الكتاب : مجموع الفتاوى
المؤلف : تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

وَالثَّانِي : أَنْ يَقُولَ الْإِجْمَاعُ الْيَوْمَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ . وَيَنْبَنِي ذَلِكَ عَلَى مَسْأَلَةٍ مَعْرُوفَةٍ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَهِيَ : أَنَّ الصَّحَابَةَ مَثَلًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ أَجْمَعَ التَّابِعُونَ أَوْ أَهْلُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَكُونُ هَذَا إجْمَاعًا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْخِلَافَ ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَمَنْ قَالَ : إنَّ مَعَ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعَصْرِ الثَّانِي لَا يَسُوغُ الْأَخْذُ بِالْقَوْلِ الْآخَرِ وَاعْتَقَدَ أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ يُرَكِّبُ مِنْ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ الْمَنْعَ . وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ الْخِلَافَ الْقَدِيمَ حُكْمُهُ بَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْأَقْوَالَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ قَائِلِيهَا فَإِنَّهُ يَسُوغُ الذَّهَابَ إلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي وَافَقَ اجْتِهَادَهُ . وَأَمَّا التَّقْلِيدُ فَيَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ وَفِيهَا قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَيْضًا فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَوْلُ الَّذِي يَقُولُ بِهِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ أَوْ غَيْرُهُمْ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبَاقِيَةُ مَذَاهِبُهُمْ فَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَهُ مُؤَيَّدٌ بِمُوَافَقَةِ هَؤُلَاءِ وَيَعْتَضِدُ بِهِ وَيُقَابِلُ بِهَؤُلَاءِ مَنْ خَالَفَهُمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ . فَيُقَابِلُ بِالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِي أَبَا حَنِيفَةَ وَمَالِكًا إذْ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ مَالِكٌ

وَالْأَوْزَاعِي وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَجُزْ أَنَّ يُقَالَ قَوْلُ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ دُونَ هَذَا إلَّا بِحُجَّةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - :
هَلْ التَّبْلِيغُ وَرَاءَ الْإِمَامِ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ زَمَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمَعَ الْأَمْنِ مِنْ إخْلَالِ شَيْءٍ مِنْ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَالطُّمَأْنِينَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَاتِّصَالِ الصُّفُوفِ وَالِاسْتِمَاعِ لِلْإِمَامِ مِنْ وَرَاءَهُ إنْ وَقَعَ خَلَلٌ مِمَّا ذُكِرَ هَلْ يُطْلَقُ عَلَى فَاعِلِهِ الْبِدْعَةُ ؟ وَهَلْ ذَهَبَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ إلَى بُطْلَانِ صَلَاتِهِ بِذَلِكَ ؟ وَمَا حُكْمُ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ قُرْبَةً فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَمْ يَكُنْ التَّبْلِيغُ وَالتَّكْبِيرُ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى عَهْدِ خُلَفَائِهِ وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانِ طَوِيلٍ إلَّا مَرَّتَيْنِ : مَرَّةً صُرِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ فَرَسٍ رَكِبَهُ فَصَلَّى فِي بَيْتِهِ قَاعِدًا فَبَلَّغَ أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ التَّكْبِيرَ . كَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَمَرَّةً أُخْرَى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بَلَّغَ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مَشْهُورٌ .

مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ كَانَ أَبُو بَكْرٍ مُؤْتَمًّا فِيهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ إمَامًا لِلنَّاسِ فَيَكُونُ تَبْلِيغُ أَبِي بَكْرٍ إمَامًا لِلنَّاسِ وَإِنْ كَانَ مُؤْتَمًّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { كَانَ النَّاسُ يَأْتَمُّونَ بِأَبِي بَكْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ يَأْتَمُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَبْلِيغًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ ؛ لِمَرَضِهِ . وَالْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ لَمَّا احْتَاجُوا أَنْ يَسْتَدِلُّوا عَلَى جَوَازِ التَّبْلِيغِ لِحَاجَةِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ سُنَّةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا هَذَا وَهَذَا يَعْلَمُهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ لَيْسَ بِمُسْتَحَبِّ بَلْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَبْطُلُ صَلَاةُ فَاعِلِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَأَمَّا الْحَاجَةُ لِبُعْدِ الْمَأْمُومِ أَوْ لِضَعْفِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي هَذِهِ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَحْمَد أَنَّهُ جَائِزٌ فِي هَذَا الْحَالِ وَهُوَ أَصَحُّ قَوْلَيْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبَلَغَنِي أَنَّ أَحْمَد تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ وَحَيْثُ جَازَ وَلَمْ يَبْطُلُ فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُخِلَّ بِشَيْءِ مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ .

فَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُبَلِّغُ لَا يَطْمَئِنُّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَإِنْ كَانَ أَيْضًا يَسْبِقُ الْإِمَامَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد . وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ وَأَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَإِنْ كَانَ يُخِلُّ بِالذِّكْرِ الْمَفْعُولِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ وَنَحْوِهِ فَفِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ خِلَافٌ . وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد أَنَّهَا تَبْطُلُ وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّبْلِيغَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ بِدْعَةٌ وَمَنْ اعْتَقَدَهُ قُرْبَةً مُطْلَقَةً فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ إمَّا جَاهِلٌ وَإِمَّا مُعَانِدٌ وَإِلَّا فَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الطَّوَائِفِ قَدْ ذَكَرُوا ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ حَتَّى فِي الْمُخْتَصَرَاتِ . قَالُوا : وَلَا يَجْهَرُ بِشَيْءِ مِنْ التَّكْبِيرِ . إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا وَمَنْ أَصَرَّ عَلَى اعْتِقَادِ كَوْنِهِ قُرْبَةً فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ عَلَى ذَلِكَ لِمُخَالَفَتِهِ الْإِجْمَاعَ هَذَا أَقَلُّ أَحْوَالِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُكَبَّرُ خَلْفَ الْإِمَامِ ؟ .
فَأَجَابَ :
لَا يُشْرَعُ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ خَلْفَ الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ الْمُبَلِّغُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ : بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ فَإِنَّ بِلَالًا لَمْ يَكُنْ يُبَلِّغُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ وَلَمْ يَكُنْ يُبَلِّغُ خَلْفَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَكِنْ لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالنَّاسِ مَرَّةً وَصَوْتُهُ ضَعِيفٌ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي إلَى جَنْبِهِ يُسْمِعُ النَّاسَ التَّكْبِيرَ فَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِذَلِكَ

عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ التَّكْبِيرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ : مِثْلَ ضَعْفِ صَوْتِهِ فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ . وَتَنَازَعُوا فِي بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ يَفْعَلُهُ . عَلَى قَوْلَيْنِ : وَالنِّزَاعُ فِي الصِّحَّةِ مَعْرُوفٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا . غَيْرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ بِاتِّفَاقِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ التَّبْلِيغِ خَلْفَ الْإِمَامِ : هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ بِدْعَةٌ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا التَّبْلِيغُ خَلْفَ الْإِمَامِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَإِنَّمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ الْإِمَامُ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَفْعَلُونَ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُبَلِّغُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ لَمَّا مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعُفَ صَوْتُهُ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُسْمِعُ بِالتَّكْبِيرِ . وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمُبَلِّغِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمَا .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
هَلْ تُجْزِئُ الصَّلَاةُ قُدَّامَ الْإِمَامِ أَوْ خَلْفَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِ قُدَّامَ الْإِمَامِ . فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَصِحُّ مُطْلَقًا وَإِنْ قِيلَ إنَّهَا تُكْرَهُ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَا تَصِحُّ مُطْلَقًا كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِمَا . وَالثَّالِثُ : أَنَّهَا تَصِحُّ مَعَ الْعُذْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِثْلَ مَا إذَا كَانَ زَحْمَةً فَلَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ أَوْ الْجِنَازَةَ إلَّا قُدَّامَ الْإِمَامِ فَتَكُونُ صَلَاتُهُ قُدَّامَ الْإِمَامِ خَيْرًا لَهُ مِنْ تَرْكِهِ لِلصَّلَاةِ . وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَهُوَ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَأَرْجَحُهَا

وَذَلِكَ لِأَنَّ تَرْكَ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْوَاجِبَاتُ كُلُّهَا تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ . وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ فَالْوَاجِبُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْلَى بِالسُّقُوطِ ؛ وَلِهَذَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُصَلِّي مَا يَعْجِزُ عَنْهُ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَاللِّبَاسِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ فِي الْأَوْتَارِ لِمُتَابَعَةِ الْإِمَامِ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مُنْفَرِدًا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَدْرَكَهُ سَاجِدًا أَوْ قَاعِدًا كَبَّرَ وَسَجَدَ مَعَهُ وَقَعَدَ مَعَهُ ؛ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ . مَعَ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ لَهُ بِذَلِكَ وَيَسْجُدُ لِسَهْوِ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ هُوَ لَمْ يَسْهَ . وَأَيْضًا فَفِي صَلَاةِ الْخَوْفِ لَا يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَعْمَلُ الْعَمَلَ الْكَثِيرَ وَيُفَارِقُ الْإِمَامَ قَبْلَ السَّلَامِ وَيَقْضِي الرَّكْعَةَ الْأُولَى قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ وَلَوْ فَعَلَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ . وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَذْهَبَ أَكْثَرِ الْبَصْرِيِّينَ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ : أَنَّ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ إذَا صَلَّى جَالِسًا صَلَّى الْمَأْمُومُونَ جُلُوسًا ؛ لِأَجْلِ مُتَابَعَتِهِ فَيَتْرُكُونَ الْقِيَامَ الْوَاجِبَ لِأَجْلِ الْمُتَابَعَةِ كَمَا اسْتَفَاضَتْ

السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلَّوْا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ } . وَالنَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قِيلَ : لَا يَؤُمُّ الْقَاعِدُ الْقَائِمَ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِ مَالِكٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ . وَقِيلَ : بَلْ يَؤُمُّهُمْ وَيَقُومُونَ وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْقُعُودِ مَنْسُوخٌ . كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ . وَقِيلَ : بَلْ ذَلِكَ مُحْكَمٌ وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأسيد بْنِ حضير وَغَيْرِهِ . وَهَذَا مَذْهَبُ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا . وَعَلَى هَذَا فَلَوْ صَلَّوْا قِيَامًا فَفِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ قَوْلَانِ . وَالْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُفْعَلُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ لَا يُمْكِنُهُ الِائْتِمَامُ بِإِمَامِهِ إلَّا قُدَّامَهُ كَانَ غَايَةُ مَا فِي هَذَا أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْمَوْقِفَ لِأَجْلِ الْجَمَاعَةِ وَهَذَا أَخَفُّ مِنْ غَيْرِهِ وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَافُّهُ وَلَمْ يَجْذِبْ أَحَدًا يُصَلِّي مَعَهُ صَلَّى وَحْدَهُ خَلْفَ الصَّفِّ وَلَمْ يَدَعْ الْجَمَاعَةَ كَمَا أَنَّ

الْمَرْأَةَ إذَا لَمْ تَجِدْ امْرَأَةً تُصَافُّهَا فَإِنَّهَا تَقِفُ وَحْدَهَا خَلْفَ الصَّفِّ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ . وَهُوَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْمُصَافَّةِ مَعَ الْإِمْكَانِ لَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُصَافَّةِ .
فَصْلٌ :
وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ وَبَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً جَازَ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ أَوْ نَهْرٌ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ فَفِيهِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : الْمَنْعُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : الْجَوَازُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ . وَأَمَّا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ يَمْنَعُ الرُّؤْيَةَ وَالِاسْتِطْرَاقَ فَفِيهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . قِيلَ : يَجُوزُ وَقِيلَ : لَا يَجُوزُ . وَقِيلَ : يَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ . وَقِيلَ : يَجُوزُ مَعَ الْحَاجَةِ وَلَا يَجُوزُ بِدُونِ الْحَاجَةِ . وَلَا رَيْبَ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْحَاجَةِ مُطْلَقًا : مِثْلَ أَنْ تَكُونَ أَبْوَابُ الْمَسْجِدِ مُغْلَقَةً أَوْ تَكُونَ الْمَقْصُورَةُ الَّتِي فِيهَا الْإِمَامُ

مُغْلَقَةً أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ . فَهُنَا لَوْ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ وَاجِبَةً لَسَقَطَتْ لِلْحَاجَةِ . كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَاجِبَاتِ الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ تَسْقُطُ بِالْعُذْرِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ خَيْرٌ مِنْ صَلَاةِ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَسُئِلَ :
عَمَّنْ يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِلٌ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَرَى مَنْ يَرَاهُ : هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ . وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَد فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمِنْبَرَ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ وَالسُّنَّةُ فِي الصُّفُوفِ أَنْ يُتِمُّوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ . فَمَنْ صَلَّى فِي مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ مَعَ خُلُوِّ مَا يَلِي الْإِمَامَ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَكْرُوهَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ إمَامٍ يُصَلِّي خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ وَقُدَّامَهُ جَمَاعَةٌ . فَهَلْ تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى الْإِمَامِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَمَّا الَّذِينَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَصَلَاتُهُمْ صَحِيحَةٌ بِلَا رَيْبٍ . وَأَمَّا الَّذِينَ قُدَّامَهُ فَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . قِيلَ : تَصِحُّ . وَقِيلَ : لَا تَصِحُّ . وَقِيلَ : تَصِحُّ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُمْ الصَّلَاةُ مَعَهُ إلَّا تَكَلُّفًا وَهَذَا أَوْلَى الْأَقْوَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُئِلَ :
عَنْ الْحَوَانِيتِ الْمُجَاوِرَةِ لِلْجَامِعِ مِنْ أَرْبَابِ الْأَسْوَاقِ ، إذَا اتَّصَلَتْ بِهِمْ الصُّفُوفُ ن فَهَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي حَوَانِيتِهِمْ ؟ .
فَأَجَابَ :
أَمَّا صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا فَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَسُدُّوا الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {

أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } . فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَسُدَّ الصُّفُوفَ الْمُؤَخَّرَةَ مَعَ خُلُوِّ الْمُقَدِّمَةِ وَلَا يُصَفُّ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْحَوَانِيتِ مَعَ خُلُوِّ الْمَسْجِدِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ التَّأْدِيبَ وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُ تَخَطِّيهِ وَيَدْخُلُ لِتَكْمِيلِ الصُّفُوفِ الْمُقَدَّمَةِ فَإِنَّ هَذَا لَا حُرْمَةَ لَهُ . كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُقَدِّمَ مَا يُفْرَشُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَيَتَأَخَّرَ هُوَ وَمَا فُرِشَ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ بَلْ يُزَالُ وَيُصَلِّي مَكَانَهُ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ إذَا امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ بِالصُّفُوفِ صَفُّوا خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَإِذَا اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ حِينَئِذٍ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْأَسْوَاقِ صَحَّتْ صَلَاتُهُمْ . وَأَمَّا إذَا صَفُّوا وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصَّفِّ الْآخَرِ طَرِيقٌ يَمْشِي النَّاسُ فِيهِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُمْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الصُّفُوفِ حَائِطٌ بِحَيْثُ لَا يَرَوْنَ الصُّفُوفَ وَلَكِنْ يَسْمَعُونَ التَّكْبِيرَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمْ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى فِي حَانُوتِهِ وَالطَّرِيقُ خَالٍ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَلَيْسَ

لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِي الْحَانُوتِ وَيَنْتَظِرَ اتِّصَالَ الصُّفُوفِ بِهِ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَسُدَّ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَفِي الدَّكَاكِينِ وَالطُّرُقَاتِ اخْتِيَارًا هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
إنْ اتَّصَلَتْ الصُّفُوفُ فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ لِمَنْ تَأَخَّرَ وَلَمْ يُمْكِنْهُ إلَّا ذَلِكَ . وَأَمَّا إذَا تَعَمَّدَ الرَّجُلُ أَنْ يَقْعُدَ هُنَاكَ . وَيَتْرُكَ الدُّخُولَ إلَى الْمَسْجِدِ كَاَلَّذِينَ يَقْعُدُونَ فِي الْحَوَانِيتِ فَهَؤُلَاءِ مُخْطِئُونَ مُخَالِفُونَ لِلسُّنَّةِ . فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا ؟ قَالَ : يُكْمِلُونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ } . وَقَالَ : { خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا } . وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ بَلْ كَانَ بَيْنَ الصُّفُوفِ طَرِيقٌ فَفِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ هُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد.

أَحَدُهُمَا : لَا تَصِحُّ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ . وَالثَّانِي : تَصِحُّ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ جَامِعٍ بِجَانِبِ السُّوقِ بِحَيْثُ يُسْمَعُ التَّكْبِيرُ مِنْهُ : هَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِي السُّوقِ ؟ أَوْ عَلَى سَطْحِ السُّوقِ ؟ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ ؟ أَمْ لَا ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، إذَا امْتَلَأَ الْجَامِعُ جَازَ أَنْ يُصَلَّى فِي الطُّرُقَاتِ . فَإِذَا امْتَلَأَتْ صَلَّوْا فِيمَا بَيْنَهَا مِنْ الْحَوَانِيتِ . وَغَيْرِهَا . وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّصِلْ الصُّفُوفُ فَلَا . وَكَذَلِكَ فَوْقَ الأسطحة وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ جَمَعَ جَمَاعَةً عَلَى نَافِلَةٍ وَأَمَّهُمْ مِنْ أَوَّلِ رَجَبٍ إلَى آخِرِ رَمَضَانَ يُصَلِّي بِهِمْ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بِعَشْرِ تَسْلِيمَاتٍ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيَتَّخِذُ ذَلِكَ شِعَارًا وَيَحْتَجُّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَالْأَنْصَارِيَّ الَّذِي قَالَ لَهُ : السُّيُولُ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَك فَهَلْ هَذَا مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ أَمْ لَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ ؟ .
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، صَلَاةُ التَّطَوُّعِ فِي جَمَاعَةٍ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ فَهَذَا يُفْعَلُ فِي الْجَمَاعَةِ دَائِمًا كَمَا مَضَتْ بِهِ السُّنَّةُ . الثَّانِي : مَا لَا تُسَنُّ لَهُ الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ : كَقِيَامِ اللَّيْلِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ وَصَلَاةِ الضُّحَى وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .

فَهَذَا إذَا فُعِلَ جَمَاعَةً أَحْيَانًا جَازَ . وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الرَّاتِبَةُ فِي ذَلِكَ فَغَيْرُ مَشْرُوعَةٍ بَلْ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَادُونَ الِاجْتِمَاعَ لِلرَّوَاتِبِ عَلَى مَا دُونَ هَذَا . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا تَطَوَّعَ فِي ذَلِكَ فِي جَمَاعَةٍ قَلِيلَةٍ أَحْيَانًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَحْدَهُ ؛ لَكِنْ لَمَّا بَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَهُ صَلَّى مَعَهُ وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى مَعَهُ حُذَيْفَةُ وَلَيْلَةً أُخْرَى صَلَّى مَعَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَكَذَلِكَ صَلَّى عِنْدَ عتبان بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ فِي مَكَانٍ يَتَّخِذُهُ مُصَلًّى صَلَّى مَعَهُ وَكَذَلِكَ صَلَّى بِأَنَسِ وَأُمِّهِ وَالْيَتِيمِ . وَعَامَّةُ تَطَوُّعَاتِهِ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّيهَا مُفْرَدًا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي التَّطَوُّعَاتِ الْمَسْنُونَةِ فَأَمَّا إنْشَاءُ صَلَاةٍ بِعَدَدِ مُقَدَّرٍ وَقِرَاءَةٍ مُقَدَّرَةٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ تُصَلَّى جَمَاعَةً رَاتِبَةً كَهَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا : " كَصَلَاةِ الرَّغَائِبِ " فِي أَوَّلِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ " وَالْأَلْفِيَّةِ " فِي أَوَّلِ رَجَبٍ وَنِصْفِ شَعْبَانَ وَلَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ فَهَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ الْإِسْلَامِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ الْمُعْتَبَرُونَ وَلَا يُنْشِئُ مِثْلَ هَذَا إلَّا جَاهِلٌ مُبْتَدِعٌ وَفَتْحُ مِثْلِ هَذَا الْبَابِ يُوجِبُ تَغْيِيرَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَخْذِ نَصِيبٍ مِنْ حَالِ الَّذِينَ شَرَعُوا مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
__________
آخِرُ الْمُجَلَّدِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ

الْجُزْءُ الْرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ
كِتَابُ الفِقْهِ
الْجُزْءُ الرَّابِع : من صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ إلى الزَّكَاةِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بَابُ صَلَاةِ أَهْلِ الْأَعْذَارِ
سُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ شَيْخٍ كَبِيرٍ وَقَدْ انْحَلَّتْ أَعْضَاؤُهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ وَلَا يَتَحَرَّكَ وَلَا يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ وَإِذَا سَجَدَ مَا يَسْتَطِيعُ الرَّفْعَ فَكَيْفَ يُصَلِّي ؟
فَأَجَابَ :
أَمَّا الصَّلَاةُ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُصَلِّي قَاعِدًا إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْقِيَامَ وَيُومِئُ بِرَأْسِهِ إيمَاءً بِحَسَبِ حَالِهِ وَإِنْ سَجَدَ عَلَى فَخْذِهِ جَازَ وَيَمْسَحُ بِخِرْقَةٍ إذَا تَخَلَّى وَيُوَضِّئُهُ غَيْرُهُ إذَا أَمْكَنَ وَيَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فيوضيه فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِلَا قَصْرٍ ثُمَّ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ويوضيه الْفَجْرَ . وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّلَاةَ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ ،

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُوَضِّئُهُ وَلَا يُيَمِّمُهُ صَلَّى عَلَى حَسَبِ حَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى قَفَاهُ وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ عَلَى جَنْبِهِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَنْ يُوَجِّهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ صَلَّى إلَى أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَ شَرْقًا أَوْ غَرْبًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَلْ تَجُوزُ صَلَاةُ الْمَرْأَةِ قَاعِدَةً مَعَ قُدْرَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ ؟
فَأَجَابَ :
فَصْلٌ : وَأَمَّا صَلَاةُ الْفَرْضِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ فَلَا تَصِحُّ لَا مِنْ رَجُلٍ وَلَا امْرَأَةٍ بَلْ قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِك } . وَلَكِنْ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ جَالِسًا وَيَجُوزُ التَّطَوُّعُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ بِصَاحِبِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ

يُصَلِّي عَلَى دَابَّتِهِ قِبَلَ أَيِّ جِهَةٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ . وَيَجُوزُ لِلْمَرِيضِ إذَا شَقَّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَجُلٌ لَا يُمْكِنُهُ النُّزُولُ إلَى الْأَرْضِ صَلَّى عَلَى رَاحِلَتِهِ وَالْخَائِفُ مِنْ عَدُوِّهِ إذَا نَزَلَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ :
هَلْ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ أَوْ عَزِيمَةٌ ؟ وَعَنْ صِحَّةِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ الصَّلَاةَ وَأَتَمَّ } .
فَأَجَابَ :
أَمَّا الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ فَهُوَ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ فِي السَّنَةِ

الْأُولَى مِنْ خِلَافَتِهِ لَكِنَّهُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَتَمَّهَا بِمِنًى لِأَعْذَارٍ مَذْكُورَةٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ . وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ خَطَأٌ عَلَى عَائِشَةَ . وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ أَبِي يَحْيَى الْمَدَنِيُّ الْقَدَرِيُّ وَهُوَ وَطَلْحَةُ بْنُ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ ضَعِيفَانِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا هُوَ دُونَ هَذَا . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ " . وَقِيلَ لِعُرْوَةِ : فَلِمَ أَتَمَّتْ عَائِشَةُ الصَّلَاةَ ؟ قَالَ : تَأَوَّلَتْ كَمَا تَأَوَّلَ عُثْمَانُ . فَهَذِهِ عَائِشَةُ تُخْبِرُ بِأَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَابْنُ أُخْتِهَا عُرْوَةُ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهَا : يُذْكَرُ أَنَّهَا أَتَمَّتْ بِالتَّأْوِيلِ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهَا بِذَلِكَ سُنَّةٌ . وَكَذَلِكَ ثَبَتَ { عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ } . وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ نَقَلُوا بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ عَنْهُ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا قَطُّ وَلَكِنَّ الثَّابِتَ عَنْهُ أَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ وَأَفْطَرَ وَكَانَ أَصْحَابُهُ مِنْهُمْ الصَّائِمُ وَمِنْهُمْ الْمُفْطِرُ .

وَأَمَّا الْقَصْرُ فَكُلُّ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَقْصُرُونَ مِنْهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةِ بِمِنًى وَعَرَفَةَ وَغَيْرِهِمَا وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ : هَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ تُرِكَ لِلْأَوْلَى ؟ أَوْ مُسْتَحَبٌّ ؟ أَوْ هُمَا سَوَاءٌ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْإِتْمَامَ أَفْضَلُ . كَقَوْلِ لِلشَّافِعِيِّ . وَالثَّانِي : قَوْلُ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا . كَبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ . وَالثَّالِثُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْقَصْرُ أَفْضَلُ : كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الصَّحِيحِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد . وَالرَّابِعُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ الْإِتْمَامُ مَكْرُوهٌ كَقَوْلِ مَالِكٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَالْخَامِسُ : قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ فِي رِوَايَةٍ . وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ سُنَّةٌ وَأَنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ نِيَّةُ الْقَصْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَنْهُ فِي مَذْهَبِهِ .

وَسُئِلَ :
هَلْ لِمَسَافَةِ الْقَصْرِ قَدْرٌ مَحْدُودٌ عَنْ الشَّارِعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟
فَأَجَابَ :
السُّنَّةُ أَنْ يَقْصُرَ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّيَ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ . هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَلَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا قَطُّ . وَمَا رُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا فِي حَيَاتِهِ } فَهُوَ حَدِيثٌ بَاطِلٌ عِنْدَ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُسَافِرِ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا . فَقِيلَ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ وَالْجُمْعَةَ وَالْعِيدَ أَرْبَعًا وَقِيلَ : يَجُوزُ وَلَكِنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ عِنْدَ عَامَّتِهِمْ لَيْسَ فِيهِ إلَّا خِلَافٌ شَاذٌّ وَلَا يَفْتَقِرُ الْقَصْرُ إلَى نِيَّةٍ ؛ بَلْ لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ حِجَّةَ الْوَدَاعِ يُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ إلَى أَنْ رَجَعَ } وَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ وَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ جَمْعًا وَقَصْرًا . وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا أَنْ يَنْوِيَ لَا جَمْعًا وَلَا قَصْرًا .

