّرْبِ لِلْخَمْرِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ صَحِيحَ الِاعْتِقَادِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ . وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَمِثْلُ مَا أَخْرَجَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري وَغَيْرِهِمَا - دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ - { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَسِّمُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ نَاتِئَ الْجَبِينِ كَثَّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقَ الرَّأْسِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَثَرُ السُّجُودِ وَقَالَ مَا قَالَ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ ضئضئ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتهمْ لَأَقْتُلَنهُمْ قَتْلَ عَادٍ } وَفِي رِوَايَةٍ ؛ { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَهُمْ مَاذَا لَهُمْ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ لَنَكَلُوا عَنْ الْعَمَلِ } وَفِي رِوَايَةٍ { شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ } . " قُلْت " : فَهَؤُلَاءِ مَعَ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِهِمْ وَقَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَذَلِكَ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ وَشَرِيعَتِهِ وَأَظُنُّ أَنِّي ذَكَرْت قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : لِأَنْ يُبْتَلَى الْعَبْدُ بِكُلِّ ذَنْبٍ مَا خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُبْتَلَى بِشَيْءِ مِنْ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ . فَلَمَّا ظَهَرَ قُبْحُ الْبِدَعِ فِي الْإِسْلَامِ وَأَنَّهَا أَظْلَمُ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ بِدَعًا مُنْكَرَةً فَيَكُونُ حَالُهُمْ أَسْوَأَ مِنْ حَالِ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ أَخَذَ شَيْخَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ يَقُولُ : يَا مَوْلَانَا لَا تَتَعَرَّضُ لِهَذَا الْجَنَابِ الْعَزِيزِ - يَعْنِي أَتْبَاعَ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ - فَقُلْت مُنْكِرًا بِكَلَامِ غَلِيظٍ : وَيْحَك ؛ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ الْجَنَابُ الْعَزِيزُ وَجَنَابُ مَنْ خَالَفَهُ أَوْلَى بِالْعِزِّ يَا ذُو الزرجنة (1) تُرِيدُونَ أَنْ تُبْطِلُوا دِينَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ : يَا مَوْلَانَا يَحْرُقُك الْفُقَرَاءُ بِقُلُوبِهِمْ فَقُلْت : مِثْلَ مَا أَحْرَقَنِي الرَّافِضَةُ لَمَّا قَصَدْت الصُّعُودَ إلَيْهِمْ وَصَارَ جَمِيعُ النَّاسِ يُخَوِّفُونِي مِنْهُمْ وَمِنْ شَرِّهِمْ وَيَقُولُ أَصْحَابُهُمْ إنَّ لَهُمْ سِرًّا مَعَ اللَّهِ فَنَصَرَ اللَّهَ وَأَعَانَ عَلَيْهِمْ . وَكَانَ الْأُمَرَاءُ الْحَاضِرُونَ قَدْ عَرَفُوا بَرَكَةَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ فِي أَمْرِ غَزْوِ الرَّافِضَةِ بِالْجَبَلِ . وَقُلْت لَهُمْ : يَا شِبْهَ الرَّافِضَةِ يَا بَيْتَ الْكَذِبِ - فَإِنَّ فِيهِمْ مِنْ الْغُلُوِّ وَالشِّرْكِ وَالْمُرُوقِ عَنْ الشَّرِيعَةِ مَا شَارَكُوا بِهِ الرَّافِضَةَ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِمْ وَفِيهِمْ مِنْ الْكَذِبِ مَا قَدْ يُقَارِبُونَ بِهِ الرَّافِضَةَ فِي ذَلِكَ أَوْ يُسَاوُونَهُمْ

أَوْ يَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ مِنْ أَكْذَبِ الطَّوَائِفِ حَتَّى قِيلَ فِيهِمْ : لَا تَقُولُوا أَكْذَبَ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى اللَّهِ وَلَكِنْ قُولُوا أَكْذَبَ مِنْ الْأَحْمَدِيَّةِ عَلَى شَيْخِهِمْ وَقُلْت لَهُمْ : أَنَا كَافِرٌ بِكُمْ وَبِأَحْوَالِكُمْ { فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ } . وَلَمَّا رَدَدْت عَلَيْهِمْ الْأَحَادِيثَ الْمَكْذُوبَةَ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ مِنِّي كُتُبًا صَحِيحَةً لِيَهْتَدُوا بِهَا فَبَذَلْت لَهُمْ ذَلِكَ وَأُعِيدُ الْكَلَامُ أَنَّهُ مَنْ خَرَجَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ضَرَبْت عُنُقَهُ وَأَعَادَ الْأَمِيرُ هَذَا الْكَلَامَ وَاسْتَقَرَّ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَنَاصِرُ السُّنَّةِ فَرِيدُ الْوَقْتِ وَبَحْرُ الْعُلُومِ بَقِيَّةُ الْمُجْتَهِدِينَ وَحُجَّةُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَاجُ الْعَارِفِينَ وَقُدْوَةُ الْمُحَقِّقِينَ رِحْلَةُ الطَّالِبِينَ وَنُخْبَةُ الرَّاسِخِينَ إمَامُ الزَّاهِدِينَ وَمَنَالُ الْمُجْتَهِدِينَ الْإِمَامُ الْحُجَّةُ النُّورَانِيُّ وَالْعَالِمُ الْمُجْتَهِدُ الرَّبَّانِيُّ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَد بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّة الْحَرَّانِي أَدَامَ اللَّهُ عُلُوَّ قَدْرِهِ فِي الدَّارَيْنِ وَجَعَلَهُ يَتَسَنَّمُ ذُرْوَةَ الْكَمَالِ مَسْرُورَ الْقَلْبِ قَرِيرَ الْعَيْنِ :
عَنْ " الْمُرْشِدَةِ " كَيْفَ كَانَ أَصْلُهَا وَتَأْلِيفُهَا ؟ وَهَلْ تَجُوزُ قِرَاءَتُهَا أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَائِلًا :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَصْلُ هَذِهِ : أَنَّهُ وَضَعَهَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ التومرت الَّذِي تَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ وَكَانَ قَدْ ظَهَرَ فِي الْمَغْرِبِ فِي أَوَائِلِ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ نَحْوِ مِائَتَيْ سَنَةٍ وَكَانَ قَدْ دَخَلَ إلَى بِلَادِ الْعِرَاقِ وَتَعَلَّمَ طَرَفًا مِنْ الْعِلْمِ وَكَانَ فِيهِ طَرَفٌ مِنْ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ . وَلَمَّا رَجَعَ إلَى الْمَغْرِبِ صَعِدَ إلَى جِبَالِ الْمَغْرِبِ ؛ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْبَرْبَرِ

وَغَيْرُهُمْ : جُهَّالٍ لَا يَعْرِفُونَ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ فَعَلَّمَهُمْ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالصِّيَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَاسْتَجَازَ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ أَنْوَاعًا مِنْ المخاريق لِيَدْعُوَهُمْ بِهَا إلَى الدِّينِ فَصَارَ يَجِيءُ إلَى الْمَقَابِرِ يَدْفِنُ بِهَا أَقْوَامًا وَيُوَاطِئُهُمْ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوهُ إذَا دَعَاهُمْ وَيَشْهَدُوا لَهُ بِمَا طَلَبَهُ مِنْهُمْ مِثْلَ أَنْ يَشْهَدُوا لَهُ بِأَنَّهُ الْمَهْدِيُّ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمَهُ وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمَ أَبِيهِ . وَأَنَّهُ الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا . وَأَنَّ مَنْ اتَّبَعَهُ أَفْلَحَ وَمَنْ خَالَفَهُ خَسِرَ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ . فَإِذَا اعْتَقَدَ أُولَئِكَ الْبَرْبَرُ أَنَّ الْمَوْتَى يُكَلِّمُونَهُ وَيَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ عَظُمَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ وَطَاعَتُهُمْ لِأَمْرِهِ . ثُمَّ إنَّ أُولَئِكَ الْمَقْبُورِينَ يَهْدِمُ عَلَيْهِمْ الْقُبُورَ لِيَمُوتُوا وَلَا يُظْهِرُوا أَمْرَهُ وَاعْتَقِدَ أَنَّ دِمَاءَ أُولَئِكَ مُبَاحَةٌ بِدُونِ هَذَا وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إظْهَارُ هَذَا الْبَاطِلِ لِيَقُومَ أُولَئِكَ الْجُهَّالُ بِنَصْرِهِ وَاتِّبَاعِهِ . وَقَدْ ذَكَرَ عَنْهُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ وَأَهْلُ الْمَشْرِقِ الَّذِينَ ذَكَرُوا أَخْبَارَهُ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَاتِ أَنْوَاعًا . وَهِيَ مَشْهُورَةٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ حَالَهُ عَنْهُ . وَمِنْ الْحِكَايَاتِ الَّتِي يَأْثُرُونَهَا عَنْهُ أَنَّهُ وَاطَأَ رَجُلًا عَلَى إظْهَارِ الْجُنُونِ وَكَانَ ذَلِكَ عَالِمًا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ فَظَهَرَ بِصُورَةِ الْجُنُونِ وَالنَّاسُ لَا يَعْرِفُونَهُ إلَّا مَجْنُونًا . ثُمَّ أَصْبَحَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عَاقِلٌ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ وَالْفِقْهَ وَزَعَمَ أَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ فِي الْمَنَامِ وَعُوفِيَ مِمَّا كَانَ

بِهِ وَرُبَّمَا قِيلَ : إنَّهُ ذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ ذَلِكَ فَصَارُوا يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِذَلِكَ الشَّخْصِ وَأَنَّهُ كَانَ لَهُمْ يَوْمٌ يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الْفُرْقَانِ فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ بِزَعْمِهِ فَصَارَ كُلُّ مَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ أَوْلِيَائِهِمْ جَعَلُوهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَعَصَمُوا دَمَهُ وَمَنْ عَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ جَعَلُوهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَاسْتَحَلُّوا دَمَهُ وَاسْتَحَلَّ دِمَاءَ أُلُوفِ مُؤَلَّفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ الْمَالِكِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ : كَالصَّحِيحَيْنِ وَالْمُوَطَّأِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَالْفِقْهَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَزَعَمَ أَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ مُجَسِّمَةٌ وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ إظْهَارُ الْقَوْلِ بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ . وَاسْتَحَلَّ أَيْضًا أَمْوَالَهُمْ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ بِهَذَا التَّأْوِيلِ وَنَحْوِهِ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَتْ تَسْتَحِلُّهُ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ - كَالْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَسَائِرِ نفاة الصِّفَاتِ - مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ لَمَّا امْتَحَنُوا النَّاسَ فِي " خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ " وَأَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَنَفَوْا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ عِلْمٌ أَوْ قُدْرَةٌ أَوْ كَلَامٌ أَوْ مَشِيئَةٌ أَوْ شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ . وَصَارَ كُلُّ مَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى هَذَا التَّعْطِيلِ عَصَمُوا دَمَهُ وَمَالَهُ وَوَلَّوْهُ الْوِلَايَاتِ وَأَعْطَوْهُ الرِّزْقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَقَبِلُوا شَهَادَتَهُ وَافْتَدَوْهُ مِنْ