وَأَقَامَ بِمِنًى يَوْمَ الْعِيدِ وَ أَمَامَ مِنًى يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَالْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا لَا بِمِنًى وَلَا بِغَيْرِهَا فَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَيَقْصُرُونَ بِهَا وَبِمِنًى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ فُقَهَاءِ الْحِجَازِ كَمَالِكٍ وَابْنِ عُيَيْنَة وَهُوَ قَوْلُ إسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَاخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي عِبَادَاتِهِ . وَقَدْ قِيلَ : يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد وَقِيلَ : لَا يَقْصُرُونَ وَلَا يَجْمَعُونَ . كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَهُوَ أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ . وَالصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ هُنَاكَ كَمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ هُنَاكَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَائِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ هُنَاكَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ ؛ وَلَكِنْ نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ لَمَّا صَلَّى بِهِمْ دَاخِلَ مَكَّةَ وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ يَأْمُرُ أَهْلَ مَكَّةَ بِالْإِتْمَامِ إذَا صَلَّى بِهِمْ فِي الْبَلَدِ وَأَمَّا بِمِنًى فَلَمْ يَكُنْ يَأْمُرُهُمْ بِذَلِكَ .

وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ خَلْفَهُ فَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ النُّسُكِ فَلَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ سَفَرًا قَصِيرًا هُنَاكَ وَقِيلَ : بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِأَجْلِ السَّفَرِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَالْقَوْلُ الثَّانِي هُوَ الصَّوَابُ وَهُوَ أَنَّهُمْ قَصَرُوا لِأَجْلِ سَفَرِهِمْ وَلِهَذَا لَمْ يَكُونُوا يَقْصُرُونَ بِمَكَّةَ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ وَالْقَصْرُ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا فَلَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إلَّا مُسَافِرٌ وَكُلُّ مُسَافِرٍ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ كَمَا { قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ النَّحْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ نَقْصٍ : أَيْ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ " . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَخْتَصُّ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ ؟ أَمْ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ ؟ وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ سَفَرٍ قَصِيرًا كَانَ أَوْ طَوِيلًا كَمَا قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمِنًى وَبَيْنَ مَكَّةَ وَعَرَفَةَ نَحْوُ بَرِيدٍ أَرْبَعِ فَرَاسِخَ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَخُصَّانِ بِسَفَرٍ دُونَ سَفَرٍ لَا بِقَصْرٍ وَلَا بِفِطْرِ وَلَا تَيَمُّمٍ وَلَمْ يَحُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ بِحَدِّ لَا زَمَانِيٍّ وَلَا مَكَانِيٍّ وَالْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ

لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ وَهِيَ مُتَنَاقِضَةٌ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِحَدٍّ صَحِيحٍ . فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُذْرَعُ بِذَرْعِ مَضْبُوطٍ فِي عَامَّةِ الْأَسْفَارِ وَحَرَكَةُ الْمُسَافِرِ تَخْتَلِفُ . وَالْوَاجِبُ أَنْ يُطْلَقَ مَا أَطْلَقَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَيَّدَ مَا قَيَّدَهُ فَيَقْصُرُ الْمُسَافِرُ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ مِنْ الْقَصْرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ . وَمَنْ قَسَّمَ الْأَسْفَارَ إلَى قَصِيرٍ وَطَوِيلٍ وَخَصَّ بَعْضَ الْأَحْكَامِ بِهَذَا وَبَعْضَهَا بِهَذَا وَجَعَلَهَا مُتَعَلِّقَةً بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ فَلَيْسَ مَعَهُ حُجَّةٌ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
إذَا سَافَرَ إنْسَانٌ سَفَرًا مِقْدَارَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ ؛ بَلْ أَرْبَعَةٌ ؛ بَلْ خَمْسَةٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد .

أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لَا الْجَمْعُ وَلَا الْقَصْرُ . وَالثَّانِي : يُبَاحُ الْجَمْعُ دُونَ الْقَصْرِ . وَالثَّالِثُ : يُبَاحُ الْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ خَاصَّةً لِلْمَكِّيِّ وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ قَصِيرًا . وَالرَّابِعُ : يُبَاحُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ . وَالْخَامِسُ : يُبَاحُ ذَلِكَ مُطْلَقًا . وَاَلَّذِي يَجْمَعُ لِلسَّفَرِ هَلْ يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ مُطْلَقًا أَوْ لَا يُبَاحُ إلَّا إذَا كَانَ مُسَافِرًا ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَد مُقِيمًا أَوْ مُسَافِرًا وَلِهَذَا نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّهُ يَجْمَعُ إذَا كَانَ لَهُ شَغْلٌ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى كُلُّ عُذْرٍ يُبِيحُ تَرْكَ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ يُبِيحُ الْجَمْعَ وَلِهَذَا يُجْمَعُ لِلْمَطَرِ وَالْوَحْلِ وَلِلرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ ؛ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَيَجْمَعُ الْمَرِيضُ وَالْمُسْتَحَاضَةُ وَالْمُرْضِعُ فَإِذَا جَدَّ السَّيْرُ بِالْمُسَافِرِ جَمَعَ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا كَمَا مَضَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . يَجْمَعُ النَّاسُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ الْمَكِّيُّ وَغَيْرُ الْمَكِّيِّ مَعَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَفَرُهُمْ قَصِيرٌ . وَكَذَلِكَ جَمَعَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمَتَى قَصَرُوا يَقْصُرُ خَلْفَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُ أَهْلِ مَكَّةَ وَعَرَفَةُ مِنْ مَكَّةَ

بَرِيدٌ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَبَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَد كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ : إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَقْصُرُونَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّوَابُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ بِخِلَافِهِ : أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ . وَلِهَذَا قَالَ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوَقِّتْ لِلْقَصْرِ مَسَافَةً وَلَا وَقْتًا وَقَدْ قَصَرَ خَلْفَهُ أَهْلُ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي الدَّلِيلِ . وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ سَفَرًا . مِثْلَ أَنْ يَتَزَوَّدَ لَهُ وَيَبْرُزَ لِلصَّحْرَاءِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مِثْلِ دِمَشْقَ وَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ قُرَاهَا الشَّجَرِيَّةِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ كَمَا يَنْتَقِلُ مِنْ الصالحية إلَى دِمَشْقَ فَهَذَا لَيْسَ بِمُسَافِرِ كَمَا أَنَّ مَدِينَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقُرَى الْمُتَقَارِبَةِ عِنْدَ كُلِّ قَوْمٍ نَخِيلُهُمْ وَمَقَابِرُهُمْ وَمَسَاجِدُهُمْ قُبَاء وَغَيْرِ قُبَاء وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجُ الْخَارِجِ إلَى قُبَاء سَفَرًا وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَقْصُرُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } فَجَمِيعُ الْأَبْنِيَةِ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الْمَدِينَةِ وَمَا خَرَجَ عَنْ أَهْلِهَا فَهُوَ مِنْ الْأَعْرَابِ أَهْلِ الْعَمُودِ . وَالْمُنْتَقِلُ مِنْ الْمَدِينَةِ مِنْ نَاحِيَةٍ إلَى نَاحِيَةٍ لَيْسَ بِمُسَافِرِ وَلَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَكِنَّ هَذِهِ مَسَائِلُ اجْتِهَادٍ

فَمَنْ فَعَلَ مِنْهَا بِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ وَلَمْ يُهْجَرْ . وَهَكَذَا اخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ هَلْ يُشْتَرَطُ لَهُ نِيَّةٌ ؟ فَالْجُمْهُورُ لَا يَشْتَرِطُونَ النِّيَّةَ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ مُقْتَضَى نُصُوصِهِ . وَالثَّانِي : تُشْتَرَطُ . كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد كالخرقي وَغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَمَنْ عَمِلَ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ .
وَسُئِلَ :
عَنْ سَفَرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَ فِيهِ وَيَفْطُرَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ كَمَا { قَصَرَ أَهْلُ مَكَّةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ } وَعَرَفَةُ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَسِيرَةُ بَرِيدٍ ؛ وَلِأَنَّ السَّفَرَ مُطْلَقٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .

وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ مُسَافِرٍ إلَى بَلَدٍ وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُقِيمَ مُدَّةَ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهَلْ يُتِمُّ الصَّلَاةَ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
إذَا نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِالْبَلَدِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَمَا دُونَهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ . فَإِنَّهُ أَقَامَ بِهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ فَفِيهِ نِزَاعٌ . وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ . وَأَمَّا إنْ قَالَ غَدًا أُسَافِرُ أَوْ بَعْدَ غَدٍ أُسَافِرُ وَلَمْ يَنْوِ الْمُقَامَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ أَبَدًا فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَأَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصَّلَاةَ } . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ :
عَنْ رَجُلٍ خَرَجَ إلَى الْخَرِبَةِ لِأَجْلِ الْحُمَّى وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقِيمُ مُدَّةَ شَهْرَيْنِ . فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ ؟ وَإِذَا جَازَ الْقَصْرُ . فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ أَمْ الْقَصْرُ ؟

فَأَجَابَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ . هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْإِتْمَامَ وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْقَصْرَ وَالصَّحِيحُ أَنَّ كِلَاهُمَا سَائِغٌ فَمَنْ قَصَرَ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَمَنْ أَتَمَّ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ تَنَازَعُوا فِي الْأَفْضَلِ : فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَكٌّ فِي جَوَازِ الْقَصْرِ فَأَرَادَ الِاحْتِيَاطَ فَالْإِتْمَامُ أَفْضَلُ وَأَمَّا مَنْ تَبَيَّنَتْ لَهُ السُّنَّةُ وَعَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَشْرَعْ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يُحِدَّ السَّفَرَ بِزَمَانٍ أَوْ بِمَكَانِ وَلَا حَدَّ الْإِقَامَةَ أَيْضًا بِزَمَنٍ مَحْدُودٍ لَا ثَلَاثَةٍ وَلَا أَرْبَعَةٍ وَلَا اثْنَا عَشَرَ وَلَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ . كَمَا كَانَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ يَفْعَلُ حَتَّى كَانَ مَسْرُوقٌ قَدْ وَلَّوْهُ وِلَايَةً لَمْ يَكُنْ يَخْتَارُهَا فَأَقَامَ سِنِينَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ . وَقَدْ أَقَامَ الْمُسْلِمُونَ بِنَهَاوَنْدَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَكَانُوا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ حَاجَتَهُمْ لَا تَنْقَضِي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَلَا أَكْثَرَ . كَمَا أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَأَقَامُوا بِمَكَّةَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ يُفْطِرُونَ فِي رَمَضَانَ . وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُقِيمَ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ . وَإِذَا كَانَ التَّحْدِيدُ لَا أَصْلَ لَهُ فَمَا دَامَ الْمُسَافِرُ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَوْ أَقَامَ فِي مَكَانٍ شُهُورًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . كَتَبَهُ : أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة .

وَسُئِلَ :
هَلْ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ أَمْ الْقَصْرُ ؟ وَمَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ؟ وَمَا حُجَّةُ كُلٍّ مِنْهُمْ ؟ وَمَا الرَّاجِحُ مِنْ ذَلِكَ ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، بَلْ فِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ إلَى الْجَمْعِ فَإِنَّ غَالِبَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّيهَا فِي السَّفَرِ إنَّمَا يُصَلِّيهَا فِي أَوْقَاتِهَا . وَإِنَّمَا كَانَ الْجَمْعُ مِنْهُ مَرَّاتٍ قَلِيلَةً . وَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ وَظَنُّهُمْ أَنَّ هَذَا يُشْرَعُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ وَالْجَمْعُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَمِيعِ أَسْفَارِهِ كَانَ يُصَلِّي الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ صَلَّى فِي سَفَرِهِ الرُّبَاعِيَّةَ أَرْبَعًا ؛ بَلْ وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مَعَهُ . وَالْحَدِيثُ الَّذِي يُرْوَى { عَنْ عَائِشَةَ : أَنَّهَا أَتَمَّتْ مَعَهُ وَأَفْطَرَتْ } حَدِيثٌ ضَعِيفٌ . بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهَا فِي الصَّحِيحِ : " أَنَّ الصَّلَاةَ أَوَّلَ مَا فُرِضَتْ كَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ

صَلَاةُ السَّفَرِ " . وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَإِنَّ نَفْيَ الْجُنَاحِ لِبَيَانِ الْحُكْمِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقَصْرُ هُوَ السُّنَّةَ . كَمَا قَالَ : { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } نَفَى الْجُنَاحَ لِأَجْلِ الشُّبْهَةِ الَّتِي عَرَضَتْ لَهُمْ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَجْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلطَّوَافِ بَيْنَهُمَا وَالطَّوَافُ بَيْنَهُمَا مَأْمُورٌ بِهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ . وَهُوَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ الْخَوْفَ وَالسَّفَرَ لِأَنَّ الْقَصْرَ يَتَنَاوَلُ قَصْرَ الْعَدَدِ وَقَصْرَ الْأَرْكَانِ فَالْخَوْفُ يُبِيحُ قَصْرَ الْأَرْكَانِ وَالسَّفَرُ يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ فَإِذَا اجْتَمَعَا أُبِيحَ الْقَصْرُ بِالْوَجْهَيْنِ وَإِنْ انْفَرَدَ السَّفَرُ أُبِيحَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْقَصْرِ وَالْعُلَمَاءُ مُتَنَازِعُونَ فِي الْمُسَافِرِ : هَلْ فَرْضُهُ الرَّكْعَتَانِ ؟ وَلَا يَحْتَاجُ قَصْرُهُ إلَى نِيَّةٍ ؟ أَمْ لَا يَقْصُرُ إلَّا بِنِيَّةِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ :

وَالْأَوَّلُ : قَوْلُ أَكْثَرِهِمْ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد اخْتَارَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ . وَالثَّانِي : قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَهُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد اخْتَارَهُ الخرقي وَغَيْرُهُ . وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ بِأَصْحَابِهِ وَلَا يُعْلِمُهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَقْصُرُ وَلَا يَأْمُرُهُمْ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ . وَلِهَذَا { لَمَّا سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ نَاسِيًا قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ : أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت ؟ فَقَالَ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ : بَلَى قَدْ نَسِيت } . وَفِي رِوَايَةٍ . { لَوْ كَانَ شَيْءٌ لَأَخْبَرْتُكُمْ بِهِ } وَلَمْ يَقُلْ لَوْ قُصِرَتْ لَأَمَرْتُكُمْ أَنْ تَنْوُوا الْقَصْرَ وَكَذَلِكَ لَمَّا جَمَعَ بِهِمْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ جَمَعَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَجْمَعُ حَتَّى يَقْضِيَ الصَّلَاةَ الْأُولَى فَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَنْوِيَ حِينَ الشُّرُوعِ فِي الْأُولَى كَقَوْلِ الْجُمْهُورِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَد يُوَافِقُ ذَلِكَ . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّرْبِيعِ فِي السَّفَرِ : هَلْ هُوَ حَرَامٌ ؟ أَوْ مَكْرُوهٌ ؟ أَوْ تَرْكُ الْأَوْلَى ؟ أَوْ هُوَ الرَّاجِحُ ؟ فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ : أَنَّ الْقَصْرَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا

وَمَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَأَحْمَد فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَلْ نَصُّهُمَا أَنَّ الْإِتْمَامَ مَكْرُوهٌ . وَمَذْهَبُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ : أَنَّ الْقَصْرَ هُوَ الْأَفْضَلُ وَالتَّرْبِيعَ تَرْكُ الْأَوْلَى . وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّ التَّرْبِيعَ أَفْضَلُ وَهَذَا أَضْعَفُ الْأَقْوَالِ . وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْخَوَارِجِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَصْرُ إلَّا مَعَ الْخَوْفِ وَيَذْكُرُ هَذَا قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ } وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ عُمَرُ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يُسَوَّى بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ وَفِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا أَفْضَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ حَاجَةً عِنْدَ الْأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي ظَاهِرِ مَذْهَبَيْهِمَا بَلْ تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْجَمْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ إذَا كَانَ نَازِلًا وَإِنَّمَا يَجْمَعُ إذَا كَانَ سَائِرًا بَلْ عِنْد مَالِكٍ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمُسَافِرُ وَإِنْ كَانَ نَازِلًا .

وَسَبَبُ هَذَا النِّزَاعِ مَا بَلَغَهُمْ مِنْ أَحَادِيثِ الْجَمْعِ فَإِنَّ أَحَادِيثَ الْجَمْعِ قَلِيلَةٌ فَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْقُولٌ بِالتَّوَاتُرِ فَلَمْ يَتَنَازَعُوا فِيهِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ لَمْ يَقُلْ بِغَيْرِهِ لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَ : { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً لِغَيْرِ وَقْتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ بمزدلفة وَصَلَاةَ الْمَغْرِبِ لَيْلَةَ جَمْعٍ } . وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ { فِي الْفَجْرِ لِغَيْرِ وَقْتِهَا } الَّتِي كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِيهِ فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ { أَنَّهُ صَلَّى الْفَجْرَ بمزدلفة بَعْدَ أَنْ بَرِقَ الْفَجْرُ } وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْفَجْرَ لَا يُصَلَّى حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ لَا بمزدلفة وَلَا غَيْرِهَا لَكِنْ بمزدلفة غَلَّسَ بِهَا تَغْلِيسًا شَدِيدًا . وَأَمَّا أَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ فَبَلَغَتْهُمْ أَحَادِيثُ فِي الْجَمْعِ صَحِيحَةٌ كَحَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُعَاذٍ وَكُلُّهَا مِنْ الصَّحِيحِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّاهُمَا جَمِيعًا وَإِذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ رَكِبَ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَجِلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ " أَنَّ

ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ " بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ . وَيَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي سَفْرَةٍ سافرها فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَكَذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . قَالَ : فَقُلْت : مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ } بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } . وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } قَالَ أَيُّوبُ لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَجْمَعُونَ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَيَجْمَعُ مَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ . وَرُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ الصَّحَابَةِ .

وَقَوْلُهُمْ : " أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْجَمْعِ تَأْخِيرَ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَتَقْدِيمَ الثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَإِنَّ مُرَاعَاةَ مِثْلَ هَذَا فِيهِ حَرَجٌ عَظِيمٌ . ثُمَّ إنَّ هَذَا جَائِزٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَرَفْعُ الْحَرَجِ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَخَّصَ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ فِيمَا يَرْفَعُ بِهِ عَنْهُمْ الْحَرَجَ دُونَ غَيْرِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ . وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ : أَنَّ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ الْأَعْذَارِ ثَلَاثَةٌ وَلِغَيْرِهِمْ خَمْسَةٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ } فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ مَوَاقِيتَ وَالطَّرَفُ الثَّانِي يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ . وَالزُّلَفُ يَتَنَاوَلُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءِ . وَكَذَلِكَ قَالَ : { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } وَالدُّلُوكُ هُوَ الزَّوَالُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ . يُقَالُ : دَلَكَتْ الشَّمْسُ وَزَالَتْ وَزَاغَتْ وَمَالَتْ . فَذَكَرَ الدُّلُوكَ وَالْغَسَقَ وَبَعْدَ الدُّلُوكِ يُصَلَّى الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَفِي الْغَسَقِ تُصَلَّى الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ ذَكَرَ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَهُوَ الدُّلُوكُ وَآخِرَ الْوَقْتِ وَهُوَ الْغَسَقُ وَالْغَسَقُ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ . وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَغَيْرِهِ : الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ . وَإِذَا طَهُرَتْ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ . وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ

وَأَحْمَد . وَأَيْضًا فَجَمْعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بِغَيْرِهِمَا لِلْعُذْرِ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ وَيُؤَخِّرَ الْعَصْرَ إلَى دُخُولِ وَقْتِهَا وَلَكِنْ لِأَجْلِ النُّسُكِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْوُقُوفِ قُدِّمَ الْعَصْرُ . وَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ الْمَرْضِيُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَجْمَعُ بمزدلفة وَعَرَفَةَ مَنْ كَانَ أَهْلُهُ عَلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ كَذَلِكَ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى صَلَّى مَعَهُ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِتَأْخِيرِ الْعَصْرِ وَلَا بِتَقْدِيمِ الْمَغْرِبِ فَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد : أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يَجْمَعُونَ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْبَيِّنَةِ الْوَاضِحَةِ الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا ؛ وَعُذْرُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اعْتَقَدُوا أَنَّ سَبَبَ الْجَمْعِ هُوَ السَّفَرُ الطَّوِيلُ وَالصَّوَابُ أَنَّ الْجَمْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ بَلْ يُجْمَعُ لِلْمَطَرِ وَيُجْمَعُ لِلْمَرَضِ كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ السُّنَّةُ فِي جَمْعِ الْمُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا بِالْجَمْعِ فِي حَدِيثَيْنِ . وَأَيْضًا فَكَوْنُ الْجَمْعِ يَخْتَصُّ بِالطَّوِيلِ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد : أَحَدُهُمَا : يُجْمَعُ فِي الْقَصِيرِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا . وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ :
عَنْ الْجَمْعِ وَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ ؟
فَأَجَابَ :
وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّمَا كَانَ يَجْمَعُ بَعْضَ الْأَوْقَاتِ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ وَكَانَ لَهُ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ . كَمَا جَمَعَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَكَانَ يَجْمَعُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَحْيَانًا كَانَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ صَلَّاهُمَا جَمِيعًا وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ . وَأَمَّا إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا كَمَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِعَرَفَةَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي السُّنَنِ وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يَنْزِلُ إلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ كَمَا كَانَ بِعَرَفَةَ لَا يُفِيضُ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَأَمَّا إذَا كَانَ يَنْزِلُ وَقْتَ الْعَصْرِ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا فَلَيْسَ الْقَصْرُ كَالْجَمْعِ بَلْ الْقَصْرُ سُنَّةٌ رَاتِبَةٌ وَأَمَّا الْجَمْعُ فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ عَارِضَةٌ وَمَنْ سَوَّى مِنْ الْعَامَّةِ بَيْنَ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ جَاهِلٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَقْوَالِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ . فَإِنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا وَالْعُلَمَاءُ

اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا سُنَّةٌ وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ وَتَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْآخَرِ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ هَذَا وَأَوْسَعُ الْمَذَاهِبِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَد فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْحَرَجِ وَالشُّغْلِ بِحَدِيثِ رُوِيَ فِي ذَلِكَ . قَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : يَعْنِي إذَا كَانَ هُنَاكَ شُغْلٌ يُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الْجُمْعَةِ وَالْجَمَاعَةِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَيَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَالِكٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الْجَمْعُ لِلْمَرَضِ وَيَجُوزُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَفِي صَلَاتَيْ النَّهَارِ نِزَاعٌ بَيْنَهُمْ وَيَجُوزُ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَيَجُوزُ لِلْمُرْضِعِ أَنْ تَجْمَعَ إذَا كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهَا غَسْلُ الثَّوْبِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد . وَتَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ : هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ ؟ فَقَالَ جُمْهُورُهُمْ : لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَعَلَيْهِ تَدُلُّ نُصُوصُهُ وَأُصُولُهُ . وَقَالَ اُ لشافعي وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : أَنَّهُ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَدْ بُسِطَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي مَوْضِعِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ صَلَاةِ الْجَمْعِ فِي الْمَطَرِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ ، هَلْ يَجُوزُ مِنْ الْبَرْدِ الشَّدِيدِ ؟ أَوْ الرِّيحِ الشَّدِيدِ ؟ أَمْ لَا يَجُوزُ إلَّا مِنْ الْمَطَرِ خَاصَّةً ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ لِلْمَطَرِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ وَالْوَحْلِ الشَّدِيدِ ، وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسُئِلَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
عَنْ رَجُلٍ يَؤُمُّ قَوْمًا ، وَقَدْ وَقَعَ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ الْمَغْرِبَ فَقَالُوا لَهُ : يَجْمَعُ فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ فَهَلْ لِلْمَأْمُومِينَ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ ؟ أَمْ لَا ؟
فَأَجَابَ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ ، نَعَمْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْوَحْلِ الشَّدِيدِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ الْبَارِدَةِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَطَرُ

نَازِلًا فِي أَصَحِّ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يُصَلُّوا فِي بُيُوتِهِمْ بَلْ تَرْكُ الْجَمْعِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِدْعَةٌ مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ إذْ السُّنَّةُ أَنْ تُصَلَّى الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ . وَالصَّلَاةُ جَمْعًا فِي الْمَسَاجِدِ أَوْلَى مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْبُيُوتِ مُفَرَّقَةً بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الَّذِينَ يُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ : كَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
فَصْلٌ :
وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ فِي الْأَحْوَالِ الْعَارِضَةِ كَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْخَوْفِ وَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَمِثْلِ الصَّلَاةِ لِدَفْعِ الْبَلَاءِ عِنْدَ أَسْبَابِهِ كَصَلَوَاتِ الْآيَاتِ فِي الْكُسُوفِ وَنَحْوِهِ أَوْ الصَّلَاةِ لِاسْتِجْلَابِ النَّعْمَاءِ كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَمِثْلِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ : فَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مُتَّبِعُونَ لِعَامَّةِ الْحَدِيثِ الثَّابِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ فَيُجَوِّزُونَ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الْمَحْفُوظَةِ عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَخْتَارُونَ قَصْرَ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِي السَّفَرِ قَطُّ رُبَاعِيَّةً إلَّا مَقْصُورَةً وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا لَمْ يُبْطِلُوا صَلَاتَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَقَرُّوا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؛ بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَكْرَهُهُ وَإِنْ رَأَى تَرْكَهُ أَفْضَلَ وَفِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ . وَهَذَا بِخِلَافِ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّاتٍ قَلِيلَةً فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ تَرْكَهُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَدَّ بِهِ السَّيْرُ حَتَّى اُخْتُلِفَ عَنْ أَحْمَد : هَلْ يَجُوزُ الْجَمْعُ لِلْمُسَافِرِ النَّازِلِ الَّذِي لَيْسَ بِسَائِرٍ أَمْ لَا ؟ وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعِينَ عَلَى جَوَازِ الْقَصْرِ فِي السَّفَرِ مُخْتَلِفِينَ فِي جَوَازِ الْإِتْمَامِ وَمُجْمِعِينَ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا . وَيُجَوِّزُونَ جَمِيعَ الْأَنْوَاعِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " صَلَاةِ الْكُسُوفِ " . فَأَصَحُّهَا وَأَشْهَرُهَا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ . وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ ثَلَاثُ ركوعات وَأَرْبَعَةٌ وَيُجَوِّزُونَ حَذْفَ الرُّكُوعِ الزَّائِدِ كَمَا جَاءَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُطِيلُونَ السُّجُودَ فِيهَا كَمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَجْهَرُونَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ . كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَكَذَلِكَ " الِاسْتِسْقَاءُ " يُجَوِّزُونَ الْخُرُوجَ إلَى الصَّحْرَاءِ لِصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالدُّعَاءِ كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُجَوِّزُونَ الْخُرُوجَ وَالدُّعَاءَ بِلَا صَلَاةٍ . كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ . وَيُجَوِّزُونَ الِاسْتِسْقَاءَ بِالدُّعَاءِ تَبَعًا لِلصَّلَوَاتِ الرَّاتِبَةِ كَخُطْبَةِ الْجُمْعَةِ وَنَحْوِهَا كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَلِكَ " الْجِنَازَةُ " فَإِنَّ اخْتِيَارَهُمْ أَنَّهُ يُكَبَّرُ عَلَيْهَا أَرْبَعًا كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَهُ غَالِبًا . وَيَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَحْمَد التَّخْمِيسُ فِي التَّكْبِيرِ وَمُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ لِمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَبَّرَ خَمْسًا وَفَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ . وَيَجُوزُ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَهُ التَّسْبِيعُ وَمُتَابَعَةُ الْإِمَامِ فِيهِ لِمَا ثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكَبِّرُونَ أَحْيَانًا سَبْعًا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الرِّوَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ .
أَمَّا بَعْدُ : فَهَذِهِ " قَاعِدَةٌ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ " مِثْلُ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَغَيْرِهِمْ جَعَلُوهَا نَوْعَيْنِ : نَوْعًا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَهُوَ : الْقَصْرُ وَالْفِطْرُ . وَنَوْعًا يَقَعُ فِي الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ كَالتَّيَمُّمِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَأَكْلُ الْمَيْتَةِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ وَأَمَّا الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَمِنْ الْأَوَّلِ وَفِي ذَلِكَ نِزَاعٌ . وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ :

أَحَدُهُمَا الْفَرْقُ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فَيُقَالُ : هَذَا الْفَرْقُ لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ الْأَحْكَامُ الَّتِي عَلَّقَهَا اللَّهُ بِالسَّفَرِ عَلَّقَهَا بِهِ مُطْلَقًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الطَّهَارَةِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } وقَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الصِّيَامِ { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } . وَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } وَقَوْلِ عَائِشَةَ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ وَزِيدَتْ فِي الْحَضَرِ . { وَقَوْلِ عُمَرَ : صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمْعَةِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ } . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَمْسَحُ الْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَالْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَوْلِ { صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ

أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا سَفْرًا أَوْ مُسَافِرِينَ أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ نَوْمٍ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ } وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ فَلْيَتَعَجَّلْ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ } فَهَذِهِ النُّصُوصُ وَغَيْرُهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَيْسَ فِيهَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ سَفَرٍ طَوِيلٍ وَسَفَرٍ قَصِيرٍ . فَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُ فَرْقًا لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَعْلِيقِ الشَّارِعِ الْحُكْمَ بِمُسَمَّى الِاسْمِ الْمُطْلَقِ وَتَفْرِيقِ بَعْضِ النَّاسِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَهُ نَظَائِرُ . مِنْهَا أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الطَّهَارَةَ بِمُسَمَّى الْمَاءِ فِي قَوْلِهِ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَاءٍ وَمَاءٍ وَلَمْ يَجْعَلْ الْمَاءَ نَوْعَيْنِ طَاهِرًا وَطَهُورًا . وَمِنْهَا أَنَّ الشَّارِعَ عَلَّقَ الْمَسْحَ بِمُسَمَّى الْخُفِّ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ خُفٍّ وَخُفٍّ : فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْمَفْتُوقُ وَالْمَخْرُوقُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَيْضًا أَنْ يَثْبُتَ بِنَفْسِهِ .

وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الرَّجْعَةَ فِي مُسَمَّى الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُقَسِّمْ طَلَاقَ الْمَدْخُولِ بِهَا إلَى طَلَاقٍ بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ بَعْدَ طَلْقَتَيْنِ وَافْتِدَاءٍ وَالِافْتِدَاءُ الْفُرْقَةُ بِعِوَضِ وَجَعْلُهَا مُوجِبَةً لِلْبَيْنُونَةِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ يُحْسَبُ مِنْ الثَّلَاثِ . وَهَذَا الْحُكْمُ مُعَلَّقٌ بِهَذَا الْمُسَمَّى لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ بِمُسَمَّى أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَقَوْلِهِ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ يَمِينٍ وَيَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعْلُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ الْمُنْعَقِدَةِ تَنْقَسِمُ إلَى مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ مُخَالِفٌ لِذَلِكَ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ التَّحْرِيمَ بِمُسَمَّى الْخَمْرِ وَبَيَّنَ أَنَّ الْخَمْرَ هِيَ الْمُسْكِرُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ } وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُسْكِرٍ وَمُسْكِرٍ . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِمُسَمَّى الْإِقَامَةِ كَمَا عَلَّقَهُ بِمُسَمَّى السَّفَرِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُقِيمٍ وَمُقِيمٍ . فَجَعْلُ الْمُقِيمِ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمْعَةُ بِغَيْرِهِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ . وَنَوْعًا تَنْعَقِدُ بِهِ لَا أَصْلَ لَهُ . بَلْ الْوَاجِبُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ لَمَّا عَلَّقَهَا الشَّارِعُ بِمُسَمَّى السَّفَرِ فَهِيَ

تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ سَفَرٍ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ السَّفَرُ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا وَلَكِنْ ثَمَّ أُمُورٌ لَيْسَتْ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ بَلْ تُشْرَعُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ حُكْمَهُ بِسَفَرٍ لَكِنَّ الضَّرُورَةَ أَكْثَرُ مَا تَقَعُ بِهِ فِي السَّفَرِ فَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ فَلَا يُجْعَلُ هَذَا مُعَلَّقًا بِالسَّفَرِ . وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَهَلْ يَجُوزُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ ؟ فِيهِ وَجْهَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . ( أَحَدُهُمَا لَا يَجُوزُ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ قِيَاسًا عَلَى الْقَصْرِ . وَ ( الثَّانِي يَجُوزُ كَقَوْلِ مَالِكٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شُرِعَ فِي الْحَضَرِ لِلْمَرَضِ وَالْمَطَرِ فَصَارَ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ إنَّمَا عِلَّتُهُ الْحَاجَةُ لَا السَّفَرُ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَيْسَ مُعَلَّقًا بِالسَّفَرِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ الْقَصْرِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ بَلْ { اسْتَفَاضَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي السَّفَرِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَتْ بِهِ وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ } . وَهَلْ يَسُوغُ ذَلِكَ فِي الْحَضَرِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ فَإِذَا جُوِّزَ

فِي الْحَضَرِ فَفِي الْقَصْرِ أَوْلَى . وَأَمَّا إذَا مُنِعَ فِي الْحَضَرِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .
الْمَقَامُ الثَّانِي :
حَدُّ السَّفَرِ الَّذِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهِ الْفِطْرَ وَالْقَصْرَ . وَهَذَا مِمَّا اضْطَرَبَ النَّاسُ فِيهِ . قِيلَ : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ . وَقِيلَ : يَوْمَيْنِ قَاصِدَيْنِ . وَقِيلَ : أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ . حَتَّى قِيلَ : مِيلٌ . وَاَلَّذِينَ حَدَّدُوا ذَلِكَ بِالْمَسَافَةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ : ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا وَقِيلَ : سِتَّةٌ وَأَرْبَعُونَ وَقِيلَ : خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَقِيلَ أَرْبَعُونَ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ عَنْ مَالِكٍ وَقَدْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي لَا أَعْلَمُ لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَجْهًا . وَهُوَ كَمَا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ التَّحْدِيدَ بِذَلِكَ لَيْسَ ثَابِتًا بِنَصِّ وَلَا إجْمَاعٍ وَلَا قِيَاسٍ . وَعَامَّةُ هَؤُلَاءِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ حَدًّا لِلسَّفَرِ الطَّوِيلِ . وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُسَمِّي سَفَرًا إلَّا مَا بَلَغَ هَذَا الْحَدَّ وَمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يُسَمِّيهِ سَفَرًا . فَاَلَّذِينَ قَالُوا : ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ { لَا تُسَافِرْ امْرَأَةٌ مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ } وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ

قَالَ { مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { مَسِيرَةَ يَوْمٍ } وَفِي السُّنَنِ " بَرِيدًا " فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَفَرٌ وَإِذْنُهُ لَهُ فِي الْمَسْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنَّمَا هُوَ تَجْوِيزٌ لِمَنْ سَافَرَ ذَلِكَ وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ السَّفَرِ كَمَا أَذِنَ لِلْمُقِيمِ أَنْ يَمْسَحَ يَوْمًا وَلَيْلَةً . وَهُوَ لَا يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ أَقَلُّ الْإِقَامَةِ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا : يَوْمَيْنِ اعْتَمَدُوا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ عَنْ الصَّحَابَةِ حَتَّى عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ . وَمَا رُوِيَ { يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَقْصُرُوا فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إلَى عسفان } إنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَرِوَايَةُ ابْنِ خُزَيْمَة وَغَيْرِهِ لَهُ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ عِنْدَ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَكَيْفَ يُخَاطِبُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ بِالتَّحْدِيدِ وَإِنَّمَا أَقَامَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ زَمَنًا يَسِيرًا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ لَا يَحِدُّ لِأَهْلِهَا حَدًّا كَمَا حَدَّهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَا بَالُ التَّحْدِيدِ يَكُونُ لِأَهْلِ مَكَّةَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . وَأَيْضًا فَالتَّحْدِيدُ بِالْأَمْيَالِ وَالْفَرَاسِخِ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا خَاصَّةُ النَّاسِ . وَمَنْ ذَكَرَهُ فَإِنَّمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ تَقْلِيدًا وَلَيْسَ هُوَ مِمَّا يُقْطَعُ بِهِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُقَدِّرْ الْأَرْضَ بِمِسَاحَةٍ أَصْلًا فَكَيْفَ يُقَدِّرُ الشَّارِعُ لِأُمَّتِهِ حَدًّا لَمْ يَجْرِ

لَهُ ذِكْرٌ فِي كَلَامِهِ وَهُوَ مَبْعُوثٌ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارُ السَّفَرِ مَعْلُومًا عِلْمًا عَامًّا وَذَرْعُ الْأَرْضِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ ؛ بَلْ هُوَ إمَّا مُتَعَذَّرٌ وَإِمَّا مُتَعَسِّرٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ الْمُلُوكَ وَنَحْوَهُمْ مَسْحُ طَرِيقٍ فَإِنَّمَا يَمْسَحُونَهُ عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ أَوْ خُطُوطٍ مُنْحَنِيَةٍ انْحِنَاءً مَضْبُوطًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَافِرِينَ قَدْ يَعْرِفُونَ غَيْرَ تِلْكَ الطَّرِيقِ وَقَدْ يَسْلُكُونَ غَيْرَهَا وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسَافَةِ صُعُودٌ وَقَدْ يَطُولُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِبُطْءِ حَرَكَتِهِ وَيَقْصُرُ سَفَرُ بَعْضِهِمْ لِسُرْعَةِ حَرَكَتِهِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ هُوَ نَفْسُ السَّفَرِ لَا نَفْسُ مِسَاحَةِ الْأَرْضِ . وَالْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ فِي تَقْدِيرِ الْأَرْضِ بِالْأَزْمِنَةِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَوْضِ { طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ } وَقَوْلِهِ { بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { إحْدَى أَوْ اثْنَتَانِ أَوْ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً } فَقِيلَ الْأَوَّلُ بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ سَيْرُ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَالثَّانِي سَيْرُ الْبَرِيدِ ؛ فَإِنَّهُ فِي الْعَادَةِ يُقْطَعُ بِقَدْرِ الْمُعْتَادِ سَبْعَ مَرَّاتٍ . وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ يَقُولُونَ يَوْمٌ تَامٌّ وَيَوْمَانِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ حَدَّهُ بِثَمَانِيَةِ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا : مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ قَاصِدِينَ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ لَكِنَّ هَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ : كُلُّ اسْمٍ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الشَّرْعِ فَالْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى الْعُرْفِ فَمَا كَانَ سَفَرًا فِي عُرْفِ النَّاسِ فَهُوَ

السَّفَرُ الَّذِي عَلَّقَ بِهِ الشَّارِعُ الْحُكْمَ وَذَلِكَ مِثْلُ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ بَرِيدٌ وَهَذَا سَفَرٌ ثَبَتَ فِيهِ جَوَازُ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ بِالسُّنَّةِ ؛ وَالْبَرِيدُ هُوَ نِصْفُ يَوْمٍ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَهُوَ رُبُعُ مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ وَلَيْلَتَيْنِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ يُسَمَّى مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الذَّاهِبُ إلَيْهَا أَنْ يَرْجِعَ مِنْ يَوْمِهِ . وَأَمَّا مَا دُونَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ إنْ كَانَتْ مَسَافَةُ الْقَصْرِ مَحْدُودَةً بِالْمِسَاحَةِ : فَقَدْ قِيلَ يَقْصُرُ فِي مِيلٍ . وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ سَافَرْت مِيلًا لَقَصَرْت . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : لَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ وَوُجِدَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ يَقْصُرُونَ فِي هَذَا الْقَدْرِ وَلَمْ يُحِدَّ الشَّارِعُ فِي السَّفَرِ حَدًّا فَقُلْنَا بِذَلِكَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَلَمْ نَجِدْ أَحَدًا يَقْصُرُ بِمَا دُونَ الْمِيلِ . وَلَكِنْ هُوَ عَلَى أَصْلِهِ وَلَيْسَ هَذَا إجْمَاعًا فَإِذَا كَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ يَتَنَاوَلُ مَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ لَا يَعْرِفَ أَحَدًا ذَهَبَ إلَيْهِ كَعَادَتِهِ فِي أَمْثَالِهِ . وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْصُرُ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَإِمَّا أَنْ تَتَعَارَضَ أَقْوَالُهُ أَوْ تُحْمَلَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ . وَالْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : " الْمَقَامُ الْأَوَّلُ " أَنَّ مَنْ سَافَرَ مِثْلَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَاتٍ

يَقْصُرُ وَأَمَّا إذَا قِيلَ لَيْسَتْ مَحْدُودَةً بِالْمَسَافَةِ بَلْ الِاعْتِبَارُ بِمَا هُوَ سَفَرٌ فَمَنْ سَافَرَ مَا يُسَمَّى سَفَرًا قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا . وَقَدْ يَرْكَبُ الرَّجُلُ فَرْسَخًا يَخْرُجُ بِهِ لِكَشْفِ أَمْرٍ وَتَكُونُ الْمَسَافَةُ أَمْيَالًا وَيَرْجِعُ فِي سَاعَةٍ أَوْ سَاعَتَيْنِ وَلَا يُسَمَّى مُسَافِرًا وَقَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ مُسَافِرًا بِأَنْ يَسِيرَ عَلَى الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ سَيْرًا لَا يَرْجِعُ فِيهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ إلَى مَكَانِهِ . وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ .
أَحَدُهَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَفِي أَيَّامِ مِنًى وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَكَانَ يُصَلِّي خَلْفَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَلَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِإِتْمَامِ الصَّلَاةِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ لَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَهْلِ مَكَّةَ - لَمَّا صَلَّى بِالْمُسْلِمِينَ بِبَطْنِ عرنة الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ قَصْرًا وَجَمْعًا : ثُمَّ الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ - يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ . وَلَا أَمَرَهُمْ بِتَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَلَا نَقَلَ أَحَدٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْحَجِيجِ لَا أَهْلَ مَكَّةَ وَلَا غَيْرَهُمْ صَلَّى خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافَ مَا صَلَّى بِجُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ نَقَلَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عُمَرَ قَالَ فِي هَذَا الْيَوْمِ " يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " فَقَدْ غَلِطَ وَإِنَّمَا نُقِلَ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا فِي جَوْفِ مَكَّةَ لِأَهْلِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَهُ لِأَهْلِ مَكَّةَ لَمَّا صَلَّى فِي جَوْفِ مَكَّةَ . وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ قَامُوا فَأَتَمُّوا وَصَلَّوْا أَرْبَعًا وَفَعَلُوا ذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَبِمِنًى أَيَّامَ مِنًى لَكَانَ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ بِالضَّرُورَةِ ؛ بَلْ لَوْ أَخَّرُوا صَلَاةَ الْعَصْرِ ثُمَّ قَامُوا دُونَ سَائِرِ الْحُجَّاجِ فَصَلَّوْهَا قَصْرًا لَنُقِلَ ذَلِكَ فَكَيْفَ إذَا أَتَمُّوا الظُّهْرَ أَرْبَعًا دُونَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ إذَا أَخَذُوا فِي إتْمَامِ الظُّهْرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَرَعَ فِي الْعَصْرِ لَكَانَ إمَّا أَنْ يَنْتَظِرَهُمْ فَيُطِيلَ الْقِيَامَ وَإِمَّا أَنْ يَفُوتَهُمْ مَعَهُ بَعْضُ الْعَصْرِ بَلْ أَكْثَرُهَا ؛ فَكَيْفَ إذَا كَانُوا يُتِمُّونَ الصَّلَوَاتِ ؟ وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ أَهْلَ مَكَّةَ جَمَعُوا مَعَهُ أَظْهَرُ . وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ تَنَازَعُوا فِي أَهْلِ مَكَّةَ هَلْ يَقْصُرُونَ وَيَجْمَعُونَ بِعَرَفَةَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ . فَقِيلَ لَا يَقْصُرُونَ وَلَا يَجْمَعُونَ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَالْقَاضِي فِي " الْمُجَرَّدِ " وَابْنِ عَقِيلٍ فِي " الْفُصُولِ " لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مُعَلَّقٌ بِالسَّفَرِ الطَّوِيلِ ؛ وَهَذَا قَصِيرٌ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ وَلَا يَقْصُرُونَ وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَمِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَالْمَنْقُولَاتُ عَنْ أَحْمَد تُوَافِقُ هَذَا ؛ فَإِنَّهُ أَجَابَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِأَنَّهُمْ لَا يَقْصُرُونَ . وَلَمْ يَقُلْ : لَا يَجْمَعُونَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي فِي الْجَمْعِ وَأَحْسَنَ فِي ذَلِكَ . وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ وَيَقْصُرُونَ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْه وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوسٍ وَابْنِ عُيَيْنَة وَغَيْرِهِمَا : مِنْ السَّلَفِ وَقَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد وَالشَّافِعِيِّ : كَأَبِي الْخَطَّابِ فِي " الْعِبَادَاتِ الْخَمْسِ " وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد ؛ فَإِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ وَمُوَافِقِيهِ رَجَّحُوا الْجَمْعَ لِلْمَكِّيِّ بِعَرَفَةَ . وَأَمَّا " الْقَصْرُ " فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : الْحُجَّةُ مَعَ مَنْ أَبَاحَ الْقَصْرَ لِكُلِّ مُسَافِرٍ إلَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ . وَالْمَعْلُومُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى خِلَافِهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ طَائِفَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَحْمَد : كَانَ بَعْضُهُمْ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي مَسِيرَةِ بَرِيدٍ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِخِلَافِهِ لِمَنْ تَبَيَّنَ السُّنَّةَ وَتَدَبَّرَهَا . فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ وَسِيَاقَهَا عَلِمَ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ قَصْرًا وَجَمْعًا وَلَمْ يَفْعَلُوا خِلَافَ ذَلِكَ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا بِعَرَفَةَ وَلَا

مُزْدَلِفَةَ وَلَا مِنًى : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَإِنَّمَا نُقِلَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ مَكَّةَ كَمَا رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ عَنْهُ وَقَوْلُهُ ذَلِكَ فِي دَاخِلِ مَكَّةَ دُونَ عَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ . وَقَدْ رُوِيَ مِنْ جِهَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِمِنًى " يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " وَلَيْسَ لَهُ إسْنَادٌ . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ لِأَجْلِ النُّسُكِ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . وَهُوَ مُقْتَضَى نَصِّهِ ؛ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْمَكِّيَّ مِنْ الْقَصْرِ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْجَمْعِ وَقَالَ فِي جَمْعِ الْمُسَافِرِ : إنَّهُ يَجْمَعُ فِي الطَّوِيلِ كَالْقَصْرِ عِنْدَهُ وَإِذَا قِيلَ : الْجَمْعُ لِأَجْلِ النُّسُكِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجْمَعُ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ كَمَا تَقُولُهُ الْحَنَفِيَّةُ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجْمَعُ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْجَمْعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَفَرًا وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ : مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد . وَقَدْ يُقَالُ : لِأَنَّ ذَلِكَ سَفَرٌ قَصِيرٌ وَهُوَ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ كَمَا قَالَ هَذَا وَهَذَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فَإِنَّ الْجَمْعَ لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ

يَجْمَعُ فِي حَجَّتِهِ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَلَمْ يَجْمَعْ بِمِنًى وَلَا فِي ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ وَلَكِنْ جَمَعَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْ بِعَرَفَةَ لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ كَمَا قَصَرَ لِلسَّفَرِ ؛ بَلْ لِاشْتِغَالِهِ بِاتِّصَالِ الْوُقُوفِ عَنْ النُّزُولِ وَلِاشْتِغَالِهِ بِالْمَسِيرِ إلَى مُزْدَلِفَةَ وَكَانَ جَمْعُ عَرَفَةَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ وَجَمْعُ مُزْدَلِفَةَ لِأَجْلِ السَّيْرِ الَّذِي جَدَّ فِيهِ وَهُوَ سَيْرُهُ إلَى مُزْدَلِفَةَ وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ فِي سَفَرِهِ : كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَنْزِلُ فَيُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا كَمَا فَعَلَ بمزدلفة . وَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِ مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ ؛ بَلْ الْجَمْعُ الَّذِي جَمَعَهُ هُنَاكَ يُشْرَعُ أَنْ يُفْعَلَ نَظِيرُهُ كَمَا يَقُولُهُ الْأَكْثَرُونَ ؛ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولَ هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْقِيَاسِ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ لِفَوَاتِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ دَلَّ عَلَى فَسَادِهَا وَلَيْسَ فِيمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ ؛ بَلْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ وَالْحُكْمُ إذَا ثَبَتَ بِعِلَّةٍ ثَبَتَ بِنَظِيرِهَا . وَأَمَّا " الْقَصْرُ " فَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِ السَّفَرِ وَلَا تَعَلُّقَ لَا بِالنُّسُكِ وَلَا مُسَوِّغَ لِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ بِعَرَفَةَ وَغَيْرِهَا إلَّا أَنَّهُمْ بِسَفَرِ وَعَرَفَةُ عَنْ الْمَسْجِدِ بَرِيدٌ كَمَا ذَكَرَهُ الَّذِينَ مَسَحُوا ذَلِكَ وَذَكَرَهُ الأزرقي فِي " أَخْبَارِ مَكَّةَ " . فَهَذَا قَصْرٌ فِي سَفَرٍ قَدْرُهُ بَرِيدٌ وَهُمْ لَمَّا رَجَعُوا إلَى مِنًى كَانُوا فِي الرُّجُوعِ مِنْ السَّفَرِ وَإِنَّمَا كَانَ غَايَةُ قَصْدِهِمْ

بَرِيدًا وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ سَفَرِ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ وَبَيْنَ سَفَرِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ إلَى قَدْرِ ذَلِكَ مِنْ بِلَادِهِمْ وَاَللَّهُ لَمْ يُرَخِّصْ فِي الصَّلَاةِ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِمُسَافِرِ فَعُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسَافِرِينَ وَالْمُقِيمُ إذَا اقْتَدَى بِمُسَافِرٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي أَرْبَعًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ فِي مَكَّةَ { أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ } وَهَذَا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ نِزَاعٌ . الدَّلِيلُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ نَهَى أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ : تَارَةً يُقَدِّرُ . وَتَارَةً يُطْلِقُ . وَأَقَلُّ مَا رُوِيَ فِي التَّقْدِيرِ بَرِيدٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَرِيدَ يَكُونُ سَفَرًا . كَمَا أَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامَ تَكُونُ سَفَرًا وَالْيَوْمَيْنِ تَكُونُ سَفَرًا وَالْيَوْمَ يَكُونُ سَفَرًا . هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَيْسَ لَهَا مَفْهُومٌ ؛ بَلْ نَهَى عَنْ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا . الدَّلِيلُ الثَّالِثُ : أَنَّ السَّفَرَ لَمْ يَحُدَّهُ الشَّارِعُ وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ فِي اللُّغَةِ فَرَجَعَ فِيهِ إلَى مَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَيَعْتَادُونَهُ فَمَا كَانَ عِنْدَهُمْ سَفَرًا فَهُوَ سَفَرٌ وَالْمُسَافِرُ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى مَقْصِدِهِ وَيَعُودَ إلَى وَطَنِهِ وَأَقَلُّ ذَلِكَ مَرْحَلَةٌ يَذْهَبُ فِي نِصْفِهَا وَيَرْجِعُ فِي نِصْفِهَا وَهَذَا هُوَ الْبَرِيدُ وَقَدْ حَدُّوا بِهَذِهِ الْمَسَافَةِ " الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ " وَ " كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي " وَ " الْعَدْوَ عَلَى الْخَصْمِ " وَ " الْحَضَانَةَ " وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَوْضِعِهِ . وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد . فَلَوْ كَانَتْ الْمَسَافَةُ