الْأَسْرِ وَمَنْ لَمْ يُوَافِقْهُمْ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ بِدَعِهِمْ قَتَلُوهُ أَوْ حَبَسُوهُ أَوْ ضَرَبُوهُ أَوْ مَنَعُوهُ الْعَطَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلَمْ يُوَلُّوهُ وِلَايَةً وَلَمْ يَقْبَلُوا لَهُ شَهَادَةً وَلَمْ يَفْدُوهُ مِنْ الْكُفَّارِ . يَقُولُونَ : هَذَا مُشَبِّهٌ ؛ هَذَا مُجَسِّمٌ لِقَوْلِهِ : إنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَنَحْوَ ذَلِكَ . فَدَامَتْ هَذِهِ الْمِحْنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فِي أَوَاخِرِ خِلَافَةِ الْمَأْمُونِ وَخِلَافَةِ أَخِيهِ الْمُعْتَصِمِ وَالْوَاثِقِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَشَفَ الْغُمَّةَ عَنْ الْأُمَّةِ فِي وِلَايَةِ الْمُتَوَكِّلِ عَلَى اللَّهِ الَّذِي جَعَلَ اللَّهُ عَامَّةَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دُونَ ذُرِّيَّةِ الَّذِينَ أَقَامُوا الْمِحْنَةَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ . فَأَمَرَ الْمُتَوَكِّلُ بِرَفْعِ الْمِحْنَةِ وَإِظْهَارِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَنْ يُرْوَى مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ الْإِثْبَاتِ النَّافِي لِلتَّعْطِيلِ . وَكَانَ أُولَئِكَ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ قَدْ بَلَغَ مِنْ تَبْدِيلِهِمْ لِلدِّينِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْتُبُونَ عَلَى سُتُورِ الْكَعْبَةِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَا يَقُولُونَ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْتَحِنُونَ النَّاسَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فَإِذَا قَالُوا وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ وَمَذْهَبُ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا أَنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ

تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ . فَلَا يَنْفُونَ عَنْ اللَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ . لَا فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَاتَه لَا تُشْبِهُ الذَّوَاتِ فَصِفَاتُهُ لَا تُشْبِهُ الصِّفَاتِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى بَعَثَ الرُّسُلَ فَوَصَفُوهُ بِإِثْبَاتِ مُفَصَّلٍ وَنَفْيٍ مُجْمَلٍ . وَأَعْدَاءُ الرُّسُلِ : الْجَهْمِيَّة الْفَلَاسِفَةُ وَنَحْوُهُمْ وَصَفُوهُ بِنَفْيٍ مُفَصَّلٍ وَإِثْبَاتٍ مُجْمَلٍ . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّهُ : بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّهُ حَيٌّ قَيُّومٌ وَأَنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَأَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ . وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ وَالصَّابِرِينَ وَأَنَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَأَنَّهُ رَضِيَ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَنَّهُ يَغْضَبُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَلْعَنُهُمْ وَأَنَّهُ إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ . وَأَنَّهُ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ مِنْ اللَّهِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَمَا قَالَ : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } وَقَالَ تَعَالَى : { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } { عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } { إلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ }

وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ صهيب عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ ينجزكموه ؛ فَيَقُولُونَ : مَا هُوَ ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَيُجِرْنَا مِنْ النَّارِ قَالَ : فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ فَمَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهِ ؛ وَهِيَ الزِّيَادَةُ } وَقَدْ اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ } وَ { إنَّ النَّاسَ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : هَلْ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا قَالَ : فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ صَحْوًا لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ : فَإِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ . كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } فَشَبَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ وَلَمْ يُشَبِّهْ الْمَرْئِيَّ بِالْمَرْئِيِّ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَ لَا يُحِيطُونَ بِاَللَّهِ عِلْمًا ؛ وَلَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُهُمْ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } . وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ : مِنْ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ إنَّ " الْإِدْرَاكَ " هُوَ الْإِحَاطَةُ فَالْعِبَادُ يَرَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى عِيَانًا وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ . وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّفْيِ : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا }

{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } . { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ لَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا مِثْلَ لَهُ وَلَا سَمِيَّ لَهُ . فَمَنْ قَالَ : إنَّ عِلْمَ اللَّهِ كَعِلْمِيِّ أَوْ قُدْرَتَهُ كَقُدْرَتِي أَوْ كَلَامَهُ مِثْلُ كَلَامِي أَوْ إرَادَتَهُ وَمَحَبَّتَهُ وَرِضَاهُ وَغَضَبَهُ مِثْلُ إرَادَتِي وَمَحَبَّتِي وَرِضَائِي وَغَضَبِي أَوْ اسْتِوَاءَهُ عَلَى الْعَرْشِ كَاسْتِوَائِي أَوْ نُزُولَهُ كَنُزُولِي أَوْ إتْيَانَهُ كَإِتْيَانِي وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا قَدْ شَبَّهَ اللَّهَ وَمَثَّلَهُ بِخَلْقِهِ تَعَالَى اللَّه عَمَّا يَقُولُونَ وَهُوَ ضَالٌّ خَبِيثٌ مُبْطِلٌ بَلْ كَافِرٌ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا سَمْعٌ وَلَا بَصَرٌ وَلَا مَحَبَّةٌ وَلَا رِضًى وَلَا غَضَبٌ وَلَا اسْتِوَاءٌ وَلَا إتْيَانٌ وَلَا نُزُولٌ فَقَدْ عَطَّلَ أَسْمَاءَ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى وَأَلْحَدَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَهُوَ ضَالٌّ خَبِيثٌ مُبْطِلٌ بَلْ كَافِرٌ ؛ بَلْ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ وَالسَّلَفِ إثْبَاتُ الصِّفَاتِ وَنَفْيُ التَّشْبِيهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ إثْبَاتٌ بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَعْطِيلٍ كَمَا قَالَ نَعِيمُ بْنُ حَمَّادٍ الخزاعي شَيْخُ الْبُخَارِيِّ : مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَنَا أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مَاءً وَلَبَنًا وَخَمْرًا وَعَسَلًا وَلَحْمًا وَفَاكِهَةً وَحَرِيرًا وَذَهَبًا وَفِضَّةً وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجَنَّةِ إلَّا الْأَسْمَاءُ فَإِذَا