مَحْدُودَةً لَكَانَ حَدُّهَا بِالْبَرِيدِ أَجْوَدَ ؛ لَكِنَّ الصَّوَابَ أَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ مُحَدَّدًا بِمَسَافَةِ ؛ بَلْ يَخْتَلِفُ فَيَكُونُ مُسَافِرًا فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ وَقَدْ يَقْطَعُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا . الدَّلِيلُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْمُسَافِرَ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ فِي رَمَضَانَ وَأَقَلُّ الْفِطْرِ يَوْمٌ وَمَسَافَةُ الْبَرِيدِ يَذْهَبُ إلَيْهَا وَيَرْجِعُ فِي يَوْمٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفِطْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَحْتَاجُ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ ؛ بِخِلَافِ مَا دُونَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَصْرٍ وَلَا فِطْرٍ إذَا سَافَرَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَرَجَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ . وَإِذَا كَانَ غُدُوُّهُ يَوْمًا وَرَوَاحُهُ يَوْمًا فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ وَهَذَا قَدْ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَقْصُرَ وَيُفْطِرَ فِي بَرِيدٍ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ إذَا لَمْ يُعَدَّ مُسَافِرًا . الدَّلِيلُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَيْسَ تَحْدِيدُ مَنْ حَدَّ الْمَسَافَةَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِأَوْلَى مِمَّنْ حَدَّهَا بِيَوْمَيْنِ وَلَا الْيَوْمَانِ بِأَوْلَى مِنْ يَوْمٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ لَهَا حَدٌّ بَلْ كُلُّ مَا يُسَمَّى سَفَرًا يُشْرَعُ [ فِيهِ ذَلِكَ ] (1) . وَقَدْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ الْقَصْرُ فِي مَسَافَةِ بَرِيدٍ فَعُلِمَ أَنَّ فِي الْأَسْفَارِ مَا قَدْ يَكُونُ بَرِيدًا وَأَدْنَى مَا يُسَمَّى سَفَرًا فِي كَلَامِ الشَّارِعِ الْبَرِيدُ . وَأَمَّا مَا دُونَ الْبَرِيدِ كَالْمِيلِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ { عَنْ النَّبِيِّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ وَكَانَ يَأْتِيهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا } وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَهْلَ قُبَاء وَغَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي كَانُوا يَأْتُونَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَقْصُرْ الصَّلَاةَ هُوَ وَلَا هُمْ وَقَدْ كَانُوا يَأْتُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ نَحْوِ مِيلٍ وَفَرْسَخٍ وَلَا يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَالْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ وَالنِّدَاءُ قَدْ يُسْمَعُ مِنْ فَرْسَخٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ أُبِيحَ لَهُ الْقَصْرُ وَالْعَوَالِي بَعْضُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ وَإِنْ كَانَ اسْمُ الْمَدِينَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَسَاكِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } وَقَالَ : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ } . وَأَمَّا مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فَيُنْظَرُ فِيهِ هَلْ هُوَ ثَابِتٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ ثَبَتَ فَالرِّوَايَةُ عَنْهُ مُخْتَلِفَةٌ وَقَدْ خَالَفَهُ غَيْرُهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ إذَا قَطَعْت مِنْ الْمَسَافَةِ مِيلًا وَلَا رَيْبَ أَنْ قُبَاء مِنْ الْمَدِينَةِ أَكْثَرُ مِنْ مِيلٍ وَمَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ وَلَا غَيْرُهُ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ إذَا ذَهَبُوا إلَى قُبَاء . فَقَصْرُ أَهْلِ مَكَّةَ الصَّلَاةَ بِعَرَفَةَ وَعَدَمُ قَصْرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الصَّلَاةَ إلَى قُبَاء وَنَحْوِهَا مِمَّا حَوْلَ الْمَدِينَةِ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْقِ . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَالصَّلَاةُ عَلَى الرَّاحِلَةِ إذَا كَانَتْ مُخْتَصَّةً بِالسَّفَرِ لَا تُفْعَلُ إلَّا فِيمَا يُسَمَّى سَفَرًا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي

خُرُوجِهِ إلَى مَسْجِدِ قُبَاء مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَيْهِ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَلَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الدَّاخِلُونَ مِنْ الْعَوَالِي يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسَافَةَ قَرِيبَةٌ كَالْمَسَافَةِ فِي الْمِصْرِ . وَاسْمُ " الْمَدِينَةِ " يَتَنَاوَلُ الْمَسَاكِنَ كُلَّهَا فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إلَّا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَعْرَابِ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ مَسِيرُهُ إلَى قُبَاء كَأَنَّهُ فِي الْمَدِينَةِ فَلَوْ سُوِّغَ ذَلِكَ سُوِّغَتْ الصَّلَاةُ فِي الْمِصْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ جَمْعًا وَقَصْرًا لَمْ يَكُنْ يَأْمُرُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ وَالْقَصْرِ ؛ بَلْ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بَعْدَهَا ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ الْعَصْرَ وَلَمْ يَكُونُوا نَوَوْا الْجَمْعَ وَهَذَا جَمْعُ تَقْدِيمٍ . وَكَذَلِكَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ صَلَّى بِهِمْ بِذِي الحليفة الْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِنِيَّةِ قَصْرٍ وَفِي الصَّحِيحِ : أَنَّهُ { لَمَّا صَلَّى إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ وَسَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ أَقُصِرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيت قَالَ : لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ قَالَ : بَلَى قَدْ نَسِيت قَالَ : أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ ؟ قَالُوا : نَعَمْ فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ } وَلَوْ كَانَ الْقَصْرُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا نَوَوْهُ لَبَيَّنَ ذَلِكَ وَلَكَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَالْإِمَامُ أَحْمَد لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ فِيمَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَطَ النِّيَّةَ فِي جَمْعٍ وَلَا

قَصْرٍ ؛ وَلَكِنْ ذَكَرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ كالخرقي وَالْقَاضِي . وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَغَيْرُهُ فَقَالُوا : إنَّمَا يُوَافِقُ مُطْلَقَ نُصُوصِهِ . وَقَالُوا لَا يُشْتَرَطُ لِلْجَمْعِ وَلَا لِلْقَصْرِ نِيَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْعُلَمَاءِ : كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمَا ؛ بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَد عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ قَبْل مَغِيبِ الشَّفَقِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ والمروذي وَذَكَرَ ذَلِكَ الْقَاضِي فِي " الْجَامِعِ الْكَبِيرِ " فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْجَمْعِ نِيَّةٌ .
وَلَا تُشْتَرَطُ أَيْضًا " الْمُقَارَنَةُ " فَإِنَّهُ لَمَّا أَبَاحَ أَنْ تُصَلَّى الْعِشَاءُ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِهِ الشَّفَقُ الْأَبْيَضُ لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الْمُتَوَاتِرَ عَنْهُ أَنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِهَا عِنْدَهُ وَحِينَئِذٍ يَخْرُجُ وَقْتُ الْمَغْرِبِ عِنْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا لَهَا فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ بَلْ فِي وَقْتِهَا الْخَاصِّ . وَأَمَّا فِي الْحَضَرِ فَاسْتَحَبَّ تَأْخِيرَهَا إلَى أَنْ يَغِيبَ الْأَبْيَضُ قَالَ : لِأَنَّ الْحُمْرَةَ قَدْ تَسْتُرُهَا الْحِيطَانُ فَيَظُنُّ أَنَّ الْأَحْمَرَ قَدْ غَابَ وَلَمْ يَغِبْ فَإِذَا غَابَ الْبَيَاضُ تَيَقَّنَ مَغِيبَ الْحُمْرَةِ . فَالشَّفَقُ عِنْدَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْحُمْرَةُ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الشَّكُّ فِي الْحَضَرِ لِاسْتِتَارِ الشَّفَقِ بِالْحِيطَانِ احْتَاطَ بِدُخُولِ الْأَبْيَضِ . فَهَذَا مَذْهَبُهُ الْمُتَوَاتِرُ مِنْ نُصُوصِهِ الْكَثِيرَةِ .

وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْهُ أَنَّ الشَّفَقَ فِي الْحَضَرِ الْأَبْيَضِ وَفِي السَّفَرِ الْأَحْمَرِ . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ حَقِيقَتُهَا كَمَا تَقَدَّمَ وَإِلَّا فَلَمْ يَقُلْ أَحْمَد وَلَا غَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّ الشَّفَقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يَخْتَلِفُ بِالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ . وَأَحْمَد قَدْ عَلَّلَ الْفَرْقَ . فَلَوْ حُكِيَ عَنْهُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ كَانَ الْمُفَسَّرُ مِنْ كَلَامِهِ يُبَيِّنُهُ . وَقَدْ حَكَى بَعْضُهُمْ رِوَايَةً عَنْهُ أَنَّ الشَّفَقَ مُطْلَقُ الْبَيَاضِ . وَمَا أَظُنُّ هَذَا إلَّا غَلَطًا عَلَيْهِ . وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّ أَوَّلَ الشَّفَقِ إذَا غَابَ فِي السَّفَرِ خَرَجَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ وَدَخَلَ وَقْتُ الْعِشَاءِ - وَهُوَ يُجَوِّزُ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ - عَلِمَ أَنَّهُ صَلَّاهَا قَبْلَ مَغِيبِهَا لَا بَعْدَ مَغِيبِ الْأَحْمَرِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ بِجَوَازِ الْجَمْعِ . الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ عِنْدَهُ هُوَ الْجَمْعُ فِي الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى كَالْجَمْعِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَالْعِشَاءَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ - حَيْثُ يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ - جَازَ ذَلِكَ وَقَدْ نَصَّ أَيْضًا عَلَى نَظِيرِ هَذَا فَقَالَ : إذَا صَلَّى إحْدَى صَلَاتَيْ الْجَمْعِ فِي بَيْتِهِ وَالْأُخْرَى فِي الْمَسْجِدِ فَلَا بَأْسَ . وَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ هُوَ جَمْعٌ فِي الْوَقْتِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْمُوَاصَلَةُ وَقَدْ تَأَوَّلَ ذَلِكَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ عَلَى قُرْبِ الْفَصْلِ وَهُوَ خِلَافُ النَّصِّ ؛ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَمَّا صَلَّى بِهِمْ بِالْمَدِينَةِ ثَمَانِيًا جَمِيعًا وَسَبْعًا جَمِيعًا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ ابْتِدَاءً بِالنِّيَّةِ وَلَا السَّلَفُ بَعْدَهُ . وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ : كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا وَهُوَ فِي الْقَصْرِ مَبْنِيٌّ عَلَى فَرْضِ الْمُسَافِرِ . فَصَارَتْ الْأَقْوَالُ لِلْعُلَمَاءِ فِي اقْتِرَانِ الْفِعْلِ ثَلَاثَةً .
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاقْتِرَانُ لَا فِي وَقْتِ الْأُولَى وَلَا الثَّانِيَةِ كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّفَرِ وَجَمْعِ الْمَطَرِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَجِبُ الِاقْتِرَانُ فِي وَقْتِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِهِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ؛ فَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى اُشْتُرِطَ الْجَمْعُ وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْأُولَى فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَيُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا فَتَصِحُّ صَلَاتُهُ لَهَا وَإِنْ أَخَّرَهَا وَلَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ . وَعَلَى هَذَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ فِي وَقْتِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ .
وَالثَّالِثُ : تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا يُشْتَرَطُ التَّرْتِيبُ وَهَذَا وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْأُولَى وَأَخَّرَ الثَّانِيَةَ أَثِمَ وَإِنْ كَانَتْ وَقَعَتْ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إذَا أَخَّرَ الْأُولَى إلَّا أَنْ يُصَلِّيَ الثَّانِيَةَ مَعَهَا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ

أَخَّرَهَا إلَى وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَيَكُونُ قَدْ صَلَّاهَا فِي وَقْتِهَا مَعَ الْإِثْمِ . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بِحَالٍ لَا فِي وَقْتِ الْأُولَى وَلَا فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلِأَنَّ مُرَاعَاةَ ذَلِكَ يُسْقِطُ مَقْصُودَ الرُّخْصَةِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِقَوْلِ مَنْ حَمَلَ الْجَمْعَ عَلَى الْجَمْعِ بِالْفِعْلِ وَهُوَ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَيُحْرِمَ بِالثَّانِيَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا كَمَا تَأَوَّلَ جَمْعَهُ عَلَى ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ وَمُرَاعَاةُ هَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ وَأَشَقِّهَا ؛ فَإِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا إذَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ ثَلَاثٍ فِي الْمَغْرِبِ وَيُرِيدُ مَعَ ذَلِكَ أَلَّا يُطِيلَهَا وَإِنْ كَانَ بِنِيَّةِ الْإِطَالَةِ تُشْرَعُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُطِيلَهَا أَوْ أَنْ يَنْتَظِرَ أَحَدًا لِيُحَصِّلْ الرُّكُوعَ وَالْجَمَاعَةَ لَمْ يُشْرَعْ ذَلِكَ وَيَجْتَهِدُ فِي أَنْ يُسَلِّمَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَاعَاةَ هَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْأَشْيَاءِ عِلْمًا وَعَمَلًا وَهُوَ يُشْغِلُ قَلْبَ الْمُصَلِّي عَنْ مَقْصُودِ الصَّلَاةِ وَالْجَمْعُ شُرِعَ رُخْصَةً وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ فَكَيْفَ لَا يُشْرَعُ إلَّا مَعَ حَرَجٍ شَدِيدٍ وَمَعَ مَا يَنْقُضُ مَقْصُودَ الصَّلَاةِ . فَعُلِمَ أَنَّهُ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّيْسِيرُ وَرَفْعُ الْحَرَجِ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَنَّهُ لَا يُسَلِّمُ مِنْ الْأُولَى إلَّا

قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا الْخَاصِّ وَكَيْفَ يَعْلَمُ ذَلِكَ الْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ وَآخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ إنَّمَا يُعْرَفُ عَلَى سَبِيلِ التَّحْدِيدِ بِالظِّلِّ وَالْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ الظِّلِّ وَلَمْ يَكُنْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آلَاتٌ حِسَابِيَّةٌ يَعْرِفُ بِهَا الْوَقْتَ وَلَا مُوَقِّتٌ يَعْرِفُ ذَلِكَ بِالْآلَاتِ الْحِسَابِيَّةِ وَالْمَغْرِبُ إنَّمَا يُعْرَفُ آخِرُ وَقْتِهَا بِمَغِيبِ الشَّفَقِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى جِهَةِ الْغَرْبِ هَلْ غَرَبَ الشَّفَقُ الْأَحْمَرُ أَوْ الْأَبْيَضُ وَالْمُصَلِّي فِي الصَّلَاةِ مَنْهِيٌّ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ . وَإِذَا كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتٍ أَوْ فُسْطَاطٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَسْتُرُهُ عَنْ الْغَرْبِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ النَّظَرُ إلَى الْمَغْرِبِ فَلَا يُمْكِنُهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ يَتَحَرَّى السَّلَامَ فِي آخِرِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ ؛ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُسَلِّمَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِزَمَنٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ مَعَهُ يُسَلِّمُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ . ثُمَّ الثَّانِيَةُ لَا يُمْكِنُهُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَشْرَعَ فِيهَا حَتَّى يَعْلَمَ دُخُولَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ وَكُلْفَةٍ مِمَّا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يُرَاعِيهِ ؛ بَلْ وَلَا أَصْحَابِهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ لِغَالِبِ النَّاسِ إلَّا مَعَ تَفْرِيقِ الْفِعْلِ وَأُولَئِكَ لَا يَكُونُ الْجَمْعُ عِنْدَهُمْ إلَّا مَعَ اقْتِرَانِ الْفِعْلِ وَهَؤُلَاءِ فَهِمُوا مِنْ الْجَمْعِ اقْتِرَانَ الْفِعْلَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ وَقْتَيْنِ وَأُولَئِكَ قَالُوا لَا يَكُونُ

الْجَمْعُ إلَّا فِي وَقْتَيْنِ وَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى تَفْرِيقِ الْفِعْلِ وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ ضَعِيفٌ . وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِأَوْسَعَ مِنْ هَذَا وَهَذَا وَلَمْ تُكَلِّفْ النَّاسَ لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَالْجَمْعُ جَائِزٌ فِي الْوَقْتِ الْمُشْتَرِكِ فَتَارَةً يَجْمَعُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ كَمَا جَمَعَ بِعَرَفَةَ . وَتَارَةً يَجْمَعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ كَمَا جَمَعَ بمزدلفة وَفِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ . وَتَارَةً يَجْمَعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي وَسَطِ الْوَقْتَيْنِ وَقَدْ يَقَعَانِ مَعًا فِي آخِرِ وَقْتِ الْأُولَى وَقَدْ يَقَعَانِ مَعًا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَقَدْ تَقَعُ هَذِهِ فِي هَذَا وَهَذِهِ فِي هَذَا ؛ وَكُلُّ هَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَقْتَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُشْتَرَكٌ وَالتَّقْدِيمُ وَالتَّوَسُّطُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَفِي عَرَفَةَ وَنَحْوِهَا يَكُونُ التَّقْدِيمُ هُوَ السُّنَّةَ .
وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْمَطَرِ : السُّنَّةُ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمَطَرِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ حَتَّى اخْتَلَفَ مَذْهَبُ أَحْمَد هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمَطَرِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ . وَقِيلَ إنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْأَفْضَلَ التَّأْخِيرُ وَهُوَ غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَدِيمِ وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ ظَنَّ أَنَّ التَّأْخِيرَ فِي الْجَمْعِ أَفْضَلُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ يَجُوزُ فِعْلُهَا بَعْدَ الْوَقْتِ عِنْدَ النَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ وَلَا يَجُوزُ فِعْلُهَا قَبْلَ الْوَقْتِ بِحَالِ بَلْ لَوْ صَلَّاهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ أَعَادَهَا وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ بمزدلفة إنَّمَا الْمَشْرُوعُ فِيهِ تَأْخِيرُ الْمَغْرِبِ إلَى

وَقْتِ الْعِشَاءِ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الْعُلَمَاءِ سَوَّغَ لَهُ هُنَاكَ أَنْ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ فِي طَرِيقِهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَغْرِبِ هَلْ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي طَرِيقِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ . وَأَمَّا التَّأْخِيرُ فَهُوَ كَالتَّقْدِيمِ بَلْ صَاحِبُهُ أَحَقُّ بِالذَّمِّ وَمَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَإِنَّ وَقْتَهَا فِي حَقِّهِ حِينَ يَسْتَيْقِظُ وَيَذْكُرُهَا وَحِينَئِذٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِهَا لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ فَلَمْ يُصَلِّهَا إلَّا فِي وَقْتِهَا . وَأَمَّا مَنْ صَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ فَإِنْ كَانَ مُتَعَمِّدًا فَهَذَا فَعَلَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ الْوَقْتِ كَالْمَحْبُوسِ الَّذِي لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ الْوَقْتِ فَهَذَا فِي إجْزَائِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَكَذَلِكَ فِي صِيَامِهِ إذَا صَامَ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ مَعْرِفَةُ شُهُورِ رَمَضَانَ كَالْأَسِيرِ إذَا صَامَ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَفِي إجْزَائِهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَأَمَّا مَنْ صَلَّى فِي الْمِصْرِ قَبْلَ الْوَقْتِ غَلَطًا فَهَذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ وَهَلْ تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ نَفْلًا أَوْ تَقَعُ بَاطِلَةً ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ . وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُبِحْ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَخِّرَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا بِحَالِ كَمَا لَمْ يُبِحْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا بِحَالِ فَلَيْسَ جَمْعُ التَّأْخِيرِ بِأَوْلَى مِنْ جَمْعِ التَّقْدِيمِ ؛ بَلْ ذَاكَ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ وَقَدْ يَكُونُ هَذَا أَفْضَلَ وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ

ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَد الْمَنْصُوصِ عَنْهُ وَغَيْرِهِ . وَمَنْ أَطْلَقَ مِنْ أَصْحَابِهِ الْقَوْلَ بِتَفْضِيلِ أَحَدِهِمَا مُطْلَقًا فَقَدْ أَخْطَأَ عَلَى مَذْهَبِهِ . وَأَحَادِيثُ الْجَمْعِ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْثُورَةٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ وَمُعَاذٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَقَدْ تَأَوَّلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ مَنْ أَنْكَرَ الْجَمْعَ عَلَى تَأْخِيرِ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَتَقْدِيمِ الثَّانِيَةِ إلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا وَقَدْ جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّ الْجَمْعَ كَانَ يَكُونُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَفِي وَقْتِ الْأُولَى وَجَاءَ الْجَمْعُ مُطْلَقًا وَالْمُفَسَّرُ يُبَيِّنُ الْمُطْلَقَ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَرَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ وَيَذْكُرُ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . قَالَ الطَّحَاوِي : حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ إنَّمَا فِيهِ الْجَمْعُ بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ مَنْ فَعَلَهُ وَذَكَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ

وَلَمْ يَذْكُرْ كَيْفَ كَانَ جَمْعُهُ ؛ وَهَذَا إنَّمَا فِيهِ التَّأْخِيرُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ لَا فِيمَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ الْمُثْبِتُونَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذهلي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ مُسْعِدَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَسْرَعَ السَّيْرَ فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَسَأَلْت نَافِعًا فَقَالَ : بَعْدَ مَا غَابَ الشَّفَقُ بِسَاعَةِ وَقَالَ : إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ } وَرَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ اسْتَصْرَخَ عَلَى صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ وَهُوَ بِمَكَّةَ وَهِيَ بِالْمَدِينَةِ فَأَقْبَلَ فَسَارَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ النُّجُومُ فَقَالَ رَجُلٌ كَانَ يَصْحَبُهُ : الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ فَسَارَ ابْنُ عُمَرَ فَقَالَ لَهُ سَالِمٌ : الصَّلَاةَ فَقَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ أَمْرٌ فِي سَفَرٍ جَمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ } . فَسَارَ حَتَّى إذَا غَابَ الشَّفَقُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَسَارَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ ثَلَاثًا . وَرَوَى البيهقي هَذَيْنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَشْهُورٍ قَالَ وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ { نَافِعٍ وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ : فَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّفَقِ حَتَّى ذَهَبَ هَوِيٌّ مِنْ اللَّيْلِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ قَالَ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَوْ حَزَبَهُ أَمْرٌ } . قَالَ : وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى

بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ نَافِعٍ فَذَكَرَ أَنَّهُ سَارَ قَرِيبًا مِنْ رُبُعِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ الدارقطني حَدَّثَنَا ابْنُ صَاعِدٍ والنيسابوري حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : أَنَّهُ أَقْبَلَ مِنْ مَكَّةَ وَجَاءَهُ خَبَرُ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْسُ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : الصَّلَاةَ فَسَكَتَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : الصَّلَاةَ فَقَالَ الَّذِي قَالَ لَهُ " الصَّلَاةَ " : إنَّهُ لَيَعْلَمُ مِنْ هَذَا عِلْمًا لَا أَعْلَمُهُ فَسَارَ حَتَّى إذَا كَانَ بَعْدَ مَا غَابَ الشَّفَقُ بِسَاعَةٍ نَزَلَ فَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَكَانَ لَا يُنَادِي لِشَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ فَأَقَامَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بَعْدَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ بِسَاعَةِ وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ أَيْنَ تَوَجَّهَتْ بِهِ السُّبْحَةُ فِي السَّفَرِ } . وَيُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ . قَالَ البيهقي : اتَّفَقَتْ رِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَأَيُّوبَ السختياني وَعُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ : عَلَى أَنَّ جَمْعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ وَخَالَفَهُمْ مَنْ لَا يُدَانِيهِمْ فِي حِفْظِ أَحَادِيثِ نَافِعٍ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ جَابِرٍ رَوَاهُ عَنْ نَافِعٍ

وَلَفْظُهُ : حَتَّى إذَا كَانَ فِي آخِرِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَقَامَ الصَّلَاةَ وَقَدْ تَوَارَى الشَّفَقُ فَصَلَّى بِنَا ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَقَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا عَجَّلَ بِهِ الْأَمْرُ صَنَعَ هَكَذَا . وَقَالَ : وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ فضيل بْنُ غَزَوَانَ وَعِطَافُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ وَرِوَايَةُ الْحُفَّاظِ مِنْ أَصْحَابِ نَافِعٍ أَوْلَى بِالصَّوَابِ . فَقَدْ رَوَاهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَسْلَمُ مَوْلَى عُمَرَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ذُؤَيْبٍ : عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوَ رِوَايَتِهِمْ أَمَّا حَدِيثُ سَالِمٍ فَرَوَاهُ عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَخِيهِ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَمَّا حَدِيثُ أَسْلَمَ فَأَسْنَدَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ : أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِي { زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَبَلَغَهُ عَنْ صَفِيَّةَ شِدَّةُ وَجَعٍ فَأَسْرَعَ السَّيْرَ حَتَّى إذَا كَانَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ نَزَلَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعَتَمَةَ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ : إنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا } . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي مَرْيَمَ . وَأَسْنَدَ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ أَنَا أَبُو صَالِحٍ وَابْنُ بكير قَالَا حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي { عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْمُسْلِمِينَ صِدْقًا وَدِينًا قَالَ : غَابَتْ الشَّمْسُ وَنَحْنُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَسِرْنَا فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قَدْ أَمْسَى قُلْنَا لَهُ : الصَّلَاةَ فَسَكَتَ حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ وَتَصَوَّبَتْ النُّجُومُ فَنَزَلَ فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا ثُمَّ قَالَ :

رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ صَلَّى صَلَاتِي هَذِهِ يَقُولُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لَيْلٍ } . وَأَمَّا حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأُسْنِدَ مِنْ طَرِيقِ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ { إسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ : صَحِبْت ابْنَ عُمَرَ فَلَمَّا غَابَتْ الشَّمْسُ هِبْنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ قُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا ذَهَبَ بَيَاضُ الْأُفُقِ وَفَحْمَةُ الْعِشَاءِ نَزَلَ فَصَلَّى ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَرَكْعَتَيْنِ ثُمَّ الْتَفَتَ إلَيْنَا فَقَالَ هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُ } . وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ } هَذَا لَفْظُ الْفِعْلِ عَنْ عَقِيلٍ عَنْهُ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ : حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ عَقِيلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا عَجَّلَ بِهِ السَّيْرُ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَيُؤَخِّرُ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ حِينَ يَغِيبُ الشَّفَقُ } . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شَبَّابَةَ : حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَقِيلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَدْخُلَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا } وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ أَنَا الفريابي أَنَا إسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْه أَنَا شَبَّابَةُ بْنُ سَوَّارٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ عَقِيلٍ [ عن ابن شهاب ] (*) عَنْ أَنَسٍ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ فِي السَّفَرِ فَزَالَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ ارْتَحَلَ } . قُلْت : هَكَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِلْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاذٍ فَمِنْ إفْرَادِ مُسْلِمٍ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ وَزُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَقُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ وَهَذَا لَفْظُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ : أَنَّ { مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُمْ : أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءِ } .
قُلْت : الْجَمْعُ عَلَى ثَلَاثِ دَرَجَاتٍ : أَمَّا إذَا كَانَ سَائِرًا فِي وَقْتِ الْأُولَى فَإِنَّمَا يَنْزِلُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ . فَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَهُوَ نَظِيرُ جَمْعِ مُزْدَلِفَةَ . وَأَمَّا إذَا كَانَ وَقْتَ الثَّانِيَةِ سَائِرًا أَوْ رَاكِبًا فَجَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى فَهَذَا نَظِيرُ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ نَازِلًا فِي وَقْتِهِمَا جَمِيعًا نُزُولًا مُسْتَمِرًّا : فَهَذَا مَا عَلِمْت رُوِيَ مَا يُسْتَدَلُّ

بِهِ عَلَيْهِ إلَّا حَدِيثَ مُعَاذٍ هَذَا ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُ كَانَ نَازِلًا فِي خَيْمَةٍ فِي السَّفَرِ وَأَنَّهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا ثُمَّ دَخَلَ إلَى بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا . فَإِنَّ الدُّخُولَ وَالْخُرُوجَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَنْزِلِ وَأَمَّا السَّائِرُ فَلَا يُقَالُ دَخَلَ وَخَرَجَ بَلْ نَزَلَ وَرَكِبَ . وَتَبُوكُ هِيَ آخِرُ غَزَوَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُسَافِرْ بَعْدَهَا إلَّا حِجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَا نُقِلَ أَنَّهُ جَمَعَ فِيهَا إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَأَمَّا بِمِنًى فِلْم يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّهُ جَمَعَ هُنَاكَ بَلْ نَقَلُوا أَنَّهُ كَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ هُنَاكَ وَلَا نَقَلُوا أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا وَلَا يُقَدِّمُ الثَّانِيَةَ إلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ أَحْيَانًا فِي السَّفَرِ وَأَحْيَانًا لَا يَجْمَعُ وَهُوَ الْأَغْلَبُ عَلَى أَسْفَارِهِ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْجَمْعَ لَيْسَ مِنْ سُنَّةِ السَّفَرِ كَالْقَصْرِ ؛ بَلْ يُفْعَلُ لِلْحَاجَةِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ أَوْ الْحَضَرِ فَإِنَّهُ قَدْ جَمَعَ أَيْضًا فِي الْحَضَرِ لِئَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . فَالْمُسَافِرُ إذَا احْتَاجَ إلَى الْجَمْعِ جَمَعَ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِسَيْرِهِ وَقْتَ الثَّانِيَةِ أَوْ وَقْتَ الْأُولَى وَشَقَّ النُّزُولُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ مَعَ نُزُولِهِ لِحَاجَةٍ أُخْرَى : مِثْلَ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى النَّوْمِ وَالِاسْتِرَاحَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ وَوَقْتَ الْعِشَاءِ فَيَنْزِلُ وَقْتَ الظُّهْرِ وَهُوَ تعبان سَهْرَانُ جَائِعٌ مُحْتَاجٌ إلَى رَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَنَوْمٍ فَيُؤَخِّرُ الظُّهْرَ إلَى وَقْتِ الْعَصْرِ

ثُمَّ يَحْتَاجُ أَنْ يُقَدِّمَ الْعِشَاءَ مَعَ الْمَغْرِبِ وَيَنَامَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَسْتَيْقِظَ نِصْفَ اللَّيْلِ لِسَفَرِهِ فَهَذَا وَنَحْوُهُ يُبَاحُ لَهُ الْجَمْعُ.
وَأَمَّا النَّازِلُ أَيَّامًا فِي قَرْيَةٍ أَوْ مِصْرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَهْلِ الْمِصْرِ : فَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَقْصُرُ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ فَلَا يَجْمَعُ كَمَا أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ وَلَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ : فَهَذِهِ الْأُمُورُ أُبِيحَتْ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ ؛ بِخِلَافِ الْقَصْرِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ صَلَاةِ السَّفَرِ . وَالْجَمْعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى كَمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ : مَأْثُورٌ فِي السُّنَنِ : مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِي وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ هَاشِمِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِنْ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعَصْرِ وَفِي الْمَغْرِبِ مِثْلُ ذَلِكَ : إنْ غَابَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَإِنْ ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ حَتَّى يَنْزِلَ لِلْعِشَاءِ ثُمَّ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا } . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثُ مُعَاذٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ . قُلْت : وَقَدْ رَوَاهُ قُتَيْبَةُ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ

أَبِي الطُّفَيْلِ ؛ لَكِنْ أَنْكَرُوهُ عَلَى قُتَيْبَةَ قَالَ البيهقي تَفَرَّدَ بِهِ قُتَيْبَةُ عَنْ اللَّيْثِ وَذَكَرَ عَنْ الْبُخَارِيِّ قَالَ : قُلْت : لقتيبة مَعَ مَنْ كَتَبْت عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدِيثَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ ؟ فَقَالَ : كَتَبْته مَعَ خَالِدٍ الْمَدَائِنِيِّ . قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَكَانَ خَالِدٌ هَذَا يُدْخِلُ الْأَحَادِيثَ عَلَى الشُّيُوخِ . قَالَ البيهقي : وَإِنَّمَا أَنْكَرُوا مِنْ هَذَا رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ . فَأَمَّا رِوَايَةُ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْل : فَهِيَ مَحْفُوظَةٌ صَحِيحَةٌ . قُلْت : وَهَذَا الْجَمْعُ الَّذِي فَسَّرَهُ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ يَدْخُلُ فِي الْجَمْعِ الَّذِي أَطْلَقَهُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ فَمَنْ رَوَى عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ عَامَ تَبُوكَ } . وَهَذَا الْجَمْعُ الْأَوَّلُ : لَيْسَ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ إذَا ارْتَحَلَ بَعْدَ زَيْغِ الشَّمْسِ . وَلَمْ يَنْزِلْ وَقْتَ الْعَصْرِ فَهَذَا مِمَّا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بَلْ يُصَلِّي الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا وَقَدْ يَتَّصِلُ سَيْرُهُ إلَى الْغُرُوبِ : فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمْعِ بِمَنْزِلَةِ جَمْعِ عَرَفَةَ لَمَّا كَانَ الْوُقُوفُ مُتَّصِلًا إلَى الْغُرُوبِ صَلَّى الْعَصْرَ مَعَ الظُّهْرِ ؛ إذْ كَانَ الْجَمْعُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ . وَبِهَذَا تَتَّفِقُ أَحَادِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَإِلَّا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْهُ : أَنَّهُ جَمَعَ بِمِنًى

وَلَا بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَلَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ؛ مَعَ أَنَّهُ أَقَامَ بِهَا بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ : أَنَّهُ جَمَعَ فِي حَجَّتِهِ إلَّا بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ جَمْعُهُ لِقَصْرِهِ . وَقَدْ رُوِيَ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ الْأُولَى فِي الْمِصْرِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مُوَافَقَةً لِحَدِيثِ مُعَاذٍ : ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فَقَالَ : وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ كريب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ حَدِيثِ الْفَضْلِ . قُلْت : هَذَا الْحَدِيثُ مَعْرُوفٌ عَنْ حُسَيْنٍ وَحُسَيْنٌ هَذَا مِمَّنْ يُعْتَبَرُ بِحَدِيثِهِ وَيُسْتَشْهَدُ بِهِ وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ : فَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ وَالنَّسَائِي . وَرَوَاهُ البيهقي مِنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ عُمَرَ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا لَمْ تَزُلْ حَتَّى يَرْتَحِلَ سَارَ حَتَّى إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ نَزَلَ فَجَمَعَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَإِذَا لَمْ تَغِبْ حَتَّى يَرْتَحِلَ سَارَ حَتَّى إذَا أَتَتْ الْعَتَمَةُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } قَالَ البيهقي وَرَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ جريج أَخْبَرَنِي حُسَيْنٌ عَنْ كريب وَكَانَ حُسَيْنٌ سَمِعَهُ مِنْهُمَا جَمِيعًا وَاسْتَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ بِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ وَقَدْ رَوَاهَا الدارقطني وَغَيْرُهُ

وَهِيَ مِنْ كُتُبِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ . قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ جريج : حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَعَنْ كريب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ عَنْ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ ؟ قُلْنَا بَلَى . قَالَ : { كَانَ إذَا زَاغَتْ لَهُ الشَّمْسُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْكَبَ وَإِذَا لَمْ تَزُغْ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ سَارَ حَتَّى إذَا حَانَتْ الْعَصْرُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَإِذَا حَانَتْ لَهُ الْمَغْرِبُ فِي مَنْزِلِهِ جَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ وَإِذَا لَمْ تَحِنْ فِي مَنْزِلِهِ رَكِبَ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْعِشَاءُ نَزَلَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا } . قَالَ الدارقطني وَرَوَاهُ عَبْدُ الْمَجِيدِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ ابْنِ جريج عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ حُسَيْنٍ عَنْ كريب . فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ابْنُ جريج سَمِعَهُ أَوَّلًا مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ حُسَيْنٍ كَقَوْلِ عَبْدِ الْمَجِيدِ عَنْهُ ثُمَّ لَقِيَ ابْنُ جريج حُسَيْنًا فَسَمِعَهُ مِنْهُ كَقَوْلِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَحَجَّاجٍ عَنْ ابْنِ جريج . قَالَ البيهقي : وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ وَيَزِيدَ بْنِ الْهَادِي وَأَبِي رويس الْمَدَنِيِّ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَهُوَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَوَاهِدِهِ يَقْوَى ؛ وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا : حَدِيثَ إبْرَاهِيمَ بْنِ طهمان . عَنْ الْحُسَيْنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ مَسِيرِهِ وَجَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَقَالَ : وَقَالَ

إبْرَاهِيمُ بْنُ طهمان فَذَكَرَهُ . قُلْت قَوْلُهُ : { عَلَى ظَهْرِ مَسِيرِهِ } قَدْ يُرَادُ بِهِ عَلَى ظَهْرِ سَيْرِهِ فِي وَقْتِ الْأُولَى وَهَذَا مِمَّا لَا رَيْبَ فِيهِ وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرِهِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَة كَمَا جَاءَ صَرِيحًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ البيهقي : وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا نَعْلَمُهُ إلَّا مَرْفُوعًا بِمَعْنَى رِوَايَةِ الْحُسَيْنِ وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ بْنُ إسْحَاقَ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا مَرْفُوعًا وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّهُ كَانَ إذَا نَزَلَ مَنْزِلًا فِي السَّفَرِ فَأَعْجَبَهُ الْمَنْزِلُ أَقَامَ فِيهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ " قَالَ إسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا عَارِمٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ فَذَكَرَهُ . قَالَ عَارِمٌ هَكَذَا حَدَّثَ بِهِ حَمَّادٌ قَالَ : " كَانَ إذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا فَأَعْجَبَهُ الْمَنْزِلُ أَقَامَ فِيهِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ " وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ إسْمَاعِيلُ ثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : إذَا كُنْتُمْ سَائِرِينَ فَنَبَا بِكُمْ الْمَنْزِلُ فَسِيرُوا حَتَّى تُصِيبُوا تَجْمَعُونَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كُنْتُمْ نُزُولًا فَعَجَّلَ بِكُمْ أَمْرٌ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا ثُمَّ ارْتَحِلُوا . قُلْت : فَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَمْعِ بِالْمَدِينَةِ صَحِيحٌ مِنْ مَشَاهِيرِ الصِّحَاحِ كَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .

وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَابَتْ لَهُ الشَّمْسُ بِمَكَّةَ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا بِسَرَفِ } . قَالَ البيهقي وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الحماني عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَرَوَاهُ الْأَجْلَحُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو دَاوُد : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ جَارِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ . عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ بَيْنَهُمَا عَشَرَةُ أَمْيَالٍ يَعْنِي بَيْنَ مَكَّةَ وَسَرِفٍ . قُلْت : عَشَرَةُ أَمْيَالٍ ثَلَاثَةُ فَرَاسِخَ وَثُلُثٌ وَالْبَرِيدُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ وَهَذِهِ الْمَسَافَةُ لَا تُقْطَعُ فِي السَّيْرِ الْحَثِيثِ حَتَّى يَغِيبَ الشَّفَقُ فَإِنَّ النَّاسَ يَسِيرُونَ مِنْ عَرَفَةَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ وَلَا يَصِلُونَ إلَى جَمْعٍ إلَّا وَقَدْ غَابَ الشَّفَقُ وَمِنْ عَرَفَةَ إلَى مَكَّةَ بَرِيدٌ فَجَمَعَ دُونَ هَذِهِ الْمَسَافَةِ وَهُمْ لَا يَصِلُونَ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّفَقِ فَكَيْفَ بِسَرِفِ وَهَذَا يُوَافِقُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ إذَا كَانَ سَائِرًا أَخَّرَ الْمَغْرِبَ إلَى أَنْ يَغْرُبَ الشَّفَقُ ثُمَّ يُصَلِّيهِمَا جَمِيعًا . قَالَ البيهقي : وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعُذْرِ السَّفَرِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَعَ الثَّابِتِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ عَنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ جَمْعِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ثُمَّ بِالْمُزْدَلِفَةِ : وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدٍ

عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُؤَخِّرُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ } . قَالَ سَالِمٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا أَعْجَلَهُ السَّيْرُ فِي السَّفَرِ يُقِيمُ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ فَيُصَلِّيهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُسَلِّمُ ثُمَّ قَلَّمَا يَلْبَثُ حَتَّى يُقِيمَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ وَيُصَلِّيَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يُسَلِّمَ وَلَا يُسَبِّحَ بَيْنَهُمَا بِرَكْعَةِ وَلَا يُسَبِّحَ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِسَجْدَةٍ حَتَّى يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ : أَنَّهُ قَالَ لِسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : مَا أَشَدَّ مَا رَأَيْت أَبَاك عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ فِي السَّفَرِ ؟ قَالَ : غَرَبَتْ لَهُ الشَّمْسُ بِذَاتِ الْجَيْشِ فَصَلَّاهَا بِالْعَقِيقِ . قَالَ البيهقي : رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ : ثَمَانِيَةَ أَمْيَالٍ وَرَوَاهُ ابْنُ جريج عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ قَالَ قُلْت : أَيُّ سَاعَةٍ تِلْكَ ؟ قَالَ : قَدْ ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ أَوْ رُبُعُهُ . قَالَ وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : فَسَارَ أَمْيَالًا ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى . قَالَ يَحْيَى : وَذَكَرَ لِي نَافِعٌ هَذَا الْحَدِيثَ مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ : سَارَ قَرِيبًا مِنْ رُبُعِ اللَّيْلِ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى . وَرَوَى مِنْ مُصَنَّفِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة عَنْ جَابِرِ بْنِ

زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي السَّفَرِ وَيَقُولُ : هِيَ سُنَّةٌ . وَمِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ : أَخْبَرَنِي الجريري وَسَلْمَانُ التيمي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النهدي قَالَ : كَانَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ إذَا عَجَّلَ بِهِمَا السَّيْرُ جَمَعَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ . وَرَوَيْنَا فِي ذَلِكَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ . وَذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ : سَأَلْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هَلْ يُجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَلَا تَرَى إلَى صَلَاةِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ ؟ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ يَعْقُوبَ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ثَنَا الدراوردي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَرَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَأَبِي الزِّنَادِ فِي أَمْثَالٍ لَهُمْ خَرَجُوا إلَى الْوَلِيدِ وَكَانَ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ يَسْتَفْتِيهِمْ فِي شَيْءٍ فَكَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ . قُلْت : فَهَذَا اسْتِدْلَالٌ مِنْ السَّلَفِ بِجَمْعِ عَرَفَةَ عَلَى نَظِيرِهِ وَأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا وَهُوَ جَمْعُ تَقْدِيمٍ لِلْحَاجَةِ فِي السَّفَرِ .
وَأَمَّا الْجَمْعُ بِالْمَدِينَةِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ { عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : صَلَّى

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } . وَمِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ وَقَالَ : أَظُنُّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَطَرٍ . قَالَ البيهقي : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ " فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ " إلَّا أَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَقَالَا " بِالْمَدِينَةِ " وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ عُيَيْنَة وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِمَعْنَى رِوَايَةِ مَالِكٍ وَسَاقَ البيهقي طُرُقَهَا وَحَدِيثُ زُهَيْرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ : ثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ } . قَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ : فَسَأَلْت سَعِيدًا لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ كَمَا سَأَلْتنِي فَقَالَ : أَرَادَ أَلَّا يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ . قَالَ وَقَدْ خَالَفَهُمْ قُرَّةُ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ : " فِي سَفْرَةٍ سافرها إلَى تَبُوكَ " . وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفْرَةٍ سافرها فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَجَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } . فَقُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ مَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجُ أُمَّتَهُ . قَالَ البيهقي : وَكَانَ قُرَّةُ أَرَادَ حَدِيثَ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ

عَنْ مُعَاذٍ فَهَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا فَسَمِعَ قُرَّةُ أَحَدَهُمَا وَمَنْ تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ الْآخَرُ . قَالَ : وَهَذَا أَشْبَهُ : فَقَدْ رَوَى قُرَّةُ حَدِيثَ أَبِي الطُّفَيْلِ أَيْضًا . قُلْت : وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَرُوِيَ هَذَا الْمَتْنُ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَإِنَّ قُرَّةَ ثِقَةٌ حَافِظٌ . وَقَدْ رَوَى الطَّحَاوِي حَدِيثَ قُرَّةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ فَجَعَلَهُ مِثْلَ حَدِيثِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ حَدِيثَ أَبِي الطُّفَيْلِ وَحَدِيثَهُ هَذَا عَنْ سَعِيدٍ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَ بِهَذَا وَبِهَذَا . قَالَ البيهقي : وَرَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَخَالَفَ أَبَا الزُّبَيْرِ فِي مَتْنِهِ وَذَكَرَهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } قِيلَ لَهُ : فَمَا أَرَادَ بِذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَفِي رِوَايَةِ وَكِيعٍ قَالَ سَعِيدٌ : قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ كَيْلَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . قَالَ البيهقي وَلَمْ يُخْرِجْهُ الْبُخَارِيُّ مَعَ كَوْنِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ مِنْ شَرْطِهِ وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَعْرَضَ عَنْهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ . قَالَ : وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْلَى أَنْ

تَكُونَ مَحْفُوظَةً فَقَدْ رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِقَرِيبٍ مِنْ مَعْنَى رِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ . قُلْت : تَقْدِيمُ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَلَى رِوَايَةِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ لَا وَجْهَ لَهُ فَإِنَّ حَبِيبَ بْنَ أَبِي ثَابِتٍ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ مِنْ أَبِي الزُّبَيْرِ وَأَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ وَأَيْضًا فَأَبُو الزُّبَيْرِ اخْتَلَفَ عَنْهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي الْمَتْنِ : تَارَةً يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ قُرَّةُ مُوَافَقَةً لِحَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ وَتَارَةً يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ كَمَا رَوَاهُ الْأَكْثَرُونَ عَنْهُ عَنْ سَعِيدٍ . فَهَذَا أَبُو الزُّبَيْرِ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ : حَدِيثُ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ مُعَاذٍ فِي جَمْعِ السَّفَرِ وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ . وَحَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي فِيهِ جَمْعُ الْمَدِينَةِ . ثُمَّ قَدْ جَعَلُوا هَذَا كُلَّهُ صَحِيحًا . لِأَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَافِظٌ فَلِمَ لَا يَكُونُ حَدِيثُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَيْضًا ثَابِتًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَحَبِيبٌ أَوْثَقُ مَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ؟ وَسَائِرُ أَحَادِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا رَوَاهُ حَبِيبٌ ؛ فَإِنَّ الْجَمْعَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمَطَرِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ " بِالْمَدِينَةِ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّفَرِ فَقَوْلُهُ : { جَمَعَ بِالْمَدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } أَوْلَى بِأَنْ يُقَالَ : مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ وَمَنْ قَالَ : " أَظُنُّهُ فِي الْمَطَرِ " فَظَنَّ ظَنَّهُ لَيْسَ هُوَ فِي الْحَدِيثِ بَلْ مَعَ

حِفْظِ الرُّوَاةِ فَالْجَمْعُ صَحِيحٌ قَالَ { مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } وَقَالَ " وَلَا سَفَرٍ " وَالْجَمْعُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا وَلَا بِهَذَا . وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ أَحْمَد بِهِ عَلَى الْجَمْعِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْلَى وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ إذَا جَمَعَ لِيَرْفَعَ الْحَرَجَ الْحَاصِلَ بِدُونِ الْخَوْفِ وَالْمَطَرِ وَالسَّفَرِ فَالْحَرَجُ الْحَاصِلُ بِهَذِهِ أَوْلَى أَنْ يُرْفَعَ وَالْجَمْعُ لَهَا أَوْلَى مِنْ الْجَمْعِ لِغَيْرِهَا . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يُرِدْ الْجَمْعَ لِلْمَطَرِ - وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ لِلْمَطَرِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ - بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ : خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمًا بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَبَدَتْ النُّجُومُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَقُولُونَ : الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ قَالَ : فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمٍ لَا يَفْتُرُ : الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ فَقَالَ أَتُعَلِّمُنِي بِالسُّنَّةِ لَا أُمَّ لَك ؟ ثُمَّ : قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَقِيقٍ : فَحَاكَ فِي صَدْرِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَتَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَسَأَلْته فَصَدَّقَ مَقَالَتَهُ . وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حدير { عَنْ ابْنِ شَقِيقٍ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ : الصَّلَاةَ فَسَكَتَ : ثُمَّ قَالَ الصَّلَاةَ

فَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ : لَا أُمَّ لَك أَتُعَلِّمُنَا بِالصَّلَاةِ وَكُنَّا نَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَهَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَفَرٍ وَلَا فِي مَطَرٍ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا رَوَاهُ عَلَى مَا فَعَلَهُ فَعُلِمَ أَنَّ الْجَمْعَ الَّذِي رَوَاهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَطَرٍ وَلَكِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَخْطُبُهُمْ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ قَطَعَهُ وَنَزَلَ فَاتَتْ مَصْلَحَتُهُ فَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَاجَاتِ الَّتِي يَجُوزُ فِيهَا الْجَمْعُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بِالْمَدِينَةِ لِغَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ بَلْ لِلْحَاجَةِ تَعْرِضُ لَهُ كَمَا قَالَ : " أَرَادَ أَنْ لَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَمْعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُنْ لِخَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ وَلَا لِسَفَرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ جَمْعُهُ لِلسَّفَرِ لَجَمَعَ فِي الطَّرِيقِ وَلَجَمَعَ بِمَكَّةَ كَمَا كَانَ يَقْصُرُ بِهَا وَلَجَمَعَ لَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى وَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ وَلَمْ يَجْمَعْ بِمِنَى قَبْلَ التَّعْرِيفِ وَلَا جَمَعَ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ أَيَّامَ مِنًى بَلْ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ رَكْعَتَيْنِ غَيْرَ الْمَغْرِبِ وَيُصَلِّيهَا فِي وَقْتِهَا وَلَا جَمْعُهُ أَيْضًا كَانَ لِلنُّسُكِ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجَمَعَ مِنْ حِينِ أَحْرَمَ فَإِنَّهُ مِنْ حِينَئِذٍ صَارَ مُحْرِمَا فَعُلِمَ أَنَّ جَمْعَهُ الْمُتَوَاتِرَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُنْ لِمَطَرٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا لِخُصُوصِ النُّسُكِ وَلَا لِمُجَرَّدِ السَّفَرِ فَهَكَذَا جَمْعُهُ بِالْمَدِينَةِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا

كَانَ الْجَمْعُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ أُمَّتِهِ فَإِذَا احْتَاجُوا إلَى الْجَمْعِ جَمَعُوا . قَالَ البيهقي : لَيْسَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ شَقِيقٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ الثَّابِتَيْنِ عَنْهُ نَفْيُ الْمَطَرِ وَلَا نَفْيُ السَّفَرِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحَدِهِمَا . أَوْ عَلَى مَا أَوَّلَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِمَا مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ . فَيُقَالُ : يَا سُبْحَانَ اللَّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ كَانَ يَخْطُبُ بِهِمْ بِالْبَصْرَةِ فَلَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَطَرٌ وَهُوَ ذَكَرَ جَمْعًا يَحْتَجُّ بِهِ عَلَى مِثْلِ مَا فَعَلَهُ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِسَفَرِ أَوْ مَطَرٍ كَانَ ابْنُ عَبَّاس أَجَلَّ قَدْرًا مِنْ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى جَمْعِهِ بِجَمْعِ الْمَطَرِ أَوْ السَّفَرِ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَكَيْفَ يُقَالُ لَمْ يَنْفِ السَّفَرَ ؟ وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ مِنْ أَوْثَقِ النَّاسِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدٍ أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ } وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْهُ فَيُقَالُ : هَذَا مِنْ أَضْعَفِ الْحُجَجِ فَهُوَ لَمْ يُخَرِّجْ أَحَادِيثَ أَبِي الزُّبَيْرِ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ شَرْطِهِ يُخَرِّجُهُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَرِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَرِيبٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ مَا أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ

ابْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ سَبْعًا وَثَمَانِيًا : الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ } . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ لِأَيُّوبِ : لَعَلَّهُ فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ ؟ فَقَالَ عَسَى . فَيُقَالُ : هَذَا الظَّنُّ مِنْ أَيُّوبَ وَعَمْرٍو فَالظَّنُّ لَيْسَ مِنْ مَالِكٍ . وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي سَمِعُوهُ لَا يَنْفِي الْمَطَرَ فَجَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ وَلَوْ سَمِعُوا رِوَايَةَ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ الثِّقَةِ الثَّبْتِ لَمْ يَظُنُّوا هَذَا الظَّنَّ ثُمَّ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ حِكَايَةُ فِعْلٍ مُطْلَقٍ لِمَ ذَكَرَ فِيهَا نَفْيَ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ قَصْدُهُ بَيَانَ جَوَازِ الْجَمْعِ بِالْمَدِينَةِ فِي الْجُمْلَةِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ تَعْيِينَ سَبَبٍ وَاحِدٍ فَمَنْ قَالَ إنَّمَا أَرَادَ جَمْعَ الْمَطَرِ وَحْدَهُ فَقَدْ غَلِطَ عَلَيْهِ ثُمَّ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ تَارَةً يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَطَرِ مُوَافَقَةً لِأَيُّوبِ وَتَارَةً يَقُولُ هُوَ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ كَانَ جَمْعًا فِي الْوَقْتَيْنِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَة عَنْ { عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : سَمِعْت جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ يَقُولُ : سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : صَلَّيْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيًا جَمِيعًا وَسَبْعًا جَمِيعًا قَالَ : قُلْت : يَا أَبَا الشَّعْثَاءِ أَرَاهُ أَخَّرَ الظُّهْرَ وَعَجَّلَ الْعَصْرَ وَأَخَّرَ الْمَغْرِبَ وَعَجَّلَ الْعِشَاءَ قَالَ : وَأَنَا أَظُنُّ ذَلِكَ } . فَيُقَالُ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ أَفْقَهَ وَأَعْلَمَ

مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ - إذَا كَانَ قَدْ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا الَّذِي تَعْرِفُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ جَوَازَهُ - أَنْ يَذْكُرَ هَذَا الْفِعْلَ الْمُطْلَقَ دَلِيلًا عَلَى ذَلِكَ . وَأَنْ يَقُولَ : أَرَادَ بِذَلِكَ أَلَّا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ . وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْوَقْتَيْنِ قَدْ شُرِعَتْ بِأَحَادِيثِ الْمَوَاقِيتِ . وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ مِمَّنْ رَوَى أَحَادِيثَ الْمَوَاقِيتِ { وَإِمَامَةِ جِبْرِيلَ لَهُ عِنْدَ الْبَيْتِ . وَقَدْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَصَلَّى الْعَصْرَ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ } . فَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا جَمَعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَأَيُّ غَرَابَةٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كِلَا الصَّلَاتَيْنِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَقَالَ { الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ } فَصَلَاتُهُ لِلْأُولَى وَحْدَهَا فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ . وَكَيْفَ يَلِيقُ بِابْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يَقُولَ : فَعَلَ ذَلِكَ كَيْلَا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ وَالْوَقْتُ الْمَشْهُورُ هُوَ أَوْسَعُ وَأَرْفَعُ لِلْحَرَجِ مِنْ هَذَا الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرُوهُ وَكَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرَ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا صَلَّى فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَصِّ بِهَذَا الْفِعْلِ وَكَانَ لَهُ فِي تَأْخِيرِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ صَلَّاهَا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَحْدَهَا وَتَأْخِيرِ الْعِشَاءِ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفِهِ مَا يُغْنِيهِ عَنْ هَذَا ؟ وَإِنَّمَا قَصَدَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَيَانَ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ إلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي حَالِ الْجَمْعِ أَوْسَعُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ . وَبِذَلِكَ يَرْتَفِعُ الْحَرَجُ عَنْ الْأُمَّةِ . ثُمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ

فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَمْعَ فِي السَّفَرِ . وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السَّفَرِ إذَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ سَيْرِهِ . وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ مُفَصَّلًا . فَعُلِمَ أَنَّ لَفْظَ الْجَمْعِ فِي عَرَفَةَ وَعَادَتُهُ إنَّمَا هُوَ الْجَمْعُ فِي وَقْتِ إحْدَاهُمَا وَأَمَّا الْجَمْعُ فِي الْوَقْتَيْنِ فَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ فَكَيْفَ يَعْدِلُ عَنْ عَادَتِهِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ بِهَا إلَى مَا لَيْسَ كَذَلِكَ ؟ وَأَيْضًا فَابْنُ شَقِيقٍ يَقُولُ : حَاكَ فِي صَدْرِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَأَتَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَسَأَلْته فَصَدَّقَ مَقَالَتَهُ . أَتُرَاهُ حَاكَ فِي صَدْرِهِ أَنَّ الظُّهْرَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ؟ وَأَنَّ الْعَصْرَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ ؟ وَهَلْ هَذَا مِمَّا يَخْفَى عَلَى أَقَلِّ النَّاسِ عِلْمًا حَتَّى يَحِيكَ فِي صَدْرِهِ مِنْهُ ؟ وَهَلْ هَذَا مِمَّا يَحْتَاجُ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْهُ ؟ إنَّ هَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلِمُوا جَوَازَهُ . وَإِنَّمَا وَقَعَتْ شُبْهَةٌ لِبَعْضِهِمْ فِي الْمَغْرِبِ خَاصَّةً وَهَؤُلَاءِ يُجَوِّزُونَ تَأْخِيرَهَا إلَى آخِرِ وَقْتِهَا : فَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ كَيْفَمَا كَانَ وَجَوَازُ تَأْخِيرِهَا لَيْسَ مُعَلَّقًا بِالْجَمْعِ بَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا مُطْلَقًا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ حِينَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ أَيْضًا وَهَكَذَا فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَيَّنَ أَحَادِيثَ الْمَوَاقِيتِ وَهَكَذَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَغِبْ نُورُ الشَّفَقِ وَوَقْتُ الْعِشَاءِ إلَى نِصْفِ اللَّيْلِ } كَمَا قَالَ : { وَقْتُ الظُّهْرِ مَا لَمْ يَصِرْ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ وَوَقْتُ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ } فَهَذَا

الْوَقْتُ الْمُخْتَصُّ الَّذِي بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَقَالَ : { الْوَقْتُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ } لَيْسَ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْجَمْعِ وَلَا تَعَلُّقٌ بِهِ . وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : قَوْلُهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ الْمُرَادُ بِهِ الْجَمْعُ فِي الْوَقْتَيْنِ كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ الْكُوفِيِّينَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَرْقٌ . فَلِمَاذَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْمُطَفِّفِينَ لَا يَحْتَجُّ لِغَيْرِهِ كَمَا يَحْتَجُّ لِنَفْسِهِ ؟ وَلَا يَقْبَلُ لِنَفْسِهِ مَا يَقْبَلُهُ لِغَيْرِهِ ؟ وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ هَذَا مِنْ غَيْرِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَوَاهُ الطَّحَاوِي حَدَّثَنَا ابْنُ خُزَيْمَة وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد وَعِمْرَانُ بْنُ مُوسَى قَالَ : أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ يَحْيَى الأشناني حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمَدِينَةِ لِلرُّخْصَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا عِلَّةٍ } لَكِنْ يُنْظَرُ حَالُ هَذَا الأشناني . وَجَمْعُ الْمَطَرِ عَنْ الصَّحَابَةِ فَمَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا جَمَعَ الْأُمَرَاءَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ جَمَعَ مَعَهُمْ فِي لَيْلَةِ الْمَطَرِ قَالَ البيهقي : وَرَوَاهُ الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ فَقَالَ : قَبْلَ الشَّفَقِ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : أَنْبَأَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبِيبٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي

الْمَطَرِ قَبْلَ الشَّفَقِ [ وَذَكَرَ مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الأصبهاني بِالْإِسْنَادِ الثَّابِتِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ : كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي اللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ إذَا جَمَعُوا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ وَلَا يُنْكَرُ ذَلِكَ ] (*) . وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ إذَا كَانَ الْمَطَرُ وَأَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ وَأَبَا بَكْرٍ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَمَشْيَخَةَ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُمْ وَلَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ . فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَمْعَ لِلْمَطَرِ مِنْ الْأَمْرِ الْقَدِيمِ الْمَعْمُولِ بِهِ بِالْمَدِينَةِ زَمَنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَعُلِمَ أَنَّهُ مَنْقُولٌ عِنْدَهُمْ بِالتَّوَاتُرِ جَوَازُ ذَلِكَ لَكِنْ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْمَعْ إلَّا لِلْمَطَرِ ؛ بَلْ إذَا جَمَعَ لِسَبَبٍ هُوَ دُونَ الْمَطَرِ مَعَ جَمْعِهِ أَيْضًا لِلْمَطَرِ كَانَ قَدْ جَمَعَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ كَمَا أَنَّهُ إذَا جَمَعَ فِي السَّفَرِ وَجَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ كَانَ قَدْ جَمَعَ فِي الْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا سَفَرٍ فَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ جَمَعَ مِنْ غَيْرِ كَذَا وَلَا كَذَا لَيْسَ نَفْيًا مِنْهُ لِلْجَمْعِ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ بَلْ إثْبَاتٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ جَمَعَ بِدُونِهَا وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ بِهَا أَيْضًا . وَلَوْ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ جَمَعَ بِهَا فَجَمْعُهُ بِمَا هُوَ دُونَهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَمْعِ بِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْجَمْعِ لِلْخَوْفِ وَالْمَطَرِ وَقَدْ جَمَعَ بِعَرَفَةَ

مُزْدَلِفَةَ مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ وَلَا مَطَرٍ . فَالْأَحَادِيثُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْوَقْتِ الْوَاحِدِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْ أُمَّتِهِ فَيُبَاحُ الْجَمْعُ إذَا كَانَ فِي تَرْكِهِ حَرَجٌ قَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْ الْأُمَّةِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَمْعِ لِلْمَرَضِ الَّذِي يُحْرِجُ صَاحِبَهُ بِتَفْرِيقِ الصَّلَاةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَيَجْمَعُ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ إكْمَالُ الطَّهَارَةِ فِي الْوَقْتَيْنِ إلَّا بِحَرَجٍ كَالْمُسْتَحَاضَةِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَرَوَى الثَّوْرِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قتادة عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ عُمَرَ . وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ صُبْحٍ : حَدَّثَنِي حميد بْنُ هِلَالٍ عَنْ أَبِي قتادة يَعْنِي العدوي : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى عَامِلٍ لَهُ : ثَلَاثٌ مِنْ الْكَبَائِرِ : الْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ وَالنَّهْبُ . قَالَ البيهقي : أَبُو قتادة أَدْرَكَ عُمَرَ فَإِنْ كَانَ شَهِدَهُ كَتَبَ فَهُوَ مَوْصُولٌ وَإِلَّا فَهُوَ إذَا انْضَمَّ إلَى الْأَوَّلِ صَارَ قَوِيًّا . وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْجَمْعِ لِلْعُذْرِ وَلَمْ يَخُصَّ عُمَرُ عُذْرًا مِنْ عُذْرٍ . قَالَ البيهقي : وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ حَدِيثٌ مَوْصُولٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إسْنَادِهِ مَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سَلْمَانَ الْتَيْمِي عَنْ حَنَشٍ الصنعائي عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ . ا هـ

فَصْلٌ :
فِي تَمَامِ الْكَلَامِ فِي الْقَصْرِ وَسَبَبِ إتْمَامِ عُثْمَانَ الصَّلَاةَ بِمِنَى . وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيهَا بَعْضُ أَقْوَالِ النَّاسِ وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ مَرْوِيَّانِ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَدْ ذَكَرَهُمَا أَحْمَد رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : إنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعًا لِأَنَّهُ قَدْ عَزَمَ عَلَى الْمُقَامِ بَعْدَ الْحَجِّ وَرَجَّحَ الطَّحَاوِي هَذَا الْوَجْهَ مَعَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَذَكَرَ مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : إنَّمَا صَلَّى عُثْمَانُ بِمِنَى أَرْبَعًا لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا كَثُرُوا فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَأَحَبَّ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ . قَالَ الطَّحَاوِي : فَهَذَا يُخْبِرُ أَنَّهُ فَعَلَ مَا فَعَلَ لِيُعْلِمَ الْأَعْرَابَ بِهِ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعًا . فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ ذَلِكَ نَوَى الْإِقَامَةَ فَصَارَ مُقِيمًا فَرْضُهُ أَرْبَعٌ فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا . لِلسَّبَبِ الَّذِي حَكَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُسَافِرٌ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ قَالَ : وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَشْبَهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابَ كَانُوا بِالصَّلَاةِ وَأَحْكَامِهَا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْهَلَ مِنْهُمْ بِهَا وَبِحُكْمِهَا فِي زَمَنِ عُثْمَانَ وَهُمْ بِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَئِذٍ أَحْدَثُ عَهْدًا إذْ كَانُوا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعِلْمِ بِفَرْضِ الصَّلَوَاتِ أَحْوَجَ مِنْهُمْ إلَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ فَلَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَلَكِنَّهُ قَصَرَهَا لِيُصَلُّوا مَعَهُ صَلَاةَ السَّفَرِ عَلَى حُكْمِهَا وَيُعَلِّمَهُمْ صَلَاةَ الْإِقَامَةِ عَلَى حُكْمِهَا : كَانَ عُثْمَانُ أَحْرَى أَلَّا يُتِمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ . قَالَ الطَّحَاوِي : وَقَدْ قَالَ آخَرُونَ : إنَّمَا أَتَمَّ الصَّلَاةَ لِأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ إلَى أَنَّهُ لَا يَقْصُرُهَا إلَّا مَنْ حَلَّ وَارْتَحَلَ . وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ قتادة قَالَ : قَالَ عُثْمَانُ بْنُ عفان : إنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَحَلَّ وَارْتَحَلَ وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ الْمَعْرُوفِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ . وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ [ عُثْمَانَ بْنِ سَعْدٍ ] (1) عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قتادة : عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ : أَلَا لَا يُصَلِّيَن الرَّكْعَتَيْنِ جَابٍ [ وَلَا تان ] (2) وَلَا تَاجِرٌ إنَّمَا يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ مَنْ كَانَ مَعَهُ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ : أَنَّ أَيُّوبَ السختياني أَخْبَرَهُمْ عَنْ أَبِي قِلاَبَة الجرمي عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْمُهَلَّبِ قَالَ : كَتَبَ عُثْمَانُ : أَنَّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ إمَّا لِتِجَارَةِ وَإِمَّا لِجِبَايَةِ وَإِمَّا [ لِجَرِيمٍ ] (3) ثُمَّ يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَهَذَانِ الْإِسْنَادَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ . قَالَ الطَّحَاوِي : قَالُوا : وَكَانَ مَذْهَبُ عُثْمَانَ أَنْ لَا يَقْصُرَ الصَّلَاةَ إلَّا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ وَمَنْ كَانَ شَاخِصًا فَأَمَّا مَنْ كَانَ

فِي مِصْرٍ يَسْتَغْنِي بِهِ عَنْ حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلَاةَ . قَالُوا : وَلِهَذَا أَتَمَّ عُثْمَانُ بِمِنَى لِأَنَّ أَهْلَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَثُرُوا حَتَّى صَارَتْ مِصْرًا يَسْتَغْنِي مَنْ حَلَّ بِهِ عَنْ حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ . قَالَ الطَّحَاوِي : وَهَذَا الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مِنًى لَمْ تَصِرْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ أَعْمَرُ مِنْ مَكَّةَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى بِهَا أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ كَذَلِكَ ثُمَّ صَلَّى بِهَا عُمَرُ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ كَذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِ مَنْ حَلَّ بِهَا إلَى حَمْلِ الزَّادِ وَالْمَزَادِ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ : فَمَا دُونَهَا مِنْ الْمَوَاطِنِ أَحْرَى أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . قَالَ فَقَدْ انْتَفَتْ هَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا لِفَسَادِهَا عَنْ عُثْمَانَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ مِنْهَا قَصَرَ الصَّلَاةَ غَيْرُ الْمَذْهَبِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَكَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِهَا أَتَمَّهَا وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ إتْمَامَهُ كَانَ لِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ عَلَى مَا رَوَيْنَا فِيهِ وَعَلَى مَا كَشَفْنَا مِنْ مَعْنَاهُ . قُلْت : الطَّحَاوِي مَقْصُودُهُ أَنْ يَجْعَلَ مَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ مُوَافِقًا لِأَصْلِهِ وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ فَإِنَّ عُثْمَانَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْمُهَاجِرُونَ كَانَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْمُقَامُ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُرَخِّصْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ إذَا قَدِمُوا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ قَضَاءِ الْعُمْرَةِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْعَلَاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

رَخَّصَ لِلْمُهَاجِرِ أَنْ يُقِيمَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا } وَلِهَذَا لَمَّا تُوُفِّيَ ابْنُ عُمَرَ بِهَا أَمَرَ أَنْ يُدْفَنَ بِالْحِلِّ وَلَا يُدْفَنَ بِهَا . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عَادَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَقَدْ كَانَ مَرِضَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ خَافَ سَعْدٌ أَنْ يَمُوتَ بِمَكَّةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَخْلُفُ عَنْ هِجْرَتِي ؟ فَبَشَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ لَا يَمُوتُ بِهَا . وَقَالَ : إنَّك لَنْ تَمُوتَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِك آخَرُونَ لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ يَرْثِي لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ } . وَمِنْ الْمَعْرُوفِ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّهُ كَانَ إذَا اعْتَمَرَ يُنِيخُ رَاحِلَتَهُ فَيَعْتَمِرُ ثُمَّ يَرْكَبُ عَلَيْهَا رَاجِعًا فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّهُ نَوَى الْمُقَامَ بِمَكَّةَ ؟ ثُمَّ هَذَا مِنْ الْكَذِبِ الظَّاهِرِ فَإِنَّ عُثْمَانَ مَا أَقَامَ بِمَكَّةَ قَطُّ بَلْ كَانَ إذَا حَجَّ يَرْجِعُ إلَى الْمَدِينَةِ . وَقَدْ حَمَلَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِ أَحْمَد كَالْقَاضِي وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ فِعْلَ عُثْمَانَ عَلَى قَوْلِهِمْ فَقَالُوا : لَمَّا كَانَ الْمُسَافِرُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْإِتْمَامِ وَالْقَصْرِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا جَائِزًا وَفَعَلَ عُثْمَانُ هَذَا لِأَنَّ الْقَصْرَ جَائِزٌ وَالْإِتْمَامَ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ حَمَلُوا فِعْلَ عَائِشَةَ . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَوْهُ مِنْ جِهَتِهَا وَذَكَرَ البيهقي قَوْلَ مَنْ قَالَ : أَتَمَّهَا لِأَجْلِ الْأَعْرَابِ ( وَرَوَاهُ مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُد ثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ ثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عفان أَتَمَّ الصَّلَاةَ

بِمِنَى مِنْ أَجْلِ الْأَعْرَابِ لِأَنَّهُمْ كَثُرُوا [ عَامَئِذٍ ] (1) فَصَلَّى بِالنَّاسِ أَرْبَعًا لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ . وَرَوَى البيهقي مِنْ حَدِيثِ [ مُوسَى ] (2) بْنِ إسْحَاقَ الْقَاضِي : ثَنَا [ يَعْقُوبُ بْنُ حُمَيْدٍ ] (3) ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سَالِمٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حميد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حميد عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عفان : أَنَّهُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ بِمِنَى ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ السُّنَّةَ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُنَّةُ صَاحِبَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَدَثَ [ طَغَام ] (4) مِنْ النَّاسِ فَخِفْت أَنْ [ يَسْتَنُّوا ] (5) ) قَالَ البيهقي : وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ هَذَا وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ رَآهُ رُخْصَةً فَرَأَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا كَمَا رَأَتْهُ عَائِشَةُ . قُلْت : وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ عُدُولَ عُثْمَانَ عَمَّا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ مَعَ أَنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَعَ مَا عُلِمَ مِنْ حِلْمِ عُثْمَانَ وَاخْتِيَارِهِ لَهُ وَلِرَعِيَّتِهِ أَسْهَلُ الْأُمُورِ وَبُعْدُهُ عَنْ التَّشْدِيدِ وَالتَّغْلِيظِ : لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَفْعَلَ الْأَمْرَ الْأَثْقَلَ الْأَشَدَّ مَعَ تَرْكِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَاهُ بَعْدَهُ وَمَعَ رَغْبَةِ عُثْمَانَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلِيفَتَيْهِ بَعْدَهُ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ هَذَا الْمَفْضُولِ جَائِزًا إنْ لَمْ يَرَ أَنَّ فِي فِعْلِ ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً بَعَثَتْهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ وَهَبْ أَنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا فَكَيْفَ يُلْزِمُ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ فَإِنَّهُمْ إذَا ائْتَمُّوا بِهِ صَلَّوْا بِصَلَاتِهِ

فَيُلْزِمُ الْمُسْلِمِينَ بِالْفِعْلِ الْأَثْقَلِ مَعَ خِلَافِ السُّنَّةِ لِمُجَرَّدِ كَوْنِ ذَلِكَ جَائِزًا وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ وَقَدْ وَافَقَ عُثْمَانَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ السَّلَفِ أُمَرَاؤُهُمْ وَغَيْرُ أُمَرَائِهِمْ وَكَانُوا يُتِمُّونَ وَأَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ لَا يَخْتَارُونَ ذَلِكَ كَمَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مخرمة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ كَانَا جَمِيعًا فِي سَفَرٍ وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يُقْصِرُ الصَّلَاةَ وَيُفْطِرُ وَكَانَا يُتِمَّانِ الصَّلَاةَ وَيَصُومَانِ فَقِيلَ لِسَعْدِ : نَرَاك تُقْصِرُ مِنْ الصَّلَاةِ وَتُفْطِرُ وَيُتِمَّانِ فَقَالَ سَعْدٌ : نَحْنُ أَعْلَمُ . وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ قَالَ كُنَّا مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشَّامِ فَكَانَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَنُصَلِّي نَحْنُ أَرْبَعًا فَنَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ سَعْدٌ : نَحْنُ أَعْلَمُ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ : جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ صَفْوَانَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ فَأَتْمَمْنَا لِأَنْفُسِنَا . قُلْت : عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ كَانَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ فَلِهَذَا أَتَمُّوا خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ . وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُصَلِّي وَرَاءَ الْإِمَامِ بِمِنَى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . قَالَ البيهقي : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رَأَى الْقَصْرَ رُخْصَةً فَرَأَى الْإِتْمَامَ جَائِزًا كَمَا رَأَتْهُ عَائِشَةُ . قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ اخْتِيَارِهِمْ الْقَصْرَ ثُمَّ

رَوَى الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السبيعي عَنْ أَبِي لَيْلَى قَالَ أَقْبَلَ سَلْمَانُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَقَالُوا : تَقَدَّمْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ : إنَّا لَا نَؤُمُّكُمْ وَلَا نَنْكِحُ نِسَاءَكُمْ ؛ إنَّ اللَّهَ هَدَانَا بِكُمْ قَالَ : فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَصَلَّى بِهِمْ أَرْبَعًا قَالَ : فَقَالَ سَلْمَانُ مَا لَنَا وَلَا لِمُرَبَّعَةٍ إنَّمَا كَانَ يَكْفِينَا نِصْفُ الْمُرَبَّعَةِ وَنَحْنُ إلَى الرُّخْصَةِ أَحْوَجُ . قَالَ : فَبَيَّنَ سَلْمَانُ بِمَشْهَدِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ أَنَّ الْقَصْرَ رُخْصَةٌ . قُلْت : هَذِهِ الْقَضِيَّةُ كَانَتْ فِي خِلَافَةِ [ عُثْمَان ] (*) وَسَلْمَانُ قَدْ أَنْكَرَ التَّرْبِيعَ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ لَمْ تَكُنْ الْأَئِمَّةُ يُرَبِّعُونَ فِي السَّفَرِ وَقَوْلُهُ : وَنَحْنُ إلَى الرُّخْصَةِ أَحْوَجُ . يُبَيِّنُ أَنَّهَا رُخْصَةٌ وَهِيَ رُخْصَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا كَمَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ فِي الْمَخْمَصَةِ رُخْصَةٌ وَهِيَ مَأْمُورٌ بِهَا وَفِطْرَ الْمَرِيضِ رُخْصَةٌ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَالصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ رُخْصَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا وَالطَّوَافُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْ قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ وَاَلَّذِي صَلَّى بِسَلْمَانَ أَرْبَعًا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَصْرَ لِمِثْلِهِ ؛ إمَّا لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ قَصْرًا عِنْدَهُ

وَإِمَّا لِأَنَّ سَفَرَهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ فَإِنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ لَا يَرَى الْقَصْرَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ وَكَانَ لِكَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ نِزَاعٌ فِي جِنْسِ سَفَرِ الْقَصْرِ وَفِي قَدْرِهِ . فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ الْمُعَيَّنَةُ لَمْ يَتَبَيَّنْ فِيهَا حَالُ الْإِمَامِ وَمُتَابَعَةُ سَلْمَانَ لَهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مُتَأَوِّلًا اُتُّبِعَ عَلَيْهِ كَمَا إذَا قَنَتَ مُتَأَوِّلًا أَوْ كَبَّرَ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا مُتَأَوِّلًا . وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى خَمْسًا وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ ظَانِّينَ أَنَّ الصَّلَاةَ زِيدَ فِيهَا فَلَمَّا سَلَّمَ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيت فَذَكِّرُونِي } . وَقَدْ تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي الْإِمَامِ إذَا قَامَ إلَى خَامِسَةٍ هَلْ يُتَابِعُهُ الْمَأْمُومُ أَوْ يُفَارِقُهُ وَيُسَلِّمُ أَوْ يُفَارِقُهُ وَيَنْتَظِرُهُ أَوْ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ؟ عَلَى أَقْوَالٍ مَعْرُوفَةٍ وَهِيَ رِوَايَاتٌ عَنْ أَحْمَد . أَوْ رَأَى أَنَّ التَّرْبِيعَ مَكْرُوهٌ وَتَابَعَ الْإِمَامَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ وَاجِبَةٌ وَيَجُوزُ فِعْلُ الْمَكْرُوهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْبِيعَ الْمُسَافِرِ لَيْسَ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ أَرْبَعًا ؛ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ لَوْ اقْتَدَى بِمُقِيمٍ لَصَلَّى خَلْفَهُ أَرْبَعًا لِأَجْلِ مُتَابَعَةِ إمَامِهِ ؛ فَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُفْعَلُ فِي حَالٍ رَكْعَتَيْنِ وَفِي حَالٍ أَرْبَعًا بِخِلَافِ الْفَجْرِ فَجَازَ أَنْ تَكُونَ مُتَابَعَةُ الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ مُتَابَعَةَ الْمُسَافِرِ لِلْمُقِيمِ لِأَنَّ كِلَاهُمَا اتَّبَعَ إمَامَهُ .

وَهَذَا الْقَوْلُ وَهُوَ الْقَوْلُ بِكَرَاهَةِ التَّرْبِيعِ أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ وَهُوَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَد فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ وَقَدْ سَأَلَهُ هَلْ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا ؟ فَقَالَ لَا يُعْجِبُنِي وَلَكِنَّ السَّفَرَ رَكْعَتَانِ . وَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ المروذي أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ صَلَّى أَرْبَعًا وَإِنْ شَاءَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . وَلَا يَخْتَلِفُ قَوْلُ أَحْمَد أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْقَصْرُ ؛ بَلْ نُقِلَ عَنْهُ إذَا صَلَّى أَرْبَعًا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْإِجْزَاءِ . وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَرَاهِيَةُ التَّرْبِيعِ وَأَنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلِهَذَا يَذْكُرُ فِي مَذْهَبِهِ هَلْ تَصِحُّ الصَّلَاةُ أَرْبَعًا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا أَنَّ الْقَصْرَ أَفْضَلُ كَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَهُوَ اخْتِيَارُ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَوَقُّفُ أَحْمَد عَنْ الْقَوْلِ بِالْإِجْزَاءِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى قَوْلِهِ فِي مَذْهَبِهِ وَذَلِكَ أَنَّ غَايَتَهُ أَنَّهُ زَادَ زِيَادَةً مَكْرُوهَةً وَهَذَا لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَإِنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٍ وَالزِّيَادَةُ إذَا كَانَتْ سَهْوًا لَا تُبْطِلُ الصَّلَاةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ خَطَأً إذَا اُعْتُقِدَ جَوَازُهَا وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهَا وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا مَنْ يَعْتَقِدُهَا جَائِزَةً . وَلَا نَصَّ بِتَحْرِيمِهَا ؛ بَلْ الْأَدِلَّةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ ؛ لَا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ كَالصَّلَاةِ بِدُونِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ وَمَعَ الِالْتِفَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ . وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى تَمَامِ ذَلِكَ . وَأَمَّا إتْمَامُ عُثْمَانَ فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ حَالُهُ عَلَى مَا كَانَ يَقُولُ

لَا عَلَى مَا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ . فَقَوْلُهُ : إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ إمَّا لِتِجَارَةِ وَإِمَّا لِجِبَايَةِ وَإِمَّا لِجَرِيمِ : يَقْصُرُونَ الصَّلَاةَ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَوْ بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ . وَقَوْلُهُ : بَيَّنَ فِيهِ مَذْهَبَهُ وَهُوَ : أَنَّهُ لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ مَنْ كَانَ نَازِلًا فِي قَرْيَةٍ أَوْ مِصْرٍ إلَّا إذَا كَانَ خَائِفًا بِحَضْرَةِ عَدُوٍّ وَإِنَّمَا يَقْصُرُ مَنْ كَانَ شَاخِصًا أَيْ مُسَافِرًا وَهُوَ الْحَامِلُ لِلزَّادِ وَالْمَزَادِ أَيْ : لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْمَزَادُ وِعَاءُ الْمَاءِ . يَقُولُ إذَا كَانَ نَازِلًا مَكَانًا فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ كَانَ مُتَرَفِّهًا بِمَنْزِلَةِ الْمُقِيمِ فَلَا يَقْصُرُ ؛ لِأَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا جُعِلَ لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ الْإِنْسَانَ وَهَذَا لَا تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فَالْقَصْرُ عِنْدَهُ لِلْمُسَافِرِ الَّذِي يَحْمِلُ الزَّادَ وَالْمَزَادَ وَلِلْخَائِفِ . وَلَمَّا عَمُرَتْ مِنًى وَصَارَ بِهَا زَادٌ وَمَزَادٌ لَمْ يَرَ الْقَصْرَ بِهَا لَا لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْحَاجِّ وَقَوْلُهُ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ : وَلَكِنْ حَدَثَ الْعَامُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهَا مَا حَدَثَ فَقَدْ يَكُونُ هَذَا هُوَ الْحَادِثَ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَتْ الْجُهَّالُ مِنْ الْأَعْرَابِ وَغَيْرِهِمْ يَظُنُّونَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَرْبَعٌ فَقَدْ خَافَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَظُنُّوا أَنَّهَا تُفْعَلُ فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ أَرْبَعًا وَهَذَا عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَأَهَّلَ بِمَكَّةَ فَيَكُونُ هَذَا أَيْضًا مُوَافِقًا فَإِنَّهُ إنَّمَا تَأَهَّلَ بِمَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ وَهُوَ لَا يَرَى الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ نَازِلًا بِأَهْلِهِ فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَعَلَى هَذَا فَجَمِيعُ مَا ثَبَتَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ عُذْرِهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا .

وَأَمَّا مَا اعْتَذَرَ بِهِ الطَّحَاوِي مِنْ أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَرَ مِنْ مِنًى فِي زَمَنِ عُثْمَانَ . فَجَوَابُ عُثْمَانَ لَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ ثُمَّ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ثُمَّ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ : كَانَ خَائِفًا مِنْ الْعَدُوِّ وَعُثْمَانُ يُجَوِّزُ الْقَصْرَ لِمَنْ كَانَ خَائِفًا وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِي مَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُهُ لِلْمُسَافِرِ وَلِمَنْ كَانَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ . وَأَمَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمِنًا لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَازِلًا بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ نَازِلًا بِالْأَبْطُحِ خَارِجَ مَكَّةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَكُونُوا نَازِلِينَ بِدَارِ إقَامَةٍ وَلَا بِمَكَانٍ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَقَدْ قَالَ أُسَامَةُ : أَيْنَ نَنْزِلُ غَدًا ؟ هَلْ تَنْزِلُ بِدَارِك بِمَكَّةَ ؟ فَقَالَ " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ دَارٍ ؟ نَنْزِلُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ وَهَذَا الْمَنْزِلُ بِالْأَبْطُحِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ وَمِنًى . وَكَذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ عَنْ نَفْسِهَا : أَنَّهَا إنَّمَا تُتِمُّ لِأَنَّ الْقَصْرَ لِأَجْلِ الْمَشَقَّةِ وَأَنَّ الْإِتْمَامَ لَا يَشُقُّ عَلَيْهَا . وَالسَّلَفُ وَالْخَلَفُ تَنَازَعُوا فِي سَفَرِ الْقَصْرِ : فِي جِنْسِهِ وَفِي قَدْرِهِ : فَكَانَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ أَحَدَ أَقْوَالِهِمْ فِيهَا . وَلِلنَّاسِ فِي جِنْسِ سَفَرِ الْقَصْرِ أَقْوَالٌ أُخَرُ مَعَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ خَالَفَهُ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ : مِنْ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ . فَرَوَى سُفْيَانُ

بْنُ عُيَيْنَة عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : اعْتَلَّ عُثْمَانُ وَهُوَ بِمِنَى فَأَتَى عَلِيٌّ فَقِيلَ لَهُ : صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ : إنْ شِئْتُمْ صَلَّيْت بِكُمْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ قَالُوا لَا إلَّا صَلَاةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ - يَعْنُونَ أَرْبَعًا - فَأَبَى . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ (1) .
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الْأَرْبَعِ فِي السَّفَرِ عَلَى أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ أَرْبَعًا وَهَذَا مَذْهَبُ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ . ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا جَلَسَ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ تَمَّتْ صَلَاتُهُ وَالْمَفْعُولُ بَعْدَ ذَلِكَ كَصَلَاةٍ مُنْفَصِلَةٍ قَدْ تَطَوَّعَ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ مِقْدَارَ التَّشَهُّدِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَمَذْهَبُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ صَلَاتَهُ بَاطِلَةٌ كَمَا لَوْ صَلَّى عِنْدَهُمْ الْفَجْرَ أَرْبَعًا . وَقَدْ رَوَى سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ عَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ صَلَّى فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا كَمَنْ صَلَّى فِي الْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وروينا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَدْ ذَكَرَ لَهُ الْإِتْمَامَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ شَاءَ فَقَالَ : لَا الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَانِ حَتْمَانِ لَا يَصِحُّ غَيْرُهُمَا .

وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا فَرَضَ فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ . وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ بِهَا كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ وَكُلُّ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ أَقَرَّ مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا فَإِنَّهُ كَذِبٌ . وَأَمَّا فِعْلُ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ فَتَأْوِيلٌ مِنْهُمَا : أَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَأَوَّلَ غَيْرُهُمَا : أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جِهَادٍ ثُمَّ قَدْ خَالَفَهُمَا أَئِمَّةُ الصَّحَابَةِ وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ . قَالُوا : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } فَأَمَرَ بِقَبُولِهَا وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ . وَمَنْ قَالَ يَجُوزُ الْأَمْرَانِ فَعُمْدَتُهُمْ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } . قَالُوا : وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ إنَّمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الْمُبَاحِ : لَا فِي الْوَاجِبِ كَقَوْلِهِ : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ } وَقَوْلُهُ : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا مِنْ السُّنَّةِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَّنَ لِعَائِشَةَ إتْمَامَهَا } وَبِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ . وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ عُثْمَانَ أَتَمَّ

الصَّلَاةَ بِمِنَى بِمَحْضَرِ الصَّحَابَةِ فَأَتَمُّوا خَلْفَهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ . أَمَّا الْآيَةُ فَنَقُولُ : قَدْ عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بَعْدَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ . وَإِذَا كَانَ الْقَصْرُ طَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْتَجَّ بِنَفْيِ الْجُنَاحِ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا فَضِيلَةَ فِيهِ ثُمَّ مَا كَانَ عُذْرُهُمْ عَنْ كَوْنِهِ مُسْتَحَبًّا هُوَ عُذْرٌ لِغَيْرِهِمْ عَنْ كَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ أَمْرَ إيجَابٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي السَّعْيِ { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } وَالطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ هُوَ السَّعْيُ الْمَشْرُوعُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ إمَّا رُكْنٌ وَإِمَّا وَاجِبٌ وَإِمَّا سُنَّةٌ . وَأَيْضًا فَالْقَصْرُ وَإِنْ كَانَ رُخْصَةً اسْتِبَاحَةُ الْمَحْظُورِ فَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَالتَّيَمُّمِ لِمَنْ عَدِمَ الْمَاءَ وَنَحْوِ ذَلِكَ هَذَا إنْ سَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْعَدَدِ فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي الْآيَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ . قِيلَ الْمُرَادُ بِهِ قَصْرُ الْعَدَدِ فَقَطْ وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ بِالْخَوْفِ غَيْرَ مُفِيدٍ .

وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَصْرُ الْأَعْمَالِ ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ تَقْصُرُ عَنْ صَلَاةِ الْأَمْنِ وَالْخَوْفُ يُبِيحُ ذَلِكَ . وَهَذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ جَائِزَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا وَالْآيَةُ أَفَادَتْ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ . وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : وَهُوَ الْأَصَحُّ : أَنَّ الْآيَةَ أَفَادَتْ قَصْرَ الْعَدَدِ وَقَصْرَ الْعَمَلِ جَمِيعًا ؛ وَلِهَذَا عُلِّقَ ذَلِكَ بِالسَّفَرِ وَالْخَوْفِ فَإِذَا اجْتَمَعَ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ وَالْخَوْفُ أُبِيحَ الْقَصْرُ الْجَامِعُ لِهَذَا وَلِهَذَا وَإِذَا انْفَرَدَ السَّفَرُ فَإِنَّمَا يُبِيحُ قَصْرَ الْعَدَدِ وَإِذَا انْفَرَدَ الْخَوْفُ فَإِنَّمَا يُفِيدُ قَصْرَ الْعَمَلِ . وَمَنْ قَالَ : إنَّ الْفَرْضَ فِي الْخَوْفِ وَالسَّفَرِ رَكْعَةٌ - كَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنُ حَزْمٍ - فَمُرَادُهُ إذَا كَانَ خَوْفٌ وَسَفَرٌ . فَيَكُونُ السَّفَرُ وَالْخَوْفُ قَدْ أَفَادَا الْقَصْرَ إلَى رَكْعَةٍ كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِى : ثَنَا الْمَسْعُودِيُّ - هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ قَالَ : سَأَلْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ أَقْصَرُهُمَا ؟ قَالَ جَابِرٌ : لَا . فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ لَيْسَتَا بِقَصْرٍ إنَّمَا الْقَصْرُ رَكْعَةٌ عِنْدَ الْقِتَالِ . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةٌ . قَالَ

ابْنُ حَزْمٍ : ورويناه أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حُذَيْفَةَ وَجَابِرٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَسَانِيدَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ . قَالَ ابْنُ حَزْمٌ : وَبِهَذِهِ الْآيَةِ قُلْنَا إنَّ صَلَاةَ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ إنْ شَاءَ رَكْعَةً وَإِنْ شَاءَ رَكْعَتَيْنِ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ { لَا جُنَاحَ } لَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَالْإِيجَابِ وَصَلَّاهَا النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً رَكْعَةً فَقَطْ وَمَرَّةً رَكْعَتَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الِاخْتِيَارِ كَمَا قَالَ جَابِرٌ . وَأَمَّا صَلَاةُ عُثْمَانَ فَقَدْ عَرَفَ إنْكَارَ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ عَلَيْهِ وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا يُصَلُّونَ خَلْفَهُ ؛ بَلْ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُصَلِّي أَرْبَعًا وَإِنْ انْفَرَدَ وَيَقُولُ الْخِلَافُ شَرٌّ . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا انْفَرَدَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ . وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ صَلَاةَ السَّفَرِ أَرْبَعًا مَكْرُوهَةٌ عِنْدَهُمْ وَمُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا وَإِذَا فَعَلَهَا الْإِمَامُ اُتُّبِعَ فِيهَا وَهَذَا لِأَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ لَيْسَتْ كَصَلَاةِ الْفَجْرِ بَلْ هِيَ مِنْ جِنْسِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَلِهَذَا { قَرَنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي السُّنَّةِ الَّتِي نَقَلَهَا بَيْنَ الْأَرْبَعِ فَقَالَ : صَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَانِ : تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } . رَوَاهُ أَحْمَد وَالنَّسَائِي مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ : قَالَ عُمَرُ . وَرَوَاهُ يَزِيدُ بْنُ زِيَادِ

ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ زُبَيْدٍ اليامي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْفَجْرِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ تَارَةً وَيُصَلِّي أَرْبَعًا أُخْرَى وَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ إنَّمَا يُصَلِّي أَرْبَعًا لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْهَا رَكْعَةً عِنْدَ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَهَا } وَإِذَا حَصَلَتْ شُرُوطُ الْجُمُعَةِ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ . فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ خَطَبَ وَصَلَّى الظُّهْرَ أَرْبَعًا لَكَانَ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ وَمَعَ هَذَا فَلَيْسُوا كَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ أَرْبَعًا ؛ وَلِهَذَا يَجُوزُ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ وَالْمَرْأَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْجُمُعَةُ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ أَرْبَعًا أَنْ يَأْتَمَّ بِهِ فِي الْجُمُعَةِ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ وَلَهُ أَنْ يَأْتَمَّ بِمُقِيمٍ فَيُصَلِّي خَلْفَهُ أَرْبَعًا . فَإِنْ قِيلَ : الْجُمُعَةُ يُشْتَرَطُ لَهَا الْجَمَاعَةُ فَلِهَذَا كَانَ حُكْمُ الْمُنْفَرِدِ فِيهَا خِلَافُ حُكْمِ الْمُؤْتَمِّ ؟ وَهَذَا الْفَرْقُ ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَد . قِيلَ لَهُمْ : اشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِيهِ نِزَاعٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَد وَغَيْرِهِ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ شَرْطٌ مَعَ الْقُدْرَةِ وَحِينَئِذٍ الْمُسَافِرُ لَمَّا ائْتَمَّ

بِالْمُقِيمِ دَخَلَ فِي الْجَمَاعَةِ الْوَاجِبَةِ فَلَزِمَهُ اتِّبَاعُ الْإِمَامِ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ قِيلَ : فَلِلْمُسَافِرِينَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً . قِيلَ : وَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً وَيُصَلُّوا أَرْبَعًا . وَصَلَاةُ الْعِيدِ قَدْ ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ اسْتَخْلَفَ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعًا : رَكْعَتَيْنِ لِلسُّنَّةِ وَرَكْعَتَيْنِ لِكَوْنِهِمْ لَمْ يَخْرُجُوا إلَى الصَّحْرَاءِ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ تُفْعَلُ تَارَةً اثْنَتَيْنِ وَتَارَةً أَرْبَعًا كَصَلَاةِ الْمُسَافِرِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَعَلَى هَذَا تَدُلُّ آثَارُ الصَّحَابَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَيُصَلُّونَ خَلْفَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ وَحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ مَعَ عُثْمَانَ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ كَمَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ أَرْبَعًا لَمَا استجازوا أَنْ يُصَلُّوا أَرْبَعًا كَمَا لَا يَسْتَجِيزُ مُسْلِمٌ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَجْرَ أَرْبَعًا . وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ لَمَّا قَعَدُوا قَدْرَ التَّشَهُّدِ أَدَّوْا الْفَرْضَ وَالْبَاقِيَ تَطَوُّعٌ . قِيلَ لَهُ : مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ قَالَ نَوَيْنَا التَّطَوُّعَ بِالرَّكْعَتَيْنِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَ الْفَجْرِ رَكْعَتَيْنِ ؛ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْإِقَامَةِ السُّنَّةَ وَقَالَ { الصُّبْحُ أَرْبَعًا } وَقَدْ صَلَّى قَبْلَ الْإِمَامِ فَكَيْفَ إذَا وَصَلَ الصَّلَاةَ بِصَلَاةِ . وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : { أَنَّ النَّبِيَّ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى يَفْصِلَ بَيْنَهُمَا بِكَلَامٍ أَوْ قِيَامٍ } . وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَصِلُ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا بِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَكَيْفَ يُسَوِّغُونَ أَنْ يَصِلَ الرَّكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ إنْ كَانَ لَا يَجُوزُ إلَّا رَكْعَتَانِ بِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ ؟ وَأَيْضًا فَلِمَاذَا وَجَبَ عَلَى الْمُقِيمِ خَلْفَ الْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَقَدْ وَافَقَ عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ؟ وَأَيْضًا فَيَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُقِيمُ أَرْبَعًا خَلْفَ الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ . وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ صَلَاةَ الْمُسَافِرِ مِنْ جِنْسِ صَلَاةِ الْمُقِيمِ فَإِنَّهُ قَدْ سَلَّمَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُصَلِّيَ هَذَا خَلْفَ هَذَا كَمَا يُصَلِّي الظُّهْرَ خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ وَلَيْسَ هَذَا كَمَنَ صَلَّى الظُّهْرَ قَضَاءً خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ . وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنْ الْمُسَافِرَ فَرْضُهُ أَرْبَعٌ وَلَهُ أَنْ يُسْقِطَ رَكْعَتَيْنِ بِالْقَصْرِ فَقَوْلُهُ مُخَالِفٌ لِلنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ وَالْأُصُولِ وَهُوَ قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ . فَإِنَّ هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ يَمْلِكُ الْمُسَافِرُ إسْقَاطَهُمَا لَا إلَى بَدَلٍ وَلَا إلَى نَظِيرِهِ وَهَذَا يُنَاقِضُ الْوُجُوبَ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا

عَلَى الْعَبْدِ وَمَعَ هَذَا لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ وَلَا فِعْلُ بَدَلِهِ وَلَا نَظِيرِهِ فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الْفَرْضَ عَلَى الْمُسَافِرِ الرَّكْعَتَانِ فَقَطْ وَهَذَا الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ أَحْمَد وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِي الْقَصْرِ نِيَّةً وَقَالَ : لَا يُعْجِبُنِي الْأَرْبَعُ وَتَوَقَّفَ فِي إجْزَاءِ الْأَرْبَعِ . وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ قَالَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا بِنِيَّةٍ . وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ قَوْلِ الخرقي وَمَنْ اتَّبَعَهُ وَنُصُوصُ أَحْمَد وَأَجْوِبَتُهُ كُلُّهَا مُطْلَقَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَهُ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ مُوَافَقَةً لِقُدَمَاءِ الْأَصْحَابِ كَالْخَلَّالِ وَغَيْرِهِ ؛ بَلْ وَالْأَثْرَمِ وَأَبِي دَاوُد وَإِبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَشْتَرِطُوا النِّيَّةَ لَا فِي قَصْرٍ وَلَا فِي جَمْعٍ . وَإِذَا كَانَ فَرْضُهُ رَكْعَتَيْنِ فَإِذَا أَتَى بِهِمَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ نَوَى الْقَصْرَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِ وَهَذَا قَوْلُ الْجَمَاهِيرِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ السَّلَفِ . وَمَا عَلِمْت أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ اشْتَرَطَ نِيَّةً لَا فِي قَصْرٍ وَلَا فِي جَمْعٍ وَلَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِتْمَامَ كَانَتْ السُّنَّةُ فِي حَقِّهِ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَوْ صَلَّى أَرْبَعًا كَانَ ذَلِكَ مَكْرُوهًا كَمَا لَمْ يَنْوِهِ . وَلَمْ يَنْقُلْ قَطُّ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَمَرَ أَصْحَابَهُ لَا بِنِيَّةِ قَصْرٍ وَلَا نِيَّةِ جَمْعٍ وَلَا كَانَ خُلَفَاؤُهُ وَأَصْحَابُهُ يَأْمُرُونَ بِذَلِكَ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُمْ مَعَ أَنَّ الْمَأْمُومِينَ أَوْ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَا يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ فِي حَجَّتِهِ صَلَّى بِهِمْ

الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا وَصَلَّى بِهِمْ الْعَصْرَ بِذِي الحليفة رَكْعَتَيْنِ وَخَلْفَهُ أُمَمٌ لَا يُحْصِي عَدَدَهُمْ إلَّا اللَّهُ : كُلُّهُمْ خَرَجُوا يَحُجُّونَ مَعَهُ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَعْرِفُ صَلَاةَ السَّفَرِ : إمَّا لِحُدُوثِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ وَإِمَّا لِكَوْنِهِ لَمْ يُسَافِرْ بَعْدُ لَا سِيَّمَا النِّسَاءَ صَلَّوْا مَعَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ وَكَذَلِكَ جَمَعَ بِهِمْ بِعَرَفَةَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُصَلِّيَ الْعَصْرَ بَعْدَ الظُّهْرِ حَتَّى صَلَّاهَا .
فَصْلٌ :
السَّفَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِي الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ مُطْلَقٌ . ثُمَّ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي جِنْسِ السَّفَرِ وَقَدْرِهِ . أَمَّا جِنْسُهُ فَاخْتَلَفُوا فِي نَوْعَيْنِ . أَحَدُهُمَا : حُكْمُهُ . فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يُقْصَرُ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ غَزْوٍ . وَهَذَا قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ إلَّا ابْنَ حَزْمٍ قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ كَمَا روينا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ : حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عِمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ إلَّا حَاجٌّ أَوْ مُجَاهِدٌ . وَعَنْ طَاوُوسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ فَيَقُولُ : إذَا خَرَجْنَا حُجَّاجًا أَوْ عُمَّارًا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْقَصْرَ إلَّا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ جَهَادٍ وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَنَا نَصٌّ يُوجِبُ عُمُومَ الْقَصْرِ لِلْمُسَافِرِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ إلَّا قَصْرُ الْمُسَافِرِ إذَا خَافَ أَنْ يَفْتِنَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَهَذَا سَفَرُ الْجِهَادِ . وَأَمَّا السُّنَّةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصَرَ فِي حَجِّهِ وَعُمَرِهِ وَغَزَوَاتِهِ فَثَبَتَ جَوَازُ هَذَا وَالْأَصْلُ فِي الصَّلَاةِ الْإِتْمَامُ فَلَا تَسْقُطُ إلَّا حَيْثُ أَسْقَطَتْهَا السُّنَّةُ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي سَفَرٍ يَكُونُ طَاعَةً فَلَا يَقْصُرُ فِي مُبَاحٍ كَسَفَرِ التِّجَارَةِ . وَهَذَا يَذْكُرُ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَد وَالْجُمْهُورُ يُجَوِّزُونَ الْقَصْرَ فِي السَّفَرِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ الْفِطْرُ وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } رَوَاهُ عَنْهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْكَعْبِيُّ وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ { يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ : فَقَالَ : عَجِبْت مِمَّا عَجِبْت مِنْهُ فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ سَفَرَ الْأَمْنِ يَجُوزُ فِيهِ قَصْرُ الْعَدَدِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً مِنْ اللَّهِ عَلَيْنَا أُمِرْنَا

بِقَبُولِهَا . وَقَدْ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إنْ شِئْنَا قَبِلْنَاهَا وَإِنْ شِئْنَا لَمْ نَقْبَلْهَا فَإِنَّ قَبُولَ الصَّدَقَةِ لَا يَجِبُ ؛ لِيَدْفَعُوا بِذَلِكَ الْأَمْرَ بِالرَّكْعَتَيْنِ . وَهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنَا أَنْ نَقْبَلَ صَدَقَةَ اللَّهِ عَلَيْنَا وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ وَكُلُّ إحْسَانِهِ إلَيْنَا صَدَقَةٌ عَلَيْنَا فَإِنْ لَمْ نَقْبَلْ ذَلِكَ هَلَكْنَا . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ { عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ تَمَامٌ غَيْرُ قَصْرٍ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى } . كَمَا قَالَ : صَلَاةُ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْأَضْحَى رَكْعَتَانِ وَصَلَاةُ الْفِطْرِ رَكْعَتَانِ وَهَذَا نَقْلٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الصَّلَاةَ فِي جِنْسِ السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ كَمَا سَنَّ الْجُمُعَةَ وَالْعِيدَيْنِ وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِسَفَرِ نُسُكٍ أَوْ جِهَادٍ . وَأَيْضًا فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : فُرِضَتْ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُسَافِرَ لَمْ يُؤْمَرْ بِأَرْبَعٍ قَطُّ وَحِينَئِذٍ فَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْمُسَافِرِ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ فُرِضَ عَلَيْهِ أَرْبَعٌ وَحِينَئِذٍ فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى مُسَافِرٍ أَرْبَعًا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ .

فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُهُ : " وَضَعَ " يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ هَذَا كَمَا قَالَ : " إنَّهُ وَضَعَ عَنْهُ الصَّوْمَ " وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُسَافِرِ صَوْمُ رَمَضَانَ قَطُّ ؛ لَكِنْ لَمَّا انْعَقَدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَأَخْرَجَ الْمُسَافِرَ مِنْ ذَلِكَ سُمِّيَ وَضْعًا وَلِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا فِي الْمُقَامِ فَلَمَّا سَافَرَ وُضِعَ بِالسَّفَرِ كَمَا يُقَالُ : مَنْ أَسْلَمَ وُضِعَتْ عَنْهُ الْجِزْيَةَ مَعَ أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى مُسْلِمٍ بِحَالِ . وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ ؛ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ حَدِّثْنِي عَنْ صَلَاةِ السَّفَرِ قَالَ أَتَخْشَى أَنْ يُكْذَبَ عَلَيَّ ؟ قُلْت لَا . قَالَ : رَكْعَتَانِ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ وَهَذَا مَعْرُوفٌ رَوَاهُ أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ مُوَرِّقٍ العِجْلِي عَنْهُ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْآثَارِ . وَفِي لَفْظٍ : صَلَاةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَمَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ كَفَرَ . وَبَعْضُهُمْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاةَ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا فَاعْتَقَدَ خِلَافَهَا فَقَدْ كَفَرَ . وَهَذِهِ الْأَدِلَّةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يَقْصُرُ إلَّا فِي سَفَرٍ وَاجِبٍ فَقَوْلُهُ ضَعِيفٌ . وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَقْصُرُ فِي السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ وَلَا الْمُحَرَّمِ وَيَقْصُرُ فِي الْمُبَاحِ وَهَذَا أَيْضًا رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَد . وَهَلْ يَقْصُرُ فِي سَفَرِ النُّزْهَةِ ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَد رِوَايَتَانِ : وَأَمَّا السَّفَرُ الْمُحَرَّمُ فَمَذْهَبُ الثَّلَاثَةِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد لَا يَقْصُرُ فِيهِ وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَطَوَائِفُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ فَقَالُوا يَقْصُرُ فِي

جِنْسِ الْأَسْفَارِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا : يُوجِبُونَ الْقَصْرَ فِي كُلِّ سَفَرٍ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا كَمَا يُوجِبُ الْجَمِيعُ التَّيَمُّمَ إذَا عُدِمَ الْمَاءُ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ وَابْنُ عَقِيلٍ رَجَّحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ . وَالْحُجَّةُ مَعَ مَنْ جَعَلَ الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ مَشْرُوعًا فِي جِنْسِ السَّفَرِ وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ . وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ قَدْ أَطْلَقَا السَّفَرَ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } كَمَا قَالَ فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } الْآيَةَ وَكَمَا تَقَدَّمَتْ النُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَلَمْ يَنْقُلْ قَطُّ أَحَدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خَصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ السَّفَرَ يَكُونُ حَرَامًا وَمُبَاحًا وَلَوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ السَّفَرِ لَكَانَ بَيَانُ هَذَا مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَلَوْ بَيَّنَ ذَلِكَ لَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ وَمَا عَلِمْت عَنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ شَيْئًا . وَقَدْ عَلَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحْكَامًا بِالسَّفَرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي التَّيَمُّمِ : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } وَقَوْلُهُ فِي الصَّوْمِ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } وَقَوْلُهُ { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ } وَقَوْلُهُ

{ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ } وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَشَطْرَ الصَّلَاةِ } وَلَمْ يَذْكُرْ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقْيِيدَ السَّفَرِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِأَحَدِ نَوْعَيْ السَّفَرِ وَلَا يُبَيِّنُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَلِكَ بَلْ يَكُونُ بَيَانُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُتَنَاوِلًا لِلنَّوْعَيْنِ . وَهَكَذَا فِي تَقْسِيمِ السَّفَرِ إلَى طَوِيلٍ وَقَصِيرٍ وَتَقْسِيمِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ إلَى بَائِنٍ وَرَجْعِيٍّ وَتَقْسِيمِ الْأَيْمَانِ إلَى يَمِينٍ مُكَفِّرَةٍ وَغَيْرِ مُكَفِّرَةٍ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِمَّا عَلَّقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحُكْمَ فِيهِ بِالْجِنْسِ الْمُشْتَرِكِ الْعَامِّ فَجَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ نَوْعَيْنِ : نَوْعًا يَتَعَلَّقُ بِهِ ذَلِكَ الْحُكْمُ وَنَوْعًا لَا يَتَعَلَّقُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ : لَا نَصًّا وَلَا اسْتِنْبَاطًا . وَاَلَّذِينَ قَالُوا لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ عُمْدَتُهُمْ قَوْله تَعَالَى فِي الْمَيْتَةِ : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَقَدْ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ إلَى أَنَّ " الْبَاغِيَ " هُوَ الْبَاغِي عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي يَجُوزُ قِتَالُهُ وَ " الْعَادِيَ " هُوَ الْعَادِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ الْمُحَارَبُونَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ . قَالُوا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا تَحِلُّ لَهُمْ فَسَائِرُ الرُّخَصِ أَوْلَى وَقَالُوا إذَا اُضْطُرَّ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَمَرْنَاهُ أَنْ يَتُوبَ وَيَأْكُلَ وَلَا نُبِيحُ لَهُ إتْلَافَ نَفْسِهِ . وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْرُوفٌ عَنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد .

وَأَمَّا أَحْمَد وَمَالِكٌ فَجَوَّزَا لَهُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ دُونَ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ . قَالُوا : وَلِأَنَّ السَّفَرَ الْمُحَرَّمَ مَعْصِيَةٌ وَالرُّخَصُ لِلْمُسَافِرِ إعَانَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَلَا تَجُوزُ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ . وَهَذِهِ حُجَجٌ ضَعِيفَةٌ . أَمَّا الْآيَةُ فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا : الْمُرَادُ بِالْبَاغِي الَّذِي يَبْغِي الْمُحَرَّمَ مِنْ الطَّعَامِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْحَلَالِ وَالْعَادِي الَّذِي يَتَعَدَّى الْقَدْرَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَهَذَا التَّفْسِيرُ هُوَ الصَّوَابُ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ هَذَا فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ : الْأَنْعَامِ وَالنَّحْلِ وَفِي الْمَدَنِيَّةِ : لِيُبَيِّنَ مَا يَحِلُّ وَمَا يُحَرَّمُ مِنْ الْأَكْلِ وَالضَّرُورَةُ لَا تَخْتَصُّ بِسَفَرِ وَلَوْ كَانَتْ فِي سَفَرٍ فَلَيْسَ السَّفَرُ الْمُحَرَّمُ مُخْتَصًّا بِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْخُرُوجِ عَلَى الْإِمَامِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَامٌ يَخْرُجُ عَلَيْهِ وَلَا مِنْ شَرْطِ الْخَارِجِ أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا وَالْبُغَاةُ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِقِتَالِهِمْ فِي الْقُرْآنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمْ أَنْ يَكُونُوا مُسَافِرِينَ وَلَا كَانَ الَّذِينَ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ أَوَّلًا مُسَافِرِينَ ؛ بَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْعَوَالِي مُقِيمِينَ وَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِمَا لَا يَخْتَصُّ بِالسَّفَرِ وَلَيْسَ فِيهَا كُلُّ سَفَرٍ مُحَرَّمٍ ؟ فَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قِيلَ لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلسَّفَرِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِلَا سَفَرٍ وَقَدْ يَكُونُ السَّفَرُ الْمُحَرَّمُ بِدُونِهِ . وَأَيْضًا فَقَوْلُهُ ( { غَيْرَ بَاغٍ } حَالٌ مِنْ ( { اضْطُرَّ } فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالَ

اضْطِرَارِهِ وَأَكْلِهِ الَّذِي يَأْكُلُ فِيهِ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّهُ قَالَ : { فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا يُنْفَى عَنْ الْأَكْلِ الَّذِي هُوَ الْفِعْلُ لَا عَنْ نَفْسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَمَعْنَى الْآيَةِ : فَمَنْ اُضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ . وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّهُ لَا يَبْغِي فِي أَكْلِهِ وَلَا يَتَعَدَّى . وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقْرِنُ بَيْنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ . فَالْبَغْيُ مَا جِنْسُهُ ظُلْمٌ وَالْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الْمُبَاحِ كَمَا قَرَنَ بَيْنَ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فِي قَوْلِهِ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } فَالْإِثْمُ جِنْسُ الشَّرِّ وَالْعُدْوَانُ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ الْمُبَاحِ فَالْبَغْيُ مِنْ جِنْسِ الْإِثْمِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } فَالْإِثْمُ جِنْسٌ لِظُلْمِ الْوَرَثَةِ إذَا كَانَ مَعَ الْعَمْدِ وَأَمَّا الْجَنَفُ فَهُوَ الْجَنَفُ عَلَيْهِمْ بِعَمْدٍ وَبِغَيْرِ عَمْدٍ ؛ لَكِنْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ الْجَنَفُ الْخَطَأُ وَالْإِثْمُ الْعَمْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَصَّ الْإِثْمَ بِالذِّكْرِ وَهُوَ الْعَمْدُ بَقِيَ الدَّاخِلُ فِي الْجَنَفِ الْخَطَأُ وَلَفْظُ الْعُدْوَانِ مِنْ بَابِ تَعَدِّي الْحُدُودِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِمَّا يُشْبِهُ هَذَا قَوْلُهُ : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا } وَالْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْمُبَاحِ وَأَمَّا الذُّنُوبُ فَمَا كَانَ جِنْسُهُ شَرٌّ وَإِثْمٌ . وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا إعَانَةٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَغَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ مَأْمُورٌ

بِأَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ . وَإِذَا عَدِمَ الْمَاءَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيُصَلِّيَ وَمَا زَادَ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ لَيْسَتْ طَاعَةً وَلَا مَأْمُورًا بِهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسَافِرِينَ وَإِذَا فَعَلَهَا الْمُسَافِرُ كَانَ قَدْ فَعَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَصَارَ صَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ مِثْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْمُسَافِرُ الْجُمُعَةَ خَلْفَ مُسْتَوْطِنٍ . فَهَلْ يُصَلِّيهَا إلَّا رَكْعَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ وَإِنْ كَانَ إذَا صَلَّى وَحْدَهُ صَلَّى أَرْبَعًا ؟ .
وَكَذَلِكَ صَوْمُهُ فِي السَّفَرِ لَيْسَ بِرًّا وَلَا مَأْمُورًا بِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ مِنْ الْبَرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ } وَصَوْمُهُ إذَا كَانَ مُقِيمًا أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ صِيَامِهِ فِي سَفَرٍ مُحَرَّمٍ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ وَإِذَا اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ أَمَا كَانَ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي ؟ وَلَوْ أُخِذَتْ ثِيَابُهُ أَمَا كَانَ يُصَلِّي عريانا ؟ فَإِنْ قِيلَ هَذَا لَا يُمْكِنُهُ إلَّا هَذَا قِيلَ : وَالْمُسَافِرُ لَمْ يُؤْمَرْ إلَّا بِرَكْعَتَيْنِ وَالْمَشْرُوعُ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَصُومَ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ لَوْ صَامَ هَلْ يَسْقُطُ الْفَرْضُ عَنْهُ ؟ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إذَا صَامَ بَعْدَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَ فِيهَا احْتِيَاطٌ فَإِنَّ طَائِفَةً يَقُولُونَ : مَنْ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ صَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ الْمُحَرَّمِ لَمْ يُجْزِئْهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ عِنْدَهُمْ . وَطَائِفَةٌ يَقُولُونَ لَا يُجْزِيهِ إلَّا صَلَاةُ أَرْبَعٍ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَكَذَلِكَ

أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ : سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ أَوْ الْحَضَرِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ ضَرُورَتُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أَوْ مُحَرَّمٍ فَلَوْ أَلْقَى مَالَهُ فِي الْبَحْرِ وَاضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَوْ سَافَرَ سَفَرًا مُحَرَّمًا فَأَتْعَبَهُ حَتَّى عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا وَلَوْ قَاتَلَ قِتَالًا مُحَرَّمًا حَتَّى أَعْجَزَتْهُ الْجِرَاحُ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ قَاتَلَ قِتَالًا مُحَرَّمًا هَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ ؟ قِيلَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ وَلَا يُقَاتِلَ فَإِنْ كَانَ لَا يَدَعُ الْقِتَالَ الْمُحَرَّمَ فَلَا نُبِيحُ لَهُ تَرْكَ الصَّلَاةِ ؛ بَلْ إذَا صَلَّى صَلَاةَ خَائِفٍ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ هَلْ يُعِيدُ ؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ ثُمَّ إنْ أَمْكَنَ فِعْلُهَا بِدُونِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمُبْطِلَةِ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا وَأَمَّا إنْ خَرَجَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَفِي صِحَّتِهَا وَقَبُولِهَا بَعْدَ ذَلِكَ نِزَاعٌ .
النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مَوَارِدِ النِّزَاعِ أَنَّ عُثْمَانَ كَانَ لَا يَرَى مُسَافِرًا إلَّا مَنْ حَمَلَ الزَّادَ وَالْمَزَادَ دُونَ مَنْ كَانَ نَازِلًا فَكَانَ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ كَالتَّاجِرِ والتاني وَالْجَابِي الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُقَدِّرْ عُثْمَانُ لِلسَّفَرِ قَدْرًا ؛ بَلْ هَذَا الْجِنْسُ عِنْدَهُ لَيْسَ بِمُسَافِرِ وَكَذَلِكَ قِيلَ : إنَّهُ لَمْ يَرَ نَفْسَهُ وَاَلَّذِينَ مَعَهُ مُسَافِرِينَ بِمِنَى لَمَّا صَارَتْ مِنًى مَعْمُورَةً وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِين أَنَّهُ قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ السَّفَرُ الَّذِي تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ . وَمَأْخَذُ هَذَا الْقَوْلِ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْقَصْرَ إنَّمَا

كَانَ فِي السَّفَرِ لَا فِي الْمُقَامِ وَالرَّجُلُ إذَا كَانَ مُقِيمًا فِي مَكَانٍ يَجِدُ فِيهِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا ؛ بَلْ مُقِيمًا ؛ بِخِلَافِ الْمُسَافِرِ الَّذِي يَحْتَاجُ أَنْ يَحْمِلَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فَإِنَّ هَذَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا يَلْحَقُ الْمُسَافِرَ مِنْ مَشَقَّةِ السَّفَرِ . وَصَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ كَأَنَّهُ رَأَى الرُّخْصَةَ إنَّمَا تَكُونُ لِلْمَشَقَّةِ وَالْمَشَقَّةُ إنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى حَمْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ . وَقَدْ نُقِلَ عَنْ غَيْرِهِ كَلَامٌ يُفَرِّقُ فِيهِ بَيْنَ جِنْسٍ وَجِنْسٍ . رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الشيباني عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : لَا يَغُرَّنكُمْ سَوَادُكُمْ هَذَا مِنْ صَلَاتِكُمْ فَإِنَّهُ مِنْ مِصْرِكُمْ . فَقَوْلُهُ : مِنْ " مِصْرِكُمْ " يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ السَّوَادَ بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ لَمَّا كَانَ تَابِعًا لَهُ . وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي عَنْ أَبِيهِ قَالَ : كُنْت مَعَ حُذَيْفَةَ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَأْذَنْته أَنْ آتِيَ أَهْلِي بِالْكُوفَةِ فَأَذِنَ لِي وَشَرَطَ عَلَيَّ أَنْ لَا أُفْطِرَ وَلَا أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى أَرْجِعَ إلَيْهِ وَبَيْنَهُمَا نَيِّفٌ وَسِتُّونَ مِيلًا . وَعَنْ حُذَيْفَةَ : أَنْ لَا يُقْصِرَ إلَى السَّوَادِ . وَبَيْنَ الْكُوفَةِ وَالسَّوَادِ تِسْعُونَ مِيلًا . وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ : لَا يَطَأُ أَحَدُكُمْ بِمَاشِيَةِ أَحْدَابَ الْجِبَالِ أَوْ بُطُونَ الْأَوْدِيَةِ وَتَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ سَفَرٌ لَا وَلَا كَرَامَةَ ؛ إنَّمَا التَّقْصِيرُ فِي السَّفَرِ مِنْ الْبَاءَاتِ مِنْ الْأُفُقِ إلَى الْأُفُقِ .

قُلْت : هَؤُلَاءِ لَمْ يَذْكُرُوا مَسَافَةً مَحْدُودَةً لِلْقَصْرِ لَا بِالزَّمَانِ وَلَا بِالْمَكَانِ ؛ لَكِنْ جَعَلُوا هَذَا الْجِنْسَ مِنْ السَّيْرِ لَيْسَ سَفَرًا كَمَا جَعَلَ عُثْمَانُ السَّفَرَ مَا كَانَ فِيهِ حَمْلُ زَادٍ وَمَزَادٍ . فَإِنْ كَانُوا قَصَدُوا مَا قَصَدَهُ عُثْمَانُ مِنْ أَنَّ هَذَا لَا يَزَالُ يَسِيرُ فِي مَكَانٍ [ لَا ] (1) يُحْمَلُ فِيهِ الزَّادُ وَالْمَزَادُ فَهُوَ كَالْمُقِيمِ فَقَدْ وَافَقُوا عُثْمَانَ ؛ لَكِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ خَالَفَ عُثْمَانَ فِي إتْمَامِهِ بِمِنَى . وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ أَنَّ أَعْمَالَ الْبَلَدِ تَبَعٌ لَهُ كَالسَّوَادِ مَعَ الْكُوفَةِ وَإِنَّمَا الْمُسَافِرُ مَنْ خَرَجَ مِنْ عَمَلٍ إلَى عَمَلٍ : كَمَا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ : مِنْ أُفُقٍ إلَى أُفُقٍ . فَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنْ السَّوَادِ : فَإِنَّهُ مِنْ مِصْرِكُمْ . وَهَذَا كَمَا أَنَّ مَا حَوْلَ الْمِصْرِ مِنْ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ تَابِعَةٌ لَهُ فَهُمْ يَجْعَلُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَإِنْ طَالَ وَلَا يَحُدُّونَ فِيهِ مَسَافَةً . وَهَذَا كَمَا أَنَّ " الْمَخَالِيفَ " وَهِيَ الْأَمْكِنَةُ الَّتِي يُسْتَخْلَفُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَلِيفَةٌ عَنْ الْأَمِيرِ الْعَامِّ بِالْمِصْرِ الْكَبِيرِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذٍ : مَنْ خَرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ : حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ سَمِعْت قَيْسَ بْنَ عِمْرَانَ بْنِ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - وَهُوَ رَدِيفُهُ عَلَى بَغْلَةٍ لَهُ - مَسِيرَةَ أَرْبَعَةِ فَرَاسِخَ فَصَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ . قَالَ شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي بِهَذَا قَيْسُ بْنُ عِمْرَانَ وَأَبُوهُ عِمْرَانُ بْنُ عُمَيْرٍ شَاهِدٌ وَعُمَيْرٌ مَوْلَى ابْنِ مَسْعُودٍ .

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَحُدَّ السَّفَرَ بِمَسَافَةٍ طَوِيلَةٍ ؛ وَلَكِنْ اعْتَبَرَ أَمْرًا آخَرَ كَالْأَعْمَالِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُحَدُّ بِمَسَافَةِ وَلَا زَمَانٍ لَكِنْ بِعُمُومِ الْوِلَايَاتِ وَخُصُوصِهَا : مِثْلَ مَنْ كَانَ بِدِمَشْقَ فَإِذَا سَافَرَ إلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْ أَعْمَالِهَا كَانَ مُسَافِرًا . وَأَصْحَابُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كَأَنَّهُمْ رَأَوْا مَا رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُسَافِرِ إنَّمَا رُخِّصَ فِيهِ لِلْمَشَقَّةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ فِي السَّفَرِ وَاحْتِيَاجِهِ إلَى الرُّخْصَةِ وَعَلِمُوا أَنَّ الْمُتَنَقِّلَ فِي الْمِصْرِ الْوَاحِدِ مِنْ مَكَانٍ إلَى مَكَانٍ لَيْسَ بِمُسَافِرِ وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ إلَى مَا حَوْلَ الْمِصْرِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَى قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَلَمْ يَكُنْ يَقْصُرُ وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ كَانُوا يَنْتَابُونَ الْجُمُعَةَ مِنْ الْعَوَالِي وَلَمْ يَكُونُوا يَقْصُرُونَ . فَكَانَ الْمُتَنَقِّلُ فِي الْعَمَلِ الْوَاحِدِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ عِنْدَهُمْ . وَهَؤُلَاءِ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِقَصْرِ أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَمِنًى مَعَ أَنَّ هَذِهِ تَابِعَةٌ لِمَكَّةَ وَمُضَافَةٌ إلَيْهَا وَهِيَ أَكْثَرُ تَبَعًا لَهَا مِنْ السَّوَادِ لِلْكُوفَةِ وَأَقْرَبُ إلَيْهَا مِنْهَا ؛ فَإِنَّ بَيْنَ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَمَوْقِفِ الْإِمَامِ بِعَرَفَةَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الَّتِي فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ يُرِيدُ بِهَذِهِ الْمَسَافَةِ وَهَذَا السَّيْرِ وَهُمْ مُسَافِرُونَ وَإِذَا قِيلَ : الْمَكَانُ الَّذِي يُسَافِرُونَ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَوْضِعِ مُقَامٍ . قِيلَ : بَلْ كَانَ هُنَاكَ قَرْيَةُ نَمِرَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا وَكَانَ بِهَا أَسْوَاقٌ وَقَرِيبٌ مِنْهَا عرنة الَّتِي تَصِلُ وَادِيَهَا بِعَرَفَةَ وَلِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ السَّفَرِ

إلَى بَلَدٍ يُقَامُ فِيهِ وَبَلَدٍ لَا يُقَامُ فِيهِ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْإِقَامَةَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ سَافَرُوا إلَى مَكَّةَ وَهِيَ بَلَدٌ يُمْكِنُ الْإِقَامَةُ فِيهِ وَمَا زَالُوا مُسَافِرِينَ فِي غَزْوِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ وَقَدْ قَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ فِي جَوْفِ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ وَقَالَ : { يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفَرٌ } وَكَذَلِكَ عُمَرُ بَعْدَهُ فَعَلَ ذَلِكَ رَوَاهُ مَالِكٌ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ بِمِنَى وَمَنْ نَقَلَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ غَلِطَ . وَهَذَا بِخِلَافِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى قُبَاء كُلَّ سَبْتٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا وَخُرُوجِهِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الشُّهَدَاءِ فَإِنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِقَلِيلٍ صَلَّى عَلَيْهِمْ وَبِخِلَافِ ذَهَابِهِ إلَى الْبَقِيعِ وَبِخِلَافِ قَصْدِ أَهْلِ الْعَوَالِي الْمَدِينَةَ لِيَجْمَعُوا بِهَا فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ بِسَفَرِ فَإِنَّ اسْمَ الْمَدِينَةِ مُتَنَاوِلٌ لِهَذَا كُلِّهِ وَإِنَّمَا النَّاسُ قِسْمَانِ الْأَعْرَابُ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَذْهَبُ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِذَلِكَ أُهْبَةَ السَّفَرِ فَلَا يَحْمِلُ زَادًا وَلَا مَزَادًا لَا فِي طَرِيقِهِ وَلَا فِي الْمَنْزِلِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى مَنْ ذَهَبَ إلَى رُبَضِ مَدِينَتِهِ مُسَافِرًا وَلِهَذَا تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ حَوْلَ الْمِصْرِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ يُقَدَّرُ بِسَمَاعِ النِّدَاءِ وَبِفَرْسَخِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ سَفَرًا لَمْ تَجِبْ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ يُنْشِئُ لَهَا سَفَرًا ؛ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ فَكَيْفَ يَجِبُ أَنْ يُسَافِرَ لَهَا .

وَعَلَى هَذَا فَالْمُسَافِرُ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا لِقَطْعِهِ مَسَافَةً مَحْدُودَةً وَلَا لِقَطْعِهِ أَيَّامًا مَحْدُودَةً بَلْ كَانَ مُسَافِرًا لِجِنْسِ الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ سَفَرٌ وَقَدْ يَكُونُ مُسَافِرًا مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ وَلَا يَكُونُ مُسَافِرًا مِنْ أَبْعَدَ مِنْهَا : مِثْلَ أَنْ يَرْكَبَ فَرَسًا سَابِقًا وَيَسِيرَ مَسَافَةَ بَرِيدٍ ثُمَّ يَرْجِعَ مِنْ سَاعَتِهِ إلَى بَلَدِهِ فَهَذَا لَيْسَ مُسَافِرًا . وَإِنْ قَطَعَ هَذِهِ الْمَسَافَةَ فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَيَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى حَمْلِ زَادٍ وَمَزَادٍ كَانَ مُسَافِرًا كَمَا كَانَ سَفَرُ أَهْلِ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ . وَلَوْ رَكِبَ رَجُلٌ فَرَسًا سَابِقًا إلَى عَرَفَةَ ثُمَّ رَجَعَ مِنْ يَوْمِهِ إلَى مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا . يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ : { يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامِ وَلَيَالِيهِنَّ - وَالْمُقِيمُ يَوْمًا وَلَيْلَةً } فَلَوْ قَطَعَ بَرِيدًا فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَانَ مُسَافِرًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ فَيَجِبُ أَنْ يَمْسَحَ مَسْحَ سَفَرٍ وَلَوْ قَطَعَ الْبَرِيدَ فِي نِصْفِ يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ مُسَافِرًا . فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اعْتَبَرَ أَنْ يُسَافِرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَوَاءٌ كَانَ سَفَرُهُ حَثِيثًا أَوْ بَطِيئًا سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَيَّامُ طِوَالًا أَوْ قِصَارًا وَمَنْ قَدَّرَهُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمَيْنِ جَعَلُوا ذَلِكَ بِسَيْرِ الْإِبِلِ وَالْأَقْدَامِ وَجَعَلُوا الْمَسَافَةَ الْوَاحِدَةَ حَدًّا يَشْتَرِكُ فِيهِ جَمِيعُ النَّاسِ حَتَّى لَوْ قَطَعَهَا فِي يَوْمٍ جَعَلُوهُ مُسَافِرًا وَلَوْ قَطَعَ مَا دُونَهَا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ يَجْعَلُوهُ مُسَافِرًا وَهَذَا مُخَالِفٌ لِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَأَيْضًا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَهَابِهِ إلَى قُبَاء وَالْعَوَالِي وَأُحُدٍ وَمَجِيءِ أَصْحَابِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ إلَى الْمَدِينَةِ إنَّمَا كَانُوا يَسِيرُونَ فِي عُمْرَانٍ بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْحَوَائِطِ الَّتِي هِيَ النَّخِيلُ وَتِلْكَ مَوَاضِعُ الْإِقَامَةِ لَا مَوَاضِعُ السَّفَرِ وَالْمُسَافِرُ لَا بُدَّ أَنْ يُسْفِرَ أَيْ يَخْرُجَ إلَى الصَّحْرَاءِ ؛ فَإِنَّ لَفْظَ " السَّفَرِ " يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ . يُقَالُ : سَفَرَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا إذَا كَشَفَتْهُ . فَإِذَا لَمْ يَبْرُزْ إلَى الصَّحْرَاءِ الَّتِي يَنْكَشِفُ فِيهَا مِنْ بَيْنِ الْمَسَاكِنِ لَا يَكُونُ مُسَافِرًا قَالَ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ } فَجَعَلَ النَّاسَ قِسْمَيْنِ : أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَالْأَعْرَابَ . وَالْأَعْرَابُ هُمْ أَهْلُ الْعَمُودِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ هُمْ أَهْلُ الْمَدَرِ . فَجَمِيعُ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي مَدَرٍ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمَدِينَةِ سُورٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ دَاخِلُهَا مِنْ خَارِجِهَا ؛ بَلْ كَانَتْ مَحَالَّ مَحَالَّ . وَتُسَمَّى الْمَحَلَّةُ دَارًا وَالْمَحَلَّةُ الْقَرْيَةُ الصَّغِيرَةُ فِيهَا الْمَسَاكِنُ وَحَوْلَهَا النَّخْلُ وَالْمَقَابِرُ لَيْسَتْ أَبْنِيَةً مُتَّصِلَةً فَبَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَتِهِمْ حَوَالَيْ دُورِهِمْ : أَمْوَالُهُمْ وَنَخِيلُهُمْ وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ دَارُهُمْ كَذَلِكَ وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَذَلِكَ وَبَنُو عَبْدِ

الْأَشْهَلِ كَذَلِكَ وَسَائِرُ بُطُونِ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ ثُمَّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ ثُمَّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ . وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَزَلَ فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ وَهُنَاكَ بَنَى مَسْجِدَهُ وَكَانَ حَائِطًا لِبَعْضِ بَنِي النَّجَّارِ : فِيهِ نَخْلٌ وَخِرَبٌ وَقُبُورٌ فَأَمَرَ بِالنَّخْلِ فَقُطِعَتْ وَبِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبَنَى مَسْجِدَهُ هُنَاكَ وَكَانَتْ سَائِرُ دُورِ الْأَنْصَارِ حَوْلَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ حَزْمٍ : وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِصْرٌ . قَالَ : وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ بَلْ هُوَ نَقْلُ الكوافي عَنْ الكوافي وَذَلِكَ كُلُّهُ مَدِينَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا جَعَلَ اللَّهُ النَّاسَ نَوْعَيْنِ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ . فَمَنْ لَيْسَ مِنْ الْأَعْرَابِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَجْعَلْ لِلْمَدِينَةِ دَاخِلًا وَخَارِجًا وَسُورًا وَرُبَضًا كَمَا يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمَدَائِنِ الْمُسَوَّرَةِ وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَمَ الْمَدِينَةِ بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ وَالْمَدِينَةُ بَيْنَ لَابَتَيْنِ وَاللَّابَةُ الْأَرْضُ الَّتِي تُرَابُهَا حِجَارَةٌ سُودٌ وَقَالَ : { مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا حَرَمٌ } فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كُلُّهُ مِنْ الْمَدِينَةِ وَهُوَ حَرَمٌ فَهَذَا بَرِيدٌ لَا يَكُونُ الضَّارِبُ فِيهِ مُسَافِرًا . وَإِنْ كَانَ الْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ إلَى عَرَفَاتٍ مُسَافِرًا فَعَرَفَةُ وَمُزْدَلِفَةُ وَمِنًى صَحَارَى خَارِجَةٌ عَنْ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَالْعَوَالِي

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 122 123 124 125 126 127 128 129 130 131