كَانَتْ الْمَخْلُوقَاتُ فِي الْجَنَّةِ تُوَافِقُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي الدُّنْيَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالْحَقَائِقُ لَيْسَتْ مِثْلَ الْحَقَائِقِ فَكَيْفَ يَكُونُ الْخَالِقُ مِثْلَ الْمَخْلُوقِ إذَا وَافَقَهُ فِي الِاسْمِ . وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَأَخْبَرَ عَنْ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا وَأَخْبَرَ أَنَّهُ حَيٌّ وَعَنْ بَعْضِ عِبَادِهِ أَنَّهُ حَيٌّ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَأَخْبَرَ عَنْ نَبِيِّهِ أَنَّهُ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا . وَأَخْبَرَ أَنَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وَأَخْبَرَ عَنْ بَعْضِ عِبَادِهِ بِأَنَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا . وَسَمَّى نَفْسَهُ الْمَلِكَ وَسَمَّى بَعْضَ عِبَادِهِ الْمَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِثْلَ هَذَا . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَانَ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا كَأَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ : مِثْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ عَلَى هَذَا إثْبَاتٌ بِلَا تَشْبِيهٍ وَتَنْزِيهٌ بِلَا تَعْطِيلٍ لَا يَقُولُونَ بِقَوْلِ أَهْلِ التَّعْطِيلِ نفاة الصِّفَاتِ وَلَا بِقَوْلِ أَهْلِ التَّمْثِيلِ الْمُشَبِّهَةِ لِلْخَالِقِ بِالْمَخْلُوقَاتِ فَهَذِهِ طَرِيقَةُ الرُّسُلِ وَمَنْ آمَنَ بِهِمْ . وَأَمَّا الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَأَشْبَاهِهِمْ فَيَصِفُونَ الرَّبَّ تَعَالَى " بِالصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ " لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا لَيْسَ كَذَا وَلَا يَصِفُونَهُ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْإِثْبَاتِ بَلْ بِالسَّلْبِ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ الْمَعْدُومُ فَيَبْقَى مَا ذَكَرُوهُ مُطَابِقًا لِلْمَعْدُومِ فَلَا يَبْقَى

فَرْقٌ بَيْنَ مَا يُثْبِتُونَهُ وَبَيْنَ الْمَعْدُومِ وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّهُ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمَعْدُومِ فَيَتَنَاقَضُونَ يُثْبِتُونَهُ مِنْ وَجْهٍ وَيَجْحَدُونَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ . وَيَقُولُونَ : إنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ لَا يَتَمَيَّزُ بِصِفَةِ . وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ مَا هُوَ مُطْلَقٌ لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا يُقَدِّرُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ فَيُقَدِّرُ أَمْرًا مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْخَارِجِ فَصَارَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلُونَ لَا يَجْعَلُونَ الْخَالِقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَوْجُودًا مُبَايِنًا لِخَلْقِهِ ؛ بَلْ إمَّا أَنْ يَجْعَلُوهُ مُطْلَقًا فِي ذِهْنِ النَّاسِ أَوْ يَجْعَلُوهُ حَالًا فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ يَقُولُونَ هُوَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْمَخْلُوقَاتِ وَخَلَقَهَا فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا وَلَمْ يُدْخِلْهَا فِيهِ فَلَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا . فالْجَهْمِيَّة الْمُعَطِّلَةُ نفاة الصِّفَاتِ مِنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ - الَّذِينَ امْتَحَنُوا الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ - كَانُوا عَلَى هَذَا الضَّلَالِ فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَنَصَرَهُمْ . بَقِيَ هَذَا النَّفْيُ فِي نُفُوسِ كَثِيرٍ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ فَصَارُوا يُظْهِرُونَ تَارَةً مَعَ الرَّافِضَةِ الْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ وَتَارَةً مَعَ الْجَهْمِيَّة الِاتِّحَادِيَّةِ وَتَارَةً يُوَافِقُونَهُمْ

عَلَى أَنَّهُ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَلَا يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ . وَصَاحِبُ " الْمُرْشِدَةِ " كَانَتْ هَذِهِ عَقِيدَتَهُ كَمَا قَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي كِتَابٍ لَهُ كَبِيرٍ شَرَحَ فِيهِ مَذْهَبَهُ فِي ذَلِكَ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وُجُودٌ مُطْلَقٌ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَابْنُ سَبْعِينَ وَأَمْثَالُهُمْ . وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ فِي " مُرْشِدَتِهِ " الِاعْتِقَادَ الَّذِي يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْعِلْمِ وَالدِّينِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ وَالْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ كَمَا يَذْكُرُهُ أَئِمَّةُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنْبَلِيَّةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ : مِنْ الْكُلَّابِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ والكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ وَمَشَايِخِ التَّصَوُّفِ وَالزُّهْدِ وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَيٌّ عَالِمٌ بِعِلْمٍ قَادِرٌ بِقُدْرَةِ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ } وَقَالَ تَعَالَى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إلَّا بِعِلْمِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وَقَالَ تَعَالَى : { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } أَيْ بِقُوَّةِ . وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ . يَقُولُ :

إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ . ثُمَّ لِيَقُلْ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ . اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ - وَيُسَمِّيه بِاسْمِهِ - خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ . وَاقَدْرُ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ . ثُمَّ رَضِّنِي بِهِ } . وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَسَائِرُ مَنْ ذَكَرَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرَى فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ . فَصَاحِبُ " الْمُرْشِدَةِ " لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْإِثْبَاتِ الَّذِي عَلَيْهِ طَوَائِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَلَا ذَكَرَ فِيهَا الْإِيمَانَ بِرِسَالَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَالْحَوْضِ وَشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُصُولَ كُلَّهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ . وَمِنْ عَادَاتِ عُلَمَائِهِمْ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ ذَلِكَ فِي الْعَقَائِدِ الْمُخْتَصَرَةِ بَلْ اقْتَصَرَ فِيهَا عَلَى مَا يُوَافِقُ أَصْلَهُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللَّهَ وُجُودٌ مُطْلَقٌ وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْجَهْمِيَّة

وَالشِّيعَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ اتَّفَقَتْ طَوَائِفُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى إبْطَالِ قَوْلِهِ وَتَضْلِيلِهِ . فَذَكَرَ فِيهَا مَا تَقُولُهُ نفاة الصِّفَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا صِفَةً وَاحِدَةً لِلَّهِ تَعَالَى ثُبُوتِيَّةً وَزَعَمَ فِي أَوَّلِهَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُوجِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُهُ قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَيَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهِ وَبَعْضُهُ لَمْ يَذْكُرْهُ اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فَلَا يَجِبُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَقُولُوا مَا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ . وَقَدْ يَقُولُ الرَّجُلُ كَلِمَةً وَتَكُونُ حَقًّا لَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ النَّاسِ أَنْ يَقُولُوهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَقُولُوهَا فَكَيْفَ إذَا كَانَتْ الْكَلِمَةُ تَتَضَمَّنُ بَاطِلًا ؟ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ النَّفْيِ يَتَضَمَّنُ حَقًّا وَبَاطِلًا فَالْحَقُّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ وَالْبَاطِلُ يَجِبُ اجْتِنَابُهُ . وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِي كِتَابٍ كَبِيرٍ . وَذَكَرْنَا سَبَبَ تَسْمِيَتِهِ لِأَصْحَابِهِ بِالْمُوَحِّدِينَ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ الْمُسْلِمُونَ ؛ إذْ جَمِيعُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَحِّدُونَ وَلَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ أَحَدٌ .

وَ " التَّوْحِيدُ " هُوَ مَا بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } { اللَّهُ الصَّمَدُ } { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } وَهَذِهِ السُّورَةُ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ . وَقَوْلُهُ : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } . فنفاة الْجَهْمِيَّة مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ سَمَّوْا نَفْيَ الصِّفَاتِ تَوْحِيدًا . فَمَنْ قَالَ إنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ . أَوْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ يَرَى فِي الْآخِرَةِ أَوْ قَالَ : " أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك . وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك " لَمْ يَكُنْ مُوَحِّدًا عِنْدَهُمْ ؛ بَلْ يُسَمُّونَهُ مُشَبِّهًا مُجَسِّمًا وَصَاحِبُ " الْمُرْشِدَةِ " لَقَّبَ أَصْحَابَهُ مُوَحِّدِينَ اتِّبَاعًا لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا تَوْحِيدًا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطَانٍ وَأَلْحَدُوا فِي التَّوْحِيدِ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِ الْقُرْآنَ . وَقَالَ أَيْضًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى : إنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَشَاءُ وَهَذَا يُوَافِقُ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ وَعَلِيُّ الأسواري وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِ مَا فَعَلَ وَمَذْهَبُ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللَّهَ عَلَى

كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . سَوَاءٌ شَاءَهُ أَوْ لَمْ يَشَأْهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } . وَقَدْ ثَبَتَ فِي { الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِك . { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ : هَاتَانِ أَهْوَنُ } قَالُوا فَهُوَ يُقَدِّرُ اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَهُوَ لَا يَشَاءُ أَنْ يَفْعَلَهُمَا بَلْ قَدْ أَجَارَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهَا أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَيَجْتَاحَهُمْ أَوْ يُهْلِكَهُمْ بِسَنَةِ عَامَّةٍ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ } { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } فَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَشَاؤُهُ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } فَاَللَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ شَاءَهُ لَفَعَلَهُ بِقُدْرَتِهِ وَهُوَ لَا يَشَاؤُهُ . وَقَدْ شَرَحْنَا مَا ذَكَرَهُ فِيهَا كَلِمَةً كَلِمَةً وَبَيَّنَّا مَا فِيهَا مِنْ صَوَابٍ وَخَطَأٍ وَلَفْظٍ مُجْمَلٍ فِي كِتَابٍ آخَرَ .

فَالْعَالِمُ الَّذِي يَعْلَمُ حَقَائِقَ مَا فِيهَا وَيَعْرِفُ مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَلَا حَاجَةَ لِأَحَدِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى تَعَلُّمِهَا وَقِرَاءَتِهَا وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَعْدِلَ عَمَّا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا إلَى مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّا قَدْ يَتَضَمَّنُ خِلَافَ ذَلِكَ أَوْ يُوقِعَ النَّاسَ فِي خِلَافِ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَضَعَ لِلنَّاسِ عَقِيدَةً وَلَا عِبَادَةً مِنْ عِنْدِهِ ؛ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّبِعَ وَلَا يَبْتَدِعَ وَيَقْتَدِيَ وَلَا يَبْتَدِيَ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا . وَقَالَ لَهُ : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } وَقَالَ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ . فَيَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعَ دِينِهِمْ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعِبَادَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ وَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْعَقْلِ الصَّرِيحِ فَإِنَّ مَا خَالَفَ الْعَقْلَ الصَّرِيحَ فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ وَلَكِنْ فِيهِ أَلْفَاظٌ قَدْ لَا يَفْهَمُهَا بَعْضُ النَّاسِ أَوْ يَفْهَمُونَ مِنْهَا مَعْنًى بَاطِلًا فَالْآفَةُ مِنْهُمْ لَا مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ

اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ . عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .

سُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ تَخَاطَبَ هُوَ وَإِنْسَانٌ عَلَى مَنْ قَرَأَ " الْمُرْشِدَةَ " . قَالَ الْأَوَّلُ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُرْشِدَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ نَقْرَأَهَا قَالَ الْآخَرُ : مَنْ لَا يَقْرَؤُهَا فَهُوَ كَافِرٌ ؟
الْجَوَابُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا هَذَا الْقَائِلُ الثَّانِي الَّذِي قَالَ : مَنْ لَا يَقْرَؤُهَا فَهُوَ كَافِرٌ فَإِنَّهُ كَاذِبٌ ضَالٌّ مُخْطِئٌ جَاهِلٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا عُوقِبَ عُقُوبَةً بَلِيغَةً تُرْدِعُهُ وَأَمْثَالَهُ عَنْ مِثْلِ هَذَا . بَلْ إذَا فُهِمَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ : مَنْ لَمْ يَقْرَأْهَا فَهُوَ كَافِرٌ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِلْمِ كَانَ هُوَ الْكَافِرَ الْمُسْتَحِقَّ لِأَنْ يُسْتَتَابَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
عَنْ قَوْمٍ مُنْتَسِبِينَ إلَى الْمَشَايِخِ : يتوبونهم عَنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالسَّرِقَةِ ؛ وَأَلْزَمُوهُمْ بِالصَّلَاةِ ؛ لَكِنَّهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ عَادَةِ الْبَادِيَةِ فَهَلْ يَجِبُ إقَامَةُ حُدُودِ الصَّلَاةِ أَمْ لَا ؟ وَمَعَ هَذَا شِعَارُهُمْ الرَّفْضُ وَكَشْفُ الرُّءُوسِ وَتَفْتِيلُ الشَّعَرِ وَحَمْلُ الْحَيَّاتِ . ثُمَّ غَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ حُبُّ الشُّيُوخِ . حَتَّى كُلَّمَا عَثَرَ أَحَدُهُمْ أَوْ هَمَّهُ أَمْرٌ اسْتَغَاثَ بِشَيْخِهِ وَيَسْجُدُونَ لَهُمْ مَرَّةً فِي غَيْبَتِهِمْ وَمَرَّةً فِي حُضُورِهِمْ فَتَارَةً يُصَادِفُ السُّجُودَ إلَى الْقِبْلَةِ وَتَارَةً إلَى غَيْرِهَا - حَيْثُ كَانَ شَيْخُهُ - وَيَزْعُمُونَ هَذَا لِلَّهِ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ أَوْلَادَ النَّاسِ حِوَارَاتٍ بِرِضَى الْوَالِدَيْنِ وَبِغَيْرِ رِضَاهُمْ وَرُبَّمَا كَانَ وَلَدُ الرَّجُلِ مُعِينًا لِوَالِدَيْهِ عَلَى السَّعْيِ فِي الْحَلَالِ فَيَأْخُذُهُ وَيُعَلِّمُهُ الدروزة وَيُنْذِرُ لِلْمَوْتَى . وَمِنْهُمْ مَنْ يُوَاخِي النسوان فَإِذَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ قَالَ : لَوْ حَصَلَ لِي أُمِّك وَأُخْتِك وَأُخْتَيْهِمَا فَإِذَا قِيلَ : لَا تَنْظُرُ أَجْنَبِيَّةً . قَالَ : أَنْظُرُ عِشْرِينَ نَظْرَةً وَيَحْلِفُونَ

بِالْمَشَايِخِ . وَإِذَا نُهُوا عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : أَنْتَ شَرْعِيٌّ . فَهَلْ الْمُنْكَرُ عَلَيْهِمْ مَأْجُورٌ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ اتِّخَاذُ الْخِرْقَةِ عَلَى الْمَشَايِخِ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ انْتِسَابُ كُلِّ طَائِفَةٍ إلَى شَيْخٍ مُعَيَّنٍ يُثَابُ عَلَيْهِ . أَمْ لَا ؟ وَهَلْ التَّارِكُ لَهُ آثِمٌ أَمْ لَا ؟ وَيَقُولُونَ : إنَّ اللَّهَ يَرْضَى لِرِضَا الْمَشَايِخِ وَيَغْضَبُ بِغَضَبِهِمْ وَيَسْتَنِدُونَ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ } وَ { أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ } فَهَلْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لَهُمْ أَمْ هُوَ شَيْءٌ آخَرُ ؟ وَمَنْ هَذِهِ حَالُهُ هَلْ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ ؟ ؟
فَأَجَابَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - :
وَأَمَّا كَشْفُ الرُّءُوسِ وَتَفْتِيلُ الشَّعَرِ وَحَمْلُ الْحَيَّاتِ : فَلَيْسَ هَذَا مِنْ شِعَارِ أَحَدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ ؛ لَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ وَلَا شُيُوخِ الْمُسْلِمِينَ لَا الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَا الْمُتَأَخِّرِينَ وَلَا الشَّيْخِ أَحْمَد بْنِ الرِّفَاعِيِّ وَلَا غَيْرِهِ وَإِنَّمَا اُبْتُدِعَ هَذَا بَعْدَ مَوْتِ الشَّيْخِ أَحْمَد بِمُدَّةِ طَوِيلَةٍ ابْتَدَعَهُ طَائِفَةٌ انْتَسَبَتْ إلَيْهِ فَخَالَفُوا طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ وَخَرَجُوا عَنْ حَقَائِقِ الدِّينِ وَفَارَقُوا طَرِيقَ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُمْ نَوْعَانِ : أَهْلُ حَالٍ إبليسي . وَأَهْلُ مُحَالٍ تلبيسي . فَأَمَّا أَهْلُ " الْأَحْوَالِ "

مِنْهُمْ : فَهُمْ قَوْمٌ اقْتَرَنَتْ بِهِمْ الشَّيَاطِينُ كَمَا يَقْتَرِنُونَ بِإِخْوَانِهِمْ ؛ فَإِذَا حَضَرُوا سَمَاعَ الْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ أَخَذَهُمْ الْحَالُ فَيَزِيدُونَ وَيَرْغُونَ . كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَصْرُوعُ . وَيَتَكَلَّمُونَ بِكَلَامِ لَا يَفْهَمُونَهُ هُمْ وَلَا الْحَاضِرُونَ ؛ وَهِيَ شَيَاطِينُهُمْ تَتَكَلَّمُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ عِنْدَ غَيْبَةِ عُقُولِهِمْ كَمَا يَتَكَلَّمُ الْجِنِّيُّ عَلَى لِسَانِ الْمَصْرُوعِ وَلَهُمْ مُشَابِهُونَ فِي الْهِنْد مِنْ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَمُشَابِهُونَ بِالْمَغْرِبِ يُسَمَّى أَحَدُهُمْ الْمُصَلِّي ؛ وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ فِي الْمَغْرِبِ مِنْ جِنْسِ الزُّطِّ الَّذِينَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ ؛ فَإِذَا كَانَ لِبَعْضِ النَّاسِ مَصْرُوعٌ أَوْ نَحْوُهُ أَعْطَاهُمْ شَيْئًا فَيَجِيئُونَ وَيَضْرِبُونَ لَهُمْ بِالدُّفِّ وَالْمَلَاهِي وَيَحْرُقُونَ وَيُوقِدُونَ نَارًا عَظِيمَةً مُؤَجَّجَةً وَيَضَعُونَ فِيهَا الْحَدِيدَ الْعَظِيمَ حَتَّى يَبْقَى أَعْظَمَ مِنْ الْجَمْرِ وَيَنْصِبُونَ رِمَاحًا فِيهَا أَسِنَّةٌ ثُمَّ يَصْعَدُ أَحَدُهُمْ يَقْعُدُ فَوْقَ أَسِنَّةِ الرِّمَاحِ قُدَّامَ النَّاسِ وَيَأْخُذُ ذَلِكَ الْحَدِيدَ الْمَحْمِيَّ وَيُمِرُّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَأَنْوَاعِ ذَلِكَ . وَيَرَى النَّاسُ حِجَارَةً يُرْمَى بِهَا وَلَا يَرَوْنَ مَنْ رَمَى بِهَا وَذَلِكَ مِنْ شَيَاطِينِهِمْ الَّذِينَ يَصْعَدُونَ بِهِمْ فَوْقَ الرُّمْحِ وَهُمْ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ النَّارَ وَأُولَئِكَ قَدْ لَا يَشْعُرُونَ بِذَلِكَ كَالْمَصْرُوعِ الَّذِي يَضْرِبُ ضَرْبًا وَجِيعًا وَهُوَ لَا يُحِسُّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ يَقَعُ عَلَى الْجِنِّيِّ فَكَذَا حَالُ أَهْلِ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ وَلِهَذَا كُلَّمَا كَانَ الرَّجُلُ أَشْبَهَ بِالْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ كَانَ حَالُهُ أَقْوَى وَلَا يَأْتِيهِمْ الْحَالُ إلَّا عِنْدَ مُؤَذِّنِ الشَّيْطَانِ وَقُرْآنِهِ فَمُؤَذِّنُهُ الْمِزْمَارُ وَقُرْآنُهُ الْغِنَاءُ .

وَلَا يَأْتِيهِمْ الْحَالُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالْقِرَاءَةِ فَلَا لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ فَائِدَةٌ فِي الدِّينِ وَلَا فِي الدُّنْيَا وَلَوْ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ مِنْ جِنْسِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ لَكَانَتْ تَحْصُلُ عِنْدَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الدِّينِيَّةِ وَلَكَانَ فِيهَا فَائِدَةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا لِتَكْثِيرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ عِنْدَ الفاقات وَاسْتِنْزَالِ الْمَطَرِ عِنْدَ الْحَاجَاتِ وَالنَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ عِنْدَ الْمُخَافَاتِ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُ الْأَحْوَالِ الشَّيْطَانِيَّةِ فِي التَّلْبِيسِ يَمْحَقُونَ الْبَرَكَاتِ وَيُقَوُّونَ الْمُخَافَاتِ وَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَلْ هُمْ مَعَ مَنْ أَعْطَاهُمْ وَأَطْعَمَهُمْ وَعَظَّمَهُمْ وَإِنْ كَانَ تتريا ؛ بَلْ يُرَجِّحُونَ التتر عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَيَكُونُونَ مِنْ أَعْوَانِهِمْ وَنُصَرَائِهِمْ الْمَلَاعِينِ وَفِيهِمْ مَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى الْحَالِ بِأَنْوَاعِ مِنْ السِّحْرِ وَالشِّرْكِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ . وَأَمَّا أَهْلُ " الْمُحَالِ " مِنْهُمْ : فَهُمْ يَصْنَعُونَ أَدْوِيَةً كَحَجَرِ الطَّلَقِ وَدُهْنِ الضَّفَادِعِ وَقُشُورِ النَّارِنْجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . يَمْشُونَ بِهَا عَلَى النَّارِ وَيُمْسِكُونَ نَوْعًا مِنْ الْحَيَّاتِ يَأْخُذُونَهَا بِضْعَةً وَيَقْدُمُونَ عَلَى أَكْلِهَا بِفُجُورِ وَمَا يَصْنَعُونَهُ مِنْ السُّكَّرِ وَاللَّاذَنِ وَمَاءِ الْوَرْدِ وَمَاءِ الزَّعْفَرَانِ وَالدَّمِ فَكُلُّ ذَلِكَ حِيَلٌ وَشَعْوَذَةٌ يَعْرِفُهَا الْخَبِيرُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ . وَمِنْهُمْ مَنْ تَأْتِيه الشَّيَاطِينُ وَذَلِكَ هُمْ أَهْلُ الْمُحَالِ الشَّيْطَانِيِّ .

فَصْلٌ :
وَأَمَّا مَا ذَكَرُوا مِنْ غُلُوِّهِمْ فِي الشُّيُوخِ : فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الشُّيُوخَ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ هُمْ الْمُتَّبِعُونَ لِطَرِيقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ كَالسَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانِ وَمَنْ لَهُ فِي الْأُمَّةِ لِسَانُ صِدْقٍ - وَطَرِيقَةُ هَؤُلَاءِ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَاتِّبَاعِ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَتَكُونُ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا . فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } { إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } . وَالرُّسُلُ أَمَرُوا الْخَلْقَ أَنْ لَا يَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ وَأَنْ يُخْلِصُوا لَهُ الدِّينَ فَلَا يَخَافُونَ غَيْرَهُ وَلَا يَرْجُونَ سِوَاهُ وَلَا يَدْعُونَ إلَّا إيَّاهُ . قَالَ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }

فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ . وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ } فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وَالْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ رَسُولُ اللَّهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْأَوَّلِينَ والآخرين خُرُوجٌ عَنْ طَاعَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ وَمَنْ لَمْ يُقِرَّ بَهْ بَاطِنًا وَظَاهِرًا فَهُوَ كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ . وَخَيْرُ الشُّيُوخِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ : أَتْبَعُهُمْ لَهُ وَأَقْرَبُهُمْ وَأَعْرَفُهُمْ بِدِينِهِ وَأَطْوَعُهُمْ لِأَمْرِهِ : كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ . وَسَائِرِ التَّابِعِينَ بِإِحْسَانِ وَأَمَّا الْحَسَبُ فَلِلَّهِ وَحْدَهُ وَلِهَذَا قَالُوا : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَلَمْ يَقُولُوا وَرَسُولُهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } أَيْ : أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ حَسْبُك وَحَسْبُ مَنْ اتَّبَعَك مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَهُوَ وَحْدُهُ يَكْفِيهِمْ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ كَافٍ عَبْدَهُ . كَمَا قَالَ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ } الْآيَةَ .

{ وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ رَبُّنَا قَرِيبٌ فَنُنَاجِيه ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيه ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ } فَهُوَ سُبْحَانَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ رَحِيمٌ وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا وَهُوَ يَعْلَمُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ وَيَرْحَمُهُمْ رَحْمَةً لَا يَرْحَمُهُمْ بِهَا غَيْرُهُ . وَالشُّيُوخُ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ يَدُلُّونَ عَلَيْهِ وَيُرْشِدُونَ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَئِمَّةِ فِي الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ وَيُصَلِّي النَّاسُ خَلْفَهُمْ وَبِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ الَّذِي لِلْحَاجِّ هُوَ يَدُلُّهُمْ عَلَى الْبَيْتِ وَهُوَ وَهُمْ جَمِيعًا يَحُجُّونَ إلَيْهِ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ الْإِلَهِيَّةِ نَصِيبٌ ؛ بَلْ مَنْ جَعَلَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّصَارَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّهِمْ : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَقَدْ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ } وَهَكَذَا أَمَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَدْعُوَ شَيْخًا مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا ؛ بَلْ وَلَا يَدْعُو مَيِّتًا وَلَا غَائِبًا : لَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا غَيْرِهِمْ فَلَا يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ : يَا سَيِّدِي فُلَانٌ أَنَا فِي حَسْبِك أَوْ فِي جِوَارِك وَلَا يَقُولُ : بِك أَسْتَغِيثُ وَبِك أَسْتَجِيرُ وَلَا يَقُولُ : إذَا عَثَرَ : يَا فُلَانُ وَلَا يَقُولُ : مُحَمَّدُ وَعَلِيُّ وَلَا السِّتُّ نَفِيسَةُ وَلَا سَيِّدِي الشَّيْخُ أَحْمَد

وَلَا الشَّيْخُ عَدِيُّ وَلَا الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَلَا نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ دُعَاءُ الْمَيِّتِ وَالْغَائِبِ وَمَسْأَلَتُهُ وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ وَالِاسْتِنْصَارُ بِهِ بَلْ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ وَعِبَادَاتِ الضَّالِّينَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ سَيِّدَ الْخَلْقِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ { أَنَّ النَّاسَ لَمَّا أَجْدَبُوا اسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ . وَقَالَ اللَّهُمَّ إنَّا إذَا أَجْدَبْنَا تَوَسَّلْنَا إلَيْك بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا . وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ } فَكَانُوا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَسَّلُونَ بِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ لَهُمْ كَمَا يَتَوَسَّلُ بِهِ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَسْتَشْفِعُونَ بِهِ إلَى رَبِّهِمْ فَيَأْذَنُ اللَّهُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ فَيَشْفَعُ لَهُمْ . أَلَا تَرَى اللَّهَ يَقُولُ { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلَّا بِإِذْنِهِ } . وَقَالَ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } { وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْهَا شَيْءٌ فِي الْمُلْكِ وَلَا لَهُ شَرِيكَ فِيهِ وَلَا لَهُ ظَهِيرَ أَيْ : مُعِينٌ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَعَاوَنَ الْمُلُوكُ وَبَيَّنَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ عِنْدَهُ لَا تَنْفَعُ إلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ . { وَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجِيءُ النَّاسُ إلَى آدَمَ ثُمَّ نُوحٍ ثُمَّ إبْرَاهِيمَ ثُمَّ مُوسَى ثُمَّ عِيسَى فَيَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ مِنْهُمْ فَلَا يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ سَادَةُ الْخَلْقِ حَتَّى يَأْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131